انتقل إلى المحتوى

البداية والنهاية/الجزء الثاني عشر/صفحة واحدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



ثم دخلت سنة ست وأربعمائة

في يوم الثلاثاء مستهل المحرم منها وقعت فتنة بين أهل السنة والروافض، ثم سكّن الفتنة الوزير فخر الملك على أن تعمل الروافض بدعتهم يوم عاشوراء من تعليق المسوح والنوح.

وفي هذا الشهر ورد الخبر بوقوع وباء شديد في البصرة أعجز الحفارين، والناس عن دفن موتاهم، وأنه أظلت البلد سحابة في حزيران فأمطرتهم مطرا شديدا.

وفي يوم السبت ثالث صفر تولى المرتضى نقابة الطالبيين والمظالم والحج، وجميع ما كان يتولاه أخوه الرضي، وقرئ تقليده بحضرة الأعيان، وكان يوما مشهودا.

وفيها: ورد الخبر عن الحجاج بأنه هلك منهم بسبب العطش أربعة عشر ألفا، وسلم ستة آلاف، وأنهم شربوا بول الإبل من العطش.

وفيها: غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند فأخذه الأدلاء فسلكوا به على بلاد غريبة، فانتهوا إلى أرض قد غمرها الماء من البحر، فخاض بنفسه الماء أياما وخاض الجيش حتى خلصوا بعد ما غرق كثير من جيشه، وعاد إلى خراسان بعد جهد جهيد.

ولم يحج فيها من العراق ركب لفساد البلاد من الأعراب.

وفيها توفي من الأعيان:

الشيخ أبو حامد الإسفرايني

إمام الشافعية، أحمد بن محمد بن أحمد إمام الشافعية في زمانه، ولد في سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وقدم بغداد وهو صغير سنة ثلاث أو أربع وستين وثلاثمائة، فدرس الفقه على أبي الحسن بن المرزبان، ثم على أبي القاسم الداركي، ولم يزل تترقى به الأحوال حتى صارت إليه رياسة الشافعية، وعظم جاهه عند السلطان والعوام.

وكان فقيها إماما جليلا نبيلا، شرح المزني في تعليقه حافلة نحوا من خمسين مجلدا، وله تعليقة أخرى في أصول الفقه، وروى عن الإسماعيلي وغيره.

قال الخطيب: ورأيته غير مرة وحضرت تدريسه بمسجد عبد الله بن المبارك، في صدر قطيعة الربيع وحدثنا عنه الأزجي والخلال، وسمعت من يذكر أنه كان يحضر تدريسه سبعمائة متفقه، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي لفرح به.

وقال أبو الحسن القدوري: ما رأيت في الشافعية أفقه من أبي حامد، وقد ذكرت ترجمته مستقصاة في (طبقات الشافعية).

وذكر ابن خلكان أن القدوري قال: هو أفقه وأنظر من الشافعي.

قال الشيخ أبو إسحاق: ليس هذا مسلما إلى القدورى فإن أبا حامد وأمثاله بالنسبة إلى الشافعي كما قال الشاعر:

نزلوا بمكة في قبائل نوفل ** ونزلت بالبيداء أبعد منزل

قال ابن خلكان: وله مصنفات: (التعليقة الكبرى)، وله كتاب (البستان)، وهو صغير فيه غرائب، قال: وقد اعترض عليه بعض الفقهاء في بعض المناظرات فأنشأ الشيخ أبو حامد يقول:

جفاء جرى جهرا لدى الناس وانبسط ** وعذر أتى سرا فأكد ما فرط

ومن ظن أن يمحو جليّ جفائه ** خفيّ اعتذار فهو في أعظم الغلط

توفي ليلة السبت لإحدى عشرة بقيت من شوال منها، ودفن بداره بعدما صلي عليه بالصحراء وكان الجمع كثيرا والبكاء غزيرا، ثم نقل إلى مقبرة باب حرب في سنة عشر وأربعمائة.

قال ابن الجوزي: وبلغ من العمر إحدى وستين سنة وأشهرا.

أبو أحمد الفرضي

عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن علي بن مهران، أبو مسلم الفرضي المقري.

سمع المحاملي ويوسف بن يعقوب، وحضر مجلس أبي بكر بن الأنباري، وكان إماما ثقة ورعا وقورا، كثير الخير، يقرأ القرآن كثيرا، ثم سمع الحديث، وكان إذا قدم على الشيخ أبي حامد الإسفرايني نهض إليه حافيا فتلقاه إلى باب المسجد، توفي وقد جاوز الثمانين.

الشريف الرضي

محمد بن الطاهر أبو أحمد الحسين بن موسى أبو الحسن العلوي، لقبه بهاء الدولة بالرضي، ذي الحسبتين، ولقب أخاه المرتضى ذي المجدين، ولي نقابة الطالبيين ببغداد بعد أبيه، وكان شاعرا مطبقا سخيا جوادا.

وقال بعضهم: كان الشريف في كثرة أشعاره أشعر قريش، فمن شعره المستجاد قوله:

اشتر العز بما شـء ** ـت فما العز بغال

بالقصار إن شيءـ ** ـت أو بالسمر الطوال

ليس بالمغبون عقلا ** من شرى عزا بمال

إنما يذخر الما ** ل لحاجات الرجال

والفتى من جعل الأموا ** ل أثمان المعالي

وله أيضا:

يا طائر البان غريدا على فنن ** ما هاج نوحك لي يا طائر البان

هل أنت مبلغ من هام الفؤاد به ** إن الطليق يؤدي حاجة العاني

جناية ما جناها غير متلفنا ** يوم الوداع وواشوقي إلى الجاني

لولا تذكر أيام بذي سلم ** وعند رامة أو طاري وأوطاني

لما قدحت بنار الوجد في كبدي ** ولا بللت بماء الدمع أجفاني

وقد نسب إلى الرضي قصيدة يتمنى فيها أن يكون عند الحاكم العبيدي، ويذكر فيها أباه ويا ليته كان عنده، حين يرى حاله ومنزلته عنده، وأن الخليفة لما بلغه ذلك أراد أن يسيره إليه ليقضي أربه ويعلم الناس كيف حاله.

قال في هذه القصيدة:

ألبس الذل في بلاد الأعاد ** ي وبمصر الخليفة العلويّ!

وأبوه أبي ومولاه مولا ** ي إذا ضامني البعيد القصيّ

إلى آخرها، فلما سمع الخليفة القادر بأمر هذه القصيدة انزعج وبعث إلى أبيه الموسوي يعاتبه، فأرسل إلى ابنه الرضي فأنكر أن يكون قالها بالمرة، والروافض من شأنهم التزوير.

فقال له أبوه: فإذا لم تكن قلتها فقل أبياتا تذكر فيها أن الحاكم بمصر دعيّ لا نسب له.

فقال: إني أخاف غائلة ذلك، وأصرّ على أن لا يقول ما أمره به أبوه.

وترددت الرسائل من الخليفة إليهم في ذلك، وهم ينكرون ذلك حتى بعث الشيخ أبا حامد إلاسفرايني والقاضي أبا بكر إليهما، فحلف لهما بالأيمان المؤكدة أنه ما قالها، والله أعلم بحقيقة الحال.

توفي في خامس المحرم منها عن سبع وأربعين سنة، وحضر جنازته الوزير والقضاة، وصلى عليه الوزير ودفن بداره بمسجد الأنباري، وولي أخوه المرتضى ما كان يليه، وزيد على ذلك أشياء ومناصب أخرى، وقد رثى الرضي أخاه بمرثاة حسنة.

باديس بن منصور الحميري

أبو المعز مناذر بن باديس نائب الحاكم على بلاد إفريقية وابن نائبها، لقبه الحاكم بنصير الدولة، كان ذا همة وسطوة وحرمة وافرة، كان إذا هزّ رمحا كسره، توفي فجأة ليلة الأربعاء سلخ ذي القعدة منها، ويقال: إن بعض الصالحين دعى عليه تلك الليلة، وقام في الأمر بعده ولده المعز مناذر.

ثم دخلت سنة سبع وأربعمائة

في ربيع الأول منها، احترق مشهد الحسين بن علي بكربلاء وأروقته، وكان سبب ذلك أن القومة أشعلوا شمعتين كبيرتين فمالتا في الليل على التازير، ونفذت النار منه إلى غيره حتى كان ما كان.

وفي هذا الشهر أيضا احترقت دار القطن ببغداد وأماكن كثيرة بباب البصرة، واحترق جامع سامرا.

وفيها: ورد الخبر بتشعيث الركن اليماني من المسجد الحرام، وسقوط جدار بين يدي قبر الرسول بالمدينة، وأنه سقطت القبة الكبيرة على صخرة بيت المقدس، وهذا من أغرب الاتفاقات وأعجبها.

وفي هذه السنة قتلت الشيعة الذين ببلاد إفريقية ونهبت أموالهم، ولم يترك منهم إلا من لا يعرف.

وفيها: كان ابتداء دولة العلويين ببلاد الأندلس، وليها علي بن حمود بن أبي العيس العلوي، فدخل قرطبة في المحرم منها، وقتل سليمان بن الحكم الأموي، وقتل أباه أيضا، وكان شيخا صالحا، وبايعه الناس وتلقب بالمتوكل على الله، ثم قتل في الحمام في ثامن ذي القعدة منها عن ثمان وأربعين سنة، وقام بالأمر من بعده أخوه القاسم بن حمود، وتلقب بالمأمون، فأقام في الملك ست سنين، ثم قام ابن أخيه يحيى بن علي، ثم ملك الأمويون حتى ملك أمر المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين.

وفيها: ملك محمود بن سبكتكين بلاد خوارزم بعد ملكها خوارزم شاه مأمون بن مأمون، وفيها استوزر سلطان الدولة أبا الحسن علي بن الفضل الرامهرمزي، عوضا عن فخر الملك، وخلع عليه.

ولم يحج أحد في هذه السنة من بلاد المغرب لفساد البلاد والطرقات.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن يوسف بن دوست

أبو عبد الله البزار، أحد حفاظ الحديث، وأحد الفقهاء على مذهب مالك، كان يذكر بحضرة الدارقطني ويتكلم على علم الحديث، فيقال: إن الدارقطني تكلم فيه لذلك السبب، وقد تكلم في غيره بما لا يقدح فيه كبير شيء.

قال الأزهري: رأيت كتبه طرية، وكان يذكر أن أصوله العتق غرقت، وقد أملى الحديث من حفظه، والمخلص وابن شاهين حيّان موجودان.

توفي في رمضان، عن أربع وثمانين سنة.

الوزير فخر الملك

محمد بن علي بن خلف أبو غالب الوزير، كان من أهل واسط، وكان أبوه صيرفيا، فتنقلت به الأحوال إلى أن وزر لبهاء الدولة، وقد اقتنى أموالا جزيلة، وبنى دارا عظيمة، تعرف بالفخرية، وكانت أولا للخليفة المتقي لله، فأنفق عليها أموالا كثيرة.

وكان كريما جوادا، كثير الصدقة، كسى في يوم واحد ألف فقير، وكان كثير الصلاة أيضا، وهو أول من فرق الحلاوة ليلة النصف من شعبان، وكان فيه ميل إلى التشيع، وقد صادره سلطان الدولة بالأهواز، وأخذ منه شيئا أزيد من ستمائة ألف دينار، خارجا عن الأملاك والجواهر والمتاع، قتله سلطان الدولة، وكان عمره يوم قتل ثنتين وخمسين سنة وأشهرا.

وقيل: إن سبب هلاكه أن رجلا قتله بعض غلمانه، فاستعدت امرأة الرجل على الوزير هذا، ورفعت إليه قصصها، وكل ذلك لا يلتفت إليها، فقالت له ذات يوم: أيها الوزير أرأيت القصص التي رفعتها إليك، فلم تلتفت إليها قد رفعتها إلى الله عز وجل، وأنا أنتظر التوقيع عليها.

فلما مسك قال: قد والله خرج توقيع المرأة، فكان من أمره ما كان.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعمائة

فيها: وقعت فتنة عظيمة بين أهل السنة والروافض ببغداد، قتل فيها خلق كثير من الفريقين.

وفيها: ملك أبو المظفر بن خاقان بلاد ما وراء النهر وغيرها، وتلقب بشرف الدولة، وذلك بعد وفاة أخيه طغان خان، وقد كان طغان خان هذا دينا فاضلا، يحب أهل العلم والدين.

وقد غزا الترك مرة فقتل منهم مائتي ألف مقاتل، وأسر منهم مائة ألف، وغنم من أواني الذهب والفضة، وأواني الصين شيئا لا يعهد لأحد مثله، فلما مات ظهرت ملوك الترك على البلاد الشرقية.

وفي جمادى الأولى منها ولي أبو الحسين أحمد بن مهذب الدولة علي بن نصر بلاد البطائح بعد أبيه، فقاتله ابن عمه فغلبه وقتله، ثم لم تطل مدته فيها حتى قتل، ثم آلت تلك البلاد بعد ذلك إلى سلطان الدولة صاحب بغداد، وطمع فيهم العامة، فنزلوا إلى واسط فقاتلوهم مع الترك.

وفيها: ولى نور الدولة أبو الأغردُبيس بن أبي الحسن علي بن مزيد بعد وفاة أبيه.

وفيها: قدم سلطان الدولة إلى بغداد، وضرب الطبل في أوقات الصلوات، ولم تجر بذلك عادة، وعقد عقده على بنت قرواش على صداق خمسين ألف دينار.

ولم يحج أحد من أهل العراق لفساد البلاد، وعيث الأعراب وضعف الدولة.

قال ابن الجوزي في (المنتظم): أخبرنا سعد الله بن علي البزار، أنبأ أبو بكر الطريثيثي، أنبأ هبة الله بن الحسن الطبري، قال: وفي سنة ثمان وأربعمائة استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتزلة، فأظهروا الرجوع وتبرؤوا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذت خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوا أحلّ فيهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك، واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها، في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة، وصلبهم وحبسهم ونفاهم، وأمر بلعنهم على المنابر، وأبعد جميع طوائف أهل البدع، ونفاهم عن ديارهم، وصار ذلك سنة في الإسلام.

وفيها توفي من الأعيان: الحاجب الكبير

شباشي أبو نصر

مولى شرف الدولة، ولقبه بهاء الدولة بالسعيد، وكان كثير الصدقة والأوقاف على وجوه القربات فمن ذلك: أنه وقف دباها على المارستان، وكانت تغل شيئا كثيرا من الزروع والثمار والخراج، وبنى قنطرة الخندق والمارستان والناصرية وغير ذلك، ولما مات دفن بمقبرة الإمام أحمد وأوصى أن لا يبنى عليه فخالفوه، فعقدوا قبة عليه فسقطت بعد موته بنحو من سبعين سنة، واجتمع نسوة عند قبره ينحن يبكين، فلما رجعن رأت عجوز منهن - كانت هي المقدمة فيهن - في المنام كأن تركيا خرج إليهن من قبره ومعه دبوس فحمل عليهن وزجرهن عن ذلك، وإذا هو الحاجب السعيد، فانتبهت مذعورة.

ثم دخلت سنة تسع وأربعمائة

وفي يوم الخميس السابع عشر من المحرم قرئ بدار الخلافة في الموكب كتاب في مذهب أهل السنة، وفيه: أن من قال القرآن مخلوق فهو كافر حلال الدم.

وفي النصف من جمادى الأولى منها فاض البحر المالح وتدانى إلى الأبلة، ودخل البصرة بعد يومين.

وفيها: غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند وتواقع هو وملك الهند فاقتتل الناس قتالا عظيما، ثم انجلت عن هزيمة عظيمة على الهند، وأخذ المسلمون يقتلون فيهم كيف شاؤوا، وأخذوا منهم أموالا عظيمة من الجواهر والذهب والفضة، وأخذوا منهم مائتي فيل، واقتصوا آثار المنهزمين منهم، وهدموا معامل كثيرة.

ثم عاد إلى غزنة مؤيدا منصورا.

ولم يحج أحد من درب العراق فيها لفساد البلاد وعيث الأعراب.

وفيها توفي من الأعيان:

رجاء بن عيسى بن محمد

أبو العباس الأنصناوي، نسبة إلى قرية من قرى مصر يقال لها: أنصنا.

قدم بغداد فحدث بها وسمع منه الحفاظ، وكان ثقة فقيها مالكيا عدلا عند الحكام، مرضيا.

ثم عاد إلى بلده وتوفي فيها، وقد جاوز الثمانين.

عبد الله بن محمد بن أبي علان

أبو أحمد قاضي الأهواز، كان ذا مال، وله مصنفات منها كتاب في معجزات النبي ، جمع فيه ألف معجزة، وكان من كبار شيوخ المعتزلة، توفي فيها عن تسع وثمانين سنة.

علي بن نصر

ابن أبي الحسن، مهذب الدولة، صاحب بلاد البطيحة، له مكارم كثيرة، وكان الناس يلجؤون إلى بلاده في الشدائد فيؤويهم، ويحسن إليهم، ومن أكبر مناقبه إحسانه إلى أمير المؤمنين القادر لما استجار به ونزل عنده بالبطائح فارا من الطائع، فآواه وأحسن إليه، وكان في خدمته حتى ولي إمرة المؤمنين، وكان له بذلك عنده اليد البيضاء، وقد ولي البطائح ثنتين وثلاثين سنة وشهورا، وتوفي فيها عن ثنتين وسبعين سنة، وكان سبب موته أنه افتصد فانتفخ زراعه فمات.

عبد الغني بن سعيد

ابن علي بن بشر بن مروان بن عبد العزيز، أبو محمد الأزدي المصري، الحافظ، كان عالما بالحديث وفنونه، وله فيه المصنفات الكثيرة الشهيرة.

قال أبو عبد الله الصوري الحافظ: ما رأت عيناي مثله في معناه.

وقال الدارقطني: ما رأيت بمصر مثل شاب يقال له: عبد الغني، كأنه شعلة نار، وجعل يفخم أمره ويرفع ذكره.

وقد صنف الحافظ عبد الغني هذا كتابا فيه أوهام الحاكم، فلما وقف الحاكم عليه جعل يقرؤه على الناس ويعترف لعبد الغني بالفضل، ويشكره ويرجع فيه إلى ما أصاب فيه من الرد عليه، رحمهما الله.

ولد عبد الغني لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وتوفي في صفر من هذه السنة رحمه الله.

محمد بن أمير المؤمنين

ويكنى بأبي الفضل، كان قد جعله ولي عهده من بعده، وضربت السكة باسمه وخطب له الخطباء على المنابر، ولقب بالغالب بالله، فلم يقدر ذلك.

توفي فيها عن سبع وعشرين سنة.

محمد بن إبراهيم بن محمد بن يزيد

أبو الفتح البزار الطرسوسي، ويعرف بابن البصري، سمع الكثير من المشايخ، وسمع منه الصوري ببيت المقدس، حين أقام بها، وكان ثقة مأمونا.

ثم دخلت سنة عشر وأربعمائة

فيها: ورد كتاب يمين الدولة محمود بن سبكتكين، يذكر فيه ما افتتحه من بلاد الهند في السنة الخالية، وفيه أنه دخل مدينة فيها ألف قصر مشيد، وألف بيت للأصنام.

وفيها من الأصنام شيء كثير، ومبلغ ما على الصنم من الذهب ما يقارب مائة ألف دينار، ومبلغ الأصنام الفضة زيادة على ألف صنم، وعندهم صنم معظم، يؤرخون له وبه بجهالتهم ثلاثمائة ألف عام، وقد سلبنا ذلك كله وغيره مما لا يحصى ولا يعد.

وقد غنم المجاهدون في هذه الغزوة شيئا كثيرا، وقد عمموا المدينة بالإحراق، فلم يتركوا منها إلا الرسوم، وبلغ عدد القتلى من الهنود خمسين ألفا، وأسلم منهم نحو من عشرين ألفا، وأفرد خمس الرقيق فبلغ ثلاثا وخمسين ألفا، واعترض من الأفيال ثلاثمائة وست وخمسين فيلا، وحصل من الأموال عشرون ألف ألف درهم، ومن الذهب شيء كثير.

وفي ربيع الآخر منها قرئ عهد أبي الفوارس ولقب قوام الدولة، وخلع عليه خلعا حملت إليه بولاية كرمان.

ولم يحج في هذه السنة أحد من العراق.

وممن توفي فيها من الأعيان:

الأصيفر الذي كان يخفر الحجاج.

أحمد بن موسى بن مردويه

ابن فورك، أبو بكر الحافظ الأصبهاني، توفي في رمضان منها.

هبة الله بن سلامة

أبو القاسم الضرير المقرئ المفسر، كان من أعلم الناس وأحفظهم للتفسير، وكانت له حلقة في جامع المنصور، روى ابن الجوزي بسنده إليه قال: كان لنا شيخ نقرأ عليه فمات بعض أصحابه فرآه في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟

قال: غفر لي.

قال: فما كان حالك مع منكر ونكير؟

قال: لما أجلساني وسألاني ألهمني الله أن قلت: بحق أبي بكر وعمر دعاني، فقال أحدهما للآخر: قد أقسم بعظيمين فدعه، فتركاني وذهبا.

ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمائة

فيها: عدم الحاكم بمصر، وذلك أنه لما كان ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من شوال فقد الحاكم بن المعز الفاطمي صاحب مصر، فاستبشر المؤمنون والمسلمون بذلك، وذلك لأنه كان جبارا عنيدا، وشيطانا مريدا.

ولنذكر شيئا من صفاته القبيحة، وسيرته الملعونة، أخزاه الله.

كان كثير التلون في أفعاله وأحكامه وأقواله، جائرا، وقد كان يروم أن يدّعي الألوهية كما ادّعاها فرعون، فكان قد أمر الرعية إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه أن يقوم الناس على أقدامهم صفوفا، إعظاما لذكره واحتراما لاسمه، فعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين، وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره خروا سجدا له، حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم، ممن كان لا يصلي الجمعة، وكانوا يتركون السجود لله في يوم الجمعة وغيره ويسجدون للحاكم، وأمر في وقت لأهل الكتابين بالدخول في دين الإسلام كرها، ثم أذن لهم في العود إلى دينهم، وخرب كنائسهم ثم عمرها، وخرب القمامة ثم أعادها، وابتنى المدارس.

وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، ثم قتلهم وأخربها، وألزم الناس بغلق الأسواق نهارا، وفتحها ليلا، فامتثلوا ذلك دهرا طويلا.

حتى اجتاز مرة برجل يعمل النجارة في أثناء النهار، فوقف عليه فقال: ألم أنهكم؟

فقال: يا سيدي لما كان الناس يتعيشون بالنهار كانوا يسهرون بالليل، ولما كانوا يتعيشون بالليل سهروا بالنهار فهذا من جملة السهر، فتبسم وتركه.

وأعاد الناس إلى أمرهم الأول، وكل هذا تغيير للرسوم، واختبار لطاعة العامة له، ليرقى في ذلك إلى ما هو أشر وأعظم منه.

وقد كان يعمل الحسبة بنفسه فكان يدور بنفسه في الأسواق على حمار له - وكان لا يركب إلا حمارا - فمن وجده قد غش في معيشة أمر عبد ا أسود معه يقال له: مسعود، أن يفعل به الفاحشة العظمى، وهذا أمر منكر ملعون، لم يسبق إليه، وكان قد منع النساء من الخروج من منازلهن، وقطع شجر الأعناب حتى لا يتخذ الناس منها خمرا، ومنعهم من طبخ الملوخية، وأشياء من الرعونات التي من أحسنها منع النساء من الخروج، وكراهة الخمر.

وكانت العامة تبغضه كثيرا، ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة له ولأسلافه، في صورة قصص، فإذا قرأها ازداد غيظا وحنقا عليهم، حتى إن أهل مصر عملوا صورة امرأة من ورق بخفيها وإزارها، وفي يدها قصة من الشتم واللعن والمخالفة شيء كثير، فلما رآها ظنها امرأة، فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها فقرأها فرأى ما فيها، فأغضبه ذلك جدا، فأمر بقتل المرأة.

فلما تحققها من ورق ازداد غيظا إلى غيظه، ثم لما وصل إلى القاهرة أمر السودان أن يذهبوا إلى مصر فيحرقوها وينهبوا ما فيها من الأموال والمتاع والحريم، فذهبوا فامتثلوا ما أمرهم به، فقاتلهم أهل مصر قتالا شديدا، ثلاثة أيام، والنار تعمل في الدور والحريم.

وهو في كل يوم قبحه الله، يخرج فيقف من بعيد وينظر ويبكي ويقول: من أمر هؤلاء العبيد بهذا؟

ثم اجتمع الناس في الجوامع ورفعوا المصاحف وصاروا إلى الله عز وجل، واستغاثوا به، فرق لهم الترك والمشارقة وانحازوا إليهم، وقاتلوا معهم عن حريمهم ودورهم، وتفاقم الحال جدا، ثم ركب الحاكم لعنه الله ففصل بين الفريقين، وكف العبيد عنهم، وكان يظهر التنصل مما فعله العبيد وأنهم ارتكبوا ذلك من غير علمه وإذنه، وكان ينفذ إليهم السلاح ويحثهم على ذلك في الباطن، وما انجلى الأمر حتى احترق من مصر نحو ثلثها، ونهب قريب من نصفها، وسبيت نساء وبنات كثيرة وفعل معهن الفواحش والمنكرات، حتى أن منهن من قتلت نفسها خوفا من العار والفضيحة، واشترى الرجال منهم من سبي لهم من النساء والحريم.

قال ابن الجوزي: ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عنّ له أن يدّعي الربوبية، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد يا أحد يا محي يا مميت، قبحهم الله جميعا.

صفة مقتل الحاكم بن المعز الفاطمي لعنه الله

كان قد تعدى شره إلى الناس كلهم حتى إلى أخته، وكان يتهمها بالفاحشة، ويسمعها أغلظ الكلام، فتبرمت منه، وعملت على قتله، فراسلت أكبر الأمراء، أميرا يقال له: ابن دواس، فتوافقت هي وهو على قتله ودماره، وتواطآ على ذلك، فجهز من عنده عبدين، أسودين شهمين، وقال لهما: إذا كانت الليلة الفلانية فكونا في جبل المقطم، ففي تلك الليلة يكون الحاكم هناك في الليل لينظر في النجوم، وليس معه أحد إلا ركابي وصبي، فاقتلاه واقتلاهما معه، واتفق الحال على ذلك.

فلما كانت تلك الليلة قال الحاكم لأمه: عليّ في هذه الليلة قطع عظيم، فإن نجوت منه عمرت نحوا من ثمانين سنة، ومع هذا فانقلي حواصلي إليك، فإن أخوف ما أخاف عليك من أختي، وأخوف ما أخاف على نفسي منها، فنقل حواصله إلى أمه، وكان له في صناديق قريب من ثلاثمائة ألف دينار، وجواهر أخر.

فقالت له أمه: يا مولانا إذا كان الأمر كما تقول فارحمني ولا تركب في ليلتك هذه إلى موضع، وكان يحبها.

فقال: أفعل، وكان من عادته أن يدور حول القصر كل ليلة، فدار ثم عاد إلى القصر، فنام إلى قريب من ثلث الليل الأخير، فاستيقظ وقال: إن لم أركب الليلة فاضت نفسي، فثار فركب فرسا وصحبه صبي وركابي، وصعد الجبل المقطم فاستقبله ذانك العبدان فأنزلاه عن مركوبه، وقطعا يديه ورجليه، وبقرا بطنه، فأتيا به مولاهما ابن دواس، فحمله إلى أخته فدفنته في مجلس دارها، واستدعت الأمراء والأكابر والوزير وقد أطلعته على الجلية، فبايعوا لولد الحاكم أبي الحسن علي، ولقب بالظاهر لإعزاز دين الله، وكان بدمشق، فاستدعت به وجعلت تقول للناس: إن الحاكم قال لي: إنه يغيب عنكم سبعة أيام ثم يعود، فاطمأن الناس، وجعلت ترسل ركابيين إلى الجبل فيصعدونه، ثم يرجعون فيقولون: تركناه في الموضع الفلاني.

ويقول الذين بعدهم لأمه: تركناه في موضع كذا وكذا.

حتى اطمأن الناس وقدم ابن أخيها واستصحب معه من دمشق ألف ألف دينار، وألفي ألف درهم، فحين وصل ألبسته تاج جد أبيه المعز، وحلة عظيمة، وأجلسته على السرير، وبايعه الأمراء والرؤوساء، وأطلق لهم الأموال، وخلعت على ابن دواس خلعة سنية هائلة، وعملت عزاء أخيها الحاكم ثلاثة أيام، ثم أرسلت إلى ابن دواس طائفة من الجند ليكونوا بين يديه بسيوفهم وقوفا في خدمته، ثم يقولوا له في بعض الأيام: أنت قاتل مولانا، ثم يهبرونه بسيوفهم، ففعلوا ذلك، وقتلت كل من اطلع على سرها في قتل أخيها فعظمت هيبتها وقويت حرمتها وثبتت دولتها.

وقد كان عمر الحاكم يوم قتل سبعا وثلاثين سنة، ومدة ملكه من ذلك خمسا وعشرين سنة.

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة

فيها: تولى القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد السمناني الحسبة والمواريث ببغداد، وخلع عليه السواد.

وفيها: قالت جماعة من العلماء والمسلمين للملك الكبير يمين الدولة، محمود بن سبكتكين: أنت أكبر ملوك الأرض، وفي كل سنة تفتح طائفة من بلاد الكفر، وهذه طريق الحج، قد تعطلت من مدة ستين وفتحك لها أوجب من غيرها.

فتقدم إلى قاضي القضاة أبي محمد الناصحي أن يكون أمير الحج في هذه السنة، وبعث معه بثلاثين ألف دينار للأعراب، غير ما جهز من الصدقات، فسار الناس بصحبته، فلما كانوا بفَيْد اعترضهم الأعراب فصالحهم القاضي أبو محمد الناصحي بخمسة آلاف دينار، فامتنعوا وصمم كبيرهم - وهو جماز بن عُدَي - على أخذ الحجيج، وركب فرسه وجال جولة واستنهض شياطين العرب، فتقدم إليه غلام من سمرقند فرماه بسهم فوصل إلى قلبه فسقط ميتا، وانهزمت الأعراب، وسلك الناس الطريق فحجوا ورجعوا سالمين ولله الحمد والمنة.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أبو سعد الماليني

أحمد بن محمد بن أحمد بن إسماعيل بن حفص، أبو سعد الماليني، ومالين قرية من قرى هراة، كان من الحفاظ المكثرين الراحلين في طلب الحديث إلى الآفاق، وكتب كثيرا، وكان ثقة صدوقا صالحا، مات بمصر في شوال منها.

الحسن بن الحسين ابن محمد بن الحسين بن رامين القاضي

أبو محمد الاستراباذي، نزل بغداد وحدث بها عن الإسماعيلي وغيره، وكان شافعيا كبيرا، فاضلا صالحا.

الحسن بن منصور بن غالب

الوزير الملقب ذا السعادتين، ولد بسيراف سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، ثم صار وزيرا ببغداد، ثم قتل وصودر أبوه علي ثمانين ألف دينار.

الحسين بن عمرو

أبو عبد الله الغزال، سمع النجاد والخلدي وابن السماك وغيرهم.

قال الخطيب: كتبت عنه وكان ثقة صالحا كثير البكاء عند الذكر.

محمد بن عمر أبو بكر العنبري الشاعر

كان أدبيا ظريفا، حسن الشعر، فمن ذلك قوله:

إني نظرت إلى الزما ** ن وأهله نظرا كفاني

فعرفته وعرفتهم ** وعرفت عزي من هواني

فلذاك أطّرح الصد ** يق فلا أراه ولا يراني

وزهدت فيما في يديـ ** ـه ودونه نيل الأماني

فتعجبوا لمغالب ** وهب الأقاصي للأداني

وانسل من بين الزحا ** م فماله في الغلب ثاني

قال ابن الجوزي: وكان متصوفا ثم خرج عنهم وذمهم بقصائد ذكرتها في تلبيس إبليس.

توفي يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى منها.

محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد

ابن روق بن عبد الله بن يزيد بن خالد، أبو الحسن البزار، المعروف بابن رزقويه.

قال الخطيب: هو أول شيخ كتبت عنه في سنة ثلاث وأربعمائة، وكان يذكر أنه درس القرآن ودرس الفقه على مذهب الشافعي، وكان ثقة صدوقا كثير السماع والكتابة، حسن الاعتقاد، جميل المذهب، مديما لتلاوة القرآن، شديدا على أهل البدع، وأكب دهرا على الحديث.

وكان يقول: لا أحب الدنيا إلا لذكر الله وتلاوة القرآن، وقراءتي عليكم الحديث.

وقد بعث بعض الأمراء إلى العلماء بذهب فقبلوا كلهم غيره، فإنه لم يقبل شيئا، وكانت وفاته يوم الاثنين السادس عشر من جمادى الأولى منها، عن سبع وثمانين سنة، ودفن بالقرب من مقبرة معروف الكرخي.

أبو عبد الرحمن السلمي

محمد بن الحسين بن محمد بن موسى، أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري، روى عن الأصم وغيره، وعنه مشايخ البغداديين، كالأزهري والعشاري وغيرهما، وروى عنه البيهقي وغيره.

قال ابن الجوزي: كانت له عناية بأخبار الصوفية، فصنف لهم تفسيرا على طريقتهم، وسننا وتاريخا، وجمع شيوخا وتراجم وأبوابا.

له بنيسابور دار معروفة، وفيها صوفية وبها قبره، ثم ذكر كلام الناس في تضعيفه في الرواية، فحكى عن الخطيب عن محمد بن يوسف القطان أنه قال: لم يكن بثقة، ولم يكن سمع من الأصم شيئا كثيرا، فلما مات الحاكم روى عنه أشياء كثيرة جدا، وكان يضع للصوفية الأحاديث.

قال ابن الجوزي: وكانت وفاته في ثالث شعبان منها.

أبو علي الحسن بن علي الدقاق النيسابوري

كان يعظ الناس ويتكلم على الأحوال والمعرفة، فمن كلامه: من تواضع لأحد لأجل دنياه ذهب ثلثا دينه، لأنه خضع له بلسانه وأركانه، فإن اعتقد تعظيمه بقلبه أو خضع له به ذهب دينه كله.

وقال في قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} 1. اذكروني وأنتم أحياء أذكركم وأنتم أموات تحت التراب، وقد تخلى عنكم الأقارب والأصحاب والأحباب.

وقال: البلاء الأكبر أن تريد ولا تُراد، وتدنو فترد إلى الطرد والأبعاد، وأنشد عند قوله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} 2.

جننا بليلى وهي جنت بغيرنا ** وأخرى بنا مجنونة لا نريدها

وقال في قوله : «حفت الجنة بالمكاره»: إذا كان هذا المخلوق لا وصول إليه إلا بتحمل المشاق فما الظن بمن لم يزل؟

وقال في قوله عليه السلام: «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها».

يا عجبا لمن لم ير محسنا غير الله كيف لا يميل بكليته إليه؟

قلت: كلامه على هذا الحديث جيد والحديث لا يصح بالكلية.

صريع الدلال الشاعر

أبو الحسن علي بن عبيد الواحد، الفقيه البغدادي، الشاعر الماجن، المعروف بصريع الدلال، قتيل الغواني ذي الرقاعتين، له قصيدة مقصورة عارض بها مقصورة ابن دريد يقول فيها:

وألف حمل من متاع تستر ** أنفع للمسكين من لقط النوى

من طبخ الديك ولا يذبحه ** طار من القدر إلى حيث انتهى

من دخلت في عينه مسلّة ** فسلْه من ساعته كيف العمى

والذقن شعر في الوجوه طالع ** كذلك العقصة من خلف القفى

إلى أن ختمها بالبيت الذي حسد عليه وهو قوله:

من فاته العلم وأخطأه الغنى ** فذاك والكلب على حد سوى ** قدم مصر في سنة ثنتى عشرة وأربعمائة، وامتدح فيها خليفتها الظاهر لإعزاز دين الله ابن الحاكم، واتفقت وفاته بها في رجبها.

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة

فيها: جرت كائنة غريبة عظيمة، ومصيبة عامة، وهي أن رجلا من المصريين من أصحاب الحاكم اتفق مع جماعة من الحجاج المصريين على أمر سوء، وذلك أنه لما كان يوم النفر الأول طاف هذا الرجل بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر الأسود جاء ليقبله فضربه بدبوس كان معه ثلاث ضربات متواليات، وقال: إلى متى نعبد هذا الحجر؟ ولا محمد ولا علي مما أفعله، فإني أهدم اليوم هذا البيت.

وجعل يرتعد فاتقاه أكثر الحاضرين وتأخروا عنه، وذلك لأنه كان رجلا طوالا جسيما أحمر اللون أشقر الشعر، وعلى باب الجامع جماعة من الفرسان، وقوف ليمنعوه ممن يريد منعه من هذا الفعل، وأراده بسوء، فتقدم إليه رجل من أهل اليمن معه خنجر فوجأه بها، وتكاثر الناس عليه فقتلوه وقطعوه قطعا، وحرقوه بالنار، وتتبعوا أصحابه فقتلوا منهم جماعة.

ونهبت أهل مكة الركب المصري، وتعدى النهب إلى غيرهم، وجرت خبطة عظيمة، وفتنة كبيرة جدا، ثم سكن الحال بعد أن تتبع أولئك النفر الذين تمالؤوا على الإلحاد في أشرف البلاد غير أنه قد سقط من الحجر ثلاث فلق مثل الأظفار، وبدا ما تحتها أسمر يضرب إلى صفرة، محببا مثل الخشخاش، فأخذ بنوشيبة تلك الفلق فعجنوها بالمسك والك وحشوا بها تلك الشقوق التي بدت، فاستمسك الحجر واستمر على ما هو عليه الآن، وهو ظاهر لمن تأمله.

وفيها: فتح المارستان الذي بناه الوزير مؤيد الملك، أبو علي الحسن وزير شرف الملك بواسط، ورتب له الخزان والأشربة والأدوية والعقاقير، وغير ذلك مما يحتاج إليه.

وفيها توفي من الأعيان:

ابن البواب الكاتب

صاحب الخط المنسوب، علي بن هلال أبو الحسن بن البواب، صاحب أبي الحسين بن سمعون الواعظ، وقد أثنى على ابن البواب غير واحد في دينه وأمانته، وأما خطه وطريقته فيه فأشهر من أن ننبه عليها، وخطه أوضح تعريبا من خط أبي على بن مقلة، ولم يكن بعد ابن مقلة أكتب منه، وعلى طريقته الناس اليوم في سائر الأقاليم إلا القليل.

قال ابن الجوزي: توفي يوم السبت ثاني جمادى الآخرة منها، ودفن بمقبرة باب حرب، وقد رثاه بعضهم بأبيات منها قوله:

فللقلوب التي أبهجتها حرق ** وللعيون التي أقررتها سهر

فما لعيش وقد ودعته أرج ** وما لليل وقد فارقته سحر

قال ابن خلكان: ويقال له: الستري، لأن أباه كان ملازما لستر الباب، ويقال له: ابن البواب، وكان قد أخذ الخط عن عبد الله بن محمد بن أسد بن علي بن سعيد البزاز، وقد سمع أسد هذا على النجاد وغيره، وتوفي سنة عشر وأربعمائة، وأما ابن البواب فإنه توفي في جمادى الأولى من هذه السنة، وقيل: في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، وقد رثاه بعضهم فقال:

استشعرت الكتّاب فقدك سالفا ** وقضت بصحة ذلك الأيام

فلذاك سودت الدُّويُّ كآبة ** أسفا عليك وشقت الأقلام

ثم ذكر ابن خلكان أول من كتب العربية، فقيل: إسماعيل عليه السلام، وقيل: أول من كتب بالعربية من قريش حرب بن أمية بن عبد شمس، أخذها من بلاد الحيرة عن رجل يقال له: أسلم بن سدرة، وسأله ممن اقتبستها؟

فقال: من واضعها رجل يقال له: مرامر بن مروة، وهو رجل من أهل الأنبار.

فأصل الكتابة في العرب من الأنبار.

وقال الهيثم بن عدي: وقد كان لحمير كتابة يسمونها المسند، وهي حروف متصلة غير منفصلة، وكانوا يمنعون العامة من تعلمها، وجميع كتابات الناس تنتهي إلى اثني عشر صنفا وهي: العربية، والحميرية، واليونانية، والفارسية، والرومانية، والعبرانية، والرومية، والقبطية، والبربرية، والهندية، والأندلسية، والصينية.

وقد اندرس كثير منها فقل من يعرف شيئا منها.

وفيها توفي من الأعيان:

علي بن عيسى ابن سليمان بن محمد بن أبان

أبو الحسن الفارسي المعروف بالسكري الشاعر، وكان يحفظ القرآن ويعرف القراءات، وصحب أبا بكر الباقلاني، وأكثر شعره في مديح الصحابة وذم الرافضة.

وكانت وفاته في شوال من هذه السنة ودفن بالقرب من قبر معروف، وقد كان أوصى أن يكتب على قبره هذه الأبيات التي عملها وهي قوله:

نفس، يا نفس كما تمادين في تلفي ** وتمشين في الفعال المعيب

راقبي الله واحذري موقف العر ** ض وخافي يوم الحساب العصيب

لا تغرنَّك السلامة في العيـ ** ـش فإن السليم رهن الخطوب

كل حي فللمنون ولا يد ** فع كأس المنون كيد الأديب

واعلمي أن للمنية وقتا ** سوف يأتي عجلان غير هيوب

إن حب الصديق في موقف الـ ** ـحشر أمان للخائف المطلوب

محمد بن أحمد بن محمد بن منصور

أبو جعفر البيع، ويعرف بالعتيقي، ولد سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وأقام بطرسوس مدة، وسمع بها وبغيرها، وحدث بشيء يسير.

ابن النعمان شيخ الإمامية الروافض

والمصنف لهم، والمحامي عن حوزتهم، كانت له وجاهة عند مملوك الأطراف، لميل كثير من أهل ذلك الزمان إلى التشيع، وكان مجلسه يحضره خلق كثير من العلماء من سائر الطوائف، وكان من جملة تلاميذه الشريف الرضي والمرتضى، وقد رثاه بقصيدة بعد وفاته في هذه السنة، منها قوله:

مَنْ لعضل أخرجت منه حساما ** ومعان فضضت عنها ختاما؟

من يثير العقول من بعد ما ** كن همودا ويفتح الأفهاما؟

من يعير الصديق رأيا ** إذا ما سل في الخطوب حساما؟

ثم دخلت سنة أربع عشرة وأربعمائة

فيها: قدم الملك شرف الدولة إلى بغداد فخرج الخليفة في الطيارة لتلقيه، وصحبته الأمراء والقضاة والفقهاء والوزراء والرؤساء، فلما واجهه شرف الدولة قبل الأرض بين يديه مرات والجيش واقف برمته، والعامة في الجانبين.

وفيها: ورد كتاب من يمين الدولة محمود بن سبكتكين إلى الخليفة يذكر أنه دخل بلاد الهند أيضا، وأنه فتح بلادا، وقتل خلقا منهم، وأنه صالحه بعض ملوكهم وحمل إليه هدايا سنية، منها فيول كثيرة، ومنها طائر على هيئة القُمري، إذا وضع عند الخوان وفيه سم دمعت عيناه وجرى منهما ماء، ومنها حجر يحك ويؤخذ منه ما تحصل منه فيطلى بها الجراحات ذات الأفواه الواسعة فيلحمها، وغير ذلك.

وحج الناس من أهل العراق ولكن رجعوا على طريق الشام لاحتياجهم إلى ذلك.

وفيها توفي من الأعيان:

الحسن بن الفضل بن سهلان

أبو محمد الرامهرمزي، وزير سلطان الدولة، وهو الذي بنى سور الحائر عند مشهد الحسين، قتل في شعبان منها.

الحسن بن محمد بن عبد الله

أبو عبد الله الكشغلي الطبري، الفقيه الشافعي، تفقه على أبي القاسم الداركي، وكان فهما فاضلا صالحا زاهدا، وهو الذي درس بعد الشيخ أبي حامد الإسفرائيني في مسجده، مسجد عبد الله بن المبارك في قطيعة الربيع، وكان الطلبة عنده مكرمين، اشتكى بعضهم إليه حاجة وأنه قد تأخرت عنه نفقته التي ترد إليه من أبيه، فأخذه بيده وذهب إلى بعض التجار فاستقرض له منه خمسين دينارا.

فقال التاجر: حتى تأكل شيئا فمد السماط فأكلوا وقال: يا جارية هاتي المال، فأحضرت شيئا من المال فوزن منها خمسين دينارا ودفعها إلى الشيخ، فلما قاما إذا بوجه ذلك الطالب قد تغير، فقال له الكشغلي: ما لك؟

فقال: يا سيدي قد سكن قلبي حب هذه الجارية، فرجع به إلى التاجر، فقال له: قد وقعنا في فتنة أخرى.

فقال: وما هي؟

فقال: إن هذا الفقيه قد هوى الجارية.

فأمر التاجر الجارية أن تخرج فتسلمها الفقيه، وقال: ربما أن يكون قد وقع في قلبها منه مثل الذي قد وقع في قلبه منها، فلما كان عن قريب قدم على ذلك الطالب نفقته من أبيه ستمائة دينار، فوفى ذلك التاجر ما كان له عليه من ثمن الجارية والقرض، وذلك بسفارة الشيخ.

توفي في ربيع الآخر منها ودفن بباب حرب.

علي بن عبد الله بن جهضم

أبو الحسن الجهضمي الصوفي المكي، صاحب بهجة الأسرار، كان شيخ الصوفية بمكة، وبها توفي.

قال ابن الجوزي: وقد ذكر أنه كان كذابا، ويقال: إنه الذي وضع حديث صلاة الرغائب.

القاسم بن جعفر بن عبد الواحد

أبو عمر الهاشمي البصري، قاضيها، سمع الكثير، وكان ثقة أمينا، وهو راوي سنن أبي داود عن أبي علي اللؤلؤي، توفي فيها وقد جاوز التسعين.

محمد بن أحمد بن الحسن بن يحيى بن عبد الجبار

أبو الفرج القاضي الشافعي، يعرف بابن سميكة، روى عن النجاد وغيره، وكان ثقة، توفي في ربيع الأول منها ودفن بباب حرب.

محمد بن أحمد أبو جعفر النسفي

عالم الحنفية في زمانه، وله طريقة في الخلاف، وكان فقيرا متزهدا، بات ليلة قلقا لما عنده من الفقر والحاجة، فعرض له فكر في فرع من الفروع كان أشكل عليه، فانفتح له فقام يرقص ويقول: أين الملوك؟

فسألته امرأته عن خبره فأعلمها بما حصل له، فتعجبت من شأنه رحمه الله.

وكانت وفاته في شعبان منها.

هلال بن محمد ابن جعفر بن سعدان

أبو الفتح الحفار، سمع إسماعيل الصفار والنجاد وابن الصواف، وكان ثقة، توفي في صفر عن اثنتين وتسعين سنة.

ثم دخلت سنة خمس عشرة وأربعمائة

فيها: ألزم الوزير جماعة الأتراك والمولدين والشريف المرتضى ونظام الحضرة أبا الحسن الزينبي وقاضي القضاة أبا الحسن بن أبي الشوارب، والشهود، بالحضور لتجديد البيعة لشرف الدولة، فلما بلغ ذلك الخليفة توهم أن تكون هذه البيعة لنية فاسدة من أجله، فبعث إلى القاضي والرؤساء ينهاهم عن الحضور، فاختلفت الكلمة بين الخليفة وشرف الدولة، واصطلحا وتصافيا، وجددت البيعة لكل منهما من الآخر.

ولم يحج فيها من ركب العراق ولا خراسان أحد، واتفق أن بعض الأمراء من جهة محمود بن سبكتكين شهد الموسم في هذه السنة، فبعث إليه صاحب مصر بخلع عظيمة ليحملها للملك محمود، فلما رجع بها إلى الملك أرسل بها إلى بغداد إلى الخليفة القادر فحرقت بالنار.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أحمد بن محمد بن عمر بن الحسن

أبو الفرح المعدل المعروف بابن المسلمة، ولد سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وسمع أباه وأحمد بن كامل والنجاد والجهضمي ودعلج وغيرهم، وكان ثقة.

سكن الجانب الشرقي من بغداد، وكان يملي في أول كل سنة مجلسا في المحرم، وكان عاقلا فاضلا، كثير المعروف، داره مألف لأهل العلم، وتفقه بأبي بكر الرازي، وكان يصوم الدهر، ويقرأ في كل يوم سبعا، ويعيده بعينه في التهجد، توفي في ذي القعدة منها.

أحمد بن محمد بن أحمد ابن القاسم بن إسماعيل

بن محمد بن إسماعيل بن سعيد بن أبان الضبي، أبو الحسن المحاملي، نسبة إلى المحامل التي يحمل عليها الناس في السفر، تفقه على أبي حامد الإسفراييني، وبرع فيه، حتى إن الشيخ كان يقول: هو أحفظ للفقه مني.

وله المصنفات المشهورة منها (اللباب)، و(الأوسط) و(المقنع) وله في الخلاف، وعلق على أبي حامد تعليقة كبيرة.

قال ابن خلكان: ولد سنة ثمان وستين وثلاثمائة، وتوفي في يوم الأربعاء لتسع بقين من ربيع الآخر منها، وهو شاب.

عبيد الله بن عبد الله ابن الحسين أبو القاسم الخفاف

المعروف بابن النقيب، كان من أئمة السنة، وحين بلغه موت ابن المعلم فقيه الشيعة سجد لله شكرا.

وجلس للتهنئة وقال: ما أبالي أي وقت مت بعد أن شاهدت موت ابن المعلم.

ومكث دهرا طويلا يصلي الفجر بوضوء العشاء.

قال الخطيب: وسألته عن مولده فقال: في سنة خمس وثلاثمائة، وأذكر من الخلفاء المقتدر والقاهر والرضي والمتقي لله والمستكفي والمطيع والطائع والقادر والغالب بالله، الذي خطب له بولاية العهد، توفي في سلخ شعبان منها عن مائة وعشر سنين.

عمر بن عبد الله بن عمر أبو حفص الدلال

قال: سمعت الشبلي ينشد قوله:

وقد كان شيء سمى السرور ** قديما سمعنا به ما فعل

خليلي، إن دام هم النفو ** س قليلا على ما نراه قتل

يؤمل دنيا لتبقى له ** فمات المؤمل قبل الأمل

محمد بن الحسن أبو الحسن الأقساسي العلوي

نائب الشريف المرتضي في إمرة الحجيج، حج بالناس سنين متعددة، وله فصاحة وشعر، وهو من سلالة زيد بن علي بن الحسين.

ثم دخلت سنة ست عشرة وأربعمائة

فيها: قوي أمر العيارين ببغداد ونهبوا الدور جهرة، واستهانوا بأمر السلطان.

وفي ربيع الأول منها توفي شرف الدولة بن بويه الديلمي صاحب بغداد والعراق وغير ذلك، فكثرت الشرور ببغداد ونهبت الخزائن، ثم سكن الأمر على تولية جلال الدولة أبي الطاهر، وخطب له على المنابر، وهو إذ ذاك على البصرة، وخلع على شرف الملك أبي سعيد بن ماكولا وزيره، ولقب علم الدين سعد الدولة أمين الملة شرف الملك، وهو أول من لقب بالألقاب الكثيرة، ثم طلب من الخليفة أن يبايع لأبي كاليجار ولي عهد أبيه سلطان الدولة، الذي استخلفه بهاء الدولة عليهم، فتوقف في الجواب ثم وافقهم على ما أرادوا، وأقيمت الخطبة للملك أبي كاليجار يوم الجمعة سادس عشر شوال منها، ثم تفاقم الأمر ببغداد من جهة العيارين، وكبسوا الدور ليلا ونهارا، وضربوا أهلها كما يضرب المصادرون ويستغيث أحدهم فلا يغاث، واشتد الحال وهربت الشرطة من بغداد ولم تغن الأتراك شيئا، وعملت السرايج على أفواه السكك فلم يفد ذلك شيئا، وأحرقت دار الشريف المرتضى فانتقل منها، وغلت الأسعار جدا.

ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان.

وممن توفي فيها من الأعيان:

سابور بن أزدشير

وزر لبهاء الدولة ثلاث مرات، ووزر لشرف الدولة، وكان كاتبا سديدا عفيفا عن الأموال، كثير الخير، سليم الخاطر، وكان إذا سمع المؤذن لا يشغله شيء عن الصلاة، وقد وقف دارا للعلم في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وجعل فيها كتبا كثيرة جدا، ووقف عليها غلة كبيرة، فبقيت سبعين سنة، ثم أحرقت عند مجيء الملك طغرلبك في سنة خمسين وأربعمائة، وكانت محلتها بين السورين، وقد كان حسن المعاشرة إلا أنه كان يعزل عماله سريعا خوفا عليهم من الأشر والبطر، توفي فيها وقد قارب التسعين.

عثمان النيسابوري

الجداوي الواعظ.

قال ابن الجوزي: صنف كتبا في الوعظ من أبرد الأشياء، وفيه أحاديث كثيرة موضوعة، وكلمات مرذولة، إلا أنه كان خيرا صالحا، وكانت له وجاهة عند الخلفاء والملوك، وكان الملك محمود بن سبكتكين إذا رآه قام له، وكانت محلته حمى يحتمي بها من الظلمة، وقد وقع في بلده نيسابور موت، وكان يغسل الموتى محتسبا، فغسل نحوا من عشرة آلاف ميتا، رحمه الله.

محمد بن الحسن بن صالحان

أبو منصور الوزير لشرف الدولة ولبهاء الدولة، كان وزير صدق جيد المباشرة حسن الصلاة، محافظا على أوقاتها، وكان محسنا إلى الشعراء والعلماء، توفي فيها عن ست وسبعين سنة.

الملك شرف الدولة

أبو علي بن بهاء الدولة، أبي نصر بن عضد الدولة بن بويه، أصابه مرض حار فتوفي لثمان بقين من ربيع الآخر عن ثلاث وعشرين سنة، وثلاثة أشهر وعشرين يوما.

التهامي الشاعر

علي بن محمد التهامي أبو الحسن، له ديوان مشهور، وله مرثاة في ولده وكان قد مات صغيرا أولها:

حكم المنية في البرية جاري ** ما هذه الدنيا بدار قرار

ومنها:

إني لأرحم حاسديَّ لحرِّما ** ضمت صدورهم من الأوغار

نظروا صنيع الله بي فعيونهم ** في جنة وقلوبهم في نار

ومنها في ذم الدنيا:

جبلت على كدر وأنت ترومها ** صفوا من الأقذار والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها ** متطلب في الماء جذوة نار

وإذا رجوت المستحيل فإنما ** تبني الرجاء على شفير هار

ومنها قوله في ولده بعد موته:

جاورت أعدائي وجاور ربه ** شتان بين جواره وجواري وقد ذكر ابن خلكان أنه رآه بعضهم في المنام في هيئة حسنة فقال له بعض أصحابه: بم نلتَ هذا؟

فقال: بهذا البيت:

شتان بين جواره وجواري

ثم دخلت سنة سبع عشرة وأربعمائة

في العشرين من محرمها وقعت فتنة بين الاسفهلارية وبين العيارين، وركبت لهم الأتراك بالدبابات، كما يفعل في الحرب، وأحرقت دور كثيرة من الدور التي احتمى فيها العيارون، وأحرق من الكرخ جانب كبير، ونهب أهله، وتعدى بالنهب إلى غيرهم، وقامت فتنة عظيمة ثم خمدت التفنة في اليوم الثاني، وقرر على أهل الكرخ مائة ألف دينار مصادرة، لإثارتهم الفتن والشرور.

وفي شهر ربيع الآخر منها شهد أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري عند قاضي القضاة ابن أبي الشوارب بعد ما كان استتابه عما ذكر عنه من الاعتزال.

وفي رمضان منها انقض كوكب سمع له دوي كدوي الرعد، وقع في سلخ شوال برد لم يعهد مثله، واستمر ذلك إلى العشرين من ذي الحجة، وجمد الماء طول هذه المدة، وقاسى الناس شدة عظيمة، وتأخر المطر وزيادة دجلة، وقلّت الزراعة، وامتنع كثير من الناس عن التصرف.

ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان في هذه السنة لفساد البلاد وضعف الدولة.

وفيها توفي من الأعيان: قاضي القضاة ابن أبي الشوارب:

أحمد بن محمد بن عبد الله

ابن العباس بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، أبو الحسن القرشي الأموي، قاضي قضاة بغداد بعد ابن الأكفاني بثنتي عشرة سنة، وكان عفيفا نزها، وقد سمع الحديث من أبي عمر الزاهد وعبد الباقي بن قانع، إلا أنه لم يحدث.

قاله ابن الجوزي.

وحكى الخطيب عن شيخه أبي العلاء الواسطي: أن أبا الحسن هذا آخر من ولي الحكم ببغداد، من سلالة محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وقد ولي الحكم من سلالته أربعة وعشرون، منهم ولّوا قضاء قضاة بغداد، قال أبو العلاء: ما رأينا مثل أبي الحسن هذا، جلالة ونزاهة وصيانة وشرفا.

وقد ذكر القاضب الماوردي: أنه كان له صديقا وصاحبا، وأن رجلا من خيار الناس أوصى له بمائتي دينار، فحملها إليه الماوردي فأبى القاضي أن يقبلها، وجهد عليه كل جهد فلم يفعل، وقال له: سألتك بالله لا تذكرن هذا لأحد ما دمت حيا.

ففعل الماوردي، فلم يخبر عنه إلا بعد موته.

وكان ابن الشوارب فقيرا إليها، وإلى ما هو دونها فلم يقبلها، رحمه الله، توفي في شوال منها.

جعفر بن أبان أبو مسلم الختلي،

سمع ابن بطة ودرس فقه الشافعي على الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وكان ثقة دينا، توفي في رمضان منها.

عمر بن أحمد بن عبدويه

أبو حازم الهذلي النيسابوري، سمع ابن بجيد والإسماعيلي، وخلقا، وسمع منه الخطيب وغيره، وكان الناس ينتفعون بإفادته وانتخابه، توفي يوم عيد الفطر منها.

علي بن أحمد بن عمر بن حفص

أبو الحسن المقري المعروف بالحمامي، سمع النجاد والخلدي وابن السماك وغيرهم، وكان صدوقا فاضلا، حسن الاعتقاد، وتفرد بأسانيد القراءات وعلوها، توفي في شعبان منها عن تسع وثمانين سنة.

صاعد بن الحسن ابن عيسى الربعي البغدادي

صاحب كتاب الفصوص في اللغة على طريقة القالي في الأمالي، صنفه للمنصور بن أبي عامر، فأجازه عليه خمسة آلاف دينار، ثم قيل له: إنه كذاب متهم.

فقال في ذلك بعض الشعراء:

قد غاص في الماء كتاب الفصوص ** وهكذا كل ثقيل يغوص

فلما بلغ صاعدا هذا البيت أنشد:

عاد إلى عنصره إنما ** يخرج من قعر البحور الفصوص

قلت: كأنه سمى هذا الكتاب بهذا الاسم ليشاكل به الصحاح للجوهري، لكنه كان مع فصاحته وبلاغته وعلمه متهما بالكذب، فلهذا رفض الناس كتابه، ولم يشتهر، وكان ظريفا ماجنا سريع الجواب، سأله رجل أعمى على سبيل التهكم فقال له: ما الحُرْ تَقَلُ؟

فأطرق ساعة وعرف أنه افتعل هذا من عند نفسه ثم رفع رأسه إليه فقال: هو الذي يأتي نساء العميان، ولا يتعداهن إلى غيرهن.

