انتقل إلى المحتوى

البداية والنهاية/الجزء الثاني عشر/صفحة واحدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



ثم دخلت سنة ست وأربعمائة

[عدل]

في يوم الثلاثاء مستهل المحرم منها وقعت فتنة بين أهل السنة والروافض، ثم سكّن الفتنة الوزير فخر الملك على أن تعمل الروافض بدعتهم يوم عاشوراء من تعليق المسوح والنوح.

وفي هذا الشهر ورد الخبر بوقوع وباء شديد في البصرة أعجز الحفارين، والناس عن دفن موتاهم، وأنه أظلت البلد سحابة في حزيران فأمطرتهم مطرا شديدا.

وفي يوم السبت ثالث صفر تولى المرتضى نقابة الطالبيين والمظالم والحج، وجميع ما كان يتولاه أخوه الرضي، وقرئ تقليده بحضرة الأعيان، وكان يوما مشهودا.

وفيها: ورد الخبر عن الحجاج بأنه هلك منهم بسبب العطش أربعة عشر ألفا، وسلم ستة آلاف، وأنهم شربوا بول الإبل من العطش.

وفيها: غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند فأخذه الأدلاء فسلكوا به على بلاد غريبة، فانتهوا إلى أرض قد غمرها الماء من البحر، فخاض بنفسه الماء أياما وخاض الجيش حتى خلصوا بعد ما غرق كثير من جيشه، وعاد إلى خراسان بعد جهد جهيد.

ولم يحج فيها من العراق ركب لفساد البلاد من الأعراب.

وفيها توفي من الأعيان:

الشيخ أبو حامد الإسفرايني

[عدل]

إمام الشافعية، أحمد بن محمد بن أحمد إمام الشافعية في زمانه، ولد في سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وقدم بغداد وهو صغير سنة ثلاث أو أربع وستين وثلاثمائة، فدرس الفقه على أبي الحسن بن المرزبان، ثم على أبي القاسم الداركي، ولم يزل تترقى به الأحوال حتى صارت إليه رياسة الشافعية، وعظم جاهه عند السلطان والعوام.

وكان فقيها إماما جليلا نبيلا، شرح المزني في تعليقه حافلة نحوا من خمسين مجلدا، وله تعليقة أخرى في أصول الفقه، وروى عن الإسماعيلي وغيره.

قال الخطيب: ورأيته غير مرة وحضرت تدريسه بمسجد عبد الله بن المبارك، في صدر قطيعة الربيع وحدثنا عنه الأزجي والخلال، وسمعت من يذكر أنه كان يحضر تدريسه سبعمائة متفقه، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي لفرح به.

وقال أبو الحسن القدوري: ما رأيت في الشافعية أفقه من أبي حامد، وقد ذكرت ترجمته مستقصاة في (طبقات الشافعية).

وذكر ابن خلكان أن القدوري قال: هو أفقه وأنظر من الشافعي.

قال الشيخ أبو إسحاق: ليس هذا مسلما إلى القدورى فإن أبا حامد وأمثاله بالنسبة إلى الشافعي كما قال الشاعر:

نزلوا بمكة في قبائل نوفل ** ونزلت بالبيداء أبعد منزل

قال ابن خلكان: وله مصنفات: (التعليقة الكبرى)، وله كتاب (البستان)، وهو صغير فيه غرائب، قال: وقد اعترض عليه بعض الفقهاء في بعض المناظرات فأنشأ الشيخ أبو حامد يقول:

جفاء جرى جهرا لدى الناس وانبسط ** وعذر أتى سرا فأكد ما فرط

ومن ظن أن يمحو جليّ جفائه ** خفيّ اعتذار فهو في أعظم الغلط

توفي ليلة السبت لإحدى عشرة بقيت من شوال منها، ودفن بداره بعدما صلي عليه بالصحراء وكان الجمع كثيرا والبكاء غزيرا، ثم نقل إلى مقبرة باب حرب في سنة عشر وأربعمائة.

قال ابن الجوزي: وبلغ من العمر إحدى وستين سنة وأشهرا.

أبو أحمد الفرضي

[عدل]

عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن علي بن مهران، أبو مسلم الفرضي المقري.

سمع المحاملي ويوسف بن يعقوب، وحضر مجلس أبي بكر بن الأنباري، وكان إماما ثقة ورعا وقورا، كثير الخير، يقرأ القرآن كثيرا، ثم سمع الحديث، وكان إذا قدم على الشيخ أبي حامد الإسفرايني نهض إليه حافيا فتلقاه إلى باب المسجد، توفي وقد جاوز الثمانين.

الشريف الرضي

[عدل]

محمد بن الطاهر أبو أحمد الحسين بن موسى أبو الحسن العلوي، لقبه بهاء الدولة بالرضي، ذي الحسبتين، ولقب أخاه المرتضى ذي المجدين، ولي نقابة الطالبيين ببغداد بعد أبيه، وكان شاعرا مطبقا سخيا جوادا.

وقال بعضهم: كان الشريف في كثرة أشعاره أشعر قريش، فمن شعره المستجاد قوله:

اشتر العز بما شـء ** ـت فما العز بغال

بالقصار إن شيءـ ** ـت أو بالسمر الطوال

ليس بالمغبون عقلا ** من شرى عزا بمال

إنما يذخر الما ** ل لحاجات الرجال

والفتى من جعل الأموا ** ل أثمان المعالي

وله أيضا:

يا طائر البان غريدا على فنن ** ما هاج نوحك لي يا طائر البان

هل أنت مبلغ من هام الفؤاد به ** إن الطليق يؤدي حاجة العاني

جناية ما جناها غير متلفنا ** يوم الوداع وواشوقي إلى الجاني

لولا تذكر أيام بذي سلم ** وعند رامة أو طاري وأوطاني

لما قدحت بنار الوجد في كبدي ** ولا بللت بماء الدمع أجفاني

وقد نسب إلى الرضي قصيدة يتمنى فيها أن يكون عند الحاكم العبيدي، ويذكر فيها أباه ويا ليته كان عنده، حين يرى حاله ومنزلته عنده، وأن الخليفة لما بلغه ذلك أراد أن يسيره إليه ليقضي أربه ويعلم الناس كيف حاله.

قال في هذه القصيدة:

ألبس الذل في بلاد الأعاد ** ي وبمصر الخليفة العلويّ!

وأبوه أبي ومولاه مولا ** ي إذا ضامني البعيد القصيّ

إلى آخرها، فلما سمع الخليفة القادر بأمر هذه القصيدة انزعج وبعث إلى أبيه الموسوي يعاتبه، فأرسل إلى ابنه الرضي فأنكر أن يكون قالها بالمرة، والروافض من شأنهم التزوير.

فقال له أبوه: فإذا لم تكن قلتها فقل أبياتا تذكر فيها أن الحاكم بمصر دعيّ لا نسب له.

فقال: إني أخاف غائلة ذلك، وأصرّ على أن لا يقول ما أمره به أبوه.

وترددت الرسائل من الخليفة إليهم في ذلك، وهم ينكرون ذلك حتى بعث الشيخ أبا حامد إلاسفرايني والقاضي أبا بكر إليهما، فحلف لهما بالأيمان المؤكدة أنه ما قالها، والله أعلم بحقيقة الحال.

توفي في خامس المحرم منها عن سبع وأربعين سنة، وحضر جنازته الوزير والقضاة، وصلى عليه الوزير ودفن بداره بمسجد الأنباري، وولي أخوه المرتضى ما كان يليه، وزيد على ذلك أشياء ومناصب أخرى، وقد رثى الرضي أخاه بمرثاة حسنة.

باديس بن منصور الحميري

[عدل]

أبو المعز مناذر بن باديس نائب الحاكم على بلاد إفريقية وابن نائبها، لقبه الحاكم بنصير الدولة، كان ذا همة وسطوة وحرمة وافرة، كان إذا هزّ رمحا كسره، توفي فجأة ليلة الأربعاء سلخ ذي القعدة منها، ويقال: إن بعض الصالحين دعى عليه تلك الليلة، وقام في الأمر بعده ولده المعز مناذر.

ثم دخلت سنة سبع وأربعمائة

[عدل]

في ربيع الأول منها، احترق مشهد الحسين بن علي بكربلاء وأروقته، وكان سبب ذلك أن القومة أشعلوا شمعتين كبيرتين فمالتا في الليل على التازير، ونفذت النار منه إلى غيره حتى كان ما كان.

وفي هذا الشهر أيضا احترقت دار القطن ببغداد وأماكن كثيرة بباب البصرة، واحترق جامع سامرا.

وفيها: ورد الخبر بتشعيث الركن اليماني من المسجد الحرام، وسقوط جدار بين يدي قبر الرسول بالمدينة، وأنه سقطت القبة الكبيرة على صخرة بيت المقدس، وهذا من أغرب الاتفاقات وأعجبها.

وفي هذه السنة قتلت الشيعة الذين ببلاد إفريقية ونهبت أموالهم، ولم يترك منهم إلا من لا يعرف.

وفيها: كان ابتداء دولة العلويين ببلاد الأندلس، وليها علي بن حمود بن أبي العيس العلوي، فدخل قرطبة في المحرم منها، وقتل سليمان بن الحكم الأموي، وقتل أباه أيضا، وكان شيخا صالحا، وبايعه الناس وتلقب بالمتوكل على الله، ثم قتل في الحمام في ثامن ذي القعدة منها عن ثمان وأربعين سنة، وقام بالأمر من بعده أخوه القاسم بن حمود، وتلقب بالمأمون، فأقام في الملك ست سنين، ثم قام ابن أخيه يحيى بن علي، ثم ملك الأمويون حتى ملك أمر المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين.

وفيها: ملك محمود بن سبكتكين بلاد خوارزم بعد ملكها خوارزم شاه مأمون بن مأمون، وفيها استوزر سلطان الدولة أبا الحسن علي بن الفضل الرامهرمزي، عوضا عن فخر الملك، وخلع عليه.

ولم يحج أحد في هذه السنة من بلاد المغرب لفساد البلاد والطرقات.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن يوسف بن دوست

[عدل]

أبو عبد الله البزار، أحد حفاظ الحديث، وأحد الفقهاء على مذهب مالك، كان يذكر بحضرة الدارقطني ويتكلم على علم الحديث، فيقال: إن الدارقطني تكلم فيه لذلك السبب، وقد تكلم في غيره بما لا يقدح فيه كبير شيء.

قال الأزهري: رأيت كتبه طرية، وكان يذكر أن أصوله العتق غرقت، وقد أملى الحديث من حفظه، والمخلص وابن شاهين حيّان موجودان.

توفي في رمضان، عن أربع وثمانين سنة.

الوزير فخر الملك

[عدل]

محمد بن علي بن خلف أبو غالب الوزير، كان من أهل واسط، وكان أبوه صيرفيا، فتنقلت به الأحوال إلى أن وزر لبهاء الدولة، وقد اقتنى أموالا جزيلة، وبنى دارا عظيمة، تعرف بالفخرية، وكانت أولا للخليفة المتقي لله، فأنفق عليها أموالا كثيرة.

وكان كريما جوادا، كثير الصدقة، كسى في يوم واحد ألف فقير، وكان كثير الصلاة أيضا، وهو أول من فرق الحلاوة ليلة النصف من شعبان، وكان فيه ميل إلى التشيع، وقد صادره سلطان الدولة بالأهواز، وأخذ منه شيئا أزيد من ستمائة ألف دينار، خارجا عن الأملاك والجواهر والمتاع، قتله سلطان الدولة، وكان عمره يوم قتل ثنتين وخمسين سنة وأشهرا.

وقيل: إن سبب هلاكه أن رجلا قتله بعض غلمانه، فاستعدت امرأة الرجل على الوزير هذا، ورفعت إليه قصصها، وكل ذلك لا يلتفت إليها، فقالت له ذات يوم: أيها الوزير أرأيت القصص التي رفعتها إليك، فلم تلتفت إليها قد رفعتها إلى الله عز وجل، وأنا أنتظر التوقيع عليها.

فلما مسك قال: قد والله خرج توقيع المرأة، فكان من أمره ما كان.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعمائة

[عدل]

فيها: وقعت فتنة عظيمة بين أهل السنة والروافض ببغداد، قتل فيها خلق كثير من الفريقين.

وفيها: ملك أبو المظفر بن خاقان بلاد ما وراء النهر وغيرها، وتلقب بشرف الدولة، وذلك بعد وفاة أخيه طغان خان، وقد كان طغان خان هذا دينا فاضلا، يحب أهل العلم والدين.

وقد غزا الترك مرة فقتل منهم مائتي ألف مقاتل، وأسر منهم مائة ألف، وغنم من أواني الذهب والفضة، وأواني الصين شيئا لا يعهد لأحد مثله، فلما مات ظهرت ملوك الترك على البلاد الشرقية.

وفي جمادى الأولى منها ولي أبو الحسين أحمد بن مهذب الدولة علي بن نصر بلاد البطائح بعد أبيه، فقاتله ابن عمه فغلبه وقتله، ثم لم تطل مدته فيها حتى قتل، ثم آلت تلك البلاد بعد ذلك إلى سلطان الدولة صاحب بغداد، وطمع فيهم العامة، فنزلوا إلى واسط فقاتلوهم مع الترك.

وفيها: ولى نور الدولة أبو الأغردُبيس بن أبي الحسن علي بن مزيد بعد وفاة أبيه.

وفيها: قدم سلطان الدولة إلى بغداد، وضرب الطبل في أوقات الصلوات، ولم تجر بذلك عادة، وعقد عقده على بنت قرواش على صداق خمسين ألف دينار.

ولم يحج أحد من أهل العراق لفساد البلاد، وعيث الأعراب وضعف الدولة.

قال ابن الجوزي في (المنتظم): أخبرنا سعد الله بن علي البزار، أنبأ أبو بكر الطريثيثي، أنبأ هبة الله بن الحسن الطبري، قال: وفي سنة ثمان وأربعمائة استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتزلة، فأظهروا الرجوع وتبرؤوا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذت خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوا أحلّ فيهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك، واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها، في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة، وصلبهم وحبسهم ونفاهم، وأمر بلعنهم على المنابر، وأبعد جميع طوائف أهل البدع، ونفاهم عن ديارهم، وصار ذلك سنة في الإسلام.

وفيها توفي من الأعيان: الحاجب الكبير

شباشي أبو نصر

[عدل]

مولى شرف الدولة، ولقبه بهاء الدولة بالسعيد، وكان كثير الصدقة والأوقاف على وجوه القربات فمن ذلك: أنه وقف دباها على المارستان، وكانت تغل شيئا كثيرا من الزروع والثمار والخراج، وبنى قنطرة الخندق والمارستان والناصرية وغير ذلك، ولما مات دفن بمقبرة الإمام أحمد وأوصى أن لا يبنى عليه فخالفوه، فعقدوا قبة عليه فسقطت بعد موته بنحو من سبعين سنة، واجتمع نسوة عند قبره ينحن يبكين، فلما رجعن رأت عجوز منهن - كانت هي المقدمة فيهن - في المنام كأن تركيا خرج إليهن من قبره ومعه دبوس فحمل عليهن وزجرهن عن ذلك، وإذا هو الحاجب السعيد، فانتبهت مذعورة.

ثم دخلت سنة تسع وأربعمائة

[عدل]

وفي يوم الخميس السابع عشر من المحرم قرئ بدار الخلافة في الموكب كتاب في مذهب أهل السنة، وفيه: أن من قال القرآن مخلوق فهو كافر حلال الدم.

وفي النصف من جمادى الأولى منها فاض البحر المالح وتدانى إلى الأبلة، ودخل البصرة بعد يومين.

وفيها: غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند وتواقع هو وملك الهند فاقتتل الناس قتالا عظيما، ثم انجلت عن هزيمة عظيمة على الهند، وأخذ المسلمون يقتلون فيهم كيف شاؤوا، وأخذوا منهم أموالا عظيمة من الجواهر والذهب والفضة، وأخذوا منهم مائتي فيل، واقتصوا آثار المنهزمين منهم، وهدموا معامل كثيرة.

ثم عاد إلى غزنة مؤيدا منصورا.

ولم يحج أحد من درب العراق فيها لفساد البلاد وعيث الأعراب.

وفيها توفي من الأعيان:

رجاء بن عيسى بن محمد

[عدل]

أبو العباس الأنصناوي، نسبة إلى قرية من قرى مصر يقال لها: أنصنا.

قدم بغداد فحدث بها وسمع منه الحفاظ، وكان ثقة فقيها مالكيا عدلا عند الحكام، مرضيا.

ثم عاد إلى بلده وتوفي فيها، وقد جاوز الثمانين.

عبد الله بن محمد بن أبي علان

[عدل]

أبو أحمد قاضي الأهواز، كان ذا مال، وله مصنفات منها كتاب في معجزات النبي ، جمع فيه ألف معجزة، وكان من كبار شيوخ المعتزلة، توفي فيها عن تسع وثمانين سنة.

علي بن نصر

[عدل]

ابن أبي الحسن، مهذب الدولة، صاحب بلاد البطيحة، له مكارم كثيرة، وكان الناس يلجؤون إلى بلاده في الشدائد فيؤويهم، ويحسن إليهم، ومن أكبر مناقبه إحسانه إلى أمير المؤمنين القادر لما استجار به ونزل عنده بالبطائح فارا من الطائع، فآواه وأحسن إليه، وكان في خدمته حتى ولي إمرة المؤمنين، وكان له بذلك عنده اليد البيضاء، وقد ولي البطائح ثنتين وثلاثين سنة وشهورا، وتوفي فيها عن ثنتين وسبعين سنة، وكان سبب موته أنه افتصد فانتفخ زراعه فمات.

عبد الغني بن سعيد

[عدل]

ابن علي بن بشر بن مروان بن عبد العزيز، أبو محمد الأزدي المصري، الحافظ، كان عالما بالحديث وفنونه، وله فيه المصنفات الكثيرة الشهيرة.

قال أبو عبد الله الصوري الحافظ: ما رأت عيناي مثله في معناه.

وقال الدارقطني: ما رأيت بمصر مثل شاب يقال له: عبد الغني، كأنه شعلة نار، وجعل يفخم أمره ويرفع ذكره.

وقد صنف الحافظ عبد الغني هذا كتابا فيه أوهام الحاكم، فلما وقف الحاكم عليه جعل يقرؤه على الناس ويعترف لعبد الغني بالفضل، ويشكره ويرجع فيه إلى ما أصاب فيه من الرد عليه، رحمهما الله.

ولد عبد الغني لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وتوفي في صفر من هذه السنة رحمه الله.

محمد بن أمير المؤمنين

[عدل]

ويكنى بأبي الفضل، كان قد جعله ولي عهده من بعده، وضربت السكة باسمه وخطب له الخطباء على المنابر، ولقب بالغالب بالله، فلم يقدر ذلك.

توفي فيها عن سبع وعشرين سنة.

محمد بن إبراهيم بن محمد بن يزيد

[عدل]

أبو الفتح البزار الطرسوسي، ويعرف بابن البصري، سمع الكثير من المشايخ، وسمع منه الصوري ببيت المقدس، حين أقام بها، وكان ثقة مأمونا.

ثم دخلت سنة عشر وأربعمائة

[عدل]

فيها: ورد كتاب يمين الدولة محمود بن سبكتكين، يذكر فيه ما افتتحه من بلاد الهند في السنة الخالية، وفيه أنه دخل مدينة فيها ألف قصر مشيد، وألف بيت للأصنام.

وفيها من الأصنام شيء كثير، ومبلغ ما على الصنم من الذهب ما يقارب مائة ألف دينار، ومبلغ الأصنام الفضة زيادة على ألف صنم، وعندهم صنم معظم، يؤرخون له وبه بجهالتهم ثلاثمائة ألف عام، وقد سلبنا ذلك كله وغيره مما لا يحصى ولا يعد.

وقد غنم المجاهدون في هذه الغزوة شيئا كثيرا، وقد عمموا المدينة بالإحراق، فلم يتركوا منها إلا الرسوم، وبلغ عدد القتلى من الهنود خمسين ألفا، وأسلم منهم نحو من عشرين ألفا، وأفرد خمس الرقيق فبلغ ثلاثا وخمسين ألفا، واعترض من الأفيال ثلاثمائة وست وخمسين فيلا، وحصل من الأموال عشرون ألف ألف درهم، ومن الذهب شيء كثير.

وفي ربيع الآخر منها قرئ عهد أبي الفوارس ولقب قوام الدولة، وخلع عليه خلعا حملت إليه بولاية كرمان.

ولم يحج في هذه السنة أحد من العراق.

وممن توفي فيها من الأعيان:

الأصيفر الذي كان يخفر الحجاج.

أحمد بن موسى بن مردويه

ابن فورك، أبو بكر الحافظ الأصبهاني، توفي في رمضان منها.

هبة الله بن سلامة

أبو القاسم الضرير المقرئ المفسر، كان من أعلم الناس وأحفظهم للتفسير، وكانت له حلقة في جامع المنصور، روى ابن الجوزي بسنده إليه قال: كان لنا شيخ نقرأ عليه فمات بعض أصحابه فرآه في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟

قال: غفر لي.

قال: فما كان حالك مع منكر ونكير؟

قال: لما أجلساني وسألاني ألهمني الله أن قلت: بحق أبي بكر وعمر دعاني، فقال أحدهما للآخر: قد أقسم بعظيمين فدعه، فتركاني وذهبا.

ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمائة

[عدل]

فيها: عدم الحاكم بمصر، وذلك أنه لما كان ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من شوال فقد الحاكم بن المعز الفاطمي صاحب مصر، فاستبشر المؤمنون والمسلمون بذلك، وذلك لأنه كان جبارا عنيدا، وشيطانا مريدا.

ولنذكر شيئا من صفاته القبيحة، وسيرته الملعونة، أخزاه الله.

كان كثير التلون في أفعاله وأحكامه وأقواله، جائرا، وقد كان يروم أن يدّعي الألوهية كما ادّعاها فرعون، فكان قد أمر الرعية إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه أن يقوم الناس على أقدامهم صفوفا، إعظاما لذكره واحتراما لاسمه، فعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين، وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره خروا سجدا له، حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم، ممن كان لا يصلي الجمعة، وكانوا يتركون السجود لله في يوم الجمعة وغيره ويسجدون للحاكم، وأمر في وقت لأهل الكتابين بالدخول في دين الإسلام كرها، ثم أذن لهم في العود إلى دينهم، وخرب كنائسهم ثم عمرها، وخرب القمامة ثم أعادها، وابتنى المدارس.

وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، ثم قتلهم وأخربها، وألزم الناس بغلق الأسواق نهارا، وفتحها ليلا، فامتثلوا ذلك دهرا طويلا.

حتى اجتاز مرة برجل يعمل النجارة في أثناء النهار، فوقف عليه فقال: ألم أنهكم؟

فقال: يا سيدي لما كان الناس يتعيشون بالنهار كانوا يسهرون بالليل، ولما كانوا يتعيشون بالليل سهروا بالنهار فهذا من جملة السهر، فتبسم وتركه.

وأعاد الناس إلى أمرهم الأول، وكل هذا تغيير للرسوم، واختبار لطاعة العامة له، ليرقى في ذلك إلى ما هو أشر وأعظم منه.

وقد كان يعمل الحسبة بنفسه فكان يدور بنفسه في الأسواق على حمار له - وكان لا يركب إلا حمارا - فمن وجده قد غش في معيشة أمر عبد ا أسود معه يقال له: مسعود، أن يفعل به الفاحشة العظمى، وهذا أمر منكر ملعون، لم يسبق إليه، وكان قد منع النساء من الخروج من منازلهن، وقطع شجر الأعناب حتى لا يتخذ الناس منها خمرا، ومنعهم من طبخ الملوخية، وأشياء من الرعونات التي من أحسنها منع النساء من الخروج، وكراهة الخمر.

وكانت العامة تبغضه كثيرا، ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة له ولأسلافه، في صورة قصص، فإذا قرأها ازداد غيظا وحنقا عليهم، حتى إن أهل مصر عملوا صورة امرأة من ورق بخفيها وإزارها، وفي يدها قصة من الشتم واللعن والمخالفة شيء كثير، فلما رآها ظنها امرأة، فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها فقرأها فرأى ما فيها، فأغضبه ذلك جدا، فأمر بقتل المرأة.

فلما تحققها من ورق ازداد غيظا إلى غيظه، ثم لما وصل إلى القاهرة أمر السودان أن يذهبوا إلى مصر فيحرقوها وينهبوا ما فيها من الأموال والمتاع والحريم، فذهبوا فامتثلوا ما أمرهم به، فقاتلهم أهل مصر قتالا شديدا، ثلاثة أيام، والنار تعمل في الدور والحريم.

وهو في كل يوم قبحه الله، يخرج فيقف من بعيد وينظر ويبكي ويقول: من أمر هؤلاء العبيد بهذا؟

ثم اجتمع الناس في الجوامع ورفعوا المصاحف وصاروا إلى الله عز وجل، واستغاثوا به، فرق لهم الترك والمشارقة وانحازوا إليهم، وقاتلوا معهم عن حريمهم ودورهم، وتفاقم الحال جدا، ثم ركب الحاكم لعنه الله ففصل بين الفريقين، وكف العبيد عنهم، وكان يظهر التنصل مما فعله العبيد وأنهم ارتكبوا ذلك من غير علمه وإذنه، وكان ينفذ إليهم السلاح ويحثهم على ذلك في الباطن، وما انجلى الأمر حتى احترق من مصر نحو ثلثها، ونهب قريب من نصفها، وسبيت نساء وبنات كثيرة وفعل معهن الفواحش والمنكرات، حتى أن منهن من قتلت نفسها خوفا من العار والفضيحة، واشترى الرجال منهم من سبي لهم من النساء والحريم.

قال ابن الجوزي: ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عنّ له أن يدّعي الربوبية، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد يا أحد يا محي يا مميت، قبحهم الله جميعا.

صفة مقتل الحاكم بن المعز الفاطمي لعنه الله

[عدل]

كان قد تعدى شره إلى الناس كلهم حتى إلى أخته، وكان يتهمها بالفاحشة، ويسمعها أغلظ الكلام، فتبرمت منه، وعملت على قتله، فراسلت أكبر الأمراء، أميرا يقال له: ابن دواس، فتوافقت هي وهو على قتله ودماره، وتواطآ على ذلك، فجهز من عنده عبدين، أسودين شهمين، وقال لهما: إذا كانت الليلة الفلانية فكونا في جبل المقطم، ففي تلك الليلة يكون الحاكم هناك في الليل لينظر في النجوم، وليس معه أحد إلا ركابي وصبي، فاقتلاه واقتلاهما معه، واتفق الحال على ذلك.

فلما كانت تلك الليلة قال الحاكم لأمه: عليّ في هذه الليلة قطع عظيم، فإن نجوت منه عمرت نحوا من ثمانين سنة، ومع هذا فانقلي حواصلي إليك، فإن أخوف ما أخاف عليك من أختي، وأخوف ما أخاف على نفسي منها، فنقل حواصله إلى أمه، وكان له في صناديق قريب من ثلاثمائة ألف دينار، وجواهر أخر.

فقالت له أمه: يا مولانا إذا كان الأمر كما تقول فارحمني ولا تركب في ليلتك هذه إلى موضع، وكان يحبها.

فقال: أفعل، وكان من عادته أن يدور حول القصر كل ليلة، فدار ثم عاد إلى القصر، فنام إلى قريب من ثلث الليل الأخير، فاستيقظ وقال: إن لم أركب الليلة فاضت نفسي، فثار فركب فرسا وصحبه صبي وركابي، وصعد الجبل المقطم فاستقبله ذانك العبدان فأنزلاه عن مركوبه، وقطعا يديه ورجليه، وبقرا بطنه، فأتيا به مولاهما ابن دواس، فحمله إلى أخته فدفنته في مجلس دارها، واستدعت الأمراء والأكابر والوزير وقد أطلعته على الجلية، فبايعوا لولد الحاكم أبي الحسن علي، ولقب بالظاهر لإعزاز دين الله، وكان بدمشق، فاستدعت به وجعلت تقول للناس: إن الحاكم قال لي: إنه يغيب عنكم سبعة أيام ثم يعود، فاطمأن الناس، وجعلت ترسل ركابيين إلى الجبل فيصعدونه، ثم يرجعون فيقولون: تركناه في الموضع الفلاني.

ويقول الذين بعدهم لأمه: تركناه في موضع كذا وكذا.

حتى اطمأن الناس وقدم ابن أخيها واستصحب معه من دمشق ألف ألف دينار، وألفي ألف درهم، فحين وصل ألبسته تاج جد أبيه المعز، وحلة عظيمة، وأجلسته على السرير، وبايعه الأمراء والرؤوساء، وأطلق لهم الأموال، وخلعت على ابن دواس خلعة سنية هائلة، وعملت عزاء أخيها الحاكم ثلاثة أيام، ثم أرسلت إلى ابن دواس طائفة من الجند ليكونوا بين يديه بسيوفهم وقوفا في خدمته، ثم يقولوا له في بعض الأيام: أنت قاتل مولانا، ثم يهبرونه بسيوفهم، ففعلوا ذلك، وقتلت كل من اطلع على سرها في قتل أخيها فعظمت هيبتها وقويت حرمتها وثبتت دولتها.

وقد كان عمر الحاكم يوم قتل سبعا وثلاثين سنة، ومدة ملكه من ذلك خمسا وعشرين سنة.

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة

[عدل]

فيها: تولى القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد السمناني الحسبة والمواريث ببغداد، وخلع عليه السواد.