فاستحى ذلك الأعمى، وضحك الحاضرون.

توفي في هذه السنة سامحه الله.

القفال المروزي

أحد أئمة الشافعية الكبار، علما وزهدا وحفظا وتصنيفا، وإليه تنسب الطريقة الخراسانية، ومن أصحابه الشيخ أبو محمد الجويني، والقاضي حسنين، وأبو علي السبخي.

قال ابن خلكان: وأخذ عنه إمام الحرمين، وفيما قاله نظر.

لأن سن إمام الحرمين لا يحتمل ذلك، فإن القفال هذا مات في هذه السنة وله تسعون سنة، ودفن بسجستان، وإمام الحرمين ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة كما سيأتي، وإنما قيل له: القفال، لأنه كان أولا يعمل الأقفال، ولم يشتغل إلا وهو ابن ثلاثين سنة، رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة ثمان عشرة وأربعمائة

في ربيع الأول منها وقع برد أهلك شيئا كثيرا من الزروع والثمار، وقتل خلقا كثيرا من الدواب.

قال ابن الجوزي: وقد قيل إنه كان في برده كل بردة رطلان وأكثر، وفي واسط بلغت البردة أرطالا، وفي بغداد بلغت قدر البيض.

وفي ربيع الآخر سألت الاسفهلارية الغلمان الخليفة أن يعزل عنهم أبا كاليجار، لتهاونه بأمرهم، وفساده وفساد الأمور في أيامه، ويولي عليهم جلال الدولة، الذي كانوا قد عزلوه عنهم، فماطلهم الخليفة في ذلك، وكتب إلى أبي كاليجار أن يتدارك أمره، وأن يسرع الأوبة إلى بغداد، قبل أن يفوت الأمر.

وألح أولئك على الخليفة في تولية جلال الدولة، وأقاموا له الخطبة ببغداد، وتفاقم الحال، وفسد النظام.

وفيها: ورد كتاب من محمود بن سبكتكين يذكر أنه دخل بلاد الهند أيضا، وأنه كسر الصنم الأعظم الذي لهم المسمى بسومنات، وقد كانوا يفدون إليه من كل فج عميق، كما يفد الناس إلى الكعبة البيت الحرام وأعظم، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة التي لا توصف ولا تعد، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية، ومدينة مشهورة، وقد امتلأت خزائنه أموالا، وعنده ألف رجل يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه، وثلاثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه، لما يضرب على بابه الطبول والبوقات، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم، وكان يعوقه طول المفاوز وكثرة الموانع والآفات، ثم استخار الله السلطان محمود لما بلغه خبر هذا الصنم وعباده، وكثرة الهنود في طريقه، والمفاوز المهلكة، والأرض الخطرة، في تجشم ذلك في جيشه، وأن يقطع تلك الأهوال إليه.

فندب جيشه لذلك فانتدب معه ثلاثون ألفا من المقاتلة، ممن اختارهم لذلك، سوى المتطوعة، فسلمهم الله حتى انتهوا إلى بلد هذا الوثن، ونزلوا بساحة عباده، فإذا هو بمكان بقدر المدينة العظيمة، قال: فما كان بأسرع من أن ملكناه وقتلنا من أهله خمسين ألفا، وقلعنا هذا الوثن وأوقدنا تحته النار.

وقد ذكر غير واحد: أن الهنود بذلوا للسلطان محمود أموالا جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الأعظم، فأشار من أشار من الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم، فقال: حتى أستخير الله عز وجل.

فلما أصبح قال: إني فكرت في الأمر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة: أين محمود الذي كسر الصنم؟ أحب إليّ من أن يقال الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا، ثم عزم فكسره رحمه الله.

فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلئ والذهب والجواهر النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة، ونرجو من الله له في الآخرة الثواب الجزيل الذي مثقال دانق منه خير من الدنيا وما فيها، مع ما حصل له من الثناء الجميل الدنيوي، فرحمه الله وأكرم مثواه.

وفي يوم السبت ثالث رمضان دخل جلال الدولة إلى بغداد فتلقاه الخليفة في دجلة في طيارة، ومعه الأكابر والأمراء، فلما واجه جلال الدولة الخليفة قبّل الأرض دفعات، ثم سار إلى دار الملك، وعاد الخليفة إلى داره، وأمر جلال الدولة أن يضرب له الطبل في أوقات الصلوات الثلاث، كما كان الأمر في زمن عضد الدولة، وصمصامها وشرفها وبهائها، وكان الخليفة يضرب له الطبل في أوقات الخمس، فأراد جلال الدولة ذلك فقيل له: يحمل هذه المساواة الخليفة في ذلك، ثم صمم على ذلك في أوقات الخمس.

قال ابن الجوزي: وفيها وقع برد شديد حتى جمد الماء والنبيذ وأبوال الدواب والمياه الكبار، وحافات دجلة.

ولم يحج أحد من أهل العراق.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن محمد بن عبد الله

ابن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو عبد الله الشاهد، خطب له في جامع المنصور في سنة ست وثمانين وثلاثمائة، ولم يخطب له إلا بخطبة واحدة جمعات كثيرة متعددة، فكان إذا سمعها الناس منه ضجوا بالبكاء وخشعوا لصوته.

الحسين بن علي بن الحسين أبو القاسم المغربي الوزير

ولد بمصر في ذي الحجة سنة تسعين وثلاثمائة، وهرب منها حين قتل صاحبها الحاكم أباه وعمه محمدا، وقصد مكة ثم الشام، ووزر في عدة أماكن، وكان يقول الشعر الحسن، وقد تذاكر هو وبعض الصالحين فأنشده ذلك الصالح شعرا:

إذا شئت أن تحيا غنيا فلا تكن ** على حالة إلا رضيت بدونها

فاعتزل المناصب والسلطان، فقال له بعض أصحابه: تركت المنازل والسلطان في عنفوان شبابك؟

فأنشأ يقول:

كنت في سفر الجهل والبطالة ** حينا فحان مني القوم

تبت من كل مأثم فعسى ** يمحي بهذا الحديث ذاك القديم

بعد خمس وأربعين تعدت ** ألا إن الآله القديم كريم

توفي بميافارقين في رمضان منها عن خمس وأربعين سنة، ودفن بمشهد علي.

محمد بن الحسن بن إبراهيم

أبو بكر الوراق، المعروف بابن الخفاف، روى عن القطيعي وغيره، وقد اتهموه بوضع الحديث والأسانيد، قاله الخطيب وغيره.

أبو القاسم اللالكائي

هبة الله بن الحسن بن منصور، الرازي، وهو طبري الأصل، أحد تلامذة الشيخ أبي حامد الإسفراييني، كان يفهم ويحفظ، وعني بالحديث فصنف فيه أشياء كثيرة، ولكن عاجلته المنية قبل أن تشتهر كتبه، وله كتاب في السنة وشرفها، وذكر طريقة السلف الصالح في ذلك، وقع لنا سماعه على الحجار عاليا عنه.

توفي بالدينور في رمضان منها، ورآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك؟

قال: غفر لي.

قال: بم؟

قال: بشيء قليل من السنة أحييته.

أبو القاسم بن أمير المؤمنين القادر

توفي ليلة الأحد في جمادى الآخرة، وصلي عليه غير مرة، ومشى الناس في جنازته، وحزن عليه أبوه حزنا شديدا، وقطع الطبل أياما.

ابن طباطبا الشريف

كان شاعرا وله شعر حسن.

أبو إسحاق وهو الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني

إبراهيم بن محمد بن مهران، الشيخ أبو إسحاق الإمام العلامة، ركن الدين الفقيه الشافعي، المتكلم الأصولي، صاحب (التصانيف في الأصلين)، (جامع الحلى) في مجلدات، و(التعليقة النافعة) في أصول الفقه، وغير ذلك، وقد سمع الكثير من الحديث من أبي بكر الإسماعيلي ودعلج وغيرهما، وأخذ عنه البيهقي والشيخ أبو الطيب الطبري، والحاكم النيسابوري، وأثنى عليه، وتوفي يوم عاشوراء منها بنيسابور، ثم نقل إلى بلده ودفن بمشهده.

القدوري صاحب الكتاب المشهور في مذهب أبي حنيفة

أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان، أبو الحسن القدوري الحنفي، صاحب (المصنف المختصر)، الذي يحفظ، كان إماما بارعا عالما، وثبتا مناظرا، وهو الذي تولى مناظرة الشيخ أبي حامد الإسفراييني من الحنفية، وكان القدوري يطريه ويقول: هو أعلم من الشافعي، وأنظر منه.

توفي يوم الأحد الخامس من رجب منها، عن ست وخمسين سنة، ودفن إلى جانب الفقيه أبي بكر الخوارزمي الحنفي.

ثم دخلت سنة تسع عشرة وأربعمائة

فيها: وقع بين الجيش وبين جلال الدولة ونهبوا دار وزيره، وجرت له أمور طويلة، آل الحال فيها إلى اتفاقهم على إخراجه من البلد، فهيئ له برذون رث، فخرج وفي يده طير نهارا، فجعلوا لا يلتفتون إليه ولا يفكرون فيه، فلما عزم على الركوب على ذلك البرذون الرث رثوا له ورقوا له ولهيئته وقبلوا الأرض بين يديه، وانصلحت قضيته بعد فسادها.

وفيها: قل الرطب جدا بسبب هلاك النخل في السنة الماضية بالبرد، فبيع الرطب كل ثلاثة أرطال بدينار جلالي، ووقع برد شديد أيضا فأهلك شيئا كثيرا من النخيل أيضا.

ولم يحج أحد من أهل المشرق ولا من أهل الديار المصرية فيها، إلا أن قوما من خراسان ركبوا في البحر من مدينة كرمان فانتهوا إلى جدة فحجوا.

وممن توفي فيها من الأعيان:

حمزة بن إبراهيم بن عبد الله

أبو الخطاب المنجم، حظي عند بهاء الدولة وعلماء النجوم، وكان له بذلك وجاهة عنده، حتى أن الوزراء كانوا يخافونه ويتوسلون به إليه، ثم صار أمره طريدا بعيدا حتى مات يوم مات بالكرخ من سامرا غريبا، فقيرا مفلوجا قد ذهب ماله وجاهه وعقله.

محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد

أبو الحسن التاجر، سمع الكثير على المشايخ المتقدمين، وتفرد بعلو الإسناد، وكان ذا مال جزيل فخاف من المصادرة ببغداد فانتقل إلى مصر فأقام بها سنة، ثم عاد إلى بغداد فاتفق مصادرة أهل محلته فقسط عليه ما أفقره، ومات حين مات ولم يوجد له كفن ولم يترك شيئا، فأرسل له القادر بالله ما كفن فيه.

مبارك الأنماطي

كان ذا مال جزيل نحو ثلاثمائة ألف دينار، مات ولم يترك وارثا سوى ابنة واحدة ببغداد، وتوفي هو بمصر.

أبو الفوارس بن بهاء الدولة

كان ظالما، وكان إذا سكر يضرب الرجل من أصحابه أو وزيره مائتي مقرعة، بعد أن يحلفه بالطلاق أنه لا يتأوه، ولا يخبر بذلك أحدا.

فيقال: إن حاشيته سموه، فلما مات نادوا بشعار أخيه كاليجار.

أبو محمد بن الساد وزير كاليجار

ولقبه معز الدولة، فلك الدولة، رشيد الأمة، وزير الوزراء، عماد الملك، ثم سلم بعد ذلك إلى جلال الدولة فاعتقله ومات فيها.

أبو عبد الله المتكلم

توفي فيها، هكذا رأيت ابن الجوزي ترجمه مختصرا.

ابن غلبون الشاعر

عبد المحسن بن محمد بن أحمد بن غالب أبو محمد الشامي ثم الصوري، الشاعر المطبق، له ديوان مليح، كان قد نظم قصيدة بليغه في بعض الرؤساء، ثم أنشدها لرئيس آخر يقال له: ذو النعمتين، وزاد فيها بيتا واحدا يقول فيه:

ولك المناقب كلها ** فلم اقتصرت على اثنتين

فأجازه جائزة سنية، فقيل له: إنه لم يقلها فيك.

فقال: إن هذا البيت وحده بقصيدة.

وله أيضا في بخيل نزل عنده:

وأخ مسه نزولي بقرح ** مثل ما مسني منه جرح

بت ضيفا له كما حكم الدهـ ** ـر وفي حكمه على الحر فتح

فابتداني يقول وهو من الـ ** ـسكر بالهم طافح ليس يصحو

لم تغربت؟قلت قال رسول اللـ ** ـه والقول منه نصح ونجح

«سافروا تغنموا» فقال وقد ** قال تمام الحديث «صوموا تصحوا»

ثم دخلت سنة عشرين وأربعمائة

فيها: سقط بناحية المشرق مطر شديد، معه برد كبار.

قال ابن الجوزي: حزرت البردة الواحدة منه مائة وخمسون رطلا، وغاصت في الأرض نحوا من ذراع.

وفيها: ورد كتاب من محمود بن سبكتكين أنه أحل بطائفة من أهل الري من الباطنية والروافض قتلا ذريعا، وصلبا شنيعا، وأنه انتهب أموال رئيسهم رستم بن علي الديلمي، فحصل منها ما يقارب ألف ألف دينار، وقد كان في حيازته نحو من خمسين امرأة حرة، وقد ولدن له ثلاثا وثلاثين ولدا بين ذكر وأنثى، وكانوا يرون إباحة ذلك.

وفي رجب منها انقض كواكب كثيرة شديدة الضوء شديدة الصوت.

وفي شعبان منها كثرت العملات وضعفت رجال المعونة عن مقاومة العيارين.

وفي يوم الاثنين منها ثامن عشر رجب غار ماء دجلة حتى لم يبق منه إلا القليل، ووقفت الأرحاء عن الطحن، وتعذر ذلك.

وفي هذا اليوم جمع القضاة والعلماء في دار الخلافة، وقرئ عليهم كتاب جمعه القادر بالله، فيه مواعظ وتفاصيل مذاهب أهل البصرة، وفيه الرد على أهل البدع، وتفسيق من قال بخلق القرآن، وصفة ما وقع بين بشر المريسي وعبد العزيز بن يحيى الكتاني من المناظرة، ثم ختم القول بالمواعظ، والقول بالمعروف، والنهي عن المنكر.

وأخذ خطوط الحاضرين بالموافقة على ما سمعوه.

وفي يوم الاثنين غرة ذي القعدة جمعوا أيضا كلهم وقرئ عليهم كتاب آخر طويل، يتضمن بيان السنة والرد على أهل البدع ومناظرة بشر المريسي والكتاني أيضا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفضل الصحابة، وذكر فضائل أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ولم يفرغوا منه إلا بعد العتمة، وأخذت خطوطهم بموافقة ماسمعوه.

وعزل خطباء الشيعة، وولي خطباء السنة، ولله الحمد والمنة على ذلك وغيره.

وجرت فتنة بمسجد براثا، وضربوا الخطيب السني بالآجر، حتى كسروا أنفه وخلعوا كتفه، فانتصر لهم الخليفة وأهان الشيعة وأذلهم، حتى جاؤوا يعتذرون مما صنعوا، وأن ذلك إنما تعاطاه السفهاء منهم.

ولم يتمكن أحد من أهل العراق وخراسان في هذه السنة من الحج.

ممن توفي فيها من الأعيان:

الحسن بن أبي القين

أبو علي الزاهد، أحد العباد والزهاد وأصحاب الأحوال، دخل عليه بعض الوزراء فقبل يده، فعوتب الوزير بذلك فقال: كيف لا أقبل يدا ما امتدت إلا إلى الله عز وجل.

علي بن عيسى بن الفرج بن صالح

أبو الحسن الربعي النحوي، أخذ العربية أولا عن أبي سعيد السيرافي، ثم عن أبي علي الفارسي ولازمه عشرين سنة حتى كان يقول: قولوا له لو سار من المشرق إلى المغرب لم يجد أحدا أنحى منه.

كان يوما يمشي على شاطئ دجلة، إذ نظر إلى الشريفين الرضي والمرتضى في سفينة، ومعهما عثمان بن جني، فقال لهما: من أعجب الأشياء عثمان معكما، وعلي بعيد عنكما، يمشي على شاطئ الفرات.

فضحكا وقالا: باسم الله.

توفي في المحرم منها عن ثنتين وتسعين سنة.

ودفن بباب الدير، ويقال: إنه لم يتبع جنازته إلا ثلاثة أنفس.

أسد الدولة أبو علي صالح بن مرداس بن إدريس الكلابي

أول ملوك بني مرداس بحلب، انتزعها من يدي نائبها عن الظاهر بن الحاكم العبيدي، في ذي الحجة في سنة سبع عشرة وأربعمائة، ثم جاءه جيش كثيف من مصر فاقتتلوا فقتل أسد الدولة هذا في سنة تسع عشرة، وقام حفيده نصر.

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وأربعمائة

فيها: توفي الملك الكبير المجاهد المغازي، فاتح بلاد الهند محمود بن سبكتكين رحمه الله، لما كان في ربيع الأول من هذه السنة توفي الملك العادل الكبير الثاغر المرابط، المؤيد المنصور، يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين، صاحب بلاد غزنة ومالك تلك الممالك الكبار، وفاتح أكثر بلاد الهند قهرا، وكاسر أصنامهم وندودهم وأوثانهم وهنودهم، وسلطانهم الأعظم قهرا.

وقد مرض رحمه الله نحوا من سنتين لم يضطجع فيهما على فراش، ولا توسد وسادا، بل كان يتكئ جالسا حتى مات وهو كذلك، وذلك لشهامته وصرامته، وقوة عزمه، وله من العمر ستون سنة رحمه الله.

وقد عهد بالأمر من بعده لولده محمد، فلم يتم أمره حتى عافصه أخوه مسعود بن محمود المذكور، فاستحوذ على ممالك أبيه، مع ما كان يليه مما فتحه هو بنفسه من بلاد الكفار، ومن الرساتيق الكبار والصغار، فاستقرت له الممالك شرقا وغربا في تلك النواحي، في أواخر هذا العام، وجاءته الرسل بالسلام من كل ناحية ومن كل ملك همام، وبالتحية والإكرام، وبالخضوع التام، وسيأتي ذكر أبيه في الوفيات.

وفيها: استحوذت السرية التي كان بعثها الملك المذكور محمود إلى بلاد الهند على أكثر مدائن الهنود وأكبرها مدينة، وهي المدينة المسماة نرسي، دخلوها في نحو من مائة ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، فنهبوا سوق العطر والجوهر بها نهارا كاملا، ولم يستطيعوا أن يحولوا ما فيه من أنواع الطيب والمسك والجواهر واللآلئ واليواقيت.

ومع هذا لم يدر أكثر أهل البلد بشيء من ذلك لاتساعها، وذلك أنها كانت في غاية الكبر: طولها مسيرة منزلة من منازل الهند، وعرضها كذلك، وأخذوا منها من الأموال والتحف والأثاث ما لا يحد ولا يوصف، حتى قيل: إنهم اقتسموا الذهب والفضة بالكيل، ولم يصل جيش من جيوش المسلمين إلى هذه المدينة قط، لا قبل هذه السنة ولا بعدها، وهذه المدينة من أكثر بلاد الهند خيرا ومالا، بل قيل: إنه لا يوجد مدينة أكثر منها مالا ورزقا، مع كفر أهلها وعبادتهم الأصنام، فليسلم المؤمن على الدنيا سلام، وقد كانت محل الملك، وأخذوا منها من الرقيق من الصبيان والبنات ما لا يحصى كثرة.

وفيها: عملت الرافضة بدعتهم الشنعاء وحادثتهم الصلعاء في يوم عاشوراء، من تعليق المسوح، وتغليق الأسواق، والنوح والبكاء في الأزقة، فأقبل أهل السنة إليهم في الحديد فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من الفريقين طوائف كثيرة، وجرت بينهم فتن وشرور مستطيرة.

وفيها: مرض أمير المؤمنين القادر بالله وعهد بولاية العهد من بعده إلى ولده أبي جعفر القائم بأمر الله، بمحضر من القضاة والوزراء والأمراء، وخطب له بذلك وضرب اسمه على السكة المتعامل بها.

وفيها: أقبل ملك الروم من قسطنطينية في مائة ألف مقاتل، فسار حتى بلغ بلاد حلب، وعليها شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس، فنزلوا على مسيرة يوم منها، ومن عزم ملك الروم أن يستحوذ على بلاد الشام كلها، وأن يستردها إلى دين النصرانية، وقد قال رسول الله : «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده».

وقيصر هو من ملك الشام من الروم مع بلاد الروم فلا سبيل لملك الروم إلى هذا.

فلما نزل من حلب كما ذكرنا أرسل الله عليهم عطشا شديدا، وخالف بين كلمتهم، وذلك أنه كان معه الدمستق، فعامل طائفة من الجيش على قتله ليستقل هو بالأمر من بعده، ففهم الملك ذلك فكر من فوره راجعا، فاتبعهم الأعراب ينهبونهم ليلا ونهارا، وكان من جملة ما أخذوا منهم أربعمائة فحل محجل محملة أموالا وثيابا للملك، وهلك أكثرهم جوعا وعطشا، ونهبوا من كل جانب ولله الحمد والمنة.

وفيها: ملك جلال الدولة واسطا واستناب عليها ولده، وبعث وزيره أبا علي بن ماكولا إلى البطائح ففتحها، وسار في الماء إلى البصرة وعليها نائب لأبي كاليجار، فهزمهم البصريون، فسار إليهم جلال الدولة بنفسه فدخلها في شعبان منها.

وفيها: جاء سيل عظيم بغزنة فأهلك شيئا كثيرا من الزورع والأشجار.

وفي رمضان منها: تصدق مسعود بن محمود بن سبكتكين بألف ألف درهم، وأدر أرزاقا كثيرةً للفقهاء والعلماء بلاد ببلاده، على عادة أبيه من قبله، وفتح بلادا كثيرة، واتسعت ممالكه جدا، وعظم شأنه، وقويت أركانه، وكثرت جنوده وأعوانه.

وفيها: دخل خلقٌ كثير من الأكراد إلى بغداد يسرقون خيل الأتراك ليلا، فتحصن الناس منهم، فأخذوا الخيول كلها حتى خيل السلطان.

وفيها: سقط جسر بغداد على نهر عيسى.

وفيها: وقعت فتنة بين الأتراك النازلين بباب البصرة، وبين الهاشميين، فرفعوا المصاحف ورمتهم الأتراك بالنشاب، وجرت خطبة عظيمة، ثم أصلح بين الفريقين.

وفيها: كثرت العملات، وأخذت الدور جهرة، وكثر العيارون ولصوص الأكراد.

وفيها: تعطل الحج أيضا سوى شرذمة من أهل العراق ركبوا من جمال البادية مع الأعراب، ففازوا بالحج.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

أحمد بن عبد الله بن أحمد أبو الحسن الواعظ

المعروف بان اكرات، صاحب كرامات ومعاملات، كان من أهل الجزيرة فسكن دمشق، وكان يعظ الناس بالرفادة القيلية، حيث كان يجلس القصاص.

قاله ابن عساكر.

قال: وصنف كتبا في الوعظ، وحكى حكايات كثيرة، ثم قال: سمعت أبا الحسن أحمد بن عبد الله اكرات الواعظ ينشد أبياتا:

أنا ما أصنع باللذا ** ت شغلي بالذنوب

إنما العيد لمن فا ** ز بوصل من حبيب

أصبح الناس على رو ** ح وريحان وطيب

ثم أصبحت على نوح ** وحزن ونحيب

فرحوا حين أهلّوا ** شهرهم بعد المغيب

وهلالي متوار ** من ورا حجب الغيوب

فلهذا قلت للذا ** ت غيبي ثم غيبي

وجلعت الهم والحز ** ن من الدنيا نصيبي

يا حياتي ومماتي ** وشقائي وطبيبي

جد لنفس تتلظّى ** منك بالرحب الرحيب

الحسين بن محمد الخليع

الشاعر، له ديوان شعر حسن، عمر طويلا، وتوفي في هذه السنة.

الملك الكبير العادل محمود بن سبكتكين

أبو القاسم الملقب يمين الدولة، وأمين الملة، وصاحب بلاد غزنة، وما والاها، وجيشه يقال لهم: السامانية، لأن أباه كان قد تملك عليهم، وتوفي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، فتملك عليهم بعده ولده محمود هذا، فسار فيهم وفي سائر رعاياه سيرة عادلة، وقام في نصر الإسلام قياما تاما، وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها، وعظم شأنه، واتسعت مملكته، وامتدت رعاياه، وطالت أيامه لعدله وجهاده، وما أعطاه الله إياه، وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة القادر بالله، وكانت رسل الفاطميين من مصر تفد إليه بالكتب والهدايا لأجل أن يكون من جهتهم، فيحرق بهم ويحرق كتبهم وهداياهم، وفتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة، لم يتفق لغيره من الملوك، لا قبله ولا بعده، وغنم مغانم كثيرة منهم لا تنحصر ولا تنضبط، من الذهب واللآلئ، والسبي وكسر من أصنامهم شيئا كثيرا، وأخذ من حليتها.

وقد تقدم ذلك مفصلا متفرقا في السنين المتقدمة من أيامه، ومن جملة ما كسر من أصنامهم صنم يقال له: سومنان، بلغ ما تحصل من حليته من الذهب عشرين ألف ألف دينار، وكسر ملك الهند الأكبر الذي يقال له: صينال، وقهر ملك الترك الأعظم الذي يقال له: إيلك الخان وأباد ملك السامانية، وقد ملكوا العالم في بلاد سمرقند وما حولها، ثم هلكوا.

وبنى على جيحون جسرا تعجز الملوك والخلفاء عنه، غرم عليه ألفي ألف دينار، وهذا شيء لم يتفق لغيره، وكان في جيشه أربعمائة فيل تقاتل، وهذا شيء عظيم هائل، وجرت له فصول يطول تفصيلها، وكان مع هذا في غاية الديانة والصيانة وكراهة المعاصي وأهلها، لا يحب منها شيئا ولا يألفه، ولا أن يسمع بها، ولا يجسر أحدا أن يظهر معصية ولا خمرا في مملكته، ولا غير ذلك، ولا يحب الملاهي ولا أهلها، وكان يحب العلماء والمحدثين ويكرمهم ويجالسهم، ويحب أهل الخير والدين والصلاح ويحسن إليهم.

وكان حنفيا ثم صار شافعيا على يدي أبي بكر القفال الصغير على ما ذكره إمام الحرمين وغيره، وكان على مذهب الكرامية في الاعتقاد، وكان من جملة من يجالسه منهم محمد بن الهيضم، وقد جرى بينه وبين أبى بكر بن فورك مناظرات بين يدي السلطان محمود في مسألة العرش، ذكرها ابن الهيضم في مصنف له، فمال السلطان محمود إلى قول ابن الهيضم، ونقم على ابن فورك كلامه، وأمر بطرده وإخراجه، لموافقته لرأي الجهمية.

وكان عادلا جيدا، اشتكى إليه رجل أن ابن أخت الملك يهجم عليه في داره وعلى أهله في كل وقت، فيخرجه من البيت ويختلي بامرأته، وقد حار في أمره، وكلما اشتكاه لأحد من أولي الأمر لا يجسر أحد عليه خوفا وهيبة للملك.

فلما سمع الملك ذلك غضب غضبا شديدا، وقال للرجل: ويحك متى جاءك فائتني فأعلمني، ولا تسمعن من أحد منعك من الوصول إليّ، ولو جاءك في الليل فائتني فأعلمني.

ثم إن الملك تقدم إلى الحجبة وقال لهم: إن هذا الرجل متى جاءني لا يمنعه أحد من الوصول إليّ من ليل أو نهار، فذهب الرجل مسرورا داعيا، فما كان إلا ليلة أو ليلتان حتى هجم عليه ذلك الشاب فأخرجه من البيت واختلى بأهله، فذهب باكيا إلى دار الملك فقيل له: إن الملك نائم.

فقال: قد تقدم إليكم أن لا أمنع منه ليلا ولا نهارا، فنبهوا الملك فخرج معه بنفسه وليس معه أحد، حتى جاء إلى منزل الرجل فنظر إلى الغلام وهو مع المرأة في فراش واحد، وعندهما شمعة تقد، فتقدم الملك فأطفأ الضوء ثم جاء فاحتز رأس الغلام وقال للرجل: ويحك الحقني بشربة ماء، فأتاه بها فشرب ثم انطلق الملك ليذهب، فقال له الرجل: بالله لم أطفأت الشمعة؟

قال: ويحك إنه ابن أختي، وإني كرهت أن أشاهده حال الذبح.

فقال: ولم طلبت الماء سريعا؟

فقال الملك: إني آليت على نفسي منذ أخبرتني أن لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أنصرك، وأقوم بحقك، فكنت عطشانا هذه الأيام كلها، حتى كان ما كان مما رأيت.

فدعا له الرجل وانصرف الملك راجعا إلى منزله ولم يشعر بذلك أحد.

وكان مرض الملك محمود هذا بسوء المزاج، اعتراه مع انطلاق البطن سنتين، فكان فيهما لا يضطجع على فراش، ولا يتكئ على شيء، لقوة بأسه وسوء مزاجه، وكان يستند على مخاد توضع له ويحضر مجلس الملك، ويفصل على عادته بين الناس، حتى مات كذلك في يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر من هذه السنة عن ثلاث وستين سنة، ملكه منها ثلاث وثلاثون سنة، وخلف من الأموال شيئا كثيرا، من ذلك سبعون رطلا من جوهر، الجوهرة منه لها قيمة عظيمة سامحه الله.

وقام بالأمر من بعده ولده محمد، ثم صار الملك إلى ولده الآخر مسعود بن محمود فأشبه أباه، وقد صنف بعض العلماء مصنفا في سيرته وأيامه وفتوحاته وممالكه.

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة

فيها: كانت وفاة القادر بالله الخليفة، وخلافة ابنه القائم بأمر الله على ما سيأتي تفصيله وبيانه.

وفيها: وقعت فتنة عظيمة بين السنة والروافض، فقويت عليهم السنة وقتلوا خلقا منهم، ونهبوا الكرخ ودار الشريف المرتضى، ونهبت العامة دور اليهود لأنهم نسبوا إلى معاونة الروافض، وتعدى النهب إلى دور كثيرة، وانتشرت الفتنة جدا، ثم سكنت بعد ذلك.

وفيها: كثرت العملات وانتشرت المحنة بأمر العيارين في أرجاء البلد، وتجاسروا على أمور كثيرة، ونهبوا دورا وأماكن سرا وجهرا، ليلا ونهارا، والله سبحانه أعلم.

خلافة القائم بالله

أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله، بويع له بالخلافة لما توفي أبوه أبو العباس أحمد بن المقتدر بن المعتضد بن الأمين أبو أحمد الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، في ليلة الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة من هذه السنة، عن ست وثمانين سنة، وعشرة أشهر وإحدى عشر يوما، ولم يعمر أحد من الخلفاء قبله هذا العمر ولا بعده، مكث من ذلك خليفة إحدى وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وهذا أيضا شيء لم يسبقه أحد إليه.

وأمه أم ولد اسمها يمنى، مولاة عبد الواحد بن المقتدر، وقد كان حليما كريما، محبا لأهل العلم والدين والصلاح، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان على طريقة السلف في الاعتقاد، وله في ذلك مصنفات كانت تقرأ على الناس.

وكان أبيض حسن الجسم طويل اللحية عريضها يخضبها، وكان يقوم الليل كثير الصدقة، محبا للسنة وأهلها، مبغضا للبدعة وأهلها، وكان يكثر الصوم ويبر الفقراء من أقطاعه، يبعث منه إلى المجاورين بالحرمين وجامع المنصور، وجامع الرصافة، وكان يخرج من داره في زي العامة فيزور قبور الصالحين.

وقد ذكرنا طرفا صالحا من سيرته عند ذكر ولايته في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وجلسوا في عزئاه سبعة أيام لعظم المصيبة به، ولتوطيد البيعة لولده المذكور، وأمه يقال لها: قطر الندى، أرمنية أدركت خلافته في هذه السنة، وكان مولده يوم الجمعة الثامن عشر من ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، ثم بويع له بحضرة القضاة والأمراء والكبراء في هذه السنة، وكان أول من بايعه المرتضى وأنشده أبياتا:

فأما مضى جبل وانقضى ** فمنك لنا جبل قد رسى

وأما فجعنا ببدر التمام ** فقد بقيت منه شمس الضحى

لنا حزن في محل السرور ** فكم ضحك في محل البكا

فيا صارما أغمدته يد ** لنا بعدك الصارم المنتضى

ولما حضرنا لعقد البياع ** عرفنا بهديك طرق الهدى

فقابلتنا بوقار المشيب ** كمالا وسنك سن الفتى

فطالبته الأتراك برسم البيعة فلم يكن مع الخليفة شيء يعطيهم، لأن أباه لم يترك شيئا، وكادت الفتنة تقع بين الناس بسبب ذلك، حتى دفع عنه الملك جلال الدولة مالا جزيلا لهم، نحوا من ثلاثة آلاف دينار، واستوزر الخليفة أبا طالب محمد بن أيوب، واستقضى ابن ماكولا.

ولم يحج أحد من أهل المشرق سوى شرذمة خرجوا من الكوفة مع العرب فحجوا.

وفيها توفي من الأعيان غير الخليفة:

الحسن بن جعفر أبو علي بن ماكولا

الوزير لجلال الدولة، قتله غلام له وجارية تعاملا عليه فقتلاه، عن ست وخمسين سنة.

عبد الوهاب بن علي ابن نصر بن أحمد بن الحسن بن هارون بن مالك بن طوق

صاحب الرحبة، التغلبي البغدادي أحد أئمة المالكية، ومصنفيهم، له كتاب (التلقين) يحفظه الطلبة، وله غيره في الفروع والأصول، وقد أقام ببغداد دهرا، وولي قضاء داريا وماكسايا، ثم خرج من بغداد لضيق حاله، فدخل مصر فأكرمه المغاربة وأعطوه ذهبا كثيرا، فتمول جدا، فأنشأ يقول متشوقا إلى بغداد:

سلام على بغداد في كل موقف ** وحق لها مني السلام مضاعف

فوالله ما فارقتها عن ملالة ** وإني بشطَّي جانبيها لعارف

ولكنها ضاقت عليّ بأسرها ** ولم تكن الأرزاق فيها تساعف

فكانت كَخِلٍّ كنت أهوى دنوّه ** وأخلاقه تنأى به وتخالف

قال الخطيب: سمع القاضي عبد الوهاب من ابن السماك، وكتبت عنه، وكان ثقة، ولم تر المالكية أحدا أفقه منه.

قال ابن خلكان: وعند وصوله إلى مصر حصل له شيء من المال، وحسن حاله، مرض من أكلة اشتهاها فذكر عنه أنه كان يتقلب ويقول: لا إله إلا الله، عندما عشنا متنا.

قال: وله أشعار رائقة فمنها قوله:

ونائمة قبلتها فتنبهت ** فقالت: تعالوا واطلبوا اللص بالحدِّ

فقلت لها ك إني فديتك غاصب ** وما حكموا في غاصب بسوى الردِّ

خذيها وكفّي عن أثيم طلابة ** وإن أنتِ لم ترضي فألفا على العدّ

فقالت: قصاص يشهد العقل أنه ** على كبد الجاني ألذُّ من الشهد

فباتت يميني وهي هميان خصرها ** وباتت يساري وهي واسطة العقد

فقالت: ألم تخبر بأنك زاهد ** فقلت بلى ما زلت أزهد في الزهد

ومما أنشده ابن خلكان للقاضي عبد الوهاب:

بغداد دار لأهل المال طيّبة ** وللمفاليس دار الضنك والضيق

ظللت حيران أمشي في أزقتها ** كأنني مصحف في بيت زنديق

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة

في سادس المحرم منها استسقى أهل بغداد لتأخر المطر عن أوانه، فلم يسقوا، وكثر الموت في الناس، ولما كان يوم عاشوراء عملت الروافض بدعتهم، وكثر النوح والبكاء، وامتلأت بذلك الطرقات والأسواق.

وفي صفر منها أمر الناس بالخروج إلا الاستسقاء فلم يخرج من أهل بغداد مع اتساعها وكثرة أهلها مائة واحد.

وفيها: وقع بين الجيش وبين جلال الدولة فاتفق على خروجه إلى البصرة منفيا، وردّ كثيرا من جواريه، واستبقى بعضهن معه، وخرج من بغداد ليلة الاثنين سادس ربيع الأول منها.

وكتب الغلمان الاسفهلارية إلى الملك أبي كاليجار ليقدم عليهم، فلما قدم تمهدت البلاد ولم يبق أحد من أهل العناد والإلحاد، ونهبوا دار جلال الدولة وغيرها، وتأخر مجيء أبي كاليجار، وذلك أن وزيره أشار عليه بعدم القدوم إلى بغداد، فأطاعه في ذلك، فكثر العيارون وتفاقم الحال، وفسد البلد، وافتقر جلال الدولة بحيث أن احتاج إلى أن باع بعض ثيابه في الأسواق.

وجعل أبو كاليجار يتوهم من الأتراك ويطلب منهم رهائن، فلم يتفق ذلك، وطال الفصل فرجعوا إلى مكاتبة جلال الدولة، وأن يرجع إلى بلده، وشرعوا يعتذرون إليه، وخطبوا له في البلد على عادته، وأرسل الخليفة الرسل إلى الملك كاليجار، وكان فيمن بعث إليه القاضي أبو الحسن الماوردي، فسلم عليه مستوحشا منه، وقد تحمل أمرا عظيما، فسأل من القضاة أن يلقب بالسلطان الأعظم مالك الأمم، فقال الماوردي: هذا ما لا سبيل إليه، لأن السلطان المعظم هو الخليفة، وكذلك مالك الأمم.

ثم اتفقوا على تلقيبه بملك الدولة، فأرسل مع الماوردي تحفا عظيمة منها ألف ألف دينار سابورية، وغير ذلك من الدراهم آلاف مؤلفة، والتحف والألطاف، واجتمع الجند على طلب من الخليفة فتعذر ذلك فراموا أن يقطعوا خطبته، فلم تصلّ الجمعة، ثم خطب له من الجمعة القابلة، وتخبط البلد جدا، وكثر العيارون.

ثم في ربيع الآخر منها حلف الخليفة لجلال الدولة بخلوص النية وصفائها، وأنه على ما يحب من الصدق وصلاح السريرة.

ثم وقع بينهما بسبب جلال الدولة وشربه النبيذ وسكره، ثم اعتذر إلى الخليفة واصطلحا على فساد.

وفي رجب غلت الأسعار جدا ببغداد وغيرها، من أرض العراق.

ولم يحج أحد منهم.

وفيها: وقع موتان عظيم ببلاد الهند وغزنة وخراسان وجرجان والري وأصبهان، خرج منها في أدنى مدة أربعون ألف جنازة.

وفي نواحي الموصل والجبل وبغداد طرف قوي من ذلك بالجدري، بحيث لم تخل دار من مصاب به، واستمر ذلك في حزيران وتموز وآذار وأيلول وتشرين الأول والثاني، وكان في الصيف أكثر منه في الخريف.

قاله ابن الجوزي في (المنتظم).

وقد رأى رجل في منامه من أهل أصبهان في هذه السنة مناديا ينادي بصوت جهوري: يا أهل أصبهان سكت، نطق، سكت، نطق، فانتبه الرجل مذعورا فلم يدر أحد تأويلها ما هو، حتى قال رجل بيت أبي العتاهية فقال:

احذروا يا أهل أصبهان فإني قرأت في شعر أبي العتاهية قوله:

سكت الدهر زمانا عنهم ** ثم أبكاهم دما حين نطق

فما كان إلا قليل حتى جاء الملك مسعود بن محمود فقتل منهم خلقا كثيرا، حتى قتل الناس في الجوامع.

وفي هذه السنة ظفر الملك أبو كاليجار بالخادم جندل فقتله، وكان قد استحوذ على مملكته ولم يبق معه سوى الاسم، فاستراح منه.

وفيها: مات ملك الترك الكبير صاحب بلاد ما وراء النهر، واسمه قدرخان.

وفيها توفي من الأعيان:

روح بن محمد بن أحمد

أبو زرعة الرازي.

قال الخطيب: سمع جماعة، وفد علينا حاجا فكتبت عنه، وكان صدوقا فهما أديبا، يتفقه على مذهب الشافعي، وولي قضاء أصبهان.

قال: وبلغني أنه مات بالكرخ سنة ثلاثة وعشرين وأربعمائة.

علي بن محمد بن الحسن

ابن محمد بن نعيم بن الحسن البصري، المعروف بالنعيمي، الحافظ الشاعر، والمتكلم الفقيه الشافعي.

قال البرقاني: هو كامل في كل شيء لولا بادرة فيه، وقد سمع على جماعة، ومن شعره قوله:

إذا أظمأتك أكف اللئام ** كفتك القناعة شبعا وريا

فكن رجلا رِجله في الثرى ** وهامته همُّه في الثريا

أبيّا لنائل ذي نعمة ** تراه بما في يديه أبيا

فإن إراقة ماء الحيا ** ة دون إراقة ماء المحيا

محمد بن الطيب ابن سعد بن موسى أبو بكر الصباغ

حدث عن النجاد وأبي بكر الشافعي، وكان صدوقا، حكى الخطيب أنه تزوج تسعمائة امرأة، وتوفي عن خمس وتسعين سنة.

علي بن هلال الكاتب المشهور

ذكر ابن خلكان أنه توفي في هذه السنة، وقيل: في سنة ثلاث عشرة كما تقدم.

ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمائة

فيها: تفاقم الحال بأمر العيارين، وتزايد أمرهم، وأخذوا العملات الكثيرة، وقوي أمر مقدمهم البرجمي، وقتل صاحب الشرطة غيلة، وتواترت العملات في الليل والنهار، وحرس الناس دورهم حتى دار الخليفة منه، وكذلك سور البلد، وعظم الخطب بهم جدا، وكان من شأن هذا البرجمي أنه لا يؤذي امرأة ولا يأخذ مما عليها شيئا، وهذه مروءة في الظلم، وهذا كما قيل:

حنانيك بعض الشر أهون من بعض **

وفيها: أخذ جلال الدولة البصرة وأرسل إليها ولده العزيز، فأقام بها الخطبة لأبيه، وقطع منها خطبة أبي كاليجار في هذه السنة والتي بعدها، ثم استرجعت، وأخرج منها ولده.

وفيها: ثارت الأتراك بالملك جلال الدولة ليأخذوا أرزاقهم، وأخرجوه من داره، ورسموا عليه في المسجد، وأخرجت حريمه، فذهب في الليل إلى دار الشريف المرتضى فنزلها، ثم اصطلحت الأتراك عليه وحلفوا له بالسمع والطاعة، وردوه إلى داره، وكثر العيارون واستطالوا على الناس جدا.

ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان لفساد البلاد.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أحمد بن الحسين بن أحمد

أبو الحسين الواعظ المعروف بابن السماك، ولد سنة ثلاثين وثلاثمائة، وسمع جعفر الخلدي وغيره، وكان يعظ بجامع المنصور وجامع المهدي، ويتكلم على طريق الصوفية، وقد تكلم بعض الأئمة فيه، ونسب إليه الكذب.

توفي فيها عن أربع وتسعين سنة، ودفن بباب حرب.

ثم دخلت سنة خمس وعشرين وأربعمائة

فيها: غزا السلطان مسعود بن محمود بلاد الهند، وفتح حصونا كثيرة، وكان من جملتها أنه حاصر قلعة حصينة فخرجت من السور عجوز كبيرة ساحرة، فأخذت مكنسة فبلتها ورشتها من ناحية جيش المسلمين، فمرض السلطان تلك الليلة مرضا شديدا، فارتحل عن تلك القلعة، فلما استقل ذاهبا عنها، عوفي عافية كاملة، فرجع إلى غزنة سالما.

وفيها: ولي البساسيري حماية الجانب الشرقي من بغداد، لما تفاقم أمر العيارين.

وفيها: ولي سنان بن سيف الدولة بعد وفاة أبيه، فقصد عمه قرواشا فأقره وساعده على أموره.

وفيها: هلك ملك الروم أرمانوس، فملكم رجل ليس من بيت ملكهم، قد كان صيرفيا في بعض الأحيان، إلا أنه كان من سلالة الملك قسطنطين.

وفيها: كثرت الزلازل بمصر والشام فهدمت شيئا كثيرا، ومات تحت الردم خلق كثير، وانهدم من الرملة ثلثها، وتقطع جامعها تقطيعا، وخرج أهلها منها هاربين، فأقاموا بظاهرها ثمانية أيام، ثم سكن الحال فعادوا إليها، وسقط بعض حائط بيت المقدس، ووقع من محراب داود قطعة كبيرة، ومن مسجد إبراهيم قطعة، وسلمت الحجرة، وسقطت منارة عسقلان، ورأس منارة غزة، وسقط نصف بنيان نابلس، وخسف بقرية البارزاد وبأهلها وبقرها وغنمها، وساخت في الأرض.

وكذلك قرى كثيرة هنالك، وذكر ذلك ابن الجوزي.

ووقع غلاء شديد ببلاد إفريقية، وعصفت ريح سوداء بنصيبين فألقت شيئا كثيرا من الأشجار كالتوت والجوز والعناب، واقتلعت قصرا مشيدا بحجارة وآجر وكلس فألقته وأهله فهلكوا، ثم سقط مع ذلك مطر أمثال الأكف، والزنود والأصابع، وجزر البحر من تلك الناحية ثلاث فراسخ، فذهب الناس خلف السمك فرجع البحر عليهم فهلكوا.

وفيها: كثر الموت بالخوانيق حتى كان يغلق الباب على من في الدار كلهم موتى، وأكثر ذلك كان ببغداد، فمات من أهلها في شهر ذي الحجة سبعون ألفا.

وفيها: وقعت الفتنة بين السنة والروافض حتى بين العيارين من الفريقين مع ابنا الأصفهاني، وهما مقدمي عيارين أهل السنة، منعا أهل الكرخ من ورود ماء دجلة فضاق عليهم الحال، وقتل ابن البرجمي وأخوه في هذه السنة.

ولم يحج أحد من أهل العراق.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب

الحافظ أبو بكر المعروف بالبرقاني، ولد سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وسمع الكثير، ورحل إلى البلاد، وجمع كتبا كثيرة جدا، وكان عالما بالقرآن والحديث والفقه والنحو، وله مصنفات في الحديث حسنة نافعة.

قال الأزهري: إذا مات البرقاني ذهب هذا الشأن، وما رأيت أتقن منه.

وقال غيره: ما رأيت أعبد منه في أهل الحديث.

توفي يوم الخميس مستهل رجب، وصلى عليه أبو علي بن أبي موسى الهاشمي، ودفن في مقبرة الجامع ببغداد، وقد أورد له ابن عساكر من شعره:

أعلّل نفسي بكتب الحديث ** وأُجمل فيه لها الموعدا

وأشغل نفسي بتصنيفه ** وتخريجه دائما سرمدا

فطَوْرا أصنفه في الشيو ** خ وطورا أصنفه مسندا

وأقفو البخاريّ فيما حوا ** ه وصنفه جاهدا مجهدا

ومسلم إذ كان زين الأنام ** بتصنيفه مسلما مرشدا

وماليَ فيه سوى أنني ** أراه هوىً صادف المقصدا

وأرجو الثواب بكتب الصلا ** ة على السيد المصطفى أحمدا

أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن سعيد

أبو العباس الأبيوردي، أحد أئمة الشافعية، من تلاميذ الشيخ أبي حامد الإسفرايني، كانت له حلقة في جامع المنصور للفتيا، وكان يدرس في قطيعة الربيع، وولي الحكم ببغداد نيابة عن ابن الأكفاني، وقد سمع الحديث، وكان حسن الاعتقاد جميل الطريقة، فصيح اللسان، صبورا على الفقر، كاتما له، وكان يقول الشعر الجيد، وكان كما قال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافا} 3.

توفي في جمادى الآخرة، ودفن بمقبرة باب حرب.

أبو علي البندنبجي

الحسن بن عبد الله بن يحيى، الشيخ أبو علي البندنيجي، أحد أئمة الشافعية، من تلاميذ أبي حامد أيضا، ولم يكن في أصحابه مثله، تفقه ودرس وأفتى وحكم ببغداد، وكان دينا ورعا.

توفي في جمادى الآخرة منها أيضا.

عبد الوهاب بن عبد العزيز

الحارث بن أسد، أبو الصباح التميمي، الفقيه الحنبلي الواعظ، سمع من أبيه أثرا مسلسلا عن علي: الحنان: الذي يقبل على من أعرض عنه، والمنان: الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال.

توفي في ربيع الأول ودفن في مقبرة أحمد بن حنبل.

غريب بن محمد

ابن مفتي سيف الدولة أبو سنان، كان قد ضرب السكة باسمه، وكان ملكا متمكنا في الدولة، وخلف خمسمائة ألف دينار، وقام ابنه سنان بعده، وتقوى بعمه قرواش، واستقامت أموره، توفي بالكرخ سابور عن سبعين سنة.

ثم دخلت سنة ست وعشرين وأربعمائة

في محرمها كثر تردد الأعراب في قطع الطرقات إلى حواشي بغداد وما حولها، بحيث كانوا يسلبون النساء ما عليهن، ومن أسروه أخذوا ما معه وطالبوه بفداء نفسه، واستفحل أمر العيارين وكثرت شرورهم.

وفي مستهل صفر زادت دجلة بحيث ارتفع الماء على الضياع ذراعين، وسقط من البصرة في مدة ثلاثة نحو من ألفي دار.

وفي شعبان منها ورد كتاب من مسعود بن محمود بأنه قد فتح فتحا عظيما في الهند، وقتل منهم خمسين ألفا وأسر تسعين ألفا، وغنم شيئا كثيرا، ووقعت فتنة بين أهل بغداد والعيارين، ووقع حريق في أماكن من بغداد، واتسع الخرق على الراقع، ولم يحج أحد من هؤلاء ولا من أهل خراسان.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أحمد بن كليب الشاعر

وهو أحد من هلك بالعشق، روى ابن الجوزي في (المنتظم) بسنده: أن أحمد بن كليب هذا المسكين المغتر عشق غلاما يقال له: أسلم بن أبي الجعد، من بني خلد، وكان فيهم وزارة، أي: كانوا وزراء للملوك وحجابا، فأنشد فيه أشعارا تحدث الناس بها، وكان هذا الشاب أسلم يطلب العلم في مجالس المشايخ فلما بلغه عن ابن كليب ما قال فيه استحى من الناس وانقطع في دارهم، وكان لا يجتمع بأحد من الناس، فازداد غرام ابن كليب به حتى مرض من ذلك مرضا شديدا، بحيث عاده منه الناس، ولا يدرون ما به، وكان في جملة من عاده بعض المشايخ من العلماء، فسأله عن مرضه فقال: أنتم تعلمون ذلك، ومن أي شيء مرضي، وفي أي شيء دوائي، لو زارني أسلم ونظر إليّ نظرة ونظرته نظرة واحدة لبرأت.

فرأى ذلك العالم من المصلحة أن لو دخل على أسلم وسأله أن يزوره ولو مرة واحدة مختفيا، ولم يزل ذلك الرجل العالم بأسلم حتى أجابه إلى زيارته، فانطلقا إليه فلما دخلا دربه ومحلته تجبّن الغلام، واستحى من الدخول عليه، وقال للرجل العالم: لا أدخل عليه، وقد ذكرني ونوّه باسمي، وهذا مكان ريبة وتهمة، وأنا لا أحب أن أدخل مداخل التهم.

فحرص به الرجل كل الحرص ليدخل عليه فأبى عليه، فقال له: إنه ميت لا محالة، فإذا دخلت عليه أحييته.

فقال: يموت وأنا لا أدخل مدخلا يسخط الله علي ويغضبه، وأبى أن يدخل، وانصرف راجعا إلى دارهم، فدخل الرجل على ابن كليب فذكر له ما كان من أمر أسلم معه، وقد كان غلام ابن كليب دخل عليه قبل ذلك وبشره بقدوم معشوقه عليه، ففرح بذلك جدا، فلما تحقق رجوعه عنه اختلط كلامه واضطرب في نفسه، وقال لذلك الرجل الساعي بينهما: اسمع يا أبا عبد الله واحفظ عني ما أقول، ثم أنشده:

أسلم يا راحة العليل ** رفقا على الهائم النحيل

وصلك أشهى إلى فؤادي ** من رحمة الخالق الجليل

فقال له الرجل: ويحك اتق الله تعالى، ما هذه العظيمة؟

فقال: قد كان ما سمعت، أو قال: القول ما سمعت.

قال: فخرج الرجل من عنده فما توسط الدار حتى سمع الصراخ عليه، وسمع صيحة الموت، وقد فارق الدنيا على ذلك.

وهذه زلة شنعاء، وعظيمة صلعاء، وداهية دهياء، ولولا أن هؤلاء الأئمة ذكروها ما ذكرتها، ولكن فيها عبرة لأولي الألباب، وتنبيه لذوي البصائر والعقول، أن يسألوا الله رحمته وعافيته، وأن يستعيذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقهم حسن الخاتمة عند الممات إنه كريم جواد.

قال الحميدي: وأنشدني أبو علي بن أحمد قال: أنشدني محمد بن عبد الرحمن لأحمد بن كليب وقد أهدى إلى أسلم كتاب (الفصيح) لثعلب:

هذا كتاب الفصيح ** بكل لفظ مليح

وهبته لك طوعا ** كما وهبتك روحي

الحسن بن أحمد ابن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان بن حرب بن مهران البزاز

أحد مشايخ الحديث، سمع الكثير، وكان ثقة صدوقا، جاء يوما شاب غريب فقال له: إني رأيت رسول الله في المنام فقال لي: اذهب إلى أبي علي بن شاذان فسلم عليه وأقره مني السلام.

ثم انصرف الشاب فبكى الشيخ وقال: ما أعلم لي عملا أستحق به هذا غير صبري على سماع الحديث، وصلاتي على رسول الله كلما ذكر.

ثم توفي بعد شهرين أو ثلاثة من هذه الرؤيا في محرمها، عن سبع وثمانين سنة، ودفن بباب الدير.

الحسن بن عثمان ابن أحمد بن الحسين بن سورة

أبو عمر الواعظ المعروف بابن الغلو، سمع الحديث عن جماعة.

قال ابن الجوزي: وكان يعظ، وله بلاغة، وفيه كرم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ومن شعره قوله:

دخلت على السلطان في دار عزه ** بفقر ولم أجلب بخيل ولا رجل

وقلت: انظروا ما بين فقرى وملككم ** بمقدار ما بين الولاية والعزل

توفي في صفر منها وقد قارب الثمانين، ودفن بمقبرة حرب إلى جانب ابن السماك رحمهما الله.

ثم دخلت سنة سبع وعشرين وأربعمائة

في المحرم منها تكاملت قنطرة عيسى التي كانت سقطت، وكان الذي ولي مشارفة الإنفاق عليها الشيخ أبو الحسين القدوري الحنفي.

وفي المحرم وما بعده تفاقم أمر العيارين، وكبسوا الدور وتزايد شرهم جدا.

وفيها: توفي صاحب مصر الظاهر أبو الحسن علي بن الحاكم الفاطمي، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة، وقام بالأمر من بعده ولده المستنصر وعمره سبع سنين، واسمه معد، وكنيته أبو تميم، وتكفل بأعباء المملكة بين يديه الأفضل أمير الجيوش، واسمه بدر بن عبد الله الجمالي، وكان الظاهر هذا قد استوزر الصاحب أبا القاسم علي بن أحمد الجرجرائي، وكان مقطوع اليدين من المرفقين، في سنة ثماني عشرة، فاستمر في الوزارة مدة ولاية الظاهر، ثم لولده المستنصر، حتى توفي الوزير الجرجرائي المذكور في سنة ست وثلاثين، وكان قد سلك في وزارته العفة العظيمة، وكان الذي يعلم عنه القاضي أبو عبد الله القضاعي، صاحب كتاب (الشهاب).

وكانت علامته الحمد لله شكرا لنعمه، وكان الذي قطع يديه من المرفقين الحاكم، لجناية ظهرت منه في سنة أربع وأربعمائة، ثم استعمله في بعض الأعمال سنة تسع، فلما فقد الحاكم في السابع والعشرين من شوال، سنة إحدى عشرة، تنقلت بالجرجرائي المذكور الأحوال حتى استوزر سنة ثماني عشرة كما ذكرنا، وقد هجاه بعض الشعراء

فقال:

يا أجمعا اسمع وقل ** ودع الرقاعة والتحامق

أأقمت نفسك في الثقا ** ت وهبك فيما قلت صادق

أمن الأمانة والتقى ** قطعت يداك من المرافق


وممن توفي فيها من الأعيان:

أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعالبي

ويقال: الثعلبي أيضا - وهو لقب أيضا - وليس بنسبة، النيسابوري المفسر المشهور، له (التفسير الكبير) وله كتاب (العرايس) في قصص الأنبياء عليهم السلام، وغير ذلك، وكان كثير الحديث واسع السماع، ولهذا يوجد في كتبه من الغرائب شيء كثير، ذكره عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في (تاريخ نيسابور)، وأثنى عليه، وقال: هو صحيح النقل موثوق به.

توفي في سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وقال غيره: توفي يوم الأربعاء لسبع بقين من المحرم منها، ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله.

وقال السمعاني: ونيسابور كانت مغصبة، فأمر سابور الثاني ببنائها مدينة.

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وأربعمائة

فيها: خلع الخليفة على أبي تمام محمد بن محمد بن علي الزينبي، وقلده ما كان إلى أبيه من نقابة العباسيين والصلاة.

وفيها: وقعت الفرقة بين الجند وبين جلال الدولة، وقطعوا خطبتة وخطبة الملك أبي كاليجار، ثم أعادوا الخطبة، واستوزر أبا المعالي بن عبد الرحيم، وكان جلال الدولة قد جمع خلقا كثيرا معه، منهم البساسيري، وديبس بن علي بن مرثد، وقرواش بن مقلد، ونازل بغداد من جانبها الغربي حتى أخذها قهرا، واصطلح هو وأبو كاليجار نائب جلال الدولة على يدي قاضي القضاة الماوردي، وتزوج أبو منصور بن أبي كاليجار بابنة جلال الدولة على صداق خمسين ألف دينار، واتفقت كلمتهما وحسن حال الرعية.

وفيها: نزل مطر ببلاد قم الصلح ومعه سمك وزن السمكة رطل ورطلان.

وفيها: بعث ملك مصر بمال لإصلاح نهر بالكوفة إن أذن الخليفة العباسي في ذلك، فجمع الخليفة الفقهاء وسألهم عن هذا المال فأفتوا بأن هذا المال فيء للمسلمين، يصرف في مصالحهم، فأذن في صرفه في مصالح المسلمين.

وفيها: ثار العيارون ببغداد وفتحوا السجن بالجانب الشرقي، وأخذوا منه رجالا وقتلوا من رجال الشرط سبعة عشرة رجلا، وانتشرت الشرور في البلد جدا.

ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان لاختلاف الكلمة.

وممن توفي فيها من الأعيان:

القدوري أحمد بن محمد

ابن أحمد بن جعفر، أبو الحسن القدوري الحنفي البغدادي، سمع الحديث ولم يحدث إلا بشيء يسير.

قال الخطيب: كتبت عنه.

وقد تقدمت وفاته، ودفن بداره في درب خلف.

الحسن بن شهاب ابن الحسن بن علي

أبو علي العكبري، الفقيه الحنبلي الشاعر، ولد سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، سمع من أبي بكر بن مالك وغيره، وكان كما قال البرقاني: ثقة أمينا، وكان يسترزق من الوراقة - وهو النسخ - يقال: إنه كان يكتب ديوان المتنبي في ثلاث ليال فيبيعه بمائتي درهم، ولما توفي أخذ السلطان من تركته ألف دينار سوى الأملاك، وكان قد أوصى بثلث ماله في متفقهة الحنابلة، فلم تصرف.

لطف الله أحمد بن عيسى

أبو الفضل الهاشمي، ولي القضاء والخطابة بدرب ريحان، وكان ذا لسان، وقد أضر في آخر عمره، وكان يروي حكايات وأناشيد من حفظه، توفي في صفر منها.

محمد بن أحمد ابن علي بن موسى بن عبد المطلب

أبو علي الهاشمي، أحد أئمة الحنابلة وفضلائهم.

محمد بن الحسن ابن أحمد بن علي أبو الحسن الأهوازي

ويعرف بابن أبي علي الأصبهاني، ولد سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، وقدم بغداد وخرج له أبو الحسن النعيمي أجزاء من حديثه، فسمعها منه البرقاني، إلا أنه بان كذبه، حتى كان بعضهم يسميه جراب الكذب، أقام ببغداد سبع سنين، ثم عاد إلى الأهواز فمات بها.

مهيار الديلمي الشاعر

مهيار بن مرزويه أبو الحسين الكاتب الفارسي، ويقال له: الديلمي، كان مجوسيا فأسلم، إلا أنه سلك سبيل الرافضة، وكان ينظم الشعر القوي الفحل في مذاهبهم، من سب الصحابة وغيرهم، حتى قال له أبو القاسم بن برهان: يا مهيار انتقلت من زاوية في النار إلى زاوية أخرى في النار، كنت مجوسيا فأسلمت فصرت تسب الصحابة.

وقد كان منزله بدرب رباح من الكرخ، وله ديوان شعر مشهود، فمن مستجاد قوله:

أستنجد الصبر فيكم وهو مغلوب ** وأسأل النوم عنكم وهو مسلوب

وأبتغي عندكم قلبا سمحت به ** وكيف يرجع شيء وهو موهوب

ما كنت أعرف مقدار حبكم ** حتى هجرت وبعض الهجر تأديب

ولمهيار أيضا:

أجارتنا بالغور والركب منهم ** أيعلم خال كيف بات المتيم

رحلتم وجمر القلب فينا وفيكم ** سواء ولكن ساهرون ونوم

فبنتم عنا ظاعنين وخلفوا ** قلوبا أبت أن أعرف الصبر عنهم

ولما خلى التوديع عما حذرته ** ولم يبق إلا نظرة لي تغنم

بكيت على الوادي وحرمت ماءه ** وكيف به ماء وأكثره دم

قال ابن الجوزي: ولما كان شعره أكثره جيدا اقتصرت على هذا القدر.

توفي في جمادى الآخرة.

هبة الله بن الحسن أبو الحسين المعروف بالحاجب

كان من أهل الفضل والأدب والدين، وله شعر حسن، فمنه قوله:

يا ليلة سلك الزما ** ن في طيبها كل مسلك

إذ ترتقى روحي المسر ** ة مدركا ما ليس يدرك

والبدر قد فضح الزما ** ن وسره فيه مهتك

وكأنما زهر النجو ** م بلمعها شعل تحرك

والغيب أحيانا يلو ** ح كأنه ثوب ممسك

وكأن تجعيد الريا ** ح لدجلة ثوب مفرك

وكان نشر المسك ** ينفح في النسيم إذا تحرك

وكأنما المنثور مصفر ** الذرى ذهب مسبك

والنور يبسم في الريا ** ض فإن نظرت إليه سرك

شارطت نفسي أن أقو ** م بحقها والشرط أملك

حتى تولى الليل منـ ** ـهزما وجاء الصبح يضحك

وذا الفتى لو أنه ** في طيب العيش يترك

والدهر يحسب عمره ** فإذا أتاه الشيب فذلك

أبو علي بن سينا

الطبيب الفيلسوف، الحسين بن عبد الله بن سينا الرئيس، كان بارعا في الطب في زمانه، كان أبوه من أهل بلخ، وانتقل إلى بخارى، واشتغل بها فقرأ القرآن وأتقنه، وهو ابن عشر سنين، وأتقن الحساب والجبر والمقابلة وإقليدس والمجسطي، ثم اشتغل على أبي عبد الله الناتلي الحكيم، فبرع فيه وفاق أهل زمانه في ذلك، وتردد الناس إليه واشتغلوا عليه، وهو ابن ست عشرة سنة، وعالج بعض الملوك السامانية، وهو الأمير نوح بن نصر، فأعطاه جائزة سنية، وحكمه في خزانة كتبه، فرأى فيها من العجائب والمحاسن ما لا يوجد في غيرها، فيقال: إنه عزا بعض تلك الكتب إلى نفسه.

وله في الإلهيات والطبيعات كتب كثيرة.

قال ابن خلكان: له نحو من مائة مصنف، صغار وكبار، منها: (القانون)، و(الشفا)، و(النجاة)، و(الإشارات)، و(سلامان)، و(إنسان)، و(حي بن يقظان) وغير ذلك.

قال: وكان من فلاسفة الإسلام، أورد له من الأشعار قصيدته في نفسه التي يقول فيها:

هبطت إليك من المقام الأرفع ** ورقاء ذات تعزز وتمنع

محجوبة عن كل مقلة عارف ** وهي التي سفرت ولم تتبرقع

وصلت على كره إليك وربما ** كرهت فراقك وهي ذات تفجع

وهي قصيدة طويلة وله:

اجعل غذاءك كل يوم مرة ** واحذر طعاما قبل هضم طعام

واحفظ منيك ما استطعت فإنه ** ماء الحياة يراق في الأرحام

وذكر أنه مات بالقولنج في همذان، وقيل: بأصبهان، والأول أصح، يوم الجمعة في شهر رمضان منها، عن ثمان وخمسين سنة.

قلت: قد حصر الغزالي كلامه في (مقاصد الفلاسفة)، ثم رد عليه في (تهافت الفلاسفة) في عشرين مجلسا له، كفره في ثلاث منها، وهي قوله: بقدم العالم، وعدم المعاد الجثماني، وإن الله لا يعلم الجزئيات، وبدعه في البواقي، ويقال: إنه تاب عند الموت فالله أعلم.

ثم دخلت سنة تسع وعشرين وأربعمائة

فيها: كان بدو ملك السلاجقة.

وفيها: استولى ركن الدولة أبو طالب طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجوق على نيسابور، وجلس على سرير ملكها، وبعث أخاه داود إلى بلاد خرسان فملكها، وانتزعها من نواب الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين.

وفيها: قتل جيش المصريين لصاحب حلب، وهو شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس، واستولوا على حلب وأعمالها.

وفيها: سأل جلال الدولة الخليفة أن يلقب ملك الدولة، فأجابه إلى ذلك بعد تمنع.

وفيها: استدعى الخليفة بالقضاة والفقهاء وأحضر جاثليق النصارى ورأى جالوت اليهود، وألزموا بالغيار.

وفي رمضان منها لقب جلال الدولة شاهنشاه الأعظم ملك الملوك، بأمر الخليفة، وخطب له بذلك على المنابر، فنفرت العامة من ذلك ورموا الخطباء بالآجر، ووقعت فتنة شديدة بسبب ذلك، واستفتوا القضاة والفقهاء في ذلك فأفتى أبو عبد الله الصيمري أن هذه الأسماء يعتبر فيها القصد والنية، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكا} 4، وقال: {وَكَانَ وَرَاءهُمْ مَلِكٌ} 5

وإذا كان في الأرض ملوك جاز أن يكون بعضهم فوق بعض، وأعظم من بعض، وليس في ذلك ما يوجب النكير والمماثلة بين الخالق والمخلوقين.

وكتب القاضي أبو الطيب الطبري: أن إطلاق ملك الملوك جائز، ويكون معناه: ملك ملوك الأرض، وإذا جاز أن يقال: كافي الكفاة وقاضي القضاة، جاز أن يقال: ملك الملوك، وإذا كان في اللفظ ما يدل على أن المراد به ملوك الأرض زالت الشبة، ومنه قولهم: اللهم أصلح الملك، فيصرف الكلام إلى المخلوقين.

وكتب التميمي الحنبلي نحو ذلك، وأما الماوردي صاحب (الحاوي الكبير) فقد نقل عنه: أنه أجاز ذلك أيضا، والمشهور عنه ما نقله ابن الجوزي والشيخ أبو منصور بن الصلاح في (أدب المفتي): أنه منع من ذلك وأصر على المنع من ذلك، مع صحبته للملك جلال الدولة، وكثرة ترداده إليه، ووجاهته عنده، وأنه امتنع من الحضور عن مجلسه حتى استدعاه جلال الدولة في يوم عيد، فلما دخل عليه، دخل وهو وجل خائف أن يوقع به مكروها، فلما واجهه قال له جلال الدولة: قد علمت أنه إنما منعك من موافقة الذين جوزوا ذلك مع صحبتك إياي ووجاهتك عندي، دينك واتباعك الحق، وإن الحق آثر عندك من كل أحد، ولو حابيت أحدا من الناس لحابيتني، وقد زادك ذلك عندي صحبة ومحبة، وعلو مكانة.

قلت: والذي حمل القاضي الماوردي على المنع هو السنة التي وردت بها الأحاديث الصحيحة من غير وجه.

قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي أنه قال: «أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى بملك الأملاك».

قال الزهري: سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع اسم؟

قال: أوضع.

وقد رواه البخاري عن علي بن المديني عن ابن عيينة، وأخرجه مسلم من طريق همام عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: «أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل تسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله عز وجل».

وقال الإمام أحمد: حدثني محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن جلاس، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : «اشتد غضب الله على من قتله نبي، واشتد غضب الله على رجل تسمى بملك الأملاك، لا ملك إلا الله عز وجل».

وممن توفي فيها من الأعيان:

الثعالبي صاحب يتيمة الدهر

أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري، كان إماما في اللغة والأخبار وأيام الناس، بارعا مفيدا، له التصانيف الكبار في النظم والنثر والبلاغة والفصاحة، وأكبر كتبه (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر) وفيها يقول بعضهم:

أبيات أشعار اليتيمة ** أبكار أفكار قديمة

ماتوا وعاشت بعدهم ** فلذاك سميت اليتمية

وإنما سمي الثعالبي لأنه كان رفاء يخيط جلود الثعالب، وله أشعار كثيرة مليحة، ولد سنة خمسين وثلاثمائة، ومات في هذه السنة.

الأستاذ أبو منصور

عبد القاهر بن طاهر بن محمد، البغدادي الفقيه الشافعي، أحد الأئمة في الأصول والفروع، وكان ماهرا في فنون كثيرة من العلوم، منها علم الحساب والفرائض، وكان ذا مال وثروة أنفقه كله على أهل العلم، وصنف ودرس في سبعة عشر علما، وكان اشتغاله على أبي إسحاق الإسفرائيني، وأخذ عنه ناصر المروزي وغيره.

ثم دخلت سنة ثلاثين وأربعمائة

فيها: التقى الملك مسعود بن محمود، والملك طغرلبك السلجوقي، ومعه أخوه داود في شعبان، فهزمهما مسعود، وقتل من أصحابهما خلقا كثيرا.

وفيها: خطب شبيب بن ريان للقائم العباسي بحران والرحبة، وقطع خطبة الفاطمي العبيدي.

وفيها: خوطب أبو منصور بن جلال الدولة بالملك العزيز، وهو مقيم بواسط، وهذا العزيز آخر من ملك بغداد من بني بويه، لما طغوا وتمردوا وبغوا وتسموا بملك الأملاك، فسلبهم الله ما كان أنعم به عليهم، وجعل الملك في غيرهم، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الآية 6.

وفيها: خلع الخليفة على القاضي أبي عبد الله بن ماكولا خلعة تشريف.

وفيها: وقع ثلج عظيم ببغداد مقدار شبر.

قال ابن الجوزي: وفي جمادى الآخرة تملك بنو سلجوق بلاد خراسان والحبل، وتقسموا الأطراف، وهو أول ملك السلجوقية.

ولم يحج أحد فيها من العراق وخراسان، ولا من أهل الشام ولا مصر إلا القليل.

وممن توفي فيها من الأعيان:

الحافظ أبو نعيم الأصبهاني

أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران، أبو نعيم الأصبهاني، الحافظ الكبير ذو التصانيف المفيدة الكثيرة الشهيرة، منها (حلية الأولياء) في مجلدات كثيرة، دلت على اتساع روايته، وكثرة مشايخه، وقوة إطلاعه على مخارج الحديث وشعب طرقه، وله (معجم الصحابة) وهو عندي بخطه، وله (صفة الجنة) و(دلائل النبوة) وكتاب في (الطب النبوي) وغير ذلك من المصنفات المفيدة.

وقد قال الخطيب البغدادي: كان أبو نعيم يخلط المسموع له بالمجاز، ولا يوضح أحدهما من الآخر.

وقال عبد العزيز النخشبي: لم يسمع أبو نعيم مسند الحارث بن أبي أسامة من أبي بكر بن خلاد بتمامه، فحدث به كله.

وقال ابن الجوزي: سمع الكثير وصنف الكثير، وكان يميل إلى مذهب الأشعري في الاعتقاد ميلا كثيرا.

توفي أبو نعيم في الثامن والعشرين من المحرم منها، عن أربع وتسعين سنة رحمه الله، لأنه ولد فيما ذكره ابن خلكان في سنة ست وثلاثين وثلاثمائة.

قال: وله (تاريخ أصبهان).

وذكر أبو نعيم في ترجمة والده: أن مهران أسلم، وأن ولاءهم لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.

وذكر أن معنى أصبهان وأصله بالفارسية: شاهان، أي: مجمع العساكر، وأن الإسكندر بناها.

الحسن بن حفص أبو الفتوح العلوي أمير مكة

الحسن بن الحسين، أبو علي البرجمي، وزر لشرف الدولة سنتين ثم عزل، وكان عظيم الجاه في زمانه، وهو الذي بنى مارستان واسط، ورتب فيه الأشربة والأطباء والأدوية، ووقف عليه كفايته.

توفي في هذه السنة وقد قارب الثمانين رحمه الله.

الحسين بن محمد بن الحسن ابن علي بن عبد الله المؤدب

وهو أبو محمد الخلال، سمع صحيح البخاري من إسماعيل بن محمد الكشميهني، وسمع غيره، توفي في جمادى الأولى، ودفن بباب حرب.

عبد الملك بن محمد ابن عبد الله بن محمد بن بشر بن مهران

أبو القاسم الواعظ، سمع النجاد ودعلج بن أحمد والآجري وغيرهم، وكان ثقة صدوقا، وكان يشهد عند الحكام فترك ذلك رغبة عنه ورهبة من الله، ومات في ربيع الآخر منها، وقد جاوز التسعين، وصلي عليه في جامع الرصافة، وكان الجمع كثيرا حافلا، ودفن إلى جانب أبي طالب المكي، وكان قد أوصى بذلك.

محمد بن الحسين بن خلف ابن الفراء

أبو حازم القاضي أبو يعلى الحنبلي، سمع الدارقطني وابن شاهين.

قال الخطيب: كان لا بأس به، ورأيت له أصولا سماعه فيها، ثم إنه بلغنا أنه خلط في الحديث بمصر واشترى من الوراقين صحفا فروى منها، وكان يذهب إلى الاعتزال.

توفي بتنيس من بلاد مصر.

محمد بن عبد الله أبو بكر الدينوري الزاهد

كان حسن العيش، وكان ابن القزويني يثني عليه، وكان جلال الدولة صاحب بغداد يزوره، وقد سأله مرة أن يطلق للناس مكث الملح، وكان مبلغه ألفي دينار فتركه من أجله، ولما توفي اجتمع أهل بغداد لجنازته، وصلي عليه مرات، ودفن بباب حرب رحمه الله تعالى.

الفضل بن منصور أبو الرضى

ويعرف بابن الظريف، وكان شاعرا ظريفا ومن شعره قوله:

يا قالة الشعر قد نصحت لكم ** ولست أدهى إلا من النصح

قد ذهب الدهر بالكرام ** وفي ذاك أمور طويلة الشرح

أتطلبون النوال من رجل ** قد طبعت نفسه على الشح

وأنتم تمدحون بالحسن والظرف ** وجوها في غاية القبح

من أجل ذا تحرمون رزقكم ** لأنكم تكذبون في المدح

صونوا القوافي فما أرى ** أحدا يغتر فيه بالنجح

فإن شككتم فيما أقول لكم ** فكذبوني بواحد سمح

هبة الله بن علي بن جعفر

أبو القاسم بن ماكولا، وزر لجلال الدولة مرارا، وكان حافظا للقرآن، عارفا بالشعر والأخبار، خنق بهيت في جمادى الآخرة منها.

أبو زيد الدبوسي

عبد الله بن عمر بن عيسى الفقيه الحنفي، أول من وضع علم الخلاف وأبرزه إلى الوجود.

قاله ابن خلكان.

وكان يضرب به المثل، والدبوس نسبة إلى قرية من أعمال بخارى، قال: وله كتاب (الأسرار والتقويم للأدلة) وغير ذلك من التصانيف والتعاليق، قال: وروي أنه ناظر فقيها فبقي كلما ألزمه أبو زيد إلزاما تبسم أو ضحك، فأنشد أبو زيد في ذلك:

مالي إذا ألزمته حجة ** قابلني بالضحك والقهقهة

إن ضحك المرء من فقهه ** فالدب بالصحراء ما أفقهه

الحوفي صاحب إعراب القرآن

أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سعيد بن يوسف الحوفي النحوي، له كتاب في النحو كبير، و(إعراب القرآن) في عشر مجلدات، وله (تفسير القرآن) أيضا، وكان إماما في العربية والنحو والأدب، وله تصانيف كثيرة، انتفع بها الناس.

قال ابن خلكان: والحوفي نسبة لناحية بمصر يقال لها: الشرقية، وقصبتها مدينة بلبيس، فجميع ريفها يسمون حوف، واحدهم حوفي وهو من قرية يقال لها: شبرا النخلة، من أعمال الشرقية المذكورة رحمه الله.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة

فيها: زادت دجلة زيادة عظيمة بحيث حملت الجسر ومن عليه فألقتهم بأسفل البلد وسلموا.

وفيها وقع بين الجند وبين جلال الدولة شغب، وقتل من الفريقين خلق، وجرت شرور يطول ذكرها.

ووقع فساد عريض واتسع الخرق على الراقع، ونهبت دور كثيرة جدا، ولم يبق للملك عندهم حرمة، وغلت الأسعار.

وفيها: زار الملك أبو طاهر مشهد الحسين، ومشى حافيا في بعض تلك الأزوار.

ولم يحج أحد من أهل العراق.

وفيها: بعث الملك أبو كاليجار وزيره العادل إلى البصرة فملكها له.

وممن توفي فيها من الأعيان:

إسماعيل بن أحمد

ابن عبد الله أبو عبد الرحمن الضرير الخيري، من أهل نيسابور، كان من أعيان الفضلاء الأذكياء، والثقات الأمناء، قدم بغداد حاجا في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، فقرأ عليه الخطيب جميع صحيح البخاري في ثلاث مجالس بروايته له عن أبي الهيثم الكشميهني، عن الفربري، عن البخاري، توفي فيها وقد جاوز التسعين.

بشرى الفاتني

وهو بشرى بن مسيس من سبي الروم، أهداه أمراء بني حمدان الفاتن غلام المطيع، فأدبه وسمع الحديث عن جماعة من المشايخ، وروى عنه الخطيب.

وقال: كان صدوقا صالحا دينا، توفي يوم عيد الفطر منها رحمه الله.

محمد بن علي ابن أحمد بن يعقوب بن مروان

أبو العلاء الواسطي، وأصله من فم الصلح، سمع الحديث وقرأ القراءات ورواها، وقد تكلموا في روايته في القراءات والحديث فالله أعلم.

توفي في جمادى الآخرة منها وقد جاوز الثمانين.

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة

فيها: عظم شأن السلجوقية، وارتفع شان ملكهم طغرلبك وأخيه داود، وهما ابنا ميكائيل بن سلجوق بن بغاق، وقد كان جدهم بغاق هذا من مشايخ الترك القدماء، الذين لهم رأي ومكيدة ومكانة عند ملكهم الأعظم، ونشأ ولده سلجوق نجيبا شهما، فقدمه الملك ولقبه شباسي، فأطاعته الجيوش وانقاد له الناس بحيث تخوف منه الملك وأراد قتله.

فهرب منه إلى بلاد المسلمين، فأسلم فازداد عزا وعلوا، ثم توفي عن مائة وسبع سنين، وخلف أرسلان وميكائيل وموسى، فأما مكائيل فإنه اعتنى بقتال الكفار من الأتراك، حتى قتل شهيدا، وخلف ولديه طغرلبك محمد، وجعفر بك داود، فعظم شأنهما في بني عمهما، واجتمع عليهما الترك من المؤمنين، وهم ترك الإيمان الذي يقول لهم الناس: تركمان، وهم السلاجقة بنو سلجوق جدهم هذا، فأخذوا بلاد خراسان بكمالها بعد موت محمود بن سبكتكين.

وقد كان يتخوف منهم محمود بعض التخوف، فلما مات وقام ولده مسعود بعده قاتلهم وقاتلوه مرارا، فكانوا يهزمونه في أكثر المواقف، واستكمل لهم ملك خراسان بأسرها، ثم قصدهم مسعود في جنود يضيق بهم الفضاء فكسروه، وكبسه مرة داود فانهزم مسعود فاستحوذ على حواصله وخيامه، وجلس على سريره، وفرق الغنائم على جيشه، ومكث جيشه على خيولهم لا ينزلون عنها ثلاثة أيام، خوفا من دهمة العدو، وبمثل هذا تم لهم ما راموه، وكمل لهم جميع ما أملوه.

ثم كان من سعادتهم أن الملك مسعود توجه نحو بلاد الهند لسبي بها وترك مع ولده مودود جيشا كثيفا بسبب قتال السلاجقة، فلما عبر الجسر الذي على سيحون نهبت جنوده حواصله، واجتمعوا على أخيه محمد بن محمود، وخلعوا مسعودا فرجع إليهم مسعود فقاتلهم فهزموه وأسروه، فقال له أخوه: والله لست بقاتلك على شر صنيعك إلي، ولكن اختر لنفسك أي بلد تكون فيه أنت وعيالك.

فاختار قلعة كبرى، وكان بها.

ثم إن الملك محمدا أخا مسعود جعل لولده الأمر من بعده، وبايع الجيش له، وكان ولده اسمه أحمد، وكان فيه هرج، فاتفق هو ويوسف بن سبكتكين على قتل مسعود ليصفو لهم الأمر، ويتم لهم الملك، فسار إليه أحمد من غير علم أبيه فقتله، فلما علم أبوه بذلك غاظه وعتب على ابنه عتبا شديدا، وبعث إلى ابن أخيه يعتذر إليه ويقسم له أنه لم يعلم بذلك، حتى كان ما كان.

فكتب إليه مودود بن مسعود: رزق الله ولدك المعتوه عقلا يعيش به، فقد ارتكب أمرا عظيما، وقدم على إراقة دم مثل والدي الذي لقبه أمير المؤمنين بسيد الملوك والسلاطين، وستعلمون أي حيف تورطتم، وأي شر تأبطتم {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 7.

ثم سار إليهم في جنود فقاتلهم فقهرهم وأسرهم، فقتل عمه محمدا وابنه أحمد وبني عمه كلهم، إلا عبد الرحمن وخلقا من رؤس أمرائهم، وابتنى قرية هنالك وسماها فتحا أباذا، ثم سار إلى غزنة فدخلها في شعبان، فأظهر العدل وسلك سيرة جده محمود، فأطاعه الناس، وكتب إليه أصحاب الأطراف بالانقياد والاتباع والطاعة، غير أنه أهلك قومه بيده، وهذا من جملة سعادة السلاجقة.

وفيها: اختلف أولاد حماد على العزيز باديس صاحب إفريقية، فسار إليهم فحاصرهم قريبا من سنتين، ووقع بإفريقية في هذه السنة غلاء شديد بسبب تأخر المطر، ووقع ببغداد فتنة عظيمة بين الروافض والسنة من أهل الكرخ، وأهل باب البصرة، فقتل بينهم خلق كثير من الفريقين.

ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان.

وممن توفي فيها من الأعيان:

محمد بن الحسين ابن الفضل بن العباس، أبو يعلى البصري الصوفي

أذهب عمره في الأسفار والتغريب، وقدم بغداد في سنة ثنتين وثلاثين، فحدث بها عن أبي بكر بن أبي الحديد الدمشقي، وأبي الحسين بن جميع الغساني، وكان ثقة صدوقا دينا حسن الشعر.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة

فيها: ملك طغرلبك جرجان وطبرستان، ثم عاد إلى نيسابور مؤيدا منصورا.

وفيها: ولي ظهير الدولة بن جلال الدولة أبي جعفر بن كالويه بعد وفاة أبيه، فوقع الخلف بينه وبين أخويه أبي كاليجار وكرسانيف.

وفيها: دخل أبو كاليجار همذان، ودفع الغز عنها.

وفيها: شعثت الأكراد ببغداد لسبب تأخر العطاء عنهم.

وفيها: سقطت قنطرة بني زريق على نهر عيسى، وكذا القنطرة الكثيفة التي تقابلها.

وفيها: دخل بغداد رجل من البلغار يريد الحج، وذكر أنه من كبارهم، فأنزل بدار الخلافة وأجرى عليه الأرزاق، وذكر أنهم مولدون من الترك والصقالبة، وأنهم في أقصى بلاد الترك، وأن النهار يقصر عندهم حتى يكون ست ساعات، وكذلك الليل، وعندهم عيون وزروع وثمار، على غير مطر ولا سقي.

وفيها: قرئ الاعتقاد القادري الذي جمعه الخليفة القادر، وأخذت خطوط العلماء والزهاد عليه بأنه اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فسق وكفر، وكان أول من كتب عليه الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني، ثم كتب بعده العلماء، وقد سرده الشيخ أبو الفرج بن الجوزي بتمامه في (منتظمه)، وفيه جملة جيدة من اعتقاد السلف.

من الأعيان:

بهرام بن منافيه

أبو منصور الوزير لأبي كاليجار، كان عفيفا نزها صينا عادلا في سيرته، وقد وقف خزانة كتب في مدينة فيروزباذ تشتمل على سبعة آلاف مجلد، من ذلك أربعة آلاف ورقة بخط أبي علي وأبي عبد الله بن مقلة.

محمد بن جعفر بن الحسين

المعروف بالجهرمي، قال الخطيب: هو أحد الشعراء الذين لقيناهم وسمعنا منهم، وكان يجيد القول، ومن شعره:

يا ويح قلبي من تقلبه ** أبدا نحن إلى معذبه

قالوا: كتمت هواه عن جلد ** لو أن لي جلد لبحت به

ما بي جننت غير مكترث ** عني ولكن من تغيبه

حسبي رضاه من الحياة وما ** يلقى وموتي من تغضبه

مسعود الملك بن الملك محمود

ابن الملك سبكتكين، صاحب غزنة وابن صاحبها، قتله ابن عمه أحمد بن محمد بن محمود، فانتقم له ابنه مودود بن مسعود، فقتل قاتل أبيه وعمه وأهل بيته، من أجل أبيه، واستتب له الأمر وحده من غير منازع من قومه كما تقدم.

بنت أمير المؤمنين المتقي تأخرت مدتها حتى توفيت في هذه السنة في رجب منها عن إحدى وتسعين سنة، بالحريم الظاهر، ودفنت بالرصافة.

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وأربعمائة

فيها: أمر الملك جلال الدولة أبا طاهر بجباية أموال الجوالي، ومنع أصحاب الخليفة من قبضها، فانزعج لذلك الخليفة القائم بالله، وعزم على الخروج من بغداد.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة بمدينة تبريز، فهدمت قلعتها وسورها ودورها، ومن دار الإمارة عامة قصورها، ومات تحت الهدم خمسون ألفا، ولبس أهلها المسوح لشدة مصابهم.

وفيها: استولى السلطان طغرلبك على أكثر البلاد الشرقية من ذلك مدينة خوارزم ودهستان وطيس والري وبلاد الجبل وكرمان وأعمالها وقزوين.

وخطب له في تلك النواحي كلها، وعظم شأنه جدا، واتسع صيته.

وفيها: ملك سماك بن صالح بن مرداس حلب، أخذها من الفاطميين، فبعث إليه المصريون من حاربه. ولم يحج أحد من أهل العراق وغيرها، ولا في اللواتي قبلها.

من الأعيان:

أبو زر الهروي

عبد الله بن أحمد بن محمد الحافظ المالكي، سمع الكثير ورحل إلى الأقاليم، وسكن مكة، ثم تزوج في العرب، وكان يحج كل سنة ويقيم بمكة أيام الموسم ويسمع الناس، ومنه أخذ المغاربة مذهب الأشعري عنه، وكان يقول: إنه أخذ مذهب مالك عن الباقلاني.

كان حافظا، توفي في ذي القعدة.

محمد بن الحسين ابن محمد بن جعفر

أبو الفتح الشيباني العطار، ويعرف بقطيط، سافر الكثير إلى البلاد، وسمع الكثير، وكان شيخا ظريفا، سلك طريق التصوف، وكان يقول: لما ولدت سميت قطيطا على أسماء البادية، ثم سماني بعض أهلي محمدا.

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وأربعمائة

فيها: ردت الجوالي إلى نواب الخليفة.

وفيها: ورد كتاب من الملك طغرلبك إلى جلال الدولة يأمره بالإحسان إلى الرعايا والوصاة بهم، قبل أن يحل به ما يسوءه.

أبو كاليجار يملك بغداد بعد أخيه جلال الدولة

وفيها: توفي جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة، فملك بغداد بعده أخوه سلطان الدولة أبو كاليجار بن بهاء الدولة، وخطب له بها عن ممالأة أمرائها، وأخرجوا منها الملك العزيز أبا منصور بن جلال الدولة، فتنقل في البلاد وتسرب من مملكته إلى غيرها حتى توفي سنة إحدى وأربعين، وحمل فدفن عند أبيه بمقابر قريش.

وفيها: أرسل الملك مودود بن مسعود عسكرا كثيفا إلى خراسان، فبرز إليهم ألب أرسلان بن داود السلجوقي فاقتتلا قتالا عظيما.

وفي صفر منها أسلم من الترك الذين كانوا يطرقون بلاد المسلمين نحو من عشرة آلاف خركاة، وضحوا في يوم عيد الأضحى بعشرين ألف رأس من الغنم، وتفرقوا في البلاد، ولم يسلم من خطا والتتر أحد وهم بنواحي الصين.

وفيها: نفي ملك الروم من القسطنطينية كل غريب له فيها دون العشرين سنة.

وفيها: خطب المعز أبو تميم صاحب إفريقية ببلاده للخليفة العباسي، وقطع خطبة الفاطميين وأحرق أعلامهم، وأرسل إليه الخليفة الخلع واللواء المنشور، وفيه تعظيم له وثناء عليه.

وفيها: أرسل القائم بأمر الله أبا الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي قبل موت جلال الدولة إلى الملك طغرلبك ليصلح بينه وبين جلال الدولة وأبي كاليجار، فسار إليه فالتقاه بجرجان فتلقاه الملك على أربعة فراسخ إكراما للخليفة، وأقام عنده إلى السنة الآتية.

فلما قدم على الخليفة أخبره بطاعته وإكرامه لأجل الخليفة.

وفيها توفي من الأعيان:

الحسين بن عثمان ابن سهل بن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلي

أبو سعد أحد الرحالين في طلب الحديث إلى البلاد المتباعدة، ثم أقام ببغداد مدة وحدث بها، وروى عنه الخطيب، وقال: كان صدوقا، ثم انتقل في آخره عمره إلى مكة فأقام بها حتى مات في شوال منها.

عبد الله بن أبي الفتح

أحمد بن عثمان بن الفرج بن الأزهر، أبو القاسم الأزهري، الحافظ المحدث المشهور، ويعرف بابن السواري، سمع من أبي بكر بن مالك وخلق يطول ذكرهم، وكان ثقة صدوقا دينا، حسن الاعتقاد والسيرة، توفي ليلة الثلاثاء تاسع عشر صفر منها عن ثمانين سنة وعشرة أيام.

الملك جلال الدولة

أبو طاهر بن بهاء الدولة بن بويه الديلمي، صاحب العراق، كان يحب العباد ويزورهم، ويلتمس الدعاء منهم، وقد نكب مرات عديدة، وأخرج من داره، وتارة أخرج من بغداد بالكلية، ثم يعود إليها حتى اعتراه وجع كبده فمات من ذلك في ليلة الجمعة خامس شعبان منها، وله من العمر إحدى وخمسين سنة وأشهر.

تولى العراق من ذلك ستة عشرة سنة وإحدى عشر شهرا والله أعلم.

ثم دخلت سنة ست وثلاثين وأربعمائة

فيها: دخل الملك أبو كاليجار بغداد وأمر بضرب الطبل في أوقات الصلوات الخمس، ولم تكن الملوك تفعل ذلك، إنما كان يضرب لعضد الدولة ثلاث أوقات، وما كان يضرب في الأوقات الخمس إلا للخليفة، وكان دخوله إليها في رمضان، وقد فرق على الجند أموالا جزيلة، وبعث إلى الخليفة بعشرة آلاف دينار، وخلع على مقدمي الجيوش وهم البساسيري، والنشاوري، والهمام أبو اللقاء، ولقبه الخليفة محي الدولة، وخطب له في بلاد كثيرة بأمر ملوكها، وخطب له بهمذان، ولم يبق لنواب طغرلبك فيها أمر.

وفيها: استوزر طغرلبك أبا القاسم عبد الله الجويني، وهو أول وزير وزر له.

وفيها: ورد أبو نصر أحمد بن يوسف الصاحب مصر، وكان يهوديا فأسلم بعد موت الجرجراي.

وفيها: تولى نقابة الطالبيين أبو أحمد عدنان بن الرضي، وذلك بعد وفاة عمه المرتضى.

وفيها: ولي القضاء أبو الطيب الطبري، قضاء الكرخ، مضافا إلى ما كان يتولاه من القضاء بباب الطاق، وذلك بعد موت القاضي الصيمري.

وفيها: نظر رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المسلم في كتاب ديوان الخليفة، وكان عنده بمنزلة عالية.

ولم يحج فيها أحد من أهل العراق.

من الأعيان:

الحسين بن علي ابن محمد بن جعفر، أبو عبد الله الصيمري

نسبة إلى نهر البصرة يقال له: صيمر، عليه عدة قرى، أحد أئمة الحنفية، ولي قضاء المدائن ثم قضاء ربع الكرخ، وحدث عن أبي بكر المفيد، وابن شاهين وغيرهما، وكان صدوقا وافر العقل، جميل المعاشرة، حسن العبادة، عارفا بحقوق العلماء.

توفي في شوال عن خمس وثمانين سنة.

عبد الوهاب بن منصور

ابن أحمد أبو الحسن المعروف بابن المشتري الأهوازي، كان قاضيا بالأهواز ونواحيها، شافعي المذهب، كان له منزلة كبيرة عند السلطان، وكان صدوقا كثير المال، حسن السيرة.

الشريف المرتضى علي بن الحسين

بن موسى بن محمد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الشريف الموسوي، الملقب بالمرتضى، ذي المجدين، كان أكبر من أخيه ذي الحسبين وكان جيد الشعر على مذهب الإمامية والاعتزال، يناظر على ذلك، وكان يناظر عنده في كل المذاهب، وله تصانيف في التشيع، أصولا وفروعا.

وقد نقل ابن الجوزي أشياء من تفرداته في التشيع، فمن ذلك: أنه لا يصح السجود إلا على الأرض أو ما كان من جنسها، وأن الاستجمار إنما يجزئ في الغائط لا في البول، وأن الكتابيات حرام، وكذا ذبائح أهل الكتاب، وما ولدوه هم وسائر الكفار من الأطعمة حرام، وأن الطلاق لا يقع إلا بحضرة شاهدين، والمعلق منه لا يقع وإن وجد شرطه، ومن نام عن صلاة العشاء حتى انتصف الليل وجب قضاؤها، ويجب عليه أن يصبح صائما كفارة لما وقع منه.

ومن ذلك أن المرأة إذا جزت شعرها يجب عليها كفارة قتل الخطأ، ومن شق ثوبه في مصيبة وجب عليه كفارة اليمين، ومن تزوج امرأة لها زوج لا يعلمه وجب عليه أن يتصدق بخمسة دراهم، وأن قطع السارق من رؤس الأصابع.

قال ابن الجوزي: نقلته من خط أبي الوفاء بن عقيل.

قال: وهذه مذاهب عجيبة، تخرق الإجماع، وأعجب منها ذم الصحابة رضي الله عنهم.

ثم سرد من كلامه شيئا قبيحا في تكفير عمر بن الخطاب وعثمان وعائشة وحفصة رضي الله عنهم وأخزاه الله وأمثاله من الأرجاس والأنجاس، أهل الرفض والارتكاس، إن لم يكن تاب.

فقد روى ابن الجوزي قال: أنبأنا ابن ناصر، عن أبي الحسن بن الطيوري، قال: سمعت أبا القاسم بن برهان يقول: دخلت على الشريف المرتضى وإذا هو قد حول وجهه إلى الجدار وهو يقول: أبو بكر وعمر وليا فعدلا واسترحما فرحما، فأنا أقول ارتدا بعد ما أسلما؟

قال: فقمت عنه فما بلغت عتبة داره حتى سمعت الزعقة عليه.

توفي في هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة.

وقد ذكره ابن خلكان فملس عليه على عادته الشعراء في الثناء عليهم، وأورد له أشعارا رائقة.

قال: ويقال: إنه هو الذي وضع كتاب (نهج البلاغة).

محمد بن أحمد ابن شعيب بن عبد الله بن الفضل

أبو منصور الروياني، صاحب الشيخ أبي حامد الإسفراييني.

قال الخطيب: سكن بغداد وحدث بها، وكتبنا عنه، وكان صدوقا يسكن قطيعة الربيع.

توفي في ربيع الأول منها، ودفن بباب حرب.

أبو الحسين البصري المعتزلي

محمد بن علي بن الخطيب، أبو الحسين البصري المتكلم، شيخ المعتزلة والمنتصر لهم، والمحامي عن ذمهم بالتصانيف الكثيرة، توفي في ربيع الآخر منها، وصلى عليه القاضي أبو عبد الله الصيمري، ودفن في الشونيزي، ولم يرو من الحديث سوى حديث واحد، رواه الخطيب البغدادي في تاريخه: حدثنا محمد بن علي بن الطيب قرئ على هلال بن محمد بن أخي هلال الرأي، بالبصرة وأنا أسمع، قيل له: حدثكم أبو مسلم الكجي، وأبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، والغلابي، والمازني، والزريقي، قالوا: حدثنا القعنبي عن شعبة، عن منصور، عن ربعي، عن أبي مسعود البدري، قال: قال رسول الله : «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة إذا لم تستح فاصنع ما شئت».

والغلابي اسمه محمد، والمازني اسمه محمد بن حامد، والزريقي أبو علي محمد بن أحمد بن خالد البصري.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وأربعمائة

فيها: بعث السلطان طغرلبك السلجوقي أخاه إبراهيم إلى بلاد الجبل فملكها، وأخرج عنها صاحبها كرشاسف بن علاء الدولة، فالتحق بالأكراد، ثم سار إبراهيم إلى الدينور فملكها أيضا، وأخرج صاحبها وهو أبو الشوك، فسار إلى حلوان فتبعه إبراهيم فملك حلوان قهرا، وأحرق داره وغنم أمواله، فعند ذلك تجهز الملك أبو كاليجار لقتال السلاجقة الذين تعدوا على أتباعه، فلم يمكنه ذلك لقلة الظهر، وذلك أن الآفة اعترت في هذه السنة الخيل فمات له فيها نحو من اثني عشر ألف فرس، بحيث جافت بغداد من جيف الخيل.

وفيها: وقع بين الروافض والسنة ثم اتفق الفريقان على نهب دور اليهود، وإحراق الكنيسة العتيقة التي لهم، واتفق موت رجل من أكابر النصارى بواسط، فجلس أهله لعزائه على باب مسجد هناك وأخرجوا جنازته جهرا، ومعها طائفة من الأتراك يحرسونها، فحملت عليهم العامة فهزموهم وأخذوا الميت منهم واستخرجوه من أكفانه فأحرقوه، ورموا رماده في دجلة، ومضوا إلى الدير فنهبوه، وعجز الأتراك عن دفعهم.

ولم يحج فيها أحد من أهل العراق.

من الأعيان:

فارس بن محمد بن عتاز

صاحب الدينور وغيرهم، توفي في هذا الأوان.

خديجة بنت موسى

ابنة عبد الله الواعظة، وتعرف ببنت البقال، وتكنى أم سلمة.

قال الخطيب: كتبت عنها وكانت فقيرة صالحة فاضلة.

أحمد بن يوسف السليكي المنازي

الشاعر الكاتب، وزير أحمد بن مروان الكردي، صاحب ميا فارقين وديار بكر، كان فاضلا بارعا لطيفا، تردد في الترسل إلى القسطنطينية غير مرة، وحصل كتبا عزيزة أوقفها على جامعي آمد وميافارقين، ودخل يوما على أبي العلاء المعري فقال له: إني معتزل الناس وهم يؤذونني، وتركت لهم الدنيا.

فقال له الوزير: والآخرة أيضا.

فقال: والآخرة يا قاضي؟

قال: نعم.

وله ديوان قليل النظير عزيز الوجود، حرص عليه القاضي الفاضل فلم يقدر عليه، توفي فيها.

ومن شعره في وادي نزاعة:

وقانا لفحة الرمضاء واد ** وقاه مضاعف النبت العميم

نزلنا دوحه فحنا علينا ** حنو المرضعات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأ زلالا ** ألذ من المدامة للنديم

يراعي الشمس أنى قابلته ** فيحجبها ليأذن للنسيم

تروع حصاه حالية العذارى ** فتلمس جانب العقد النظيم

قال ابن خلكان: وهذه الأبيات بديعة في بابها.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة

استهلت هذه السنة والموتان كثير في الدواب جدا، حتى جافت بغداد.

قال ابن الجوزي: وربما أحضر بعض الناس الأطباء لأجل دوابهم فيسقونها ماء الشعير ويطببونها.

وفيها: حاصر السلطان بن طغرلبك أصبهان فصالحه أهلها على مال يحملونه إليه، وأن يخطب له بها، فأجابوه إلى ذلك.

وفيها: ملك مهلهل قرميسين والدينور.

وفيها: تأمر على بني خفاجة رجل يقال له: رجب بن أبي منيع بن ثمال، بعد وفاة بدران بن سلطان بن ثمال، وهؤلاء الأعراب أكثر من يصد الناس عن بيت الله الحرام، فلا جزاهم الله خيرا.

من الأعيان:

الشيخ أبو محمد الجويني إمام الشافعية

عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيسويه الشيخ أبو محمد الجويني، وهو والد إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد، وأصله من قبيلة يقال لها: سنبس، وجوين من نواحي نيسابور.

سمع الحديث من بلاد شتى على جماعة، وقرأ الأدب على أبيه، وتفقه بأبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي، ثم خرج إلى مرو إلى أبي بكر عبد الله بن أحمد القفال، ثم عاد إلى نيسابور وعقد مجلس المناظرة، وكان مهيبا لا يجري بين يديه إلا الجد، وصنف التصانيف الكثيرة في أنواع من العلوم، وكان زاهدا شديد الاحتياط لدينه حتى ربما أخرج الزكاة مرتين.

وقد ذكرته في (طبقات الشافعية) وذكرت ما قاله الأئمة في مدحه، توفي في ذي القعدة منها.

قال ابن خلكان: صنف (التفسير الكبير) المشتمل على أنواع العلوم، وله في الفقه (التبصرة والتذكرة) وصنف (مختصر المختصر)، و(الفرق والجمع)، و(السلسلة) وغير ذلك.

وكان إماما في الفقه والأصول والأدب والعربية.

توفي في هذه السنة، وقيل: سنة أربع وثلاثين.

قاله السمعاني في (الأنساب)، وهو في سن الكهولة.

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة

فيها: اصطلح الملك طغرلبك وأبو كاليجار، وتزوج طغرلبك بابنته، وتزوج أبو منصور بن كاليجار بابنة الملك داود أخي طغرلبك.

وفيها: أسرت الأكراد سرخاب أخا أبي الشوك وأحضروه بين يدي أميرهم ينال، فأمر بقلع إحدى عينيه.

وفيها: استولى أبو كاليجار على بلاد البطيحة، ونجا صاحبها أبو نصر بنفسه.

وفيها: ظهر رجل يقال له: الأصفر التغلبي، وادعى أنه من المذكورين في الكتب، فاستغوى خلقا، وقصد بلادا فغنم منها أموالا تقوى بها، وعظم أمره.

ثم اتفق له أسر وحمل إلى نصر الدولة بن مروان صاحب ديار بكر، فاعتقله وسد عليه باب السجن.

وفيها: كان وباء شديد بالعراق والجزيرة، بسبب جيف الدواب التي ماتت، فمات فيها خلق كثير، حتى خلت الأسواق وقلت الأشياء التي يحتاج إليها المرضى، وورد كتاب من الموصل بأنه لا يصلي الجمعة من أهلها إلا نحو أربعمائة، وأن أهل الذمة لم يبق منهم إلا نحو مائة وعشرين نفسا.

وفيها: وقع غلاء شديد أيضا، ووقعت فتنة بن الروافض والسنة ببغداد، قتل فيها خلق كثير.

ولم يحج فيها أحد من ركب العراق.

من الأعيان:

أحمد بن محمد بن عبد الله بن أحمد

أبو الفضل القاضي الهاشمي الرشيدي، من ولد الرشيد، ولي القضاء بسجستان، وسمع الحديث من الغطريفي.

قال الخطيب: أنشدني لنفسه قوله:

قالوا اقتصد في الجود إنك منصف ** عدل وذو الإنصاف ليس يجور

فأجبتهم إني سلالة معشر ** لهم لواء في الندى منشور

تالله إني شائد ما قدموا ** جدي الرشيد وقبله المنصور

عبد الواحد بن محمد ابن يحيى بن أيوب

أبو القاسم الشاعر المعروف بالمطرز، ومن شعره قوله:

يا عبد كم لك من ذنب ومعصية ** إن كنت ناسيها فالله أحصاها

لا بد يا عبد من يوم تقوم به ** ووقفة لك يدمي القلب ذكراها

إذا عرضت على قلبي تذكرها ** وساء ظني فقلت أستغفر الله

محمد بن الحسن بن علي ابن عبد الرحيم أبو سعد الوزير

وزر للملك جلال الدولة ست مرات، ثم كان موته بجزيرة ابن عمر فيها عن ست وخمسين سنة.

محمد بن أحمد بن موسى أبو عبد الله الواعظ الشيرازي

قال الخطيب: قدم بغداد وأظهر الزهد والتقشف والورع، وعزوف النفس عن الدنيا، فافتتن الناس به، وكان يحضر مجلسه خلق كثير، ثم إنه بعد حين كان يعرض عليه الشيء فيقبله، فكثرت أمواله، ولبس الثياب الناعمة، وجرت له أمور، وكثرت أتباعه، وأظهر أنه يريد الغزو فاتبعه نفر كثير، فعسكر بظاهر البلد، وكان يضرب له الطبل في أوقات الصلوات وسار إلى ناحية أذربيجان، فالتف عليه خلق كثير، وضاها أمير تلك الناحية، وكانت وفاته هنالك في هذه السنة.

قال الخطيب: وقد حدث ببغداد وكتبت عنه أحاديث يسيرة، وحدثني بعض أصحابنا عنه بشيء يدل على ضعفه، وأنشد هو لبعضهم:

إذا ما أطعت النفس في كل لذة ** نسبت إلى غير الحجى والتكرم

إذا ما أجبت الناس في كل دعوة ** دعتك إلى الأمر القبيح المحرم

المظفر بن الحسين ابن عمر بن برهان

أبو الحسن الغزال، سمع محمد بن المظفر وغيره، وكان صدوقا.

محمد بن علي بن إبراهيم

أبو الخطاب الحنبلي الشاعر، من شعره قوله:

ما حكم الحب فهو ممتثل ** وما جناه الحبيب محتمل

يهوى ويشكو الضنى وكل هوى ** لا ينحل الجسم فهو منتحل

وقد سافر إلى الشام فاجتاز بمعرة النعمان فامتدحه أبو العلاء المعري بأبيات، فأجابه مرتجلا عنها.

وقد كان حسن العينين حين سافر، فما رجع إلى بغداد إلا وهو أعمى.

توفي في ذي القعدة منها، ويقال: إنه كان شديد الرفض فالله أعلم.

الشيخ أبو علي السنجي

الحسين بن شعيب بن محمد شيخ الشافعية في زمانه، أخذ عن أبي بكر القفال، وشرح (الفروع) لابن الحداد، وقد شرحها قبله شيخه، وقبله القاضي أبو الطيب الطبري، وشرح أبو علي السنجي كتاب (التلخيض) لابن القاص شرحا كبيرا، وله كتاب (المجموع)، ومنه أخذ الغزالي في (الوسيط).

قال ابن خلكان: وهو أول من جمع بين طريقة العراقيين والخراسانيين.

توفي سنة بضع وثلاثين وأربعمائة.

ثم دخلت سنة أربعين وأربعمائة

في هذه السنة توفي الملك أبو كاليجار في جمادى الأولى منها، صاحب بغداد، مرض وهو في برية، ففصد في يوم ثلاث مرات، وحمل في محفة فمات ليلة الخميس، ونهبت الغلمان الخزائن، وأحرق الجواري الخيام، سوى الخيمة التي هو فيها، وولي بعده ابنه أبو نصر، وسموه الملك الرحيم، ودخل دار الخلافة فخلع عليه الخليفة سبع خلع، وسوره وطوقه وجعل على رأسه التاج والعمامة السوداء، ووصاه الخليفة، ورجع إلى داره وجاء الناس ليهنئوه.

وفيها: دار السور على شيراز، وكان دوره اثني عشر ألف ذراع، وارتفاعه ثمانية أذرع، وعرضه ستة أزرع، وفيه أحد عشر بابا.

وفيها: غزا إبراهيم بن ينال بلاد الروم فغنم مائة ألف رأس، وأربعة آلاف درع، وقيل: تسع عشرة ألف درع، ولم يبق بينه وبين القسطنطينية إلا خمسة عشر يوما، وحمل ما غنم على عشرة آلاف عجلة.

وفيها: خطب لذخيرة الدين أبي العباس أحمد بن الخليفة القائم بأمر الله على المنابر بولاية العهد بعد أبيه، وحيى بذلك.

وفيها: اقتتل الروافض والسنة، وجرت ببغداد فتن يطول ذكرها.

ولم يحج أحد من أهل العراق.

من الأعيان:

الحسن بن عيسى بن المقتدر

أبو محمد العباسي، ولد في المحرم سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وسمع من مؤدبه أحمد بن منصور السكري، وأبي الأزهر عبد الوهاب الكاتب، وكان فاضلا دينا، حافظا لأخبار الخلفاء، عالما بأيام الناس صالحا، أعرض عن الخلافة مع قدرته عليها، وآثر بها القادر.

توفي فيها عن سبع وتسعين سنة، وأوصى أن يدفن بباب حرب، فدفن قريبا من قبر الإمام أحمد بن حنبل.

هبة الله بن عمر بن أحمد بن عثمان

أبو القاسم الواعظ المعروف بابن شاهين، سمع من أبي بكر بن ملك، وابن ماسي والبرقاني.

قال الخطيب: كتبت عنه وكان صدوقا، ولد في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، وتوفي في ربيع الآخر منها، ودفن بباب حرب.

علي بن الحسن ابن محمد بن المنتاب أبو محمد القاسم

المعروف بابن أبي عثمان الدقاق.

قال الخطيب: سمع القطيعي وغيره، وكان شيخا صالحا، صدوقا دينا، حسن المذهب.

محمد بن جعفر بن أبي الفرج

الوزير الملقب بذي السعادات، وزر لأبي كاليجار بفارس وبغداد، وكان ذا مروءة غزيرة، مليح الشعر والترسل.

ومن محاسنه أنه كتب إليه في رجل مات عن ولد له ثمانية أشهر وله من المال ما يقارب مائة ألف دينار، فكتب إليه الموصي، وقيل غيره: إن فلانا قد مات وخلف ولدا عمره ثمانية أشهر، وله من المال ما يقارب مائة ألف دينار، فإن رأى الوزير أن يقترض هذا المال إلى حين بلوغ الطفل.

فكتب الوزير على ظهر الورقة: المتوفى رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله، ولا حاجة بنا إلى مال الأيتام.

اعتقل ثم قتل في رمضان منها، عن إحدى وخمسين سنة.

محمد بن أحمد بن إبراهيم ابن غيلان

بن عبد الله بن غيلان بن حليم بن غيلان، أخو طالب البزار، يروي عن جماعة وهو آخر من حدث عن أبي بكر الشافعي، كان صدوقا دينا صالحا، قوي النفس على كبر السن، كان يملك ألف دينار، وكان يصبها كل يوم في حجره فيقبلها ثم يردها إلى موضعها، وقد خرج له الدارقطني الأجزاء الغيلانيات، وهي سماعنا.

توفي يوم الاثنين سادس شوال منها، عن أربع وتسعين سنة، ويقال: إنه بلغ المائة والله أعلم.

الملك أبو كاليجار

واسمه المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة، توفي عن أربعين سنة وأشهر، ولي العراق نحوا من أربع سنين، ونهبت له قلعة كان له فيها من المال ما يزيد عن ألف ألف دينار، وقام بالأمر من بعده ابنه الملك الرحيم أبو نصر.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وأربعمائة

في عاشر المحرم تقدم إلى أهل الكرخ أن لا يعملوا بدع النوح، فجرى بينهم وبين أهل باب البصرة ما يزيد على الحد من الجراح والقتل، وبنى أهل الكرخ سورا على الكرخ، وبنى أهل السنة سورا على سوق القلائين، ثم نقض كل من الفريقين أبنيته، وحملوا الآجر إلى مواضع بالطبول والمزامير، وجرت بينهم مفاخرات في ذلك، وسخف لا تنحصر ولا تنضبط، وإنشاد أشعار في فضل الصحابة وثلبهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم وقعت بينهم فتن يطول ذكرها، وأحرقوا دورا كثيرة جدا.

وفيها: وقعت وحشة بين الملك طغرلبك وبين أخيه، فجمع أخوه جموعا كثيرة فاقتتل هو وأخوه طغرلبك، ثم أسره من قلعة قد تحصن بها بعد محاصرة أربعة أيام، فاستنزله منها مقهورا، فأحسن إليه وأكرمه، وأقام عنده مكرما.

وكتب ملك الروم إلى طغرلبك في فداء بعض ملوكهم ممن كان أسره إبراهيم بن ينال، وبذل له مالا كثيرا، فبعثه إليه مكرما من غير عوض، اشترط عليه فأرسل إليه ملك الروم هدايا كثيرة، وأمر بعمارة المسجد الذي بالقسطنطينية، وأقيمت فيه الصلاة والجمعة، وخطب فيه للملك طغرلبك، فبلغ هذا الأمر العجيب سائر الملوك فعظموا الملك طغرلبك تعظيما زائدا، وخطب له نصر الدولة بالجزيرة.

وفيها: ولي مسعود بن مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين الملك بعد وفاة أبيه، وكان صغيرا، فمكث أياما ثم عدل عنه إلى عمه علي بن مسعود، وهذا أمر غريب جدا.

وفيها: ملك المصريون مدينة حلب وأجلوا عنها صاحبها ثمال بن صالح بن مرداس.

وفيها: كان بين البساسيري وبين بني عقيل حرب.

وفيها: ملك البساسيري الأنبار من يد قرواش فأصلح أمورها.

وفي شعبان منها سار البساسير إلى طريق خراسان وقصد ناحية الدوران وملكها، وغنم مالا كثيرا كان فيها، وقد كان سعدى بن أبي الشوك قد حصنها.

قال ابن الجوزي: في ذي الحجة منها ارتفعت سحابة سوداء فزادت على ظلمة الليل، وظهر في جوانب السماء كالنار المضيئة، فانزعج الناس وخافوا وأخذوا في الدعاء والتضرع، فانكشف في أثناء الليل بعد ساعة، وكانت قد هبت ريح شديدة جدا قبل ذلك، فأتلفت شيئا كثيرا من الأشجار، وهدمت رواشن كثيرة في دار الخلافة ودار المملكة.

ولم يحج أحد من أهل العراق.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن محمد بن منصور أبو الحسن المعروف بالعتيقي

نسبة إلى جد له كان يسمى عتيقا، سمع من ابن شاهين وغيره، وكان صدوقا.

توفي في صفر منها وقد جاوز التسعين.

علي بن الحسن أبو القاسم العلوي

ويعرف بابن محي السنة.

قال الخطيب: سمع من ابن مظفر وكتب عنه، وكان صدوقا دينا حسن الاعتقاد، يورق بالأجرة ويأكل منه، ويتصدق.

توفي في رجب منها وقد جاوز الثمانين.

عبد الوهاب بن القاضي الماوردي

يكنى أبا الفائر، شهد عند ابن ماكولا في سنة إحدى وثلاثين فأجاز شهادته احتراما لأبيه، توفي في المحرم منها.

الحافظ أبو عبد الله الصوري

محمد بن علي بن عبد الله بن محمد أبو عبد الله الصوري الحافظ، طلب الحديث بعد ما كبر وأسن، ورحل في طلبه إلى الآفاق، وكتب الكثير وصنف واستفاد على الحافظ عبد الغني المصري، وكتب عن عبد الغني شيئا من تصانيفه، وكان من أعظم أهل الحديث، همه في الطلب وهو شاب ثم كان من أقوى الناس على العمل الصالح عزيمة في حال كبره، كان يسرد الصوم إلا يومي العيدين وأيام التشريق، وكان مع ذلك حسن الخلق جميل المعاشرة، وقد ذهبت إحدى عينيه، وكان يكتب بالأخرى المجلد في جزء.