وفيها: قالت جماعة من العلماء والمسلمين للملك الكبير يمين الدولة، محمود بن سبكتكين: أنت أكبر ملوك الأرض، وفي كل سنة تفتح طائفة من بلاد الكفر، وهذه طريق الحج، قد تعطلت من مدة ستين وفتحك لها أوجب من غيرها.

فتقدم إلى قاضي القضاة أبي محمد الناصحي أن يكون أمير الحج في هذه السنة، وبعث معه بثلاثين ألف دينار للأعراب، غير ما جهز من الصدقات، فسار الناس بصحبته، فلما كانوا بفَيْد اعترضهم الأعراب فصالحهم القاضي أبو محمد الناصحي بخمسة آلاف دينار، فامتنعوا وصمم كبيرهم - وهو جماز بن عُدَي - على أخذ الحجيج، وركب فرسه وجال جولة واستنهض شياطين العرب، فتقدم إليه غلام من سمرقند فرماه بسهم فوصل إلى قلبه فسقط ميتا، وانهزمت الأعراب، وسلك الناس الطريق فحجوا ورجعوا سالمين ولله الحمد والمنة.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أبو سعد الماليني

[عدل]

أحمد بن محمد بن أحمد بن إسماعيل بن حفص، أبو سعد الماليني، ومالين قرية من قرى هراة، كان من الحفاظ المكثرين الراحلين في طلب الحديث إلى الآفاق، وكتب كثيرا، وكان ثقة صدوقا صالحا، مات بمصر في شوال منها.

الحسن بن الحسين ابن محمد بن الحسين بن رامين القاضي

[عدل]

أبو محمد الاستراباذي، نزل بغداد وحدث بها عن الإسماعيلي وغيره، وكان شافعيا كبيرا، فاضلا صالحا.

الحسن بن منصور بن غالب

[عدل]

الوزير الملقب ذا السعادتين، ولد بسيراف سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، ثم صار وزيرا ببغداد، ثم قتل وصودر أبوه علي ثمانين ألف دينار.

الحسين بن عمرو

[عدل]

أبو عبد الله الغزال، سمع النجاد والخلدي وابن السماك وغيرهم.

قال الخطيب: كتبت عنه وكان ثقة صالحا كثير البكاء عند الذكر.

محمد بن عمر أبو بكر العنبري الشاعر

[عدل]

كان أدبيا ظريفا، حسن الشعر، فمن ذلك قوله:

إني نظرت إلى الزما ** ن وأهله نظرا كفاني

فعرفته وعرفتهم ** وعرفت عزي من هواني

فلذاك أطّرح الصد ** يق فلا أراه ولا يراني

وزهدت فيما في يديـ ** ـه ودونه نيل الأماني

فتعجبوا لمغالب ** وهب الأقاصي للأداني

وانسل من بين الزحا ** م فماله في الغلب ثاني

قال ابن الجوزي: وكان متصوفا ثم خرج عنهم وذمهم بقصائد ذكرتها في تلبيس إبليس.

توفي يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى منها.

محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد

[عدل]

ابن روق بن عبد الله بن يزيد بن خالد، أبو الحسن البزار، المعروف بابن رزقويه.

قال الخطيب: هو أول شيخ كتبت عنه في سنة ثلاث وأربعمائة، وكان يذكر أنه درس القرآن ودرس الفقه على مذهب الشافعي، وكان ثقة صدوقا كثير السماع والكتابة، حسن الاعتقاد، جميل المذهب، مديما لتلاوة القرآن، شديدا على أهل البدع، وأكب دهرا على الحديث.

وكان يقول: لا أحب الدنيا إلا لذكر الله وتلاوة القرآن، وقراءتي عليكم الحديث.

وقد بعث بعض الأمراء إلى العلماء بذهب فقبلوا كلهم غيره، فإنه لم يقبل شيئا، وكانت وفاته يوم الاثنين السادس عشر من جمادى الأولى منها، عن سبع وثمانين سنة، ودفن بالقرب من مقبرة معروف الكرخي.

أبو عبد الرحمن السلمي

[عدل]

محمد بن الحسين بن محمد بن موسى، أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري، روى عن الأصم وغيره، وعنه مشايخ البغداديين، كالأزهري والعشاري وغيرهما، وروى عنه البيهقي وغيره.

قال ابن الجوزي: كانت له عناية بأخبار الصوفية، فصنف لهم تفسيرا على طريقتهم، وسننا وتاريخا، وجمع شيوخا وتراجم وأبوابا.

له بنيسابور دار معروفة، وفيها صوفية وبها قبره، ثم ذكر كلام الناس في تضعيفه في الرواية، فحكى عن الخطيب عن محمد بن يوسف القطان أنه قال: لم يكن بثقة، ولم يكن سمع من الأصم شيئا كثيرا، فلما مات الحاكم روى عنه أشياء كثيرة جدا، وكان يضع للصوفية الأحاديث.

قال ابن الجوزي: وكانت وفاته في ثالث شعبان منها.

أبو علي الحسن بن علي الدقاق النيسابوري

[عدل]

كان يعظ الناس ويتكلم على الأحوال والمعرفة، فمن كلامه: من تواضع لأحد لأجل دنياه ذهب ثلثا دينه، لأنه خضع له بلسانه وأركانه، فإن اعتقد تعظيمه بقلبه أو خضع له به ذهب دينه كله.

وقال في قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} 1. اذكروني وأنتم أحياء أذكركم وأنتم أموات تحت التراب، وقد تخلى عنكم الأقارب والأصحاب والأحباب.

وقال: البلاء الأكبر أن تريد ولا تُراد، وتدنو فترد إلى الطرد والأبعاد، وأنشد عند قوله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} 2.

جننا بليلى وهي جنت بغيرنا ** وأخرى بنا مجنونة لا نريدها

وقال في قوله : «حفت الجنة بالمكاره»: إذا كان هذا المخلوق لا وصول إليه إلا بتحمل المشاق فما الظن بمن لم يزل؟

وقال في قوله عليه السلام: «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها».

يا عجبا لمن لم ير محسنا غير الله كيف لا يميل بكليته إليه؟

قلت: كلامه على هذا الحديث جيد والحديث لا يصح بالكلية.

صريع الدلال الشاعر

[عدل]

أبو الحسن علي بن عبيد الواحد، الفقيه البغدادي، الشاعر الماجن، المعروف بصريع الدلال، قتيل الغواني ذي الرقاعتين، له قصيدة مقصورة عارض بها مقصورة ابن دريد يقول فيها:

وألف حمل من متاع تستر ** أنفع للمسكين من لقط النوى

من طبخ الديك ولا يذبحه ** طار من القدر إلى حيث انتهى

من دخلت في عينه مسلّة ** فسلْه من ساعته كيف العمى

والذقن شعر في الوجوه طالع ** كذلك العقصة من خلف القفى

إلى أن ختمها بالبيت الذي حسد عليه وهو قوله:

من فاته العلم وأخطأه الغنى ** فذاك والكلب على حد سوى ** قدم مصر في سنة ثنتى عشرة وأربعمائة، وامتدح فيها خليفتها الظاهر لإعزاز دين الله ابن الحاكم، واتفقت وفاته بها في رجبها.

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة

[عدل]

فيها: جرت كائنة غريبة عظيمة، ومصيبة عامة، وهي أن رجلا من المصريين من أصحاب الحاكم اتفق مع جماعة من الحجاج المصريين على أمر سوء، وذلك أنه لما كان يوم النفر الأول طاف هذا الرجل بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر الأسود جاء ليقبله فضربه بدبوس كان معه ثلاث ضربات متواليات، وقال: إلى متى نعبد هذا الحجر؟ ولا محمد ولا علي مما أفعله، فإني أهدم اليوم هذا البيت.

وجعل يرتعد فاتقاه أكثر الحاضرين وتأخروا عنه، وذلك لأنه كان رجلا طوالا جسيما أحمر اللون أشقر الشعر، وعلى باب الجامع جماعة من الفرسان، وقوف ليمنعوه ممن يريد منعه من هذا الفعل، وأراده بسوء، فتقدم إليه رجل من أهل اليمن معه خنجر فوجأه بها، وتكاثر الناس عليه فقتلوه وقطعوه قطعا، وحرقوه بالنار، وتتبعوا أصحابه فقتلوا منهم جماعة.

ونهبت أهل مكة الركب المصري، وتعدى النهب إلى غيرهم، وجرت خبطة عظيمة، وفتنة كبيرة جدا، ثم سكن الحال بعد أن تتبع أولئك النفر الذين تمالؤوا على الإلحاد في أشرف البلاد غير أنه قد سقط من الحجر ثلاث فلق مثل الأظفار، وبدا ما تحتها أسمر يضرب إلى صفرة، محببا مثل الخشخاش، فأخذ بنوشيبة تلك الفلق فعجنوها بالمسك والك وحشوا بها تلك الشقوق التي بدت، فاستمسك الحجر واستمر على ما هو عليه الآن، وهو ظاهر لمن تأمله.

وفيها: فتح المارستان الذي بناه الوزير مؤيد الملك، أبو علي الحسن وزير شرف الملك بواسط، ورتب له الخزان والأشربة والأدوية والعقاقير، وغير ذلك مما يحتاج إليه.

وفيها توفي من الأعيان:

ابن البواب الكاتب

[عدل]

صاحب الخط المنسوب، علي بن هلال أبو الحسن بن البواب، صاحب أبي الحسين بن سمعون الواعظ، وقد أثنى على ابن البواب غير واحد في دينه وأمانته، وأما خطه وطريقته فيه فأشهر من أن ننبه عليها، وخطه أوضح تعريبا من خط أبي على بن مقلة، ولم يكن بعد ابن مقلة أكتب منه، وعلى طريقته الناس اليوم في سائر الأقاليم إلا القليل.

قال ابن الجوزي: توفي يوم السبت ثاني جمادى الآخرة منها، ودفن بمقبرة باب حرب، وقد رثاه بعضهم بأبيات منها قوله:

فللقلوب التي أبهجتها حرق ** وللعيون التي أقررتها سهر

فما لعيش وقد ودعته أرج ** وما لليل وقد فارقته سحر

قال ابن خلكان: ويقال له: الستري، لأن أباه كان ملازما لستر الباب، ويقال له: ابن البواب، وكان قد أخذ الخط عن عبد الله بن محمد بن أسد بن علي بن سعيد البزاز، وقد سمع أسد هذا على النجاد وغيره، وتوفي سنة عشر وأربعمائة، وأما ابن البواب فإنه توفي في جمادى الأولى من هذه السنة، وقيل: في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، وقد رثاه بعضهم فقال:

استشعرت الكتّاب فقدك سالفا ** وقضت بصحة ذلك الأيام

فلذاك سودت الدُّويُّ كآبة ** أسفا عليك وشقت الأقلام

ثم ذكر ابن خلكان أول من كتب العربية، فقيل: إسماعيل عليه السلام، وقيل: أول من كتب بالعربية من قريش حرب بن أمية بن عبد شمس، أخذها من بلاد الحيرة عن رجل يقال له: أسلم بن سدرة، وسأله ممن اقتبستها؟

فقال: من واضعها رجل يقال له: مرامر بن مروة، وهو رجل من أهل الأنبار.

فأصل الكتابة في العرب من الأنبار.

وقال الهيثم بن عدي: وقد كان لحمير كتابة يسمونها المسند، وهي حروف متصلة غير منفصلة، وكانوا يمنعون العامة من تعلمها، وجميع كتابات الناس تنتهي إلى اثني عشر صنفا وهي: العربية، والحميرية، واليونانية، والفارسية، والرومانية، والعبرانية، والرومية، والقبطية، والبربرية، والهندية، والأندلسية، والصينية.

وقد اندرس كثير منها فقل من يعرف شيئا منها.

وفيها توفي من الأعيان:

علي بن عيسى ابن سليمان بن محمد بن أبان

[عدل]

أبو الحسن الفارسي المعروف بالسكري الشاعر، وكان يحفظ القرآن ويعرف القراءات، وصحب أبا بكر الباقلاني، وأكثر شعره في مديح الصحابة وذم الرافضة.

وكانت وفاته في شوال من هذه السنة ودفن بالقرب من قبر معروف، وقد كان أوصى أن يكتب على قبره هذه الأبيات التي عملها وهي قوله:

نفس، يا نفس كما تمادين في تلفي ** وتمشين في الفعال المعيب

راقبي الله واحذري موقف العر ** ض وخافي يوم الحساب العصيب

لا تغرنَّك السلامة في العيـ ** ـش فإن السليم رهن الخطوب

كل حي فللمنون ولا يد ** فع كأس المنون كيد الأديب

واعلمي أن للمنية وقتا ** سوف يأتي عجلان غير هيوب

إن حب الصديق في موقف الـ ** ـحشر أمان للخائف المطلوب

محمد بن أحمد بن محمد بن منصور

[عدل]

أبو جعفر البيع، ويعرف بالعتيقي، ولد سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وأقام بطرسوس مدة، وسمع بها وبغيرها، وحدث بشيء يسير.

ابن النعمان شيخ الإمامية الروافض

[عدل]

والمصنف لهم، والمحامي عن حوزتهم، كانت له وجاهة عند مملوك الأطراف، لميل كثير من أهل ذلك الزمان إلى التشيع، وكان مجلسه يحضره خلق كثير من العلماء من سائر الطوائف، وكان من جملة تلاميذه الشريف الرضي والمرتضى، وقد رثاه بقصيدة بعد وفاته في هذه السنة، منها قوله:

مَنْ لعضل أخرجت منه حساما ** ومعان فضضت عنها ختاما؟

من يثير العقول من بعد ما ** كن همودا ويفتح الأفهاما؟

من يعير الصديق رأيا ** إذا ما سل في الخطوب حساما؟

ثم دخلت سنة أربع عشرة وأربعمائة

[عدل]

فيها: قدم الملك شرف الدولة إلى بغداد فخرج الخليفة في الطيارة لتلقيه، وصحبته الأمراء والقضاة والفقهاء والوزراء والرؤساء، فلما واجهه شرف الدولة قبل الأرض بين يديه مرات والجيش واقف برمته، والعامة في الجانبين.

وفيها: ورد كتاب من يمين الدولة محمود بن سبكتكين إلى الخليفة يذكر أنه دخل بلاد الهند أيضا، وأنه فتح بلادا، وقتل خلقا منهم، وأنه صالحه بعض ملوكهم وحمل إليه هدايا سنية، منها فيول كثيرة، ومنها طائر على هيئة القُمري، إذا وضع عند الخوان وفيه سم دمعت عيناه وجرى منهما ماء، ومنها حجر يحك ويؤخذ منه ما تحصل منه فيطلى بها الجراحات ذات الأفواه الواسعة فيلحمها، وغير ذلك.

وحج الناس من أهل العراق ولكن رجعوا على طريق الشام لاحتياجهم إلى ذلك.

وفيها توفي من الأعيان:

الحسن بن الفضل بن سهلان

[عدل]

أبو محمد الرامهرمزي، وزير سلطان الدولة، وهو الذي بنى سور الحائر عند مشهد الحسين، قتل في شعبان منها.

الحسن بن محمد بن عبد الله

[عدل]

أبو عبد الله الكشغلي الطبري، الفقيه الشافعي، تفقه على أبي القاسم الداركي، وكان فهما فاضلا صالحا زاهدا، وهو الذي درس بعد الشيخ أبي حامد الإسفرائيني في مسجده، مسجد عبد الله بن المبارك في قطيعة الربيع، وكان الطلبة عنده مكرمين، اشتكى بعضهم إليه حاجة وأنه قد تأخرت عنه نفقته التي ترد إليه من أبيه، فأخذه بيده وذهب إلى بعض التجار فاستقرض له منه خمسين دينارا.

فقال التاجر: حتى تأكل شيئا فمد السماط فأكلوا وقال: يا جارية هاتي المال، فأحضرت شيئا من المال فوزن منها خمسين دينارا ودفعها إلى الشيخ، فلما قاما إذا بوجه ذلك الطالب قد تغير، فقال له الكشغلي: ما لك؟

فقال: يا سيدي قد سكن قلبي حب هذه الجارية، فرجع به إلى التاجر، فقال له: قد وقعنا في فتنة أخرى.

فقال: وما هي؟

فقال: إن هذا الفقيه قد هوى الجارية.

فأمر التاجر الجارية أن تخرج فتسلمها الفقيه، وقال: ربما أن يكون قد وقع في قلبها منه مثل الذي قد وقع في قلبه منها، فلما كان عن قريب قدم على ذلك الطالب نفقته من أبيه ستمائة دينار، فوفى ذلك التاجر ما كان له عليه من ثمن الجارية والقرض، وذلك بسفارة الشيخ.

توفي في ربيع الآخر منها ودفن بباب حرب.

علي بن عبد الله بن جهضم

[عدل]

أبو الحسن الجهضمي الصوفي المكي، صاحب بهجة الأسرار، كان شيخ الصوفية بمكة، وبها توفي.

قال ابن الجوزي: وقد ذكر أنه كان كذابا، ويقال: إنه الذي وضع حديث صلاة الرغائب.

القاسم بن جعفر بن عبد الواحد

[عدل]

أبو عمر الهاشمي البصري، قاضيها، سمع الكثير، وكان ثقة أمينا، وهو راوي سنن أبي داود عن أبي علي اللؤلؤي، توفي فيها وقد جاوز التسعين.

محمد بن أحمد بن الحسن بن يحيى بن عبد الجبار

[عدل]

أبو الفرج القاضي الشافعي، يعرف بابن سميكة، روى عن النجاد وغيره، وكان ثقة، توفي في ربيع الأول منها ودفن بباب حرب.

محمد بن أحمد أبو جعفر النسفي

[عدل]

عالم الحنفية في زمانه، وله طريقة في الخلاف، وكان فقيرا متزهدا، بات ليلة قلقا لما عنده من الفقر والحاجة، فعرض له فكر في فرع من الفروع كان أشكل عليه، فانفتح له فقام يرقص ويقول: أين الملوك؟

فسألته امرأته عن خبره فأعلمها بما حصل له، فتعجبت من شأنه رحمه الله.

وكانت وفاته في شعبان منها.

هلال بن محمد ابن جعفر بن سعدان

[عدل]

أبو الفتح الحفار، سمع إسماعيل الصفار والنجاد وابن الصواف، وكان ثقة، توفي في صفر عن اثنتين وتسعين سنة.

ثم دخلت سنة خمس عشرة وأربعمائة

[عدل]

فيها: ألزم الوزير جماعة الأتراك والمولدين والشريف المرتضى ونظام الحضرة أبا الحسن الزينبي وقاضي القضاة أبا الحسن بن أبي الشوارب، والشهود، بالحضور لتجديد البيعة لشرف الدولة، فلما بلغ ذلك الخليفة توهم أن تكون هذه البيعة لنية فاسدة من أجله، فبعث إلى القاضي والرؤساء ينهاهم عن الحضور، فاختلفت الكلمة بين الخليفة وشرف الدولة، واصطلحا وتصافيا، وجددت البيعة لكل منهما من الآخر.

ولم يحج فيها من ركب العراق ولا خراسان أحد، واتفق أن بعض الأمراء من جهة محمود بن سبكتكين شهد الموسم في هذه السنة، فبعث إليه صاحب مصر بخلع عظيمة ليحملها للملك محمود، فلما رجع بها إلى الملك أرسل بها إلى بغداد إلى الخليفة القادر فحرقت بالنار.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أحمد بن محمد بن عمر بن الحسن

[عدل]

أبو الفرح المعدل المعروف بابن المسلمة، ولد سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وسمع أباه وأحمد بن كامل والنجاد والجهضمي ودعلج وغيرهم، وكان ثقة.

سكن الجانب الشرقي من بغداد، وكان يملي في أول كل سنة مجلسا في المحرم، وكان عاقلا فاضلا، كثير المعروف، داره مألف لأهل العلم، وتفقه بأبي بكر الرازي، وكان يصوم الدهر، ويقرأ في كل يوم سبعا، ويعيده بعينه في التهجد، توفي في ذي القعدة منها.

أحمد بن محمد بن أحمد ابن القاسم بن إسماعيل

[عدل]

بن محمد بن إسماعيل بن سعيد بن أبان الضبي، أبو الحسن المحاملي، نسبة إلى المحامل التي يحمل عليها الناس في السفر، تفقه على أبي حامد الإسفراييني، وبرع فيه، حتى إن الشيخ كان يقول: هو أحفظ للفقه مني.

وله المصنفات المشهورة منها (اللباب)، و(الأوسط) و(المقنع) وله في الخلاف، وعلق على أبي حامد تعليقة كبيرة.

قال ابن خلكان: ولد سنة ثمان وستين وثلاثمائة، وتوفي في يوم الأربعاء لتسع بقين من ربيع الآخر منها، وهو شاب.

عبيد الله بن عبد الله ابن الحسين أبو القاسم الخفاف

[عدل]

المعروف بابن النقيب، كان من أئمة السنة، وحين بلغه موت ابن المعلم فقيه الشيعة سجد لله شكرا.

وجلس للتهنئة وقال: ما أبالي أي وقت مت بعد أن شاهدت موت ابن المعلم.

ومكث دهرا طويلا يصلي الفجر بوضوء العشاء.

قال الخطيب: وسألته عن مولده فقال: في سنة خمس وثلاثمائة، وأذكر من الخلفاء المقتدر والقاهر والرضي والمتقي لله والمستكفي والمطيع والطائع والقادر والغالب بالله، الذي خطب له بولاية العهد، توفي في سلخ شعبان منها عن مائة وعشر سنين.

عمر بن عبد الله بن عمر أبو حفص الدلال

[عدل]

قال: سمعت الشبلي ينشد قوله:

وقد كان شيء سمى السرور ** قديما سمعنا به ما فعل

خليلي، إن دام هم النفو ** س قليلا على ما نراه قتل

يؤمل دنيا لتبقى له ** فمات المؤمل قبل الأمل

محمد بن الحسن أبو الحسن الأقساسي العلوي

[عدل]

نائب الشريف المرتضي في إمرة الحجيج، حج بالناس سنين متعددة، وله فصاحة وشعر، وهو من سلالة زيد بن علي بن الحسين.

ثم دخلت سنة ست عشرة وأربعمائة

[عدل]

فيها: قوي أمر العيارين ببغداد ونهبوا الدور جهرة، واستهانوا بأمر السلطان.

وفي ربيع الأول منها توفي شرف الدولة بن بويه الديلمي صاحب بغداد والعراق وغير ذلك، فكثرت الشرور ببغداد ونهبت الخزائن، ثم سكن الأمر على تولية جلال الدولة أبي الطاهر، وخطب له على المنابر، وهو إذ ذاك على البصرة، وخلع على شرف الملك أبي سعيد بن ماكولا وزيره، ولقب علم الدين سعد الدولة أمين الملة شرف الملك، وهو أول من لقب بالألقاب الكثيرة، ثم طلب من الخليفة أن يبايع لأبي كاليجار ولي عهد أبيه سلطان الدولة، الذي استخلفه بهاء الدولة عليهم، فتوقف في الجواب ثم وافقهم على ما أرادوا، وأقيمت الخطبة للملك أبي كاليجار يوم الجمعة سادس عشر شوال منها، ثم تفاقم الأمر ببغداد من جهة العيارين، وكبسوا الدور ليلا ونهارا، وضربوا أهلها كما يضرب المصادرون ويستغيث أحدهم فلا يغاث، واشتد الحال وهربت الشرطة من بغداد ولم تغن الأتراك شيئا، وعملت السرايج على أفواه السكك فلم يفد ذلك شيئا، وأحرقت دار الشريف المرتضى فانتقل منها، وغلت الأسعار جدا.

ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان.

وممن توفي فيها من الأعيان:

سابور بن أزدشير

[عدل]

وزر لبهاء الدولة ثلاث مرات، ووزر لشرف الدولة، وكان كاتبا سديدا عفيفا عن الأموال، كثير الخير، سليم الخاطر، وكان إذا سمع المؤذن لا يشغله شيء عن الصلاة، وقد وقف دارا للعلم في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وجعل فيها كتبا كثيرة جدا، ووقف عليها غلة كبيرة، فبقيت سبعين سنة، ثم أحرقت عند مجيء الملك طغرلبك في سنة خمسين وأربعمائة، وكانت محلتها بين السورين، وقد كان حسن المعاشرة إلا أنه كان يعزل عماله سريعا خوفا عليهم من الأشر والبطر، توفي فيها وقد قارب التسعين.

عثمان النيسابوري

[عدل]

الجداوي الواعظ.

قال ابن الجوزي: صنف كتبا في الوعظ من أبرد الأشياء، وفيه أحاديث كثيرة موضوعة، وكلمات مرذولة، إلا أنه كان خيرا صالحا، وكانت له وجاهة عند الخلفاء والملوك، وكان الملك محمود بن سبكتكين إذا رآه قام له، وكانت محلته حمى يحتمي بها من الظلمة، وقد وقع في بلده نيسابور موت، وكان يغسل الموتى محتسبا، فغسل نحوا من عشرة آلاف ميتا، رحمه الله.

محمد بن الحسن بن صالحان

[عدل]

أبو منصور الوزير لشرف الدولة ولبهاء الدولة، كان وزير صدق جيد المباشرة حسن الصلاة، محافظا على أوقاتها، وكان محسنا إلى الشعراء والعلماء، توفي فيها عن ست وسبعين سنة.

الملك شرف الدولة

[عدل]

أبو علي بن بهاء الدولة، أبي نصر بن عضد الدولة بن بويه، أصابه مرض حار فتوفي لثمان بقين من ربيع الآخر عن ثلاث وعشرين سنة، وثلاثة أشهر وعشرين يوما.

التهامي الشاعر

[عدل]

علي بن محمد التهامي أبو الحسن، له ديوان مشهور، وله مرثاة في ولده وكان قد مات صغيرا أولها:

حكم المنية في البرية جاري ** ما هذه الدنيا بدار قرار

ومنها:

إني لأرحم حاسديَّ لحرِّما ** ضمت صدورهم من الأوغار

نظروا صنيع الله بي فعيونهم ** في جنة وقلوبهم في نار

ومنها في ذم الدنيا:

جبلت على كدر وأنت ترومها ** صفوا من الأقذار والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها ** متطلب في الماء جذوة نار

وإذا رجوت المستحيل فإنما ** تبني الرجاء على شفير هار

ومنها قوله في ولده بعد موته:

جاورت أعدائي وجاور ربه ** شتان بين جواره وجواري وقد ذكر ابن خلكان أنه رآه بعضهم في المنام في هيئة حسنة فقال له بعض أصحابه: بم نلتَ هذا؟

فقال: بهذا البيت:

شتان بين جواره وجواري

ثم دخلت سنة سبع عشرة وأربعمائة

[عدل]

في العشرين من محرمها وقعت فتنة بين الاسفهلارية وبين العيارين، وركبت لهم الأتراك بالدبابات، كما يفعل في الحرب، وأحرقت دور كثيرة من الدور التي احتمى فيها العيارون، وأحرق من الكرخ جانب كبير، ونهب أهله، وتعدى بالنهب إلى غيرهم، وقامت فتنة عظيمة ثم خمدت التفنة في اليوم الثاني، وقرر على أهل الكرخ مائة ألف دينار مصادرة، لإثارتهم الفتن والشرور.

وفي شهر ربيع الآخر منها شهد أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري عند قاضي القضاة ابن أبي الشوارب بعد ما كان استتابه عما ذكر عنه من الاعتزال.

وفي رمضان منها انقض كوكب سمع له دوي كدوي الرعد، وقع في سلخ شوال برد لم يعهد مثله، واستمر ذلك إلى العشرين من ذي الحجة، وجمد الماء طول هذه المدة، وقاسى الناس شدة عظيمة، وتأخر المطر وزيادة دجلة، وقلّت الزراعة، وامتنع كثير من الناس عن التصرف.

ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان في هذه السنة لفساد البلاد وضعف الدولة.

وفيها توفي من الأعيان: قاضي القضاة ابن أبي الشوارب:

أحمد بن محمد بن عبد الله

[عدل]

ابن العباس بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، أبو الحسن القرشي الأموي، قاضي قضاة بغداد بعد ابن الأكفاني بثنتي عشرة سنة، وكان عفيفا نزها، وقد سمع الحديث من أبي عمر الزاهد وعبد الباقي بن قانع، إلا أنه لم يحدث.

قاله ابن الجوزي.

وحكى الخطيب عن شيخه أبي العلاء الواسطي: أن أبا الحسن هذا آخر من ولي الحكم ببغداد، من سلالة محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وقد ولي الحكم من سلالته أربعة وعشرون، منهم ولّوا قضاء قضاة بغداد، قال أبو العلاء: ما رأينا مثل أبي الحسن هذا، جلالة ونزاهة وصيانة وشرفا.

وقد ذكر القاضب الماوردي: أنه كان له صديقا وصاحبا، وأن رجلا من خيار الناس أوصى له بمائتي دينار، فحملها إليه الماوردي فأبى القاضي أن يقبلها، وجهد عليه كل جهد فلم يفعل، وقال له: سألتك بالله لا تذكرن هذا لأحد ما دمت حيا.

ففعل الماوردي، فلم يخبر عنه إلا بعد موته.

وكان ابن الشوارب فقيرا إليها، وإلى ما هو دونها فلم يقبلها، رحمه الله، توفي في شوال منها.

جعفر بن أبان أبو مسلم الختلي،

[عدل]

سمع ابن بطة ودرس فقه الشافعي على الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وكان ثقة دينا، توفي في رمضان منها.

عمر بن أحمد بن عبدويه

[عدل]

أبو حازم الهذلي النيسابوري، سمع ابن بجيد والإسماعيلي، وخلقا، وسمع منه الخطيب وغيره، وكان الناس ينتفعون بإفادته وانتخابه، توفي يوم عيد الفطر منها.

علي بن أحمد بن عمر بن حفص

[عدل]

أبو الحسن المقري المعروف بالحمامي، سمع النجاد والخلدي وابن السماك وغيرهم، وكان صدوقا فاضلا، حسن الاعتقاد، وتفرد بأسانيد القراءات وعلوها، توفي في شعبان منها عن تسع وثمانين سنة.

صاعد بن الحسن ابن عيسى الربعي البغدادي

[عدل]

صاحب كتاب الفصوص في اللغة على طريقة القالي في الأمالي، صنفه للمنصور بن أبي عامر، فأجازه عليه خمسة آلاف دينار، ثم قيل له: إنه كذاب متهم.

فقال في ذلك بعض الشعراء:

قد غاص في الماء كتاب الفصوص ** وهكذا كل ثقيل يغوص

فلما بلغ صاعدا هذا البيت أنشد:

عاد إلى عنصره إنما ** يخرج من قعر البحور الفصوص

قلت: كأنه سمى هذا الكتاب بهذا الاسم ليشاكل به الصحاح للجوهري، لكنه كان مع فصاحته وبلاغته وعلمه متهما بالكذب، فلهذا رفض الناس كتابه، ولم يشتهر، وكان ظريفا ماجنا سريع الجواب، سأله رجل أعمى على سبيل التهكم فقال له: ما الحُرْ تَقَلُ؟

فأطرق ساعة وعرف أنه افتعل هذا من عند نفسه ثم رفع رأسه إليه فقال: هو الذي يأتي نساء العميان، ولا يتعداهن إلى غيرهن.

فاستحى ذلك الأعمى، وضحك الحاضرون.

توفي في هذه السنة سامحه الله.

القفال المروزي

[عدل]

أحد أئمة الشافعية الكبار، علما وزهدا وحفظا وتصنيفا، وإليه تنسب الطريقة الخراسانية، ومن أصحابه الشيخ أبو محمد الجويني، والقاضي حسنين، وأبو علي السبخي.

قال ابن خلكان: وأخذ عنه إمام الحرمين، وفيما قاله نظر.

لأن سن إمام الحرمين لا يحتمل ذلك، فإن القفال هذا مات في هذه السنة وله تسعون سنة، ودفن بسجستان، وإمام الحرمين ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة كما سيأتي، وإنما قيل له: القفال، لأنه كان أولا يعمل الأقفال، ولم يشتغل إلا وهو ابن ثلاثين سنة، رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة ثمان عشرة وأربعمائة

[عدل]

في ربيع الأول منها وقع برد أهلك شيئا كثيرا من الزروع والثمار، وقتل خلقا كثيرا من الدواب.

قال ابن الجوزي: وقد قيل إنه كان في برده كل بردة رطلان وأكثر، وفي واسط بلغت البردة أرطالا، وفي بغداد بلغت قدر البيض.

وفي ربيع الآخر سألت الاسفهلارية الغلمان الخليفة أن يعزل عنهم أبا كاليجار، لتهاونه بأمرهم، وفساده وفساد الأمور في أيامه، ويولي عليهم جلال الدولة، الذي كانوا قد عزلوه عنهم، فماطلهم الخليفة في ذلك، وكتب إلى أبي كاليجار أن يتدارك أمره، وأن يسرع الأوبة إلى بغداد، قبل أن يفوت الأمر.

وألح أولئك على الخليفة في تولية جلال الدولة، وأقاموا له الخطبة ببغداد، وتفاقم الحال، وفسد النظام.

وفيها: ورد كتاب من محمود بن سبكتكين يذكر أنه دخل بلاد الهند أيضا، وأنه كسر الصنم الأعظم الذي لهم المسمى بسومنات، وقد كانوا يفدون إليه من كل فج عميق، كما يفد الناس إلى الكعبة البيت الحرام وأعظم، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة التي لا توصف ولا تعد، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية، ومدينة مشهورة، وقد امتلأت خزائنه أموالا، وعنده ألف رجل يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه، وثلاثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه، لما يضرب على بابه الطبول والبوقات، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم، وكان يعوقه طول المفاوز وكثرة الموانع والآفات، ثم استخار الله السلطان محمود لما بلغه خبر هذا الصنم وعباده، وكثرة الهنود في طريقه، والمفاوز المهلكة، والأرض الخطرة، في تجشم ذلك في جيشه، وأن يقطع تلك الأهوال إليه.

فندب جيشه لذلك فانتدب معه ثلاثون ألفا من المقاتلة، ممن اختارهم لذلك، سوى المتطوعة، فسلمهم الله حتى انتهوا إلى بلد هذا الوثن، ونزلوا بساحة عباده، فإذا هو بمكان بقدر المدينة العظيمة، قال: فما كان بأسرع من أن ملكناه وقتلنا من أهله خمسين ألفا، وقلعنا هذا الوثن وأوقدنا تحته النار.

وقد ذكر غير واحد: أن الهنود بذلوا للسلطان محمود أموالا جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الأعظم، فأشار من أشار من الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم، فقال: حتى أستخير الله عز وجل.

فلما أصبح قال: إني فكرت في الأمر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة: أين محمود الذي كسر الصنم؟ أحب إليّ من أن يقال الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا، ثم عزم فكسره رحمه الله.

فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلئ والذهب والجواهر النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة، ونرجو من الله له في الآخرة الثواب الجزيل الذي مثقال دانق منه خير من الدنيا وما فيها، مع ما حصل له من الثناء الجميل الدنيوي، فرحمه الله وأكرم مثواه.

وفي يوم السبت ثالث رمضان دخل جلال الدولة إلى بغداد فتلقاه الخليفة في دجلة في طيارة، ومعه الأكابر والأمراء، فلما واجه جلال الدولة الخليفة قبّل الأرض دفعات، ثم سار إلى دار الملك، وعاد الخليفة إلى داره، وأمر جلال الدولة أن يضرب له الطبل في أوقات الصلوات الثلاث، كما كان الأمر في زمن عضد الدولة، وصمصامها وشرفها وبهائها، وكان الخليفة يضرب له الطبل في أوقات الخمس، فأراد جلال الدولة ذلك فقيل له: يحمل هذه المساواة الخليفة في ذلك، ثم صمم على ذلك في أوقات الخمس.

قال ابن الجوزي: وفيها وقع برد شديد حتى جمد الماء والنبيذ وأبوال الدواب والمياه الكبار، وحافات دجلة.

ولم يحج أحد من أهل العراق.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن محمد بن عبد الله

[عدل]

ابن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو عبد الله الشاهد، خطب له في جامع المنصور في سنة ست وثمانين وثلاثمائة، ولم يخطب له إلا بخطبة واحدة جمعات كثيرة متعددة، فكان إذا سمعها الناس منه ضجوا بالبكاء وخشعوا لصوته.

الحسين بن علي بن الحسين أبو القاسم المغربي الوزير

[عدل]

ولد بمصر في ذي الحجة سنة تسعين وثلاثمائة، وهرب منها حين قتل صاحبها الحاكم أباه وعمه محمدا، وقصد مكة ثم الشام، ووزر في عدة أماكن، وكان يقول الشعر الحسن، وقد تذاكر هو وبعض الصالحين فأنشده ذلك الصالح شعرا:

إذا شئت أن تحيا غنيا فلا تكن ** على حالة إلا رضيت بدونها

فاعتزل المناصب والسلطان، فقال له بعض أصحابه: تركت المنازل والسلطان في عنفوان شبابك؟

فأنشأ يقول:

كنت في سفر الجهل والبطالة ** حينا فحان مني القوم

تبت من كل مأثم فعسى ** يمحي بهذا الحديث ذاك القديم

بعد خمس وأربعين تعدت ** ألا إن الآله القديم كريم

توفي بميافارقين في رمضان منها عن خمس وأربعين سنة، ودفن بمشهد علي.

محمد بن الحسن بن إبراهيم

[عدل]

أبو بكر الوراق، المعروف بابن الخفاف، روى عن القطيعي وغيره، وقد اتهموه بوضع الحديث والأسانيد، قاله الخطيب وغيره.

أبو القاسم اللالكائي

[عدل]

هبة الله بن الحسن بن منصور، الرازي، وهو طبري الأصل، أحد تلامذة الشيخ أبي حامد الإسفراييني، كان يفهم ويحفظ، وعني بالحديث فصنف فيه أشياء كثيرة، ولكن عاجلته المنية قبل أن تشتهر كتبه، وله كتاب في السنة وشرفها، وذكر طريقة السلف الصالح في ذلك، وقع لنا سماعه على الحجار عاليا عنه.

توفي بالدينور في رمضان منها، ورآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك؟

قال: غفر لي.

قال: بم؟

قال: بشيء قليل من السنة أحييته.

أبو القاسم بن أمير المؤمنين القادر

توفي ليلة الأحد في جمادى الآخرة، وصلي عليه غير مرة، ومشى الناس في جنازته، وحزن عليه أبوه حزنا شديدا، وقطع الطبل أياما.

ابن طباطبا الشريف

[عدل]

كان شاعرا وله شعر حسن.

أبو إسحاق وهو الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني

[عدل]

إبراهيم بن محمد بن مهران، الشيخ أبو إسحاق الإمام العلامة، ركن الدين الفقيه الشافعي، المتكلم الأصولي، صاحب (التصانيف في الأصلين)، (جامع الحلى) في مجلدات، و(التعليقة النافعة) في أصول الفقه، وغير ذلك، وقد سمع الكثير من الحديث من أبي بكر الإسماعيلي ودعلج وغيرهما، وأخذ عنه البيهقي والشيخ أبو الطيب الطبري، والحاكم النيسابوري، وأثنى عليه، وتوفي يوم عاشوراء منها بنيسابور، ثم نقل إلى بلده ودفن بمشهده.

القدوري صاحب الكتاب المشهور في مذهب أبي حنيفة

[عدل]

أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان، أبو الحسن القدوري الحنفي، صاحب (المصنف المختصر)، الذي يحفظ، كان إماما بارعا عالما، وثبتا مناظرا، وهو الذي تولى مناظرة الشيخ أبي حامد الإسفراييني من الحنفية، وكان القدوري يطريه ويقول: هو أعلم من الشافعي، وأنظر منه.

توفي يوم الأحد الخامس من رجب منها، عن ست وخمسين سنة، ودفن إلى جانب الفقيه أبي بكر الخوارزمي الحنفي.

ثم دخلت سنة تسع عشرة وأربعمائة

[عدل]

فيها: وقع بين الجيش وبين جلال الدولة ونهبوا دار وزيره، وجرت له أمور طويلة، آل الحال فيها إلى اتفاقهم على إخراجه من البلد، فهيئ له برذون رث، فخرج وفي يده طير نهارا، فجعلوا لا يلتفتون إليه ولا يفكرون فيه، فلما عزم على الركوب على ذلك البرذون الرث رثوا له ورقوا له ولهيئته وقبلوا الأرض بين يديه، وانصلحت قضيته بعد فسادها.

وفيها: قل الرطب جدا بسبب هلاك النخل في السنة الماضية بالبرد، فبيع الرطب كل ثلاثة أرطال بدينار جلالي، ووقع برد شديد أيضا فأهلك شيئا كثيرا من النخيل أيضا.

ولم يحج أحد من أهل المشرق ولا من أهل الديار المصرية فيها، إلا أن قوما من خراسان ركبوا في البحر من مدينة كرمان فانتهوا إلى جدة فحجوا.

وممن توفي فيها من الأعيان:

حمزة بن إبراهيم بن عبد الله

[عدل]

أبو الخطاب المنجم، حظي عند بهاء الدولة وعلماء النجوم، وكان له بذلك وجاهة عنده، حتى أن الوزراء كانوا يخافونه ويتوسلون به إليه، ثم صار أمره طريدا بعيدا حتى مات يوم مات بالكرخ من سامرا غريبا، فقيرا مفلوجا قد ذهب ماله وجاهه وعقله.

محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد

[عدل]

أبو الحسن التاجر، سمع الكثير على المشايخ المتقدمين، وتفرد بعلو الإسناد، وكان ذا مال جزيل فخاف من المصادرة ببغداد فانتقل إلى مصر فأقام بها سنة، ثم عاد إلى بغداد فاتفق مصادرة أهل محلته فقسط عليه ما أفقره، ومات حين مات ولم يوجد له كفن ولم يترك شيئا، فأرسل له القادر بالله ما كفن فيه.

مبارك الأنماطي

[عدل]

كان ذا مال جزيل نحو ثلاثمائة ألف دينار، مات ولم يترك وارثا سوى ابنة واحدة ببغداد، وتوفي هو بمصر.

أبو الفوارس بن بهاء الدولة

[عدل]

كان ظالما، وكان إذا سكر يضرب الرجل من أصحابه أو وزيره مائتي مقرعة، بعد أن يحلفه بالطلاق أنه لا يتأوه، ولا يخبر بذلك أحدا.

فيقال: إن حاشيته سموه، فلما مات نادوا بشعار أخيه كاليجار.

أبو محمد بن الساد وزير كاليجار

[عدل]

ولقبه معز الدولة، فلك الدولة، رشيد الأمة، وزير الوزراء، عماد الملك، ثم سلم بعد ذلك إلى جلال الدولة فاعتقله ومات فيها.

أبو عبد الله المتكلم

[عدل]

توفي فيها، هكذا رأيت ابن الجوزي ترجمه مختصرا.

ابن غلبون الشاعر

[عدل]

عبد المحسن بن محمد بن أحمد بن غالب أبو محمد الشامي ثم الصوري، الشاعر المطبق، له ديوان مليح، كان قد نظم قصيدة بليغه في بعض الرؤساء، ثم أنشدها لرئيس آخر يقال له: ذو النعمتين، وزاد فيها بيتا واحدا يقول فيه:

ولك المناقب كلها ** فلم اقتصرت على اثنتين

فأجازه جائزة سنية، فقيل له: إنه لم يقلها فيك.

فقال: إن هذا البيت وحده بقصيدة.

وله أيضا في بخيل نزل عنده:

وأخ مسه نزولي بقرح ** مثل ما مسني منه جرح

بت ضيفا له كما حكم الدهـ ** ـر وفي حكمه على الحر فتح

فابتداني يقول وهو من الـ ** ـسكر بالهم طافح ليس يصحو

لم تغربت؟قلت قال رسول اللـ ** ـه والقول منه نصح ونجح

«سافروا تغنموا» فقال وقد ** قال تمام الحديث «صوموا تصحوا»

ثم دخلت سنة عشرين وأربعمائة

[عدل]

فيها: سقط بناحية المشرق مطر شديد، معه برد كبار.

قال ابن الجوزي: حزرت البردة الواحدة منه مائة وخمسون رطلا، وغاصت في الأرض نحوا من ذراع.

وفيها: ورد كتاب من محمود بن سبكتكين أنه أحل بطائفة من أهل الري من الباطنية والروافض قتلا ذريعا، وصلبا شنيعا، وأنه انتهب أموال رئيسهم رستم بن علي الديلمي، فحصل منها ما يقارب ألف ألف دينار، وقد كان في حيازته نحو من خمسين امرأة حرة، وقد ولدن له ثلاثا وثلاثين ولدا بين ذكر وأنثى، وكانوا يرون إباحة ذلك.

وفي رجب منها انقض كواكب كثيرة شديدة الضوء شديدة الصوت.

وفي شعبان منها كثرت العملات وضعفت رجال المعونة عن مقاومة العيارين.

وفي يوم الاثنين منها ثامن عشر رجب غار ماء دجلة حتى لم يبق منه إلا القليل، ووقفت الأرحاء عن الطحن، وتعذر ذلك.

وفي هذا اليوم جمع القضاة والعلماء في دار الخلافة، وقرئ عليهم كتاب جمعه القادر بالله، فيه مواعظ وتفاصيل مذاهب أهل البصرة، وفيه الرد على أهل البدع، وتفسيق من قال بخلق القرآن، وصفة ما وقع بين بشر المريسي وعبد العزيز بن يحيى الكتاني من المناظرة، ثم ختم القول بالمواعظ، والقول بالمعروف، والنهي عن المنكر.

وأخذ خطوط الحاضرين بالموافقة على ما سمعوه.

وفي يوم الاثنين غرة ذي القعدة جمعوا أيضا كلهم وقرئ عليهم كتاب آخر طويل، يتضمن بيان السنة والرد على أهل البدع ومناظرة بشر المريسي والكتاني أيضا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفضل الصحابة، وذكر فضائل أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ولم يفرغوا منه إلا بعد العتمة، وأخذت خطوطهم بموافقة ماسمعوه.

وعزل خطباء الشيعة، وولي خطباء السنة، ولله الحمد والمنة على ذلك وغيره.

وجرت فتنة بمسجد براثا، وضربوا الخطيب السني بالآجر، حتى كسروا أنفه وخلعوا كتفه، فانتصر لهم الخليفة وأهان الشيعة وأذلهم، حتى جاؤوا يعتذرون مما صنعوا، وأن ذلك إنما تعاطاه السفهاء منهم.

ولم يتمكن أحد من أهل العراق وخراسان في هذه السنة من الحج.

ممن توفي فيها من الأعيان:

الحسن بن أبي القين

[عدل]

أبو علي الزاهد، أحد العباد والزهاد وأصحاب الأحوال، دخل عليه بعض الوزراء فقبل يده، فعوتب الوزير بذلك فقال: كيف لا أقبل يدا ما امتدت إلا إلى الله عز وجل.

علي بن عيسى بن الفرج بن صالح

[عدل]

أبو الحسن الربعي النحوي، أخذ العربية أولا عن أبي سعيد السيرافي، ثم عن أبي علي الفارسي ولازمه عشرين سنة حتى كان يقول: قولوا له لو سار من المشرق إلى المغرب لم يجد أحدا أنحى منه.

كان يوما يمشي على شاطئ دجلة، إذ نظر إلى الشريفين الرضي والمرتضى في سفينة، ومعهما عثمان بن جني، فقال لهما: من أعجب الأشياء عثمان معكما، وعلي بعيد عنكما، يمشي على شاطئ الفرات.

فضحكا وقالا: باسم الله.

توفي في المحرم منها عن ثنتين وتسعين سنة.

ودفن بباب الدير، ويقال: إنه لم يتبع جنازته إلا ثلاثة أنفس.

أسد الدولة أبو علي صالح بن مرداس بن إدريس الكلابي

[عدل]

أول ملوك بني مرداس بحلب، انتزعها من يدي نائبها عن الظاهر بن الحاكم العبيدي، في ذي الحجة في سنة سبع عشرة وأربعمائة، ثم جاءه جيش كثيف من مصر فاقتتلوا فقتل أسد الدولة هذا في سنة تسع عشرة، وقام حفيده نصر.

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وأربعمائة

[عدل]

فيها: توفي الملك الكبير المجاهد المغازي، فاتح بلاد الهند محمود بن سبكتكين رحمه الله، لما كان في ربيع الأول من هذه السنة توفي الملك العادل الكبير الثاغر المرابط، المؤيد المنصور، يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين، صاحب بلاد غزنة ومالك تلك الممالك الكبار، وفاتح أكثر بلاد الهند قهرا، وكاسر أصنامهم وندودهم وأوثانهم وهنودهم، وسلطانهم الأعظم قهرا.

وقد مرض رحمه الله نحوا من سنتين لم يضطجع فيهما على فراش، ولا توسد وسادا، بل كان يتكئ جالسا حتى مات وهو كذلك، وذلك لشهامته وصرامته، وقوة عزمه، وله من العمر ستون سنة رحمه الله.

وقد عهد بالأمر من بعده لولده محمد، فلم يتم أمره حتى عافصه أخوه مسعود بن محمود المذكور، فاستحوذ على ممالك أبيه، مع ما كان يليه مما فتحه هو بنفسه من بلاد الكفار، ومن الرساتيق الكبار والصغار، فاستقرت له الممالك شرقا وغربا في تلك النواحي، في أواخر هذا العام، وجاءته الرسل بالسلام من كل ناحية ومن كل ملك همام، وبالتحية والإكرام، وبالخضوع التام، وسيأتي ذكر أبيه في الوفيات.

وفيها: استحوذت السرية التي كان بعثها الملك المذكور محمود إلى بلاد الهند على أكثر مدائن الهنود وأكبرها مدينة، وهي المدينة المسماة نرسي، دخلوها في نحو من مائة ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، فنهبوا سوق العطر والجوهر بها نهارا كاملا، ولم يستطيعوا أن يحولوا ما فيه من أنواع الطيب والمسك والجواهر واللآلئ واليواقيت.

ومع هذا لم يدر أكثر أهل البلد بشيء من ذلك لاتساعها، وذلك أنها كانت في غاية الكبر: طولها مسيرة منزلة من منازل الهند، وعرضها كذلك، وأخذوا منها من الأموال والتحف والأثاث ما لا يحد ولا يوصف، حتى قيل: إنهم اقتسموا الذهب والفضة بالكيل، ولم يصل جيش من جيوش المسلمين إلى هذه المدينة قط، لا قبل هذه السنة ولا بعدها، وهذه المدينة من أكثر بلاد الهند خيرا ومالا، بل قيل: إنه لا يوجد مدينة أكثر منها مالا ورزقا، مع كفر أهلها وعبادتهم الأصنام، فليسلم المؤمن على الدنيا سلام، وقد كانت محل الملك، وأخذوا منها من الرقيق من الصبيان والبنات ما لا يحصى كثرة.

وفيها: عملت الرافضة بدعتهم الشنعاء وحادثتهم الصلعاء في يوم عاشوراء، من تعليق المسوح، وتغليق الأسواق، والنوح والبكاء في الأزقة، فأقبل أهل السنة إليهم في الحديد فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من الفريقين طوائف كثيرة، وجرت بينهم فتن وشرور مستطيرة.

وفيها: مرض أمير المؤمنين القادر بالله وعهد بولاية العهد من بعده إلى ولده أبي جعفر القائم بأمر الله، بمحضر من القضاة والوزراء والأمراء، وخطب له بذلك وضرب اسمه على السكة المتعامل بها.

وفيها: أقبل ملك الروم من قسطنطينية في مائة ألف مقاتل، فسار حتى بلغ بلاد حلب، وعليها شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس، فنزلوا على مسيرة يوم منها، ومن عزم ملك الروم أن يستحوذ على بلاد الشام كلها، وأن يستردها إلى دين النصرانية، وقد قال رسول الله : «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده».

وقيصر هو من ملك الشام من الروم مع بلاد الروم فلا سبيل لملك الروم إلى هذا.

فلما نزل من حلب كما ذكرنا أرسل الله عليهم عطشا شديدا، وخالف بين كلمتهم، وذلك أنه كان معه الدمستق، فعامل طائفة من الجيش على قتله ليستقل هو بالأمر من بعده، ففهم الملك ذلك فكر من فوره راجعا، فاتبعهم الأعراب ينهبونهم ليلا ونهارا، وكان من جملة ما أخذوا منهم أربعمائة فحل محجل محملة أموالا وثيابا للملك، وهلك أكثرهم جوعا وعطشا، ونهبوا من كل جانب ولله الحمد والمنة.

وفيها: ملك جلال الدولة واسطا واستناب عليها ولده، وبعث وزيره أبا علي بن ماكولا إلى البطائح ففتحها، وسار في الماء إلى البصرة وعليها نائب لأبي كاليجار، فهزمهم البصريون، فسار إليهم جلال الدولة بنفسه فدخلها في شعبان منها.

وفيها: جاء سيل عظيم بغزنة فأهلك شيئا كثيرا من الزورع والأشجار.

وفي رمضان منها: تصدق مسعود بن محمود بن سبكتكين بألف ألف درهم، وأدر أرزاقا كثيرةً للفقهاء والعلماء بلاد ببلاده، على عادة أبيه من قبله، وفتح بلادا كثيرة، واتسعت ممالكه جدا، وعظم شأنه، وقويت أركانه، وكثرت جنوده وأعوانه.

وفيها: دخل خلقٌ كثير من الأكراد إلى بغداد يسرقون خيل الأتراك ليلا، فتحصن الناس منهم، فأخذوا الخيول كلها حتى خيل السلطان.

وفيها: سقط جسر بغداد على نهر عيسى.

وفيها: وقعت فتنة بين الأتراك النازلين بباب البصرة، وبين الهاشميين، فرفعوا المصاحف ورمتهم الأتراك بالنشاب، وجرت خطبة عظيمة، ثم أصلح بين الفريقين.

وفيها: كثرت العملات، وأخذت الدور جهرة، وكثر العيارون ولصوص الأكراد.

وفيها: تعطل الحج أيضا سوى شرذمة من أهل العراق ركبوا من جمال البادية مع الأعراب، ففازوا بالحج.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

أحمد بن عبد الله بن أحمد أبو الحسن الواعظ

[عدل]

المعروف بان اكرات، صاحب كرامات ومعاملات، كان من أهل الجزيرة فسكن دمشق، وكان يعظ الناس بالرفادة القيلية، حيث كان يجلس القصاص.

قاله ابن عساكر.

قال: وصنف كتبا في الوعظ، وحكى حكايات كثيرة، ثم قال: سمعت أبا الحسن أحمد بن عبد الله اكرات الواعظ ينشد أبياتا:

أنا ما أصنع باللذا ** ت شغلي بالذنوب

إنما العيد لمن فا ** ز بوصل من حبيب

أصبح الناس على رو ** ح وريحان وطيب

ثم أصبحت على نوح ** وحزن ونحيب

فرحوا حين أهلّوا ** شهرهم بعد المغيب

وهلالي متوار ** من ورا حجب الغيوب

فلهذا قلت للذا ** ت غيبي ثم غيبي

وجلعت الهم والحز ** ن من الدنيا نصيبي

يا حياتي ومماتي ** وشقائي وطبيبي

جد لنفس تتلظّى ** منك بالرحب الرحيب

الحسين بن محمد الخليع

[عدل]

الشاعر، له ديوان شعر حسن، عمر طويلا، وتوفي في هذه السنة.

الملك الكبير العادل محمود بن سبكتكين

[عدل]

أبو القاسم الملقب يمين الدولة، وأمين الملة، وصاحب بلاد غزنة، وما والاها، وجيشه يقال لهم: السامانية، لأن أباه كان قد تملك عليهم، وتوفي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، فتملك عليهم بعده ولده محمود هذا، فسار فيهم وفي سائر رعاياه سيرة عادلة، وقام في نصر الإسلام قياما تاما، وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها، وعظم شأنه، واتسعت مملكته، وامتدت رعاياه، وطالت أيامه لعدله وجهاده، وما أعطاه الله إياه، وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة القادر بالله، وكانت رسل الفاطميين من مصر تفد إليه بالكتب والهدايا لأجل أن يكون من جهتهم، فيحرق بهم ويحرق كتبهم وهداياهم، وفتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة، لم يتفق لغيره من الملوك، لا قبله ولا بعده، وغنم مغانم كثيرة منهم لا تنحصر ولا تنضبط، من الذهب واللآلئ، والسبي وكسر من أصنامهم شيئا كثيرا، وأخذ من حليتها.

وقد تقدم ذلك مفصلا متفرقا في السنين المتقدمة من أيامه، ومن جملة ما كسر من أصنامهم صنم يقال له: سومنان، بلغ ما تحصل من حليته من الذهب عشرين ألف ألف دينار، وكسر ملك الهند الأكبر الذي يقال له: صينال، وقهر ملك الترك الأعظم الذي يقال له: إيلك الخان وأباد ملك السامانية، وقد ملكوا العالم في بلاد سمرقند وما حولها، ثم هلكوا.

وبنى على جيحون جسرا تعجز الملوك والخلفاء عنه، غرم عليه ألفي ألف دينار، وهذا شيء لم يتفق لغيره، وكان في جيشه أربعمائة فيل تقاتل، وهذا شيء عظيم هائل، وجرت له فصول يطول تفصيلها، وكان مع هذا في غاية الديانة والصيانة وكراهة المعاصي وأهلها، لا يحب منها شيئا ولا يألفه، ولا أن يسمع بها، ولا يجسر أحدا أن يظهر معصية ولا خمرا في مملكته، ولا غير ذلك، ولا يحب الملاهي ولا أهلها، وكان يحب العلماء والمحدثين ويكرمهم ويجالسهم، ويحب أهل الخير والدين والصلاح ويحسن إليهم.

وكان حنفيا ثم صار شافعيا على يدي أبي بكر القفال الصغير على ما ذكره إمام الحرمين وغيره، وكان على مذهب الكرامية في الاعتقاد، وكان من جملة من يجالسه منهم محمد بن الهيضم، وقد جرى بينه وبين أبى بكر بن فورك مناظرات بين يدي السلطان محمود في مسألة العرش، ذكرها ابن الهيضم في مصنف له، فمال السلطان محمود إلى قول ابن الهيضم، ونقم على ابن فورك كلامه، وأمر بطرده وإخراجه، لموافقته لرأي الجهمية.

وكان عادلا جيدا، اشتكى إليه رجل أن ابن أخت الملك يهجم عليه في داره وعلى أهله في كل وقت، فيخرجه من البيت ويختلي بامرأته، وقد حار في أمره، وكلما اشتكاه لأحد من أولي الأمر لا يجسر أحد عليه خوفا وهيبة للملك.

فلما سمع الملك ذلك غضب غضبا شديدا، وقال للرجل: ويحك متى جاءك فائتني فأعلمني، ولا تسمعن من أحد منعك من الوصول إليّ، ولو جاءك في الليل فائتني فأعلمني.