قال أبو الحسن الطيوري: يقال: إن عامة كتب الخطيب سوى التاريخ مستفادة من كتب أبي عبد الله الصوري، كان قد مات الصوري وترك كتبه اثني عشر عدلا عند أخيه، فلما صار الخطيب أعطاه أخاه شيئا وأخذ بعض تلك الكتب فحولها في كتبه، ومن شعره:

تولى الشباب بريعانه ** وأتى المشيب بأحزانه

فقلبي لفقدان ذا مؤلم ** كئيب لهذا ووجدانه

وإن كان ما جار في حكمه ** ولا جاء في غير إبانه

ولكن أتى مؤذنا بالرحيـ ** ـل فويلي من قرب إيذانه

ولولا ذنوب تحملتها ** لما راعني إتيانه

ولكن ظهري ثقيل بما ** جناه شبابي بطغيانه

فمن كان يبكي شبابا مضى ** ويندب طيب زمانه

فليس بكائي وما قد ترو ** ن مني لوحشة فقدانه

ولكن لما كان قد جره ** علي بوثبات شيطانه

فويلي وويحي إن لم يجد ** على مليكي برضوانه

ولم يتغمد ذنوبي وما قد ** جنيت برحمته وغرانه

ويجعل مصيري إلى جنة ** يحل بها أهل رضوانه وغفرانه

فإن كنت مالي من طاعة ** سوى حسن ظني بإحسانه

وإني مقر بتوحيده ** عليم بعزة سلطانه

أخالف في ذاك أهل الهوى ** وأهل الفسوق وعدوانه

وأرجو به الفوز في منزل ** معد مهيأ لسكانه

ولن يجمع الله أهل الجحو ** د ومن أقر بنيرانه

فهذا ينجيه إيمانه ** وهذا يبوء بخسرانه

وهذا ينعم في جنة ** وذاك قرين لشيطانه

ومن شعره أيضا:

قل لمن عاند الحديث وأضحى ** عائبا أهله ومن يدعيه

أبعلم تقول هذا ابن لي ** أم بجهل فالجهل خلق السفيه

أيعاب الذين هم حفظوا الد ** ين من الترهات والتمويه

وإلى قولهم وما قد رووه ** راجع كل عالم وفقيه

كان سبب موته أنه افتصد فورمت يده، وعلى ما ذكر أن ريشة الفاصد كانت مسمومة لغيره فغلط ففصده بها، فكانت فيها منيته، فحمل إلى المارستان فمات به، ودفن بمقبرة جامع المدينة، وقد نيف على الستين رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة

فيها: فتح السلطان طغرلبك أصبهان بعد حصار سنة، فنقل إليها حواصله من الري وجعلها دار إقامته، وخرب قطعة من سورها، وقال: إنما يحتاج إلى السور من تضعف قوته، وإنما حصنني عساكري وسيفي، وقد كان فيها أبو منصور قرامز بن علاء الدولة أبي جعفر بن كالويه، فأخرجه منها وأقطعه بعض بلادها.

وفيها: سار الملك الرحيم إلى الأهواز وأطاعه عسكر فارس.

وفيها: استولت الخوارج على عمان وأخربوا دار الإمارة، وأسروا أبا المظفر بن أبي كاليجار.

وفيها: دخلت العرب بإذن المستنصر الفاطمي بلاد إفريقية، وجرت بينهم وبين المعز بن باديس حروب طويلة، وعاثوا في الأرض فسادا عدة سنين.

وفيها: اصطلح الروافض والسنة ببغداد، وذهبوا كلهم لزيارة مشهد علي ومشهد الحسين، وترضوا في الكرخ على الصحابة كلهم، وترحموا عليهم وهذا عجيب جدا، إلا أن يكون من باب التقية، ورخصت الأسعار ببغداد جدا.

ولم يحج أحد من أهل العراق.

من الأعيان:

علي بن عمر بن الحسن أبو الحسن الحربي المعروف بالقزويني

ولد في مستهل المحرم في سنة ستين وثلاثمائة، وهي الليلة التي مات فيها أبو بكر الآجري، وسمع أبا بكر بن شاذان وأبا حفص بن حيويه، وكان وافر العقل من كبار عباد الله الصالحين، له كرامات كثيرة، وكان يقرأ القرآن ويروي الحديث، ولا يخرج إلا إلى الصلاة.

توفي في شوال منها، فغلقت بغداد لموته يومئذ، وحضر الناس جنازته، وكان يوما مشهودا رحمه الله.

عمر بن ثابت الثمانيني

النحوي الضرير، شارح اللمع، كان في غاية العلم بالنحو، وكان يأخذ عليه.

وذكر ابن خلكان: أنه اشتغل على ابن جني، وشرح كلامه، وكان ماهرا في صناعة النحو، قال: ونسبته إلى قرية من نواحي جزيرة ابن عمر عند الجبل الجودي، يقال لها: ثمانين، باسم الثمانين الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة.

قرواش بن مقلد

أبو المنيع، صاحب الموصل والكوفة وغيرها، كان من الجبارين، وقد كاتبه الحاكم صاحب مصر في بعض الأحيان فاستماله إليه، فخطب له ببلاده ثم تركه، واعتذر إلى الخليفة فعذره، وقد جمع هذا الجبار بين أختين في النكاح ولامته العرب، فقال: وأي شيء عملته؟ إنما عملت ما هو مباح في الشريعة.

وقد نكب في أيام المعز الفاطمي ونهبت حواصله، وحين توفي قام بالأمر بعده ابن أخيه قريش بن بدران بن مقلد.

مودود بن مسعود

ابن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، توفي فيها وقام بالأمر من بعده عمه عبد الرشيد بن محمود.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة

في صفر منها وقع الحرب بين الروافض والسنة، فقتل من الفريقين خلق كثير، وذلك أن الروافض نصبوا أبراجا وكتبوا عيها بالذهب: محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبى فقد كفر، فأنكرت السنة إقران علي مع محمد في هذا، فنشبت الحرب بينهم، واستمر القتال بينهم إلى ربيع الأول، فقتل رجل هاشمي فدفن عند الإمام أحمد، ورجع السنة من دفنه فنهبوا مشهد موسى بن جعفر، وأحرقوا ضريح موسى، ومحمد الجواد، وقبور بنى بوية، وقبور من هناك من الوزراء.

وأحرق قبر جعفر بن المنصور، ومحمد الأمين، وأمه زبيدة، وقبور كثيرة جدا.

وانتشرت الفتنة وتجاوزوا الحدود، وقد قابلهم أولئك الرافضة أيضا بمفاسد كثيرة، وبعثروا قبورا قديمة، وأحرقوا من فيها من الصالحين، حتى هموا بقبر الإمام أحمد، فمنعهم النقيب، وخاف من غائلة ذلك، وتسلط على الرافضة عيار يقال له: القطيعي، وكان يتبع رؤسهم وكبارهم فيقتلهم جهارا وغيلة، وعظمت المحنة بسببه جدا، ولم يقدر عليه أحد، وكان في غاية الشجاعة والبأس والمكر.

ولما بلغ ذلك دبيس بن علي بن مزيد - وكان رافضيا - قطع خطبة الخليفة، ثم روسل فأعادها.

وفي رمضان منها جاءت من الملك طغرلبك رسل شكر للخليفة على إحسانه إليه بما كان بعثه له من الخلع والتقليد، وأرسل إلى الخليفة بعشرين ألف دينار، وإلى الحاشية بخمسة آلاف، وإلى رئيس الرؤساء بألفي دينار، وقد كان طغرلبك حين عمر الري وخرب فيها أماكن وجد فيها دفائن كثيرة من الذهب والجوهر، فعظم شأنه بذلك، وقوي ملكه بسببه.

من الأعيان:

محمد بن محمد بن أحمد أبو الحسن الشاعر البصروي

نسبة إلى قرية دون عكبرا يقال لها: بصرى، باسم المدينة التي هي أم حوران، وقد سكن بغداد، وكان متكلما مطبوعا، له نوادر، ومن شعره قوله:

نرى الدنيا وشهوتها فنصبوا ** وما يخلو من الشهوات قلب

فلا يغررك زخرف ما تراه ** وعيش لين الأعطاف رطب

فضول العيش أكثرها هموم ** وأكثر ما يضرك ما تحب

إذا ما بلغة جاءتك عفوا ** فخذها فالغنى مرعى وشرب

إذا اتفق القليل وفيه سلم ** فلا ترد الكثير وفيه حرب

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وأربعمائة

فيها: كتبت تذكرة الخلفاء المصريين وأنهم أدعياء كذبة لا نسب لهم صحيحة إلى رسول الله ، نسخا كثيرة، وكتب فيها الفقهاء والقضاة والأشراف.

وفيها: كانت زلازل عظيمة في نواحي أرجان والأهواز وتلك البلاد، تهدم بسببها شيء كثير من العمران وشرفات القصور، وحكى بعض من يعتد قوله: أنه انفرج إيوانه وهو يشاهد ذلك، حتى رأى السماء منه ثم عاد إلى حاله لم يتغير.

وفي ذي القعدة منها تجددت الحرب بين أهل السنة والروافض، وأحرقوا أماكن كثيرة، وقتل من الفريقين خلائق، وكتبوا على مساجدهم: محمد وعلي خير البشر، وأذنوا بحي على خير العمل، واستمرت الحرب بينهم، وتسلط القطيعي العيار على الروافض، بحيث كان لا يقر لهم معه قرار، وهذا من جملة الأقدار.

وفيها توفي من الأعيان:

الحسن بن علي ابن محمد بن علي بن أحمد بن وهب بن شنبل بن قرة بن واقد

أبو علي التميمي الواعظ، المعروف بابن المذهب، ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وسمع مسند الإمام أحمد من أبي بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن الإمام أحمد، عن أبيه، وقد سمع الحديث من أبي بكر بن ماسي وابن شاهين والدارقطني وخلق.

وكان دينا خيرا، وذكر الخطيب أنه كان صحيح السماع لمسند أحمد من القطيعي غير أنه ألحق اسمه في أجزاء.

قال ابن الجوزي: وليس هذا بقدح في سماعه، لأنه إذا تحقق سماعه جاز أن يلحق اسمه فيما تحقق سماعه له، وقد عاب عليه الخطيب أشياء لا حاجة إليها.

علي بن الحسين ابن محمد، أبو الحسن المعروف بالشاشي البغدادي

وقد أقام بالبصرة واستحوذ هو وعمه على أهلها، وعمل أشياء من الحيل يوهم بها أنه من ذوي الأحوال والمكاشفات، وهو في ذلك كاذب قبحه الله وقبح عمه، وقد كان مع هذا رافضيا خبيثا قرمطيا.

توفي في هذا العام، فلله الحمد والشكر والإنعام.

القاضي أبو جعفر محمد بن أحمد بن أحمد، أبو جعفر السمناني القاضي

أحد المتكلمين على طريقة الشيخ أبي الحسن الأشعري، وقد سمع الدارقطني وغيره، كان عالما فاضلا سخيا، تولى القضاء بالموصل، وكان له في داره مجلس للمناظرة، وتوفي لما كف بصره بالموصل وهو قاضيها، في ربيع الأول منها وقد بلغ خمسا وثمانين سنة، سامحه الله.

ثم دخلت سنة خمس وأربعين وأربعمائة

فيها: تجدد الشر والقتال والحريق بين السنة والروافض، وسرى الأمر وتفاقم الحال.

وفيها: وردت الأخبار بأن المعز الفاطمي عازم على قصد العراق.

وفيها: نقل إلى الملك طغرلبك أن الشيخ أبا الحسن الأشعري يقول بكذا وكذا، وذكر بشيء من الأمور التي لا تليق بالدين والسنة، فأمر بلعنه، وصرح أهل نيسابور بتكفير من يقول ذلك، فضج أبو القاسم القشيري عبد الكريم بن هوازن من ذلك، وصنف رسالة في شكاية أهل السنة لما نالهم من المحنة، واستدعى السلطان جماعة من رؤس الأشاعرة منهم القشيري فسألهم عما أنهي إليه من ذلك، فأنكروا ذلك، وأن يكون الأشعري قال ذلك.

فقال السلطان: نحن إنما لعنا من يقول هذا.. وجرت فتنة عظيمة طويلة.

وفيها: استولى فولا بسور الملك أبي كاليجار على شيراز، وأخرج منها أخاه أبا سعد، وفي شوال سار البساسيري إلى أكراد وأعراب أفسدوا في الأرض فقهرهم وأخذ أموالهم.

ولم يحج فيها أحد من أهل العراق.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن عمر بن روح

أبو الحسن النهرواني، وكان ينظر في العيار بدار الضرب، وله شعر حسن، قال: كنت يوما على شاطئ النهروان فسمعت رجلا يتغنى في سفينة منحدرة يقول:

وما طلبوا سوى قتلي ** فهان عليّ ما طلبوا

قال: فاستوقفته وقلت: أضف إليه غيره.

فقال:

على قتلي الأحبـ **ـة في التمادي، بالجفا غلبوا

وبالهجران من عيني ** طيب النوم قد سلبوا

وما طلبوا سوى قتلي ** فهان عليّ ما طلبوا

إسماعيل بن علي ابن الحسين بن محمد بن زنجويه

أبو سعيد الرازي، المعروف بالسمان، شيخ المعتزلة، سمع الحديث الكثير وكتب عن أربعة آلاف شيخ.

وكان عالما عارفا فاضلا مع اعتزاله، ومن كلامه: من لم يكتب الحديث لم يتغرغر بحلاوة الإسلام.

وكان حنفي المذهب عالما بالخلاف والفرائض والحساب وأسماء الرجال، وقد ترجمه ابن عساكر في (تاريخه) فأطنب في شكره والثناء عليه.

عمر بن الشيخ أبي طالب المكي

محمد بن علي بن عطية، سمع أباه وابن شاهين، وكان صدوقا يكنى بأبي جعفر.

محمد بن أحمد ابن عثمان بن الفرج الأزهر

أبو طالب المعروف بابن السوادي، وهو أخو أبي القاسم الأزهري توفي عن نيف وثمانين سنة.

محمد بن أبي تمام الزينبي

نقيب النقباء، قام ببغداد بعد أبيه مقامه بالنقابة.

ثم دخلت سنة ست وأربعين وأربعمائة

فيها: غزا السلطان طغرلبك بلاد الروم بعد أخذه بلاد أذربيجان، فغنم من بلاد الروم وسبى وعمل أشياء حسنة، ثم عاد سالما فأقام بأذربيجان سنة.

وفيها: أخذ قريش بن بدران الأنبار، وخطب بها وبالموصل لطغرلبك، وأخرج منها نواب البساسيري.

وفيها: دخل البساسيري بغداد مع بني خفاجة منصرفة من الوقعة، وظهرت منه آثار النفرة للخلافة، فراسله الخليفة لتطيب نفسه، وخرج في ذي الحجة إلى الأنبار فأخذها، وكان معه دبيس بن علي بن مزيد، وخرب أماكن وحرق غيرها ثم أذن له الخليفة في الدخول إلى بيت النوبة ليخلع عليه، فجاء إلى أن حاذى بيت النوبة فقبل الأرض وانصرف إلى منزله، ولم يعبر، فقويت الوحشة.

ولم يحج أحد من أهل العراق فيها.

من الأعيان:

الحسين بن جعفر بن محمد ابن داود أبو عبد الله السلماسي

سمع ابن شاهين وابن حيويه والدارقطني، وكان ثقة مأمونا مشهورا باصطناع المعروف، وفعل الخير، وافتقاد الفقراء، وكثرة الصدقة، وكان قد أريد على الشهادة فأبى ذلك، وكان له في كل شهر عشرة دنانير نفقة لأهله.

عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن أبو عبد الله الأصبهاني

المعروف بابن اللبان، أحد تلامذة أبي حامد الإسفرايني، ولي قضاء الكرخ، وكان يصلي بالناس التراويح، ثم يقوم بعد انصرافهم فيصلي إلى أن يطلع الفجر، وربما انقضى الشهر عنه ولم يضطجع إلى الأرض رحمه الله.

ثم دخلت سنة سبع وأربعين وأربعمائة

فيها: ملك طغرلبك بغداد، وهو أول ملوك السلجوقية، ملكها وبلاد العراق.

وفيها: تأكدت الوحشة بين الخليفة والبساسيري، واشتكت الأتراك منه، وأطلق رئيس الرؤساء عبارته فيه، وذكر قبيح أفعاله، وأنه كاتب المصريين بالطاعة، وخلع ما كان عليه من طاعة العباسيين وقال الخليفة: وليس إلا إهلاكه.

وفيها: غلت الأسعار بنواحي الأهواز حتى بيع الكر بشيراز بألف دينار.

وفيها: وقعت الفتنة بين السنة والرافضة على العادة، فاقتتلوا قتالا مستمرا، ولا تمكن الدولة أن يحجزوا بين الفريقين.

وفيها: وقعت الفتنة بين الأشاعرة والحنابلة، فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة، بحيث إنه كان ليس لأحد من الأشاعرة أن يشهد الجمعة ولا الجماعات.

قال الخطيب: كان أرسلان التركي المعروف بالبساسيري قد أعظم أمره واستفحل، لعدم أقرانه من مقدمي الأتراك واستولى على البلاد وطار اسمه، وخافته أمراء العرب والعجم، ودعي له على كثير من المنابر العراقية والأهواز ونواحيها، ولم يكن للخليفة قطع ولا وصل دونه، ثم صح عند الخليفة سوء عقيدته، وشهد عنده جماعة من الأتراك أنه عازم على نهب دار الخلافة، وأنه يريد القبض على الخليفة.

فعند ذلك كاتب الخليفة محمد بن ميكائيل بن سلجوق الملقب طغرلبك يستنهضه على المسير إلى العراق، فانفض أكثر من كان مع البساسيري وعادوا إلى بغداد سريعا، ثم أجمع رأيهم على قصد دار البساسيري وهي في الجانب الغربي فأحرقوها، وهدموا أبنيتها.

ووصل السلطان طغرلبك إلى بغداد في رمضان سنة سبع وأربعين، وقد تلقاه إلى أثناء الطريق الأمراء والوزراء والحجاب، ودخل بغداد في أبهة عظيمة جدا، وخطب له بها ثم بعده للملك الرحيم، ثم قطعت خطبة الملك الرحيم، ورفع إلى القلعة معتقلا عليه، وكان آخر ملوك بني بويه، وكانت مدة ولايتهم قريب المائة والعشر سنين، وكان ملك الملك الرحيم لبغداد ست سنين وعشرة أيام.

ونزل طغرلبك دار المملكة بعد الفراغ من عمارتها، ونزل أصحابه دور الأتراك وكان معه ثمانية أفيلة، ووقعت الفتنة بين الأتراك والعامة، ونهب الجانب الشرقي بكماله، وجرت خبطة عظيمة.

وأما البساسيري فإنه فرّ من الخليفة إلى بلاد الرحبة وكتب إلى صاحب مصر بأنه على إقامة الدعوى له بالعراق، فأرسل إليه بولاية الرحبة ونيابته بها، ليكون على أهبة الأمر الذي يريد.

وفي يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة قلد أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني قضاء القضاة، وخلع عليه به، وذلك بعد موت ابن ماكولا، ثم خلع الخليفة على الملك طغرلبك بعد دخوله بغداد بيوم، ورجع إلى داره وبين يديه الدبادب والبوقات.

وفي هذا الشهر توفي ذخيرة الدين أبو العباس محمد بن الخليفة القائم بأمر الله، وهو ولي عهد أبيه فعظمت الرزية به.

وفيها: استولى أبو كامل علي بن محمد الصليحي الهمداني على أكثر أعمال اليمن، وخطب للفاطميين، وقطع خطبة العباسيين.

وفيها: كثر فساد الغز ونهبوا دواب الناس حتى بيع الثور بخمسة قراريط.

وفيها: اشتد الغلاء بمكة وعدمت الأقوات، وأرسل الله عليهم جرادا فتعوضوا به عن الطعام.

ولم يحج أحدا من أهل العراق.

من الأعيان:

الحسن بن علي ابن جعفر بن علي بن محمد بن دلف بن أبي دلف العجلي

قاضي القضاة، المعروف بابن ماكولا الشافعي

وقد ولي القضاء بالبصرة، ثم ولي قضاء القضاة ببغداد سنة عشرين وأربعمائة في خلافة المقتدر، وأقره ابنه القائم إلى أن مات في هذه السنة عن تسع وسبعين سنة، منها في القضاء سبع وعشرون سنة.

وكان صينا دينا لا يقبل من أحد هدية ولا من الخليفة، وكان يذكر أنه سمع من أبي عبد الله بن منده، وله شعر حسن فمنه:

تصابى برهة من بعد شيب ** فما أغنى المشيب عن التصابي

وسود عارضيه بلون خضب ** فلم ينفعه تسويد الخضاب

وأبدى للأحبة كل لطف ** فما زادوا سوى فرط اجتناب

سلام الله عودا بعد بدئ ** على أيام رعيان الشباب

تولى عزمه يوما وأبقى ** بقلبي حسرة ثم اكتئاب

علي بن المحسن بن علي ابن محمد بن أبي الفهم أبو القاسم التنوخي

قال ابن الجوزي: وتنوخ اسم لعدة قبائل اجتمعوا بالبحرين، وتحالفوا على التناصر والتآزر، فسموا تنوخا.

ولد بالبصرة سنة خمسة وخمسين وثلاثمائة، وسمع الحديث سنة سبعين، وقبلت شهادته عند الحكام في حداثته، وولي القضاء بالمدائن وغيرها، وكان صدوقا محتاطا، إلا أنه كان يميل إلى الاعتزال والرفض.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وأربعمائة

في يوم الخميس لثمان بقين من المحرم عقد الخليفة على خديجة بنت أخي السلطان طغرلبك على صداق مائة ألف دينار، وحضر هذا العقد عميد الملك الكندري، وزير طغرلبك، وبقية العلويين وقاضي القضاة الدامغاني والماوردي، ورئيس الرؤساء ابن المسلمة.

فلما كان شعبان ذهب رئيس الرؤساء إلى الملك طغرلبك وقال له: أمير المؤمنين يقول لك: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 8 وقد أمرني أن أنقل الوديعة إلى داره العزيزة.

فقال: السمع والطاعة.

فذهبت أم الخليفة لدار الملك لاستدعاء العروس، فجاءت معها وفي خدمتها الوزير عميد الملك والحشم، فدخلوا داره وشافه الوزير الخليفة عن عمها وسأله اللطف بها والإحسان إليها، فلما دخلت إليه قبلت الأرض مرارا بين يديه، فأدناها إليه وأجلسها إلى جانبه، وأفاض عليها خلعا سنية وتاجا من جوهر ثمين، وأعطاها من الغد مائة ثوب ديباجا وقصبات من ذهب، وطاسة ذهب قد نبت فيها الجوهر والياقوت والفيروزج، وأقطعها في كل سنة من ضياعه ما يغل اثنا عشر ألف دينار وغير ذلك.

وفيها: أمر السلطان طغرلبك ببناء دار الملك العضدية فخربت محال كثيرة في عمارتها، ونهبت العامة أخشابا كثيرة من دور الأتراك، والجانب الغربي، وباعوه على الخبازين والطباخين وغيرهم.

وفيها: رجع غلاء شديد على الناس وخوف ونهب كثير ببغداد، ثم أعقب ذلك فناء كثير بحيث دفن كثير من الناس بغير غسل ولا تكفين، وغلت الأشربة وما تحتاج إليه المرضى كثيرا، واعترى الناس موت كثير، واغبر الجو وفسد الهواء.

قال ابن الجوزي: وعم هذا الوباء والغلاء مكة والحجاز وديار بكر والموصل وبلاد بكر وبلاد الروم وخراسان والجبال والدنيا كلها.

هذا لفظه في (المنتظم).

قال: وورد كتاب من مصر أن ثلاثة من اللصوص نقبوا بعض الدور فوجدوا عند الصباح موت أحدهم على باب النقب، والثاني على رأس الدرجة، والثالث على الثياب التي كورها ليأخذها فلم يمهل.

وفيها: أمر رئيس الرؤساء بنصب أعلام سود في الكرخ، فانزعج أهلها لذلك، وكان كثير الأذية للرافضة، وإنما كان يدافع عنهم عميد الملك الكندري، وزير طغرلبك.

وفيها: هبت ريح شديدة وارتفعت سحابة ترابية وذلك ضحى، فأظلمت الدنيا، واحتاج الناس في الأسواق وغيرها إلى السرج.

قال ابن الجوزي: وفي العشر الثاني من جمادى الآخرة ظهر وقت السحر كوكب له ذؤابة طولها في رأي العين نحو من عشرة أذرع، وفي عرض نحو الذراع، ولبث كذلك إلى النصف من رجب، ثم اضمحل.

وذكروا أنه طلع مثله بمصر فملكت وخطب بها للمصريين.

وكذلك بغداد لما طلع فيها ملكت وخطب بها للمصريين.

وفيها: ألزم الروافض بترك الأذان بحي على خير العمل، وأمروا أن ينادي مؤذنهم في أذان الصبح، بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم، مرتين، وأزيل ما كان على أبواب المساجد ومساجدهم من كتابة: محمد وعلي خير البشر، ودخل المنشدون من باب البصرة إلى باب الكرخ، ينشدون بالقصائد التي فيها مدح الصحابة، وذلك أن نوء الرافضة اضمحل، لأن بني بويه كانوا حكاما، وكانوا يقوونهم وينصرونهم، فزالوا وبادوا، وذهبت دولتهم.

وجاء بعدهم قوم آخرون من الأتراك السلوجوقية الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم، والله المحمود أبدا على طول المدى.

وأمر رئيس الرؤساء الوالي بقتل أبي عبد الله بن الجلاب شيخ الروافض، لما كان تظاهر به من الرفض والغلو فيه، فقتل على باب دكانه، وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره.

وفيها: جاء البساسيري قبحه الله إلى الموصل ومعه نور الدولة دبيس في جيش كثيف، فاقتتل مع صاحبها قريش ونصره قتلمش بن عم طغرلبك، وهو جد ملوك الروم فهزمهما البساسيري، وأخذ البلد قهرا، فخطب بها للمصريين، وأخرج كاتبه من السجن، وقد كان أظهر الإسلام ظنا منه أنه ينفعه، فلم ينفعه فقتل، وكذلك خطب للمصريين فيها بالكوفة وواسط وغيرها من البلاد.

وعزم طغرلبك على المسير إلى الموصل لمناجزة البساسيري فنهاه الخليفة عن ذلك لضيق الحال وغلاء الأسعار، فلم يقبل فخرج بجيشه قاصدا الموصل بجحافل عظيمة، ومعه الفيلة والمنجنيقات، وكان جيشه لكثرتهم ينهبون القرى، وربما سطوا على بعض الحريم، فكتب الخليفة إلى السلطان ينهاه عن ذلك، فبعث إليه يعتذر لكثرة من معه، واتفق أنه رأى رسول الله في المنام فسلم عليه فأعرض عنه، فقال: يا رسول الله لأي شيء تعرض عني؟

فقال: يحكمك الله في البلاد ثم لا ترفق بخلقه ولا تخاف من جلال الله عز وجل.

فاستيقظ مذعورا وأمر وزيره أن ينادي في الجيش بالعدل، وأن لا يظلم أحد أحدا.

ولما اقترب من الموصل فتح دونها بلادا، ثم فتحها وسلمها إلى أخيه داود، ثم سار منها إلى بلاد بكر ففتح أماكن كثيرة هناك.

وفيها: ظهرت دولة الملثمين في بلاد المغرب، وأظهروا إعزاز الدين وكلمة الحق، واستولوا على بلاد كثيرة منها سجلماسة وأعمالها والسوس، وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها، وأول ملوك الملثمين رجل يقال له: أبو بكر بن عمر، وقد أقام بسجلماسة إلى أن توفي سنة ثنتين وستين كما سيأتي بيانه.

ثم ولي بعده أبو نصر يوسف بن تاشفين، وتلقب بأمير المؤمنين، وقوي أمره، وعلا قدره ببلاد المغرب.

وفيها: ألزم أهل الذمة بلبس الغيار ببغداد، عن أمر السلطان.

وفيها: ولد لذخيرة الدين بعد موته من جارية له ولدا ذكر، وهو أبو القاسم عبد الله المقتدي بأمر الله.

وفيها: كان الغلاء والفناء أيضا مستمرين على الناس ببغداد وغيرها من البلاد، على ما كان عليه الأمر في السنة الماضية، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولم يحج أحد من أهل العراق فيها.

وفيها توفي من الأعيان:

علي بن أحمد بن علي بن سلك

أبو الحسن المؤدب، المعروف بالفالي، صاحب (الأمالي) وفالة قرية قريبة من إيذج، أقام بالبصرة مدة، وسمع بها من عمر بن عبد الواحد الهاشمي وغيره، وقدم بغداد فاستوطنها، وكان ثقة في نفسه، كثير الفضائل.

ومن شعره الحسن:

لما تبدلت المجالس أوجها ** غير الذين عاهدت من علمائها

ورأيتها محفوفة بسوى الأولى ** كانوا ولاة صدورها وفنائها

أنشدت بيتا سائرا متقدما ** والعين قد شرقت بجاري مائها

أما الخيام فإنها كخيامهم ** وأرى نساء الحي غير نسائها

ومن شعره أيضا:

تصدر للتدريس كل مهوس ** بليد تسمى بالفقيه المدرس

فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ** ببيت قديم شاع في كل مجلس

لقد هزلت حتى بدى من هزالها ** كلاها وحتى سامها كل مفلس

محمد بن عبد الواحد بن محمد الصباغ

الفقيه الشافعي، وليس بصاحب الشامل، ذاك متأخر وهذا من تلاميذ أبي حامد الإسفرايني، كانت له حلقة للفتوى بجامع المدينة، وشهد عند قاضي القضاة الدامغاني الحنفي فقبله، وقد سمع الحديث من ابن شاهين وغيره، وكان ثقة جليل القدر.

هلال بن المحسن

ابن إبراهيم بن هلال، أبو الخير الكاتب الصابئ، صاحب (التاريخ)، وجده أبو إسحاق الصابئ صاحب (الرسائل)، وكان أبوه صابئيا أيضا، أسلم هلال هذا متأخرا، وحسن إسلامه، وقد سمع في حال كفره من جماعة من المشايخ، وذلك أنه كان يتردد إليهم يطلب الأدب، فلما أسلم نفعه ذلك، وكان ذلك سبب إسلامه على ما ذكره ابن الجوزي بسنده مطولا: إنه رأى رسول الله في المنام مرارا يدعوه إلى الله عز وجل، ويأمره بالدخول في الإسلام، ويقول له: أنت رجل عاقل، فلِمَ تدع دين الإسلام الذي قامت عليه الدلائل؟

وأراه آيات في المنام شاهدها في اليقظة، فمنها أنه قال له: إن امرأتك حامل بولد ذكر، فسمه محمدا، فولدت ذكرا، فسماه محمدا، وكناه أبا الحسن، في أشياء كثيرة سردها ابن الجوزي، فأسلم وحسن إسلامه، وكان صدوقا.

توفي عن تسعين سنة، منها في الإسلام نيف وأربعون سنة.

ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة

فيها: كان الغلاء والفناء مستمرين ببغداد وغيرها من البلاد، بحيث خلت أكثر الدور وسدت على أهلها أبوابها بما فيها، وأهلها موتى فيها، ثم صار المار في الطريق لا يلقى الواحد بعد الواحد، وأكل الناس الجيف والنتن من قلة الطعام، ووجد مع امرأة فخذ كلب قد اخضر، وشوى رجل صبية في الأتون وأكلها، فقيل: وسقط طائر ميت من حائط فاحتوشته خمسة أنفس فاقتسموه وأكلوه.

وورد كتاب من بخارى أنه مات في يوم واحد منها ومن معاملتها ثمانية عشر ألف إنسان، وأحصي من مات في هذا الوباء من تلك البلاد إلى يوم كتب فيه هذا الكتاب بألف ألف وخمسمائة ألف وخمسين ألف إنسان، والناس يمرون في هذه البلاد فلا يرون إلا أسواقا فارغة وطرقات خالية، وأبوابا مغلقة، ووحشة وعدم أنس. حكاه ابن الجوزي.

قال: وجاء الخبر من أذربيجان وتلك البلاد بالوباء العظيم، وأنه لم يسلم من تلك البلاد إلا العدد اليسير جدا.

قال: ووقع وباء بالأهواز وبواط وأعمالها وغيرها، حتى طبق البلاد، وكان أكثر سبب ذلك الجوع، كان الفقراء يشوون الكلاب وينبشون القبور ويشوون الموتى ويأكلونهم، وليس للناس شغل في الليل والنهار إلا غسل الأموات وتجهيزهم ودفنهم، فكان يحفر الحفير فيدفن فيه العشرون والثلاثون، وكان الإنسان بينما هو جالس إذ انشق قلبه عن دم المهجة، فيخرج منه إلى الفم قطرة فيموت الإنسان من وقته، وتاب الناس وتصدقوا بأكثر أموالهم فلم يجدوا أحدا يقبل منهم، وكان الفقير تعرض عليه الدنانير الكثيرة والدراهم والثياب فيقول: أنا أريد كسرة أريد ما يسد جوعي، فلا يجد ذلك.

وأراق الناس الخمور وكسروا آلات اللهو، ولزموا المساجد للعبادة وقراءة القرآن، وقلّ دار يكون فيها خمر إلا مات أهلها كلهم، ودخل على مريض له سبعة أيام في النزع فأشار بيده إلى مكان فوجدوا فيه خابية من خمر فأراقوها فمات من وقته بسهولة، ومات رجل في مسجد فوجدوا معه خمسين ألف درهم، فعرضت على الناس فلم يقبلها أحد، فتركت في المسجد تسعة أيام لا يريدها أحد، فلما كان بعد ذلك دخل أربعة ليأخذوها فماتوا عليها، فلم يخرج من المسجد منهم أحد حي، بل ماتوا جميعا.

وكان الشيخ أبو محمد عبد الجبار بن محمد يشتغل عليه سبعمائة متفقه، فمات وماتوا كلهم، إلا اثني عشر نفرا منهم، ولما اصطلح السلطان دبيس بن علي رجع إلى بلاده فوجدها خرابا لقلة أهلها من الطاعون، فأرسل رسولا منهم إلى بعض النواحي فتلقاه طائفة فقتلوه وشووه وأكلوه.

قال ابن الجوزي: وفي يوم الأربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة احترقت قطيعة عيسى وسوق الطعام والكنيس، وأصحاب السقط وباب الشعير، وسوق العطارين وسوق العروس والأنماطيين والخشابين والجزارين والتمارين، والقطيعة وسوق مخول ونهر الزجاج وسويقة غالب والصفارين والصباغين وغير ذلك من المواضع، وهذه مصيبة أخرى إلى ما بالناس من الجوع والغلاء والفناء، ضعف الناس حتى طغت النار فعملت أعمالها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: كثر العياريون ببغداد، وأخذوا الأموال جهارا، وكبسوا الدور ليلا ونهارا، وكبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة، وأحرقت كتبه ومآثره ودفاتره التي كان يستعملها في ضلالته وبدعته، ويدعو إليها أهل ملته ونحلته، ولله الحمد.

وفيها: دخل الملك طغرلبك بغداد عائدا إليها من الموصل فتلقاه الناس والكبراء إلى أثناء الطريق، وأحضر له رئيس الرؤساء خلعة من الخليفة مرصعة بالجوهر فلبسها، وقبل الأرض ثم بعد ذلك دخل دار الخلافة، وقد ركب إليها فرسا من مراكب الخليفة، فلما دخل على الخليفة إذا هو على سرير طوله سبعة أذرع، وعلى كتفه البردة النبوية، وبيده القضيب، فقبل الأرض وجلس على سرير دون سرير الخليفة، ثم قال الخليفة لرئيس الرؤساء: قل له: أمير المؤمنين حامد لسعيك شاكر لفعلك، آنس بقربك، وقد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى من بلاده، فاتق الله فيما ولاك، واجتهد في عمارة البلاد وإصلاح العباد ونشر العدل، وكف الظلم.

ففسر له عميد الدولة ما قال الخليفة فقام وقبل الأرض وقال: أنا خادم أمير المؤمنين وعبده، ومتصرف على أمره ونهيه، ومتشرف بما أهلني له واستخدمني فيه، ومن الله أستمد المعونة والتوفيق.

ثم أمره الخليفة أن ينهض للبس الخلعة فقام إلى بيت في ذلك البهو، فأفيض عليه سبع خلع وتاج، ثم عاد فجلس على السرير بعد ما قبّل يد الخليفة، ورام تقبيل الأرض، فلم يتمكن من التاج، فأخرج الخليفة سيفا فقلده إياه وخوطب بملك الشرق والغرب، وأحضرت ثلاثة ألوية فعقد منها الخليفة لواء بيده، وأحضر العهد إلى الملك، وقرئ بين يديه بحضرة الملك وأوصاه الخليفة بتقوى الله والعدل في الرعية، ثم نهض فقبل يد الخليفة ثم وضعها على عينيه.

ثم خرج في أبهة عظيمة إلى داره وبين يديه الحجاب والجيش بكماله، وجاء الناس للسلام عليه، وأرسل إلى الخليفة بتحف عظيمة منها خمسون ألف دينار، وخمسون غلاما أتراكا، بمراكبهم وسلاحهم ومناطقهم، وخمسمائة ثوب أنواعا، وأعطى رئيس الرؤساء خمسة آلاف دينار، وخمسين قطعة قماش وغير ذلك.

وفيها: قبض صاحب مصر على وزيره أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن البازري، وأخذ خطه بثلاثة آلاف دينار، وأحيط على ثمانين من أصحابه، وقد كان هذا الوزير فقيها حنفيا، يحسن إلى أهل العلم وأهل الحرمين، وقد كان الشيخ أبو يوسف القزويني يثني عليه ويمدحه.:

من الأعيان

أحمد بن عبد الله بن سليمان ابن محمد بن سليمان

بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحرث بن ربيعة بن أنور بن أسحم بن أرقم بن النعمان بن عدي بن غطفان بن عمرو بن بريح بن خزيمة بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، أبو العلاء المعري، التنوخي الشاعر، المشهور بالزندقة، اللغوي صاحب الدواوين والمصنفات في الشعر واللغة.

ولد يوم الجمعة عند غروب الشمس لثلاث بقين من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وأصابه جدري وله أربع سنين أو سبع، فذهب بصره، وقال الشعر وله إحدى أو ثنتا عشرة سنة، ودخل بغداد سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فأقام بها سنة وسبعة أشهر، ثم خرج منها طريدا منهزما لأنه سأل سؤالا بشعر يدل على قلة دينه وعلمه وعقله فقال:

تناقض فما لنا إلا السكوت له ** وأن نعوذ بمولانا من النار

يد بخمس مئين عسجد وديت ** ما بالها قطعت في ربع دينار

وهذا من إفكه يقول: اليد ديتها خمسمائة دينار، فما لكم تقطعونها إذا سرقت ربع دينار.

وهذا من قلة عقله وعلمه، وعمى بصيرته.

وذلك أنه إذا جنى عليها يناسب أن يكون ديتها كثيرة لينزجر الناس عن العدوان، وأما إذا جنت هي بالسرقة فيناسب أن تقل قيمتها وديتها لينزجر الناس عن أموال الناس وتصان أموالهم، ولهذا قال بعضهم: كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت.

ولما عزم الفقهاء على أخذه بهذا وأمثاله هرب ورجع إلى بلده، ولزم منزله فكان لا يخرج منه.

وكان يوما عند الخليفة وكان الخليفة يكره المتنبي ويضع منه، وكان أبو العلاء يحب المتنبي ويرفع من قدره ويمدحه، فجرى ذكر المتنبي في ذلك المجلس فذمه الخليفة، فقال أبو العلاء: لو لم يكن للمتنبي إلا قصيدته التي أولها:

لك يا منازل في القلوب منازل ** لكفاه ذلك.

فغضب الخليفة وأمر به فسحب برجله على وجهه وقال: أخرجوا عني هذا الكلب.

وقال الخليفة: أتدرون ما أراد هذا الكلب من هذه القصيدة؟ وذكره لها؟

أراد قول المتنبي فيها:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص ** فهي الدليل عليّ أني كامل

وإلا فالمتنبي له قصائد أحسن من هذه، وإنما أراد هذا.

وهذا من فرط ذكاء الخليفة، حيث تنبه لهذا.

وقد كان المعري أيضا من الأذكياء، ومكث المعري خمسا وأربعين سنة من عمره، لا يأكل اللحم ولا اللبن ولا البيض، ولا شيئا من حيوان، على طريقة البراهمة الفلاسفة، ويقال: إنه اجتمع براهب في بعض الصوامع في مجيئه من بعض السواحل آواه الليل عنده، فشككه في دين الإسلام.

وكان يتقوت بالنبات وغيره، وأكثر ما كان يأكل العدس ويتحلى بالدبس وبالتين، وكان لا يأكل بحضرة أحد، ويقول: أكل الأعمى عورة.

وكان في غاية الذكاء المفرط، على ما ذكروه، وأما ما ينقلونه عنه من الأشياء المكذوبة المختلفة من أنه وضع تحت سريره درهم فقال: إما أن تكون السماء قد انخفضت مقدار درهم أو الأرض قد ارتفعت مقدار درهم، أي: أنه شعر بارتفاع سريره عن الأرض مقدار ذلك الدرهم الذي وضع تحته، فهذا لا أصل له.

وكذلك يذكرون عنه أنه مر في بعض أسفاره بمكان فطأطأ رأسه فقيل له في ذلك، فقال: أما هنا شجرة؟

قالوا: لا، فنظروا فإذا أصل شجرة كانت هناك في الموضع الذي طأطأ رأسه فيه، وقد قطعت، وكان قد اجتاز بها قديما مرة، فأمره من كان معه بمطأطأة رأسه لمّا جازوا تحتها، فلما مر بها المرة الثانية طأطأ رأسه خوفا من أن يصيبه شيء منها، فهذا لا يصح.

وقد كان ذكيا، ولم يكن زكيا، وله مصنفات كثيرة أكثرها في الشعر، وفي بعض أشعاره ما يدل على زندقته، وانحلاله من الدين، ومن الناس من يعتذر عنه ويقول: إنه إنما كان يقول ذلك مجونا ولعبا، ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، وقد كان باطنه مسلما.

قال ابن عقيل: لما بلغه: وما الذي ألجأه أن يقول في دار الإسلام ما يكفره به الناس؟

قال: والمنافقون مع قلة عقلهم وعلمهم أجود سياسة منه، لأنهم حافظوا على قبائحهم في الدنيا وستروها، وهذا أظهر الكفر الذي تسلط عليه به الناس وزندقوه، والله يعلم أن ظاهره كباطنه.

قال ابن الجوزي: وقد رأيت لأبي العلاء المعري كتابا سماه (الفصول والغايات في معارضة السور والآيات)، على حروف المعجم في آخر كلماته وهو في غاية الركاكة والبرودة، فسبحان من أعمى بصره وبصيرته.

قال: وقد نظرت في كتابه المسمى (لزوم ما لا يلزم)، ثم أورد ابن الجوزي من أشعاره الدالة على استهتاره بدين الإسلام أشياء كثيرة.

فمن ذلك قوله:

إذا كان لا يحظى برزقك عاقل ** وترزق مجنونا وترزق أحمقا

فلا ذنب يا رب السماء على امرئ ** رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا

وقوله:

ألا إن البرية في ضلال ** وقد نظر اللبيب لما اعتراها

تقدم صاحب التوراة موسى ** وأوقع في الخسار من افتراها

فقال رجاله وحي أتاه ** وقال الناظرون بل افتراها

وما حجي إلى أحجار بيت ** كروس الحمر تشرف في ذراها

إذا رجع الحليم إلى حجاه ** تهاون بالمذاهب وازدراها

وقوله:

عفت الحنيفة والنصارى اهتدت ** ويهود جارت والمجوس مضلله

اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا ** دين وآخر ذو دين ولا عقل له

وقوله:

فلا تحسب مقال الرسل حقا ** ولكن قول زور سطروه

فكان الناس في عيش رغيد ** فجاؤا بالمحال فكدروه

وقلت أنا معارضة عليه:

فلا تحسب مقال الرسل زورا ** ولكن قول حق بلغوه

وكان الناس في جهل عظيم ** فجاؤا بالبيان فأوضحوه

وقوله:

إن الشرائع ألقت بيننا إحنا ** وأورثتنا أفانين العداوات

وهل أبيح نساء الروم عن عرض ** للعرب إلا بإحكام النبوات

و قوله:

وما حمدي لآدم أو بنيه ** وأشهد أن كلهم خسيس

وقوله:

أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما ** دياناتكم مكرا من القدما

وقوله:

صرف الزمان مفرق الألفين ** فاحكم إلهي بين ذاك وبيني

نهيت عن قتل النفوس تعمدا ** وبعثت تقبضها مع الملكين

وزعمت أن لها معادا ثانيا ** ما كان أغناها عن الحالين

وقوله:

ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ** وحق لسكان البسيطة أن يبكوا

تحطمنا الأيام حتى كأننا ** زجاج ولكن لا يعود له سبك

وقوله:

أمور تستخف بها حلوم ** وما يدري الفتى لمن الثبور

كتاب محمد وكتاب موسى ** وإنجيل ابن مريم والزبور

وقوله:

قالت معاشر لم يبعث إلهكم ** إلى البرية عيساها ولا موسى

وإنما جعلوا الرحمن مأكلة ** وصيروا دينهم في الناس ناموسا

وذكر ابن الجوزي وغيره أشياء كثيرة من شعره تدل على كفره، بل كل واحدة من هذه الأشياء تدل على كفره وزندقته وانحلاله، ويقال: إنه أوصى أن يكتب على قبره:

هذا جناه أبي علي ** وما جنيت على أحد

معناه أن أباه بتزوجه لأمه أوقعه في هذه الدار، حتى صار بسبب ذلك إلى ما إليه صار، وهو لم يجن على أحد بهذه الجناية، وهذا كله كفر وإلحاد قبحه الله.

وقد زعم بعضهم أنه أقلع عن هذا كله وتاب منه، وأنه قال قصيدة يعتذر فيها من ذلك كله، ويتنصل منه، وهي القصيدة التي يقول فيها:

يا من يرى مد البعوض جناحها ** في ظلمة الليل البهيم الأليل

ويرى مناط عروقها في نحرها ** والمخ في تلك العظام النحل

امنن علي بتوبة تمحو بها ** ما كان مني في الزمان الأول

توفي في ربيع الأول من هذه السنة بمعرة النعمان عن ست وثمانين سنة إلا أربعة عشر يوما، وقد رثاه جماعة من أصحابه وتلامذته، وأنشدت عند قبره ثمانون مرثاة، حتى قال بعضهم في مرثاه له:

إن كنت لم ترق الدماء زهادة ** فلقد أرقت اليوم من جفني دما

قال ابن الجوزي: وهؤلاء الذين رثوه والذين اعتقدوه إما جهال بأمره، وإما ضلال على مذهبه وطريقه.

وقد رأى بعضهم في النوم رجلا ضريرا على عاتقه حيتان مدليتان على صدره، رافعتان رؤسهما إليه، وهما ينهشان من لحمه، وهو يستغيث، وقائل يقول: هذا المعري الملحد.

وقد ذكره ابن خلكان فرفع في نسبه على عادته في الشعراء، كما ذكرنا.

وقد ذكر له من المصنفات كتبا كثيرة، وذكر أن بعضهم وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتابه المسمى بـ(الأيك والغصون)، وهو المعروف بالهمز والردف، وأنه أخذ العربية عن أبيه واشتغل بحلب على محمد بن عبد الله بن سعد النحوي، وأخذ عنه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، والخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي، وذكر أنه مكث خمسا وأربعين سنة لا يأكل اللحم على طريقة الحكماء، وإنه أوصى أن يكتب على قبره:

هذا جناه أبي علي ** وما جنيت على أحد

قال ابن خلكان: وهذا أيضا متعلق باعتقاد الحكماء، فإنهم يقولون اتخاذ الولد وإخراجه إلى هذا الوجود جناية عليه، لأنه يتعرض للحوادث والآفات.

قلت: وهذا يدل على أنه لم يتغير عن اعتقاده، و هو ما يعتقده الحكماء إلى آخر وقت، وأنه لم يقلع عن ذلك كما ذكره بعضهم، والله أعلم بظواهر الأمور وبواطنها.

وذكر ابن خلكان: أن عينه اليمنى كانت ناتئة وعليها بياض، وعينه اليسرى غائرة، وكان نحيفا، ثم أورد من أشعاره الجيدة أبياتا فمنها قوله:

لا تطلبن بآلة لك رتبة ** قلم البليغ بغير جد مغزل

سكن السما كان السماء كلاهما ** هذا له رمح وهذا أعزل

الأستاذ أبو عثمان الصابوني

إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن عامر بن عابد النيسابوري، الحافظ الواعظ المفسر، قدم دمشق وهو ذاهب إلى الحج فسمع بها وذكر الناس، وقد ترجمه ابن عساكر ترجمة عظيمة، وأورد له أشياء حسنة من أقواله وشعره، فمن ذلك قوله:

إذا لم أصب أموالكم ونوالكم ** ولم آمل المعروف منكم ولا البرا

وكنتم عبيدا للذي أنا عبده ** فمن أجل ماذا أتعب البدن الحرا؟

وروى ابن عساكر عن إمام الحرمين أنه قال: كنت أتردد وأنا بمكة في المذاهب فرأيت النبي وهو يقول: عليك باعتقاد أبي عثمان الصابوني. رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة

فيها: كانت فتنة الخبيث البساسيري، وهو أرسلان التركي، وذلك أن إبراهيم ينال أخا الملك طغرلبك ترك الموصل الذي كان قد استعمله أخوه عليها، وعدل إلى ناحية بلاد الجبل، فاستدعاه أخوه وخلع عليه وأصلح أمره، ولكن في غضون ذلك ركب البساسيري ومعه قريش بن بدران أمير العرب إلى الموصل فأخذها، وأخرب قلعتها.

فسار إليه الملك طغرلبك سريعا فاستردها وهرب منه البساسيري وقريش خوفا منه، فتبعهما إلى نصيبين، وفارقه أخوه إبراهيم، وعصى عليه، وهرب إلى همذان، وذلك بإشارة البساسيري عليه، فسار الملك طغرلبك وراء أخيه وترك عساكره وراءه فتفرقوا وقل من لحقه منهم، ورجعت زوجته الخاتون ووزيره الكندري إلى بغداد.

ثم جاء الخبر بأن أخاه قد استظهر عليه، وأن طغرلبك محصور بهمذان، فانزعج الناس لذلك، واضطربت بغداد، وجاء الخبر بأن البساسيري على قصد بغداد، وأنه قد اقترب من الأنبار، فقوي عزم الكندري على الهروب، فأرادت الخاتون أن تقبض عليه فتحول عنها إلى الجانب الغربي، ونهبت داره وقطع الجسر الذي بين الجانبين، وركبت الخاتون في جمهور الجيش، وذهبت إلى همذان لأجل زوجها.

وسار الكندري ومعه أنوشروان بن تومان وأم الخاتون المذكورة، ومعها بقية الجيش إلى بلاد الأهواز وبقيت بغداد ليس بها أحد من المقاتلة، فعزم الخليفة على الخروج منها، وليته فعل، ثم أحب داره والمقام مع أهله، فمكث فيها اغترارا ودعة، ولما خلى البلد من المقاتلة قيل للناس: من أراد الرحيل من بغداد فليذهب حيث شاء.

فانزعج الناس وبكى الرجال والنساء والأطفال، وعبر كثير من الناس إلى الجانب الغربي، وبلغت المعبرة دينارا ودينارين لعدم الجسر.

قال ابن الجوزي: وطار في تلك الليلة على دار الخليفة نحو عشر بومات مجتمعات يصحن صياحا مزعجا، وقيل لرئيس الرؤساء: المصلحة أن الخليفة يرتحل لعدم المقاتلة، فلم يقبل، وشرعوا في استخدام طائفة من العوام، ودفع إليهم سلاح كثير من دار المملكة.

فلما كان يوم الأحد الثامن من ذي القعدة من هذه السنة جاء البساسيري إلى بغداد ومعه الرايات البيض المصرية، وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها اسم المستنصر بالله أبو تميم معد أمير المؤمنين، فتلقاه أهل الكرخ الرافضة وسألوه أن يجتاز من عندهم، فدخل الكرخ وخرج إلى مشرعة الزاويا، فخيم بها والناس إذ ذاك في مجاعة وضر شديد.

ونزل قريش بن بدران في نحو من مائتي فارس على مشرعة باب البصرة، وكان البساسيري قد جمع العيارين وأطمعهم في نهب دار الخلافة، ونهب أهل الكرخ دور أهل السنة بباب البصرة.

ونهبت دار قاضي القضاة الدامغاني، وتملك أكثر السجلات والكتب الحكمية، وبيعت للعطارين، ونهبت دور المتعلقين بخدمة الخليفة، وأعادت الروافض الأذان بحي على خير العمل، وأذن به في سائر نواحي بغداد في الجمعات والجماعات، وخطب ببغداد للخليفة المستنصر العبيدي على منابرها وغيرها، وضربت له السكة على الذهب والفضة، وحوصرت دار الخلافة، فجاحف الوزير أبو القاسم بن المسلمة الملقب برئيس الرؤساء، بمن معه من المستخدمين دونها فلم يفد ذلك شيئا، فركب الخليفة بالسواد والبردة، وعلى رأسه اللواء وبيده سيف مصلت، وحوله زمرة من العباسيين والجواري حاسرات عن وجوههن، ناشرات شعورهن، معهن المصاحف على رؤس الرماح، وبين يديه الخدم بالسيوف.

ثم إن الخليفة أخذ ذماما من أمير العرب قريش ليمنعه وأهله ووزيره ابن المسلمة، فأمنه على ذلك كله، وأنزله في خيمة، فلامه البساسيري على ذلك، وقال: قد علمت ما كان وقع الاتفاق عليه بيني وبينك، من أنك لا تبت برأي دوني، ولا أنا دونك، ومهما ملكنا بيني وبينك.

ثم إن البساسيري أخذ القاسم بن مسلمة فوبخه توبيخا مفضحا، ولامه لوما شديدا، ثم ضربه ضربا مبرحا، واعتقله مهانا عنده، ونهبت العامة دار الخلافة، فلا يحصى ما أخذوا منها من الجواهر والنفائس، والديباج والذهب والفضة، والثياب والأثاث والدواب، وغير ذلك مما لا يحد ولا يوصف.

ثم اتفق رأي البساسيري وقريش على أن يسيروا الخليفة إلى أمير حديثة عانة، وهو مهارش بن مجلي الندوي وهو من بني عم قريش بن بدران، وكان رجلا فيه دين وله مروءة.

فلما بلغ ذلك الخليفة دخل على قريش أن لا يخرج من بغداد فلم يفد ذلك شيئا، وسيره مع أصحابهما في هودج إلى حديثة عانة، فكان عند مهارش حولا كاملا، وليس معه أحد من أهله، فحكى عن الخليفة أنه قال: لما كنت بحديثة عانة قمت ليلة إلى الصلاة فوجدت في قلبي حلاوة المناجاة، ثم دعوت الله عز وجل بما سنح لي، ثم قلت: اللهم أعدني إلى وطني، واجمع بيني وبين أهلي وولدي، ويسر اجتماعنا، وأعد روض الأنس زاهرا، وربع القرب عامرا، وفلفل العزا وبرج الجفا.

قال: فسمعت قائلا على شاطئ الفرات يقول: نعم نعم.

فقلت: هذا رجل يخاطب آخر، ثم أخذت في السؤال والابتهال، فسمعت ذلك الصائح يقول: إلى الحول إلى الحول.

فقلت: إنه هاتف أنطقه الله بما جرى الأمر عليه، وكان كذلك، خرج من داره في ذي القعدة من هذه السنة، ورجع إليها في ذي القعدة من السنة المقبلة.

وقد قال الخليفة القائم بأمر الله في مدة مقامه بالحديثة شعرا يذكر فيه حاله فمنه:

ساءت ظنوني فيمن كنت آمله ** ولم يجل ذكر من واليت في خلدي

تعلموا من صروف الدهر كلهم ** فما أرى أحدا يحنو على أحد

فما أرى من الأيام إلا موعدا ** فمتى أرى ظفري بذاك الموعد

يومي يمر وكلما قضيته ** عللت نفسي بالحديث إلى غد

أقبح بنفس تستريح إلى المنى ** وعلى مطامعها تروح وتغتدي

وأما البساسيري وما اعتمده في بغداد فإنه ركب يوم عيد الأضحى وألبس الخطباء والمؤذنين البياض، وكذلك أصحابه، وعلى رأسه الألوية المصرية، وخطب للخليفة المصري، والروافض في غاية السرور، والأذان بسائر العراق بحي على خير العمل، وانتقم البساسيري من أعيان أهل بغداد انتقاما عظيما، وغرق خلقا ممن كان يعاديه، وبسط على آخرين الأرزاق ممن كان يحبه ويواليه، وأظهر العدل.

ولما كان يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة أحضر إلى بين يديه الوزير ابن المسلمة الملقب رئيس الرؤساء، وعليه جبة صوف، وطرطور من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة من جلود كالتعاويذ، فأركب جملا أحمر وطيف به في البلد، وخلفه من يصفعه بقطعة جلد، وحين اجتاز بالكرخ نثروا عليه خلقان المداسات، وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبوه، وأوقف بإزاء دار الخلافة وهو في ذلك يتلو قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 9.

ثم لما فرغوا من التطواف به جيء به إلى المعسكر فألبس جلد ثور بقرنيه، وعلق بكلوب في شدقيه، ورفع إلى الخشبة، فجعل يضطرب إلى آخر النهار فمات، رحمه الله.

وكان آخر كلامه أن قال: الحمد لله الذي أحياني سعيدا، وأماتني شهيدا.

وفيها: وقع برد بأرض العراق أهلك كثيرا من الغلات، وقتل بعض الفلاحين، وزادت دجلة زيادة كثيرة، وزلزلت بغداد في هذه السنة قبل الفتنة بشهر زلزالا شديدا، فتهدمت دور كثيرة، ووردت الأخبار أن هذه الزلزلة اتصلت بهمذان وواسط، وتكريت، وعانة، وذكر أن الطواحين وقفت من شدتها.

وفيها: كثر النهب ببغداد حتى كانت العمائم تخطف عن الرؤس، وخطفت عمامة الشيخ أبي نصر بن الصباغ، وطيلسانة هو ذاهب إلى صلاة الجمعة.

وفي أواخر السنة خرج السلطان طغرلبك من همذان فقاتل أخاه وانتصر عليه، ففرح الناس وتباشروا بذلك، ولم يظهروا ذلك خوفا من البساسيري، واستنجد طغرلبك بأولاد أخيه داود - وكان قد مات - على أخيه إبراهيم فغلبوه وأسروه في أوائل سنة إحدى وخمسين، واجتمعوا على عمهم طغرلبك، فسار بهم نحو العراق، فكان من أمرهم ما سيأتي ذكره في السنة الآتية إن شاء الله.

وفيها توفي من الأعيان:

الحسن بن محمد أبو عبد الله الوني

الفرضي، وهو شيخ الحربي، وكان شافعي المذهب، قتل في بغداد في فتنة البساسيري، ودفن في يوم الجمعة يوم عرفة منها.

داود أخو طغرلبك

وكان الأكبر منهم، توفي فيها وقام أولاده مقامه.

أبو الطيب الطبري الفقيه شيخ الشافعية

طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، ولد بآمل طبرستان سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، سمع الحديث بجرجان من أبي أحمد الغطريفي، وبنيسابور من أبي الحسن الماسرجسي، وعليه درس الفقه أيضا وعلى أبي علي الزجاجي، وأبي القاسم بن كج، ثم اشتغل ببغداد على أبي حامد الإسفرايني، وشرح (المختصر)، و(فروع ابن الحداد).

وصنف في الأصول والجدل وغير ذلك من العلوم الكثيرة النافعة، وسمع ببغداد من الدارقطني وغيره، وولي القضاء بربع الكرخ بعد موت أبي عبد الله الصيمري، وكان ثقة دينا ورعا، عالما بأصول الفقه وفروعه، حسن الخلق سليم الصدر مواظبا على تعليم العلم ليلا ونهارا.

وقد ترجمته في (طبقات الشافعية).

وحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عنه - وكان شيخه، وقد أجلسه بعده في الحلقة - أن أبا الطيب أسلم خفا له - وكان متقللا من الدنيا فقيرا- عند خفاف ليصلحه له، فأبطأ عليه فكان كلما مر عليه أخذه فغمسه في الماء وقال: أيها الشيخ الساعة أصلحه.