ثم إن الملك تقدم إلى الحجبة وقال لهم: إن هذا الرجل متى جاءني لا يمنعه أحد من الوصول إليّ من ليل أو نهار، فذهب الرجل مسرورا داعيا، فما كان إلا ليلة أو ليلتان حتى هجم عليه ذلك الشاب فأخرجه من البيت واختلى بأهله، فذهب باكيا إلى دار الملك فقيل له: إن الملك نائم.

فقال: قد تقدم إليكم أن لا أمنع منه ليلا ولا نهارا، فنبهوا الملك فخرج معه بنفسه وليس معه أحد، حتى جاء إلى منزل الرجل فنظر إلى الغلام وهو مع المرأة في فراش واحد، وعندهما شمعة تقد، فتقدم الملك فأطفأ الضوء ثم جاء فاحتز رأس الغلام وقال للرجل: ويحك الحقني بشربة ماء، فأتاه بها فشرب ثم انطلق الملك ليذهب، فقال له الرجل: بالله لم أطفأت الشمعة؟

قال: ويحك إنه ابن أختي، وإني كرهت أن أشاهده حال الذبح.

فقال: ولم طلبت الماء سريعا؟

فقال الملك: إني آليت على نفسي منذ أخبرتني أن لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أنصرك، وأقوم بحقك، فكنت عطشانا هذه الأيام كلها، حتى كان ما كان مما رأيت.

فدعا له الرجل وانصرف الملك راجعا إلى منزله ولم يشعر بذلك أحد.

وكان مرض الملك محمود هذا بسوء المزاج، اعتراه مع انطلاق البطن سنتين، فكان فيهما لا يضطجع على فراش، ولا يتكئ على شيء، لقوة بأسه وسوء مزاجه، وكان يستند على مخاد توضع له ويحضر مجلس الملك، ويفصل على عادته بين الناس، حتى مات كذلك في يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر من هذه السنة عن ثلاث وستين سنة، ملكه منها ثلاث وثلاثون سنة، وخلف من الأموال شيئا كثيرا، من ذلك سبعون رطلا من جوهر، الجوهرة منه لها قيمة عظيمة سامحه الله.

وقام بالأمر من بعده ولده محمد، ثم صار الملك إلى ولده الآخر مسعود بن محمود فأشبه أباه، وقد صنف بعض العلماء مصنفا في سيرته وأيامه وفتوحاته وممالكه.

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة

[عدل]

فيها: كانت وفاة القادر بالله الخليفة، وخلافة ابنه القائم بأمر الله على ما سيأتي تفصيله وبيانه.

وفيها: وقعت فتنة عظيمة بين السنة والروافض، فقويت عليهم السنة وقتلوا خلقا منهم، ونهبوا الكرخ ودار الشريف المرتضى، ونهبت العامة دور اليهود لأنهم نسبوا إلى معاونة الروافض، وتعدى النهب إلى دور كثيرة، وانتشرت الفتنة جدا، ثم سكنت بعد ذلك.

وفيها: كثرت العملات وانتشرت المحنة بأمر العيارين في أرجاء البلد، وتجاسروا على أمور كثيرة، ونهبوا دورا وأماكن سرا وجهرا، ليلا ونهارا، والله سبحانه أعلم.

خلافة القائم بالله

[عدل]

أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله، بويع له بالخلافة لما توفي أبوه أبو العباس أحمد بن المقتدر بن المعتضد بن الأمين أبو أحمد الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، في ليلة الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة من هذه السنة، عن ست وثمانين سنة، وعشرة أشهر وإحدى عشر يوما، ولم يعمر أحد من الخلفاء قبله هذا العمر ولا بعده، مكث من ذلك خليفة إحدى وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وهذا أيضا شيء لم يسبقه أحد إليه.

وأمه أم ولد اسمها يمنى، مولاة عبد الواحد بن المقتدر، وقد كان حليما كريما، محبا لأهل العلم والدين والصلاح، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان على طريقة السلف في الاعتقاد، وله في ذلك مصنفات كانت تقرأ على الناس.

وكان أبيض حسن الجسم طويل اللحية عريضها يخضبها، وكان يقوم الليل كثير الصدقة، محبا للسنة وأهلها، مبغضا للبدعة وأهلها، وكان يكثر الصوم ويبر الفقراء من أقطاعه، يبعث منه إلى المجاورين بالحرمين وجامع المنصور، وجامع الرصافة، وكان يخرج من داره في زي العامة فيزور قبور الصالحين.

وقد ذكرنا طرفا صالحا من سيرته عند ذكر ولايته في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وجلسوا في عزئاه سبعة أيام لعظم المصيبة به، ولتوطيد البيعة لولده المذكور، وأمه يقال لها: قطر الندى، أرمنية أدركت خلافته في هذه السنة، وكان مولده يوم الجمعة الثامن عشر من ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، ثم بويع له بحضرة القضاة والأمراء والكبراء في هذه السنة، وكان أول من بايعه المرتضى وأنشده أبياتا:

فأما مضى جبل وانقضى ** فمنك لنا جبل قد رسى

وأما فجعنا ببدر التمام ** فقد بقيت منه شمس الضحى

لنا حزن في محل السرور ** فكم ضحك في محل البكا

فيا صارما أغمدته يد ** لنا بعدك الصارم المنتضى

ولما حضرنا لعقد البياع ** عرفنا بهديك طرق الهدى

فقابلتنا بوقار المشيب ** كمالا وسنك سن الفتى

فطالبته الأتراك برسم البيعة فلم يكن مع الخليفة شيء يعطيهم، لأن أباه لم يترك شيئا، وكادت الفتنة تقع بين الناس بسبب ذلك، حتى دفع عنه الملك جلال الدولة مالا جزيلا لهم، نحوا من ثلاثة آلاف دينار، واستوزر الخليفة أبا طالب محمد بن أيوب، واستقضى ابن ماكولا.

ولم يحج أحد من أهل المشرق سوى شرذمة خرجوا من الكوفة مع العرب فحجوا.

وفيها توفي من الأعيان غير الخليفة:

الحسن بن جعفر أبو علي بن ماكولا

[عدل]

الوزير لجلال الدولة، قتله غلام له وجارية تعاملا عليه فقتلاه، عن ست وخمسين سنة.

عبد الوهاب بن علي ابن نصر بن أحمد بن الحسن بن هارون بن مالك بن طوق

[عدل]

صاحب الرحبة، التغلبي البغدادي أحد أئمة المالكية، ومصنفيهم، له كتاب (التلقين) يحفظه الطلبة، وله غيره في الفروع والأصول، وقد أقام ببغداد دهرا، وولي قضاء داريا وماكسايا، ثم خرج من بغداد لضيق حاله، فدخل مصر فأكرمه المغاربة وأعطوه ذهبا كثيرا، فتمول جدا، فأنشأ يقول متشوقا إلى بغداد:

سلام على بغداد في كل موقف ** وحق لها مني السلام مضاعف

فوالله ما فارقتها عن ملالة ** وإني بشطَّي جانبيها لعارف

ولكنها ضاقت عليّ بأسرها ** ولم تكن الأرزاق فيها تساعف

فكانت كَخِلٍّ كنت أهوى دنوّه ** وأخلاقه تنأى به وتخالف

قال الخطيب: سمع القاضي عبد الوهاب من ابن السماك، وكتبت عنه، وكان ثقة، ولم تر المالكية أحدا أفقه منه.

قال ابن خلكان: وعند وصوله إلى مصر حصل له شيء من المال، وحسن حاله، مرض من أكلة اشتهاها فذكر عنه أنه كان يتقلب ويقول: لا إله إلا الله، عندما عشنا متنا.

قال: وله أشعار رائقة فمنها قوله:

ونائمة قبلتها فتنبهت ** فقالت: تعالوا واطلبوا اللص بالحدِّ

فقلت لها ك إني فديتك غاصب ** وما حكموا في غاصب بسوى الردِّ

خذيها وكفّي عن أثيم طلابة ** وإن أنتِ لم ترضي فألفا على العدّ

فقالت: قصاص يشهد العقل أنه ** على كبد الجاني ألذُّ من الشهد

فباتت يميني وهي هميان خصرها ** وباتت يساري وهي واسطة العقد

فقالت: ألم تخبر بأنك زاهد ** فقلت بلى ما زلت أزهد في الزهد

ومما أنشده ابن خلكان للقاضي عبد الوهاب:

بغداد دار لأهل المال طيّبة ** وللمفاليس دار الضنك والضيق

ظللت حيران أمشي في أزقتها ** كأنني مصحف في بيت زنديق

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة

[عدل]

في سادس المحرم منها استسقى أهل بغداد لتأخر المطر عن أوانه، فلم يسقوا، وكثر الموت في الناس، ولما كان يوم عاشوراء عملت الروافض بدعتهم، وكثر النوح والبكاء، وامتلأت بذلك الطرقات والأسواق.

وفي صفر منها أمر الناس بالخروج إلا الاستسقاء فلم يخرج من أهل بغداد مع اتساعها وكثرة أهلها مائة واحد.

وفيها: وقع بين الجيش وبين جلال الدولة فاتفق على خروجه إلى البصرة منفيا، وردّ كثيرا من جواريه، واستبقى بعضهن معه، وخرج من بغداد ليلة الاثنين سادس ربيع الأول منها.

وكتب الغلمان الاسفهلارية إلى الملك أبي كاليجار ليقدم عليهم، فلما قدم تمهدت البلاد ولم يبق أحد من أهل العناد والإلحاد، ونهبوا دار جلال الدولة وغيرها، وتأخر مجيء أبي كاليجار، وذلك أن وزيره أشار عليه بعدم القدوم إلى بغداد، فأطاعه في ذلك، فكثر العيارون وتفاقم الحال، وفسد البلد، وافتقر جلال الدولة بحيث أن احتاج إلى أن باع بعض ثيابه في الأسواق.

وجعل أبو كاليجار يتوهم من الأتراك ويطلب منهم رهائن، فلم يتفق ذلك، وطال الفصل فرجعوا إلى مكاتبة جلال الدولة، وأن يرجع إلى بلده، وشرعوا يعتذرون إليه، وخطبوا له في البلد على عادته، وأرسل الخليفة الرسل إلى الملك كاليجار، وكان فيمن بعث إليه القاضي أبو الحسن الماوردي، فسلم عليه مستوحشا منه، وقد تحمل أمرا عظيما، فسأل من القضاة أن يلقب بالسلطان الأعظم مالك الأمم، فقال الماوردي: هذا ما لا سبيل إليه، لأن السلطان المعظم هو الخليفة، وكذلك مالك الأمم.

ثم اتفقوا على تلقيبه بملك الدولة، فأرسل مع الماوردي تحفا عظيمة منها ألف ألف دينار سابورية، وغير ذلك من الدراهم آلاف مؤلفة، والتحف والألطاف، واجتمع الجند على طلب من الخليفة فتعذر ذلك فراموا أن يقطعوا خطبته، فلم تصلّ الجمعة، ثم خطب له من الجمعة القابلة، وتخبط البلد جدا، وكثر العيارون.

ثم في ربيع الآخر منها حلف الخليفة لجلال الدولة بخلوص النية وصفائها، وأنه على ما يحب من الصدق وصلاح السريرة.

ثم وقع بينهما بسبب جلال الدولة وشربه النبيذ وسكره، ثم اعتذر إلى الخليفة واصطلحا على فساد.

وفي رجب غلت الأسعار جدا ببغداد وغيرها، من أرض العراق.

ولم يحج أحد منهم.

وفيها: وقع موتان عظيم ببلاد الهند وغزنة وخراسان وجرجان والري وأصبهان، خرج منها في أدنى مدة أربعون ألف جنازة.

وفي نواحي الموصل والجبل وبغداد طرف قوي من ذلك بالجدري، بحيث لم تخل دار من مصاب به، واستمر ذلك في حزيران وتموز وآذار وأيلول وتشرين الأول والثاني، وكان في الصيف أكثر منه في الخريف.

قاله ابن الجوزي في (المنتظم).

وقد رأى رجل في منامه من أهل أصبهان في هذه السنة مناديا ينادي بصوت جهوري: يا أهل أصبهان سكت، نطق، سكت، نطق، فانتبه الرجل مذعورا فلم يدر أحد تأويلها ما هو، حتى قال رجل بيت أبي العتاهية فقال:

احذروا يا أهل أصبهان فإني قرأت في شعر أبي العتاهية قوله:

سكت الدهر زمانا عنهم ** ثم أبكاهم دما حين نطق

فما كان إلا قليل حتى جاء الملك مسعود بن محمود فقتل منهم خلقا كثيرا، حتى قتل الناس في الجوامع.

وفي هذه السنة ظفر الملك أبو كاليجار بالخادم جندل فقتله، وكان قد استحوذ على مملكته ولم يبق معه سوى الاسم، فاستراح منه.

وفيها: مات ملك الترك الكبير صاحب بلاد ما وراء النهر، واسمه قدرخان.

وفيها توفي من الأعيان:

روح بن محمد بن أحمد

[عدل]

أبو زرعة الرازي.

قال الخطيب: سمع جماعة، وفد علينا حاجا فكتبت عنه، وكان صدوقا فهما أديبا، يتفقه على مذهب الشافعي، وولي قضاء أصبهان.

قال: وبلغني أنه مات بالكرخ سنة ثلاثة وعشرين وأربعمائة.

علي بن محمد بن الحسن

[عدل]

ابن محمد بن نعيم بن الحسن البصري، المعروف بالنعيمي، الحافظ الشاعر، والمتكلم الفقيه الشافعي.

قال البرقاني: هو كامل في كل شيء لولا بادرة فيه، وقد سمع على جماعة، ومن شعره قوله:

إذا أظمأتك أكف اللئام ** كفتك القناعة شبعا وريا

فكن رجلا رِجله في الثرى ** وهامته همُّه في الثريا

أبيّا لنائل ذي نعمة ** تراه بما في يديه أبيا

فإن إراقة ماء الحيا ** ة دون إراقة ماء المحيا

محمد بن الطيب ابن سعد بن موسى أبو بكر الصباغ

[عدل]

حدث عن النجاد وأبي بكر الشافعي، وكان صدوقا، حكى الخطيب أنه تزوج تسعمائة امرأة، وتوفي عن خمس وتسعين سنة.

علي بن هلال الكاتب المشهور

[عدل]

ذكر ابن خلكان أنه توفي في هذه السنة، وقيل: في سنة ثلاث عشرة كما تقدم.

ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمائة

[عدل]

فيها: تفاقم الحال بأمر العيارين، وتزايد أمرهم، وأخذوا العملات الكثيرة، وقوي أمر مقدمهم البرجمي، وقتل صاحب الشرطة غيلة، وتواترت العملات في الليل والنهار، وحرس الناس دورهم حتى دار الخليفة منه، وكذلك سور البلد، وعظم الخطب بهم جدا، وكان من شأن هذا البرجمي أنه لا يؤذي امرأة ولا يأخذ مما عليها شيئا، وهذه مروءة في الظلم، وهذا كما قيل:

حنانيك بعض الشر أهون من بعض **

وفيها: أخذ جلال الدولة البصرة وأرسل إليها ولده العزيز، فأقام بها الخطبة لأبيه، وقطع منها خطبة أبي كاليجار في هذه السنة والتي بعدها، ثم استرجعت، وأخرج منها ولده.

وفيها: ثارت الأتراك بالملك جلال الدولة ليأخذوا أرزاقهم، وأخرجوه من داره، ورسموا عليه في المسجد، وأخرجت حريمه، فذهب في الليل إلى دار الشريف المرتضى فنزلها، ثم اصطلحت الأتراك عليه وحلفوا له بالسمع والطاعة، وردوه إلى داره، وكثر العيارون واستطالوا على الناس جدا.

ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان لفساد البلاد.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أحمد بن الحسين بن أحمد

[عدل]

أبو الحسين الواعظ المعروف بابن السماك، ولد سنة ثلاثين وثلاثمائة، وسمع جعفر الخلدي وغيره، وكان يعظ بجامع المنصور وجامع المهدي، ويتكلم على طريق الصوفية، وقد تكلم بعض الأئمة فيه، ونسب إليه الكذب.

توفي فيها عن أربع وتسعين سنة، ودفن بباب حرب.

ثم دخلت سنة خمس وعشرين وأربعمائة

[عدل]

فيها: غزا السلطان مسعود بن محمود بلاد الهند، وفتح حصونا كثيرة، وكان من جملتها أنه حاصر قلعة حصينة فخرجت من السور عجوز كبيرة ساحرة، فأخذت مكنسة فبلتها ورشتها من ناحية جيش المسلمين، فمرض السلطان تلك الليلة مرضا شديدا، فارتحل عن تلك القلعة، فلما استقل ذاهبا عنها، عوفي عافية كاملة، فرجع إلى غزنة سالما.

وفيها: ولي البساسيري حماية الجانب الشرقي من بغداد، لما تفاقم أمر العيارين.

وفيها: ولي سنان بن سيف الدولة بعد وفاة أبيه، فقصد عمه قرواشا فأقره وساعده على أموره.

وفيها: هلك ملك الروم أرمانوس، فملكم رجل ليس من بيت ملكهم، قد كان صيرفيا في بعض الأحيان، إلا أنه كان من سلالة الملك قسطنطين.

وفيها: كثرت الزلازل بمصر والشام فهدمت شيئا كثيرا، ومات تحت الردم خلق كثير، وانهدم من الرملة ثلثها، وتقطع جامعها تقطيعا، وخرج أهلها منها هاربين، فأقاموا بظاهرها ثمانية أيام، ثم سكن الحال فعادوا إليها، وسقط بعض حائط بيت المقدس، ووقع من محراب داود قطعة كبيرة، ومن مسجد إبراهيم قطعة، وسلمت الحجرة، وسقطت منارة عسقلان، ورأس منارة غزة، وسقط نصف بنيان نابلس، وخسف بقرية البارزاد وبأهلها وبقرها وغنمها، وساخت في الأرض.

وكذلك قرى كثيرة هنالك، وذكر ذلك ابن الجوزي.

ووقع غلاء شديد ببلاد إفريقية، وعصفت ريح سوداء بنصيبين فألقت شيئا كثيرا من الأشجار كالتوت والجوز والعناب، واقتلعت قصرا مشيدا بحجارة وآجر وكلس فألقته وأهله فهلكوا، ثم سقط مع ذلك مطر أمثال الأكف، والزنود والأصابع، وجزر البحر من تلك الناحية ثلاث فراسخ، فذهب الناس خلف السمك فرجع البحر عليهم فهلكوا.

وفيها: كثر الموت بالخوانيق حتى كان يغلق الباب على من في الدار كلهم موتى، وأكثر ذلك كان ببغداد، فمات من أهلها في شهر ذي الحجة سبعون ألفا.

وفيها: وقعت الفتنة بين السنة والروافض حتى بين العيارين من الفريقين مع ابنا الأصفهاني، وهما مقدمي عيارين أهل السنة، منعا أهل الكرخ من ورود ماء دجلة فضاق عليهم الحال، وقتل ابن البرجمي وأخوه في هذه السنة.

ولم يحج أحد من أهل العراق.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب

[عدل]

الحافظ أبو بكر المعروف بالبرقاني، ولد سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وسمع الكثير، ورحل إلى البلاد، وجمع كتبا كثيرة جدا، وكان عالما بالقرآن والحديث والفقه والنحو، وله مصنفات في الحديث حسنة نافعة.

قال الأزهري: إذا مات البرقاني ذهب هذا الشأن، وما رأيت أتقن منه.

وقال غيره: ما رأيت أعبد منه في أهل الحديث.

توفي يوم الخميس مستهل رجب، وصلى عليه أبو علي بن أبي موسى الهاشمي، ودفن في مقبرة الجامع ببغداد، وقد أورد له ابن عساكر من شعره:

أعلّل نفسي بكتب الحديث ** وأُجمل فيه لها الموعدا

وأشغل نفسي بتصنيفه ** وتخريجه دائما سرمدا

فطَوْرا أصنفه في الشيو ** خ وطورا أصنفه مسندا

وأقفو البخاريّ فيما حوا ** ه وصنفه جاهدا مجهدا

ومسلم إذ كان زين الأنام ** بتصنيفه مسلما مرشدا

وماليَ فيه سوى أنني ** أراه هوىً صادف المقصدا

وأرجو الثواب بكتب الصلا ** ة على السيد المصطفى أحمدا

أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن سعيد

[عدل]

أبو العباس الأبيوردي، أحد أئمة الشافعية، من تلاميذ الشيخ أبي حامد الإسفرايني، كانت له حلقة في جامع المنصور للفتيا، وكان يدرس في قطيعة الربيع، وولي الحكم ببغداد نيابة عن ابن الأكفاني، وقد سمع الحديث، وكان حسن الاعتقاد جميل الطريقة، فصيح اللسان، صبورا على الفقر، كاتما له، وكان يقول الشعر الجيد، وكان كما قال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافا} 3.

توفي في جمادى الآخرة، ودفن بمقبرة باب حرب.

أبو علي البندنبجي

[عدل]

الحسن بن عبد الله بن يحيى، الشيخ أبو علي البندنيجي، أحد أئمة الشافعية، من تلاميذ أبي حامد أيضا، ولم يكن في أصحابه مثله، تفقه ودرس وأفتى وحكم ببغداد، وكان دينا ورعا.

توفي في جمادى الآخرة منها أيضا.

عبد الوهاب بن عبد العزيز

[عدل]

الحارث بن أسد، أبو الصباح التميمي، الفقيه الحنبلي الواعظ، سمع من أبيه أثرا مسلسلا عن علي: الحنان: الذي يقبل على من أعرض عنه، والمنان: الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال.

توفي في ربيع الأول ودفن في مقبرة أحمد بن حنبل.

غريب بن محمد

[عدل]

ابن مفتي سيف الدولة أبو سنان، كان قد ضرب السكة باسمه، وكان ملكا متمكنا في الدولة، وخلف خمسمائة ألف دينار، وقام ابنه سنان بعده، وتقوى بعمه قرواش، واستقامت أموره، توفي بالكرخ سابور عن سبعين سنة.

ثم دخلت سنة ست وعشرين وأربعمائة

[عدل]

في محرمها كثر تردد الأعراب في قطع الطرقات إلى حواشي بغداد وما حولها، بحيث كانوا يسلبون النساء ما عليهن، ومن أسروه أخذوا ما معه وطالبوه بفداء نفسه، واستفحل أمر العيارين وكثرت شرورهم.

وفي مستهل صفر زادت دجلة بحيث ارتفع الماء على الضياع ذراعين، وسقط من البصرة في مدة ثلاثة نحو من ألفي دار.

وفي شعبان منها ورد كتاب من مسعود بن محمود بأنه قد فتح فتحا عظيما في الهند، وقتل منهم خمسين ألفا وأسر تسعين ألفا، وغنم شيئا كثيرا، ووقعت فتنة بين أهل بغداد والعيارين، ووقع حريق في أماكن من بغداد، واتسع الخرق على الراقع، ولم يحج أحد من هؤلاء ولا من أهل خراسان.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أحمد بن كليب الشاعر

[عدل]

وهو أحد من هلك بالعشق، روى ابن الجوزي في (المنتظم) بسنده: أن أحمد بن كليب هذا المسكين المغتر عشق غلاما يقال له: أسلم بن أبي الجعد، من بني خلد، وكان فيهم وزارة، أي: كانوا وزراء للملوك وحجابا، فأنشد فيه أشعارا تحدث الناس بها، وكان هذا الشاب أسلم يطلب العلم في مجالس المشايخ فلما بلغه عن ابن كليب ما قال فيه استحى من الناس وانقطع في دارهم، وكان لا يجتمع بأحد من الناس، فازداد غرام ابن كليب به حتى مرض من ذلك مرضا شديدا، بحيث عاده منه الناس، ولا يدرون ما به، وكان في جملة من عاده بعض المشايخ من العلماء، فسأله عن مرضه فقال: أنتم تعلمون ذلك، ومن أي شيء مرضي، وفي أي شيء دوائي، لو زارني أسلم ونظر إليّ نظرة ونظرته نظرة واحدة لبرأت.

فرأى ذلك العالم من المصلحة أن لو دخل على أسلم وسأله أن يزوره ولو مرة واحدة مختفيا، ولم يزل ذلك الرجل العالم بأسلم حتى أجابه إلى زيارته، فانطلقا إليه فلما دخلا دربه ومحلته تجبّن الغلام، واستحى من الدخول عليه، وقال للرجل العالم: لا أدخل عليه، وقد ذكرني ونوّه باسمي، وهذا مكان ريبة وتهمة، وأنا لا أحب أن أدخل مداخل التهم.

فحرص به الرجل كل الحرص ليدخل عليه فأبى عليه، فقال له: إنه ميت لا محالة، فإذا دخلت عليه أحييته.

فقال: يموت وأنا لا أدخل مدخلا يسخط الله علي ويغضبه، وأبى أن يدخل، وانصرف راجعا إلى دارهم، فدخل الرجل على ابن كليب فذكر له ما كان من أمر أسلم معه، وقد كان غلام ابن كليب دخل عليه قبل ذلك وبشره بقدوم معشوقه عليه، ففرح بذلك جدا، فلما تحقق رجوعه عنه اختلط كلامه واضطرب في نفسه، وقال لذلك الرجل الساعي بينهما: اسمع يا أبا عبد الله واحفظ عني ما أقول، ثم أنشده:

أسلم يا راحة العليل ** رفقا على الهائم النحيل

وصلك أشهى إلى فؤادي ** من رحمة الخالق الجليل

فقال له الرجل: ويحك اتق الله تعالى، ما هذه العظيمة؟

فقال: قد كان ما سمعت، أو قال: القول ما سمعت.

قال: فخرج الرجل من عنده فما توسط الدار حتى سمع الصراخ عليه، وسمع صيحة الموت، وقد فارق الدنيا على ذلك.

وهذه زلة شنعاء، وعظيمة صلعاء، وداهية دهياء، ولولا أن هؤلاء الأئمة ذكروها ما ذكرتها، ولكن فيها عبرة لأولي الألباب، وتنبيه لذوي البصائر والعقول، أن يسألوا الله رحمته وعافيته، وأن يستعيذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقهم حسن الخاتمة عند الممات إنه كريم جواد.

قال الحميدي: وأنشدني أبو علي بن أحمد قال: أنشدني محمد بن عبد الرحمن لأحمد بن كليب وقد أهدى إلى أسلم كتاب (الفصيح) لثعلب:

هذا كتاب الفصيح ** بكل لفظ مليح

وهبته لك طوعا ** كما وهبتك روحي

الحسن بن أحمد ابن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان بن حرب بن مهران البزاز

[عدل]

أحد مشايخ الحديث، سمع الكثير، وكان ثقة صدوقا، جاء يوما شاب غريب فقال له: إني رأيت رسول الله في المنام فقال لي: اذهب إلى أبي علي بن شاذان فسلم عليه وأقره مني السلام.

ثم انصرف الشاب فبكى الشيخ وقال: ما أعلم لي عملا أستحق به هذا غير صبري على سماع الحديث، وصلاتي على رسول الله كلما ذكر.

ثم توفي بعد شهرين أو ثلاثة من هذه الرؤيا في محرمها، عن سبع وثمانين سنة، ودفن بباب الدير.

الحسن بن عثمان ابن أحمد بن الحسين بن سورة

[عدل]

أبو عمر الواعظ المعروف بابن الغلو، سمع الحديث عن جماعة.

قال ابن الجوزي: وكان يعظ، وله بلاغة، وفيه كرم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ومن شعره قوله:

دخلت على السلطان في دار عزه ** بفقر ولم أجلب بخيل ولا رجل

وقلت: انظروا ما بين فقرى وملككم ** بمقدار ما بين الولاية والعزل

توفي في صفر منها وقد قارب الثمانين، ودفن بمقبرة حرب إلى جانب ابن السماك رحمهما الله.

ثم دخلت سنة سبع وعشرين وأربعمائة

[عدل]

في المحرم منها تكاملت قنطرة عيسى التي كانت سقطت، وكان الذي ولي مشارفة الإنفاق عليها الشيخ أبو الحسين القدوري الحنفي.

وفي المحرم وما بعده تفاقم أمر العيارين، وكبسوا الدور وتزايد شرهم جدا.

وفيها: توفي صاحب مصر الظاهر أبو الحسن علي بن الحاكم الفاطمي، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة، وقام بالأمر من بعده ولده المستنصر وعمره سبع سنين، واسمه معد، وكنيته أبو تميم، وتكفل بأعباء المملكة بين يديه الأفضل أمير الجيوش، واسمه بدر بن عبد الله الجمالي، وكان الظاهر هذا قد استوزر الصاحب أبا القاسم علي بن أحمد الجرجرائي، وكان مقطوع اليدين من المرفقين، في سنة ثماني عشرة، فاستمر في الوزارة مدة ولاية الظاهر، ثم لولده المستنصر، حتى توفي الوزير الجرجرائي المذكور في سنة ست وثلاثين، وكان قد سلك في وزارته العفة العظيمة، وكان الذي يعلم عنه القاضي أبو عبد الله القضاعي، صاحب كتاب (الشهاب).

وكانت علامته الحمد لله شكرا لنعمه، وكان الذي قطع يديه من المرفقين الحاكم، لجناية ظهرت منه في سنة أربع وأربعمائة، ثم استعمله في بعض الأعمال سنة تسع، فلما فقد الحاكم في السابع والعشرين من شوال، سنة إحدى عشرة، تنقلت بالجرجرائي المذكور الأحوال حتى استوزر سنة ثماني عشرة كما ذكرنا، وقد هجاه بعض الشعراء

فقال:

يا أجمعا اسمع وقل ** ودع الرقاعة والتحامق

أأقمت نفسك في الثقا ** ت وهبك فيما قلت صادق

أمن الأمانة والتقى ** قطعت يداك من المرافق


وممن توفي فيها من الأعيان:

أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعالبي

[عدل]

ويقال: الثعلبي أيضا - وهو لقب أيضا - وليس بنسبة، النيسابوري المفسر المشهور، له (التفسير الكبير) وله كتاب (العرايس) في قصص الأنبياء عليهم السلام، وغير ذلك، وكان كثير الحديث واسع السماع، ولهذا يوجد في كتبه من الغرائب شيء كثير، ذكره عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في (تاريخ نيسابور)، وأثنى عليه، وقال: هو صحيح النقل موثوق به.