فقال الشيخ: أسلمته لتصلحه ولم أسلمه لتعلمه السباحة.

وحكى ابن خلكان: أنه كان له ولأخيه عمامة واحدة، وقميص واحد، إذا لبسهما هذا جلس الآخر في البيت لا يخرج منه، وإذا لبسهما هذا احتاج الآخر أن يقعد في البيت ولا يخرج منه، وإذا غسلاهما جلسا في البيت إلى أن ييبسا، وقد قال في ذلك أبو الطيب:

قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم ** لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل

وقد توفي في هذه السنة عن مائة سنة وسنتين، وهو صحيح العقل والفهم والأعضاء، يفتي ويشتغل إلى أن مات، وقد ركب مرة سفينة فلما خرج منها قفز قفزة لا يستطيعها الشباب، فقيل له: ما هذا يا أبا الطيب؟

فقال: هذه أعضاء حفظناها في الشبيبة تنفعنا في الكبر، رحمه الله.

القاضي الماوردي صاحب الحاوي الكبير

علي بن محمد بن حبيب، أبو الحسن الماوردي البصري، شيخ الشافعية، صاحب التصانيف الكثيرة في الأصول والفروع والتفسير والأحكام السلطانية، وأدب الدنيا والدين.

قال: بسطت الفقه في أربعة آلاف ورقة، يعني: الإقناع.

وقد ولي الحكم في بلاد كثيرة، وكان حليما وقورا أديبا، لم ير أصحابه ذراعه يوما من الدهر من شدة تحرزه وأدبه، وقد استقصيت ترجمته في (الطبقات)، توفي عن ست وثمانين سنة، ودفن بباب حرب.

رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المسلمة

علي بن الحسن بن أحمد بن محمد بن عمر، وزير القائم بأمر الله، كان أولا قد سمع الحديث من أبي أحمد الفرضي وغيره، ثم صار أحد المعدلين، ثم استكتبه القائم بأمر الله واستوزره، ولقبه رئيس الرؤساء، شرف الوزراء، جمال الوزراء، كان متضلعا بعلوم كثيرة مع سداد رأي، ووفور عقل، وقد مكث في الوزارة ثنتي عشرة سنة وشهرا، ثم قتله البساسيري بعد ما شهره كما تقدم، وله من العمر ثنتان وخمسون سنة وخمسة أشهر.

منصور بن الحسين أبو الفوارس الأسدي

صاحب الجزيرة، توفي فيها وأقاموا ولده بعده.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة

استهلت هذه السنة وبغداد في حكم البساسيري، يخطب فيها لصاحب مصر الفاطمي، والخليفة العباسي بحديثة عانة، ثم لما كان يوم الاثنين ثاني عشر صفر أحضر القضاة أبا عبد الله الدامغاني وجماعة من الوجوه والأعيان والأشراف، وأخذ عليهم البيعة لصاحب مصر المستنصر الفاطمي، ثم دخل دار الخلافة وهؤلاء المذكورون معه وأمر بنقض تاج دار الخلافة، فنقض بعض الشراريف، ثم قيل له: إن القبح في هذا أكثر من المصلحة.

فتركه، ثم ركب إلى زيارة المشهد بالكوفة، وعزم على عبور نهر جعفر ليسوق إلى الحائر لوفاء نذر كان عليه، وأمر بأن تنقل جثة ابن مسلمة إلى ما يقارب الحريم الظاهري، وأن تنصب على دجلة.

وكتبت إليه أم الخليفة - وكانت عجوزا كبيرة قد بلغت التسعين وهي مختفية في مكان - تشكو إليه الحاجة والفقر وضيق الحال، فأرسل إليها من نقلها إلى الحريم، وأخدمها جاريتين، ورتب لها كل يوم اثني عشر رطلا من خبز، وأربعة أرطال من لحم.

فصل كتابة السلطان طغرلبك كتابا إلى قريش بن بدران بإعادة الخليفة لوطنه

ولما خلص السلطان طغرلبك من حصره بهمذان وأسر أخاه إبراهيم وقتله، وتمكن في أمره، وطابت نفسه، ولم يبق له في تلك البلاد منازع، كتب إلى قريش بن بدران يأمره بأن يعيد الخليفة إلى وطنه، وداره وتوعده على أنه إن لم يفعل ذلك وإلا أحل به بأسا شديدا، فكتب إليه قريش يتلطف به ويدخل عليه، ويقول: أنا معك على البساسيري بكل ما أقدر عليه، حتى يمكنك الله منه، ولكن أخشى أن أتسرع في أمر يكون فيه على الخليفة مفسدة، أو تبدر إليه بادرة سوء يكون عليّ عارها، ولكن سأعمل على ما أمرتني به بكل ما يمكنني.

وأمر برد امرأة الخليفة خاتون إلى دارها وقرارها، ثم إنه راسل البساسيري بعود الخليفة إلى داره، وخوفه من جهة الملك طغرلبك، وقال له فيما قال: إنك دعوتنا إلى طاعة المستنصر الفاطمي، وبيننا وبينه ستمائة فرسخ، ولم يأتنا رسول ولا أحد من عنده، ولم يفكر في شيء مما أرسلنا إليه وهذا الملك من ورائنا بالمرصاد، قريب منا، وقد جاءني منه كتاب عنوانه:

إلى الأمير الجليل علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران، مولى أمير المؤمنين، من شاهنشاه المعظم ملك المشرق والمغرب طغرلبك، أبي طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق، وعلى رأس الكتاب العلامة السلطانية بخط السلطان. حسبي الله ونعم الوكيل.

وكان في الكتاب: والآن قد سرت بنا المقادير إلى هلاك كل عدو في الدين، ولم يبق علينا من المهمات إلا خدمة سيدنا ومولانا القائم بأمر الله أمير المؤمنين، وإطلاع أبهة إمامته على سرير عزه، فإن الذي يلزمنا ذلك، ولا فسحة في التقصير فيه ساعة من الزمان، وقد أقبلنا بجنود المشرق وخيولها إلى هذا المهم العظيم، ونريد من الأمير الجليل علم الدين إبانة النجح الذي وفق له وتفرد به، وهو أن يتم وفاءه من إقامته وخدمته، في باب سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، إما أن يأتي به مكرما في عزه وإمامته إلى موقف خلافته من مدينة السلام، ويتمثل بين يديه متوليا أمره ومنفذا حكمه، وشاهرا سيفه وقلمه، وذلك المراد، وهو خليفتنا وتلك الخدمة بعض ما يجيب له، ونحن نوليك العراق بأسرها ونصفي لك مشارع برها وبحرها، لا يطؤها حافر خيل من خيول العجم شبرا من أراضي تلك المملكة، إلا ملتمسا لمعاونتك ومظاهرتك، وإما أن تحافظ على شخصه الغالي بتحويله من القلعة إلى حين نحظى بخدمته، فليمتثل ذلك ويكون الأمير الجليل مخيرا بين أن يلقانا أو يقيم حيث يشاء فنوليه العراق كلها، ونستخلفه في الخدمة الإمامية، ونصرف أعيننا إلى الممالك الشرقية، فهمتنا لا تقتضي إلا هذا.

فعند ذلك كتب قريش إلى مهاوش بن مجلي الذي عنده الخليفة يقول له: إن المصلحة تقتضي تسليم الخليفة إليّ، حتى آخذ لي ولك به أمانا.

فامتنع عليه مهاوش وقال: قد غرني البساسيري ووعدني بأشياء لم أرها، ولست بمرسله إليك أبدا، وله في عنقي أيمان كثيرة لا أغدرها.

وكان مهارش هذا رجلا صالحا، فقال للخليفة: إن المصلحة تقتضي أن نسير إلى بلد بدر بن مهلهل، وننظر ما يكون من أمر السلطان طغرلبك، فإن ظهر دخلنا بغداد، وإن كانت الأخرى نظرنا لأنفسنا، فإني أخشى من البساسيري أن يأتينا فيحضرنا.

فقال له الخليفة: افعل ما فيه المصلحة.

فسارا في الحادي عشر من ذي القعدة إلى أن حصلا بقلعة تل عكبرا، فتلقته رسل السلطان طغرلبك بالهدايا التي كان أنفذها، وجاءت الأخبار بأن السلطان طغرلبك قد دخل بغداد، وكان يوما مشهودا، غير أن الجيش نهبوا البلد غير دار الخليفة، وصودر خلق كثير من التجار، وأخذت منهم أموال كثيرة، وشرعوا في عمارة دار الملك، وأرسل السلطان إلى الخليفة مراكب كثيرة من أنواع الخيول وغيرها، وسرادق وملابس، وما يليق بالخليفة في السفر، أرسل ذلك مع الوزير عميد الملك الكندري.

ولما انتهوا إلى الخليفة أرسلوا بتلك الآلات إليه قبل أن يصلوا إليه، وقالوا: اضربوا السرادق وليلبس الخليفة ما يليق به، ثم نجيء نحن ونستأذن عليه فلا يأذن لنا إلا بعد ساعة طويلة.

فلما فعلوا ذلك دخل الوزير ومن معه فقبّلوا الأرض بين يديه، وأخبروه بسرور السلطان بسلامته، وبما حصل من العود إلى بغداد، وكتب عميد الملك كتابا إلى السلطان يعلمه بصفة ما جرى، وأحب أن يضع الخليفة علامته في أعلا الكتاب ليكون أقر لعين السلطان، وأحضر الوزير دواته ومعها سيف الدولة وقال: هذه خدمة السيف والقلم.

فأعجب الخليفة ذلك، وترحلوا من منزلهم ذلك بعد يومين.

فلما وصلوا النهروان خرج السلطان لتلقي الخليفة، فلما وصل السلطان إلى سرادق الخليفة قبل الأرض سبع مرات بين يدي الخليفة، فأخذ الخليفة مخدة فوضعها بين يديه فأخذها الملك فقبّلها، ثم جلس عليها كما أشار الخليفة، وقدم الخليفة الحبل الياقوت الأحمر الذي كان لبني بويه، فوضعه بين يديه، وأخرج اثنتي عشرة حبة من لؤلؤ كبار، وقال أرسلان خاتون - يعني زوجة الملك - تخدم الخليفة، وسأله أن يسبح بهذه المسبحة، وجعل يعتذر من تأخره عن الحضرة بسبب عصيان أخيه فقتله، واتفق موت أخي الأكبر أيضا، فاشتغلت بترتيب أولاده من بعده، وأنا شاكر لمهارش بما كان منه من خدمة أمير المؤمنين، وأنا ذاهب إن شاء الله خلف الكلب البساسيري، فأقتله إن شاء الله، ثم أدخل الشام وأفعل بصاحب مصر ما ينبغي أن يجازى به من سوء المقابلة.

فدعا له الخليفة، وأعطى الخليفة للملك سيفا كان معه، لم يبق معه من أمور الخلافة سواه، واستأذن الملك لبقية الجيش أن يخدموا الخليفة، فرفعت الأستار عن جوانب الحركات، فلما شاهد الأتراك الخليفة قبّلوا الأرض، ثم دخلوا بغداد يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة، وكان يوما مشهودا، الجيش كله معه والقضاة والأعيان والسلطان آخذ بلجام بغلته، إلى أن وصل باب الحجرة، ثم إنه لما وصل الخليفة إلى دار مملكته استأذنه السلطان في الذهاب وراء البساسيري، فأرسل جيشا من ناحية الكوفة ليمنعوه من الدخول إلى الشام، وخرج هو والناس في التاسع والعشرين من الشهر.

وأما البساسيري فإنه مقيم بواسط في جمع غلات وأمور يهيئها لقتال السلطان، وعنده أن الملك طغرلبك ومن عنده ليسوا بشيء يخاف منه، وذلك لما يريده الله تعالى من إهلاكه إن شاء الله.

مقتل البساسيري على يدي السلطان طغرلبك

لما سار السلطان وراءه وصلت السرية الأولى فلقوه بأرض واسط ومعه ابن مزيد، فاقتتلوا هنالك وانهزم أصحابه عنه، ونجا البساسيري بنفسه على فرس، فتبعه بعض الغلمان فرمي فرسه بنشابة فألقته إلى الأرض، فجاء الغلام فضربه على وجهه ولم يعرفه، وأسره واحد منهم يقال له: كمسكين، فحز رأسه وحمله إلى السلطان، وأخذت الأتراك من جيش البساسيري من الأموال ما عجزوا عن حمله، ولما وصل الرأس إلى السلطان أمر أن يذهب به إلى بغداد، وأن يرفع على رمح، وأن يطاف به في المحال، وأن يطوف معه الدبادب والبوقات والنفاطون، وأن يخرج الناس والنساء للفرجة عليه، ففعل ذلك.

ثم نصب على الطيارة تجاه دار الخليفة، وقد كان مع البساسيري خلق من البغاددة خرجوا معه، ظانين أنه سيعود إلى بغداد، فهلكوا ونهبت أموالهم، ولم ينج من أصحابه إلا القليل، وفر ابن مزيد في ناس قليل إلى البطيحة، ومنه أولاد البساسيري وأمهم، وقد سلبتهم الأعراب فلم يتركوا لهم شيئا.

ثم استؤمن لابن مزيد من السلطان ودخل معه بغداد، وقد نهبت العساكر ما بين واسط والبصرة والأهواز، وذلك لكثرة الجيش وانتشاره وكثافته.

وأما الخليفة فإنه حين عاد إلى دار الخلافة جعل لله عليه أن لا ينام على وطاء ولا يأتيه أحد بطعام إذا كان صائما، ولا يخدمه في وضوئه وغسله أحد، بل يتولى ذلك كله بنفسه لنفسه، وعاهد الله أن لا يؤذي أحدا ممن آذاه، وأن يصفح عن من ظلمه، وقال: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.

وفيها: تولى الملك ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بلاد حران بعد وفاة أبيه، بتقرير عمه طغرلبك، وكان له من الأخوة سليمان وقاروت بك، وياقوتي، فتزوج طغرلبك بأم سليمان.

وفيها: كان بمكة رخص لم يسمع بمثله، بيع التمر والبر كل مائتي رطل بدينار.

ولم يحج أحد من أهل العراق فيها.

ترجمة أرسلان أبو الحارس البساسيري التركي

كان من مماليك بهاء الدولة، وكان أولا مملوكا لرجل من أهل مدينة بسا، فنسب إليه فقيل له: البساسيري، وتلقب بالملك المظفر، ثم كان مقدما كبيرا عند الخليفة القائم بأمر الله، لا يقطع أمرا دونه، وخطب له على منابر العراق كلها، ثم طغى وبغى وتمرد، وعتا وخرج على الخليفة والمسلمين ودعا إلى الخلافة الفاطميين، ثم انقضى أجله في هذه السنة، وكان دخوله إلى بغداد بأهله في سادس ذي القعدة من سنة خمسين وأربعمائة، ثم اتفق خروجهم منها في سادس ذي القعدة أيضا من سنة إحدى وخمسين، بعد سنة كاملة.

ثم كان خروج الخليفة من بغداد في يوم الثلاثاء الثاني عشر من كانون الأول، واتفق قتل البساسيرى في يوم الثلاثاء الثامن عشر من كانون الأول، بعد سنة شمسية، وذلك في ذي الحجة منها.

الحسن بن الفضل أبو علي الشرمقاني المؤدب المقري الحافظ للقرآن والقراءات

واختلافها، كان ضيق الحال فرآه شيخه ابن العلاف ذات يوم وهو يأخذ أوراق الخس من دجلة ويأكلها، فأعلم ابن المسلمة بحاله، فأرسل ابن المسلمة غلاما له وأمره أن يذهب إلى الخزانة التي له بمسجده فيتخذ لها مفتاحا غير مفتاحه، ثم كان كل يوم يضع فيها ثلاثة أرطال من خبز السميد، ودجاجة، وحلاوة السكر، فظن أبو علي الشرمقاني أن ذلك كرامة أكرمه الله بها، وأن هذا الطعام الذي يجده في خزانته من الجنة، فكتمه زمانا وجعل ينشد:

من أطلعوه على سر فباح به ** لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا

وأبعدوه فلم يظفر بقربهم ** وأبدلوه فكان الأنس إيحاشا

فلما كان بعض الأيام ذاكره ابن العلاف في أمره، وقال له، فيما قال: أراك قد سمنت فما هذا الأمر، وأنت رجل فقير؟

فجعل يلوح ولا يصرح، ويكني ولا يفصح، ثم ألح عليه فأخبره أنه يجد كل يوم في خزانته من طعام الجنة ما يكفيه، وأن هذا كرامة أكرمه الله بها، فقال له: ادع لابن المسلمة فإنه الذي يفعل ذلك، وشرح له صورة الحال، فكسره ذلك ولم يعجبه.

علي بن محمود بن إبراهيم بن ماجره

أبو الحسن الزوزني، شيخ الصوفية، و إليه ينسب الرباط الزوزني، وقد كان بنى لأبي الحسن شيخه، وقد صحب أبا عبد الرحمن السلمي، وقال: صحبت ألف شيخ، وأحفظ عن كل شيخ حكاية.

توفي في رمضان عن خمس وثمانين سنة.

محمد بن علي ابن الفتح بن محمد بن علي بن أبي طالب الحربي

المعروف بالعشاري، لطول جسده، وقد سمع الدارقطني وغيره، وكان ثقة دينا صالحا، توفي في جمادى الأولى منها، وقد نيف على الثمانين.

الوني الفرضي

الحسين بن محمد بن عبد الله أبو عبد الله الوني، نسبة إلى ونّ قرية من أعمال جهستان، الفرضي شيخ الحربي، وهو أبو حكيم عبد الله بن إبراهيم، كان الونّي إماما في الحساب والفرائض، وانتفع الناس به، توفي فيها ببغداد شهيدا في فتنة البساسيري والله أعلم.

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة

في يوم الخميس السابع عشر من صفر، دخل السلطان بغداد مرجعه من واسط، بعد قتل البساسيري، وفي يوم الحادي والعشرين جلس الخليفة في داره وأحضر الملك طغرلبك، ومد سماطا عظيما فأكل الأمراء منه والعامة، ثم في يوم الخميس ثاني ربيع الأول عمل السلطان سماطا للناس.

وفي يوم الثلاثاء تاسع جمادى الآخرة قدم الأمير عدة الدين أبو القاسم عبد الله بن ذخيرة الدين بن أمير المؤمنين القائم بأمر الله، وعمته، وله من العمر يومئذ أربع سنين، صحبة أبي الغنائم، فتلقاه الناس إجلالا لجده، وقد ولي الخلافة بعد ذلك، وسمي المقتدي بأمر الله.

وفي رجب وقف أبو الحسن محمد بن هلال العتابي دار كتب، وهي دار بشارع ابن أبي عوف من غربي بغداد، ونقل إليها ألف كتاب، عوضا عن دار ازدشير التي أحرقت بالكرخ.

وفي شعبان ملك محمود بن نصر حلب وقلعتها فامتدحه الشعراء.

وفيها: ملك عطية بن مرداس الرحبة، وذلك كله منتزع من أيدي الفاطميين.

ولم يحج أحد من أهل العراق فيها، غير أن جماعة اجتمعوا إلى الكوفة وذهبوا مع الخفراء.

من الأعيان:

أبو منصور الجيلي

من تلاميذ أبي حامد، ولي القضاء بباب الطلق، وبحريم دار الخلافة، وسمع الحديث من جماعة.

قال الخطيب: وكتبنا عنه وكان ثقة.

الحسن بن محمد ابن أبي الفضل أبو محمد الفسوي

الوالي، سمع الحديث وكان ذكيا في صناعة الولاية، ومعرفة التهم والمتهومين من الغرماء، بلطيف من الصنيع كما نقل عنه أنه أوقف بين يديه جماعة اتهموا بسرقة فأتى بكوز يشرب منه، فرمى به فانزعج الواقفون إلا واحدا، فأمر به أن يقرر، وقال: السارق يكون جريئا قويا.

فوجد الأمر كذلك، وقد قتل مرة رجلا في ضرب بين يديه فادّعى عليه عند القاضي أبي الطيب، فحكم عليه بالقصاص، ثم فادى عن نفسه بمال جزيل حتى خلص.

محمد بن عبيد الله ابن أحمد بن محمد بن عمروس

أبو الفضل البزار، انتهت إليه رياسة الفقهاء المالكيين ببغداد، وكان من القراء المجيدين، وأهل الحديث المسندين، سمع ابن حبانة والمخلص وابن شاهين، وقد قبل شهادته أبو عبد الله الدامغاني، وكان أحد المعدلين.

قطر الندى

ويقال: الدجى، ويقال: علم، أم الخليفة القائم بأمر الله، كانت عجوزا كبيرة بلغت التسعين، وهي التي احتاجت في زمان البساسيري فأجرى عليها رزقا، وأخدمها جاريتين، ثم لم تمت حتى أقر الله عينها بولدها، ورجوعه إليها، واستمر أمرهم على ما كانوا عليه، ثم توفيت في هذه السنة، فحضر ولدها الخليفة جنازتها، وكانت حافلة جدا.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة

فيها: خطب الملك طغرلبك ابنة الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وقال: هذا شيء لم تجر العادة بمثله، ثم طلب شيئا كثيرا كهيئة الفرار.

ومن ذلك ما كان لزوجته التي توفيت من الإقطاعات بأرض واسط، وثلاثمائة ألف دينار، وأن يقيم الملك ببغداد لا يرحل عنها ولا يوما واحدا، فوقع الاتفاق على بعض ذلك، وأرسل إليها بمائة ألف دينار مع ابنة أخيه داود زوجة الخليفة، وأشياء كثيرة من آنية الذهب والفضة، والنثار والجواري ومن الجواهر ألفان ومائتي قطعة، من ذلك سبعمائة قطعة من جوهر، وزن القطعة ما بين الثلاث مثاقيل إلى المثقال، وأشياء أخرى.

فتمنع الخليفة لفوات بعض الشروط، فغضب عميد الملك الوزير لمخدومه السلطان، وجرت شرور طويلة اقتضت أن أرسل السلطان كتابا يأمر الخليفة بانتزاع ابنة أخيه السيدة أرسلان خاتون، ونقلها من دار الخلافة إلى دار الملك، حتى تنفصل هذه القضية، فعزم الخليفة على الرحيل من بغداد، فانزعج الناس لذلك، وجاء كتاب السلطان إلى رئيس شحنة بغداد برشتق يأمره بعدم المراقبة وكثرة العسف في مقابلة رد أصحابه بالحرمان، ويعزم على نقل الخاتون إلى دار المملكة، وأرسل من يحملها إلى البلد التي هو فيها، كل ذلك غضبا على الخليفة.

قال ابن الجوزي: وفي رمضان منها رأى إنسان من الزمنى رسول الله في المنام وهو قائم ومعه ثلاثة أنفس، فجاءه أحدهم فقال له: ألا تقوم؟

فقال: لا أستطيع، أنا رجل مقعد، فأخذ بيده فقال: قم، فقام وانتبه.

فإذا هو قد برأ وأصبح يمشي في حوائجه.

وفي ربيع الآخر استوزر الخليفة أبا الفتح منصور بن أحمد بن دارست الأهوازي، وخلع عليه وجلس في مجلس الوزارة.

وفي جمادى الآخرة لليلتين بقيتا منه كسفت الشمس كسوفا عظيما، جميع القرص غاب، فمكث الناس أربع ساعات حتى بدت النجوم، وآوت الطيور إلى أوكارها، وتركت الطيران لشدة الظلمة.

وفيها: ولي أبو تميم بن معز الدولة بلاد إفريقية.

وفيها: ولي ابن نصر الدولة أحمد بن مروان الكردي ديار بكر.

وفيها: ولي قريش بن بدران بلاد الموصل ونصيبين.

وفيها: خلع على طراد بن محمد الزينبي الملقب بالكامل نقابة الطالبيين، ولقب المرتضى.

وفيها: ضمن أبو إسحاق بن علاء اليهودي، ضياع الخليفة من صرصر إلى أواثى، كل سنة ستة وثمانين ألف دينار، وسبع عشرة ألف كر من غلة.

ولم يحج أحد من أهل العراق هذه السنة.

من الأعيان:

أحمد بن مروان أبو نصر الكردي

صاحب بلاد بكر وميافارقين، لقبه القادر نصر الدولة، وملك هذه البلاد ثنتين وخمسين سنة، وتنعم تنعما لم يقع لأحد من أهل زمانه، ولا أدركه فيه أحد من أقرانه، وكان عنده خمسمائة سرية سوى من يخدمهن، وعنده خمسمائة خادم، وكان عنده من المغنيات شيء كثير كل واحدة مشتراها خمسة آلاف دينار، وأكثر وكان يحضر في مجلسه من آلات اللهو والأواني ما يساوي مائتي ألف دينار، وتزوج بعدة من بنات الملوك، وكان كثير المهادنة للملوك، إذا قصده عدو أرسل إليه بمقدار ما يصالحه به، فيرجع عنه.

وقد أرسل إلى الملك طغرلبك بهدية عظيمة حين ملك العراق، من ذلك حبل من ياقوت كان لبني بويه اشتراه منهم بشيء كثير، ومائة ألف دينار، وغير ذلك، وقد وزر له أبو قاسم المغربي مرتين، ووزر له أيضا أبو نصر محمد بن محمد بن جرير، وكانت بلاده آمن البلاد، وأطيبها وأكثرها عدلا، وقد بلغه أن الطيور تجوع فتجمع في الشتاء من الحبوب التي في القرى فيصطادها الناس، فأمر بفتح الأهراء وإلقاء ما يكفيها من الغلات في مدة الشتاء، فكانت تكون في ضيافته طول الشتاء مدة عمره، توفي في هذه السنة وقد قارب الثمانين.

قال ابن خلكان: قال ابن الأزرق في (تاريخه): إنه لم يصادر أحدا من رعيته سوى رجل واحد، ولم تفته صلاة مع كثرة مباشرته للّذات، وكان له ثلاثمائة وستون حظية، يبيت عند كل واحد ليلة في السنة، وخلف أولادا كثيرة، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي في التاسع والعشرين من شوال منها.

ثم دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمائة

فيها: وردت الكتب الكثيرة من الملك طغرلبك يشكو من قلة إنصاف الخليفة، وعدم موافقته له، ويذكر ما أسداه إليه من الخير والنعم إلى ملوك الأطراف، وقاضي القضاة الدامغاني، فلما رأى الخليفة ذلك، وأن الملك أرسل إلى نوابه بالاحتياط على أموال الخليفة، كتب إلى الملك يجيبه إلى ما سأل، فلما وصل ذلك إلى الملك فرح فرحا شديدا، وأرسل إلى نوابه أن يطلقوا أملاك الخليفة، واتفقت الكلمة بعد أن كادت تتفرق، فوكل الخليفة في العقد.

فوقع العقد بمدينة تبريز بحضرة الملك طغرلبك، وعمل سماطا عظيما، فلما جيء بالوكلة قام لها الملك وقبل الأرض عند رؤيتها، ودعا للخليفة دعاء كثيرا، ثم أوجب العقد على صداق أربعمائة ألف دينار، وذلك في يوم الخميس الثالث عشر من شعبان من هذه السنة، ثم بعث ابنة أخيه الخاتون زوجة الخليفة في شوال بتحف كثيرة، وجوهر وذهب كثير، وجواهر عديدة ثمينة وهدايا عظيمة لأم العروس وأهلها، وقال الملك جهرة للناس: أنا عبد الخليفة ما بقيت، لا أملك شيئا سوى ما عليّ من الثياب.

وفيها: عزل الخليفة وزيره واستوزر أبا نصر محمد بن محمد بن جُهير، استقدمه من ميافارقين.

وفيها: عم الرخص جميع الأرض حتى بيع بالبصرة كل ألف رطل تمر بثمان قراريط.

ولم يحج فيها أحد.

من الأعيان:

ثمال بن صالح

معز الدولة، صاحب حلب، كان حليما كريما وقورا.

ذكر ابن الجوزي: أن الفراش تقدم إليه ليغسل يده فصدمت بلبلة الإبريق ثنيته فسقطت في الطست، فعفا عنه.

الحسن بن علي بن محمد أبو محمد الجوهري

ولد في شعبان سنة ثلاث وستين، وسمع الحديث على جماعة، وتفرد بمشايخ كثيرين، منهم أبو بكر بن مالك القطيعي، وهو آخر من حدث عنه، توفي في ذي القعدة منها.

الحسين بن أبي يزيد أبو على الدباغ

قال: رأيت رسول الله في المنام، فقلت: يا رسول الله أدع الله أن يميتني على الإسلام.

فقال: وعلى السنة.

سعد بن محمد بن منصور أبو المحاسن الجرجاني

كان رئيسا قديما، وجه رسولا إلى الملك محمود بن سبكتكين في حدود سنة عشر، وكان من الفقهاء العلماء، تخرج به جماعة وروى الحديث عن جماعة، وعقد له مجلس المناظرة ببلدان كثيرة، وقتل ظلما باستراباذ في رجب منها رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمائة

فيها: دخل السلطان طغرلبك بغداد، وعزم الخليفة على تلقيه، ثم ترك ذلك وأرسل وزيره أبا نصر عوضا عنه، وكان من الجيش أذية كثيرة للناس في الطريق، وتعرضوا للحريم حتى هجموا على النساء في الحمامات، فخلصهن منهم العامة بعد جهد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

دخول الملك طغرلبك على بنت الخليفة

لما استقر السلطان ببغداد، أرسل وزيره عميد الملك إلى الخليفة يطالبه بنقل ابنته إلى دار المملكة، فتمنع الخليفة من ذلك وقال: إنكم إنما سألتم أن يعقد العقد فقط بحصول التشريف والتزمتم لها بعود المطالبة.

فتردد الناس في ذلك بين الخليفة والملك، وأرسل الملك زيادة على النقد مائة ألف دينار ومائة وخمسين ألف درهم، وتحفا أخر، وأشياء لطيفة.

فلما كان ليلة الاثنين الخامس عشر من صفر زفت السيدة ابنة الخليفة إلى دار المملكة، فضربت لها السرادقات من دجلة إلى دار المملكة، وضربت الدبادب والبوقات عند دخولها إلى الدار، فلما دخلت أجلست على سرير مكلل بالذهب، وعلى وجهها برقع، ودخل الملك طغرلبك فوقف بين يديها فقبل الأرض، ولم تقم له ولم تره، ولم يجلس حتى انصرف إلى صحن الدار، والحجاب والأتراك يرقصون هناك فرحا وسرورا.

وبعث لها مع الخاتون زوجة الخليفة عقدين فاخرين، وقطعة ياقوت حمراء كبيرة هائلة، ودخل من الغد فقبل الأرض وجلس على سرير مكلل بالفضة بإزائها ساعة، ثم خرج وأرسل لها جواهر كثيرة ثمينة وفرجية نسج بالذهب مكلل بالحب، وما زال كذلك كل يوم يدخل ويقبل الأرض ويجلس على سرير بإزائها، ثم يخرج عنها ويبعث بالتحف والهدايا، ولم يكن منه إليها شيء مقدار سبعة أيام، ويمد كل يوم من هذه الأيام السبعة سماطا هائلا، وخلع في اليوم السابع على جميع الأمراء، ثم عرض له سفر واعتراه مرض، فاستأذن الخليفة في الانصراف بالسيدة معه إلى تلك البلاد، ثم يعود بها، فأذن له بعد تمنع شديد وحزن عظيم، فخرج بها وليس معها من دار الخلافة سوى ثلاث نسوة، برسم خدمتها، وقد تألمت والدتها لفقدها ألما شديدا، وخرج السلطان وهو مريض مدنف مأيوس منه.

فلما كانت ليلة الأحد الرابع والعشرين من رمضان جاء الخبر بأنه توفي في ثامن الشهر، فثار العيارون فقتلوا العميدي وسبعمائة من أصحابه، ونهبوا الأموال، وجعلوا يأكلون ويشربون على القتلى نهارا، حتى انسلخ الشهر وأخذت البيعة بعده لولد أخيه سليمان بن داود، وكان طغرلبك قد نص عليه وأوصى إليه، لأنه كان قد تزوج بأمه، واتفقت الكلمة عليه، ولم يبق عليه خوف إلا من جهة أخي سليمان، وهو الملك عضد الدولة ألب أرسلان، محمد بن داود، فإن الجيش كانوا يميلون إليه، وقد خطب له أهل الجبل ومعه نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق وزيره، ولما رأى الكندري قوة أمره خطب له بالري، ثم من بعده لأخيه سليمان بن داود.

وقد كان الملك طغرلبك حليما كثير الاحتمال، شديد الكتمان للسر، محافظا على الصلوات، وعلى صوم الاثنين والخميس، مواظبا على لبس البياض، وكان عمره يوم مات سبعين سنة، ولم يترك ولدا، وملك بحضرة القائم بأمر الله سبع سنين وإحدى عشر شهرا، واثني عشر يوما، ولما مات اضطربت الأحوال وانتقضت بعده جدا، وعاثت الأعراب في سواد بغداد وأرض العراق ينهبون، وتعذرت الزراعة إلا على المخاطرة، فانزعج الناس لذلك.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة بواسط وأرض الشام، فهدمت قطعة من سور طرابلس.

وفيها: وقع بالناس موتان بالجدري والفجأة، ووقع بمصر وباء شديد، كان يخرج منها كل يوم ألف جنازة.

وفيها: ملك الصليحي صاحب اليمن مكة، وجلب الأقوات إليها، وأحسن إلى أهلها.

وفي أوائلها طلبت الست أرسلان زوجة الخليفة النقلة من عنده إلى عمها، وذلك لما هجرها وبارت عنده، فبعثها مع الوزير الكندري إلى عمها، فلما وصلت إليه كان مريضا مدنفا، فأرسل إلى الخليفة يعتب عليه في تهاونه بها، فكتب الخليفة إليه ارتجالا:

ذهبت شرتي وولى الغرام ** وارتجاع الشباب ما لا يرام

أذهبت مني الليالي جديدا ** والليالي يضعفن والأيام

فعلى ما عهدته من شبابي ** وعلى الغانيات مني السلام

من الأعيان:

زهير بن علي بن الحسن بن حزام

أبو نصر الحزامي، ورد بغداد وتفقه على الشيخ أبي حامد الإسفرايني، وسمع بالبصرة سنن أبي داود على القاضي أبي عمر، وحدث بالكثير، وكان يرجع إليه في الفتاوى، وحل المشكلات، وكانت وفاته بسرخس فيها.

سعيد بن مروان صاحب آمد

ويقال: إنه سم، فانتقم صاحب ميا فارقين ممن سمه، فقطعه قطعا.

الملك أبو طالب

محمد بن ميكائيل بن سلجوق طغرلبك، كان أول ملوك السلاجقة، وكان خيرا مصليا، محافظا على الصلاة في أول وقتها، يديم صيام الاثنين والخميس، حليما عمن أساء إليه، كتوما للأسرار، سعيدا في حركاته، ملك في أيام مسعود بن محمود عامة بلاد خراسان، واستناب أخاه داود وأخاه لأمه إبراهيم بن ينال، وأولاد إخوته، على كثير من البلاد، ثم استدعاه الخليفة إلى ملك بغداد كما تقدم ذلك كله مبسوطا.

توفي في ثامن رمضان من هذه السنة، وله من العمر سبعون سنة، وكان له في الملك ثلاثون سنة، منها في ملك العراق ثمان سنين إلا ثمانية عشر يوما.

ثم دخلت سنة ست وخمسين وأربعمائة

فيها: قبض السلطان ألب أرسلان على وزير عمه عميد الملك الكندري، وسجنه ببيته ثم أرسل إليه من قتله، واعتمد في الوزارة على نظام الملك، وكان وزير صدق، يكرم العلماء والفقراء، ولما عصى الملك شهاب الدولة قتلمش، وخرج عن الطاعة، وأراد أخذ ألب أرسلان، خاف منه ألب أرسلان فقال له الوزير: أيها الملك لا تخف، فإني قد استدمت لك جندا ما بارزوا عسكرا إلا كسروه، كائنا ما كان.

قال له الملك: من هم؟

قال: جند يدعون لك وينصرونك بالتوجه في صلواتهم وخلواتهم، وهم العلماء والفقراء الصلحاء.

فطابت نفس الملك بذلك، فحين التقى مع قتلمش لم ينظره أن كسره، وقتل خلقا من جنوده، وقتل قتلمش في المعركة، واجتمعت الكلمة على ألب أرسلان.

وفيها: أرسل ولده ملكشاه ووزيره نظام الملك هذا في جنود عظيمة إلى بلاد الكرج، ففتحوا حصونا كثيرة، وغنموا أموالا جزيلة، وفرح المسلمون بنصرهم، وكتب كتاب ولده على ابنة الخان الأعظم صاحب ما وراء النهر وزفت إليه، وزوج ابنه الآخر بابنة صاحب غزنة، واجتمع شمل الملكين السلجوقي والمحمودي.

وفيها: أذن ألب أرسلان لابنة الخليفة في الرجوع إلى أبيها، وأرسل معها بعض القضاة والأمراء، فدخلت بغداد في تجمل عظيم، وخرج الناس لينظروا إليها، فدخلت ليلا، ففرح الخليفة وأهلها بذلك، وأمر الخليفة بالدعاء لألب أرسلان على المنابر في الخطب، فقيل في الدعاء: اللهم وأصلح السلطان المعظم، عضد الدولة، وتاج الملة، ألب أرسلان أبا شجاع محمد بن داود.

ثم أرسل الخليفة إلى الملك بالخلع والتقليد مع الشريف نقيب النقباء، طراد بن محمد، وأبي محمد التميمي، وموفق الخادم، واستقر أمر السلطان ألب أرسلان على العراق.

قال ابن الجوزي: وفي ربيع الأول شاع في بغداد أن قوما من الأكراد خرجوا يتصيدون، فرأوا في البرية خياما سودا، سمعوا بها لطما شديدا، وعويلا كثيرا، وقائلا يقول: قد مات سيدوك ملك الجن، وأي بلد لم يلطم به عليه، ولم يقم له مأتم فيه.

قال: فخرج النساء العواهر من حريم بغداد إلى المقابر يلطمن ثلاثة أيام، ويخرقن ثيابهن، وينشرن شعورهن، وخرج رجال من الفساق يفعلون ذلك، وفعل هذا بواسط وخوزستان وغيرها من البلاد، قال: وهذا من الحمق لم ينقل مثله.

قال ابن الجوزي: وفي يوم الجمعة ثاني عشر شعبان هجم قوم من أصحاب عبد الصمد على أبي علي بن الوليد، المدرس للمعتزلة، فسبوه وشتموه لامتناعه من الصلاة في الجامع، وتدريسه للناس بهذا المذهب، وأهانوه وجروه، ولعنت المعتزلة في جامع المنصور، وجلس أبو سعيد بن أبي عمامة وجعل يلعن المعتزلة.

وفي شوال ورد الخبر أن السلطان غزا بلدا عظيما فيه ستمائة ألف دنليز، وألف بيعة ودير، وقتل منهم خلقا كثيرا، وأسر خمسمائة ألف إنسان.

وفي ذي القعدة حدث بالناس وباء شديد ببغداد وغيرها من بلاد العراق.

وغلت أسعار الأدوية، وقل التمرهندي، وزاد الحر في تشارين، وفسد الهواء.

وفي هذا الشهر خلع على أبي الغنائم المعمر بن محمد بن عبيد الله العلوي بنقابة الطالبيين، وولاية الحج والمظالم، ولقب بالطاهر ذي المناقب، وقرئ تقليده في الموكب.

وحج أهل العراق في هذه السنة

من الأعيان:

ابن حزم الظاهري

هو الإمام الحافظ العلامة، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معد بن سفيان بن يزيد، مولى يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي، أصل جده من فارس، أسلم وخلف المذكور، وهو أول من دخل بلاد المغرب منهم، وكانت بلدهم قرطبة، فولد ابن حزم هذا بها في سلخ رمضان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، فقرأ القرآن واشتغل بالعلوم النافعة الشرعية، وبرز فيها وفاق أهل زمانه، وصنف الكتب المشهورة، يقال: إنه صنف أربعمائة مجلد في قريب من ثمانين ألف ورقة.

وكان أديبا طبيبا شاعرا فصيحا، له في الطب والمنطق كتب، وكان من بيت وزارة ورياسة، ووجاهة ومال وثروة، وكان مصاحبا للشيخ أبي عمر بن عبد البر النمري، وكان مناوئا للشيخ أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، وقد جرت بينهما مناظرات يطول ذكرها، وكان ابن حزم كثير الوقيعة في العلماء بلسانه وقلمه، فأورثه ذلك حقدا في قلوب أهل زمانه، ومازالوا به حتى بغضوه إلى ملوكهم، فطردوه عن بلاده، حتى كانت وفاته في قرية له في شعبان من هذه السنة وقد جاوز التسعين.

والعجب كل العجب منه أنه كان ظاهريا حائرا في الفروع، لا يقول بشيء من القياس لا الجلي ولا غيره، وهذا الذي وضعه عند العلماء، وأدخل عليه خطأ كبيرا في نظره وتصرفه، وكان مع هذا من أشد الناس تأويلا في باب الأصول، وآيات الصفات، وأحاديث الصفات، لأنه كان أولا قد تضلع من علم المنطق، أخذه عن محمد بن الحسن المذحجي الكناني القرطبي، ذكره ابن ماكولا وابن خلكان، ففسد بذلك حاله في باب الصفات.

عبد الواحد بن علي بن برهان

أبو القاسم النحوي، كان شرس الأخلاق جدا، لم يلبس سراويل قط، ولا غطى رأسه ولم يقبل عطاء لأحد، وذكر عنه أنه كان يقبل المردان من غير ريبة.

قال ابن عقيل: وكان على مذهب مرجئة المعتزلة وينفي خلود الكفار في النار، ويقول: دوام العقاب في حق من لا يجوز عليه التشفي لا وجه له، مع ما وصف الله به نفسه من الرحمة، ويتأول قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدا} 10 أي: أبدا من الآباد.

قال ابن الجوزي: وقد كان ابن برهان يقدح في أصحاب أحمد، ويخالف اعتقاد المسلمين لأنه قد خالف الإجماع، ثم ذكر كلامه في هذا وغيره، والله أعلم.

ثم دخلت سنة سبع وخمسين وأربعمائة

فيها: سار جماعة من العراق إلى الحج بخفارة، فلم يمكنهم المسير فعدلوا إلى الكوفة ورجعوا.

وفي ذي الحجة منها شرع في بناء المدرسة النظامية، ونقض لأجلها دور كثيرة من مشرعة الزوايا وباب البصرة.

وفيها: كانت حروب كثيرة بين تميم بن المعز بن باديس، وأولاد حماد، والعرب والمغاربة بصنهاجة وزناتة.

وحج بالناس من بغداد النقيب أبو الغنائم.

وفيها: كان مقتل عميد الملك الكندري، وهو منصور بن محمد أبو نصر الكندري، وزير طغرلبك، وكان مسجونا سنة تامة، ولما قتل حمل فدفن عند أبيه بقرية كندرة، من عمل طريثيث وليست بكندرة التي هي بالقرب من قزوين.

واستحوذ السلطان على أمواله وحواصله، وقد كان ذكيا فصيحا شاعرا، لديه فضائل جمة، حاضر الجواب سريعه.

ولما أرسله طغرلبك إلى الخليفة يطلب ابنته، وامتنع الخليفة من ذلك وأنشد متمثلا بقول الشاعر:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه **

فأجابه الوزير تمام قوله:

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

فسكت الخليفة وأطرق.

قتل عن نيف وأربعين سنة.

ومن شعره قوله:

إن كان في الناس ضيق عن منافستي ** فالموت قد وسع الدنيا على الناس

مضيت والشامت المغبون يتبعني ** كل لكاس المنايا شاربٌ حاسي

وقد بعثه الملك طغرلبك يخطب له امرأة خوارزم شاه فتزوجها هو، فخصاه الملك، وأمره على عمله فدفن ذكره بخوارزم، وسفح دمه حين قتل بمروالروذ، ودفن جسده بقريته، وحمل رأسه فدفن بنيسابور، ونقل قحف رأسه إلى كرمان، وأنا أشهد أن الله جامع الخلائق إلى ميقات يوم معلوم، أين كانوا وحيث كانوا، وعلى أي صفة كانوا، وعلى أي صفة كانوا سبحانه وتعالى.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة

في يوم عاشوراء أغلق أهل الكرخ دكاكينهم وأحضروا نساء ينحن على الحسين، كما جرت به عادتهم السالفة في بدعتهم المتقدمة المخالفة، فحين وقع ذلك أنكرته العامة، وطلب الخليفة أبا الغنائم وأنكر عليه ذلك.

فاعتذر إليه بأنه لم يعلم به، أنه حين علم أزاله، وتردد أهل الكرخ إلى الديوان يعتذرون من ذلك، وخرج التوقيع بكفر من سب الصحابة وأظهر البدع.

قال ابن الجوزي: في ربيع الأول ولد بباب الأزج صبية لها رأسان ووجهان ورقبتان وأربع أيد، على بدن كامل ثم ماتت.

قال: وفي جمادى الآخرة كانت بخراسان زلزلة مكثت أياما، تصدعت منها الجبال، و هلك جماعة، وخسف بعدة قرى، وخرج الناس إلى الصحراء وأقاموا هنالك.

ووقع حريق بنهر معلى فاحترق مائة دكان وثلاثة دور، وذهب للناس شيء كثير، ونهب بعضهم بعضا.

قال ابن الجوزي: وفي شعبان وقع قتال بدمشق فأحرقوا دارا كانت قريبة من الجامع، فاحترق جامع دمشق.

كذا قال ابن الجوزي: والصحيح المشهور أن حريق جامع دمشق إنما هو في ليلة النصف من شعبان سنة إحدى وستين وأربعمائة بعد ثلاث سنين مما قال، وأن غلمان الفاطميين اقتتلوا مع غلمان العباسيين فألقيت نار بدار الإمارة، وهي الخضراء، فاحترقت وتعدى حريقها حتى وصل إلى الجامع فسقطت سقوفه، وبادت زخرفته، وتلف رخامه، وبقي كأنه خربة، وبادت الخضراء فصارت كوما من تراب بعد ما كانت في غاية الإحكام والإتقان، وطيب الفناء، ونزهة المجالس، وحسن المنظر، فهي إلى يومنا هذا لا يسكنها لرداءة مكانها إلا سفلة الناس وأسقاطهم، بعد ما كانت دار الخلافة والملك والإمارة، منذ أسسها معاوية بن أبي سفيان.

وأما الجامع الأموي فإنه لم يكن على وجه الأرض شيء أحسن منه، ولا أبهى منظرا، إلى أن احترق فبقي خرابا مدة طويلة ثم شرع الملوك في تجديده وترميمه، حتى بلط في زمن العادل أبي بكر بن أيوب، ولم يزالوا في تحسين معالمه إلى زماننا هذا، فتماثل وهو بالنسبة إلى حاله الأول كلا شيء، ولا زال التحسين فيه إلى أيام الأمير سيف الدين بتكنزين عبد الله الناصري، في حدود سنة ثلاث وسبعمائة، وما قبلها وما بعدها بيسير.

وفيها: رخصت الأسعار ببغداد رخصا كثيرا، ونقصت دجلة نقصا بينا.

وفيها: أخذ الملك ألب أرسلان العهد بالملك من بعده لولده ملكشاه، ومشى بين يديه بالغاشية، والأمراء يمشون بين يديه، و كان يوما مشهودا.

وحج بالناس فيها نور الهدى أبو طالب الحسين بن نظام الحضرتين الزينبي، وجاور بمكة.

وفيها توفي من الأعيان:

الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي

أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى أبو بكر البيهقي، له التصانيف التي سارت بها الركبان إلى سائر الأمصار، ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وكان أوحد أهل زمانه في الإتقان والحفظ والفقه والتصنيف، كان فقيها محدثا أصوليا، أخذ العلم عن الحاكم أبي عبد الله النيسابوري، وسمع على غيره شيئا كثيرا، وجمع أشياء كثيرة نافعة، لم يسبق إلى مثلها، ولا يدرك فيها، منها: كتاب (السنن الكبير)، و(نصوص الشافعي)، كل في عشر مجلدات، و(السنن الصغير)، و(الآثار)، و(المدخل)، و(الآداب)، و(شعب الإيمان)، و(الخلافيات)، و(دلائل النبوة)، و(البعث والنشور).

وغير ذلك من المصنفات الكبار والصغار المفيدة التي لا تسامى ولا تدانى، وكان زاهدا متقللا من الدنيا، كثير العبادة والورع، توفي بنيسابور، ونقل تابوته إلى بيهق في جمادى الأولى منها.

الحسن بن غالب ابن علي بن غالب بن منصور بن صعلوك

أبو علي التميمي، ويعرف بابن المبارك المقري، صحب ابن سمعون، وقرأ القرآن على حروف أنكرت عليه، وجرب عليه الكذب، إما عمدا وإما خطأ، واتهم في رواية كثيرة، وكان أبو بكر القزويني ممن ينكر عليه، وكتب عليه محضر بعدم الإقراء بالحروف المنكرة.

قال أبو محمد السمرقندي: كان كذابا.

توفي فيها عن ثنتين وثمانين سنة، ودفن عند إبراهيم الحربي.

قال ابن خلكان: أخذ الفقه عن أبي الفتح نصر بن محمد العمري المروزي، ثم غلب عليه الحديث واشتهر به، ورحل في طلبه.

القاضي أبو يعلي بن الفرا الحنبلي

محمد بن الحسن بن محمد بن خلف بن أحمد الفرا القاضي، أبو يعلى شيخ الحنابلة، وممهد مذهبهم في الفروع، ولد في محرم سنة ثمانين وثلاثمائة، وسمع الحديث الكثير، وحدث عن ابن حبابة.

قال ابن الجوزي: وكان من سادات العلماء الثقات، وشهد عند ابن ماكولا وابن الدامغاني فقبلاه، وتولى النظر في الحكم بحريم الخلافة، وكان إماما في الفقه، له التصانيف الحسان الكثيرة في مذهب أحمد، ودرس وأفتى سنين، وانتهت إليه رياسة المذهب، وانتشرت تصانيفه وأصحابه.

وجمع الإمامة والفقه والصدق، وحسن الخلق، والتعبد والتقشف والخشوع، وحسن السمت والصمت عما لا يعني، توفي في العشرين من رمضان منها عن ثمان وسبعين سنة، واجتمع في جنازته القضاة والأعيان، وكان يوما حارا، فأفطر بعض من اتبع جنازته.

وترك من البنين عبيد الله أبا القاسم، وأبا الحسين، وأبا حازم، ورآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك؟

فقال: رحمني وغفر لي وأكرمني، ورفع منزلتي، وجعل يعد ذلك بأصبعه.

فقال: بالعلم؟

فقال: بل بالصدق.

ابن سيده

صاحب المحكم في اللغة أبو الحسين علي بن سماعيل المرسي.

كان إماما حافظا في اللغة، وكان ضرير البصر، أخذ علم العربية واللغة عن أبيه، وكان أبوه ضريرا أيضا، واشتغل على أبي العلاء صاعد البغدادي، وله (المحكم) في مجلدات عديدة، وله (شرح الحماسة) في ست مجلدات، وغير ذلك.

وقرأ على الشيخ أبي عمر الطملنكي كتاب (الغريب) لأبي عبيد سردا من حفظه، فتعجب الناس لذلك، وكان الشيخ يقابل بما يقرأ في الكتاب، فسمع الناس بقراءته من حفظه.

توفي في ربيع الأول منها، وله ستون سنة، وقيل: إنه توفي في سنة ثمان وأربعين، والأول أصح، والله أعلم.

ثم دخلت سنة تسع وخمسين وأربعمائة

فيها: بنى أبو سعيد المستوفي الملقب بشرف الملك، مشهد الإمام أبي حنيفة ببغداد، وعقد عليه قبة، وعمل بإزائه مدرسة، فدخل أبو جعفر بن البياضي زائرا لأبي حنيفة فأنشد:

ألم تر العلم كان مضيعا ** فجمعه هذا المغيب في اللحد

كذلك كانت هذه الأرض ميتة ** فأنشرها جود العميد أبي السعد

وفيها: هبت ريح حارة فمات بسببها خلق كثير، وورد أن ببغداد تلف شجر كثير من الليمون والأترج.

وفيها: احترق قبر معروف الكرخي، وكان سببه أن القيم طبخ له ماء الشعير لمرضه فتعدت النار إلى الأخشاب فاحترق المشهد.

وفيها: وقع غلاء وفناء بدمشق وحلب وحران، وأعمال خراسان بكمالها، ووقع الفناء في الدواب: كانت تنتفخ رؤسها وأعينها حتى كان الناس يأخذون حمر الوحش بالأيدي، وكانوا يأنفون من أكلها.

قال ابن الجوزي في (المنتظم): وفي يوم السبت عاشر ذي القعدة جمع العميد أبو سعد الناس ليحضروا الدرس بالنظامية ببغداد، وعين لتدريسها ومشيختها الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، فلما تكامل اجتماع الناس وجاء أبو إسحاق ليدرس لقيه فقيه شاب فقال: يا سيدي تذهب تدرس في مكان مغصوب؟

فامتنع أبو إسحاق من الحضور ورجع إلى بيته، فأقيم الشيخ أبو نصر الصباغ فدرس، فلما بلغ نظام الملك ذلك تغيظ على العميد وأرسل إلى الشيخ أبي إسحاق فرده إلى التدريس بالنظامية، في ذي الحجة من هذه السنة، وكان لا يصلي فيها مكتوبة، بل كان يخرج إلى بعض المساجد فيصلي، لما بلغه من أنها مغصوبة، وقد كان مدة تدريس ابن الصباغ فيها عشرين يوما، ثم عاد أبو إسحاق إليها.

وفي ذي القعدة من هذه السنة قتل الصليحي أمير اليمن وصاحب مكة، قتله بعض أمراء اليمن، وخطب للقائم بأمر الله العباسي.

وفيها حج بالناس أبو الغنائم النقيب.

من الأعيان:

محمد بن إسماعيل بن محمد أبو علي الطرسوسي

ويقال له: العراقي، لظرفه وطول مقامه بها، سمع الحديث من أبي طاهر المخلص، وتفقه على أبي محمد الباقي، ثم على الشيخ أبي حامد الإسفرايني، وولي قضاء بلدة طرسوس، وكان من الفقهاء الفضلاء المبرزين.

ثم دخلت سنة ستين وأربعمائة

قال ابن الجوزي: في جمادى الأولى كانت زلزلة بأرض فلسطين، أهلكت بلد الرملة، ورمت شراريف من مسجد رسول الله ، ولحقت وادي الصفر وخيبر، وانشقت الأرض عن كنوز كثيرة من المال، وبلغ حسها إلى الرحبة والكوفة.

وجاء كتاب بعض التجار فيه ذكر هذه الزلزلة وذكر فيه أنها خسفت الرملة جميعا حتى لم يسلم منها إلا داران فقط، وهلك منها خمس عشرة ألف نسمة، وانشقت صخرة بيت المقدس، ثم عادت فالتأمت، وغار البحر مسيرة يوم، وساخ في الأرض وظهر في مكان الماء أشياء من جواهر وغيرها، ودخل الناس في أرضه يلتقطون، فرجع عليهم فأهلك كثيرا منهم أو أكثرهم.

وفي يوم النسف من جمادى الآخرة قرئ الاعتقاد القادري الذي فيه مذهب أهل السنة، والإنكار على أهل البدع، وقرأ أبو مسلم الكجي البخاري المحدث كتاب (التوحيد) لابن خزيمة على الجماعة الحاضرين.

وذكر بمحضر من الوزير ابن جهير وجماعة الفقهاء وأهل الكلام، واعترفوا بالموافقة، ثم قرئ الاعتقاد القادري على الشريف أبي جعفر بن المقتدي بالله بباب البصرة، وذلك لسماعه له من الخليفة القادر بالله مصنفه.

وفيها: عزل الخليفة وزيره أبا نصر محمد بن محمد بن جهير، الملقب فخر الدولة، وبعث إليه يعاتبه في أشياء كثيرة، فاعتذر منها وأخذ في الترفق والتذلل، فأجيب بأن يرحل إلى أي جهة شاء، فاختار ابن مزيد فباع أصحابه أملاكهم وطلقوا نساءهم وأخذ أولاده وأهله، وجاء ليركب في سفينة لينحدر منها إلى الحلة، والناس يتباكون حوله لبكائه، فلما اجتاز بدار الخلافة قبّل الأرض دفعات والخليفة في الشباك، و الوزير يقول: يا أمير المؤمنين ارحم شيبتي وغربتي وأولادي.

فأعيد إلى الوزارة بشفاعة دبيس بن مزيد في السنة الآتية، وامتدحه الشعراء، وفرح الناس برجوعه إلى الوزارة، وكان يوما مشهودا.

وفيها توفي من الأعيان:

عبد الملك بن محمد بن يوسف بن منصور

الملقب بالشيخ الأجل، كان أوحد زمانه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمبادرة إلى فعل الخيرات، واصطناع الأيادي عند أهلها من أهل السنة، مع شدة القيام على أهل البدع ولعنهم، وافتقاد المستورين بالبر والصدقة، وإخفاء ذلك جهده وطاقته.

ومن غريب ما وقع له أنه كان يصل إنسانا في كل يوم بعشرة دنانير، كان يكتب بها معه إلى ابن رضوان، فلما توفي الشيخ جاء الرجل إلى ابن رضوان فقال: ادفع إلى ما كان يصرف لي الشيخ.

فقال له ابن رضوان: إنه قد مات ولا أصرف لك شيئا.

فجاء الرجل إلى قبر الشيخ الأجل فقرأ شيئا من القرآن، ودعا له وترحم عليه، ثم التفت فإذا هو بكاغد فيه عشرة دنانير، فأخذها وجاء بها إلى ابن رضوان فذكر له ما جرى له، فقال: هذه سقطت مني اليوم عند قبره فخذها ولك عندي في كل يوم مثلها.

توفي في نصف المحرم منها عن خمس وستين سنة، وكان يوم موته يوما مشهودا، حضره خلق لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل، فرحمه الله تعالى.

أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي

فقيه الشيعة، ودفن في مشهد علي، و كان مجاورا به حين أحرقت داره بالكرخ، وكتبه، سنة ثمان وأربعين إلى محرم هذه السنة فتوفي ودفن هناك.

ثم دخلت سنة إحدى وستين وأربعمائة

في ليلة النصف من شعبان منها كان حريق جامع دمشق، وكان سببه أن غلمان الفاطميين والعباسيين اختصموا فألقيت نار بدار الملك، وهي الخضراء المتاخمة للجامع من جهة القبلة، فاحترقت، وسرى الحريق إلى الجامع فسقطت سقوفه وتناثرت فصوصه المذهبة، وتغيرت معالمه، وتقلعت الفسيفساء التي كانت في أرضه وعلى جدرانه، وتبدلت بضدها، وقد كانت سقوفه مذهبة كلها، والجملونات من فوقها، وجدرانه مذهبة ملونة مصور فيها جميع بلاد الدنيا، بحيث إن الإنسان إذا أراد أن يتفرج في إقليم أو بلد وجده في الجامع مصورا كهيئته، فلا يسافر إليه ولا يعنى في طلبه.

فقد وجده من قرب الكعبة ومكة فوق المحراب والبلاد كلها شرقا وغربا، كل إقليم في مكان لائق به، ومصور فيه كل شجرة مثمرة وغير مثمرة، مصور مشكل في بلدانه وأوطانه، والستور مرخاة على أبوابه النافذة إلى الصحن، وعلى أصول الحيطان إلى مقدار الثلث منها ستور، وباقي الجدران بالفصوص الملونة، وأرضه كلها بالفصوص، ليس فيها بلاط، بحيث إنه لم يكن في الدنيا بناء أحسن منه، لا قصور الملوك ولا غيرها.