توفي في سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وقال غيره: توفي يوم الأربعاء لسبع بقين من المحرم منها، ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله.

وقال السمعاني: ونيسابور كانت مغصبة، فأمر سابور الثاني ببنائها مدينة.

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وأربعمائة

[عدل]

فيها: خلع الخليفة على أبي تمام محمد بن محمد بن علي الزينبي، وقلده ما كان إلى أبيه من نقابة العباسيين والصلاة.

وفيها: وقعت الفرقة بين الجند وبين جلال الدولة، وقطعوا خطبتة وخطبة الملك أبي كاليجار، ثم أعادوا الخطبة، واستوزر أبا المعالي بن عبد الرحيم، وكان جلال الدولة قد جمع خلقا كثيرا معه، منهم البساسيري، وديبس بن علي بن مرثد، وقرواش بن مقلد، ونازل بغداد من جانبها الغربي حتى أخذها قهرا، واصطلح هو وأبو كاليجار نائب جلال الدولة على يدي قاضي القضاة الماوردي، وتزوج أبو منصور بن أبي كاليجار بابنة جلال الدولة على صداق خمسين ألف دينار، واتفقت كلمتهما وحسن حال الرعية.

وفيها: نزل مطر ببلاد قم الصلح ومعه سمك وزن السمكة رطل ورطلان.

وفيها: بعث ملك مصر بمال لإصلاح نهر بالكوفة إن أذن الخليفة العباسي في ذلك، فجمع الخليفة الفقهاء وسألهم عن هذا المال فأفتوا بأن هذا المال فيء للمسلمين، يصرف في مصالحهم، فأذن في صرفه في مصالح المسلمين.

وفيها: ثار العيارون ببغداد وفتحوا السجن بالجانب الشرقي، وأخذوا منه رجالا وقتلوا من رجال الشرط سبعة عشرة رجلا، وانتشرت الشرور في البلد جدا.

ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان لاختلاف الكلمة.

وممن توفي فيها من الأعيان:

القدوري أحمد بن محمد

[عدل]

ابن أحمد بن جعفر، أبو الحسن القدوري الحنفي البغدادي، سمع الحديث ولم يحدث إلا بشيء يسير.

قال الخطيب: كتبت عنه.

وقد تقدمت وفاته، ودفن بداره في درب خلف.

الحسن بن شهاب ابن الحسن بن علي

[عدل]

أبو علي العكبري، الفقيه الحنبلي الشاعر، ولد سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، سمع من أبي بكر بن مالك وغيره، وكان كما قال البرقاني: ثقة أمينا، وكان يسترزق من الوراقة - وهو النسخ - يقال: إنه كان يكتب ديوان المتنبي في ثلاث ليال فيبيعه بمائتي درهم، ولما توفي أخذ السلطان من تركته ألف دينار سوى الأملاك، وكان قد أوصى بثلث ماله في متفقهة الحنابلة، فلم تصرف.

لطف الله أحمد بن عيسى

[عدل]

أبو الفضل الهاشمي، ولي القضاء والخطابة بدرب ريحان، وكان ذا لسان، وقد أضر في آخر عمره، وكان يروي حكايات وأناشيد من حفظه، توفي في صفر منها.

محمد بن أحمد ابن علي بن موسى بن عبد المطلب

[عدل]

أبو علي الهاشمي، أحد أئمة الحنابلة وفضلائهم.

محمد بن الحسن ابن أحمد بن علي أبو الحسن الأهوازي

[عدل]

ويعرف بابن أبي علي الأصبهاني، ولد سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، وقدم بغداد وخرج له أبو الحسن النعيمي أجزاء من حديثه، فسمعها منه البرقاني، إلا أنه بان كذبه، حتى كان بعضهم يسميه جراب الكذب، أقام ببغداد سبع سنين، ثم عاد إلى الأهواز فمات بها.

مهيار الديلمي الشاعر

[عدل]

مهيار بن مرزويه أبو الحسين الكاتب الفارسي، ويقال له: الديلمي، كان مجوسيا فأسلم، إلا أنه سلك سبيل الرافضة، وكان ينظم الشعر القوي الفحل في مذاهبهم، من سب الصحابة وغيرهم، حتى قال له أبو القاسم بن برهان: يا مهيار انتقلت من زاوية في النار إلى زاوية أخرى في النار، كنت مجوسيا فأسلمت فصرت تسب الصحابة.

وقد كان منزله بدرب رباح من الكرخ، وله ديوان شعر مشهود، فمن مستجاد قوله:

أستنجد الصبر فيكم وهو مغلوب ** وأسأل النوم عنكم وهو مسلوب

وأبتغي عندكم قلبا سمحت به ** وكيف يرجع شيء وهو موهوب

ما كنت أعرف مقدار حبكم ** حتى هجرت وبعض الهجر تأديب

ولمهيار أيضا:

أجارتنا بالغور والركب منهم ** أيعلم خال كيف بات المتيم

رحلتم وجمر القلب فينا وفيكم ** سواء ولكن ساهرون ونوم

فبنتم عنا ظاعنين وخلفوا ** قلوبا أبت أن أعرف الصبر عنهم

ولما خلى التوديع عما حذرته ** ولم يبق إلا نظرة لي تغنم

بكيت على الوادي وحرمت ماءه ** وكيف به ماء وأكثره دم

قال ابن الجوزي: ولما كان شعره أكثره جيدا اقتصرت على هذا القدر.

توفي في جمادى الآخرة.

هبة الله بن الحسن أبو الحسين المعروف بالحاجب

[عدل]

كان من أهل الفضل والأدب والدين، وله شعر حسن، فمنه قوله:

يا ليلة سلك الزما ** ن في طيبها كل مسلك

إذ ترتقى روحي المسر ** ة مدركا ما ليس يدرك

والبدر قد فضح الزما ** ن وسره فيه مهتك

وكأنما زهر النجو ** م بلمعها شعل تحرك

والغيب أحيانا يلو ** ح كأنه ثوب ممسك

وكأن تجعيد الريا ** ح لدجلة ثوب مفرك

وكان نشر المسك ** ينفح في النسيم إذا تحرك

وكأنما المنثور مصفر ** الذرى ذهب مسبك

والنور يبسم في الريا ** ض فإن نظرت إليه سرك

شارطت نفسي أن أقو ** م بحقها والشرط أملك

حتى تولى الليل منـ ** ـهزما وجاء الصبح يضحك

وذا الفتى لو أنه ** في طيب العيش يترك

والدهر يحسب عمره ** فإذا أتاه الشيب فذلك

أبو علي بن سينا

[عدل]

الطبيب الفيلسوف، الحسين بن عبد الله بن سينا الرئيس، كان بارعا في الطب في زمانه، كان أبوه من أهل بلخ، وانتقل إلى بخارى، واشتغل بها فقرأ القرآن وأتقنه، وهو ابن عشر سنين، وأتقن الحساب والجبر والمقابلة وإقليدس والمجسطي، ثم اشتغل على أبي عبد الله الناتلي الحكيم، فبرع فيه وفاق أهل زمانه في ذلك، وتردد الناس إليه واشتغلوا عليه، وهو ابن ست عشرة سنة، وعالج بعض الملوك السامانية، وهو الأمير نوح بن نصر، فأعطاه جائزة سنية، وحكمه في خزانة كتبه، فرأى فيها من العجائب والمحاسن ما لا يوجد في غيرها، فيقال: إنه عزا بعض تلك الكتب إلى نفسه.

وله في الإلهيات والطبيعات كتب كثيرة.

قال ابن خلكان: له نحو من مائة مصنف، صغار وكبار، منها: (القانون)، و(الشفا)، و(النجاة)، و(الإشارات)، و(سلامان)، و(إنسان)، و(حي بن يقظان) وغير ذلك.

قال: وكان من فلاسفة الإسلام، أورد له من الأشعار قصيدته في نفسه التي يقول فيها:

هبطت إليك من المقام الأرفع ** ورقاء ذات تعزز وتمنع

محجوبة عن كل مقلة عارف ** وهي التي سفرت ولم تتبرقع

وصلت على كره إليك وربما ** كرهت فراقك وهي ذات تفجع

وهي قصيدة طويلة وله:

اجعل غذاءك كل يوم مرة ** واحذر طعاما قبل هضم طعام

واحفظ منيك ما استطعت فإنه ** ماء الحياة يراق في الأرحام

وذكر أنه مات بالقولنج في همذان، وقيل: بأصبهان، والأول أصح، يوم الجمعة في شهر رمضان منها، عن ثمان وخمسين سنة.

قلت: قد حصر الغزالي كلامه في (مقاصد الفلاسفة)، ثم رد عليه في (تهافت الفلاسفة) في عشرين مجلسا له، كفره في ثلاث منها، وهي قوله: بقدم العالم، وعدم المعاد الجثماني، وإن الله لا يعلم الجزئيات، وبدعه في البواقي، ويقال: إنه تاب عند الموت فالله أعلم.

ثم دخلت سنة تسع وعشرين وأربعمائة

[عدل]

فيها: كان بدو ملك السلاجقة.

وفيها: استولى ركن الدولة أبو طالب طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجوق على نيسابور، وجلس على سرير ملكها، وبعث أخاه داود إلى بلاد خرسان فملكها، وانتزعها من نواب الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين.

وفيها: قتل جيش المصريين لصاحب حلب، وهو شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس، واستولوا على حلب وأعمالها.

وفيها: سأل جلال الدولة الخليفة أن يلقب ملك الدولة، فأجابه إلى ذلك بعد تمنع.

وفيها: استدعى الخليفة بالقضاة والفقهاء وأحضر جاثليق النصارى ورأى جالوت اليهود، وألزموا بالغيار.

وفي رمضان منها لقب جلال الدولة شاهنشاه الأعظم ملك الملوك، بأمر الخليفة، وخطب له بذلك على المنابر، فنفرت العامة من ذلك ورموا الخطباء بالآجر، ووقعت فتنة شديدة بسبب ذلك، واستفتوا القضاة والفقهاء في ذلك فأفتى أبو عبد الله الصيمري أن هذه الأسماء يعتبر فيها القصد والنية، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكا} 4، وقال: {وَكَانَ وَرَاءهُمْ مَلِكٌ} 5

وإذا كان في الأرض ملوك جاز أن يكون بعضهم فوق بعض، وأعظم من بعض، وليس في ذلك ما يوجب النكير والمماثلة بين الخالق والمخلوقين.

وكتب القاضي أبو الطيب الطبري: أن إطلاق ملك الملوك جائز، ويكون معناه: ملك ملوك الأرض، وإذا جاز أن يقال: كافي الكفاة وقاضي القضاة، جاز أن يقال: ملك الملوك، وإذا كان في اللفظ ما يدل على أن المراد به ملوك الأرض زالت الشبة، ومنه قولهم: اللهم أصلح الملك، فيصرف الكلام إلى المخلوقين.

وكتب التميمي الحنبلي نحو ذلك، وأما الماوردي صاحب (الحاوي الكبير) فقد نقل عنه: أنه أجاز ذلك أيضا، والمشهور عنه ما نقله ابن الجوزي والشيخ أبو منصور بن الصلاح في (أدب المفتي): أنه منع من ذلك وأصر على المنع من ذلك، مع صحبته للملك جلال الدولة، وكثرة ترداده إليه، ووجاهته عنده، وأنه امتنع من الحضور عن مجلسه حتى استدعاه جلال الدولة في يوم عيد، فلما دخل عليه، دخل وهو وجل خائف أن يوقع به مكروها، فلما واجهه قال له جلال الدولة: قد علمت أنه إنما منعك من موافقة الذين جوزوا ذلك مع صحبتك إياي ووجاهتك عندي، دينك واتباعك الحق، وإن الحق آثر عندك من كل أحد، ولو حابيت أحدا من الناس لحابيتني، وقد زادك ذلك عندي صحبة ومحبة، وعلو مكانة.

قلت: والذي حمل القاضي الماوردي على المنع هو السنة التي وردت بها الأحاديث الصحيحة من غير وجه.

قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي أنه قال: «أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى بملك الأملاك».

قال الزهري: سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع اسم؟

قال: أوضع.

وقد رواه البخاري عن علي بن المديني عن ابن عيينة، وأخرجه مسلم من طريق همام عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: «أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل تسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله عز وجل».

وقال الإمام أحمد: حدثني محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن جلاس، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : «اشتد غضب الله على من قتله نبي، واشتد غضب الله على رجل تسمى بملك الأملاك، لا ملك إلا الله عز وجل».

وممن توفي فيها من الأعيان:

الثعالبي صاحب يتيمة الدهر

[عدل]

أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري، كان إماما في اللغة والأخبار وأيام الناس، بارعا مفيدا، له التصانيف الكبار في النظم والنثر والبلاغة والفصاحة، وأكبر كتبه (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر) وفيها يقول بعضهم:

أبيات أشعار اليتيمة ** أبكار أفكار قديمة

ماتوا وعاشت بعدهم ** فلذاك سميت اليتمية

وإنما سمي الثعالبي لأنه كان رفاء يخيط جلود الثعالب، وله أشعار كثيرة مليحة، ولد سنة خمسين وثلاثمائة، ومات في هذه السنة.

الأستاذ أبو منصور

[عدل]

عبد القاهر بن طاهر بن محمد، البغدادي الفقيه الشافعي، أحد الأئمة في الأصول والفروع، وكان ماهرا في فنون كثيرة من العلوم، منها علم الحساب والفرائض، وكان ذا مال وثروة أنفقه كله على أهل العلم، وصنف ودرس في سبعة عشر علما، وكان اشتغاله على أبي إسحاق الإسفرائيني، وأخذ عنه ناصر المروزي وغيره.

ثم دخلت سنة ثلاثين وأربعمائة

[عدل]

فيها: التقى الملك مسعود بن محمود، والملك طغرلبك السلجوقي، ومعه أخوه داود في شعبان، فهزمهما مسعود، وقتل من أصحابهما خلقا كثيرا.

وفيها: خطب شبيب بن ريان للقائم العباسي بحران والرحبة، وقطع خطبة الفاطمي العبيدي.

وفيها: خوطب أبو منصور بن جلال الدولة بالملك العزيز، وهو مقيم بواسط، وهذا العزيز آخر من ملك بغداد من بني بويه، لما طغوا وتمردوا وبغوا وتسموا بملك الأملاك، فسلبهم الله ما كان أنعم به عليهم، وجعل الملك في غيرهم، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الآية 6.

وفيها: خلع الخليفة على القاضي أبي عبد الله بن ماكولا خلعة تشريف.

وفيها: وقع ثلج عظيم ببغداد مقدار شبر.

قال ابن الجوزي: وفي جمادى الآخرة تملك بنو سلجوق بلاد خراسان والحبل، وتقسموا الأطراف، وهو أول ملك السلجوقية.

ولم يحج أحد فيها من العراق وخراسان، ولا من أهل الشام ولا مصر إلا القليل.

وممن توفي فيها من الأعيان:

الحافظ أبو نعيم الأصبهاني

[عدل]

أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران، أبو نعيم الأصبهاني، الحافظ الكبير ذو التصانيف المفيدة الكثيرة الشهيرة، منها (حلية الأولياء) في مجلدات كثيرة، دلت على اتساع روايته، وكثرة مشايخه، وقوة إطلاعه على مخارج الحديث وشعب طرقه، وله (معجم الصحابة) وهو عندي بخطه، وله (صفة الجنة) و(دلائل النبوة) وكتاب في (الطب النبوي) وغير ذلك من المصنفات المفيدة.

وقد قال الخطيب البغدادي: كان أبو نعيم يخلط المسموع له بالمجاز، ولا يوضح أحدهما من الآخر.

وقال عبد العزيز النخشبي: لم يسمع أبو نعيم مسند الحارث بن أبي أسامة من أبي بكر بن خلاد بتمامه، فحدث به كله.

وقال ابن الجوزي: سمع الكثير وصنف الكثير، وكان يميل إلى مذهب الأشعري في الاعتقاد ميلا كثيرا.

توفي أبو نعيم في الثامن والعشرين من المحرم منها، عن أربع وتسعين سنة رحمه الله، لأنه ولد فيما ذكره ابن خلكان في سنة ست وثلاثين وثلاثمائة.

قال: وله (تاريخ أصبهان).

وذكر أبو نعيم في ترجمة والده: أن مهران أسلم، وأن ولاءهم لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.

وذكر أن معنى أصبهان وأصله بالفارسية: شاهان، أي: مجمع العساكر، وأن الإسكندر بناها.

الحسن بن حفص أبو الفتوح العلوي أمير مكة

[عدل]

الحسن بن الحسين، أبو علي البرجمي، وزر لشرف الدولة سنتين ثم عزل، وكان عظيم الجاه في زمانه، وهو الذي بنى مارستان واسط، ورتب فيه الأشربة والأطباء والأدوية، ووقف عليه كفايته.

توفي في هذه السنة وقد قارب الثمانين رحمه الله.

الحسين بن محمد بن الحسن ابن علي بن عبد الله المؤدب

[عدل]

وهو أبو محمد الخلال، سمع صحيح البخاري من إسماعيل بن محمد الكشميهني، وسمع غيره، توفي في جمادى الأولى، ودفن بباب حرب.

عبد الملك بن محمد ابن عبد الله بن محمد بن بشر بن مهران

[عدل]

أبو القاسم الواعظ، سمع النجاد ودعلج بن أحمد والآجري وغيرهم، وكان ثقة صدوقا، وكان يشهد عند الحكام فترك ذلك رغبة عنه ورهبة من الله، ومات في ربيع الآخر منها، وقد جاوز التسعين، وصلي عليه في جامع الرصافة، وكان الجمع كثيرا حافلا، ودفن إلى جانب أبي طالب المكي، وكان قد أوصى بذلك.

محمد بن الحسين بن خلف ابن الفراء

[عدل]

أبو حازم القاضي أبو يعلى الحنبلي، سمع الدارقطني وابن شاهين.

قال الخطيب: كان لا بأس به، ورأيت له أصولا سماعه فيها، ثم إنه بلغنا أنه خلط في الحديث بمصر واشترى من الوراقين صحفا فروى منها، وكان يذهب إلى الاعتزال.

توفي بتنيس من بلاد مصر.

محمد بن عبد الله أبو بكر الدينوري الزاهد

[عدل]

كان حسن العيش، وكان ابن القزويني يثني عليه، وكان جلال الدولة صاحب بغداد يزوره، وقد سأله مرة أن يطلق للناس مكث الملح، وكان مبلغه ألفي دينار فتركه من أجله، ولما توفي اجتمع أهل بغداد لجنازته، وصلي عليه مرات، ودفن بباب حرب رحمه الله تعالى.

الفضل بن منصور أبو الرضى

[عدل]

ويعرف بابن الظريف، وكان شاعرا ظريفا ومن شعره قوله:

يا قالة الشعر قد نصحت لكم ** ولست أدهى إلا من النصح

قد ذهب الدهر بالكرام ** وفي ذاك أمور طويلة الشرح

أتطلبون النوال من رجل ** قد طبعت نفسه على الشح

وأنتم تمدحون بالحسن والظرف ** وجوها في غاية القبح

من أجل ذا تحرمون رزقكم ** لأنكم تكذبون في المدح

صونوا القوافي فما أرى ** أحدا يغتر فيه بالنجح

فإن شككتم فيما أقول لكم ** فكذبوني بواحد سمح

هبة الله بن علي بن جعفر

[عدل]

أبو القاسم بن ماكولا، وزر لجلال الدولة مرارا، وكان حافظا للقرآن، عارفا بالشعر والأخبار، خنق بهيت في جمادى الآخرة منها.

أبو زيد الدبوسي

[عدل]

عبد الله بن عمر بن عيسى الفقيه الحنفي، أول من وضع علم الخلاف وأبرزه إلى الوجود.

قاله ابن خلكان.

وكان يضرب به المثل، والدبوس نسبة إلى قرية من أعمال بخارى، قال: وله كتاب (الأسرار والتقويم للأدلة) وغير ذلك من التصانيف والتعاليق، قال: وروي أنه ناظر فقيها فبقي كلما ألزمه أبو زيد إلزاما تبسم أو ضحك، فأنشد أبو زيد في ذلك:

مالي إذا ألزمته حجة ** قابلني بالضحك والقهقهة

إن ضحك المرء من فقهه ** فالدب بالصحراء ما أفقهه

الحوفي صاحب إعراب القرآن

[عدل]

أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سعيد بن يوسف الحوفي النحوي، له كتاب في النحو كبير، و(إعراب القرآن) في عشر مجلدات، وله (تفسير القرآن) أيضا، وكان إماما في العربية والنحو والأدب، وله تصانيف كثيرة، انتفع بها الناس.

قال ابن خلكان: والحوفي نسبة لناحية بمصر يقال لها: الشرقية، وقصبتها مدينة بلبيس، فجميع ريفها يسمون حوف، واحدهم حوفي وهو من قرية يقال لها: شبرا النخلة، من أعمال الشرقية المذكورة رحمه الله.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة

[عدل]

فيها: زادت دجلة زيادة عظيمة بحيث حملت الجسر ومن عليه فألقتهم بأسفل البلد وسلموا.

وفيها وقع بين الجند وبين جلال الدولة شغب، وقتل من الفريقين خلق، وجرت شرور يطول ذكرها.

ووقع فساد عريض واتسع الخرق على الراقع، ونهبت دور كثيرة جدا، ولم يبق للملك عندهم حرمة، وغلت الأسعار.

وفيها: زار الملك أبو طاهر مشهد الحسين، ومشى حافيا في بعض تلك الأزوار.

ولم يحج أحد من أهل العراق.

وفيها: بعث الملك أبو كاليجار وزيره العادل إلى البصرة فملكها له.

وممن توفي فيها من الأعيان:

إسماعيل بن أحمد

[عدل]

ابن عبد الله أبو عبد الرحمن الضرير الخيري، من أهل نيسابور، كان من أعيان الفضلاء الأذكياء، والثقات الأمناء، قدم بغداد حاجا في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، فقرأ عليه الخطيب جميع صحيح البخاري في ثلاث مجالس بروايته له عن أبي الهيثم الكشميهني، عن الفربري، عن البخاري، توفي فيها وقد جاوز التسعين.

بشرى الفاتني

[عدل]

وهو بشرى بن مسيس من سبي الروم، أهداه أمراء بني حمدان الفاتن غلام المطيع، فأدبه وسمع الحديث عن جماعة من المشايخ، وروى عنه الخطيب.

وقال: كان صدوقا صالحا دينا، توفي يوم عيد الفطر منها رحمه الله.

محمد بن علي ابن أحمد بن يعقوب بن مروان

[عدل]

أبو العلاء الواسطي، وأصله من فم الصلح، سمع الحديث وقرأ القراءات ورواها، وقد تكلموا في روايته في القراءات والحديث فالله أعلم.

توفي في جمادى الآخرة منها وقد جاوز الثمانين.

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة

[عدل]

فيها: عظم شأن السلجوقية، وارتفع شان ملكهم طغرلبك وأخيه داود، وهما ابنا ميكائيل بن سلجوق بن بغاق، وقد كان جدهم بغاق هذا من مشايخ الترك القدماء، الذين لهم رأي ومكيدة ومكانة عند ملكهم الأعظم، ونشأ ولده سلجوق نجيبا شهما، فقدمه الملك ولقبه شباسي، فأطاعته الجيوش وانقاد له الناس بحيث تخوف منه الملك وأراد قتله.

فهرب منه إلى بلاد المسلمين، فأسلم فازداد عزا وعلوا، ثم توفي عن مائة وسبع سنين، وخلف أرسلان وميكائيل وموسى، فأما مكائيل فإنه اعتنى بقتال الكفار من الأتراك، حتى قتل شهيدا، وخلف ولديه طغرلبك محمد، وجعفر بك داود، فعظم شأنهما في بني عمهما، واجتمع عليهما الترك من المؤمنين، وهم ترك الإيمان الذي يقول لهم الناس: تركمان، وهم السلاجقة بنو سلجوق جدهم هذا، فأخذوا بلاد خراسان بكمالها بعد موت محمود بن سبكتكين.

وقد كان يتخوف منهم محمود بعض التخوف، فلما مات وقام ولده مسعود بعده قاتلهم وقاتلوه مرارا، فكانوا يهزمونه في أكثر المواقف، واستكمل لهم ملك خراسان بأسرها، ثم قصدهم مسعود في جنود يضيق بهم الفضاء فكسروه، وكبسه مرة داود فانهزم مسعود فاستحوذ على حواصله وخيامه، وجلس على سريره، وفرق الغنائم على جيشه، ومكث جيشه على خيولهم لا ينزلون عنها ثلاثة أيام، خوفا من دهمة العدو، وبمثل هذا تم لهم ما راموه، وكمل لهم جميع ما أملوه.

ثم كان من سعادتهم أن الملك مسعود توجه نحو بلاد الهند لسبي بها وترك مع ولده مودود جيشا كثيفا بسبب قتال السلاجقة، فلما عبر الجسر الذي على سيحون نهبت جنوده حواصله، واجتمعوا على أخيه محمد بن محمود، وخلعوا مسعودا فرجع إليهم مسعود فقاتلهم فهزموه وأسروه، فقال له أخوه: والله لست بقاتلك على شر صنيعك إلي، ولكن اختر لنفسك أي بلد تكون فيه أنت وعيالك.

فاختار قلعة كبرى، وكان بها.

ثم إن الملك محمدا أخا مسعود جعل لولده الأمر من بعده، وبايع الجيش له، وكان ولده اسمه أحمد، وكان فيه هرج، فاتفق هو ويوسف بن سبكتكين على قتل مسعود ليصفو لهم الأمر، ويتم لهم الملك، فسار إليه أحمد من غير علم أبيه فقتله، فلما علم أبوه بذلك غاظه وعتب على ابنه عتبا شديدا، وبعث إلى ابن أخيه يعتذر إليه ويقسم له أنه لم يعلم بذلك، حتى كان ما كان.

فكتب إليه مودود بن مسعود: رزق الله ولدك المعتوه عقلا يعيش به، فقد ارتكب أمرا عظيما، وقدم على إراقة دم مثل والدي الذي لقبه أمير المؤمنين بسيد الملوك والسلاطين، وستعلمون أي حيف تورطتم، وأي شر تأبطتم {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 7.

ثم سار إليهم في جنود فقاتلهم فقهرهم وأسرهم، فقتل عمه محمدا وابنه أحمد وبني عمه كلهم، إلا عبد الرحمن وخلقا من رؤس أمرائهم، وابتنى قرية هنالك وسماها فتحا أباذا، ثم سار إلى غزنة فدخلها في شعبان، فأظهر العدل وسلك سيرة جده محمود، فأطاعه الناس، وكتب إليه أصحاب الأطراف بالانقياد والاتباع والطاعة، غير أنه أهلك قومه بيده، وهذا من جملة سعادة السلاجقة.

وفيها: اختلف أولاد حماد على العزيز باديس صاحب إفريقية، فسار إليهم فحاصرهم قريبا من سنتين، ووقع بإفريقية في هذه السنة غلاء شديد بسبب تأخر المطر، ووقع ببغداد فتنة عظيمة بين الروافض والسنة من أهل الكرخ، وأهل باب البصرة، فقتل بينهم خلق كثير من الفريقين.

ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان.

وممن توفي فيها من الأعيان:

محمد بن الحسين ابن الفضل بن العباس، أبو يعلى البصري الصوفي

[عدل]

أذهب عمره في الأسفار والتغريب، وقدم بغداد في سنة ثنتين وثلاثين، فحدث بها عن أبي بكر بن أبي الحديد الدمشقي، وأبي الحسين بن جميع الغساني، وكان ثقة صدوقا دينا حسن الشعر.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة

[عدل]

فيها: ملك طغرلبك جرجان وطبرستان، ثم عاد إلى نيسابور مؤيدا منصورا.

وفيها: ولي ظهير الدولة بن جلال الدولة أبي جعفر بن كالويه بعد وفاة أبيه، فوقع الخلف بينه وبين أخويه أبي كاليجار وكرسانيف.

وفيها: دخل أبو كاليجار همذان، ودفع الغز عنها.

وفيها: شعثت الأكراد ببغداد لسبب تأخر العطاء عنهم.

وفيها: سقطت قنطرة بني زريق على نهر عيسى، وكذا القنطرة الكثيفة التي تقابلها.

وفيها: دخل بغداد رجل من البلغار يريد الحج، وذكر أنه من كبارهم، فأنزل بدار الخلافة وأجرى عليه الأرزاق، وذكر أنهم مولدون من الترك والصقالبة، وأنهم في أقصى بلاد الترك، وأن النهار يقصر عندهم حتى يكون ست ساعات، وكذلك الليل، وعندهم عيون وزروع وثمار، على غير مطر ولا سقي.

وفيها: قرئ الاعتقاد القادري الذي جمعه الخليفة القادر، وأخذت خطوط العلماء والزهاد عليه بأنه اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فسق وكفر، وكان أول من كتب عليه الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني، ثم كتب بعده العلماء، وقد سرده الشيخ أبو الفرج بن الجوزي بتمامه في (منتظمه)، وفيه جملة جيدة من اعتقاد السلف.