ثم لما وقع هذا الحريق فيه تبدل الحال الكامل بضده، وصارت أرضه طينا في زمن الشتاء، وغبارا في زمن الصيف، محفورة مهجورة، ولم يزل كذلك حتى بلط في زمن العادل أبي بكر بن أيوب، بعد الستمائة سنة من الهجرة، وكان جميع ما سقط منه من الرخام والفصوص والأخشاب وغيرها، مودعا في المشاهد الأربعة، حتى فرغها من ذلك كمال الدين الشهرزوري، في زمن العادل نور الدين محمود بن زنكي، حين ولاه نظره مع القضاء ونظر الأوقاف كلها، ونظر دار الضرب وغير ذلك.

ولم تزل الملوك تجدد في محاسنه إلى زماننا هذا، فتقارب حاله في زمن تنكيز نائب الشام، وقد تقدم أن ابن الجوزي أرخ ما ذكرنا في سنة ثمان وخمسين، وتبعه ابن الساعي أيضا في هذه السنة، وكذلك شيخنا الذهبي مؤرخ الإسلام، وغير واحد، والله أعلم.

وفيها: نقمت الحنابلة على الشيخ أبي الوفا بن عقيل، وهو من كبرائهم، بتردده إلى أبي علي بن الوليد المتكلم المعتزلي، واتهموه بالاعتزال، وإنما كان يتردد إليه ليحيط علما بمذهبه، ولكن شرقه الهوى فشرق شرقة كادت روحه تخرج معها، وصارت فيه نزعة منه، وجرت بينه وبينهم فتنة طويلة وتأذى بسببها جماعة منهم، وما سكنت الفتنة بينهم إلى سنة خمس وستين، ثم اصطلحوا فيما بينهم، بعد اختصام كبير.

وفيها: زادت دجلة على إحدى وعشرين ذراعا حتى دخل الماء مشهد أبي حنيفة.

وفيها: ورد الخبر بأن الأفشين دخل بلاد الروم حتى انتهى إلى غورية، فقتل خلقا وغنم أموالا كثيرة.

وفيها: كان رخص عظيم في الكوفة حتى بيع السمك كل أربعين رطلا بحبة.

وفيها حج بالناس أبو الغنائم العلوي.

من الأعيان:

الفوراني

صاحب (الإبانة) أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران الفوراني، المروزي، أحد أئمة الشافعية، ومصنف (الإبانة) التي فيها من النقول الغريبة والأقوال والأوجه التي لا توجد إلا فيها.

كان بصيرا بالأصول والفروع، أخذ الفقه عن القفال، وحضر إمام الحرمين عنده وهو صغير، فلم يلتفت إليه، فصار في نفسه منه، فهو يخطئه كثيرا في (النهاية).

قال ابن خلكان: فمتى قال في (النهاية): وقال بعض المصنفين كذا وغلط في ذلك وشرع في الوقوع فيه فمراده أبو القاسم الفوراني.

توفي الفوراني في رمضان منها بمرو، عن ثلاث وسبعين سنة، وقد كتب تلميذه أبو سعد عبد الرحمن بن محمد المأمون المعري المدرس بالنظامية بعد أبي إسحاق وقبل ابن الصباغ، وبعده أيضا، كتابا على الإبانة، فسماه (تتمة الإبانة)، انتهى فيه إلى كتاب الحدود، ومات قبل إتمامه.

فتممه أسعد العجلي، وغيره لم يلحقوا شأوه ولا حاموا حوله، وسموه (تتمة التتمة).

ثم دخلت سنة اثنتين وستين وأربعمائة

قال ابن الجوزي: فمن الحوادث فيها أنه كان على ثلاث ساعات في يوم الثلاثاء الحادي عشر من جمادى الأولى، وهو ثامن عشرين آذار، كانت زلزلة عظيمة بالرملة وأعمالها، فذهب أكثرها وانهدم سورها، وعم ذلك بيت المقدس ونابلس، وانخسفت إيليا، وجفل البحر حتى انكشفت أرضه، ومشى ناس فيه، ثم عاد وتغير، وانهدم إحدى زوايا جامع مصر، وتبعت هذه الزلزلة في ساعتها زلزلتان أخريان.

وفيها: توجه ملك الروم من قسطنطينية إلى الشام في ثلاثمائة ألف مقاتل، فنزل على منبج وأحرق القرى ما بين منبج إلى أرض الروم، وقتل رجالهم وسبى نساءهم وأولادهم، وفزع المسلمون بحلب وغيرها منه فزعا عظيما، فأقام ستة عشر يوما ثم رده الله خاسئا وهو حسير، وذلك لقلة ما معهم من الميرة وهلاك أكثر جيشه بالجوع، ولله الحمد والمنة.

وفيها: ضاقت النفقة على أمير مكة، فأخذ الذهب من أستار الكعبة والميزاب وباب الكعبة، فضرب ذلك دراهم ودنانير، وكذا فعل صاحب المدينة بالقناديل التي في المسجد النبوي.

وفيها: كان غلاء شديد بمصر فأكلوا الجيف والميتات والكلاب، فكان يباع الكلب بخمسة دنانير، وماتت الفيلة فأكلت ميتاتها، وأفنيت الدواب فلم يبق لصاحب مصر سوى ثلاثة أفراس، بعد أن كان له العدد الكثير من الخيل والدواب، ونزل الوزير يوما عن بغلته، فغفل الغلام عنها لضعفه من الجوع، فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها وأكلوها، فأخذوا فصلبوا فما أصبحوا إلا وعظامهم بادية، قد أخذ الناس لحومهم فأكلوها.

وظهر على رجل يقتل الصبيان والنساء، ويدفن رؤسهم وأطرافهم، ويبيع لحومهم، فقتل وأكل لحمه.

وكانت الأعراب يقدمون بالطعام يبيعونه في ظاهر البلد، لا يتجاسرون يدخلون لئلا يخطف وينهب منهم، وكان لا يجسر أحد أن يدفن ميته نهارا، وإنما يدفنه ليلا خفية، لئلا ينبش فيؤكل.

واحتاج صاحب مصر حتى باع أشياء من نفائس ما عنده، من ذلك إحدى عشر ألف درع، وعشرون ألف سيف محلى، وثمانون ألف قطعة بلور كبار، وخمسة وسبعون ألف قطعة من الديباج القديم، وبيعت ثياب النساء والرجال وغير ذلك بأرخص ثمن، وكذلك الأملاك وغيرها، وقد كان بعض هذه النفائس للخليفة، مما نهب من بغداد في وقعة البساسيري.

وفيها: وردت التقادم من الملك ألب أرسلان إلى الخليفة.

وفيها اسم ولي العهد ابن الخليفة على الدنانير والدراهم، ومنع التعامل بغيرها، وسمي المضروب عليه الأميري.

وفيها: ورد كتاب صاحب مكة إلى الملك ألب أرسلان وهو بخراسان يخبره بإقامة الخطبة بمكة للقائم بأمر الله وللسلطان، وقطع خطبة المصريين، فأرسل إليه بثلاثين ألف دينار وخلعة سنية، وأجرى له في كل سنة عشرة آلاف دينار.

وفيها: تزوج عميد الدولة ابن جهير بابنة نظام الملك بالري.

وحج بالناس أبو الغنائم العلوي.

وفيها توفي من الأعيان و المشاهير:

الحسن بن علي ابن محمد أبو الجوائز الواسطي

سكن بغداد دهرا طويلا، وكان شاعرا أديبا ظريفا، ولد سنة ثنتين وخمسين وثلاثمائة، ومات في هذه السنة عن مائة وعشر سنين.

ومن مستجاد شعره قوله:

واحسرتي من قولها ** قد خان عهدي ولها

وحق من صيرني ** وقفا عليها ولها

ما خطرت بخاطري ** إلا كستني ولها

محمد بن أحمد بن سهل

المعروف بابن بشران النحوي الواسطي، ولد سنة ثمانين وثلاثمائة، وكان عالما بالأدب، وانتهت إليه الرحلة في اللغة، وله شعر حسن، فمنه قوله:

يا شائدا للقصور مهلا ** أقصر فقصر الفتى الممات

لم يجتمع شمل أهل قصر ** إلا قصارهم الشتات

وإنما العيش مثل ظل ** منتقل ماله ثبات

وقوله:

ودعتهم ولي الدنيا مودعة ** ورحت مالي سوى ذكراهم وطر

وقلت يا لذتي بيني لبينهم ** كأن صفو حياتي بعدهم كدر


لولا تعلل قلبي بالرجاء لهم ** ألفيته إن حدوا بالعيس ينفطر

يا ليت عيسهم يوم النوى نحرت ** أوليتها للضواري بالفلا جزر

يا ساعة البين أنت الساعة اقتربت ** يا لوعة البين أنت النار تستعر

وقوله:

طلبت صديقا في البرية كلها ** فأعيا طلابي أن أصيب صديقا

بلى من سمي بالصديق مجازه ** ولم يك في معنى الوداد صدوقا

فطلقت ود العالمين ثلاثة ** وأصبحت من أسر الحفاظ طليقا

ثم دخلت سنة ثلاث وستين وأربعمائة

وفيها: أقبل ملك الروم أرمانوس في جحافل أمثال الجبال من الروم والكرج والفرنج، وعدد عظيم وعدد، ومعه خمسة وثلاثون ألفا من البطارقة، مع كل بطريق مائتا ألف فارس، ومعه من الفرنج خمسة وثلاثون ألفا، ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية خمسة عشر ألفا، ومعه مائة ألف نقاب وحفار، وألف روزجاري، ومعه أربعمائة عجلة تحمل النعال والمسامير، وألفا عجلة تحمل السلاح والسروج والغردات والمناجيق، منها منجنيق عدة ألف ومائتا رحل.

ومن عزمه قبحه الله أن يبيد الإسلام وأهله، وقد أقطع بطارقته البلاد حتى بغداد، واستوصى نائبها بالخليفة خيرا، فقال له: ارفق بذلك الشيخ فإنه صاحبنا، ثم إذا استوثقت ممالك العراق وخراسان لهم مالوا على الشام وأهله ميلة واحدة، فاستعادوه من أيدي المسلمين، والقدر يقول: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} 11.

فالقتاه السلطان ألب أرسلان في جيشه وهم قريب من عشرين ألفا، بمكان يقال له: الزهوة، في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة، وخاف السلطان من كثرة جند ملك الروم، فأشار عليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري بأن يكون وقت الوقعة يوم الجمعة بعد الزوال حين يكون الخطباء يدعون للمجاهدين، فلما كان ذلك الوقت وتواقف الفريقان وتواجه الفتيان، نزل السلطان عن فرسه وسجد لله عز وجل، ومرغ وجهه في التراب ودعا الله واستنصره، فأنزل نصره على المسلمين، ومنحهم أكتافهم، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأسر ملكهم أرمانوس، أسره غلام رومي، فلما أوقف بين يدي الملك ألب أرسلان ضربه بيده ثلاث مقارع وقال: لو كنت أنا الأسير بين يديك ما كنت تفعل؟

قال: كل قبيح.

قال: فما ظنك بي؟

فقال: إما أن تقتل وتشهرني في بلادك، وإما أن تعفو وتأخذ الفداء وتعيدني.

قال: ما عزمت على غير العفو والفداء.

فافتدى نفسه منه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار.

فقام بين يدي الملك وسقاه شربة من ماء، وقبل الأرض بين يديه، وقبل الأرض إلى جهة الخليفة إجلالا وإكراما، وأطلق له الملك عشرة آلاف دينار ليتجهز بها، وأطلق معه جماعة من البطارقة، وشيعه فرسخا، وأرسل معه جيشا يحفظونه إلى بلاده، ومعهم راية مكتوب عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

فلما انتهى إلى بلاده وجد الروم قد ملكوا عليهم غيره، فأرسل إلى السلطان يعتذر إليه، وبعث من الذهب والجواهر ما يقارب ثلاثمائة ألف دينار، وتزهد ولبس الصوف ثم استغاث بملك الأرمن، فأخذه وكحله وأرسله إلى السلطان يتقرب إليه بذلك.

وفيها: خطب محمود بن مرداس للقائم وللسلطان ألب أرسلان، فبعث إليه الخليفة بالخلع والهدايا والتحف، والعهد مع طراد.

وفيها: حج بالناس أبو الغنائم العلوي، وخطب بمكة للقائم، وقطعت خطبة المصريين منها، وكان يخطب لهم فيها من نحو مائة سنة، فانقطع ذلك.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن علي ابن ثابت بن أحمد بن مهدي

أبو بكر الخطيب البغدادي، أحد مشاهير الحفاظ، وصاحب (تاريخ بغداد) وغيره من المصنفات العديدة المفيدة، نحو من ستين مصنفا، ويقال: بل مائة مصنف، فالله أعلم.

ولد سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وقيل: سنة ثنتين وتسعين، وأول سماعه سنة ثلاث وأربعمائة، ونشأ ببغداد، وتفقه على أبي طالب الطبري وغيره من أصحاب الشيخ أبي حامد الإسفرايني وسمع الحديث الكثير، ورحل إلى البصرة ونيسابور وأصبهان وهمذان والشام والحجاز.

وسمي الخطيب لأنه كان يخطب بدرب ريحان، وسمع بمكة على القاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي، وقرأ (صحيح البخاري) على كريمة بنت أحمد في خمسة أيام، ورجع إلى بغداد وحظي عند الوزير أبي القاسم بن مسلمة، ولما ادعى اليهود الخيابرة أن معهم كتابا نبويا فيه إسقاط الجزية عنهم، أوقف ابن مسلمة الخطيب على هذا الكتاب.

فقال: هذا كذب.

فقال له: وما الدليل على كذبه؟

فقال: لأن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يوم خيبر، وقد كانت خيبر في سنة سبع من الهجرة، وإنما أسلم معاوية يوم الفتح، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات قبل خيبر عام الخندق سنة خمس.

فأعجب الناس ذلك.

وقد سبق الخطيب إلى هذا النقل سبقه محمد بن جرير كما ذكرت ذلك في مصنف مفرد، ولما وقعت فتنة البساسيري ببغداد سنة خمسين خرج الخطيب إلى الشام فأقام بدمشق بالمأذنة الشرقية من جامعها، وكان يقرأ على الناس الحديث، وكان جهوري الصوت، يسمع صوته من أرجاء الجامع كلها.

فاتفق أنه قرأ على الناس يوما فضائل العباس فثار عليه الروافض من أتباع الفاطميين، فأرادوا قتله فتشفع بالشريف الزينبي فأجاره، وكان مسكنه بدار العقيقي، ثم خرج من دمشق فأقام بمدينة صور، فكتب شيئا كثيرا من مصنفات أبي عبد الله الصوري بخطه كان يستعيرها من زوجته، فلم يزل مقيما بالشام إلى سنة ثنتين وستين، ثم عاد إلى بغداد فحدث بأشياء من مسموعاته.

وقد كان سأل الله أن يملك ألف دينار، وأن يحدث بالتاريخ بجامع المنصور، فملك ألف دينار أو ما يقاربها ذهبا، وحين احتضر كان عنده قريب من مائتي دينار، فأوصى بها لأهل الحديث، وسأل السلطان أن يمضي ذلك، فإنه لا يترك وارثا، فأجيب إلى ذلك.

وله مصنفات كثيرة مفيدة، منها كتاب (التاريخ)، وكتاب (الكفاية)، و(الجامع)، و(شرف أصحاب الحديث)، و(المتفق والمفترق)، و(السابق واللاحق)، و(تلخيص المتشابه في الرسم)، و(فضل الوصل)، و(رواية الآباء عن الأبناء)، و(رواية الصحابة عن التابعين)، و(اقتضاء العلم للعمل)، و(الفقيه والمتفقه)، وغير ذلك.

وقد سردها ابن الجوزي في (المنتظم).

قال: ويقال: إن هذه المصنفات أكثرها لأبي عبد الله الصوري، أو ابتدأها فتممها الخطيب، وجعلها لنفسه، وقد كان الخطيب حسن القراءة فصيح اللفظ عارفا بالأدب يقول الشعر، وكان أولا يتكلم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، فانتقل عنه إلى مذهب الشافعي، ثم صار يتكلم في أصحاب أحمد ويقدح فيهم ما أمكنه، وله دسائس عجيبة في ذمهم.

ثم شرع ابن الجوزي ينتصر لأصحاب أحمد ويذكر مثالب الخطيب ودسائسه، وما كان عليه من محبة الدنيا والميل إلى أهلها بما يطول ذكره، وقد أورد ابن الجوزي من شعره قصيدة جيدة المطلع حسنة المنزع أولها قوله:

لعمرك ما شجاني رسم دار ** وقفت به ولا رسم المغاني

ولا أثر الخيام أراق دمعي ** لأجل تذكري عهد الغواني

ولا ملك الهوى يوما قيادي ** ولا عاصيته فثنى عناني

ولم أطمعه فيّ وكم قتيل ** له في الناس ما تحصى دعاني

عرفت فعاله بذوي التصابي ** وما يلقون من ذل الهوان

طلبت أخا صحيح الود محظى ** سليم الغيب محفوظ اللسان

فلم أعرف من الإخوان إلا ** نفاقا في التباعد والتداني

وعالم دهرنا لا خير فيهم ** ترى صورا تروق بلا معاني

ووصف جميعهم هذا فما أن ** أقول سوى فلان أو فلان

ولما لم أجد حرا يواتى ** على ما ناب من صرف الزمان

صبرت تكرما لقراع دهري ** ولم أجزع لما منه دهاني

ولم أك في الشدائد مستكينا ** أقول لها ألا كفي كفاني

ولكني صليب العود عود ** ربيط الجأش مجتمع الجنان

أبي النفس لا أختار رزقا ** يجيء بغير سيفي أو سناني

فعز في لظى باغيه يهوى ** ألذ من المذلة في الجنان

وقد ترجمه ابن عساكر في (تاريخه) ترجمة حسنة كعادته وأورد له من شعره قوله:

لا يغبطن أخا الدنيا لزخرفها ** ولا للذة عيش عجلت فرحا

فالدهر أسرع شيء في تقلبه ** وفعله بيّن للخلق قد وضحا

كم شارب عسلا فيه منيته ** وكم مقلد سيفا من قربه ذبحا

توفي يوم الاثنين ضحى من ذي الحجة منها، وله ثنتان وسبعون سنة، في حجرة كان يسكنها بدرب السلسلة، جوار المدرسة النظامية، واحتفل الناس بجنازته، وحمل نعشه فيمن حمل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، ودفن إلى جانب قبر بشر الحافي في قبر رجل كان قد أعده لنفسه، فسئل أن يتركه للخطيب فشح به ولم تسمح نفسه، حتى قال له بعض الحاضرين: بالله عليك لو جلست أنت والخطيب إلى بشر أيكما كان يجلسه إلى جانبه؟

فقال: الخطيب.

فقيل له: فاسمح له به.

فوهبه منه فدفن فيه رحمه الله وسامحه، وهو ممن قيل فيه وفي أمثاله قول الشاعر:

ما زلت تدأب في التاريخ مجتهدا ** حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا

حسان بن سعيد ابن حسان بن محمد بن أحمد

بن عبد الله بن محمد بن منيع بن خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي المنيعي، كان في شبابه يجمع بين الزهد والتجارة حتى ساد أهل زمانه، ثم ترك ذلك، وأقبل على العبادة والزهد والبر والصلة والصدقة وغير ذلك، وبناء المساجد والرباطات، وكان السلطان يأتي إليه ويتبرك به.

ولما وقع الغلاء كان يعمل كل يوم شيئا كثيرا من الخبز والأطعمة ويتصدق به، وكان يكسو في كل سنة قريبا من ألف فقير ثيابا وجبابا، وكذلك كان يكسو الأرامل وغيرهن من النساء، وكان يجهز البنات الأيتام وبنات الفقراء، وأسقط شيئا كثيرا من المكوس والوظائف السلطانية عن بلاد نيسابور، وقرأها وهو مع ذلك في غاية التبذل والثياب والأطمار، وترك الشهوات ولم يزل كذلك إلى أن توفي في هذه السنة، في بلدة مرو الروز، تغمده الله برحمته، ورفع درجته، ولا خيب الله له سعيا.

أمين بن محمد بن الحسن بن حمزة

أبو علي الجعفري، فقيه الشيعة في زمانه.

محمد بن وشاح بن عبد الله

أبو علي مولى أبي تمام محمد بن علي بن الحسن الزينبي، سمع الحديث، وكان أديبا شاعرا، وكان ينسب إلى الاعتزال والرفض، ومن شعره قوله:

حملت العصا لا الضعف أوجب حملها ** علي ولا أني نحلت من الكبر

ولكنني ألزمت نفسي حملها ** لأعلمها أن المقيم على سفر

الشيخ الأجل أبو عمر عبد البر النمري

صاحب التصانيف المليحة الهائلة، منها (التمهيد)، و(الاستذكار)، و(الاستيعاب) وغير ذلك.

ابن زيدون الشاعر أحمد بن عبد الله

بن أحمد بن غالب بن زيدون أبو الوليد، الشاعر الماهر الأندلسي القرطبي، اتصل بالأمير المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، فحظي عنده وصار مشاورا في منزلة الوزير، ثم وزر له ولولده أبي بكر بن أبي الوليد، وهو صاحب القصيدة الفراقية التي يقول فيها:

بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ** شوقا إليكم ولا جفت مآقينا

تكاد حين تناجيكم ضمائرنا ** يقضي عليها الأسى لولا تاسينا

حالت لبعدكم أيامنا فغدت ** سودا وكانت بكم بيضا ليالينا

بالأمس كنا ولا نخشى تفرقنا ** واليوم نحن ولا يرجى تلاقينا

وهي طويلة وفيها صنعة قوية مهيجة على البكاء لكل من قرأها أو سمعها، لأنه ما من أحد إلا فارق خلا أو حبيبا أو نسيبا، وله أيضا:

بيني وبينك ما لو شئت لم يصعِ ** سر إذا ذاعت الأسرار لم يذع

يا بائعا حظه مني ولو بذلت ** لي الحياة بحظي منه لم أبع

يكفيك أنك لو حملت قلبي ما ** لا تستطيع قلوب الناس يستطيع

تهْ احتمل واستطل أصبر وعزهن ** وول أقبل وقل أسمع ومر أطع

توفي في رجب منها واستمر ولده أبو بكر وزيرا للمعتمد بن عباد، حتى أخذ ابن ياسين قرطبة من يده في سنة أربع وثمانين، فقتل يومئذ.

قاله ابن خلكان.

كريمة بنت أحمد ابن محمد بن أبي حاتم المروزية

كانت عالمة صالحة، سمعت (صحيح البخاري) على الكشميهني، وقرأ عليها الأئمة كالخطيب وأبي المظفر السمعاني وغيرهما.

ثم دخلت سنة أربع وستين وأربعمائة

فيها: قام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مع الحنابلة في الإنكار على المفسدين، والذين يبيعون الخمور، وفي إبطال المواجرات وهن البغايا، وكتبوا إلى السلطان في ذلك فجاءت كتبه في الإنكار.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة ببغداد ارتجت لها الأرض ست مرات.

وفيها: كان غلاء شديد، وموتان ذريع في الحيوانات، بحيث إن بعض الرعاة بخراسان قام وقت الصباح ليسرح بغنمه فإذا هن قد متن كلهن، وجاء سيل عظيم وبرد كبار أتلف شيئا كثيرا من الزروع والثمار بخراسان.

وفيها: تزوج الأمير عدة الدين ولد الخليفة بابنة السلطان ألب أرسلان سفرى خاتون، وذلك بنيسابور، وكان وكيل السلطان نظام الملك، ووكيل الزوج عميد الدولة بن جهير، وحين عقد العقد نثر على الناس جواهر نفيسة.

من الأعيان:

زكريا بن محمد بن حيده

أبو منصور النيسابوري، كان يزعم أنه من سلالة عثمان بن عفان، وروى الحديث عن أبي بكر بن المذهب، وكان ثقة.

توفي في المحرم منها وقد قارب الثمانين.

محمد بن أحمد ابن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله

أبو الحسن الهاشمي، خطيب جامع المنصور، كان ممن يلبس القلانس الطوال، حدث عن ابن رزقويه وغيره، روى عنه الخطيب، وكان ثقة عدلا شهد عند ابن الدامغاني وابن ماكولا فقبلاه، توفي عن ثمانين سنة، ودفن بقرب قبر بشر الحافي.

محمد بن أحمد بن شاره

ابن جعفر أبو عبد الله الأصفهاني، ولي القضاء بدجيل، وكان شافعيا، روى الحديث عن أبي عمرو بن مهدي، توفي ببغداد، ونقل إلى دجيل من عمل واسط، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة خمس وستين وأربعمائة

في يوم الخميس حادي عشر المحرم حضر إلى الديوان أبو الوفا علي بن محمد بن عقيل العقيلي الحنبلي، وقد كتب على نفسه كتابا يتضمن توبته من الاعتزال، وأنه رجع عن اعتقاد كون الحلاج من أهل الحق والخير، وأنه قد رجع عن الجزء الذي عمله في ذلك، وأن الحلاج قد قتل بإجماع علماء أهل عصره على زندقته، وأنهم كانوا مصيبين في قتله وما رموه به، وهو مخطئ، وأشد عليه جماعة من الكتاب، ورجع من الديوان إلى دار الشريف أبي جعفر فسلم عليه وصالحه واعتذر إليه، فعظمه.

وفاة السلطان ألب أرسلان وملك ولده ملكشاه

كان السلطان قد سار في أول هذه السنة يريد أن يغزو بلاد ما وراء النهر، فاتفق في بعض المنازل أنه غضب على رجل يقال له: يوسف الخوارزمي، فأوقف بين يديه فشرع يعاتبه في أشياء صدرت منه، ثم أمر أن يضرب له أربعة أوتاد ويصلب بينها.

فقال للسلطان: يا مخنث، ومثلي يقتل هكذا؟

فاحتد السلطان من ذلك وأمر بإرساله، وأخذ القوس فرماه بسهم فأخطأه، وأقبل يوسف نحو السلطان فنهض السلطان عن السرير خوفا منه، فنزل عنه فعثر فوقع فأدركه يوسف فضربه بخنجر كان معه في خاصرته فقتله، وأدرك الجيش يوسف فقتلوه، وقد جرح السلطان جرحا منكرا فتوفي في يوم السبت عاشر ربيع الأول من هذه السنة، ويقال: إن أهل بخارى لما اجتاز بهم نهب عسكره أشياء كثيرة لهم، فدعوا عليه فهلك.

ولما توفي جلس ولده ملكشاه على سرير الملك وقام الأمراء بين يديه، فقال له الوزير نظام الملك: تكلم أيها السلطان.

فقال: الأكبر منكم أبي والأوسط أخي والأصغر ابني، وسأفعل معكم ما لم أسبق إليه.

فأمسكوا فأعاد القول فأجابوه بالسمع والطاعة.

وقام بأعباء أمره الوزير نظام الملك، فزاد في أرزاق الجند سبعمائة ألف دينار، وسار إلى مرو فدفنوا بها السلطان، ولما بلغ موته أهل بغداد أقام الناس له العزاء، وغلقت الأسواق وأظهر الخليفة الجزع، وخلعت ابنة السلطان زوجة الخليفة ثيابها، وجلست على التراب، وجاءت كتب ملكشاه إلى الخليفة يتأسف فيها على والده، ويسأل أن تقام له الخطبة بالعراق وغيرها.

ففعل الخليفة ذلك، وخلع ملكشاه على الوزير نظام الملك خلعا سنية، وأعطاه تحفا كثيرة، من جملتها عشرون ألف دينار، ولقبه أتابك الجيوش، ومعناه الأمير الكبير الوالد، فسار سيرة حسنة، ولما بلغ قاورت موت أخيه ألب أرسلان، ركب في جيوش كثيرة قاصدا قتال ابن أخيه ملكشاه، فالتقيا فاقتتلا، فانهزم أصحاب قاورت وأسر هو، فأنبه ابن أخيه ثم اعتقله ثم أرسل إليه من قتله.

وفيها: جرت فتنة عظيمة بين أهل الكرخ وباب البصرة والقلايين، فاقتتلوا فقتل منهم خلق كثير، واحترق جانب كبير من الكرخ، فانتقم المتولي لأهل الكرخ من أهل باب البصرة، فأخذ منهم أموالا كثيرة جناية لهم على ما صنعوا.

وفيها: أقيمت الدعوة العباسية ببيت المقدس.

وفيها: ملك صاحب سمرقند وهو محمد التكين مدينة ترمذ.

وفيها حج بالناس أبو الغنائم العلوي.

وفيها توفي من الأعيان:

السلطان ألب أرسلان

الملقب بسلطان العالم، ابن داود جغري بك بن ميكائيل بن سلجوق التركي، صاحب الممالك المتسعة، ملك بعد عمه طغرلبك سبع سنين وستة أشهر وأياما، وكان عادلا يسير في الناس سيرة حسنة، كريما رحيما، شفوقا على الرعية، رفيقا على الفقراء، بارا بأهله وأصحابه ومماليكه، كثير الدعاء بدوام النعم به عليه، كثير الصدقات، يتفقد الفقراء في كل رمضان بخمسة عشر ألف دينار، ولا يعرف في زمانه جناية ولا مصادرة، بل كان يقنع من الرعية بالخراج في قسطين رفقا بهم.

كتب إليه بعض السعاة في نظام الملك وزيره وذكر ماله في ممالكه فاستدعاه فقال له: خذ إن كان هذا صحيحا فهذب أخلاقك وأصلح أحوالك، وإن كذبوا فاغفر له زلته.

وكان شديد الحرص على حفظ مال الرعايا، بلغه أن غلاما من غلمانه، أخذ إزارا لبعض أصحابه فصلبه فارتدع سائر المماليك به خوفا من سطوته، وترك من الأولاد ملكشاه وإياز ونكشر وبوري برس وأرسلان وأرغو وسارة وعائشة وبنتا أخرى، توفي في هذه السنة عن إحدى وأربعين سنة، ودفن عند والده بالري، رحمه الله.

أبو القاسم القشيري

صاحب (الرسالة)، عبد الكريم بن هوازن بن عبد المطلب بن طلحة، أبو القاسم القشيري، وأمه من بني سليم، توفي أبوه وهو طفل، فقرأ الأدب والعربية، وصحب الشيخ أبا علي الدقاق، وأخذ الفقه عن أبي بكر بن محمد الطوسي، وأخذ الكلام عن أبي بكر بن فورك، وصنف الكثير.

وله التفسير والرسالة التي ترجم فيها جماعة من المشايخ الصالحين، وحج صحبة إمام الحرمين وأبي بكر البيهقي، وكان يعظ الناس، توفي بنيسابور في هذه السنة عن سبعين سنة، ودفن إلى جانب شيخه أبي علي الدقاق، ولم يدخل أحد من أهله بيت كتبه إلا بعد سنين، احتراما له، وكان له فرس يركبها قد أهديت له، فلما توفي لم تأكل علفا حتى نفقت بعده بيسير فماتت، ذكره ابن الجوزي.

وقد أثنى عليه ابن خلكان ثناء كثيرا، وذكر شيئا من شعره من ذلك قوله:

سقى الله وقتا كنت أخلو بوجهكم ** وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحك

أقمنا زمانا والعيون قريرة ** وأصبحت يوما والجفون سوافك

وقوله:

لو كنت ساعة بيننا ما بيننا **وشهدت حين فراقنا التوديعا

أيقنت أن من الدموع محدثا ** وعلمت أن من الحديث دموعا

وقوله:

ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة ** فإني من ليلى لها غير ذائق

وأكثر شيء نلته من وصالها ** أماني لم تصدق كخطفة بارق

ابن صربعر

الشاعر اسمه علي بن الحسين بن علي بن الفضل، أبو منصور الكاتب المعروف بابن صربعر، وكان نظام الملك يقول له: أنت صردر لا صربعر.

وقد هجاه بعضهم فقال:

لئن لقب الناس قدما أباك ** وسموه من شحه صربعرا

فإنك تنثر ما صره ** عقوقا له وتسميه شعرا

قال ابن الجوزي: وهذا ظالم فاحش فإن شعره في غاية الحسن، ثم أورد له أبياتا حسانا فمن ذلك:

أيه أحاديث نعمان وساكنه ** أن الحديث عن الأحباب أسمار

أفتش الريح عنكم كلما نفحت ** من نحو أرضكم مسكا ومعطار

قال: وقد حفظ القرآن وسمع الحديث من ابن شيران وغيره، وحدث كثيرا، وركب يوما دابة هو ووالدته فسقطا بالشونيزية عنها في بئر فماتا فدفنا ببرر، وذلك في صفر من هذه السنة.

قال ابن الجوزي: قرأت بخط ابن عقيل صربعر جارنا بالرصافة، وكان ينبذ بالإلحاد، وقد أورد له ابن خلكان شيئا من أشعاره، وأثنى عليه في فنه، والله أعلم بحاله.

محمد بن علي ابن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله

أبو الحسين، ويعرف بابن العريف، ولد سنة سبعين وثلاثمائة، وسمع الدارقطني، وهو آخر من حدث عنه في الدنيا، وابن شاهين وتفرد عنه، وسمع خلقا آخرين، وكان ثقة دينا كثير الصلاة والصيام، وكان يقال له: راهب بني هاشم، وكان غزير العلم والعقل، كثير التلاوة، رقيق القلب غزير الدمعة، وقد رحل إليه الطلبة من الآفاق، ثم ثقل سمعه، وكان يقرأ على الناس، وذهبت إحدى عينيه، وخطب وله ست عشرة سنة، وشهد عند الحكام سنة ست وأربعمائة، وولي الحكم سنة تسع وأربعمائة، وأقام خطيبا بجامع المنصور وجامع الرصافة ستا وسبعين سنة، وحكم ستا وخمسين سنة، وتوفي في سلخ ذي القعدة من هذه السنة وقد جاوز تسعين سنة، وكان يوم جنازته يوما مشهودا، ورئيت له منامات صالحة حسنة، رحمه الله وسامحه ورحمنا وسامحنا، إنه قريب مجيب، رحيم ودود.

ثم دخلت سنة ست وستين وأربعمائة

في صفر منها جلس الخليفة جلوسا عاما وعلى رأسه حفيده الأمير عدة الدين، أبو القاسم عبد الله ابن المهتدي بالله، وعمره يومئذ ثماني عشرة سنة، وهو في غاية الحسن، وحضر الأمراء والكبراء فعقد الخليفة بيده لواء السلطان ملكشاه، كثر الزحام يومها، وهنأ الناس بعضهم بعضا بالسلامة.

غرق بغداد

في جمادى الآخرة نزل مطر عظيم وسيل قوي كثير، وسالت دجلة وزادت حتى غرقت جانبا كبيرا من بغداد، حتى خلص ذلك إلى دار الخلافة، فخرج الجواري حاسرات عن وجوههن، حتى صرن إلى الجانب الغربي، وهرب الخليفة من مجلسه، فلم يجد طريقا يسلكه فحمله بعض الخدم إلى التاج، وكان ذلك يوما عظيما، وأمرا هائلا، وهلك للناس أموال كثيرة جدا.

ومات تحت الردم خلق كثير من أهل بغداد والغرباء، وجاء على وجه السيل من الأخشاب والأحطاب والوحوش والحيات شيء كثير جدا، وسقطت دور كثيرة في الجانبين، وغرقت قبور كثيرة، من ذلك قبر الخيزران، ومقبرة أحمد بن حنبل.

ودخل الماء من شبابيك المارستان العضدي وأتلف السيل في الموصل شيئا كثيرا، وصدم سور سنجار فهدمه: وأخذ بابه من موضعه إلى مسيرة أربعة فراسخ.

وفي ذي الحجة منها جاءت ريح شديدة في أرض البصرة فانجعف منها نحو من عشرة آلاف نخلة.

من الأعيان:

أحمد بن محمد بن الحسن السمناني

الحنفي الأشعري، قال ابن الجوزي: وهذا من الغريب، تزوج قاضي القضاة ابن الدامغاني ابنته، وولاه نيابة القضاة، وكان ثقة نبيلا من ذوي الهيئات، جاوز الثمانين.

عبد العزيز بن أحمد بن علي

ابن سليمان، أبو محمد الكتاني الحافظ الدمشقي، سمع الكثير، وكان يملي من حفظه، وكتب عنه الخطيب حديثا واحدا، وكان معظما ببلده، ثقة نبيلا جليلا.

الماوردية

ذكر ابن الجوزي أنها كانت عجوزا صالحة من أهل البصرة تعظ النساء بها، وكانت تكتب وتقرأ، ومكثت خمسين سنة من عمرها لا تفطر نهارا ولا تنام ليلا، وتقتات بخبز الباقلا، وتأكل من التين اليابس لا الرطب، وشيئا يسيرا من العنب والزيت، وربما أكلت من اللحم اليسير، وحين توفيت تبع أهل البلد جنازتها ودفنت في مقابر الصالحين.

ثم دخلت سنة سبع وستين وأربعمائة

في صفر منها مرض الخليفة القائم بأمر الله مرضا شديدا، انتفخ منه حلقه، وامتنع من الفصد، فلم يزل الوزير فخر الدولة عليه حتى افتصد وانصلح الحال، وكان الناس قد انزعجوا ففرحوا بعافيته.

وجاء في هذا الشهر سيل عظيم قاسى الناس منه شدة عظيمة، ولم تكن أكثر أبنية بغداد تكاملت من الغرق الأول، فخرج الناس إلى الصحراء فجلسوا على رؤوس التلول تحت المطر.

ووقع وباء عظيم بالرحبة، فمات من أهلها قريب من عشرة آلاف، وكذلك وقع بواسط والبصرة وخوزستان وأرض خراسان وغيرها، والله أعلم.

موت الخليفة القائم بأمر الله

لما افتصد في يوم الخميس الثامن والعشرين من رجب من بواسير كانت تعتاده من عام الغرق، ثم نام بعد ذلك فانفجر فصاده، فاستيقظ وقد سقطت قوته، وحصل الإياس منه فاستدعى بحفيده، وولي عهده عدة الدين أبي القاسم عبد الله بن محمد بن القائم، وأحضر إليه القضاة والفقهاء وأشهدهم عليه ثانيا بولاية العهد له من بعده، فشهدوا ثم كانت وفاته ليلة الخميس الثالث عشر من شعبان عن أربع وتسعين سنة، وثمانية أشهر، وثمانية أيام، وكانت مدة خلافته أربعا وأربعين سنة وثمانية أشهر وخمسة وعشرين يوما، ولم يبلغ أحد من العباسيين قبل هذه المدة، وقد جاوزت خلافة أبيه قبله أربعين سنة، فكان مجموع أيامهما خمسا وثمانين سنة وأشهرا، وذلك مقاوم لدولة بني أمية جميعها.

وقد كان القائم بأمر الله جميلا مليحا، حسن الوجه، أبيض مشربا بحمرة، فصيحا ورعا زاهدا، أديبا كاتبا بليغا، شاعرا، كما تقدم ذكر شيء من شعره، وهو بحديثة عانة سنة خمسين، وكان عادلا كثير الإحسان إلى الناس، رحمه الله.

وغسله الشريف، أبو جعفر بن أبي موسى الحنبلي عن وصية الخليفة بذلك، فلما غسله عرض عليه ما هنالك من الأثاث والأموال، فلم يقبل منه شيئا، وصلى على الخليفة في صبيحة يوم الخميس المذكور، ودفن عند أجداده، ثم نقل إلى الرصافة، فقبره يزار إلى الآن وغلقت الأسواق لموته، وعلقت المسوح، وناحت عليه نساء الهاشميين وغيرهم، وجلس الوزير ابن جهير وابنه للعزاء على الأرض، وخرق الناس ثيابهم، وكان يوما عصيبا، واستمر الحال كذلك ثلاثة أيام، وقد كان من خيار بني العباس دينا واعتقادا ودولة، وقد امتحن من بينهم بفتنة البساسيري التي اقتضت إخراجه من داره ومفارقته أهله وأولاده ووطنه، فأقام بحديثة عانة سنة كاملة، ثم أعاد الله تعالى نعمته وخلافته.

قال الشاعر:

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ** إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر

وقد تقدم له في ذلك سلف صالح كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدا ثُمَّ أَنَابَ} 12 وقد ذكرنا ملخص ما ذكره المفسرون في سورة ص وبسطنا الكلام عليه في هذه القصة العباسية، والفتنة البساسيرية في سنة خمسين، وإحدى وخمسين وأربعمائة.

خلافة المقتدي بأمر الله

وهو أبو القاسم عدة الدين عبد الله بن الأمير، ذخيرة الدين أبي القاسم محمد بن الخليفة القائم بأمر الله بن القادر العباسي، وأمه أرمنية تسمى أرجوان، وتدعى قرة العين، وقد أدركت خلافة ولدها هذا، وخلافة ولديه من بعده المستظهر والمسترشد.

وقد كان أبوه توفي وهو حمل، فحين ولد ذكرا فرح به جده والمسلمون فرحا شديدا، إذ حفظ الله على المسلمين بقاء الخلافة في البيت القادري، لأن من عداهم كانوا يتبذلون في الأسواق، ويختلطون مع العوام، وكانت القلوب تنفر من تولية مثل أولئك الخلافة على الناس، ونشأ هذا في حجر جده القائم بأمر الله يربيه بما يليق بأمثاله، ويدربه على أحسن السجايا، ولله الحمد.

وقد كان المقتدي حين ولي الخلافة عمره عشرين سنة، وهو في غاية الجمال خَلقا وخُلُقا، وكانت بيعته يوم الجمعة الثالث عشر من شعبان من هذه السنة، وجلس في دار الشجرة، بقميص أبيض، وعمامة بيضاء لطيفة، وطرحة قصب أدريه، وجاء الوزراء والأمراء والأشراف ووجوه الناس فبايعوه، فكان أول من بايعه الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الحنبلي، وأنشد قول الشاعر:

إذا سيد منا مضى قام سيد **

ثم ارتج عليه فلم يدر ما بعده، فقال الخليفة:

قؤول بما قال الكرام فعول **

وبايعه من شيوخ العلم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والشيخ أبو نصر بن الصباغ، الشافعيان، والشيخ أبو محمد التميمي الحنبلي، وبرز فصلى بالناس العصر ثم بعد ساعة أخرج تابوت جده بسكون ووقار من غير صراخ ولا نوح، فصلى عليه وحمل إلى المقبرة.

وقد كان المقتدي شهما شجاعا أيامه كلها مباركة، والرزق دار والخلافة معظمة جدا، وتصاغرت الملوك له، وتضاءلوا بين يديه، وخطب له بالحرمين وبيت المقدس والشام كلها، واسترجع المسلمون الرها وأنطاكية من أيدي العدو، وعمرت بغداد وغيرها من البلاد، واستوزر ابن جهير ثم أبا شجاع، ثم أعاد ابن جهير وقاضيه الدامغاني، ثم أبو بكر الشاشي، وهؤلاء من خيار القضاة والوزراء، ولله الحمد.

وفي شعبان منها أخرج المفسدات من الخواطئ من بغداد، وأمرهن أن ينادين على أنفسهن بالعار والفضيحة، وخرب الخمارات، ودور الزواني والمغاني، وأسكنهن الجانب الغربي مع الذل والصغار، وخرب أبرجة الحمام ومنع اللعب بها، وأمر الناس باحتراز عوراتهم في الحمامات، ومنع أصحاب الحمامات أن يصرفوا فضلاتها إلى دجلة، وألزمهم بحفر آبار لتلك المياه القذرة صيانة لماء الشرب.

وفي شوال منها وقعت نار في أماكن متعددة في بغداد، حتى في دار الخلافة، فأحرقت شيئا كثيرا من الدور والدكاكين، ووقع بواسط حريق في تسعة أماكن، واحترق فيها أربعة وثمانون دارا وستة خانات، وأشياء كثيرة غير ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: عمل الرصد للسلطان ملكشاه اجتمع عليه جماعة من أعيان المنجمين، وأنفق عليه أموالا كثيرة، وبقي دائرا حتى مات السلطان فبطل.

وفي ذي الحجة منها أعيدت الخطب للمصريين، وقطعت خطبة العباسيين، وذلك لما قوي أمر صاحب مصر بعد ما كان ضعيفا بسبب غلاء بلده، فلما رخصت تراجع الناس إليها، وطاب العيش بها، وقد كانت الخطبة للعباسيين بمكة منذ أربعين سنة وخمسة أشهر، وستعود كما كانت على ما سيأتي بيانه في موضعه.

وفي هذا الشهر انجفل أهل السواد من شدة الوباء وقلة ماء دجلة ونقصها.

وحج بالناس الشريف أبو طالب الحسيني بن محمد الزينبي، وأخذ البيعة للخليفة المقتدي بالحرمين.

من الأعيان:

الخليفة القائم بأمر الله عبد الله، وقد ذكرنا شيئا من ترجمته عند وفاته.

الداوودي راوي (صحيح البخاري)

عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود، أبو الحسن، بن أبي طلحة الداوودي، ولد سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، سمع الكثير وتفقه على الشيخ أبي حامد الإسفرايني، وأبي بكر القفال، وصحب أبا علي الدقاق وأبا عبد الرحمن السلمي، وكتب الكثير ودرس وأفتى وصنف، ووعظ الناس.

وكانت له يد طولى في النظم والنثر، وكان مع ذلك كثير الذكر، لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى، دخل يوما عليه الوزير نظام الملك فجلس بين يديه فقال له الشيخ: إن الله قد سلطك على عباده فانظر كيف تجيبه إذا سألك عنهم.

وكانت وفاته ببوشنج في هذه السنة وقد جاوز التسعين.

ومن شعره الجيد القوي قوله:

كان في الاجتماع بالناس نور ** ذهب النور وادلهم الظلام

فسد الناس والزمان جميعا ** فعلى الناس والزمان السلام

أبو الحسن علي بن الحسن ابن علي بن أبي الطيب الباخَرزي

الشاعر المشهور، اشتغل أولا على الشيخ أبي محمد الجويني ثم ترك ذلك وعمد إلى الكتابة والشعر، ففاق أقرانه، وله ديوان مشهور فمنه:

وإني لأشكو لسع أصداغك التي ** عقاربها في وجنتيك نجوم

وأبكي لدر الثغر منك ولي أب ** فكيف نديم الضحك وهو يتيم

ثم دخلت سنة ثمان وستين وأربعمائة

قال ابن الجوزي: جاء جراد في شعبان بعدد الرمل والحصا، فأكل الغلات، وآذى الناس، وجاعوا فطحن الخروب بدقيق الدخن فأكلوه، ووقع الوباء، ثم منع الله الجراد من الفساد، وكان يمر ولا يضر، فرخصت الأسعار.

قال: ووقع غلاء شديد بدمشق، واستمر ثلاث سنين.

وفيها: ملك نصر ابن محمود بن صالح بن مرداس مدينة منبج، وأجلى عنها الروم، ولله الحمد والمنة، في ذي القعدة منها.

وفيها: ملك الإقسيس مدينة دمشق، وانهزم عنها المعلى بن حيدر نائب المستنصر العبيدي إلى مدينة بانياس، وخطب فيها للمقتدي، وقطعت خطبة المصريين عنها إلى الآن، ولله الحمد والمنة.

فاستدعى المستنصر نائبه فحبسه عنده إلى أن مات في السجن.

قلت: الاقسيس هذا هو أتسز بن أوف الخوارزمي، ويلقب بالملك المعظم، وهو أول من استعاد بلاد الشام من أيدي الفاطميين، وأزال الأذان منها بحي على خير العمل، بعد أن كان يؤذن به على منابر دمشق وسائر الشام مائة وست سنين، كان على أبواب الجوامع والمساجد مكتوب لعنة الصحابة رضي الله عنهم، فأمر هذا السلطان المؤذنين والخطباء أن يترضوا عن الصحابة أجمعين.

ونشر العدل وأظهر السنة، وهو أول من أسس القلعة بدمشق، ولم يكن فيها قبل ذلك معقل يلتجئ إليه المسلمون من العدو، فبناها في محلتها هذه التي هي فيها اليوم، وكان موضعها بباب البلد يقال له: باب الحديد، وهو تجاه دار رضوان منها، وكان ابتداء ذلك في السنة الآتية، وإنما أكملها بعده الملك المظفر تتش بن ألب أرسلان السلجوقي كما سيأتي بيانه.

وحج بالناس فيها مقطع الكوفة، وهو الأمير السكيني جنفل التركي، ويعرف بالطويل، وكان قد شرد خفاجة في البلاد وقهرهم، ولم يصحب معه سوى ستة عشر تركيا، فوصل إلى مكة سالما، ولما نزل ببعض دورها كبسه بعض العبيد.

فقتل منهم مقتلة عظيمة، وهزمهم هزيمة شنيعة، ثم إنه بعد ذلك إنما كان ينزل بالزاهر.

قاله ابن الساعي في (تاريخه)، وأعيدت الخطبة في هذه السنة للعباسيين في ذي الحجة منها، وقطعت خطبة المصريين ولله الحمد والمنة.

من الأعيان:

محمد بن علي ابن أحمد بن عيسى بن موسى

أبو تمام ابن أبي القاسم ابن القاضي أبي علي الهاشمي، نقيب الهاشميين، وهو ابن عم الشريف أبي جعفر بن أبي موسى الفقيه الحنبلي، روى الحديث وسمع منه أبو بكر بن عبد الباقي، ودفن بباب حرب.

محمد بن القاسم ابن حبيب بن عبدوس

أبو بكر الصفار من أهل نيسابور؛ سمع الحاكم وأبا عبد الرحمن السلمي وخلقا، وتفقه على الشيخ أبي محمد الجويني، وكان يخلفه في حلقته.

محمد بن محمد بن عبد الله أبو الحسين البيضاوي الشافعي

ختن أبي الطيب الطبري على ابنته، سمع الحديث وكان ثقة خيرا، توفي في شعبان منها، وتقدم للصلاة عليه الشيخ أبو نصر بن الصباغ، وحضر جنازته أبو عبد الله الدامغاني مأموما، ودفن بداره في قطيعة الكرخ.

محمد بن نصر بن صالح

ابن أمير حلب، وكان قد ملكها في سنة تسع وخمسين، وكان من أحسن الناس شكلا وفعلا.

مسعود بن المحسن

ابن الحسن بن عبد الرزاق بن جعفر البياضي الشاعر، ومن شعره:

ليس لي صاحب معين سوى اللـ ** ـيل إذا طال بالصدود عليا

أنا أشكو بعد الحبيب إليه ** وهو يشكو بعد الصباح إلينا

وله أيضا:

يا من لبست لهجره طول الضنا ** حتى خفيت إذا عن العواد

وأنست بالسهر الطويل فأنسيت ** أجفان عيني كيف كان رقادي

إن كان يوسف بالجمال مقطع الـ ** ـأيدي فأنت مفتت الأكباد

الواحدي المفسر

علي بن حسن بن أحمد بن علي بن بويه الواحدي، قال ابن خلكان: ولا أدري هذه النسبة إلى ماذا، وهو صاحب التفاسير الثلاثة: (البسيط)، و(الوسيط)، و(الوجيز).

قال: ومنه أخذ الغزالي أسماء كتبه.

قال: وله (أسباب النزول)، و(التحبير) في شرح الأسماء الحسنى، وقد شرح ديوان المتنبي، وليس في شروحه مع كثرتها مثله.

قال: وقد رزق السعادة في تصانيفه، وأجمع الناس على حسنها وذكرها المدرسون في دروسهم، وقد أخذ التفسير عن الثعالبي، وقد مرض مدة، ثم كانت وفاته بنيسابور في جمادى الآخرة منها.

ناصر بن محمد ابن علي أبو منصور التركي الصافري

وهو والد الحافظ محمد بن ناصر، قرأ القرآن، وسمع الكثير، وهو الذي تولى قراءة التاريخ على الخطيب بجامع المنصور، وكان ظريفا صبيحا، مات شابا دون الثلاثين سنة في ذي القعدة منها، وقد رثاه بعضهم بقصيدة طويلة أوردها كلها في (المنتظم) ابن الجوزي.

يوسف بن محمد بن الحسن

أبو القاسم الهمداني، سمع وجمع وصنف وانتشرت عنه الرواية، توفي في هذه سنة وقد قارب التسعين.

ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة

فيها: كان ابتداء عمارة قلعة دمشق، وذلك أن الملك المعظم أتسز بن أوف الخوارزمي لما انتزع دمشق من أيدي العبيديين في السنة الماضية، شرع في بناء هذا الحصن المنيع بدمشق في هذه السنة، وكان في مكان القلعة اليوم أحد أبواب البلد باب، يعرف بباب الحديد، وهو الباب المقابل لدار رضوان منها اليوم، داخل البركة البرانية منها، وقد ارتفع بعض أبرجتها فلم يتكامل حتى انتزع ملك البلد منه الملك المظفر تاج الملوك تتش بن ألب أرسلان السلجوقي، فأكملها وأحسن عمارتها، وابتنى بها دار رضوان للملك.

واستمرت على ذلك البناء في أيام نور الدين محمود بن زنكي، فلما كان الملك صلاح الدين بن يوسف بن أيوب جدد فيها شيئا، وابتنى له نائبه ابن مقدم فيها دارا هائلة للمملكة، ثم إن الملك العادل أخا صلاح الدين، اقتسم هو وأولاده أبرجتها، فبنى كل ملك منهم برجا منها جدده وعلاه وأطده وأكده.

ثم جدد الملك الظاهر بيبرس منها البرج الغربي القبلى، ثم ابتنى بعده في دولة الملك الأشرف خليل بن المنصور، نائبه الشجاعي، الطارمة الشمالية والقبة الزرقاء وما حولها.

وفي المحرم منها مرض الخليفة مرضا شديدا فأرجف الناس به، فركب حتى رآه الناس جهرة فسكنوا.

وفي جمادى الآخرة منها زادت دجلة زيادة كثيرة، إحدى عشرين ذراعا ونصفا، فنقل الناس أموالهم وخيف على دار الخلافة، فنقل تابوت القائم بأمر الله ليلا إلى الترب بالرصافة.

وفي شوال منها وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعرية، وذلك أن ابن القشيري قدم بغداد فجلس يتكلم في النظامية وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وساعده أبو سعد الصوفي، ومال معه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك يشكو إليه الحنابلة ويسأله المعونة عليهم، وذهب جماعة إلى الشريف أبي جعفر بن أبي موسى شيخ الحنابلة، وهو في مسجده فدافع عنه آخرون، واقتتل الناس بسبب ذلك وقتل رجل خياط من سوق التبن، وجرح آخرون، وثارت الفتنة.

وكتب الشيخ أبو إسحاق وأبو بكر الشاشي إلى نظام الملك في كتابه إلى فخر الدولة ينكر ما وقع، ويكره أن ينسب إلى المدرسة التي بناها شيء من ذلك.

وعزم الشيخ أبو إسحاق على الرحلة من بغداد غضبا مما وقع من الشر، فأرسل إليه الخليفة يسكنه، ثم جمع بينه وبين الشريف أبي جعفر وأبي سعد الصوفي، وأبى نصر بن القشيري، عند الوزير، فأقبل الوزير على أبي جعفر يعظمه في الفعال والمقال، وقام إليه الشيخ أبو إسحاق فقال: أنا ذلك الذي كنت تعرفه وأنا شاب، وهذه كتبي في الأصول، ما أقول فيها خلافا للأشعرية.

ثم قبّل رأس أبي جعفر، فقال له أبو جعفر: صدقت، إلا أنك لما كنت فقيرا لم تظهر لنا ما في نفسك، فلما جاء الأعوان والسلطان وخواجه بزك - يعني نظام الملك - وشبعت، أبديت ما كان مختفيا في نفسك.

وقام الشيخ أبو سعد الصوفي وقبل رأس الشريف أبي جعفر أيضا وتلطف به، فالتفت إليه مغضبا وقال: أيها الشيخ أما الفقهاء إذا تكلموا في مسائل الأصول فلهم فيها مدخل، وأما أنت فصاحب لهو وسماع وتغبير، فمن زاحمك منا على باطلك؟

ثم قال: أيها الوزير أنى تصلح بيننا؟ وكيف يقع بيننا صلح ونحن نوجب ما نعتقده وهم يحرمون ويكفرون؟ وهذا جد الخليفة القائم والقادر قد أظهرا اعتقادهما للناس على رؤوس الأشهاد على مذهب أهل السنة والجماعة والسلف، ونحن على ذلك كما وافق عليه العراقيون والخراسانيون.

وقرىء على الناس في الدواوين كلها، فأرسل الوزير إلى الخليفة يعلمه بما جرى، فجاء الجواب بشكر الجماعة وخصوصا الشريف أبا جعفر، ثم استدعى الخليفة أبا جعفر إلى دار الخلافة للسلام عليه، والتبرك بدعائه.

قال ابن الجوزي: وفي ذي القعدة منها كثرت الأمراض في الناس ببغداد وواسط والسواد، وورد الخبر بأن الشام كذلك.

وفي هذا الشهر أزيلت المنكرات والبغايا ببغداد، وهرب الفساق منها.

وفيها: ملك حلب نصر بن محمود بن مرداس بعد وفاة أبيه.

وفيها: تزوج الأمير على بن أبي منصور بن قرامز بن علاء الدولة بن كالويه الست أرسلان خاتون بنت داود عم السلطان ألب أرسلان، وكانت زوجة القائم بأمر الله.

وفيها: حاصر الاقسيس صاحب دمشق مصر وضيق على صاحبها المستنصر بالله، ثم كر راجعا إلى دمشق. وحج بالناس فيها الأمير جنفل التركي مقطع الكوفة.

من الأعيان:

اسفهدوست بن محمد بن الحسن أبو منصور الديلمي

الشاعر، لقي أبا عبد الله بن الحجاج وعبد العزيز بن نباتة وغيرهما من الشعراء، وكان شيعيا فتاب، وقال في قصيدة له في ذلك قوله في اعتقاده:

وإذا سئلت عن اعتقادي قلت ما ** كانت عليه مذاهب الأبرار

وأقول خير الناس بعد محمد ** صديقه وأنيسه في الغار

ثم الثلاثة بعده خير الورى ** أكرم بهم من سادة أطهار

هذا اعتقادي والذي أرجو به ** فوزي وعتقي من عذاب النار

طاهر بن أحمد بن بابشاذ

أبو الحسن البصري النحوي، سقط من سطح جامع عمرو بن العاص بمصر فمات من ساعته في رجب من هذه السنة.

قال ابن خلكان: كان بمصر إمام عصره في النحو، وله المصنفات المفيدة من ذلك مقدمته وشرحها، وشرح الجمل للزجاجي.

قال: وكانت وظيفته بمصر أنه لا تكتب الرسائل في ديوان الإنشاء إلا عرضت عليه فيصلح منها ما فيه خلل ثم تنفذ إلى الجهة التي عينت لها، وكان له على ذلك معلوم وراتب جيد.

قال: فاتفق أنه كان يأكل يوما مع بعض أصحابه طعاما، فجاءه قط فرموا له شيئا فأخذه وذهب سريعا، ثم أقبل فرموا له شيئا أيضا فانطلق به سريعا، ثم جاء فرموا له شيئا أيضا فعلموا أنه لا يأكل هذا كله فتتبعوه، فإذا هو يذهب به إلى قط آخر أعمى في سطح هناك، فتعجبوا من ذلك، فقال الشيخ: يا سبحان الله هذا حيوان بهيم قد ساق الله إليه رزقه على يد غيره أفلا يرزقني وأنا عبده وأعبده.

ثم ترك ما كان له من الراتب وجمع حواشيه وأقبل على العبادة والاشتغال والملازمة في غرفة في جامع عمرو بن العاص إلى أن مات كما ذكرنا.

وقد جمع تعليقه في النحو وكان قريبا من خمسة عشر مجلدا، فأصحابه كابن بري وغيره ينقلون منها وينتفعون بها، ويسمونها تعليق الغرفة.

عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن عمر بن أحمد

بن المجمع بن محمد بن يحيى بن معبد بن هزار مرد، أبو محمد الصريفيني، ويعرف بابن المعلم، أحد مشايخ الحديث المسندين المشهورين، تفرد فيه عن جماعة من المشايخ لطول عمره، وهو آخر من حدث بالجعديات عن ابن حبانة عن أبى القاسم البغوي عن على بن الجعد، وهو سماعنا، ورحل إليه الناس بسببه، وسمع عليه جماعة من الحفاظ منهم الخطيب، وكان ثقة محمود الطريقة، صافي الطوية، توفي بصريفين في جمادى الأولى عن خمس وثمانين سنة.

حيان بن خلف

ابن حسين بن حيان بن محمد بن حيان بن وهب بن حيان أبو مروان القرطبي، مولى بني أمية، صاحب (تاريخ المغرب) في ستين مجلدا، أثنى عليه الحافظ، أبو علي الغساني في فصاحته وصدقه وبلاغته.

قال: وسمعته يقول: التهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودة، والتعزية بعد ثلاث إغراء بالمصيبة.

قال ابن خلكان: توفي في ربيع الأول منها، ورآه بعضهم في المنام فسأله عن حاله فقال: غفر لي، وأما التاريخ فندمت عليه، ولكن الله بلطفه أقالني وعفا عني.

أبو نصر السجزي الوابلي

نسبة إلى قرية من قرى سجستان يقال لها: وابل، سمع الكثير وصنف وخرج وأقام بالحرم، وله كتاب (الإبانة) في الأصول، وله في الفروع أيضا.

ومن الناس من كان يفضله في الحفظ على الصوري.

محمد بن علي بن الحسين أبو عبد الله الأنماطي

المعروف بابن سكينة، ولد سنة تسعين وثلاثمائة، وكان كثير السماع، ومات عن تسع وسبعين سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة

قال ابن الجوزي: في ربيع الأول منها وقعت صاعقة بمحلة النوبة من الجانب الغربي، على نخلتين في مسجد فأحرقت أعاليهما، وصعد الناس فأطفأوا النار، ونزلوا بالسعف وهو يشتعل نارا.

قال: وورد كتاب من نظام الملك إلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في جواب كتابه إليه في شأن الحنابلة، ثم سرده ابن الجوزي ومضمونه: أنه لا يمكن تغيير المذاهب ولا نقل أهلها عنها، والغالب على تلك الناحية هو مذهب الإمام أحمد، ومحله معروف عند الأئمة والناس، وقدره معلوم في السنة.

في كلام طويل.

قال: وفي شوال منها وقعت فتنة بين الحنابلة وبين فقهاء النظامية، وحمى لكل من الفريقين طائفة من العوام، وقتل بينهم نحو من عشرين قتيلا، وجرح آخرون، ثم سكنت الفتنة.

قال: وفى تاسع عشر شوال ولد للخليفة المقتدي ولده المستظهر أبو العباس أحمد، وزينت البلاد وجلس الوزير للهناء، ثم في يوم الأحد السادس والعشرين من شوال ولد له ولد آخر وهو أبو محمد هارون.

قال: ولي تاج الدولة أرسلان الشام وحاصر حلب.

وحج بالناس جنفل مقطع الكوفة، وذكر ابن الجوزي: أن الوزير ابن جهير كان قد عمل منبرا هائلا لتقام عليه الخطبة بمكة، فحين وصل إليها إذا الخطبة قد أعيدت للمصريين، فكسر ذلك المنبر وأحرق.

من الأعيان:

أحمد بن محمد بن أحمد بن يعقوب

ابن أحمد أبو بكر اليربوعي المقري آخر من حدث عن أبي الحسين بن سمعون، وقد كان ثقة متعبدا حسن الطريقة، كتب عند الخطيب وقال: كان صدوقا.

توفي في هذه السنة عن سبع وثمانين سنة.

أحمد بن محمد ابن أحمد بن عبد الله أبو الحسن ابن النقور البزاز

أحد المسندين المعمرين تفرد بنسخ كثيرة عن ابن حبان عن البغوي عن أشياخه، كنسخة هدبة وكامل بن طلحة وعمرو بن زرارة وأبي السكن البكري، وكان متكثرا متبحرا وكان يأخذ على إسماع حديث طالوت بن عبادة دينارا، وقد أفتاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بجواز أخذ الأجرة على إسماع الحديث، لاشتغاله به عن الكسب.

توفي عن تسع وثمانين سنة.

أحمد بن عبد الملك

ابن علي بن أحمد، أبو صالح المؤذن النيسابوري الحافظ، كتب الكثير وجمع وصنف، كتب عن ألف شيخ، وكان يعظ ويؤذن، مات وقد جاوز الثمانين.

عبد الله بن الحسن بن علي أبو القاسم بن أبي محمد الحلالي

آخر من حدث عن أبي حفص الكتاني، وقد سمع الكثير، روى عنه الخطيب ووثقه، توفي عن خمس وثمانين سنة ودفن بباب حرب.

عبد الرحمن بن منده

ابن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن إبراهيم، أبو القاسم بن أبي عبد الله الإمام، سمع أباه وابن مردويه وخلقا في أقاليم شتى، سافر إليها وجمع شيئا كثيرا، وكان ذا وقار وسمت حسن، واتباع للسنة وفهم جيد، كثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، وكان مسعد ابن محمد الريحاني يقول: حفظ الله الإسلام به، وبعبد الله الأنصاري الهروي.

توفي ابن منده هذا بأصبهان عن سبع وثمانين سنة، وحضر جنازته خلق كثير لا يعلمهم إلا الله عز وجل.

عبد الملك بن محمد ابن عبد العزيز بن محمد بن المظفر بن علي أبو القاسم الهمداني

أحد الحفاظ الفقهاء الأولياء، كان يلقب ببجير، وقد سمع الكثير، وكان يكثر للطلبة ويقرأ لهم، توفي بالري في المحرم من هذه السنة، ودفن إلى جانب إبراهيم الخواص.

الشريف أبو جعفر الحنبلي

عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي بن أبي موسى الحنبلي العباسي، كان أحد الفقهاء العلماء العباد الزهاد المشهورين بالديانة والفضل والعبادة والقيام في الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة، واشتغل على القاضي أبي يعلى بن الفراء، وزكاه شيخه عند ابن الدامغاني فقبله، ثم ترك الشهادة بعد ذلك.

وكان مشهورا بالصلاح والديانة، وحين احتضر الخليفة القائم بأمر الله أوصى أن يغسله الشريف أبو جعفر هذا، وأوصى له بشيء كثير، ومال جزيل، فلم يقبل من ذلك شيئا.

وحين وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعرية بسبب ابن القشيري اعتقل هو في دار الخلافة مكرما معظما، يدخل عليه الفقهاء وغيرهم، ويقبلون يده ورأسه، ولم يزل هناك حتى اشتكى فأذن له في المسير إلى أهله فتوفى عندهم ليلة الخميس النصف في صفر منها، ودفن إلى جانب الإمام أحمد، فاتخذت العامة قبره سوقا كل ليلة أربعاء، يترددون إليه ويقرؤون الختمات عنده حتى جاء الشتاء، وكان جملة ما قرئ عليه وأهدي له عشرة آلاف ختمة، والله أعلم.

محمد بن محمد بن عبد الله أبو الحسن البيضاوي

أحد الفقهاء الشافعيين، بربع الكرخ ودفن عند والده.

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وأربعمائة

فيها: ملك السلطان الملك المظفر تاج الملوك تتش بن ألب أرسلان السلجوقي دمشق، وقتل ملكها إقسيس، وذلك أن إقسيس بعث إليه يستنجده على المصريين، فلما وصل إليه لم يركب لتلقيه، فأمر بقتله فقتل لساعته، ووجد في خزائنه حجر ياقوت أحمر وزنه سبعة عشر مثقالا، وستين حبة لؤلؤ كل حبة منها أزيد من مثقال، وعشرة آلاف دينار ومائتي سرج ذهب وغير ذلك.

وقد كان إقسيس هذا هو أتسز بن أوف الخوارزمي، كان يلقب بالمعظم، وكان من خيار الملوك وأجودهم سيرة، وأصحهم سريرة، أزال الرفض عن أهل الشام، وأبطل الأذان بحي على خير العمل، وأمر بالترضي عن الصحابة أجمعين، وعمر بدمشق القلعة التي هي معقل الإسلام بالشام المحروس، فرحمه الله وبل بالرحمة ثراه، وجعل جنة الفردوس مأواه.

وفيها: عزل الوزير ابن جهير بإشارة نظام الملك، بسبب ممالأته على الشافعية، ثم كاتب المقتدي نظام الملك في إعادته فأعيد ولده وأطلق هو.

وفيها: قدم سعد الدولة جوهرا أميرا إلى بغداد، وضرب الطبول على بابه في أوقات الصلوات، وأساء الأدب على الخليفة، وضرب طوالات الخيل على باب الفردوس، فكوتب السلطان بأمره فجاء الكتاب من السلطان بالإنكار عليه.

وحج بالناس مقطع الكوفة جنفل التركي، أثابه الله.

من الأعيان:

سعد بن علي ابن محمد بن علي بن الحسين أبو القاسم الزنجاني

رحل إلا الآفاق، وسمع الكثير، وكان إماما حافظا متعبدا، ثم انقطع في آخر عمره بمكة، وكان الناس يتبركون به.

قال ابن الجوزي: ويقبلون يده أكثر مما يقبلون الحجر الأسود.

سليم بن الجوزي

نسبة إلى قرية من قرى دجيل، كان عابدا زاهدا يقال: إنه مكث مدة يتقوت كل يوم بزبيبة، وقد سمع الحديث وقرئ عليه رحمه الله.

عبد الله بن شمعون

أبو أحمد الفقيه المالكي القيرواني، توفي ببغداد ودفن بباب حرب، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وأربعمائة

فيها: ملك محمود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة قلاعا كثيرة حصينة من بلاد الهند، ثم عاد إلى بلاده سالما غانما.

وفيها: ولد الأمير أبو جعفر بن المقتدي بالله، وزينت له بغداد، وفيها ملك صاحب الموصل الأمير شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران العقيلي بعد وفاة أبيه.

وفيها: ملك منصور بن مروان بلاد بكر بعد أبيه.

وفيها: أمر السلطان بتغريق ابن علان اليهودي ضامن البصرة، وأخذ من ذخائره أربعمائة ألف دينار، فضمن خمارتكين البصرة بمائة ألف دينار ومائة فرس في كل سنة.

وفيها: فتح عبيد الله بن نظام الملك تكريت.

وحج بالناس جنفل التركي، وقطعت خطبة المصريين بمكة وخطب للمقتدي وللسلطان ملكشاه السلجوقي.

من الأعيان:

عبد الملك بن الحسن بن أحمد بن حيرون

أبو نصر، سمع الكثير وكان زاهدا عابدا، يسرد الصوم، ويختم في كل ليلة ختمة رحمه الله.

محمد بن محمد بن أحمد ابن الحسين بن عبد العزيز بن مهران العكبري

سمع هلال الحفار، وابن زرقويه والحمامي وغيرهم، وكان فاضلا جيد الشعر، فمن شعره قوله:

أطيل فكري في أي ناس ** مضوا قدما وفيمن خلفونا

هم الأحياء بعد الموت ذكرا ** ونحن من الخمول الميتونا

توفي في رمضان منها وله سبعون سنة.

هياج بن عبد الله

الخطيب الشامي، سمع الحديث وكان أوحد زمانه زهدا وفقها واجتهادا في العبادة، أقام بمكة مدة يفتي أهلها ويعتمر في كل يوم ثلاث مرات على قدميه، ولم يلبس نعلا منذ أقام بمكة، وكان يزور قبر النبي مع أهل مكة ماشيا، وكذلك كان يزور قبر ابن عباس بالطائف، وكان لا يدخر شيئا، ولا يلبس إلا قميصا واحدا، ضربه بعض أمراء مكة في بعض فتن الروافض فاشتكى أياما ومات، وقد نيّف على الثمانين رحمه الله، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة

فيها: استولى تكش أخو السلطان ملك شاه على بعض بلاد خراسان.

وفيها: أذن للوعاظ في الجلوس للوعظ، وكانوا قد منعوا في فتنة ابن القشيري.

وفيها: قبض على جماعة من الفتيان كانوا قد جعلوا عليهم رئيسا يقال له: عبد القادر الهاشمي، وقد كاتبوه من الأقطار، وكان الساعي له رجلا يقال له: ابن رسول، وكانوا يجتمعون عند جامع براثا، فخيف من أمرهم أن يكونوا ممالئين للمصريين، فأمر بالقبض عليهم.

وحج بالناس جنفل.

من الأعيان:

أحمد بن محمد بن عمر ابن محمد بن إسماعيل

أبو عبد الله بن الأخضر المحدث، سمع علي بن شاذان، وكان على مذهب الظاهرية، وكان كثير التلاوة حسن السيرة، متقللا من الدنيا قنوعا، رحمه الله.

الصليحي المتغلب على اليمن

أبو الحسن علي بن محمد بن علي الملقب بالصليحي، كان أبوه قاضيا باليمن، وكان سنيا، ونشأ هذا فتعلم العلم وبرع في أشياء كثيرة من العلوم، وكان شيعيا على مذهب القرامطة، ثم كان يدل بالحجيج مدة خمس عشرة سنة، وكان اشتهر أمره بين الناس أنه سيملك اليمن، فنجم ببلاد اليمن بعد قتله نجاح صاحب تهامة، واستحوذ على بلاد اليمن بكمالها في أقصر مدة، واستوثق له الملك بها سنة خمس وخمسين، وخطب للمستنصر العبيدي صاحب مصر، فلما كان في هذا العام خرج إلى الحج في ألفي فارس، فاعترضه سعيد بن نجاح بالموسم، في نفر يسير، فقاتلهم فقتل هو وأخوه واستحوذ سعيد بن نجاح على مملكته وحواصله.

ومن شعر الصليحي هذا قوله:

أنكحت بيض الهند سمر رماحهم ** فرؤوسهم عرض النثار نثار

وكذا العلا لا يستباح نكاحها ** إلا بحيث تطلّق الأعمار

محمد بن الحسين ابن عبد الله بن أحمد بن يوسف بن الشبلي

أبو علي الشاعر البغدادي، أسند الحديث، وله الشعر الرائق فمنه قوله:

لا تظهرن لعاذل أو عاذر ** حاليك في السراء والضراء

فلرحمة المتوجعين مرارة ** في القلب مثل شماتة الأعداء

وله أيضا:

يفني البخيل يجمع المال مدته ** وللحوادث والوراث ما يدع

كدودة القز ما تبنيه يخنقها ** وغيرها بالذي تبنيه ينتفع

يوسف بن الحسن ابن محمد بن الحسن

أبو القاسم العسكري، من أهل خراسان من مدينة زنجان، ولد سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي، وكان من أكبر تلاميذه، وكان عابدا ورعا خاشعا، كثير البكاء عند الذكر، مقبلا على العبادة، مات وقد قارب الثمانين.

ثم دخلت سنة أربع وسبعين وأربعمائة

فيها: ولي أبو كامل منصور بن نور الدولة دُبيس ما كان يليه أبوه من الأعمال، وخلع عليه السلطان والخليفة.

وفيها: ملك شرف الدولة مسلم بن قريش حران، وصالح صاحب الرهاء.

وفيها: فتح تتش بن ألب أرسلان صاحب دمشق مدينة انطرطوس.

وفيها: أرسل الخليفة ابن جهير إلى السلطان ملك شاه يتزوج ابنته فأجابت أمها بذلك، بشرط أن لا يكون له زوجة ولا سرية سواها، وأن يكون سبعة أيام عندها، فوقع الشرط على ذلك.

وفيها توفي من الأعيان:

داود بن السلطان بن ملك شاه

فوجد عليه أبوه وجدا كثيرا، بحيث إنه كاد أو همّ أن يقتل نفسه، فمنعه الأمراء من ذلك، وانتقل عن ذلك البلد وأمر النساء بالنوح عليه.

ولما وصل الخبر لبغداد جلس وزير الخليفة للعزاء.

القاضي أبو الوليد الباجي

سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب التجيبي الأندلسي الباجي الفقيه المالكي، أحد الحفاظ المكثيرين في الفقه والحديث، سمع الحديث ورحل فيه إلى بلاد المشرق سنة ست وعشرين وأربعمائة، فسمع هناك الكثير، واجتمع بأئمة ذلك الوقت، كالقاضي أبي الطيب الطبري، وأبي إسحاق الشيرازي، وجاور بمكة ثلاث سنين مع الشيخ أبي ذر الهروي، وأقام ببغداد ثلاث سنين، وبالموصل سنة عند أبي جعفر السمناني قاضيها، فأخذ عنه الفقه والأصول، وسمع الخطيب البغدادي وسمع منه الخطيب أيضا، وروى عنه هذين البيتين الحسنين:

إذا كنت أعلم علما يقينا ** بأن جميع حياتي كساعة

فلم لا أكون كضيف بها ** وأجعلها في صلاح وطاعة

ثم عاد إلى بلده بعد ثلاث عشرة سنة، وتولى القضاء هناك، ويقال: إنه تولى قضاء حلب أيضا، قاله ابن خلكان.

قال: وله مصنفات عديدة منها (المنتقى في شرح الموطأ)، و(إحكام الفصول في أحكام الأصول)، و(الجرح والتعديل)، وغير ذلك، وكان مولده سنة ثلاث وأربعمائة، وتوفي ليلة الخميس بين العشاءين التاسع والعشرين من رجب من هذه السنة، رحمه الله.

أبو الأغر دبيس بن علي بن مزيد

الملقب نور الدولة، توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة: مكث منها أميرا نيفا وستين سنة.

وقام بالأمر من بعده ولده أبو كامل، ولقب بهاء الدولة.

عبد الله بن أحمد بن رضوان

أبو القاسم البغدادي، كان من الرؤساء، ومرض بالشقيقة ثلاث سنين، فمكث في بيت مظلم لا يرى ضوءا ولا يسمع صوتا.

ثم دخلت سنة خمس وسبعين وأربعمائة

فيها: قدم مؤيد الملك فنزل في مدرسة أبيه، وضربت الطبول على بابه في أوقات الصلوات الثلاث.

وفيها: نفِّذ الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رسولا إلى السلطان ملكشاه والوزير نظام الملك، وكان أبو إسحاق كلما مر على بلدة خرج أهلها يتلقونه بأولادهم ونسائهم، يتبركون به ويتمسحون بركابه، وربما أخذوا من تراب حافر بغلته.

ولما وصل إلى ساوة خرج إليه أهلها، وما مر بسوق منها إلا نثروا عليه من لطيف ما عندهم، حتى اجتاز بسوق الأساكفة، فلم يكن عندهم إلا مداساة الصغار فنثروها عليه، فجعل يتعجب من ذلك.

وفيها: جددت الخطبة لبنت السلطان ملكشاه من جهة الخليفة، فطلبت أمها أربعمائة ألف دينار، ثم اتفق الحال على خمسين ألف دينار.

وفيها: حارب السلطان أخاه تتش، فأسره ثم أطلقه، واستقرت يده على دمشق وأعمالها.

وحج بالناس جنفل.

وتوفي فيها من الأعيان:

عبد الوهاب بن محمد ابن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده

أبو عمر الحافظ من بيت الحديث، رحل إلى الآفاق، وسمع الكثير، وتوفي بأصبهان.

ابن ماكولا الأمير أبو نصر على بن الوزير أبي القاسم هبة الله

بن علي بن جعفر بن علكان بن محمد بن دلف بن أبي دلف التميمي، الأمير سعد الملك، أبو نصر بن ماكولا، أحد أئمة الحديث وسادات الأمراء، رحل وطاف وسمع الكثير، وصنف (الإكمال في المشتبه من أسماء الرجال)، وهو كتاب جليل لم يسبق إليه، ولا يلحق فيه، إلا ما استدرك عليه ابن نقطة في كتاب سماه (الاستدراك).

قتله مماليكه في كرمان في هذه السنة، وكان مولده في سنة عشرين وأربعمائة، وعاش خمسا وخمسين سنة.

قال ابن خلكان: وقيل: إنه قتل في سنة تسع وسبعين، وقيل: في سنة سبع وثمانين.

قال: وقد كان أبوه وزير القائم بأمر الله، وعمه عبد الله بن الحسين ولي قضاء بغداد.

قال: ولم أدر لم سمي الأمير إلا أن يكون منسوبا إلى جده الأمير أبي دلف، وأصله من جرباذقان، وولد في عكبرا في شعبان سنة إحدى وعشرين وأربعمائة.

قال: وقد كان الخطيب البغدادي صنف كتاب (المؤتنف) جمع فيه بين كتابي الدارقطني وعبد الغني بن سعيد في المؤتلف والمختلف، فجاء ابن ماكولا وزاد على الخطيب وسماه كتاب (الإكمال)، وهو في غاية الإفادة ورفع الالتباس والضبط.

ولم يوضع مثله، ولا يحتاج هذا الأمير بعده إلى فضلية أخرى، ففيه دلالة على كثرة اطلاعه وضبطه وتحريره وإتقانه.

ومن الشعر المنسوب إليه قوله:

قوّضْ خيامك عن أرض تهان بها ** وجانب الذل إن الذل يجتنب

وارحل إذا كان في الأوطان منقصة ** فالمندل الرطب في أوطانه حطب

ثم دخلت سنة ست وسبعين وأربعمائة

فيها: عزل عميد الدولة بن جهير عن وزارة الخلافة فسار بأهله وأولاده إلى السلطان، وقصدوا نظام الملك وزير السلطان، فعقد لولده فخر الدولة على بلاد ديار بكر، فسار إليها بالخلع والكوسات والعساكر، وأمر أن ينتزعها من ابن مروان، وأن يخطب لنفسه وأن يذكر اسمه على السكة، فما زال حتى انتزعها من أيديهم، وباد ملكهم على يديه كما سيأتي بيانه.

وسد وزارة الخلافة أبو الفتح مظفر ابن رئيس الرؤساء، ثم عزل في شعبان واستوزر أبو شجاع محمد بن الحسين، ولقب ظهير الدين.

وفي جمادى الآخرة ولى مؤيد الملك أبا سعيد عبد الرحمن ابن المأمون، المتولي تدريس النظامية بعد وفاة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي.

وفيها: عصى أهل حران على شرف الدولة مسلم بن قريش، فجاء فحاصرها ففتحها وهدم سورها وصلب قاضيها ابن حلبة وابنيه على السور.

وفي شوال منها قتل أبو المحاسن بن أبي الرضا، وذلك لأنه وشى إلى السلطان في نظام الملك، وقال له: سلمهم إليّ حتى أستخلص لك منهم ألف ألف دينار.

فعمل نظام الملك سماطا هائلا، واستحضر غلمانه وكانوا ألوفا من الأتراك، وشرع يقول للسلطان: هذا كله من أموالك، وما وقفته من المدارس والربط، وكله شكره لك في الدنيا وأجره لك في الآخرة، وأموالي وجميع ما أملكه بين يديك، وأنا أقنع بمرقعة وزاوية.

فعند ذلك أمر السلطان بقتل أبي المحاسن، وقد كان حضيا عنده، وخصيصا به وجيها لديه، وعزل أباه عن كتابة الطغراء وولاها مؤيد الملك.

وحج بالناس الأمير جنفل التركي مقطع الكوفة.

من الأعيان:

الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز آبادي

وهي قرية من قرى فارس، وقيل: هي مدينة خوارزم، شيخ الشافعية، ومدرس النظامية ببغداد، ولد سنة ثلاث وقيل: ست وتسعين وثلاثمائة، وتفقه بفارس على أبي عبد الله البيضاوي، ثم قدم بغداد سنة خمس عشرة وأربعمائة، فتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، وسمع الحديث من ابن شاذان والبرقاني، وكان زاهدا عابدا ورعا، كبير القدر معظما محترما، إماما في الفقه والأصول والحديث، وفنون كثيرة، وله المصنفات الكثيرة النافعة كـ(المهذب) في المذهب، و(التنبيه)، و(النكت في الخلاف)، و(اللمع) في أصول الفقه، و(التبصرة)، و(طبقات الشافعية) وغير ذلك.

قلت: وقد ذكرت ترجمته مستقصاة مطولة في أول شرح التنبيه، توفي ليلة الأحد الحادي والعشرين من جمادى الآخرة في دار أبي المظفر ابن رئيس الرؤساء، وغسله أبو الوفا بن عقيل الحنبلي، وصلى عليه بباب الفردوس من دار الخلافة، وشهد الصلاة عليه المقتدي بأمر الله، وتقدم للصلاة عليه أبو الفتح المظفر ابن رئيس الرؤساء، وكان يومئذ لابسا ثياب الوزارة، ثم صلّي عليه مرة ثانية يجامع القصر، ودفن بباب إبرز في تربة مجاورة للناحية، رحمه الله تعالى.

وقد امتدحه الشعراء في حياته وبعد وفاته، وله شعر رائق، فمما أنشده ابن خلكان من شعره قوله:

سألت الناس عن خل وفيّ ** فقالوا ما إلى هذا سبيل

تمسك إن ظفرت بذيل حر ** فإن الحر في الدنيا قليل

قال ابن خلكان: ولما توفي عمل الفقهاء عزاءه بالنظامية، وعين مؤيد الملك أبا سعد المتولي مكانه، فلما بلغ الخبر إلى نظام الملك كتب يقول: كان من الواجب أن تغلق المدرسة سنة لأجله.

وأمر أن يدرس الشيخ أبو نصر بن الصباغ في مكانه.

طاهر بن الحسين ابن أحمد بن عبد الله القواس

قرأ القرآن وسمع الحديث، وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، وأفتى ودرس، وكانت له حلقة بجامع المنصور للمناظرة والفتوى، وكان ورعا زاهدا ملازما لمسجده خمسين سنة، توفي عن ست وثمانين سنة، ودفن قريبا من الإمام أحمد، رحمه الله وإيانا.

محمد بن أحمد بن إسماعيل أبو طاهر الأنباري الخطيب

ويعرف بابن أبي الصقر، طاف البلاد وسمع الكثير، وكان ثقة صالحا فاضلا عابدا، وقد سمع منه الخطيب البغدادي، وروى عنه مصنفاته، توفي بالأنبار في جمادى الآخرة عن نحو من مائة سنة، رحمه الله.

محمد بن أحمد بن الحسين بن جرادة

أحد الرؤساء ببغداد، وهو من ذوي الثروة والمروءة، كان يحرز ماله بثلاثمائة ألف دينار، وكان أصله من عكبرا فسكن بغداد، وكانت له بها دار عظيمة تشتمل على ثلاثين مسكنا مستقلا، وفيها حمام وبستان، ولها بابان، على كل باب مسجد، إذا أذن المؤذن في إحداهما لا يسمع الآخر من اتساعها.

وقد كانت زوجة الخليفة القائم حين وقعت فتنة البساسيري في سنة خمسين وأربعمائة، نزلت عنده في جواره، فبعث إلى الأمير قريش بن بدران أمير العرب بعشرة آلاف دينار، ليحمي له داره، وهو الذي بنى المسجد المعروف به ببغداد، وقد ختم فيه القرآن ألوف من الناس، وكان لا يفارق زي التجار.

وكانت وفاته في عاشر ذي القعدة من هذه السنة، ودفن في التربة المجاورة لتربة القزويني، رحمه الله وإيانا آمين.

ثم دخلت سنة سبع وسبعين وأربعمائة

فيها: كان الحرب بين فخر الدولة بن جهير وزير الخليفة وبين ابن مروان صاحب ديار بكر، فاستولى ابن جهير على ملك العرب وسبى حريمهم، وأخذ البلاد ومعه سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي، فافتدى خلقا من العرب، فشكره الناس على ذلك وامتدحه الشعراء.

وفيها: بعث السلطان عميد الدولة بن جهير في عسكر كثيف ومعه قسيم الدولة اقسنقر جد بني أتابك ملوك الشام والموصل، فسارا إلى الموصل فملكوها.

وفي شعبان منها ملك سليمان بن قتلمش أنطاكية، فأراد شرف الدولة مسلم بن قريش أن يستنقذها منه، فهزمه سليمان وقتله، وكان مسلم هذا من خيار الملوك سيرة، له في كل قرية والٍ وقاضٍ وصاحب خبر، وكان يملك من السندية إلى منبج.

وولى بعده أخوه إبراهيم بن قريش، وكان مسجونا من سنين فأطلق وملك.

وفيها: ولد السلطان سنجر بن ملكشاه في العشرين من رجب بسنجار.

وفيها: عصى تكش أخو السلطان فأخذه السلطان فسمله وسجنه.

وحج بالناس في هذه السنة الأمير خمارتكين الحسناني، وذلك لشكوى الناس من شدة سير جنفل بهم، وأخذ المكوسات منهم، سافر مرة من الكوفة إلى مكة في سبعة عشر يوما.

من الأعيان:

أحمد بن محمد بن دوبست

أبو سعد النيسابوري، شيخ الصوفية، له رباط بمدينة نيسابور، يدخل من بابه الجمل براكبه، وحج مرات على التجريد على البحرين، حين انقطعت طريق مكة، وكان يأخذ جماعة من الفقراء، ويتوصل من قبائل العرب حتى يأتي مكة، توفي في هذه السنة وقد جاوز التسعين، رحمه الله وإيانا، وأوصى أن يخلفه ولده إسماعيل فأجلس في مشيخة الرباط.

ابن الصباغ

صاحب (الشامل) عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن جعفر، الإمام أبو نصر بن الصباغ، ولد سنة أربعمائة، وتفقه ببغداد على أبي الطيب الطبري حتى فاق الشافعية بالعراق، وصنف المصنفات المفيدة، منها (الشامل) في المذهب، وهو أول من درس بالنظامية، توفي في هذه السنة ودفن بداره في الكرخ، ثم نقل إلى باب حرب، رحمه الله.

قال ابن خلكان: كان فقيه العراقين، وكان يضاهي أبا إسحاق، وكان ابن الصباغ أعلم منه بالمذهب، وإليه الرحلة فيه، وقد صنف (الشامل) في الفقه و(العمدة) في أصول الفقه، وتولى تدريس النظامية أولا، ثم عزل بعد عشرين يوما بالشيخ أبي إسحاق، فلما مات الشيخ أبو إسحاق تولاها أبو سعد المتولي، ثم عزل ابن الصباغ بابن المتولي، وكان ثقة حجة صالحا، ولد سنة أربعمائة، أضر في آخر عمره، رحمه الله وإيانا.

مسعود بن ناصر ابن عبد الله بن أحمد بن إسماعيل

أبو سعد السجري الحافظ، رحل في الحديث وسمع الكثير، وجمع الكتب النفيسة، وكان صحيح الخط، صحيح النقل، حافظا ضابطا، رحمه الله وإيانا.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة

في المحرم منها زلزلت أرجان فهلك خلق كثير من الروم ومواشيهم.

وفيها: كثرت الأمراض بالحمى والطاعون بالعراق والحجاز والشام، وأعقب ذلك موت الفجأة، ثم ماتت الوحوش في البراري، ثم تلاها موت البهائم، حتى عزت الألبان واللحمان، ومع هذا كله وقعت فتنة عظيمة بين الرافضة والسنة فقتل خلق كثير فيها.

وفي ربيع الأول هاجت ريح سوداء وسفّت رملا، وتساقطت أشجار كثيرة من النخل وغيرها، ووقعت صواعق في البلاد حتى ظن بعض الناس أن القيامة قد قامت، ثم انجلى ذلك ولله الحمد.

وفيها: ولد للخلفية ولده أبو عبد الله الحسين، وزينت بغداد وضربت الطبول والبوقات، وكثرت الصدقات.

وفيها: استولى فخر الدولة بن جهير على بلاد كثيرة، منها آمد وميا فارقين، وجزيرة ابن عمر، وانقضت بنو مروان على يده في هذه السنة.

وفي ثاني عشر رمضان منها ولي أبو بكر محمد بن مظفر الشامي قضاء القضاة ببغداد، بعد وفاة أبي عبد الله الدامغاني، وخلع عليه في الديوان.

وحج بالناس جنفل، وزار النبي ذاهبا وآيبا.

قال: أظن أنها آخر حجتي.

وكان كذلك.

وفيها: خرج توقيع الخليفة المقتدي بأمر الله بتجديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل محلة، وإلزام أهل الذمة بلبس الغيار، وكسر آلات الملاهي، وإراقة الخمور، وإخراج أهل الفساد من البلاد، أثابه الله ورحمه.

من الأعيان:

أحمد بن محمد بن الحسن ابن محمد بن إبراهيم بن أبي أيوب

أبو بكر الفوركي، سبط الأستاذ أبي بكر بن فورك، استوطن بغداد، وكان متكلما يعظ الناس في النظامية، فوقعت بسببه فتنة بين أهل المذاهب.

قال ابن الجوزي: وكان مؤثرا للدنيا لا يتحاشى من لبس الحرير، وكان يأخذ مكس الفحم، ويوقع العداوة بين الحنابلة والأشاعرة، مات وقد ناف على الستين سنة، ودفن إلى جانب قبر الأشعري بمشرعة الزوايا.

الحسن بن علي أبو عبد الله المردوسي

كان رئيس أهل زمانه وأكملهم مروءة، كان خدم في أيام بني بويه، وتأخر لهذا الحين، وكانت الملوك تعظمه وتكاتبه بعبده وخادمه، وكان كثير الصدقة والصّلات والبر، وبلغ من العمر خمسا وتسعين سنة، وأعد لنفسه قبرا وكفنا قبل موته بخمس سنين.

أبو سعد المتولي

عبد الرحمن بن المأمون بن علي أبو سعد المتولي، مصنف (التتمة)، ومدرس النظامية بعد أبي إسحاق الشيرازي، وكان فصيحا بليغا، ماهرا بعلوم كثيرة، كانت وفاته في شوال من هذه السنة وله ستة وخمسون سنة، رحمه الله وإيانا، وصلى عليه القاضي أبو بكر الشاشي.

إمام الحرمين عبد الملك بن الشيخ أبي محمد

عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه، أبو المعالي الجويني، وجوين من قرى نيسابور، الملقب بإمام الحرمين، لمجاورته بمكة أربع سنين، كان مولده في تسع عشرة وأربعمائة، سمع الحديث وتفقه على والده الشيخ أبي محمد الجويني، ودرس بعده في حلقته، وتفقه على القاضي حسين، ودخل بغداد وتفقه بها، وروى الحديث وخرج إلى مكة فجاور فيها أربع سنين، ثم عاد إلى نيسابور فسلم إليه التدريس والخطابة والوعظ، وصنف (نهاية المطلب في دراية المذهب)، و(البرهان) في أصول الفقه، وغير ذلك في علوم شتى.

واشتغل عليه الطلبة ورحلوا إليه من الأقطار، وكان يحضر مجلسه ثلاثمائة متفقه، وقد استقصيت ترجمته في (الطبقات)، وكانت وفاته في الخامس والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة عن سبع وخمسين سنة، ودفن بداره ثم نقل إلى جانب والده.

قال ابن خلكان: كانت أمه جارية اشتراها والده من كسب يده من النسخ، وأمرها أن لا تدع أحدا يرضعه غيرها، فاتفق أن امرأة دخلت عليها فأرضعته مرة، فأخذه الشيخ أبو محمد فنكسه ووضع يده على بطنه ووضع أصبعه في حلقه ولم يزل به حتى قاء ما في بطنه من لبن تلك المرأة.

قال: وكان إمام الحرمين ربما حصل له في مجلسه في المناظرة فتور ووقفة، فيقول: هذا من آثار تلك الرضعة.

قال: ولما عاد من الحجاز إلى بلده نيسابور سلم إليه المحراب والخطابة والتدريس ومجلس التذكير يوم الجمعة، وبقي ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع، وصنف في كل فن، وله (النهاية) التي ما صنف في الإسلام مثلها.

قال الحافظ أبو جعفر: سمعت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي يقول لإمام الحرمين: يا مفيد أهل المشرق والمغرب، أنت اليوم إمام الأئمة.

ومن تصانيفه (الشامل) في أصول الدين، و(البرهان) في أصول الفقه، و(تلخيص التقريب)، و(الإرشاد)، و(العقيدة النظامية)، و(غياث الأمم)، وغير ذلك مما سماه ولم يتمه.

وصلى عليه ولده أبو القاسم وغلقت الأسواق وكسر تلاميذه أقلامهم - وكانوا أربعمائة - ومحابرهم، ومكثوا كذلك سنة، وقد رثي بمراثٍ كثيرة فمن ذلك قول بعضهم:

قلوب العالمين على المقالي ** وأيام الورى شبه الليالي

أيثمر غصن أهل العلم يوما ** وقد مات الإمام أبو المعالي

محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد

أبو علي بن الوليد، شيخ المعتزلة، كان مدرسا لهم فأنكر أهل السنة عليه، فلزم بيته خمسين سنة إلى أن توفي في ذي الحجة منها، ودفن في مقبرة الشونيزي، وهذا هو الذي تناظر هو والشيخ أبو يوسف القزويني المعتزلي المفسر في إباحة الولدان في الجنة، وأنه يباح لأهل الجنة وطء الولدان في أدبارهم، كما حكى ذلك ابن عقيل عنهما، وكان حاضرهما، فمال هذا إلى إباحة ذلك، لأنه مأمون المفسدة هنالك.

وقال أبو يوسف: إن هذا لا يكون لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومن أين لك أن يكون لهم أدبار؟ وهذا العضو - وهو الدبر - إنما خلق في الدنيا لحاجة العباد إليه، لأنه مخرج للأذى عنهم، وليس في الجنة شيء من ذلك، وإنما فضلات أكلهم عرق يفيض من جلودهم، فإذا هم ضمر فلا يحتاجون إلى أن يكون لهم أدبار، ولا يكون لهذه المسألة صورة بالكلية.

وقد روى هذا الرجل حديثا واحدا عن شيخه أبي الحسين البصري بسنده المتقدم، من طريق شعبة، عن منصور، عن ربعي، عن أبي مسعود البدري أن رسول الله قال: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت»

وقد رواه القعنبي عن شعبة، ولم يرو عنه سواه، فقيل: إنه لما رحل إليه دخل عليه وهو يبول في البالوعة فسأله أن يحدثه فامتنع فروى له هذا الحديث كالواعظ له به، والتزم أن لا يحدثه بغيره.

وقيل: لأن شعبة مر على القعنبي قبل أن يشتغل بعلم الحديث - وكان إذ ذاك يعاني الشراب - فسأله أن يحدثه فامتنع، فسلّ سكينا وقال: إن لم تحدثني وإلا قتلتك.

فروى له هذا الحديث، فتاب وأناب، ولزم مالكا، ثم فاته السماع من شعبة فلم يتفق له عنه غير هذا الحديث، فالله أعلم.

أبو عبد الله الدامغاني القاضي

محمد بن علي بن الحسين بن عبد الملك بن عبد الوهاب بن حمويه الدامغاني، قاضي القضاة ببغداد، مولده في سنة ثمان عشرة وأربعمائة، فتفقه بها على أبي عبد الله الصيمري، وأبي الحسن القدوري، وسمع الحديث منهما ومن ابن النقور والخطيب وغيرهم.

وبرع في الفقه، وكان له عقل وافر، وتواضع زائد، وانتهت إليه رياسة الفقهاء، وكان فصيحا كثير العبادة، وقد كان فقيرا في ابتداء طلبه، عليه أطمار رثة، ثم صارت إليه الرياسة والقضاء بعد ابن ماكولا، في سنة تسع وأربعين، وكان القائم بأمر الله يكرمه، والسلطان طغرلبك يعظمه، وباشر الحكم ثلاثين سنة في أحسن سيرة، وغاية الأمانة والديانة، مرض أياما يسيرة ثم توفي في الرابع والعشرين من رجب من هذه السنة، وقد ناهز الثمانين، ودفن بداره بدرب العلابين، ثم نقل إلى مشهد أبي حنيفة، رحمه الله.

محمد بن علي بن المطلب أبو سعد الأديب

كان قد قرأ النحو والأدب واللغة والسير وأخبار الناس، ثم أقلع عن ذلك كله، وأقبل على كثرة الصلاة والصدقة والصوم، إلى أن توفي في هذه السنة عن ست وثمانين سنة، رحمه الله.

محمد بن طاهر العباسي

ويعرف بابن الرجيحي، تفقه على ابن الصباغ، وناب في الحكم، وكان محمود الطريقة، وشهد عند ابن الدامغاني فقبله.

منصور بن دبيس

ابن علي بن مزيد، أبو كامل الأمير بعد سيف الدولة، كان كثير الصلاة والصدقة، توفي في رجب من هذه السنة، وقد كان له شعر وأدب، وفيه فضل، فمن شعره قوله:

فإن أنا لم أحمل عظيما ولم أقد ** لهاما ولم أصبر على كل معظم

ولم أحجز الجاني وأمنع جوره ** غداة أنادي للفخار وأنتمي

فلا نهضتْ لي همة عربية ** إلى المجد ترقى بي ذرى كل محرم

هبة الله بن أحمد بن السيبي

قاضي الحريم بنهر معلى، ومؤدب الخليفة المقتدي بأمر الله، سمع الحديث، وتوفي في محرم في هذه السنة، وقد جاوز الثمانين، وله شعر جيد، فمنه قوله:

رجوت الثمانين من خالقي ** لما جاء فيها عن المصطفى

فبلغنيها فشكرا له ** وزاد ثلاثا بها إذ وفا

وإني لمنتظر وعده ** لينجزه لي، فعل أهل الوفا

ثم دخلت سنة تسع وسبعين وأربعمائة

وفيها: كانت الوقعة بين تتش صاحب دمشق وبين سليمان بن قتلمش صاحب حلب وأنطاكية وتلك الناحية، فانهزم أصحاب سليمان وقتل هو نفسه بخنجر كانت معه، فسار السلطان ملكشاه من أصبهان إلى حلب فملكها، وملك ما بين ذلك من البلاد التي مر بها، مثل حران والرها وقلعة جَعْبَر، وكان جعبر شيخا كبيرا قد عمي، وله ولدان، وكان قطاع الطريق يلجأون إليها فيتحصنون بها، فراسل السلطان سابق بن جعبر في تسليمها، فامتنع عليه فنصب عليها المناجيق والعرادات ففتحها، وأمر بقتل سابق، فقالت زوجته: لا تقتله حتى تقتلني معه.

فألقاه من رأسها فتكسر، ثم أمر بتوسيطهم بعد ذلك فألقت المرأة نفسها وراءه فسلمت، فلامها بعض الناس فقالت: كرهت أن يصل إلي التركي فيبقى ذلك عارا عليّ.

فاستحسن منها ذلك، واستناب السلطان على حلب قسيم الدولة أقسنقر التركي وهو جد نور الدين الشهيد، واستناب على الرحبة وحران والرقة وسروج والخابور محمد بن شرف الدولة مسلم وزوجه بأخته زليخا خاتون، وعزل فخر الدولة بن جهير عن ديار بكر، وسلمها إلى العميد أبي علي البلخي، وخلع على سيف الدولة صدقة بن دبيس الأسدي، وأقره على عمل أبيه، ودخل بغداد في ذي القعدة من هذه السنة، وهي أول دخلة دخلها، فزار المشاهد والقبور ودخل على الخليفة فقبل يده ووضعها على عينيه، وخلع عليه الخليفة خلعا سنية، وفوض إليه أمور الناس، واستعرض الخليفة أمراءه ونظام الملك واقف بين يديه، يعرفه بالأمراء واحدا بعد واحد، باسمه وكم جيشه وأقطاعه، ثم أفاض عليه الخليفة خلعا سنية، وخرج من بين يديه فنزل بمدرسة النظامية، ولم يكن رآها قبل ذلك، فاستحسنها إلا أنه استصغرها، واستحسن أهلها ومن بها وحمد الله وسأل الله أن يجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم، ونزل بخزانة كتبها وأملى جزأ من مسموعاته، فسمعه المحدثون منه، وورد الشيخ أبو القاسم علي بن الحسين الحسني الدبوسي إلى بغداد في تجمل عظيم، فرتبه مدرسا بالنظامية بعد أبي سعد المتولي.

وفي ربيع الآخر فرغت المنارة بجامع القصر وأذن فيها.

وفي هذه السنة كانت زلازل هائلة بالعراق والجزيرة والشام، فهدمت شيئا كثيرا من العمران، وخرج أكثر الناس إلى الصحراء ثم عادوا.

وحج بالناس الأمير خمارتكين الحسناني، وقطعت خطبة المصريين من مكة والمدينة، وقلعت الصفائح التي على باب الكعبة التي عليها ذكر الخليفة المصري، وجدد غيرها عليها، وكتب عليها اسم المقتدي.

قال ابن الجوزي: وظهر رجل بين السندية وواسط يقطع الطريق، وهو مقطوع اليد اليسرى، يفتح القفل في أسرع مدة، ويغوص دجلة في غوصتين، ويقفز القفزة خمسة وعشرين ذراعا، ويتسلق الحيطان الملس، ولا يقدر عليه أحد، وخرج من العراق سالما.

قال: وفيها: توفي فقير في جامع المنصور فوجد في مرقعته ستمائة دينار مغربية، أي: صحاحا كبارا، من أحسن الذهب.

قال: وفيها: عمل سيف الدولة صدقة سماطا للسلطان جلال الدولة أبي الفتح ملكشاه؛ اشتمل على ألف رأس من الغنم، ومائة جمل وغيرها، ودخله عشرون ألف منٍّ من السكر، وجعل عليه من أصناف الطيور والوحوش، ثم أردفه من السكر شيء كثير، فتناول السلطان بيده منه شيئا يسيرا، ثم أشار فانتهب عن آخره، ثم انتقل من ذلك المكان إلى سرادق عظيم لم ير مثله من الحرير، وفيه خمسمائة قطعة من الفضة، وألوان من تماثيل الند والمسك والعنبر وغير ذلك، فمد فيه سماطا خاصا فأكل السلطان حينئذ، وحمل إليه عشرين ألف دينار، وقدم إليه ذلك السرادق بما فيه بكماله وانصرف، والله أعلم.

من الأعيان:

الأمير جعبر بن سابق القشيري

الملقب بسابق الدين، كان قد تملك قلعة جعبر مدة طويلة فنسبت إليه، وإنما كان يقال لها قبل ذلك: الدوشرية، نسبة إلى غلام النعمان بن المنذر، ثم إن هذا الأمير كبر وعمي، وكان له ولدان يقطعان الطريق، فاجتاز به السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي وهو ذاهب إلى حلب فأخذ القلعة وقتله كما تقدم.

الأمير جنفل قتلغ

أمير الحاج، كان مقطعا للكوفة وله وقعات مع العرب أعربت عن شجاعته، وأرعبت قلوبهم وشتتهم في بلاد شذر مذر، وقد كان حسن السيرة محافظا على الصلوات، كثير التلاوة، وله آثار حسنة بطريق مكة، في إصلاح المصانع والأماكن التي تحتاج إليها الحجاج وغيرهم. وله مدرسة على الحنفية بمشهد يونس بالكوفة، وبنى مسجدا بالجانب الغربي من بغداد على دجلة، بمشرعة الكرخ.

توفي في جمادى الأولى منها، رحمه الله.

ولما بلغ نظام الملك وفاته، قال: مات ألف رجل، والله أعلم.

علي بن فضال المشاجعي

أبو علي النحوي المغربي، له المصنفات الدالة على علمه وغزارة فهمه، وأسند الحديث.

توفي في ربيع الأول منها ودفن بباب إبرز.

علي بن أحمد التستري

كان مقدم أهل البصرة في المال والجاه، وله مراكب تعمل في البحر، قرأ القرآن وسمع الحديث وتفرد برواية سنن أبي داود، توفي في رجب منها.

يحيى بن إسماعيل الحسيني

كان فقيها على مذهب زيد بن علي بن الحسين، وعنده معرفة بالأصول والحديث.

ثم دخلت سنة ثمانين وأربعمائة

في المحرم منها نقل جهاز ابنة السلطان ملكشاه إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملا مجللة بالديباج الرومي، غالبها أواني الذهب والفضة، وعلى أربع وسبعين بغلة مجللة بأنواع الديباج الملكي، وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقا من الفضة، فيها أنواع الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاث وثلاثون فرسا عليها مراكب الذهب مرصعة بالجواهر، ومهد عظيم مجلل بالديباج الملكي عليه صفائح الذهب مرصع بالجوهر.

وبعث الخليفة لتلقيهم الوزير أبا شجاع، وبين يديه نحو من ثلاثمائة موكبية غير المشاعل لخدمة الست خاتون امرأة السلطان تركان خاتون، حماة الخليفة، وسألها أن تحمل الوديعة الشريفة إلى دار الخليفة، فأجابت إلى ذلك.

فحضر الوزير نظام الملك وأعيان الأمراء وبين أيديهم من الشموع والمشاعل ما لا يحصى، وجاءت نساء الأمراء كل واحدة منهن في جماعتها وجواريها، وبين أيديهن الشموع والمشاعل، ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان زوجة الخليفة بعد الجميع، في محفة مجللة، وعليها من الذهب والجواهر ما لا تحصى قيمته، وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية تركية، بالمراكب المزينة العجيبة مما يبهرن الأبصار، فدخلت دار الخلافة على هذه الصفة وقد زين الحريم الطاهر وأشعلت فيه الشموع، وكانت ليلة مشهودة للخليفة، هائلة جدا.

فلما كان من الغد أحضر الخليفة أمراء السلطان ومد سماطا لم ير مثله، عم الحاضرين والغائبين، وخلع على الخاتون زوجة السلطان أم العروس، وكان أيضا يوما مشهودا، وكان السلطان متغيبا في الصيد، ثم قدم بعد أيام، وكان الدخول بها في أول السنة، ولدت من الخليفة في ذي القعدة ولدا ذكرا زينت له بغداد.

وفيها: ولد للسلطان ملكشاه ولد سماه محمودا، وهو الذي ملك بعده.

وفيها: جعل السلطان ولده أبا شجاع أحمد ولي العهد من بعده، ولقبه ملك الملوك، عضد الدولة، وتاج الملة، عدة أمير المؤمنين، وخطب له بذلك على المنابر، ونثر الذهب على الخطباء عند ذكر اسمه.

وفيها: شرع في بناء التاجية في باب إبرز وعملت بستان وغرست النخيل والفواكه هنالك، وعمل سور بأمر السلطان، والله أعلم.

من الأعيان:

إسماعيل ابن إبراهيم ابن موسى بن سعيد، أبو القاسم النيسابوري

رحل في الحديث إلى الآفاق حتى جاوز ما وراء النهر، وكان له حظ وافر في الأدب، ومعرفة العربية.

توفي بنيسابور في جمادى الأولى منها.

طاهر بن الحسين البندنيجي

أبو الوفا الشاعر، له قصيدتان في مدح نظام الملك إحداهما معجمة والأخرى غير منقوطة، أولها:

لاموا ولو علموا ما اللوم ما لاموا ** ورد لومهم هم وآلام

توفي ببلده في رمضان عن نيف وسبعين سنة.

محمد بن أمير المؤمنين المقتدي

عرض له جدري فمات فيها وله تسع سنين، فحزن عليه والده والناس، وجلسوا للعزاء، فأرسل إليهم يقول: إن لنا في رسول الله أسوة حسنة، حين توفي ابنه إبراهيم، وقال الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 13

ثم عزم على الناس فانصرفوا.

محمد بن محمد بن زيد ابن علي بن موسى

بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن الحسيني، الملقب بالمرتضى ذي الشرفين، ولد سنة خمس وأربعمائة، وسمع الحديث الكثير، وقرأ بنفسه على الشيوخ، وصحب الحافظ أبا بكر الخطيب، فصارت له معرفة جيدة بالحديث، وسمع عليه الخطيب شيئا من مروياته، ثم انتقل إلى سمرقند وأملى الحديث بأصهبان وغيرها، وكان يرجع إلى عقل كامل، وفضل ومروءة.

وكانت له أموال جزيلة، وأملاك متسعة، ونعمة وافرة، يقال: إنه ملك أربعين قرية، وكان كثير الصدقة والبر والصلة للعلماء والفقراء، وبلغت زكاة ماله الصامت عشرة آلاف دينار غير العشور، وكان له بستان ليس لملك مثله، فطلبه منه ملك ما وراء النهر، واسمه الخضر بن إبراهيم، عارية ليتنزه فيه، فأبى عليه، وقال: أعيره إياه ليشرب فيه الخمر بعد ما كان مأوى أهل العلم والحديث والدين؟

فأعرض عنه السلطان وحقد عليه، ثم استدعاه إليه ليستشيره في بعض الأمور على العادة، فلما حصل عنده قبض عليه وسجنه في قلعته، واستحوذ على جميع أملاكه وحواصله وأمواله، وكان يقول: ما تحققت صحة نسبي إلا في هذه المصادرة: فإني ربيت في النعيم، فكنت أقول: إن مثلي لا بد أن يبتلى.

ثم منعوه الطعام والشراب حتى مات، رحمه الله.

محمد بن هلال بن الحسن أبو الحسن الصابي

الملقب بغرس النعمة، سمع أباه وابن شاذان، وكانت له صدقة كثيرة، ومعروف، وقد ذيل على تاريخ أبيه الذي ذيله على تاريخ ثابت بن سنان الذي ذيله على تاريخ ابن جرير الطبري، وقد أنشأ دارا ببغداد، ووقف فيها أربعة آلاف مجلد، في فنون من العلوم، وترك حين مات سبعين ألف دينار، ودفن بمشهد علي.

هبة الله بن علي ابن محمد بن أحمد بن المجلي أبو نصر

جمع خطبا ووعظا، وسمع الحديث على مشايخ عديدة، وتوفي شابا قبل أوان الرواية.

أبو بكر بن عمر أمير الملثمين

كان في أرض فرغانة، اتفق له من الناموس ما لم يتفق لغيره من الملوك، كان يركب معه إذا سار لقتال عدو خمسمائة ألف مقاتل، كان يعتقد طاعته، وكان مع هذا يقيم الحدود ويحفظ محارم الإسلام، ويحوط الدين ويسير في الناس سيرة شرعية، مع صحة اعتقاده ودينه، وموالاة الدولة العباسية، أصابته نشابة في بعض غزواته في حلقه فقتلته في هذه السنة.

فاطمة بنت علي المؤدبة الكاتبة

وتعرف ببنت الأقرع، سمعت الحديث من أبي عمر بن مهدي وغيره، وكانت تكتب المنسوب على طريقة ابن البواب، ويكتب الناس عليها، وبخطها كانت الهدنة من الديوان إلى ملك الروم، وكتبت مرة إلى عميد الملك الكندري رقعة فأعطاها ألف دينار.

توفيت في المحرم من هذه السنة ببغداد، ودفنت بباب إبرز.

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وأربعمائة

فيها: كانت فتن عظيمة بين الروافض والسنة ببغداد، وجرت خطوب كثيرة.

وفي ربيع الأول أخرجت الأتراك من حريم الخلافة، فكان في ذلك قوة للخلافة.

وفيها: ملك مسعود بن الملك المؤيد إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين بلاد غزنة بعد أبيه.

وفيها: فتح ملكشاه مدينة سمرقند.

وحج بالناس الأمير خمارتكين.

من الأعيان:

أحمد بن السلطان ملكشاه

وكان ولي عهد أبيه، توفي وعمره إحدى عشرة سنة، فمكث الناس في العزاء سبعة أيام لم يركب أحد فرسا، والنساء ينحن عليه في الأسواق، وسود أهل البلاد التي لأبيه أبوابهم.

عبد الله بن محمد ابن علي بن محمد

أبو إسماعيل الأنصاري الهروي، روى الحديث وصنف، وكان كثير السهر بالليل، وكانت وفاته بهراة في ذي الحجة عن ست وثمانين سنة.

وحج بالناس فيها الوزير أبو أحمد، واستناب ولده أبا منصور ونقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي.

ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين وأربعمائة

في المحرم درس أبو بكر الشاشي في المدرسة التاجية بباب إبرز، التي أنشأها الصاحب تاج الدين أبو الغنائم على الشافعية.

وفيها: كانت فتن عظيمة بين الروافض والسنة، ورفعوا المصاحف، وجرت حروب طويلة، وقتل فيها خلق كثير، نقل ابن الجوزي في (المنتظم) من خط ابن عقيل: أنه قتل في هذه السنة قريب من مائتي رجل، قال: وسب أهل الكرخ الصحابة وأزواج النبي ، فلعنة الله على من فعل ذلك من أهل الكرخ، وإنما حكيت هذا ليعلم ما في طوايا الروافض من الخبث والبغض لدين الإسلام وأهله، ومن العداوة الباطنة الكامنة في قلوبهم، لله ولرسوله وشريعته.

وفيها: ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهر وطائفة كبيرة من تلك الناحية، بعد حروب عظيمة ووقعات هائلة.

وفيها: استولى جيش المصريين على عدة بلاد من بلاد الشام.

وفيها: عمرت منارة جامع حلب.

وفيها: أرسلت الخاتون بنت السلطان امرأة الخليفة تشكو إلى أبيها إعراض الخليفة عنها فبعث إليها أبوها الطواشي صواب والأمير مران ليرجعها إليه، فأجاب الخليفة إلى ذلك، وبعث معها بالنقيب وجماعة من أعيان الأمراء، وخرج ابن الخليفة أبو الفضل والوزير فشيعاها إلى النهروان وذلك في ربيع الأول، فلما وصلت إلى عند أبيها، توفيت في شوال من هذه السنة بأصبهان، فعمل عزاها ببغداد سبعة أيام، وأرسل الخليفة إلى السلطان أميرين لتعزيته فيها.

وحج بالناس خمارتكين.

من الأعيان:

عبد الصمد بن أحمد بن علي المعروف بطاهر النيسابوري الحافظ

رحل وسمع الكثير، وخرج وعاجله الموت في هذه السنة بهمذان وهو شاب.

علي بن أبي يعلى أبو القاسم الدبوسي

مدرس النظامية بعد المتولي، سمع شيئا من الحديث، وكان فقيها ماهرا، وجدليا باهرا.

عاصم بن الحسن ابن محمد بن علي بن عاصم بن مهران

أبو الحسين العاصمي، من أهل الكرخ، سكن باب الشعير، ولد سنة سبع وتسعين وثلاثمائة، وكان من أهل الفضل والأدب، وسمع الحديث من الخطيب وغيره، وكان ثقة حافظا، ومن شعره قوله:

لهفي على قوم بكاظمة ** ودعتهم والركب معترض

لم تترك العبرات مذ بعدوا ** لي مقلة ترنو وتغتمض

رحلوا فدمعي واكف هطل ** جار وقلبي حشوه مرض

وتعوضوا لا ذقت فقدهم ** عني ومالي عنهم عوض

أقرضتهم قلبي على ثقة ** منهم فماردوا الذي اقترضوا

محمد بن أحمد بن حامد ابن عبيد

أبو جعفر البخاري المتكلم المعتزلي، أقام ببغداد وتعرف بقاضي حلب، وكان حنفي المذهب في الفروع، معتزليا في الأصول، مات ببغداد في هذه السنة، ودفن بباب حرب.