من الأعيان:

بهرام بن منافيه

[عدل]

أبو منصور الوزير لأبي كاليجار، كان عفيفا نزها صينا عادلا في سيرته، وقد وقف خزانة كتب في مدينة فيروزباذ تشتمل على سبعة آلاف مجلد، من ذلك أربعة آلاف ورقة بخط أبي علي وأبي عبد الله بن مقلة.

محمد بن جعفر بن الحسين

[عدل]

المعروف بالجهرمي، قال الخطيب: هو أحد الشعراء الذين لقيناهم وسمعنا منهم، وكان يجيد القول، ومن شعره:

يا ويح قلبي من تقلبه ** أبدا نحن إلى معذبه

قالوا: كتمت هواه عن جلد ** لو أن لي جلد لبحت به

ما بي جننت غير مكترث ** عني ولكن من تغيبه

حسبي رضاه من الحياة وما ** يلقى وموتي من تغضبه

مسعود الملك بن الملك محمود

[عدل]

ابن الملك سبكتكين، صاحب غزنة وابن صاحبها، قتله ابن عمه أحمد بن محمد بن محمود، فانتقم له ابنه مودود بن مسعود، فقتل قاتل أبيه وعمه وأهل بيته، من أجل أبيه، واستتب له الأمر وحده من غير منازع من قومه كما تقدم.

بنت أمير المؤمنين المتقي تأخرت مدتها حتى توفيت في هذه السنة في رجب منها عن إحدى وتسعين سنة، بالحريم الظاهر، ودفنت بالرصافة.

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وأربعمائة

[عدل]

فيها: أمر الملك جلال الدولة أبا طاهر بجباية أموال الجوالي، ومنع أصحاب الخليفة من قبضها، فانزعج لذلك الخليفة القائم بالله، وعزم على الخروج من بغداد.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة بمدينة تبريز، فهدمت قلعتها وسورها ودورها، ومن دار الإمارة عامة قصورها، ومات تحت الهدم خمسون ألفا، ولبس أهلها المسوح لشدة مصابهم.

وفيها: استولى السلطان طغرلبك على أكثر البلاد الشرقية من ذلك مدينة خوارزم ودهستان وطيس والري وبلاد الجبل وكرمان وأعمالها وقزوين.

وخطب له في تلك النواحي كلها، وعظم شأنه جدا، واتسع صيته.

وفيها: ملك سماك بن صالح بن مرداس حلب، أخذها من الفاطميين، فبعث إليه المصريون من حاربه. ولم يحج أحد من أهل العراق وغيرها، ولا في اللواتي قبلها.

من الأعيان:

أبو زر الهروي

[عدل]

عبد الله بن أحمد بن محمد الحافظ المالكي، سمع الكثير ورحل إلى الأقاليم، وسكن مكة، ثم تزوج في العرب، وكان يحج كل سنة ويقيم بمكة أيام الموسم ويسمع الناس، ومنه أخذ المغاربة مذهب الأشعري عنه، وكان يقول: إنه أخذ مذهب مالك عن الباقلاني.

كان حافظا، توفي في ذي القعدة.

محمد بن الحسين ابن محمد بن جعفر

[عدل]

أبو الفتح الشيباني العطار، ويعرف بقطيط، سافر الكثير إلى البلاد، وسمع الكثير، وكان شيخا ظريفا، سلك طريق التصوف، وكان يقول: لما ولدت سميت قطيطا على أسماء البادية، ثم سماني بعض أهلي محمدا.

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وأربعمائة

[عدل]

فيها: ردت الجوالي إلى نواب الخليفة.

وفيها: ورد كتاب من الملك طغرلبك إلى جلال الدولة يأمره بالإحسان إلى الرعايا والوصاة بهم، قبل أن يحل به ما يسوءه.

أبو كاليجار يملك بغداد بعد أخيه جلال الدولة

وفيها: توفي جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة، فملك بغداد بعده أخوه سلطان الدولة أبو كاليجار بن بهاء الدولة، وخطب له بها عن ممالأة أمرائها، وأخرجوا منها الملك العزيز أبا منصور بن جلال الدولة، فتنقل في البلاد وتسرب من مملكته إلى غيرها حتى توفي سنة إحدى وأربعين، وحمل فدفن عند أبيه بمقابر قريش.

وفيها: أرسل الملك مودود بن مسعود عسكرا كثيفا إلى خراسان، فبرز إليهم ألب أرسلان بن داود السلجوقي فاقتتلا قتالا عظيما.

وفي صفر منها أسلم من الترك الذين كانوا يطرقون بلاد المسلمين نحو من عشرة آلاف خركاة، وضحوا في يوم عيد الأضحى بعشرين ألف رأس من الغنم، وتفرقوا في البلاد، ولم يسلم من خطا والتتر أحد وهم بنواحي الصين.

وفيها: نفي ملك الروم من القسطنطينية كل غريب له فيها دون العشرين سنة.

وفيها: خطب المعز أبو تميم صاحب إفريقية ببلاده للخليفة العباسي، وقطع خطبة الفاطميين وأحرق أعلامهم، وأرسل إليه الخليفة الخلع واللواء المنشور، وفيه تعظيم له وثناء عليه.

وفيها: أرسل القائم بأمر الله أبا الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي قبل موت جلال الدولة إلى الملك طغرلبك ليصلح بينه وبين جلال الدولة وأبي كاليجار، فسار إليه فالتقاه بجرجان فتلقاه الملك على أربعة فراسخ إكراما للخليفة، وأقام عنده إلى السنة الآتية.

فلما قدم على الخليفة أخبره بطاعته وإكرامه لأجل الخليفة.

وفيها توفي من الأعيان:

الحسين بن عثمان ابن سهل بن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلي

[عدل]

أبو سعد أحد الرحالين في طلب الحديث إلى البلاد المتباعدة، ثم أقام ببغداد مدة وحدث بها، وروى عنه الخطيب، وقال: كان صدوقا، ثم انتقل في آخره عمره إلى مكة فأقام بها حتى مات في شوال منها.

عبد الله بن أبي الفتح

[عدل]

أحمد بن عثمان بن الفرج بن الأزهر، أبو القاسم الأزهري، الحافظ المحدث المشهور، ويعرف بابن السواري، سمع من أبي بكر بن مالك وخلق يطول ذكرهم، وكان ثقة صدوقا دينا، حسن الاعتقاد والسيرة، توفي ليلة الثلاثاء تاسع عشر صفر منها عن ثمانين سنة وعشرة أيام.

الملك جلال الدولة

[عدل]

أبو طاهر بن بهاء الدولة بن بويه الديلمي، صاحب العراق، كان يحب العباد ويزورهم، ويلتمس الدعاء منهم، وقد نكب مرات عديدة، وأخرج من داره، وتارة أخرج من بغداد بالكلية، ثم يعود إليها حتى اعتراه وجع كبده فمات من ذلك في ليلة الجمعة خامس شعبان منها، وله من العمر إحدى وخمسين سنة وأشهر.

تولى العراق من ذلك ستة عشرة سنة وإحدى عشر شهرا والله أعلم.

ثم دخلت سنة ست وثلاثين وأربعمائة

[عدل]

فيها: دخل الملك أبو كاليجار بغداد وأمر بضرب الطبل في أوقات الصلوات الخمس، ولم تكن الملوك تفعل ذلك، إنما كان يضرب لعضد الدولة ثلاث أوقات، وما كان يضرب في الأوقات الخمس إلا للخليفة، وكان دخوله إليها في رمضان، وقد فرق على الجند أموالا جزيلة، وبعث إلى الخليفة بعشرة آلاف دينار، وخلع على مقدمي الجيوش وهم البساسيري، والنشاوري، والهمام أبو اللقاء، ولقبه الخليفة محي الدولة، وخطب له في بلاد كثيرة بأمر ملوكها، وخطب له بهمذان، ولم يبق لنواب طغرلبك فيها أمر.

وفيها: استوزر طغرلبك أبا القاسم عبد الله الجويني، وهو أول وزير وزر له.

وفيها: ورد أبو نصر أحمد بن يوسف الصاحب مصر، وكان يهوديا فأسلم بعد موت الجرجراي.

وفيها: تولى نقابة الطالبيين أبو أحمد عدنان بن الرضي، وذلك بعد وفاة عمه المرتضى.

وفيها: ولي القضاء أبو الطيب الطبري، قضاء الكرخ، مضافا إلى ما كان يتولاه من القضاء بباب الطاق، وذلك بعد موت القاضي الصيمري.

وفيها: نظر رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المسلم في كتاب ديوان الخليفة، وكان عنده بمنزلة عالية.

ولم يحج فيها أحد من أهل العراق.

من الأعيان:

الحسين بن علي ابن محمد بن جعفر، أبو عبد الله الصيمري

[عدل]

نسبة إلى نهر البصرة يقال له: صيمر، عليه عدة قرى، أحد أئمة الحنفية، ولي قضاء المدائن ثم قضاء ربع الكرخ، وحدث عن أبي بكر المفيد، وابن شاهين وغيرهما، وكان صدوقا وافر العقل، جميل المعاشرة، حسن العبادة، عارفا بحقوق العلماء.

توفي في شوال عن خمس وثمانين سنة.

عبد الوهاب بن منصور

[عدل]

ابن أحمد أبو الحسن المعروف بابن المشتري الأهوازي، كان قاضيا بالأهواز ونواحيها، شافعي المذهب، كان له منزلة كبيرة عند السلطان، وكان صدوقا كثير المال، حسن السيرة.

الشريف المرتضى علي بن الحسين

[عدل]

بن موسى بن محمد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الشريف الموسوي، الملقب بالمرتضى، ذي المجدين، كان أكبر من أخيه ذي الحسبين وكان جيد الشعر على مذهب الإمامية والاعتزال، يناظر على ذلك، وكان يناظر عنده في كل المذاهب، وله تصانيف في التشيع، أصولا وفروعا.

وقد نقل ابن الجوزي أشياء من تفرداته في التشيع، فمن ذلك: أنه لا يصح السجود إلا على الأرض أو ما كان من جنسها، وأن الاستجمار إنما يجزئ في الغائط لا في البول، وأن الكتابيات حرام، وكذا ذبائح أهل الكتاب، وما ولدوه هم وسائر الكفار من الأطعمة حرام، وأن الطلاق لا يقع إلا بحضرة شاهدين، والمعلق منه لا يقع وإن وجد شرطه، ومن نام عن صلاة العشاء حتى انتصف الليل وجب قضاؤها، ويجب عليه أن يصبح صائما كفارة لما وقع منه.

ومن ذلك أن المرأة إذا جزت شعرها يجب عليها كفارة قتل الخطأ، ومن شق ثوبه في مصيبة وجب عليه كفارة اليمين، ومن تزوج امرأة لها زوج لا يعلمه وجب عليه أن يتصدق بخمسة دراهم، وأن قطع السارق من رؤس الأصابع.

قال ابن الجوزي: نقلته من خط أبي الوفاء بن عقيل.

قال: وهذه مذاهب عجيبة، تخرق الإجماع، وأعجب منها ذم الصحابة رضي الله عنهم.

ثم سرد من كلامه شيئا قبيحا في تكفير عمر بن الخطاب وعثمان وعائشة وحفصة رضي الله عنهم وأخزاه الله وأمثاله من الأرجاس والأنجاس، أهل الرفض والارتكاس، إن لم يكن تاب.

فقد روى ابن الجوزي قال: أنبأنا ابن ناصر، عن أبي الحسن بن الطيوري، قال: سمعت أبا القاسم بن برهان يقول: دخلت على الشريف المرتضى وإذا هو قد حول وجهه إلى الجدار وهو يقول: أبو بكر وعمر وليا فعدلا واسترحما فرحما، فأنا أقول ارتدا بعد ما أسلما؟

قال: فقمت عنه فما بلغت عتبة داره حتى سمعت الزعقة عليه.

توفي في هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة.

وقد ذكره ابن خلكان فملس عليه على عادته الشعراء في الثناء عليهم، وأورد له أشعارا رائقة.

قال: ويقال: إنه هو الذي وضع كتاب (نهج البلاغة).

محمد بن أحمد ابن شعيب بن عبد الله بن الفضل

[عدل]

أبو منصور الروياني، صاحب الشيخ أبي حامد الإسفراييني.

قال الخطيب: سكن بغداد وحدث بها، وكتبنا عنه، وكان صدوقا يسكن قطيعة الربيع.

توفي في ربيع الأول منها، ودفن بباب حرب.

أبو الحسين البصري المعتزلي

[عدل]

محمد بن علي بن الخطيب، أبو الحسين البصري المتكلم، شيخ المعتزلة والمنتصر لهم، والمحامي عن ذمهم بالتصانيف الكثيرة، توفي في ربيع الآخر منها، وصلى عليه القاضي أبو عبد الله الصيمري، ودفن في الشونيزي، ولم يرو من الحديث سوى حديث واحد، رواه الخطيب البغدادي في تاريخه: حدثنا محمد بن علي بن الطيب قرئ على هلال بن محمد بن أخي هلال الرأي، بالبصرة وأنا أسمع، قيل له: حدثكم أبو مسلم الكجي، وأبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، والغلابي، والمازني، والزريقي، قالوا: حدثنا القعنبي عن شعبة، عن منصور، عن ربعي، عن أبي مسعود البدري، قال: قال رسول الله : «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة إذا لم تستح فاصنع ما شئت».

والغلابي اسمه محمد، والمازني اسمه محمد بن حامد، والزريقي أبو علي محمد بن أحمد بن خالد البصري.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وأربعمائة

[عدل]

فيها: بعث السلطان طغرلبك السلجوقي أخاه إبراهيم إلى بلاد الجبل فملكها، وأخرج عنها صاحبها كرشاسف بن علاء الدولة، فالتحق بالأكراد، ثم سار إبراهيم إلى الدينور فملكها أيضا، وأخرج صاحبها وهو أبو الشوك، فسار إلى حلوان فتبعه إبراهيم فملك حلوان قهرا، وأحرق داره وغنم أمواله، فعند ذلك تجهز الملك أبو كاليجار لقتال السلاجقة الذين تعدوا على أتباعه، فلم يمكنه ذلك لقلة الظهر، وذلك أن الآفة اعترت في هذه السنة الخيل فمات له فيها نحو من اثني عشر ألف فرس، بحيث جافت بغداد من جيف الخيل.

وفيها: وقع بين الروافض والسنة ثم اتفق الفريقان على نهب دور اليهود، وإحراق الكنيسة العتيقة التي لهم، واتفق موت رجل من أكابر النصارى بواسط، فجلس أهله لعزائه على باب مسجد هناك وأخرجوا جنازته جهرا، ومعها طائفة من الأتراك يحرسونها، فحملت عليهم العامة فهزموهم وأخذوا الميت منهم واستخرجوه من أكفانه فأحرقوه، ورموا رماده في دجلة، ومضوا إلى الدير فنهبوه، وعجز الأتراك عن دفعهم.

ولم يحج فيها أحد من أهل العراق.

من الأعيان:

فارس بن محمد بن عتاز

[عدل]

صاحب الدينور وغيرهم، توفي في هذا الأوان.

خديجة بنت موسى

[عدل]

ابنة عبد الله الواعظة، وتعرف ببنت البقال، وتكنى أم سلمة.

قال الخطيب: كتبت عنها وكانت فقيرة صالحة فاضلة.

أحمد بن يوسف السليكي المنازي

[عدل]

الشاعر الكاتب، وزير أحمد بن مروان الكردي، صاحب ميا فارقين وديار بكر، كان فاضلا بارعا لطيفا، تردد في الترسل إلى القسطنطينية غير مرة، وحصل كتبا عزيزة أوقفها على جامعي آمد وميافارقين، ودخل يوما على أبي العلاء المعري فقال له: إني معتزل الناس وهم يؤذونني، وتركت لهم الدنيا.

فقال له الوزير: والآخرة أيضا.

فقال: والآخرة يا قاضي؟

قال: نعم.

وله ديوان قليل النظير عزيز الوجود، حرص عليه القاضي الفاضل فلم يقدر عليه، توفي فيها.

ومن شعره في وادي نزاعة:

وقانا لفحة الرمضاء واد ** وقاه مضاعف النبت العميم

نزلنا دوحه فحنا علينا ** حنو المرضعات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأ زلالا ** ألذ من المدامة للنديم

يراعي الشمس أنى قابلته ** فيحجبها ليأذن للنسيم

تروع حصاه حالية العذارى ** فتلمس جانب العقد النظيم

قال ابن خلكان: وهذه الأبيات بديعة في بابها.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة

[عدل]

استهلت هذه السنة والموتان كثير في الدواب جدا، حتى جافت بغداد.

قال ابن الجوزي: وربما أحضر بعض الناس الأطباء لأجل دوابهم فيسقونها ماء الشعير ويطببونها.

وفيها: حاصر السلطان بن طغرلبك أصبهان فصالحه أهلها على مال يحملونه إليه، وأن يخطب له بها، فأجابوه إلى ذلك.

وفيها: ملك مهلهل قرميسين والدينور.

وفيها: تأمر على بني خفاجة رجل يقال له: رجب بن أبي منيع بن ثمال، بعد وفاة بدران بن سلطان بن ثمال، وهؤلاء الأعراب أكثر من يصد الناس عن بيت الله الحرام، فلا جزاهم الله خيرا.

من الأعيان:

الشيخ أبو محمد الجويني إمام الشافعية

[عدل]

عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيسويه الشيخ أبو محمد الجويني، وهو والد إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد، وأصله من قبيلة يقال لها: سنبس، وجوين من نواحي نيسابور.

سمع الحديث من بلاد شتى على جماعة، وقرأ الأدب على أبيه، وتفقه بأبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي، ثم خرج إلى مرو إلى أبي بكر عبد الله بن أحمد القفال، ثم عاد إلى نيسابور وعقد مجلس المناظرة، وكان مهيبا لا يجري بين يديه إلا الجد، وصنف التصانيف الكثيرة في أنواع من العلوم، وكان زاهدا شديد الاحتياط لدينه حتى ربما أخرج الزكاة مرتين.

وقد ذكرته في (طبقات الشافعية) وذكرت ما قاله الأئمة في مدحه، توفي في ذي القعدة منها.

قال ابن خلكان: صنف (التفسير الكبير) المشتمل على أنواع العلوم، وله في الفقه (التبصرة والتذكرة) وصنف (مختصر المختصر)، و(الفرق والجمع)، و(السلسلة) وغير ذلك.

وكان إماما في الفقه والأصول والأدب والعربية.

توفي في هذه السنة، وقيل: سنة أربع وثلاثين.

قاله السمعاني في (الأنساب)، وهو في سن الكهولة.

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة

[عدل]

فيها: اصطلح الملك طغرلبك وأبو كاليجار، وتزوج طغرلبك بابنته، وتزوج أبو منصور بن كاليجار بابنة الملك داود أخي طغرلبك.

وفيها: أسرت الأكراد سرخاب أخا أبي الشوك وأحضروه بين يدي أميرهم ينال، فأمر بقلع إحدى عينيه.

وفيها: استولى أبو كاليجار على بلاد البطيحة، ونجا صاحبها أبو نصر بنفسه.

وفيها: ظهر رجل يقال له: الأصفر التغلبي، وادعى أنه من المذكورين في الكتب، فاستغوى خلقا، وقصد بلادا فغنم منها أموالا تقوى بها، وعظم أمره.

ثم اتفق له أسر وحمل إلى نصر الدولة بن مروان صاحب ديار بكر، فاعتقله وسد عليه باب السجن.

وفيها: كان وباء شديد بالعراق والجزيرة، بسبب جيف الدواب التي ماتت، فمات فيها خلق كثير، حتى خلت الأسواق وقلت الأشياء التي يحتاج إليها المرضى، وورد كتاب من الموصل بأنه لا يصلي الجمعة من أهلها إلا نحو أربعمائة، وأن أهل الذمة لم يبق منهم إلا نحو مائة وعشرين نفسا.

وفيها: وقع غلاء شديد أيضا، ووقعت فتنة بن الروافض والسنة ببغداد، قتل فيها خلق كثير.

ولم يحج فيها أحد من ركب العراق.

من الأعيان:

أحمد بن محمد بن عبد الله بن أحمد

[عدل]

أبو الفضل القاضي الهاشمي الرشيدي، من ولد الرشيد، ولي القضاء بسجستان، وسمع الحديث من الغطريفي.

قال الخطيب: أنشدني لنفسه قوله:

قالوا اقتصد في الجود إنك منصف ** عدل وذو الإنصاف ليس يجور

فأجبتهم إني سلالة معشر ** لهم لواء في الندى منشور

تالله إني شائد ما قدموا ** جدي الرشيد وقبله المنصور

عبد الواحد بن محمد ابن يحيى بن أيوب

[عدل]

أبو القاسم الشاعر المعروف بالمطرز، ومن شعره قوله:

يا عبد كم لك من ذنب ومعصية ** إن كنت ناسيها فالله أحصاها

لا بد يا عبد من يوم تقوم به ** ووقفة لك يدمي القلب ذكراها

إذا عرضت على قلبي تذكرها ** وساء ظني فقلت أستغفر الله

محمد بن الحسن بن علي ابن عبد الرحيم أبو سعد الوزير

[عدل]

وزر للملك جلال الدولة ست مرات، ثم كان موته بجزيرة ابن عمر فيها عن ست وخمسين سنة.

محمد بن أحمد بن موسى أبو عبد الله الواعظ الشيرازي

[عدل]

قال الخطيب: قدم بغداد وأظهر الزهد والتقشف والورع، وعزوف النفس عن الدنيا، فافتتن الناس به، وكان يحضر مجلسه خلق كثير، ثم إنه بعد حين كان يعرض عليه الشيء فيقبله، فكثرت أمواله، ولبس الثياب الناعمة، وجرت له أمور، وكثرت أتباعه، وأظهر أنه يريد الغزو فاتبعه نفر كثير، فعسكر بظاهر البلد، وكان يضرب له الطبل في أوقات الصلوات وسار إلى ناحية أذربيجان، فالتف عليه خلق كثير، وضاها أمير تلك الناحية، وكانت وفاته هنالك في هذه السنة.

قال الخطيب: وقد حدث ببغداد وكتبت عنه أحاديث يسيرة، وحدثني بعض أصحابنا عنه بشيء يدل على ضعفه، وأنشد هو لبعضهم:

إذا ما أطعت النفس في كل لذة ** نسبت إلى غير الحجى والتكرم

إذا ما أجبت الناس في كل دعوة ** دعتك إلى الأمر القبيح المحرم

المظفر بن الحسين ابن عمر بن برهان

[عدل]

أبو الحسن الغزال، سمع محمد بن المظفر وغيره، وكان صدوقا.

محمد بن علي بن إبراهيم

[عدل]

أبو الخطاب الحنبلي الشاعر، من شعره قوله:

ما حكم الحب فهو ممتثل ** وما جناه الحبيب محتمل

يهوى ويشكو الضنى وكل هوى ** لا ينحل الجسم فهو منتحل

وقد سافر إلى الشام فاجتاز بمعرة النعمان فامتدحه أبو العلاء المعري بأبيات، فأجابه مرتجلا عنها.

وقد كان حسن العينين حين سافر، فما رجع إلى بغداد إلا وهو أعمى.

توفي في ذي القعدة منها، ويقال: إنه كان شديد الرفض فالله أعلم.

الشيخ أبو علي السنجي

[عدل]

الحسين بن شعيب بن محمد شيخ الشافعية في زمانه، أخذ عن أبي بكر القفال، وشرح (الفروع) لابن الحداد، وقد شرحها قبله شيخه، وقبله القاضي أبو الطيب الطبري، وشرح أبو علي السنجي كتاب (التلخيض) لابن القاص شرحا كبيرا، وله كتاب (المجموع)، ومنه أخذ الغزالي في (الوسيط).

قال ابن خلكان: وهو أول من جمع بين طريقة العراقيين والخراسانيين.

توفي سنة بضع وثلاثين وأربعمائة.

ثم دخلت سنة أربعين وأربعمائة

[عدل]

في هذه السنة توفي الملك أبو كاليجار في جمادى الأولى منها، صاحب بغداد، مرض وهو في برية، ففصد في يوم ثلاث مرات، وحمل في محفة فمات ليلة الخميس، ونهبت الغلمان الخزائن، وأحرق الجواري الخيام، سوى الخيمة التي هو فيها، وولي بعده ابنه أبو نصر، وسموه الملك الرحيم، ودخل دار الخلافة فخلع عليه الخليفة سبع خلع، وسوره وطوقه وجعل على رأسه التاج والعمامة السوداء، ووصاه الخليفة، ورجع إلى داره وجاء الناس ليهنئوه.

وفيها: دار السور على شيراز، وكان دوره اثني عشر ألف ذراع، وارتفاعه ثمانية أذرع، وعرضه ستة أزرع، وفيه أحد عشر بابا.

وفيها: غزا إبراهيم بن ينال بلاد الروم فغنم مائة ألف رأس، وأربعة آلاف درع، وقيل: تسع عشرة ألف درع، ولم يبق بينه وبين القسطنطينية إلا خمسة عشر يوما، وحمل ما غنم على عشرة آلاف عجلة.

وفيها: خطب لذخيرة الدين أبي العباس أحمد بن الخليفة القائم بأمر الله على المنابر بولاية العهد بعد أبيه، وحيى بذلك.

وفيها: اقتتل الروافض والسنة، وجرت ببغداد فتن يطول ذكرها.

ولم يحج أحد من أهل العراق.

من الأعيان:

الحسن بن عيسى بن المقتدر

[عدل]

أبو محمد العباسي، ولد في المحرم سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وسمع من مؤدبه أحمد بن منصور السكري، وأبي الأزهر عبد الوهاب الكاتب، وكان فاضلا دينا، حافظا لأخبار الخلفاء، عالما بأيام الناس صالحا، أعرض عن الخلافة مع قدرته عليها، وآثر بها القادر.

توفي فيها عن سبع وتسعين سنة، وأوصى أن يدفن بباب حرب، فدفن قريبا من قبر الإمام أحمد بن حنبل.

هبة الله بن عمر بن أحمد بن عثمان

[عدل]

أبو القاسم الواعظ المعروف بابن شاهين، سمع من أبي بكر بن ملك، وابن ماسي والبرقاني.

قال الخطيب: كتبت عنه وكان صدوقا، ولد في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، وتوفي في ربيع الآخر منها، ودفن بباب حرب.

علي بن الحسن ابن محمد بن المنتاب أبو محمد القاسم

[عدل]

المعروف بابن أبي عثمان الدقاق.

قال الخطيب: سمع القطيعي وغيره، وكان شيخا صالحا، صدوقا دينا، حسن المذهب.

محمد بن جعفر بن أبي الفرج

[عدل]

الوزير الملقب بذي السعادات، وزر لأبي كاليجار بفارس وبغداد، وكان ذا مروءة غزيرة، مليح الشعر والترسل.

ومن محاسنه أنه كتب إليه في رجل مات عن ولد له ثمانية أشهر وله من المال ما يقارب مائة ألف دينار، فكتب إليه الموصي، وقيل غيره: إن فلانا قد مات وخلف ولدا عمره ثمانية أشهر، وله من المال ما يقارب مائة ألف دينار، فإن رأى الوزير أن يقترض هذا المال إلى حين بلوغ الطفل.

فكتب الوزير على ظهر الورقة: المتوفى رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله، ولا حاجة بنا إلى مال الأيتام.

اعتقل ثم قتل في رمضان منها، عن إحدى وخمسين سنة.

محمد بن أحمد بن إبراهيم ابن غيلان

[عدل]

بن عبد الله بن غيلان بن حليم بن غيلان، أخو طالب البزار، يروي عن جماعة وهو آخر من حدث عن أبي بكر الشافعي، كان صدوقا دينا صالحا، قوي النفس على كبر السن، كان يملك ألف دينار، وكان يصبها كل يوم في حجره فيقبلها ثم يردها إلى موضعها، وقد خرج له الدارقطني الأجزاء الغيلانيات، وهي سماعنا.

توفي يوم الاثنين سادس شوال منها، عن أربع وتسعين سنة، ويقال: إنه بلغ المائة والله أعلم.

الملك أبو كاليجار

[عدل]

واسمه المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة، توفي عن أربعين سنة وأشهر، ولي العراق نحوا من أربع سنين، ونهبت له قلعة كان له فيها من المال ما يزيد عن ألف ألف دينار، وقام بالأمر من بعده ابنه الملك الرحيم أبو نصر.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وأربعمائة

[عدل]

في عاشر المحرم تقدم إلى أهل الكرخ أن لا يعملوا بدع النوح، فجرى بينهم وبين أهل باب البصرة ما يزيد على الحد من الجراح والقتل، وبنى أهل الكرخ سورا على الكرخ، وبنى أهل السنة سورا على سوق القلائين، ثم نقض كل من الفريقين أبنيته، وحملوا الآجر إلى مواضع بالطبول والمزامير، وجرت بينهم مفاخرات في ذلك، وسخف لا تنحصر ولا تنضبط، وإنشاد أشعار في فضل الصحابة وثلبهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم وقعت بينهم فتن يطول ذكرها، وأحرقوا دورا كثيرة جدا.

وفيها: وقعت وحشة بين الملك طغرلبك وبين أخيه، فجمع أخوه جموعا كثيرة فاقتتل هو وأخوه طغرلبك، ثم أسره من قلعة قد تحصن بها بعد محاصرة أربعة أيام، فاستنزله منها مقهورا، فأحسن إليه وأكرمه، وأقام عنده مكرما.

وكتب ملك الروم إلى طغرلبك في فداء بعض ملوكهم ممن كان أسره إبراهيم بن ينال، وبذل له مالا كثيرا، فبعثه إليه مكرما من غير عوض، اشترط عليه فأرسل إليه ملك الروم هدايا كثيرة، وأمر بعمارة المسجد الذي بالقسطنطينية، وأقيمت فيه الصلاة والجمعة، وخطب فيه للملك طغرلبك، فبلغ هذا الأمر العجيب سائر الملوك فعظموا الملك طغرلبك تعظيما زائدا، وخطب له نصر الدولة بالجزيرة.

وفيها: ولي مسعود بن مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين الملك بعد وفاة أبيه، وكان صغيرا، فمكث أياما ثم عدل عنه إلى عمه علي بن مسعود، وهذا أمر غريب جدا.

وفيها: ملك المصريون مدينة حلب وأجلوا عنها صاحبها ثمال بن صالح بن مرداس.

وفيها: كان بين البساسيري وبين بني عقيل حرب.

وفيها: ملك البساسيري الأنبار من يد قرواش فأصلح أمورها.

وفي شعبان منها سار البساسير إلى طريق خراسان وقصد ناحية الدوران وملكها، وغنم مالا كثيرا كان فيها، وقد كان سعدى بن أبي الشوك قد حصنها.

قال ابن الجوزي: في ذي الحجة منها ارتفعت سحابة سوداء فزادت على ظلمة الليل، وظهر في جوانب السماء كالنار المضيئة، فانزعج الناس وخافوا وأخذوا في الدعاء والتضرع، فانكشف في أثناء الليل بعد ساعة، وكانت قد هبت ريح شديدة جدا قبل ذلك، فأتلفت شيئا كثيرا من الأشجار، وهدمت رواشن كثيرة في دار الخلافة ودار المملكة.

ولم يحج أحد من أهل العراق.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن محمد بن منصور أبو الحسن المعروف بالعتيقي

[عدل]

نسبة إلى جد له كان يسمى عتيقا، سمع من ابن شاهين وغيره، وكان صدوقا.

توفي في صفر منها وقد جاوز التسعين.

علي بن الحسن أبو القاسم العلوي

[عدل]

ويعرف بابن محي السنة.

قال الخطيب: سمع من ابن مظفر وكتب عنه، وكان صدوقا دينا حسن الاعتقاد، يورق بالأجرة ويأكل منه، ويتصدق.

توفي في رجب منها وقد جاوز الثمانين.

عبد الوهاب بن القاضي الماوردي

[عدل]

يكنى أبا الفائر، شهد عند ابن ماكولا في سنة إحدى وثلاثين فأجاز شهادته احتراما لأبيه، توفي في المحرم منها.

الحافظ أبو عبد الله الصوري

[عدل]

محمد بن علي بن عبد الله بن محمد أبو عبد الله الصوري الحافظ، طلب الحديث بعد ما كبر وأسن، ورحل في طلبه إلى الآفاق، وكتب الكثير وصنف واستفاد على الحافظ عبد الغني المصري، وكتب عن عبد الغني شيئا من تصانيفه، وكان من أعظم أهل الحديث، همه في الطلب وهو شاب ثم كان من أقوى الناس على العمل الصالح عزيمة في حال كبره، كان يسرد الصوم إلا يومي العيدين وأيام التشريق، وكان مع ذلك حسن الخلق جميل المعاشرة، وقد ذهبت إحدى عينيه، وكان يكتب بالأخرى المجلد في جزء.

قال أبو الحسن الطيوري: يقال: إن عامة كتب الخطيب سوى التاريخ مستفادة من كتب أبي عبد الله الصوري، كان قد مات الصوري وترك كتبه اثني عشر عدلا عند أخيه، فلما صار الخطيب أعطاه أخاه شيئا وأخذ بعض تلك الكتب فحولها في كتبه، ومن شعره:

تولى الشباب بريعانه ** وأتى المشيب بأحزانه

فقلبي لفقدان ذا مؤلم ** كئيب لهذا ووجدانه

وإن كان ما جار في حكمه ** ولا جاء في غير إبانه

ولكن أتى مؤذنا بالرحيـ ** ـل فويلي من قرب إيذانه

ولولا ذنوب تحملتها ** لما راعني إتيانه

ولكن ظهري ثقيل بما ** جناه شبابي بطغيانه

فمن كان يبكي شبابا مضى ** ويندب طيب زمانه

فليس بكائي وما قد ترو ** ن مني لوحشة فقدانه

ولكن لما كان قد جره ** علي بوثبات شيطانه

فويلي وويحي إن لم يجد ** على مليكي برضوانه

ولم يتغمد ذنوبي وما قد ** جنيت برحمته وغرانه

ويجعل مصيري إلى جنة ** يحل بها أهل رضوانه وغفرانه

فإن كنت مالي من طاعة ** سوى حسن ظني بإحسانه

وإني مقر بتوحيده ** عليم بعزة سلطانه

أخالف في ذاك أهل الهوى ** وأهل الفسوق وعدوانه

وأرجو به الفوز في منزل ** معد مهيأ لسكانه

ولن يجمع الله أهل الجحو ** د ومن أقر بنيرانه

فهذا ينجيه إيمانه ** وهذا يبوء بخسرانه

وهذا ينعم في جنة ** وذاك قرين لشيطانه

ومن شعره أيضا:

قل لمن عاند الحديث وأضحى ** عائبا أهله ومن يدعيه

أبعلم تقول هذا ابن لي ** أم بجهل فالجهل خلق السفيه

أيعاب الذين هم حفظوا الد ** ين من الترهات والتمويه

وإلى قولهم وما قد رووه ** راجع كل عالم وفقيه

كان سبب موته أنه افتصد فورمت يده، وعلى ما ذكر أن ريشة الفاصد كانت مسمومة لغيره فغلط ففصده بها، فكانت فيها منيته، فحمل إلى المارستان فمات به، ودفن بمقبرة جامع المدينة، وقد نيف على الستين رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة

[عدل]

فيها: فتح السلطان طغرلبك أصبهان بعد حصار سنة، فنقل إليها حواصله من الري وجعلها دار إقامته، وخرب قطعة من سورها، وقال: إنما يحتاج إلى السور من تضعف قوته، وإنما حصنني عساكري وسيفي، وقد كان فيها أبو منصور قرامز بن علاء الدولة أبي جعفر بن كالويه، فأخرجه منها وأقطعه بعض بلادها.

وفيها: سار الملك الرحيم إلى الأهواز وأطاعه عسكر فارس.

وفيها: استولت الخوارج على عمان وأخربوا دار الإمارة، وأسروا أبا المظفر بن أبي كاليجار.

وفيها: دخلت العرب بإذن المستنصر الفاطمي بلاد إفريقية، وجرت بينهم وبين المعز بن باديس حروب طويلة، وعاثوا في الأرض فسادا عدة سنين.

وفيها: اصطلح الروافض والسنة ببغداد، وذهبوا كلهم لزيارة مشهد علي ومشهد الحسين، وترضوا في الكرخ على الصحابة كلهم، وترحموا عليهم وهذا عجيب جدا، إلا أن يكون من باب التقية، ورخصت الأسعار ببغداد جدا.

ولم يحج أحد من أهل العراق.

من الأعيان:

علي بن عمر بن الحسن أبو الحسن الحربي المعروف بالقزويني

[عدل]

ولد في مستهل المحرم في سنة ستين وثلاثمائة، وهي الليلة التي مات فيها أبو بكر الآجري، وسمع أبا بكر بن شاذان وأبا حفص بن حيويه، وكان وافر العقل من كبار عباد الله الصالحين، له كرامات كثيرة، وكان يقرأ القرآن ويروي الحديث، ولا يخرج إلا إلى الصلاة.

توفي في شوال منها، فغلقت بغداد لموته يومئذ، وحضر الناس جنازته، وكان يوما مشهودا رحمه الله.

عمر بن ثابت الثمانيني

[عدل]

النحوي الضرير، شارح اللمع، كان في غاية العلم بالنحو، وكان يأخذ عليه.

وذكر ابن خلكان: أنه اشتغل على ابن جني، وشرح كلامه، وكان ماهرا في صناعة النحو، قال: ونسبته إلى قرية من نواحي جزيرة ابن عمر عند الجبل الجودي، يقال لها: ثمانين، باسم الثمانين الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة.

قرواش بن مقلد

[عدل]

أبو المنيع، صاحب الموصل والكوفة وغيرها، كان من الجبارين، وقد كاتبه الحاكم صاحب مصر في بعض الأحيان فاستماله إليه، فخطب له ببلاده ثم تركه، واعتذر إلى الخليفة فعذره، وقد جمع هذا الجبار بين أختين في النكاح ولامته العرب، فقال: وأي شيء عملته؟ إنما عملت ما هو مباح في الشريعة.

وقد نكب في أيام المعز الفاطمي ونهبت حواصله، وحين توفي قام بالأمر بعده ابن أخيه قريش بن بدران بن مقلد.

مودود بن مسعود

[عدل]

ابن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، توفي فيها وقام بالأمر من بعده عمه عبد الرشيد بن محمود.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة

[عدل]

في صفر منها وقع الحرب بين الروافض والسنة، فقتل من الفريقين خلق كثير، وذلك أن الروافض نصبوا أبراجا وكتبوا عيها بالذهب: محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبى فقد كفر، فأنكرت السنة إقران علي مع محمد في هذا، فنشبت الحرب بينهم، واستمر القتال بينهم إلى ربيع الأول، فقتل رجل هاشمي فدفن عند الإمام أحمد، ورجع السنة من دفنه فنهبوا مشهد موسى بن جعفر، وأحرقوا ضريح موسى، ومحمد الجواد، وقبور بنى بوية، وقبور من هناك من الوزراء.

وأحرق قبر جعفر بن المنصور، ومحمد الأمين، وأمه زبيدة، وقبور كثيرة جدا.

وانتشرت الفتنة وتجاوزوا الحدود، وقد قابلهم أولئك الرافضة أيضا بمفاسد كثيرة، وبعثروا قبورا قديمة، وأحرقوا من فيها من الصالحين، حتى هموا بقبر الإمام أحمد، فمنعهم النقيب، وخاف من غائلة ذلك، وتسلط على الرافضة عيار يقال له: القطيعي، وكان يتبع رؤسهم وكبارهم فيقتلهم جهارا وغيلة، وعظمت المحنة بسببه جدا، ولم يقدر عليه أحد، وكان في غاية الشجاعة والبأس والمكر.

ولما بلغ ذلك دبيس بن علي بن مزيد - وكان رافضيا - قطع خطبة الخليفة، ثم روسل فأعادها.

وفي رمضان منها جاءت من الملك طغرلبك رسل شكر للخليفة على إحسانه إليه بما كان بعثه له من الخلع والتقليد، وأرسل إلى الخليفة بعشرين ألف دينار، وإلى الحاشية بخمسة آلاف، وإلى رئيس الرؤساء بألفي دينار، وقد كان طغرلبك حين عمر الري وخرب فيها أماكن وجد فيها دفائن كثيرة من الذهب والجوهر، فعظم شأنه بذلك، وقوي ملكه بسببه.

من الأعيان:

محمد بن محمد بن أحمد أبو الحسن الشاعر البصروي

[عدل]

نسبة إلى قرية دون عكبرا يقال لها: بصرى، باسم المدينة التي هي أم حوران، وقد سكن بغداد، وكان متكلما مطبوعا، له نوادر، ومن شعره قوله:

نرى الدنيا وشهوتها فنصبوا ** وما يخلو من الشهوات قلب

فلا يغررك زخرف ما تراه ** وعيش لين الأعطاف رطب

فضول العيش أكثرها هموم ** وأكثر ما يضرك ما تحب

إذا ما بلغة جاءتك عفوا ** فخذها فالغنى مرعى وشرب

إذا اتفق القليل وفيه سلم ** فلا ترد الكثير وفيه حرب

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وأربعمائة

[عدل]

فيها: كتبت تذكرة الخلفاء المصريين وأنهم أدعياء كذبة لا نسب لهم صحيحة إلى رسول الله ، نسخا كثيرة، وكتب فيها الفقهاء والقضاة والأشراف.

وفيها: كانت زلازل عظيمة في نواحي أرجان والأهواز وتلك البلاد، تهدم بسببها شيء كثير من العمران وشرفات القصور، وحكى بعض من يعتد قوله: أنه انفرج إيوانه وهو يشاهد ذلك، حتى رأى السماء منه ثم عاد إلى حاله لم يتغير.

وفي ذي القعدة منها تجددت الحرب بين أهل السنة والروافض، وأحرقوا أماكن كثيرة، وقتل من الفريقين خلائق، وكتبوا على مساجدهم: محمد وعلي خير البشر، وأذنوا بحي على خير العمل، واستمرت الحرب بينهم، وتسلط القطيعي العيار على الروافض، بحيث كان لا يقر لهم معه قرار، وهذا من جملة الأقدار.

وفيها توفي من الأعيان:

الحسن بن علي ابن محمد بن علي بن أحمد بن وهب بن شنبل بن قرة بن واقد

[عدل]

أبو علي التميمي الواعظ، المعروف بابن المذهب، ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وسمع مسند الإمام أحمد من أبي بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن الإمام أحمد، عن أبيه، وقد سمع الحديث من أبي بكر بن ماسي وابن شاهين والدارقطني وخلق.

وكان دينا خيرا، وذكر الخطيب أنه كان صحيح السماع لمسند أحمد من القطيعي غير أنه ألحق اسمه في أجزاء.

قال ابن الجوزي: وليس هذا بقدح في سماعه، لأنه إذا تحقق سماعه جاز أن يلحق اسمه فيما تحقق سماعه له، وقد عاب عليه الخطيب أشياء لا حاجة إليها.

علي بن الحسين ابن محمد، أبو الحسن المعروف بالشاشي البغدادي

[عدل]

وقد أقام بالبصرة واستحوذ هو وعمه على أهلها، وعمل أشياء من الحيل يوهم بها أنه من ذوي الأحوال والمكاشفات، وهو في ذلك كاذب قبحه الله وقبح عمه، وقد كان مع هذا رافضيا خبيثا قرمطيا.

توفي في هذا العام، فلله الحمد والشكر والإنعام.

القاضي أبو جعفر محمد بن أحمد بن أحمد، أبو جعفر السمناني القاضي

[عدل]

أحد المتكلمين على طريقة الشيخ أبي الحسن الأشعري، وقد سمع الدارقطني وغيره، كان عالما فاضلا سخيا، تولى القضاء بالموصل، وكان له في داره مجلس للمناظرة، وتوفي لما كف بصره بالموصل وهو قاضيها، في ربيع الأول منها وقد بلغ خمسا وثمانين سنة، سامحه الله.

ثم دخلت سنة خمس وأربعين وأربعمائة

[عدل]

فيها: تجدد الشر والقتال والحريق بين السنة والروافض، وسرى الأمر وتفاقم الحال.

وفيها: وردت الأخبار بأن المعز الفاطمي عازم على قصد العراق.

وفيها: نقل إلى الملك طغرلبك أن الشيخ أبا الحسن الأشعري يقول بكذا وكذا، وذكر بشيء من الأمور التي لا تليق بالدين والسنة، فأمر بلعنه، وصرح أهل نيسابور بتكفير من يقول ذلك، فضج أبو القاسم القشيري عبد الكريم بن هوازن من ذلك، وصنف رسالة في شكاية أهل السنة لما نالهم من المحنة، واستدعى السلطان جماعة من رؤس الأشاعرة منهم القشيري فسألهم عما أنهي إليه من ذلك، فأنكروا ذلك، وأن يكون الأشعري قال ذلك.

فقال السلطان: نحن إنما لعنا من يقول هذا.. وجرت فتنة عظيمة طويلة.

وفيها: استولى فولا بسور الملك أبي كاليجار على شيراز، وأخرج منها أخاه أبا سعد، وفي شوال سار البساسيري إلى أكراد وأعراب أفسدوا في الأرض فقهرهم وأخذ أموالهم.

ولم يحج فيها أحد من أهل العراق.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن عمر بن روح

[عدل]

أبو الحسن النهرواني، وكان ينظر في العيار بدار الضرب، وله شعر حسن، قال: كنت يوما على شاطئ النهروان فسمعت رجلا يتغنى في سفينة منحدرة يقول:

وما طلبوا سوى قتلي ** فهان عليّ ما طلبوا

قال: فاستوقفته وقلت: أضف إليه غيره.

فقال:

على قتلي الأحبـ **ـة في التمادي، بالجفا غلبوا

وبالهجران من عيني ** طيب النوم قد سلبوا

وما طلبوا سوى قتلي ** فهان عليّ ما طلبوا

إسماعيل بن علي ابن الحسين بن محمد بن زنجويه

[عدل]

أبو سعيد الرازي، المعروف بالسمان، شيخ المعتزلة، سمع الحديث الكثير وكتب عن أربعة آلاف شيخ.

وكان عالما عارفا فاضلا مع اعتزاله، ومن كلامه: من لم يكتب الحديث لم يتغرغر بحلاوة الإسلام.

وكان حنفي المذهب عالما بالخلاف والفرائض والحساب وأسماء الرجال، وقد ترجمه ابن عساكر في (تاريخه) فأطنب في شكره والثناء عليه.

عمر بن الشيخ أبي طالب المكي

[عدل]

محمد بن علي بن عطية، سمع أباه وابن شاهين، وكان صدوقا يكنى بأبي جعفر.

محمد بن أحمد ابن عثمان بن الفرج الأزهر

[عدل]

أبو طالب المعروف بابن السوادي، وهو أخو أبي القاسم الأزهري توفي عن نيف وثمانين سنة.

محمد بن أبي تمام الزينبي

[عدل]

نقيب النقباء، قام ببغداد بعد أبيه مقامه بالنقابة.

ثم دخلت سنة ست وأربعين وأربعمائة

[عدل]

فيها: غزا السلطان طغرلبك بلاد الروم بعد أخذه بلاد أذربيجان، فغنم من بلاد الروم وسبى وعمل أشياء حسنة، ثم عاد سالما فأقام بأذربيجان سنة.

وفيها: أخذ قريش بن بدران الأنبار، وخطب بها وبالموصل لطغرلبك، وأخرج منها نواب البساسيري.

وفيها: دخل البساسيري بغداد مع بني خفاجة منصرفة من الوقعة، وظهرت منه آثار النفرة للخلافة، فراسله الخليفة لتطيب نفسه، وخرج في ذي الحجة إلى الأنبار فأخذها، وكان معه دبيس بن علي بن مزيد، وخرب أماكن وحرق غيرها ثم أذن له الخليفة في الدخول إلى بيت النوبة ليخلع عليه، فجاء إلى أن حاذى بيت النوبة فقبل الأرض وانصرف إلى منزله، ولم يعبر، فقويت الوحشة.

ولم يحج أحد من أهل العراق فيها.

من الأعيان:

الحسين بن جعفر بن محمد ابن داود أبو عبد الله السلماسي

[عدل]

سمع ابن شاهين وابن حيويه والدارقطني، وكان ثقة مأمونا مشهورا باصطناع المعروف، وفعل الخير، وافتقاد الفقراء، وكثرة الصدقة، وكان قد أريد على الشهادة فأبى ذلك، وكان له في كل شهر عشرة دنانير نفقة لأهله.

عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن أبو عبد الله الأصبهاني

[عدل]

المعروف بابن اللبان، أحد تلامذة أبي حامد الإسفرايني، ولي قضاء الكرخ، وكان يصلي بالناس التراويح، ثم يقوم بعد انصرافهم فيصلي إلى أن يطلع الفجر، وربما انقضى الشهر عنه ولم يضطجع إلى الأرض رحمه الله.

ثم دخلت سنة سبع وأربعين وأربعمائة

[عدل]

فيها: ملك طغرلبك بغداد، وهو أول ملوك السلجوقية، ملكها وبلاد العراق.

وفيها: تأكدت الوحشة بين الخليفة والبساسيري، واشتكت الأتراك منه، وأطلق رئيس الرؤساء عبارته فيه، وذكر قبيح أفعاله، وأنه كاتب المصريين بالطاعة، وخلع ما كان عليه من طاعة العباسيين وقال الخليفة: وليس إلا إهلاكه.

وفيها: غلت الأسعار بنواحي الأهواز حتى بيع الكر بشيراز بألف دينار.

وفيها: وقعت الفتنة بين السنة والرافضة على العادة، فاقتتلوا قتالا مستمرا، ولا تمكن الدولة أن يحجزوا بين الفريقين.

وفيها: وقعت الفتنة بين الأشاعرة والحنابلة، فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة، بحيث إنه كان ليس لأحد من الأشاعرة أن يشهد الجمعة ولا الجماعات.

قال الخطيب: كان أرسلان التركي المعروف بالبساسيري قد أعظم أمره واستفحل، لعدم أقرانه من مقدمي الأتراك واستولى على البلاد وطار اسمه، وخافته أمراء العرب والعجم، ودعي له على كثير من المنابر العراقية والأهواز ونواحيها، ولم يكن للخليفة قطع ولا وصل دونه، ثم صح عند الخليفة سوء عقيدته، وشهد عنده جماعة من الأتراك أنه عازم على نهب دار الخلافة، وأنه يريد القبض على الخليفة.

فعند ذلك كاتب الخليفة محمد بن ميكائيل بن سلجوق الملقب طغرلبك يستنهضه على المسير إلى العراق، فانفض أكثر من كان مع البساسيري وعادوا إلى بغداد سريعا، ثم أجمع رأيهم على قصد دار البساسيري وهي في الجانب الغربي فأحرقوها، وهدموا أبنيتها.

ووصل السلطان طغرلبك إلى بغداد في رمضان سنة سبع وأربعين، وقد تلقاه إلى أثناء الطريق الأمراء والوزراء والحجاب، ودخل بغداد في أبهة عظيمة جدا، وخطب له بها ثم بعده للملك الرحيم، ثم قطعت خطبة الملك الرحيم، ورفع إلى القلعة معتقلا عليه، وكان آخر ملوك بني بويه، وكانت مدة ولايتهم قريب المائة والعشر سنين، وكان ملك الملك الرحيم لبغداد ست سنين وعشرة أيام.

ونزل طغرلبك دار المملكة بعد الفراغ من عمارتها، ونزل أصحابه دور الأتراك وكان معه ثمانية أفيلة، ووقعت الفتنة بين الأتراك والعامة، ونهب الجانب الشرقي بكماله، وجرت خبطة عظيمة.

وأما البساسيري فإنه فرّ من الخليفة إلى بلاد الرحبة وكتب إلى صاحب مصر بأنه على إقامة الدعوى له بالعراق، فأرسل إليه بولاية الرحبة ونيابته بها، ليكون على أهبة الأمر الذي يريد.

وفي يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة قلد أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني قضاء القضاة، وخلع عليه به، وذلك بعد موت ابن ماكولا، ثم خلع الخليفة على الملك طغرلبك بعد دخوله بغداد بيوم، ورجع إلى داره وبين يديه الدبادب والبوقات.

وفي هذا الشهر توفي ذخيرة الدين أبو العباس محمد بن الخليفة القائم بأمر الله، وهو ولي عهد أبيه فعظمت الرزية به.

وفيها: استولى أبو كامل علي بن محمد الصليحي الهمداني على أكثر أعمال اليمن، وخطب للفاطميين، وقطع خطبة العباسيين.

وفيها: كثر فساد الغز ونهبوا دواب الناس حتى بيع الثور بخمسة قراريط.

وفيها: اشتد الغلاء بمكة وعدمت الأقوات، وأرسل الله عليهم جرادا فتعوضوا به عن الطعام.

ولم يحج أحدا من أهل العراق.

من الأعيان:

الحسن بن علي ابن جعفر بن علي بن محمد بن دلف بن أبي دلف العجلي

[عدل]

قاضي القضاة، المعروف بابن ماكولا الشافعي

وقد ولي القضاء بالبصرة، ثم ولي قضاء القضاة ببغداد سنة عشرين وأربعمائة في خلافة المقتدر، وأقره ابنه القائم إلى أن مات في هذه السنة عن تسع وسبعين سنة، منها في القضاء سبع وعشرون سنة.

وكان صينا دينا لا يقبل من أحد هدية ولا من الخليفة، وكان يذكر أنه سمع من أبي عبد الله بن منده، وله شعر حسن فمنه:

تصابى برهة من بعد شيب ** فما أغنى المشيب عن التصابي

وسود عارضيه بلون خضب ** فلم ينفعه تسويد الخضاب

وأبدى للأحبة كل لطف ** فما زادوا سوى فرط اجتناب

سلام الله عودا بعد بدئ ** على أيام رعيان الشباب

تولى عزمه يوما وأبقى ** بقلبي حسرة ثم اكتئاب

علي بن المحسن بن علي ابن محمد بن أبي الفهم أبو القاسم التنوخي

[عدل]

قال ابن الجوزي: وتنوخ اسم لعدة قبائل اجتمعوا بالبحرين، وتحالفوا على التناصر والتآزر، فسموا تنوخا.

ولد بالبصرة سنة خمسة وخمسين وثلاثمائة، وسمع الحديث سنة سبعين، وقبلت شهادته عند الحكام في حداثته، وولي القضاء بالمدائن وغيرها، وكان صدوقا محتاطا، إلا أنه كان يميل إلى الاعتزال والرفض.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وأربعمائة

[عدل]

في يوم الخميس لثمان بقين من المحرم عقد الخليفة على خديجة بنت أخي السلطان طغرلبك على صداق مائة ألف دينار، وحضر هذا العقد عميد الملك الكندري، وزير طغرلبك، وبقية العلويين وقاضي القضاة الدامغاني والماوردي، ورئيس الرؤساء ابن المسلمة.

فلما كان شعبان ذهب رئيس الرؤساء إلى الملك طغرلبك وقال له: أمير المؤمنين يقول لك: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 8 وقد أمرني أن أنقل الوديعة إلى داره العزيزة.

فقال: السمع والطاعة.

فذهبت أم الخليفة لدار الملك لاستدعاء العروس، فجاءت معها وفي خدمتها الوزير عميد الملك والحشم، فدخلوا داره وشافه الوزير الخليفة عن عمها وسأله اللطف بها والإحسان إليها، فلما دخلت إليه قبلت الأرض مرارا بين يديه، فأدناها إليه وأجلسها إلى جانبه، وأفاض عليها خلعا سنية وتاجا من جوهر ثمين، وأعطاها من الغد مائة ثوب ديباجا وقصبات من ذهب، وطاسة ذهب قد نبت فيها الجوهر والياقوت والفيروزج، وأقطعها في كل سنة من ضياعه ما يغل اثنا عشر ألف دينار وغير ذلك.

وفيها: أمر السلطان طغرلبك ببناء دار الملك العضدية فخربت محال كثيرة في عمارتها، ونهبت العامة أخشابا كثيرة من دور الأتراك، والجانب الغربي، وباعوه على الخبازين والطباخين وغيرهم.

وفيها: رجع غلاء شديد على الناس وخوف ونهب كثير ببغداد، ثم أعقب ذلك فناء كثير بحيث دفن كثير من الناس بغير غسل ولا تكفين، وغلت الأشربة وما تحتاج إليه المرضى كثيرا، واعترى الناس موت كثير، واغبر الجو وفسد الهواء.

قال ابن الجوزي: وعم هذا الوباء والغلاء مكة والحجاز وديار بكر والموصل وبلاد بكر وبلاد الروم وخراسان والجبال والدنيا كلها.

هذا لفظه في (المنتظم).

قال: وورد كتاب من مصر أن ثلاثة من اللصوص نقبوا بعض الدور فوجدوا عند الصباح موت أحدهم على باب النقب، والثاني على رأس الدرجة، والثالث على الثياب التي كورها ليأخذها فلم يمهل.

وفيها: أمر رئيس الرؤساء بنصب أعلام سود في الكرخ، فانزعج أهلها لذلك، وكان كثير الأذية للرافضة، وإنما كان يدافع عنهم عميد الملك الكندري، وزير طغرلبك.

وفيها: هبت ريح شديدة وارتفعت سحابة ترابية وذلك ضحى، فأظلمت الدنيا، واحتاج الناس في الأسواق وغيرها إلى السرج.

قال ابن الجوزي: وفي العشر الثاني من جمادى الآخرة ظهر وقت السحر كوكب له ذؤابة طولها في رأي العين نحو من عشرة أذرع، وفي عرض نحو الذراع، ولبث كذلك إلى النصف من رجب، ثم اضمحل.

وذكروا أنه طلع مثله بمصر فملكت وخطب بها للمصريين.

وكذلك بغداد لما طلع فيها ملكت وخطب بها للمصريين.

وفيها: ألزم الروافض بترك الأذان بحي على خير العمل، وأمروا أن ينادي مؤذنهم في أذان الصبح، بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم، مرتين، وأزيل ما كان على أبواب المساجد ومساجدهم من كتابة: محمد وعلي خير البشر، ودخل المنشدون من باب البصرة إلى باب الكرخ، ينشدون بالقصائد التي فيها مدح الصحابة، وذلك أن نوء الرافضة اضمحل، لأن بني بويه كانوا حكاما، وكانوا يقوونهم وينصرونهم، فزالوا وبادوا، وذهبت دولتهم.

وجاء بعدهم قوم آخرون من الأتراك السلوجوقية الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم، والله المحمود أبدا على طول المدى.

وأمر رئيس الرؤساء الوالي بقتل أبي عبد الله بن الجلاب شيخ الروافض، لما كان تظاهر به من الرفض والغلو فيه، فقتل على باب دكانه، وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره.

وفيها: جاء البساسيري قبحه الله إلى الموصل ومعه نور الدولة دبيس في جيش كثيف، فاقتتل مع صاحبها قريش ونصره قتلمش بن عم طغرلبك، وهو جد ملوك الروم فهزمهما البساسيري، وأخذ البلد قهرا، فخطب بها للمصريين، وأخرج كاتبه من السجن، وقد كان أظهر الإسلام ظنا منه أنه ينفعه، فلم ينفعه فقتل، وكذلك خطب للمصريين فيها بالكوفة وواسط وغيرها من البلاد.

وعزم طغرلبك على المسير إلى الموصل لمناجزة البساسيري فنهاه الخليفة عن ذلك لضيق الحال وغلاء الأسعار، فلم يقبل فخرج بجيشه قاصدا الموصل بجحافل عظيمة، ومعه الفيلة والمنجنيقات، وكان جيشه لكثرتهم ينهبون القرى، وربما سطوا على بعض الحريم، فكتب الخليفة إلى السلطان ينهاه عن ذلك، فبعث إليه يعتذر لكثرة من معه، واتفق أنه رأى رسول الله في المنام فسلم عليه فأعرض عنه، فقال: يا رسول الله لأي شيء تعرض عني؟

فقال: يحكمك الله في البلاد ثم لا ترفق بخلقه ولا تخاف من جلال الله عز وجل.

فاستيقظ مذعورا وأمر وزيره أن ينادي في الجيش بالعدل، وأن لا يظلم أحد أحدا.

ولما اقترب من الموصل فتح دونها بلادا، ثم فتحها وسلمها إلى أخيه داود، ثم سار منها إلى بلاد بكر ففتح أماكن كثيرة هناك.

وفيها: ظهرت دولة الملثمين في بلاد المغرب، وأظهروا إعزاز الدين وكلمة الحق، واستولوا على بلاد كثيرة منها سجلماسة وأعمالها والسوس، وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها، وأول ملوك الملثمين رجل يقال له: أبو بكر بن عمر، وقد أقام بسجلماسة إلى أن توفي سنة ثنتين وستين كما سيأتي بيانه.

ثم ولي بعده أبو نصر يوسف بن تاشفين، وتلقب بأمير المؤمنين، وقوي أمره، وعلا قدره ببلاد المغرب.

وفيها: ألزم أهل الذمة بلبس الغيار ببغداد، عن أمر السلطان.

وفيها: ولد لذخيرة الدين بعد موته من جارية له ولدا ذكر، وهو أبو القاسم عبد الله المقتدي بأمر الله.

وفيها: كان الغلاء والفناء أيضا مستمرين على الناس ببغداد وغيرها من البلاد، على ما كان عليه الأمر في السنة الماضية، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولم يحج أحد من أهل العراق فيها.

وفيها توفي من الأعيان:

علي بن أحمد بن علي بن سلك

[عدل]

أبو الحسن المؤدب، المعروف بالفالي، صاحب (الأمالي) وفالة قرية قريبة من إيذج، أقام بالبصرة مدة، وسمع بها من عمر بن عبد الواحد الهاشمي وغيره، وقدم بغداد فاستوطنها، وكان ثقة في نفسه، كثير الفضائل.

ومن شعره الحسن:

لما تبدلت المجالس أوجها ** غير الذين عاهدت من علمائها

ورأيتها محفوفة بسوى الأولى ** كانوا ولاة صدورها وفنائها

أنشدت بيتا سائرا متقدما ** والعين قد شرقت بجاري مائها

أما الخيام فإنها كخيامهم ** وأرى نساء الحي غير نسائها

ومن شعره أيضا:

تصدر للتدريس كل مهوس ** بليد تسمى بالفقيه المدرس

فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ** ببيت قديم شاع في كل مجلس

لقد هزلت حتى بدى من هزالها ** كلاها وحتى سامها كل مفلس

محمد بن عبد الواحد بن محمد الصباغ

[عدل]

الفقيه الشافعي، وليس بصاحب الشامل، ذاك متأخر وهذا من تلاميذ أبي حامد الإسفرايني، كانت له حلقة للفتوى بجامع المدينة، وشهد عند قاضي القضاة الدامغاني الحنفي فقبله، وقد سمع الحديث من ابن شاهين وغيره، وكان ثقة جليل القدر.

هلال بن المحسن

[عدل]

ابن إبراهيم بن هلال، أبو الخير الكاتب الصابئ، صاحب (التاريخ)، وجده أبو إسحاق الصابئ صاحب (الرسائل)، وكان أبوه صابئيا أيضا، أسلم هلال هذا متأخرا، وحسن إسلامه، وقد سمع في حال كفره من جماعة من المشايخ، وذلك أنه كان يتردد إليهم يطلب الأدب، فلما أسلم نفعه ذلك، وكان ذلك سبب إسلامه على ما ذكره ابن الجوزي بسنده مطولا: إنه رأى رسول الله في المنام مرارا يدعوه إلى الله عز وجل، ويأمره بالدخول في الإسلام، ويقول له: أنت رجل عاقل، فلِمَ تدع دين الإسلام الذي قامت عليه الدلائل؟

وأراه آيات في المنام شاهدها في اليقظة، فمنها أنه قال له: إن امرأتك حامل بولد ذكر، فسمه محمدا، فولدت ذكرا، فسماه محمدا، وكناه أبا الحسن، في أشياء كثيرة سردها ابن الجوزي، فأسلم وحسن إسلامه، وكان صدوقا.

توفي عن تسعين سنة، منها في الإسلام نيف وأربعون سنة.

ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة

[عدل]

فيها: كان الغلاء والفناء مستمرين ببغداد وغيرها من البلاد، بحيث خلت أكثر الدور وسدت على أهلها أبوابها بما فيها، وأهلها موتى فيها، ثم صار المار في الطريق لا يلقى الواحد بعد الواحد، وأكل الناس الجيف والنتن من قلة الطعام، ووجد مع امرأة فخذ كلب قد اخضر، وشوى رجل صبية في الأتون وأكلها، فقيل: وسقط طائر ميت من حائط فاحتوشته خمسة أنفس فاقتسموه وأكلوه.

وورد كتاب من بخارى أنه مات في يوم واحد منها ومن معاملتها ثمانية عشر ألف إنسان، وأحصي من مات في هذا الوباء من تلك البلاد إلى يوم كتب فيه هذا الكتاب بألف ألف وخمسمائة ألف وخمسين ألف إنسان، والناس يمرون في هذه البلاد فلا يرون إلا أسواقا فارغة وطرقات خالية، وأبوابا مغلقة، ووحشة وعدم أنس. حكاه ابن الجوزي.

قال: وجاء الخبر من أذربيجان وتلك البلاد بالوباء العظيم، وأنه لم يسلم من تلك البلاد إلا العدد اليسير جدا.

قال: ووقع وباء بالأهواز وبواط وأعمالها وغيرها، حتى طبق البلاد، وكان أكثر سبب ذلك الجوع، كان الفقراء يشوون الكلاب وينبشون القبور ويشوون الموتى ويأكلونهم، وليس للناس شغل في الليل والنهار إلا غسل الأموات وتجهيزهم ودفنهم، فكان يحفر الحفير فيدفن فيه العشرون والثلاثون، وكان الإنسان بينما هو جالس إذ انشق قلبه عن دم المهجة، فيخرج منه إلى الفم قطرة فيموت الإنسان من وقته، وتاب الناس وتصدقوا بأكثر أموالهم فلم يجدوا أحدا يقبل منهم، وكان الفقير تعرض عليه الدنانير الكثيرة والدراهم والثياب فيقول: أنا أريد كسرة أريد ما يسد جوعي، فلا يجد ذلك.

وأراق الناس الخمور وكسروا آلات اللهو، ولزموا المساجد للعبادة وقراءة القرآن، وقلّ دار يكون فيها خمر إلا مات أهلها كلهم، ودخل على مريض له سبعة أيام في النزع فأشار بيده إلى مكان فوجدوا فيه خابية من خمر فأراقوها فمات من وقته بسهولة، ومات رجل في مسجد فوجدوا معه خمسين ألف درهم، فعرضت على الناس فلم يقبلها أحد، فتركت في المسجد تسعة أيام لا يريدها أحد، فلما كان بعد ذلك دخل أربعة ليأخذوها فماتوا عليها، فلم يخرج من المسجد منهم أحد حي، بل ماتوا جميعا.

وكان الشيخ أبو محمد عبد الجبار بن محمد يشتغل عليه سبعمائة متفقه، فمات وماتوا كلهم، إلا اثني عشر نفرا منهم، ولما اصطلح السلطان دبيس بن علي رجع إلى بلاده فوجدها خرابا لقلة أهلها من الطاعون، فأرسل رسولا منهم إلى بعض النواحي فتلقاه طائفة فقتلوه وشووه وأكلوه.

قال ابن الجوزي: وفي يوم الأربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة احترقت قطيعة عيسى وسوق الطعام والكنيس، وأصحاب السقط وباب الشعير، وسوق العطارين وسوق العروس والأنماطيين والخشابين والجزارين والتمارين، والقطيعة وسوق مخول ونهر الزجاج وسويقة غالب والصفارين والصباغين وغير ذلك من المواضع، وهذه مصيبة أخرى إلى ما بالناس من الجوع والغلاء والفناء، ضعف الناس حتى طغت النار فعملت أعمالها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: كثر العياريون ببغداد، وأخذوا الأموال جهارا، وكبسوا الدور ليلا ونهارا، وكبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة، وأحرقت كتبه ومآثره ودفاتره التي كان يستعملها في ضلالته وبدعته، ويدعو إليها أهل ملته ونحلته، ولله الحمد.

وفيها: دخل الملك طغرلبك بغداد عائدا إليها من الموصل فتلقاه الناس والكبراء إلى أثناء الطريق، وأحضر له رئيس الرؤساء خلعة من الخليفة مرصعة بالجوهر فلبسها، وقبل الأرض ثم بعد ذلك دخل دار الخلافة، وقد ركب إليها فرسا من مراكب الخليفة، فلما دخل على الخليفة إذا هو على سرير طوله سبعة أذرع، وعلى كتفه البردة النبوية، وبيده القضيب، فقبل الأرض وجلس على سرير دون سرير الخليفة، ثم قال الخليفة لرئيس الرؤساء: قل له: أمير المؤمنين حامد لسعيك شاكر لفعلك، آنس بقربك، وقد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى من بلاده، فاتق الله فيما ولاك، واجتهد في عمارة البلاد وإصلاح العباد ونشر العدل، وكف الظلم.

ففسر له عميد الدولة ما قال الخليفة فقام وقبل الأرض وقال: أنا خادم أمير المؤمنين وعبده، ومتصرف على أمره ونهيه، ومتشرف بما أهلني له واستخدمني فيه، ومن الله أستمد المعونة والتوفيق.

ثم أمره الخليفة أن ينهض للبس الخلعة فقام إلى بيت في ذلك البهو، فأفيض عليه سبع خلع وتاج، ثم عاد فجلس على السرير بعد ما قبّل يد الخليفة، ورام تقبيل الأرض، فلم يتمكن من التاج، فأخرج الخليفة سيفا فقلده إياه وخوطب بملك الشرق والغرب، وأحضرت ثلاثة ألوية فعقد منها الخليفة لواء بيده، وأحضر العهد إلى الملك، وقرئ بين يديه بحضرة الملك وأوصاه الخليفة بتقوى الله والعدل في الرعية، ثم نهض فقبل يد الخليفة ثم وضعها على عينيه.

ثم خرج في أبهة عظيمة إلى داره وبين يديه الحجاب والجيش بكماله، وجاء الناس للسلام عليه، وأرسل إلى الخليفة بتحف عظيمة منها خمسون ألف دينار، وخمسون غلاما أتراكا، بمراكبهم وسلاحهم ومناطقهم، وخمسمائة ثوب أنواعا، وأعطى رئيس الرؤساء خمسة آلاف دينار، وخمسين قطعة قماش وغير ذلك.

وفيها: قبض صاحب مصر على وزيره أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن البازري، وأخذ خطه بثلاثة آلاف دينار، وأحيط على ثمانين من أصحابه، وقد كان هذا الوزير فقيها حنفيا، يحسن إلى أهل العلم وأهل الحرمين، وقد كان الشيخ أبو يوسف القزويني يثني عليه ويمدحه.:

من الأعيان

أحمد بن عبد الله بن سليمان ابن محمد بن سليمان

[عدل]

بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحرث بن ربيعة بن أنور بن أسحم بن أرقم بن النعمان بن عدي بن غطفان بن عمرو بن بريح بن خزيمة بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، أبو العلاء المعري، التنوخي الشاعر، المشهور بالزندقة، اللغوي صاحب الدواوين والمصنفات في الشعر واللغة.

ولد يوم الجمعة عند غروب الشمس لثلاث بقين من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وأصابه جدري وله أربع سنين أو سبع، فذهب بصره، وقال الشعر وله إحدى أو ثنتا عشرة سنة، ودخل بغداد سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فأقام بها سنة وسبعة أشهر، ثم خرج منها طريدا منهزما لأنه سأل سؤالا بشعر يدل على قلة دينه وعلمه وعقله فقال:

تناقض فما لنا إلا السكوت له ** وأن نعوذ بمولانا من النار

يد بخمس مئين عسجد وديت ** ما بالها قطعت في ربع دينار

وهذا من إفكه يقول: اليد ديتها خمسمائة دينار، فما لكم تقطعونها إذا سرقت ربع دينار.

وهذا من قلة عقله وعلمه، وعمى بصيرته.

وذلك أنه إذا جنى عليها يناسب أن يكون ديتها كثيرة لينزجر الناس عن العدوان، وأما إذا جنت هي بالسرقة فيناسب أن تقل قيمتها وديتها لينزجر الناس عن أموال الناس وتصان أموالهم، ولهذا قال بعضهم: كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت.

ولما عزم الفقهاء على أخذه بهذا وأمثاله هرب ورجع إلى بلده، ولزم منزله فكان لا يخرج منه.

وكان يوما عند الخليفة وكان الخليفة يكره المتنبي ويضع منه، وكان أبو العلاء يحب المتنبي ويرفع من قدره ويمدحه، فجرى ذكر المتنبي في ذلك المجلس فذمه الخليفة، فقال أبو العلاء: لو لم يكن للمتنبي إلا قصيدته التي أولها:

لك يا منازل في القلوب منازل ** لكفاه ذلك.

فغضب الخليفة وأمر به فسحب برجله على وجهه وقال: أخرجوا عني هذا الكلب.

وقال الخليفة: أتدرون ما أراد هذا الكلب من هذه القصيدة؟ وذكره لها؟

أراد قول المتنبي فيها:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص ** فهي الدليل عليّ أني كامل

وإلا فالمتنبي له قصائد أحسن من هذه، وإنما أراد هذا.

وهذا من فرط ذكاء الخليفة، حيث تنبه لهذا.

وقد كان المعري أيضا من الأذكياء، ومكث المعري خمسا وأربعين سنة من عمره، لا يأكل اللحم ولا اللبن ولا البيض، ولا شيئا من حيوان، على طريقة البراهمة الفلاسفة، ويقال: إنه اجتمع براهب في بعض الصوامع في مجيئه من بعض السواحل آواه الليل عنده، فشككه في دين الإسلام.

وكان يتقوت بالنبات وغيره، وأكثر ما كان يأكل العدس ويتحلى بالدبس وبالتين، وكان لا يأكل بحضرة أحد، ويقول: أكل الأعمى عورة.

وكان في غاية الذكاء المفرط، على ما ذكروه، وأما ما ينقلونه عنه من الأشياء المكذوبة المختلفة من أنه وضع تحت سريره درهم فقال: إما أن تكون السماء قد انخفضت مقدار درهم أو الأرض قد ارتفعت مقدار درهم، أي: أنه شعر بارتفاع سريره عن الأرض مقدار ذلك الدرهم الذي وضع تحته، فهذا لا أصل له.

وكذلك يذكرون عنه أنه مر في بعض أسفاره بمكان فطأطأ رأسه فقيل له في ذلك، فقال: أما هنا شجرة؟

قالوا: لا، فنظروا فإذا أصل شجرة كانت هناك في الموضع الذي طأطأ رأسه فيه، وقد قطعت، وكان قد اجتاز بها قديما مرة، فأمره من كان معه بمطأطأة رأسه لمّا جازوا تحتها، فلما مر بها المرة الثانية طأطأ رأسه خوفا من أن يصيبه شيء منها، فهذا لا يصح.

وقد كان ذكيا، ولم يكن زكيا، وله مصنفات كثيرة أكثرها في الشعر، وفي بعض أشعاره ما يدل على زندقته، وانحلاله من الدين، ومن الناس من يعتذر عنه ويقول: إنه إنما كان يقول ذلك مجونا ولعبا، ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، وقد كان باطنه مسلما.

قال ابن عقيل: لما بلغه: وما الذي ألجأه أن يقول في دار الإسلام ما يكفره به الناس؟

قال: والمنافقون مع قلة عقلهم وعلمهم أجود سياسة منه، لأنهم حافظوا على قبائحهم في الدنيا وستروها، وهذا أظهر الكفر الذي تسلط عليه به الناس وزندقوه، والله يعلم أن ظاهره كباطنه.

قال ابن الجوزي: وقد رأيت لأبي العلاء المعري كتابا سماه (الفصول والغايات في معارضة السور والآيات)، على حروف المعجم في آخر كلماته وهو في غاية الركاكة والبرودة، فسبحان من أعمى بصره وبصيرته.

قال: وقد نظرت في كتابه المسمى (لزوم ما لا يلزم)، ثم أورد ابن الجوزي من أشعاره الدالة على استهتاره بدين الإسلام أشياء كثيرة.

فمن ذلك قوله:

إذا كان لا يحظى برزقك عاقل ** وترزق مجنونا وترزق أحمقا

فلا ذنب يا رب السماء على امرئ ** رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا

وقوله:

ألا إن البرية في ضلال ** وقد نظر اللبيب لما اعتراها

تقدم صاحب التوراة موسى ** وأوقع في الخسار من افتراها

فقال رجاله وحي أتاه ** وقال الناظرون بل افتراها

وما حجي إلى أحجار بيت ** كروس الحمر تشرف في ذراها

إذا رجع الحليم إلى حجاه ** تهاون بالمذاهب وازدراها

وقوله:

عفت الحنيفة والنصارى اهتدت ** ويهود جارت والمجوس مضلله

اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا ** دين وآخر ذو دين ولا عقل له

وقوله:

فلا تحسب مقال الرسل حقا ** ولكن قول زور سطروه

فكان الناس في عيش رغيد ** فجاؤا بالمحال فكدروه

وقلت أنا معارضة عليه:

فلا تحسب مقال الرسل زورا ** ولكن قول حق بلغوه

وكان الناس في جهل عظيم ** فجاؤا بالبيان فأوضحوه

وقوله:

إن الشرائع ألقت بيننا إحنا ** وأورثتنا أفانين العداوات

وهل أبيح نساء الروم عن عرض ** للعرب إلا بإحكام النبوات

و قوله:

وما حمدي لآدم أو بنيه ** وأشهد أن كلهم خسيس

وقوله:

أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما ** دياناتكم مكرا من القدما

وقوله:

صرف الزمان مفرق الألفين ** فاحكم إلهي بين ذاك وبيني

نهيت عن قتل النفوس تعمدا ** وبعثت تقبضها مع الملكين

وزعمت أن لها معادا ثانيا ** ما كان أغناها عن الحالين

وقوله:

ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ** وحق لسكان البسيطة أن يبكوا

تحطمنا الأيام حتى كأننا ** زجاج ولكن لا يعود له سبك

وقوله:

أمور تستخف بها حلوم ** وما يدري الفتى لمن الثبور

كتاب محمد وكتاب موسى ** وإنجيل ابن مريم والزبور

وقوله:

قالت معاشر لم يبعث إلهكم ** إلى البرية عيساها ولا موسى

وإنما جعلوا الرحمن مأكلة ** وصيروا دينهم في الناس ناموسا

وذكر ابن الجوزي وغيره أشياء كثيرة من شعره تدل على كفره، بل كل واحدة من هذه الأشياء تدل على كفره وزندقته وانحلاله، ويقال: إنه أوصى أن يكتب على قبره:

هذا جناه أبي علي ** وما جنيت على أحد

معناه أن أباه بتزوجه لأمه أوقعه في هذه الدار، حتى صار بسبب ذلك إلى ما إليه صار، وهو لم يجن على أحد بهذه الجناية، وهذا كله كفر وإلحاد قبحه الله.

وقد زعم بعضهم أنه أقلع عن هذا كله وتاب منه، وأنه قال قصيدة يعتذر فيها من ذلك كله، ويتنصل منه، وهي القصيدة التي يقول فيها:

يا من يرى مد البعوض جناحها ** في ظلمة الليل البهيم الأليل

ويرى مناط عروقها في نحرها ** والمخ في تلك العظام النحل

امنن علي بتوبة تمحو بها ** ما كان مني في الزمان الأول

توفي في ربيع الأول من هذه السنة بمعرة النعمان عن ست وثمانين سنة إلا أربعة عشر يوما، وقد رثاه جماعة من أصحابه وتلامذته، وأنشدت عند قبره ثمانون مرثاة، حتى قال بعضهم في مرثاه له:

إن كنت لم ترق الدماء زهادة ** فلقد أرقت اليوم من جفني دما

قال ابن الجوزي: وهؤلاء الذين رثوه والذين اعتقدوه إما جهال بأمره، وإما ضلال على مذهبه وطريقه.

وقد رأى بعضهم في النوم رجلا ضريرا على عاتقه حيتان مدليتان على صدره، رافعتان رؤسهما إليه، وهما ينهشان من لحمه، وهو يستغيث، وقائل يقول: هذا المعري الملحد.

وقد ذكره ابن خلكان فرفع في نسبه على عادته في الشعراء، كما ذكرنا.

وقد ذكر له من المصنفات كتبا كثيرة، وذكر أن بعضهم وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتابه المسمى بـ(الأيك والغصون)، وهو المعروف بالهمز والردف، وأنه أخذ العربية عن أبيه واشتغل بحلب على محمد بن عبد الله بن سعد النحوي، وأخذ عنه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، والخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي، وذكر أنه مكث خمسا وأربعين سنة لا يأكل اللحم على طريقة الحكماء، وإنه أوصى أن يكتب على قبره:

هذا جناه أبي علي ** وما جنيت على أحد

قال ابن خلكان: وهذا أيضا متعلق باعتقاد الحكماء، فإنهم يقولون اتخاذ الولد وإخراجه إلى هذا الوجود جناية عليه، لأنه يتعرض للحوادث والآفات.

قلت: وهذا يدل على أنه لم يتغير عن اعتقاده، و هو ما يعتقده الحكماء إلى آخر وقت، وأنه لم يقلع عن ذلك كما ذكره بعضهم، والله أعلم بظواهر الأمور وبواطنها.

وذكر ابن خلكان: أن عينه اليمنى كانت ناتئة وعليها بياض، وعينه اليسرى غائرة، وكان نحيفا، ثم أورد من أشعاره الجيدة أبياتا فمنها قوله:

لا تطلبن بآلة لك رتبة ** قلم البليغ بغير جد مغزل

سكن السما كان السماء كلاهما ** هذا له رمح وهذا أعزل

الأستاذ أبو عثمان الصابوني

[عدل]

إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن عامر بن عابد النيسابوري، الحافظ الواعظ المفسر، قدم دمشق وهو ذاهب إلى الحج فسمع بها وذكر الناس، وقد ترجمه ابن عساكر ترجمة عظيمة، وأورد له أشياء حسنة من أقواله وشعره، فمن ذلك قوله:

إذا لم أصب أموالكم ونوالكم ** ولم آمل المعروف منكم ولا البرا

وكنتم عبيدا للذي أنا عبده ** فمن أجل ماذا أتعب البدن الحرا؟

وروى ابن عساكر عن إمام الحرمين أنه قال: كنت أتردد وأنا بمكة في المذاهب فرأيت النبي وهو يقول: عليك باعتقاد أبي عثمان الصابوني. رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة

[عدل]

فيها: كانت فتنة الخبيث البساسيري، وهو أرسلان التركي، وذلك أن إبراهيم ينال أخا الملك طغرلبك ترك الموصل الذي كان قد استعمله أخوه عليها، وعدل إلى ناحية بلاد الجبل، فاستدعاه أخوه وخلع عليه وأصلح أمره، ولكن في غضون ذلك ركب البساسيري ومعه قريش بن بدران أمير العرب إلى الموصل فأخذها، وأخرب قلعتها.

فسار إليه الملك طغرلبك سريعا فاستردها وهرب منه البساسيري وقريش خوفا منه، فتبعهما إلى نصيبين، وفارقه أخوه إبراهيم، وعصى عليه، وهرب إلى همذان، وذلك بإشارة البساسيري عليه، فسار الملك طغرلبك وراء أخيه وترك عساكره وراءه فتفرقوا وقل من لحقه منهم، ورجعت زوجته الخاتون ووزيره الكندري إلى بغداد.

ثم جاء الخبر بأن أخاه قد استظهر عليه، وأن طغرلبك محصور بهمذان، فانزعج الناس لذلك، واضطربت بغداد، وجاء الخبر بأن البساسيري على قصد بغداد، وأنه قد اقترب من الأنبار، فقوي عزم الكندري على الهروب، فأرادت الخاتون أن تقبض عليه فتحول عنها إلى الجانب الغربي، ونهبت داره وقطع الجسر الذي بين الجانبين، وركبت الخاتون في جمهور الجيش، وذهبت إلى همذان لأجل زوجها.

وسار الكندري ومعه أنوشروان بن تومان وأم الخاتون المذكورة، ومعها بقية الجيش إلى بلاد الأهواز وبقيت بغداد ليس بها أحد من المقاتلة، فعزم الخليفة على الخروج منها، وليته فعل، ثم أحب داره والمقام مع أهله، فمكث فيها اغترارا ودعة، ولما خلى البلد من المقاتلة قيل للناس: من أراد الرحيل من بغداد فليذهب حيث شاء.

فانزعج الناس وبكى الرجال والنساء والأطفال، وعبر كثير من الناس إلى الجانب الغربي، وبلغت المعبرة دينارا ودينارين لعدم الجسر.

قال ابن الجوزي: وطار في تلك الليلة على دار الخليفة نحو عشر بومات مجتمعات يصحن صياحا مزعجا، وقيل لرئيس الرؤساء: المصلحة أن الخليفة يرتحل لعدم المقاتلة، فلم يقبل، وشرعوا في استخدام طائفة من العوام، ودفع إليهم سلاح كثير من دار المملكة.

فلما كان يوم الأحد الثامن من ذي القعدة من هذه السنة جاء البساسيري إلى بغداد ومعه الرايات البيض المصرية، وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها اسم المستنصر بالله أبو تميم معد أمير المؤمنين، فتلقاه أهل الكرخ الرافضة وسألوه أن يجتاز من عندهم، فدخل الكرخ وخرج إلى مشرعة الزاويا، فخيم بها والناس إذ ذاك في مجاعة وضر شديد.

ونزل قريش بن بدران في نحو من مائتي فارس على مشرعة باب البصرة، وكان البساسيري قد جمع العيارين وأطمعهم في نهب دار الخلافة، ونهب أهل الكرخ دور أهل السنة بباب البصرة.

ونهبت دار قاضي القضاة الدامغاني، وتملك أكثر السجلات والكتب الحكمية، وبيعت للعطارين، ونهبت دور المتعلقين بخدمة الخليفة، وأعادت الروافض الأذان بحي على خير العمل، وأذن به في سائر نواحي بغداد في الجمعات والجماعات، وخطب ببغداد للخليفة المستنصر العبيدي على منابرها وغيرها، وضربت له السكة على الذهب والفضة، وحوصرت دار الخلافة، فجاحف الوزير أبو القاسم بن المسلمة الملقب برئيس الرؤساء، بمن معه من المستخدمين دونها فلم يفد ذلك شيئا، فركب الخليفة بالسواد والبردة، وعلى رأسه اللواء وبيده سيف مصلت، وحوله زمرة من العباسيين والجواري حاسرات عن وجوههن، ناشرات شعورهن، معهن المصاحف على رؤس الرماح، وبين يديه الخدم بالسيوف.

ثم إن الخليفة أخذ ذماما من أمير العرب قريش ليمنعه وأهله ووزيره ابن المسلمة، فأمنه على ذلك كله، وأنزله في خيمة، فلامه البساسيري على ذلك، وقال: قد علمت ما كان وقع الاتفاق عليه بيني وبينك، من أنك لا تبت برأي دوني، ولا أنا دونك، ومهما ملكنا بيني وبينك.

ثم إن البساسيري أخذ القاسم بن مسلمة فوبخه توبيخا مفضحا، ولامه لوما شديدا، ثم ضربه ضربا مبرحا، واعتقله مهانا عنده، ونهبت العامة دار الخلافة، فلا يحصى ما أخذوا منها من الجواهر والنفائس، والديباج والذهب والفضة، والثياب والأثاث والدواب، وغير ذلك مما لا يحد ولا يوصف.

ثم اتفق رأي البساسيري وقريش على أن يسيروا الخليفة إلى أمير حديثة عانة، وهو مهارش بن مجلي الندوي وهو من بني عم قريش بن بدران، وكان رجلا فيه دين وله مروءة.

فلما بلغ ذلك الخليفة دخل على قريش أن لا يخرج من بغداد فلم يفد ذلك شيئا، وسيره مع أصحابهما في هودج إلى حديثة عانة، فكان عند مهارش حولا كاملا، وليس معه أحد من أهله، فحكى عن الخليفة أنه قال: لما كنت بحديثة عانة قمت ليلة إلى الصلاة فوجدت في قلبي حلاوة المناجاة، ثم دعوت الله عز وجل بما سنح لي، ثم قلت: اللهم أعدني إلى