محمد بن أحمد بن عبد الله ابن محمد بن إسماعيل الأصبهاني

المعروف بمسلرفة، أحد الحفاظ الجوالين الرحالين، سمع الكثير وجمع الكتب، وأقام بهراة، وكان صالحا كثير العبادة، توفي بنيسابور في ذي الحجة من هذه السنة، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة

في المحرم منها ورد إلى الفقيه أبي عبد الله الطبري منشور نظام الملك بتدريس النظامية، فدرس بها، ثم قدم الفقيه أبو محمد عبد الوهاب الشيرازي في ربيع الآخر منها بمنشور بتدريسها فاتفق الحال على أن يدرس هذا يوما وهذا يوما.

وفي جمادى الأولى دهم أهل البصرة رجل يقال له: بليا، كان ينظر في النجوم، فاستغوى خلقا من أهلها وزعم أنه المهدي، وأحرق من البصرة شيئا كثيرا، من ذلك دار كتب وقفت على المسلمين لم ير في الإسلام مثلها، وأتلف شيئا كثيرا من الدواليب والمصانع وغير ذلك.

وفيها: خلع على أبي القاسم طراد الزينبي بنقابة العباسيين بعد أبيه.

وفيها: استفتى على معلمي الصبيان أن يمنعوا من المساجد صيانة لها، فأفتوا بمنعهم، ولم يستثن منه سوى رجل كان فقيها شافعيا يدري كيف تصان المساجد، واستدل المفتي بقوله عليه الصلاة والسلام: «سدوا كل خوخة إلا خوخة أبي بكر».

وحج بالناس خمارتكين على العادة.

من الأعيان:

الوزير أبو نصر بن جهير

ابن محمد بن محمد بن جهير عميد الدولة، أحد مشاهير الوزراء، وزر للقائم، ثم لولده المقتدي، ثم عزل ملكشاه السلطان وولي ولده فخر الدولة ديار بكر وغيرها، مات بالموصول وهي بلده التي ولد بها.

وفيها: كان مقتل صاحب اليمن الصليحي، وقد تقدم ذكره.

ثم دخلت سنة أربع وثمانين وأربعمائة

في المحرم منها كتب المنجم الذي أحرق البصرة إلى أهل واسط يدعوهم إلى طاعته، ويذكر في كتابه: أنه المهدي صاحب الزمان الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويهدي الخلق إلى الحق، فإن أطعتم أمنتم من العذاب، وإن عدلتم خسف بكم، فآمنوا بالله وبالإمام المهدي.

وفيها: ألزم أهل الذمة بلبس الغيار وبشد الزنار، وكذاك نساؤهم في الحمامات وغيرها.

وفي جمادى الأولى قدم الشيخ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي من أصبهان إلى بغداد على تدريس النطامية، ولقبه نظام الملك زين الدين شرف الأئمة.

قال ابن الجوزي: وكان كلامه مقبولا، وذكاؤه شديدا.

وفي رمضان منها عزل الوزير أبو شجاع عن وزارة الخلافة فأنشد عند عزله:

تولاها وليس له عدو ** وفارقها وليس له صديق

ثم جاءه كتاب نظام الملك بأن يخرج من بغداد، فخرج منها إلى عدة أماكن، فلم تطب له، فعزم على الحج، ثم طابت نفس النظام عليه فبعث إليه يسأله أن يكون عديله في ذلك، وناب ابن الموصلايا في الوزارة، وقد كان أسلم قبل هذه المباشرة في أول هذه السنة.

وفي رمضان منها دخل السلطان ملكشاه بغداد ومعه الوزير نظام الملك، وقد خرج لتلقيه قاضي القضاة أبو بكر الشاشي، وابن الموصلايا المسلماني، وجاءت ملوك الأطراف إليه للسلام عليه، منهم أخوه تاج الدولة تتش صاحب دمشق، وإتابكه قسيم الدولة اقسنقر صاحب حلب.

وفي ذي القعدة خرج السلطان ملكشاه وابنه وابن ابنته من الخليفة في خلق كثير من الكوفة.

وفيها: استوزر أبو منصور بن جهير وهي النوبة الثانية لوزارته للمقتدي، وخلع عليه، وركب إليه نظام الملك فهنأه في داره بباب العامة.

وفي ذي الحجة عمل السلطان الميلاد في دجلة، وأشعلت نيران عظيمة، وأوقدت شموع كثيرة، وجمعت المطربات في السمريات، وكانت ليلة مشهودة عجيبة جدا، وقد نظم فيها الشعراء الشعر، فلما أصبح النهار من هذه الليلة جيء بالخبيث المنجم الذي حرق البصرة وادعى أنه المهدي محمولا على جمل ببغداد، وجعل يسب الناس والناس يلعنوه، وعلى رأسه طرطورة بودع، والدرة تأخذه من كل جانب، فطافوا به بغداد ثم صلب بعد ذلك.

وفيها: أمر السلطان ملكشاه جلال الدولة بعمارة جامعه المنسوب إليه بظاهر السور.

وفي هذه السنة ملك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بعد صاحب بلاد المغرب كثيرا من بلاد الأندلس، وأسر صاحبها المعتمد بن عباد وسجنه وأهله، وقد كان المعتمد هذا موصوفا بالكرم والأدب والحلم، حسن السيرة والعشرة والإحسان إلى الرعية، والرفق بهم، فحزن الناس عليه، وقال في مصابه الشعراء فأكثروا.

وفيها: ملكت الفرج مدينة صقلية من بلاد المغرب، ومات ملكهم فقام ولده مقامه فسار في الناس سيرة ملوك المسلمين، حتى كأنه منهم، لما ظهر منه من الإحسان إلى المسلمين.

وفيها: كانت زلازل كثيرة بالشام وغيرها، فهدمت بنيانا كثيرا، من جملة ذلك تسعون برجا من سور إنطاكية، وهلك تحت الهدم خلق كثير.

وحج بالناس خمارتكين.

من الأعيان:

عبد الرحمن بن أحمد أبو طاهر

ولد بأصبهان، وتفقه بسمر قند، وهو الذي كان سبب فتحها على يد السلطان ملكشاه، وكان من رؤساء الشافعية، وقد سمع الحديث الكثير.

قال عبد الوهاب بن منده: لم نر فقيها في وقتنا أنصف منه، ولا أعلم.

وكان فصيح اللهجة كثير المروءة غزير النعمة، توفي ببغداد، ومشى الوزراء والكبراء في جنازته، غير أن النظام ركب واعتذر بكبر سنه، ودفن إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وجاء السلطان إلى التربة.

قال ابن عقيل: جلست بكرة العزاء إلى جانب نظام الملك والملوك قيام بين يديه، اجترأت على ذلك بالعلم.

حكاه ابن الجوزي.

محمد بن أحمد بن علي أبو نصر المروزي

كان إماما في القراءات، وله فيها المصنفات، وسافر في ذلك كثيرا، واتفق له أنه غرق في البحر في بعض أسفاره، فبينما الموج يرفعه ويضعه إذ نظر إلى الشمس قد زالت، فنوى الوضوء وانغمس في الماء ثم صعد فإذا خشبة فركبها وصلى عليها، ورزقه الله السلامة ببركة امتثاله للأمر، واجتهاده على العمل، وعاش بعد ذلك دهرا، وتوفي في هذه السنة، وله نيف وتسعون سنة.

محمد بن عبد الله بن الحسن أبو بكر الناصح الفقيه الحنفي المناظر المتكلم المعتزلي

ولي القضاء بنيسابور، ثم عزل لجنونه وكلامه وأخذه الرشا، وولي قضاء الري، وقد سمع الحديث، وكان من أكابر العلماء، توفي في رجب منها.

أرتق بن ألب التركماني

جد الملوك الأرتقية الذين هم ملوك ماردين، كان شهما شجاعا عالي الهمة، تغلب على بلاد كثيرة، وقد ترجمه ابن خلكان وأرخ وفاته بهذه السنة.

ثم دخلت سنة خمس وثمانين وأربعمائة

فيها: أمر السلطان ملكشاه ببناء سور سوق المدينة المعروفة بطغرلبك، إلى جانب دار الملك، وجدد خاناتها وأسواقها ودورها، وأمر بتجديد الجامع الذي تم على يد هارون الخادم، في سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ووقف على نصب قبلته بنفسه، ومنجمه إبراهيم حاضر، ونقلت أخشاب جامع سامرا.

وشرع نظام الملك في بناء دار له هائلة، وكذلك تاج الملوك أبو الغنائم، شرع في بناء دار هائلة أيضا، واستوطنوا بغداد.

وفي جمادى الأولى وقع حريق عظيم ببغداد في أماكن شتى، فما طفئ حتى هلك للناس شيء كثير، فما عمروا بقدر ما حرق وما غرموا.

وفي ربيع الأول خرج السلطان إلى أصبهان، وفي صحبته ولد الخليفة أبو الفضل جعفر، ثم عاد إلى بغداد في رمضان، فبينما هو في الطريق يوم عاشوراء عدا صبي من الديلم على الوزير نظام الملك، بعد أن أفطر، فضربه بسكين فقضى عليه بعد ساعة، وأخذ الصبي الديلمي فقتل، وقد كان من كبار الوزراء وخيار الأمراء، وسنذكر شيئا من سيرته عند ذكر ترجمته.

وقدم السلطان بغداد في رمضان بنية غير صالحة، فلقاه الله في نفسه ما تمناه لأعدائه، وذلك أنه لما استقر ركابه ببغداد وجاء الناس للسلام عليه، والتهنئة بقدومه، وأرسل إليه الخليفة يهنئه، فأرسل إلى الخليفة يقول له: لابد أن تنزل لي عن بغداد، وتتحول إلى أي البلاد شئت.

فأرسل إليه الخليفة يستنظره شهرا، فرد عليه: ولا ساعة واحدة.

فأرسل إليه يتوسل في إنظاره عشرة أيام، فأجاب إلى ذلك بعد تمنع شديد، فما استتم الأجل حتى خرج السلطان يوم عيد الفطر إلى الصيد فأصابته حمى شديدة، فافتصد فما قام منها حتى مات قبل العشرة أيام، ولله الحمد والمنة.

فاستحوذت زوجته زبيدة خاتون على الجيش، وضبطت الأموال والأحوال جيدا، وأرسلت إلى الخليفة تسأل منه أن يكون ولدها محمود ملكا بعد أبيه، وأن يخطب له على المنابر، فأجابها إلى ذلك، وأرسل إليه بالخلع، وبعث يعزيها ويهنئها مع وزيره عميد الدولة بن جهير.

وكان عمر الملك محمود هذا يومئذ خمس سنين، ثم أخذته والدته في الجيوش وسارت به نحو أصبهان ليتوطد له الملك، فدخلوها وتم لهم مرادهم، وخطب لهذا الغلام في البلدان حتى في الحرمين، واستوزر له تاج الملك أبا الغنائم المرزبان بن خسرو، وأرسلت أمه إلى الخليفة تسأله أن تكون ولايات العمال إليه، فامتنع الخليفة ووافقه الغزالي على ذلك، وأفتى العلماء بجواز ذلك، منهم: المتطبب بن محمد الحنفي، فلم يعمل إلا بقول الغزالي، وانحاز أكثر جيش السلطان إلى ابنه الآخر بركيارق، فبايعوه وخطبوا له بالري، وانفردت الخاتون وولدها ومعهم شرذمة قليلة من الجيش والخاصكية، فأنفقت فيهم ثلاثين ألف ألف دينار لقتال بركيارق بن ملكشاه، فالتقوا في ذي الحجة فكانت الخاتون هي المنهزمة ومعها ولدها.

وفي صحيح البخاري: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة».

وفي ذي القعدة اعترضت بنو خفاجة للحجيج فقاتلهم من في الحجيج من الجند مع الأمير خمارتكين، فهزموهم، ونهبت أموال الأعراب، ولله الحمد والمنة.

وفيها: جاء برد شديد عظيم بالبصرة، وزن الواحدة منها خمسة أرطال إلى ثلاثة عشر رطلا، فأتلفت شيئا كثيرا من النخيل والأشجار، وجاء ريح عاصف قاصف فألقى عشرات الألوف من النخيل، فإنا لله وإنا إليه راجعون {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} 14.

وفيها: ملك تاج الدولة تتش صاحب دمشق مدينة حمص، وقلعة عرقة، وقلعة فامية، ومعه قسيم الدولة أقسنقر، وكان السلطان قد جهز سرية إلى اليمن صحبة سعد كوهرائين الدولة وأمير آخر من التركمان، فدخلاها وأساءا فيها السيرة فتوفي سعد كوهرائين يوم دخوله إليها في مدينة عدن، ولله الحمد والمنة.

من الأعيان:

جعفر بن يحيى بن عبد الله أبو الفضل التميمي

المعروف بالحكاك المكي، رحل في طلب الحديث إلى الشام والعراق وأصبهان وغير ذلك من البلاد، وسمع الكثير وخرج الأجزاء، وكان حافظا متقنا، ضابطا أديبا، ثقة صدوقا، وكان يراسل صاحب مكة، وكان من ذوي الهيئات والمروءات، قارب الثمانين، رحمه الله.

نظام الملك الوزير الحسن بن علي بن إسحاق أبو علي

وزر للملك ألب أرسلان وولده ملكشاه تسعا وعشرين سنة، كان من خيار الوزراء.

ولد بطوس سنة ثمان وأربعمائة، وكان أبوه من أصحاب محمود بن سبكتكين، وكان من الدهاقين، فأشغل ولده هذا، فقرأ القرآن وله إحدى عشرة سنة.

وأشغله بالعلم والقراءات والتفقه على مذهب الشافعي، وسماع الحديث واللغة والنحو، وكان عالي الهمة، فحصل من ذلك طرفا صالحا، ثم ترقى في المراتب حتى وزر للسلطان ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق ثم من بعد لملكشاه تسعا وعشرين سنة، لم ينكب في شيء منها، وبنى المدارس النظامية ببغداد ونيسابور وغيرهما، وكان مجلسه عامرا بالفقهاء والعلماء، بحيث يقضي معهم غالب نهاره، فقيل له: إن هؤلاء شغلوك عن كثير من المصالح.

فقال: هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسي لما استكثرت ذلك.

وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني قام لهما وأجلسهما معه في المقعد، فإذا دخل أبو علي الفارمدي قام وأجلسه مكانه، وجلس بين يديه، فعوتب في ذلك فقال: إنهما إذا دخلا علي قال: أنت وأنت، يطروني ويعظموني، ويقولوا فيّ ما ليس فيّ، فأزداد بهما ما هو مركوز في نفس البشر، وإذا دخل عليّ أبو علي الفارندي ذكرني عيوبي وظلمي، فأنكسر فأرجع عن كثير من الذي أنا فيه.

وكان محافظا على الصلوات في أوقاتها، لا يشغله بعد الأذان شغل عنها وكان يواظب على صيام الاثنين والخميس، وله الأوقاف الدارة، والصدقات البارة.

وكان يعظم الصوفية تعظيما زائدا، فعوتب في ذلك، فقال: بينما أنا أخدم بعض الملوك جاءني يوما إنسان فقال لي: إلى متى أنت تخدم من تأكله الكلاب غدا؟ اخدم من تنفعك خدمته، ولا تخدم من تأكله الكلاب غدا.

فلم أفهم ما يقول، فاتفق أن ذلك الأمير سكر تلك الليلة فخرج في أثناء الليل وهو ثمل، وكانت له كلاب تفترس الغرباء بالليل، فلم تعرفه فمزقته، فأصبح وقد أكلته الكلاب.

قال: فأنا أطلب مثل ذلك الشيخ.

وقد سمع الحديث في أماكن شتى ببغداد وغيرها، وكان يقول: إني لأعلم بأني لست أهلا للرواية، ولكني أحب أن أربط في قطار نقلة حديث رسول الله .

وقال أيضا: رأيت ليلة في المنام إبليس فقلت له: ويحك خلقك الله وأمرك بالسجود له مشافهة فأبيت، وأنا لم يأمرني بالسجود له مشافهة وأنا أسجد له في كل يوم مرات، وأنشأ يقول:

من لم يكن للوصال أهلا ** فكل إحسانه ذنوب

وقد أجلسه المقتدي مرة بين يديه وقال له: يا حسن، رضي الله عنك برضا أمير المؤمنين عنك.

وقد ملك ألوفا من الترك، وكان له بنون كثيرة، وزر منهم خمسة، وزر ابنه أحمد للسلطان محمد بن ملك شاه، ولأمير المؤمنين المسترشد بالله.

وخرج نظام الملك مع السلطان من أصبهان قاصدا بغداد في مستهل رمضان من هذه السنة، فلما كان اليوم العاشر اجتاز في بعض طريقه بقرية بالقرب من نهاوند، وهو يسايره في محفة، فقال: قد قتل ههنا خلق من الصحابة زمن عمر، فطوبى لمن يكون عندهم.

فاتفق أنه لما أفطر جاءه صبي في هيئة مستغيث به ومعه قصة، فلما انتهى إليه ضربه بسكين في فؤاده وهرب، وعثر بطُنُب الخيمة فأُخذ فقتل، ومكث الوزير ساعة، وجاءه السلطان يعوده فمات وهو عنده، وقد اتهم السلطان في أمره أنه هو الذي مالأ عليه، فلم تطل مدته بعده سوى خمسة وثلاثين يوما، وكان في ذلك عبرة لأولي الألباب.

وكان قد عزم على إخراج الخليفة أيضا من بغداد، فما تم له ما عزم عليه، ولما بلغ أهل بغداد موت النظام حزنوا عليه، وجلس الوزير والرؤساء للعزاء ثلاثة أيام، ورثاه الشعراء بقصائد منهم مقاتل بن عطية فقال:

كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ** يتيمة صاغها الرحمن من شرف

عزت فلم تعرف الأيام قيمتها ** فردها غيرة منه إلى الصدف

وأثنى عليه غير واحد حتى ابن عقيل وابن الجوزي وغيرهما، رحمه الله.

عبد الباقي بن محمد بن الحسين ابن داود بن ياقيا

أبو القاسم الشاعر، من أهل الحريم الظاهري، ولد سنة عشر وأربعمائة، وكان ماهرا، وقد رماه بعضهم باعتقاد الأوائل، وأنكر أن يكون في السماء نهر من ماء أو نهر من لبن، أو نهر من خمر، أو نهر من عسل، يعني: في الجنة، وما سقط من ذلك قطرة إلى الأرض إلا هذا الذي هو يخرب البيوت ويهدم الحيطان والسقوف، وهذا الكلام كفر من قائله، نقله عنه ابن الجوزي في (المنتظم).

وحكى بعضهم أنه وجد في كفنه مكتوبا حين مات هذين البيتين:

نزلت بجار لا يخيب ضيفه ** أرجّي نجاتي من عذاب جهنم

وإني على خوفي من الله واثق ** بأنعامه والله أكرم منعم

مالك بن أحمد بن علي ابن إبراهيم، أبو عبد الله البانياسي الشامي

وقد كان له اسم آخر سمته به أمه علي أبو الحسن، فغلب عليه ما سماه به أبوه، وما كناه به.

سمع الحديث على مشايخ كثيرة، وهو آخر من حدث عن أبي الحسن بن الصلت، هلك في حريق سوق الريحانيين، وله ثمانون سنة، كان ثقة عند المحدثين.

السلطان ملكشاه جلال الدين والدولة

أبو الفتح ملكشاه، ابن أبي شجاع ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل ابن سلجوق تقاق التركي، ملك بعد أبيه وامتدت مملكته من أقصى بلاد الترك إلى أقصى بلاد اليمن، وراسله الملوك من سائر الأقاليم حتى ملك الروم والخزر واللان.

وكانت دولته صارمة، والطرقات في أيامه آمنة، وكان مع عظمته يقف للمسكين والضعيف، والمرأة فيقضي حوائجهم، وقد عمر العمارات الهائلة، وبنى القناطر، وأسقط المكوس والضرائب، وحفر الأنهار الكبار، وبنى مدرسة أبي حنيفة والسوق، وبنى الجامع الذي يقال له: جامع السلطان ببغداد، وبنى منارة القرون من صيوده بالكوفة، ومثلها فيما وراء النهر، وضبط ما صاده بنفسه في صيوده فكان ذلك نحوا من عشرة آلاف صيد، فتصدق بعشرة آلاف درهم، وقال: إني خائف من الله تعالى أن أكون أزهقت نفس حيوان لغير مأكلة.

وقد كانت له أفعال حسنة، وسيرة صالحة، من ذلك أن فلاحا أنهى إليه أن غلمانا له أخذوا له حمل بطيخ، ففتشوا فإذا في خيمة الحاجب بطيخ، فحملوه إليه، ثم استدعى بالحاجب فقال: من أين لك هذا البطيخ؟

قال: جاء به الغلمان.

فقال: أحضرهم.

فذهب وأمرهم بالهرب فأحضره وسلمه للفلاح، وقال: خذ بيده فإنه مملوكي ومملوك أبي، وإياك أن تفارقه، ثم رد على الفلاح الحمل البطيخ.

فخرج الفلاح يحمله وبيده الحاجب فاستنقذ الحاجب نفسه من الفلاح بثلاثمائة دينار.

ولما توجه لقتال أخيه تتش اجتاز بطوس فدخلها لزيارة قبر علي بن موسى الرضى، ومعه نظام الملك، فلما خرجا قال للنظام: بم دعوت الله؟

قال: دعوت الله أن يظفرك على أخيك.

قال: لكني قلت اللهم إن كان أخي أصلح للمسلمين فظفره بي، وإن كنت أنا أصلح لهم فظفرني به.

وقد سار بعسكره من أصبهان إلى أنطاكية، فما عرف أن أحدا من جيشه ظلم أحدا من الرعية، وكانوا مئين ألوف.

واستعدى إليه مرة تركماني، أن رجلا افتض بكارة ابنته وهو يريد أن يمكنه من قتله، فقال له: يا هذا إن ابنتك لو شاءت ما مكنته من نفسها، فإن كنت لابد فاعلا فاقتلها معه.

فسكت الرجل، فقال له الملك: أو تفعل خيرا من ذلك؟

قال: وما هو؟

قال: فإن بكارتها قد ذهبت، فزوجها من ذلك الرجل، وأنا أمهرها من بيت المال كفايتهما.

ففعل.

وحكى له بعض الوعاظ أن كسرى اجتاز يوما في بعض أسفاره بقرية وكان منفردا من جيشه، فوقف على باب دار فاستسقى فأخرجت إليه جارية إناء فيه ماء قصب السكر بالثلج، فشرب منه فأعجبه فقال: كيف تصنعون هذا؟

فقالت: إنه سهل علينا اعتصاره على أيدينا، فطلب منها شربة أخرى، فذهبت لتأتيه بها فوقع في نفسه أن يأخذ هذا المكان منهم، ويعوضهم عنه غيره، فأبطأت عليه، ثم خرجت وليس معها شيء، فقال: مالك؟

فقالت: كأن نية سلطاننا تغيرت علينا، فتعسر عليّ اعتصاره - وهي لا تعرف أنه السلطان -.

فقال: اذهبي فإنك الآن تقدرين عليه، وغير نيته إلى غيرها.

فذهبت وجاءته بشربة أخرى سريعا فشربها وانصرف.

فقال له السلطان: هذه تصلح لي ولكن قص على الرعية أيضا حكاية كسرى الأخرى حين اجتاز ببستان وقد أصابته صفراء في رأسه وعطش، فطلب من ناطوره عنقودا من حصرم، فقال له الناطور: إن السلطان لم يأخذ حقه منه، فلا أقدر أن أعطيك منه شيئا.

قال: فعجب الناس من ذكاء الملك وحسن استحضاره هذه في مقابلة تلك.

واستعداه رجلان من الفلاحين على الأمير خمارتكين أنه أخذ منهما مالا جزيلا وكسر ثنيتهما، وقالا: سمعنا بعدلك في العالم، فإن أقدتنا منه كما أمرك الله وإلا استعدينا عليك الله يوم القيامة.

وأخذا بركابه، فنزل عن فرسه، وقال لهما: خذا بكمي واسحباني إلى دار نظام الملك، فهابا ذلك، فعزم عليهما أن يفعلا، ففعلا ما أمرهما به، فلما بلغ النظام مجيء السلطان إليه، خرج مسرعا فقال له الملك: إني إنما قلدتك الأمر لتنصف المظلوم ممن ظلمه، فكتب من فوره فعزل خمارتكين وحل أقطاعه، وأن يرد إليهما أموالهما، وأن يقلعا ثنيتيه إن قامت عليه البيّنة، وأمر لها الملك من عنده بمائة دينار.

وأسقط مرة بعض المكوس، فقال له رجل من المستوفين: يا سلطان العالم، إن هذا الذي أسقطته يعدل ستمائة ألف دينار وأكثر.

فقال: ويحك إن المال مال الله، والعباد عباد الله، والبلاد بلاده، وإنما أردت أن يبقى هذا لي عند الله، ومن نازعني في هذا ضربت عنقه.

وغنته امرأة حسناء فطرب وتاقت نفسه إليها، فهم بها فقالت: أيها الملك إني أغار على هذا الوجه الجميل من النار، وبين الحلال والحرام كلمة واحدة.

فاستدعى القاضي فزوجه بها.

وقد ذكر ابن الجوزي: عن ابن عقيل أن السلطان ملك شاه كان قد فسدت عقيدته بسبب معاشرته لبعض الباطنية ثم تنصل من ذلك وراجع الحق.

وذكر ابن عقيل أنه كتب له شيئا في إثبات الصانع، وقد ذكرنا أنه لما رجع آخر مرة إلى بغداد فعزم على الخليفة أن يخرج منها، فاستنظره عشرة أيام فمرض السلطان ومات قبل انقضاء العشرة أيام، وكانت وفاته في ليلة الجمعة النصف من شوال عن سبع وثلاثين سنة وخمسة أشهر، وكان مدة ملكه من ذلك تسع عشرة سنة وأشهرا، ودفن بالشونيزي، ولم يصلّ عليه أحد لكتمان الأمر، وكان مرضه بالحمى، وقيل: إنه سم، والله أعلم.

باني التاجية ببغداد

المرزبان بن خسرو، تاج الملك الوزير، أبو الغنائم باني التاجية، وكان مدرسها أبو بكر الشاشي وبنى تربة الشيخ أبي إسحاق، وقد كان السلطان ملكشاه أراد أن يستوزره بعد نظام الملك فمات سريعا، فاستوزر لولده محمود، فلما قهره أخوه بركيارق قتله غلمان النظام وقطعوه إربا إربا في ذي الحجة من هذه السنة.

هبة الله بن عبد الوارث

ابن علي بن أحمد نوري، أبو القاسم الشيرازي، أحد الرحالين الجوالين في الآفاق، كان حافظا ثقة دينا ورعا، حسن الاعتقاد والسيرة، له تاريخ حسن، ورحل إليه الطلبة من بغداد وغيرها، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمائة

فيها: قدم إلى بغداد رجل يقال له: أردشير بن منصور أبو الحسين العبادي، مرجعه من الحج، فنزل النظامية فوعظ الناس وحضر مجلسه الغزالي مدرّس المكان، فازدحم الناس في مجلسه، وكثروا في المجالس بعد ذلك، وترك كثير من الناس معايشهم، وكان يحضر مجلسه في بعض الأحيان أكثر من ثلاثين ألفا من الرجال والنساء، وتاب كثير من الناس ولزموا المساجد، وأريقت الخمور وكسرت الملاهي، وكان الرجل في نفسه صالحا، له عبادات، وفيه زهد وافر، وله أحوال صالحة، وكان الناس يزدحمون على فضل وضوئه، وربما أخذوا من البركة التي يتوضأ منها ماء للبركة.

ونقل ابن الجوزي: أنه اشتهى مرة على بعض أصحابه توتا شاميا وثلجا فطاف البلد بكماله فلم يجده، فرجع فوجد الشيخ في خلوته، فسأل: هل جاء اليوم إلى الشيخ أحد؟

فقيل له: جاءت امرأة فقالت: إني غزلت بيدي غزلا وبعته وأنا أحب أن أشتري للشيخ طرفة.

فامتنع من ذلك فبكت فرحمها، وقال: اذهبي فاشتري.

فقالت: ماذا تشتهي؟

فقال: ما شئت.

فذهبت فأتته بتوت شامي وثلج فأكله.

وقال بعضهم: دخلت عليه وهو يشرب مرقا فقلت في نفسي: ليته أعطاني فضله لأشربه لحفظ القرآن، فناولني فضله فقال: اشربها على تلك النية.

قال: فرزقني الله حفظ القرآن.

وكانت له عبادات ومجاهدات، ثم اتفق أنه تكلم في بيع القراضة بالصحيح فمنع من الجلوس وأخرج من البلد.

وفيها: خطب تتش بن ألب أرسلان لنفسه بالسلطنة، وطلب من الخليفة أن يخطب له بالعراق فحصل التوقف عن ذلك بسبب ابن أخيه بركيارق بن ملكشاه، فسار إلى الرحبة وفي صحبته وطاعته أقسنقر صاحب حلب، وبوران صاحب الرها، ففتح الرحبة، ثم سار إلى الموصل فأخذها من يد صاحبها إبراهيم بن قريش بن بدران، وهزم جيوشه من بني عقيل، وقتل خلقا من الأمراء صبرا، وكذلك أخذ ديار بكر واستوزر الكافي بن فخر الدولة بن جهير، وكذلك أخذ همدان وخلاط، وفتح أذربيجان واستفحل أمره.

ثم فارقه الأميران اقسنقر وبوران، فسارا إلى الملك بركيارق وبقي تتش وحده، فطمع فيه أخوه بركيارق، فرجع تتش فلحقه قسيم الدولة اقسنقر وبوران بباب حلب فكسرهما، وأسر بوران واقسنقر فصلبهما، وبعث برأس بوران فطيف به حران والرها وملكها من بعده.

وفيها: وقعت الفتنة بين الروافض والسنة، وانتشرت بينهم شرور كثيرة.

وفي ثاني شعبان ولد للخليفة ولده المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن أبي العباس أحمد المستظهر، ففرح الخليفة به.

وفي ذي القعدة دخل السلطان بركيارق بغداد، وخرج إليه الوزير أبو منصور بن جهير وهنأه عن الخليفة بالقدوم.

وفيها: أخذ المستنصر العبيدي مدينة صور من أرض الشام.

ولم يحج فيها أحد من أهل العراق.

من الأعيان:

جعفر بن المقتدي بالله من الخاتون بنت السلطان ملكشاه

في جمادى الأولى وجلس الوزير للعزاء والدولة ثلاثة أيام.

سليمان بن إبراهيم ابن محمد بن سليمان

أبو مسعود الأصبهاني، سمع الكثير وصنف وخرج على الصحيحين، وكانت له معرفة جيدة بالحديث، سمع ابن مردويه وأبا نعيم والبرقاني، وكتب عن الخطيب وغيره.

توفي في ذي العقدة عن تسع وثمانين سنة.

عبد الواحد بن أحمد بن المحسن

الدشكري، أبو سعد الفقيه الشافعي، صحب أبا إسحاق الشيرازي، وروى الحديث، وكان مؤلفا لأهل العلم، وكان يقول: ما مشى قدمي هاتين في لذة قط.

توفي في رجب منها ودفن بباب حرب.

علي بن أحمد بن يوسف أبو الحسن الهكاري

قدم بغداد ونزل برباط الدوري، وكانت له أربطة قد أنشأها، سمع الحديث، وروى عنه غير واحد من الحفاظ، وكان يقول: رأيت رسول الله في المنام في الروضة فقلت: يا رسول الله أوصني.

فقال: عليك باعتقاد أحمد بن حنبل، ومذهب الشافعي، وإياك ومجالسة أهل البدع.

توفي في المحرم منها.

علي بن محمد بن محمد أبو الحسن الخطيب الأنباري

ويعرف بابن الأخضر، سمع أبا محمد الرضى، وهو آخر من حدث عنه، توفي في شوال منها عن خمس وتسعين سنة.

أبو نصر علي بن هبة الله ابن ماكولا

ولد سنة ثنتين وأربعمائة، وسمع الكثير وكان من الحفاظ، وله كتاب (الإكمال) في المؤتلف والمختلف، جمع بين كتاب عبد الغني وكتاب الدارقطني وغيرهما، وزاد عليهما أشياء كثيرة، بهمة حسنة مفيدة نافعة، وكان نحويا مبرزا، فصيح العبارة حسن الشعر.

قال ابن الجوزي: وسمعت شيخنا عبد الوهاب يطعن في دينه ويقول: المعلم يحتاج إلى دين.

وقتل في خوزستان في هذه السنة أو التي بعدها، وقد جاوز الثمانين، كذا ذكره ابن الجوزي.

ثم دخلت سنة سبع وثمانين وأربعمائة

فيها: كانت وفاة الخليفة المقتدي وخلافة ولده المستظهر بالله.

صفة موته

لما قدم السلطان بركيارق بغداد، سأل من الخليفة أن يكتب له بالسلطنة كتابا فيه العهد إليه فكتب ذلك، وهيئت الخلع وعرضت على الخليفة، وكان الكتاب يوم الجمعة الرابع عشر من المحرم، ثم قدم إليه الطعام فتناول منه على العادة وهو في غاية الصحة، ثم غسل يده وجلس ينظر في العهد بعدما وقع عليه، وعنده قهرمانة تسمى شمس النهار، قالت: فنظر إليّ وقال: من هؤلاء الأشخاص الذين قد دخلوا علينا بغير إذن؟

قالت: فالتفت فلم أر أحدا، ورأيته قد تغيرت حالته واسترخت يداه ورجلاه، وانحلت قواه، وسقط إلى الأرض.

قالت: فظننت أنه غشي عليه، فحللت أزرار ثيابه فإذا هو لا يجيب داعيا، فأغلقت عليه الباب وخرجت فأعلمت ولي العهد بذلك، وجاء الأمراء ورؤس الدولة يعزونه بأبيه، ويهنئونه بالخلافة، فبايعوه.

شيء من ترجمة المقتدي بأمر الله

هو أمير المؤمنين المقتدي بالله أبو عبد الله بن الذخيرة، الأمير ولي العهد أبي العباس أحمد، ابن أمير المؤمنين القائم بأمر الله، بن القادر بالله العباسي، أمه أم ولد اسمها أرجوان أرمنية، أدركت خلافة ولدها وخلافة ولده المستظهر وولد المسترشد أيضا، وكان المقتدي أبيض حلو الشمائل، عمرت في أيامه محال كثيرة من بغداد، ونفى عن بغداد المغنيات وأرباب الملاهي والمعاصي، وكان غيورا على حريم الناس، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، حسن السيرة، رحمه الله.

توفي يوم الجمعة رابع عشر المحرم من هذه السنة، وله من العمر ثمان وثلاثون سنة وثمان شهور وتسعة أيام، خلافته من ذلك تسع عشرة سنة وثمان شهور إلا يومين، وأخفي موته ثلاثة أيام حتى توطدت البيعة لابنه المستظهر، ثم صلي عليه ودفن في تربتهم، والله أعلم.

خلافة المستظهر بأمر الله أبي العباس

لما توفي أبوه يوم الجمعة أحضروه وله من العمر ست عشرة سنة وشهران، فبويع بالخلافة، وأول من بايعه الوزير أبو منصور بن جهير، ثم أخذ البيعة له من الملك ركن الدولة بركيارق بن ملكشاه ثم من بقية الأمراء والرؤساء، وتمت البيعة تؤخذ له إلى ثلاثة أيام، ثم أظهر التابوت يوم الثلاثاء الثامن عشر من المحرم، وصلى عليه ولده الخليفة، وحضر الناس، ولم يحضر السلطان، وحضر أكثر أمرائه، وحضر الغزالي والشاشي وابن عقيل، وبايعوه يوم ذلك.

وقد كان المستظهر كريم الأخلاق حافظا للقرآن فصيحا بليغا شاعرا مطيقا، ومن لطيف شعره قوله:

أذاب حر الجوى في القلب ما جمدا ** يوما مددت على رسم الوداع يدا

فكيف أسلك نهج الاصطبار وقد ** أرى طرائق من يهوى الهوى قددا

قد أخلف الوعد بدر قد شغفت به ** من بعد ما قد وفى دهرا بما وعدا

إن كنت أنقض عهد الحب في خلدي ** من بعد هذا فلا عاينته أبدا

وفوض المستظهر أمور الخلافة إلى وزيره أبي منصور عميد الدولة بن جهير، فدبرها أحسن تدبير، ومهد الأمور أتم تمهيد، وساس الرعايا، وكان من خيار الوزراء.

وفي ثالث عشر شعبان عزل الخليفة أبا بكر الشاشي عن القضاء، وفوضه إلى أبي الحسن بن الدامغاني.

وفيها: وقعت فتنة بين السنة والروافض فأحرقت محال كثيرة، وقتل ناس كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولم يحج أحد لاختلاف السلاطين.

وكانت الخطبة للسلطان بركيارق ركن الدولة يوم الجمعة الرابع عشر من المحرم، وهو اليوم الذي توفي فيه الخليفة المقتدي بعد ما علم على توقيعه.

من الأعيان:

اقسنقر الأتابك

الملقب قسيم الدولة السلجوقي، ويعرف بالحاجب، صاحب حلب وديار بكر والجزيرة.

وهو جد الملك نور الدين الشهيد بن زنكي بن اقسنقر، كان أولا من أخص أصحاب السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، ثم ترقت منزلته عنده حتى أعطاه حلب وأعمالها بإشارة الوزير نظام الملك، وكان من أحسن الملوك سيرة وأجودهم سريرة، وكانت الرعية معه في أمن ورخص وعدل، ثم كان موته على يد السلطان تاج الدولة تتش صاحب دمشق، وذلك أنه استعان به وبصاحب حران والرها على قتال ابن أخيه بركيارق بن ملكشاه، ففرا عنه وتركاه، فهرب إلى دمشق، فلما تمكن ورجعا قاتلهما بباب حلب فقتلهما، وأخذ بلادهما إلا حلب، فإنها استقرت لولد اقسنقر زنكي فيما بعد، وذلك في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة كما سيأتي بيانه.

وذكر ابن خلكان: أنه كان مملوكا للسلطان ملكشاه، هو وبوزان صاحب الرها، فلما ملك تتش حلب استنابه بها فعصى عليه فقصده، وكان قد ملك دمشق أيضا فقاتله فقتله في هذه السنة في جمادى الأولى منها، فلما قتل دفنه ولده عماد الدين زنكي، وهو أبو نور الدين، فقبره بحلب أدخله ولده إليها من فوق الصور، فدفنه بها.

أمير الجيوش بدر الجمالي

صاحب جيوش مصر ومدبر الممالك الفاطمية، كان عاقلا كريما محبا للعلماء، ولهم عليه رسوم دارة، تمكن في أيام المستنصر تمكنا عظيما، ودارت أزمة الأمور على آرائه، وفتح بلادا كثيرة، وامتدت أيامه وبعد صيته وامتدحته الشعراء.

ثم كانت وفاته في ذي القعدة منها، وقام بالأمر من بعده ولده الأفضل.

الخليفة المقتدي

وقد تقدم شيء من ترجمته.

الخليفة المستنصر الفاطمي

أبو تميم معد بن أبي الحسن علي بن الحاكم، استمرت أيامه ستين سنة، ولم يتفق هذا لخليفة قبله ولا بعده، وكان قد عهد بالأمر إلى ولده نزار، فخلعه الأفضل بن بدر الجمالي بعد موت أبيه.

وأمر الناس فبايعوا أحمد بن المستنصر أخاه؛ ولقبه بالمستعلي، فهرب نزار إلى الإسكندرية فجمع الناس عليه فبايعوه، وتولى أمره قاضي الإسكندرية: جلال الدولة بن عمار، فقصده الأفضل فحاصره وقاتلهم نزار وهزمهم الأفضل، وأسر القاضي ونزار، فقتل القاضي وحبس نزار بين حيطين حتى مات، واستقر المستعلي في الخلافة، وعمره إحدى وعشرين سنة.

محمد بن أبي هاشم أمير مكة

كانت وفاته فيها عن نيف وتسعين سنة.

محمود بن السلطان ملكشاه

كانت أمه قد عقدت له الملك، وأنفقت بسببه الأموال، فقاتله بركيارق فكسره، ولزم بلده أصبهان، فمات بها في هذه السنة، وحمل إلى بغداد فدفن بها بالتربة النظامية.

كان من أحسن الناس وجها وأظرفهم شكلا، توفي في شوال منها، وماتت أمه الخاتون تركيان شاه في رمضان، فانحل نظامه، وكانت قد جمعت عليه العساكر، وأسندت أزمة أمور المملكة إليه، وملكت عشرة آلاف مملوك تركي، وأنفقت في ذلك قريبا من ثلاثة آلاف ألف دينار، فانحل النظام ولم تحصل على طائل، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وأربعمائة

فيها: قدم يوسف بن أبق التركماني من جهة تتش صاحب دمشق إلى بغداد لأجل إقامة الدعوة له ببغداد، وكان تتش قد توجه لقتال ابن أخيه بناحية الري، فلما دخل رسوله بغداد هابوه وخافوه واستدعاه الخليفة فقربه وقبل الأرض بين يدي الخليفة، وتأهب أهل بغداد له، وخافوا أن ينهبهم، فبينما هو كذلك إذ قدم عليه رسول ابن أخيه فأخبره أن تتش قتل في أول من قتل في الوقعة، وكانت وفاته في سابع عشر صفر من هذه السنة، فاستفحل أمر بركيارق واستقل بالأمور.

وكان دقاق بن تتش مع أبيه حين قتل، فسار إلى دمشق فملكها، وكان نائب أبيه عليها الأمير ساوتكين، واستوزر أبا القاسم الخوارزمي، وملك عبد الله بن تتش مدينة حلب، ودبر أمر مملكته جناح الدولة بن اتكين، ورضوان بن تتش صاحب مدينة حماه، وإليه تنسب بنو رضوان بها.

وفي يوم الجمعة التاسع عشر من ربيع الأول منها خطب لولي العهد أبي المنصور الفضل بن المستظهر، ولقب بذخيرة الدين.

وفي ربيع الآخر خرج الوزير ابن جهير فاختط سورا على الحريم، وأذن للعوام في العمل والتفرج فأظهروا منكرات كثيرة، وسخافات عقول ضعيفة، وعملوا أشياء منكرة، فبعث إليه ابن عقيل رقعة فيها كلام غليظ، وإنكار بغيض.

وفي رمضان خرج السلطان بركيارق فعدا عليه فداوى، فلم يتمكن منه، فمسك فعوقب فأقر على آخرين فلم يقرا فقتل الثلاثة، وجاء الطواشي من جهة الخليفة مهنئا به بالسلامة.

وفي ذي القعدة منها خرج أبو حامد الغزالي من بغداد متوجها إلى بيت المقدس تاركا لتدريس النظامية، زاهدا في الدنيا، لابسا خشن الثياب بعد ناعمها، وناب عنه أخوه في التدريس، ثم حج في السنة التالية ثم رجع إلى بلده، وقد صنف كتاب (الإحياء) في هذه المدة، وكان يجتمع إليه الخلق الكثير كل يوم في الرباط فيسمعونه.

وفي يوم عرفة خلع على القاضي أبي الفرج عبد الرحمن بن هبة الله بن البستي، ولقب بشرف القضاة، ورد إلى ولاية القضاء بالحريم وغيره.

وفيها: اصطلح أهل الكرخ من الرافضة والسنة مع بقية المحال، وتزاوروا وتواصلوا وتواكلوا، وكان هذا من العجائب.

وفيها: قتل أحمد بن خاقان صاحب سمرقند، وسببه أنه شهد عليه بالزندقة فخنق وولي مكانه ابن عمه مسعود.

وفيها: دخل الأتراك إفريقية وغدروا بيحيى بن تميم بن المعز بن باديس، وقبضوا عليه، وملكوا بلاده وقتلوا خلقا، بعدما جرت بينه وبينهم حروب شديدة، وكان مقدمهم رجل يقال له: شاه ملك، وكان من أولاد بعض أمراء المشرق، فقدم مصر وخدم بها ثم هرب إلى المغرب، ومعه جماعة ففعل ما ذكر.

ولم يحج أحد من أهل العراق فيها.

وممن توفي فيها من الأعيان: الحسن بن أحمد بن خيرون

أبو الفضل المعروف بابن الباقلاني

سمع الكثير، وكتب عنه الخطيب، وكانت له معرفة جيدة، وهو من الثقات، وقبله الدامغاني، ثم صار أمينا له، ثم ولي إشراف خزانة الغلات.

توفي في رجب عن ثنتين وثمانين سنة.

تتش أبو المظفر

تاج الدولة بن ألب أرسلان، صاحب دمشق وغيرها من البلاد، وقد تزوج امرأة علي ابن أخيه بركيارق بن ملكشاه، ولكن قدر الله وماتت، وقد قال المتنبي:

ولله سر في علاك وإنما ** كلام العدى ضرب من الهذيان

قال ابن خلكان: كان صاحب البلاد الشرقية فاستنجده أتسز في محاربة أمير الجيوش من جهة صاحب مصر، فلما قدم دمشق لنجدته وخرج إليه أتسز، أمر بمسكه وقتله، واستحوذ هو على دمشق وأعمالها في سنة إحدى وسبعين، ثم حارب أتسز فقتله، ثم تحارب هو وأخوه بركيارق ببلاد الري، فكسره أخوه وقتل هو في المعركة، وتملك ابنه رضوان حلب، وإليه تنسب بنو رضوان بها، وكان ملكه عليها إلى سنة سبع وخمسين وخمسمائة، سمته أمه في عنقود عنب، فقام بعده ولده تاج الملك بوري أربع سنين، ثم ابنه الآخر شمس الملك إسماعيل ثلاث سنين، ثم قتلته أمه أيضا، وهي زمرد خاتون بنت جاولي، وأجلست أخاه شهاب الدين محمود بن بوري، فمكث أربع سنين، ثم ملك أخوه محمد بن بوري طغركين سنة، ثم تملك مجير الدين أبق من سنة أربع وثلاثين إلى أن انتزع الملك منه نور الدين محمود زنكي كما سيأتي.

وكان إتابك العساكر بدمشق أيام أتق معين الدين، الذي تنسب إليه المعينية بالغور، والمدرسة المعينية بدمشق.

رزق الله بن عبد الوهاب ابن عبد العزيز أبو محمد التميمي

أحد أئمة القراء والفقهاء على مذهب أحمد، وأئمة الحديث، وكان له مجلس للوعظ، وحلقة للفتوى بجامع المنصور، ثم بجامع القصر، وكان حسن الشكل محببا إلى العامة له شعر حسن، وكان كثير العبادة، فصيح العبارة، حسن المناظرة، وقد روى عن آبائه حديثا مسلسلا عن علي بن أبي طالب أنه قال: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.

وقد كان ذا وجاهة عند الخليفة، يفد في مهام الرسائل إلى السلطان.

توفي يوم الثلاثاء النصف من جمادى الأولى من هذه السنة، عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بداره بباب المراتب بإذن الخليفة، وصلى عليه ابنه أبو الفضل.

أبو سيف القزويني عبد السلام بن محمد بن سيف بن بندار الشيخ

شيخ المعتزلة، قرأ على عبد الجبار بن أحمد الهمداني، ورحل إلى مصر، وأقام بها أربعين سنة، وحصل كتبا كثيرة، وصنف تفسيرا في سبعمائة مجلد.

قال ابن الجوزي: جمع فيه العجب، وتكلم على قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} 15 في مجلد كامل.

وقال ابن عقيل: كان طويل اللسان بالعلم تارة، وبالشعر أخرى، وقد سمع الحديث من أبي عمر بن مهدي وغيره، ومات ببغداد عن ست وتسعين سنة.

وما تزوج إلا في آخر عمره.

أبو شجاع الوزير محمد بن الحسين بن عبد الله بن إبراهيم

أبو شجاع، الملقب ظهير الدين، الروذراوري الأصل الأهوازي المولد، كان من خيار الوزراء كثير الصدقة والإحسان إلى العلماء والفقهاء، وسمع الحديث من الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وغيره، وصنف كتبا، منها كتابه الذي ذيله على تجارب الأمم.

ووزر للخليفة المقتدي وكان يملك ستمائة ألف دينار، فأنفقها في سبيل الخيرات والصدقات، ووقف الوقوف الحسنة، وبنى المشاهد، وأكثر الإنعام على الأرامل والأيتام.

قال له رجل: إلى جانبنا أرملة لها أربعة أولاد وهم عراة وجياع.

فبعث إليهم مع رجل من خاصته نفقة وكسوة وطعاما، ونزع عنه ثيابه في البرد الشديد، وقال: والله لا ألبسها حتى ترجع إلي بخبرهم.

فذهب الرجل مسرعا بما أرسله على يديه إليهم، ثم رجع إليه فأخبره أنهم فرحوا بذلك ودعوا للوزير، فسر بذلك ولبس ثيابه.

وجيء إليه مرة بقطائف سكرية فلما وضعت بين يديه تنغص عليه بمن لا يقدر عليها، فأرسلها كلها إلى المساجد، وكانت كثيرة جدا، فأطعمها الفقراء والعميان، وكان لا يجلس في الديوان إلا وعنده الفقهاء، فإذا وقع له أمر مشكل سألهم عنه فحكم بما يفتونه، وكان كثير التواضع مع الناس، خاصتهم وعامتهم، ثم عزل عن الوزارة فسار إلى الحج وجاور بالمدينة ثم مرض، فلما ثقل في المرض جاء إلى الحجرة النبوية فقال: يا رسول الله قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابا رَحِيما} 16 وها أنا قد جئتك أستغفر الله من ذنوبي وأرجو شفاعتك يوم القيامة.

ثم مات من يومه ذلك، رحمه الله تعالى، ودفن في البقيع.

القاضي أبو بكر الشاشي

محمد بن المظفر بن بكران الحموي أبو بكر الشاشي، ولد سنة أربعمائة، وتفقه ببلده، ثم حج في سنة سبع عشرة وأربعمائة، وقدم بغداد فتفقه على أبي الطيب الطبري وسمع بها الحديث، وشهد عند ابن الدامغاني فقبله، ولازم مسجده خمسا وخمسين سنة، يقرئ الناس ويفقههم، ولما مات الدامغاني أشار به أبو شجاع الوزير فولاه الخليفة المقتدي القضاء، وكان من أنزه الناس وأعفهم، لم يقبل من سلطان عطية، ولا من صاحب هدية، ولم يغير ملبسه ولا مأكله، ولم يأخذ على القضاء أجرا ولم يستنب أحدا، بل كان يباشر القضاء بنفسه، ولم يحاب مخلوقا، وقد كان يضرب بعض المنكرين حيث لا بينة، إذا قامت عنده قرائن التهمة، حتى يقروا، ويذكر أن في كلام الشافعي ما يدل على هذا.

وقد صنف كتابا في ذلك، ونصره ابن عقيل فيما كان يتعاطاه من الحكم بالقرائن، واستشهد له بقوله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} الآية 17.

وشهد عنده رجل من كبار الفقهاء والمناظرين يقال له: المشطب بن أحمد بن أسامة الفرغاني، فلم يقبله، لما رأى عليه من الحرير وخاتم الذهب، فقال له المدعي: إن السلطان ووزيره نظام الملك يلبسان الحرير والذهب.

فقال القاضي الشاشي: والله لو شهدا عندي على باقة بقلة ما قبلتهما، ولرددت شهادتهما.

وشهد عنده مرة فقيه فاضل من أهل مذهبه فلم يقبله، فقال: لأي شيء ترد شهادتي وهي جائزة عند كل حاكم إلا أنت؟

فقال له: لا أقبل لك شهادة، فإني رأيتك تغتسل في الحمام عريانا غير مستور العورة، فلا أقبلك.

توفي يوم الثلاثاء عاشر شعبان من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بالقرب من ابن شريح.

أبو عبد الله الحميدي محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد

الأندلسي من جزيرة يقال لها: برقة قريبة من الأندلس، قدم بغداد فسمع بها الحديث، وكان حافظا مكثرا أديبا ماهرا عفيفا نزها، وهو صاحب (الجمع بين الصحيحين)، وله غير ذلك من المصنفات، وقد كتب مصنفات ابن حزم والخطيب، وكانت وفاته ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي الحجة، وقد جاوز التسعين، وقبره قريب من قبر بشر الحافي ببغداد.

هبة الله بن الشيخ أبي الوفا بن عقيل

كان قد حفظ القرآن وتفقه وظهر منه نجابة، ثم مرض فأنفق عليه أبوه أموالا جزيلة فلم يفد شيئا، فقال له ابنه ذات يوم: يا أبت إنك قد أكثرت الأدوية والأدعية، ولله فيّ اختيار فدعني واختيار الله فيّ.

قال أبوه: فعلمت أنه لم يوفق لهذا الكلام إلا وقد اختير للحظوة، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة تسع وثمانين وأربعمائة

قال ابن الجوزي في (المنتظم): في هذه السنة حكم جهلة المنجمين أنه سيكون في هذه السنة طوفان قريب من طوفان نوح، وشاع الكلام بذلك بين العوام وخافوا، فاستدعى الخليفة المستظهر ابن عشبون المنجم فسأله عن هذا الكلام فقال: إن طوفان نوح كان في زمن اجتمع في بحر الحوت الطوالع السبعة، والآن فقد اجتمع فيه ستة ولم يجتمع معها زحل، فلا بد من وقوع طوفان في بعض البلاد، والأقرب أنها بغداد.

فتقدم الخليفة إلى وزيره بإصلاح المسيلات والمواضع التي يخشى انفجار الماء منها، وجعل الناس ينتظرون، فجاء الخبر بأن الحجاج حصلوا بوادي المناقب بعد نخلة فأتاهم سيل عظيم، فما نجا منهم إلا من تعلق برؤس الجبال، وأخذ الماء الجمال والرجال والرحال، فخلع الخليفة على ذلك المنجم وأجرى له جارية.

وفيها: ملك الأمير قوام الدولة أبو سعيد كربوقا مدينة الموصل، وقتل شرف الدولة محمد بن مسلم بن قريش، وغرقه بعد حصار تسعة أشهر.

وفيها: ملك تميم بن المعز المغربي مدينة قابس وأخرج منها أخاه عمر، فقال خطيب سوسة في ذلك أبياتا:

ضحك الزمان وكان يلقى عابسا ** لما فتحت بحد سيفك قابسا

وأتيتها بكرا وما أمهرتها ** إلا قنا وصوارما وفوراسا

الله يعلم ما جنيت ثمارها ** إلا وكان أبوك قبلا غارسا

من كان في زرق الأسنة خاطبا ** كانت له قلل البلاد عرائسا

وفي صفر منها درس الشيخ أبو عبد الله الطبري بالنظامية، ولاه إياها فخر الملك بن نظام الملك وزير بركيارق.

وفيها: أغارت خفاجة على بلاد سيف الدولة صدقة بن مزيد بن منصور بن دبيس وقصدوا مشهد الحسين بالحائر، وتظاهروا فيه بالمنكرات والفساد، فكبسهم فيه الأمير صدقة المذكور، فقتل منهم خلقا كثيرا عند الضريح.

ومن العجائب أن أحدهم ألقى نفسه وفرسه من فوق السور فسلم وسلمت فرسه.

وحج بالناس الأمير خمارتكين الحسناني.

من الأعيان:

عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله أخو أبي حكيم الخيري

وخير: إحدى بلاد فارس، سمع الحديث وتفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكانت له معرفة بالفرائض والأدب واللغة، وله مصنفات، وكان مرضى الطريقة، وكان يكتب المصاحف بالأجرة، فبينما هو ذات يوم يكتب وضع القلم من يده واستند وقال: والله لئن كان هذا موتا إنه لطيب.

ثم مات.

عبد المحسن بن أحمد الشنجي

التاجر، ويعرف بابن شهداء مكة، بغدادي، سمع الحديث الكثير، ورحل وأكثر عن الخطيب وهو بصور، وهو الذي حمله إلى العراق، فلهذا أهدى إليه الخطيب (تاريخ بغداد) بخطه، وقد روى عنه في مصنفاته، وكان يسميه عبد الله، وكان ثقة.

عبد الملك بن إبراهيم ابن أحمد أبو الفضل المعروف بالهمداني

تفقه على الماوردي، وكانت له يد طولى في العلوم الشريعة والحساب وغير ذلك، وكان يحفظ (غريب الحديث) لأبي عبيد، و(المجمل) لابن فارس، وكان عفيفا زاهدا، طلبه المقتدي ليوليه قاضي القضاة فأبى أشد الإباء، واعتذر له بالعجز وعلو السن، وكان ظريفا لطيفا، كان يقول: كان أبي إذا أراد أن يؤدبني أخذ العصا بيده ثم يقول: نويت أن أضرب ولدي تأديبا كما أمر الله.

ثم يضربني.

قال: وإلى أن ينوي ويتمم النية كنت أهرب.

توفي في رجب منها ودفن عند قبر ابن شريح.

محمد بن أحمد بن عبد الباقي بن منصور

أبو بكر الدقاق، ويعرف بابن الخاضبة، كان معروفا بالإفادة وجودة القراءة وحسن الخط وصحة النقل، جمع بين علم القراءات والحديث، وأكثر عن الخطيب وأصحاب المخلص.

قال: لما غرقت بغداد غرقت داري وكتبي فلم يبق لي شيء، فاحتجت إلى النسخ، فكتبت (صحيح مسلم) في تلك السنة سبع مرات، فنمت فرأيت ذات ليلة كأن القيامة قد قامت وقائل يقول: أين ابن الخاضبة؟

فجئت فأدخلت الجنة فلما دخلتها استلقيت على قفاي ووضعت إحدى رجلي على الأخرى وقلت: استرحت من النسخ، ثم استيقظت والقلم في يدي، والنسخ بين يدي.

أبو المظفر السمعاني منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد، أبو المظفر السمعاني الحافظ

من أهل مرو، تفقه أولا على أبيه في مذهب أبي حنيفة، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي فأخذ عن أبي إسحاق وابن الصباغ، وكانت له يد طولى في فنون كثيرة، وصنف (التفسير)، وكتاب (الانتصار) في الحديث، و(البرهان والقواطع) في أصول الفقه، و(الاصطلام) وغير ذلك، ووعظ في مدينة نيسابور، وكان يقول: ما حفظت شيئا فنسيته.

وسئل عن أخبار الصفات فقال: عليكم بدين العجائز وصبيان الكتاتيب.

وسئل عن الاستواء فقال:

جئتماني لتعلما سر سعدى ** تجداني بسر سعدى شحيحا

إن سعدى لمنية المتمني ** جمعت عفة ووجها صبيحا

توفي في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن في مقبرة مرو، رحمه الله تعالى وإيانا آمين.

ثم دخلت سنة تسعين وأربعمائة من الهجرة

فيها: كان ابتداء ملك الخوارزمية، وذلك أن السلطان بركيارق ملك فيها بلاد خراسان بعد مقتل عمه أرسلان أرغون بن ألب أرسلان وسلمها إلى أخيه المعروف بالملك سنجر، وجعل إتابكه الأمير قماج، ووزيره أبو الفتح علي بن الحسين الطغرائي، واستعمل على خراسان الأمير حبشي بن البرشاق، فولى مدينة خوارزم شابا يقال له: محمد بن أنوشتكين، وكان أبوه من أمراء السلاجقة، ونشأ هو في أدب وفضيلة وحسن سيرة، ولما ولي مدينة خوارزم لقب خوارزم شاه، وكان أول ملوكهم، فأحسن السيرة وعامل الناس بالجميل، وكذلك ولده من بعده أتسز جرى على سيرة أبيه وأظهر العدل، فحظي عند السلطان سنجر وأحبه الناس، وارتفعت منزلته.

وفيها: خطب الملك رضوان بن تاج الملك تتش للخليفة الفاطمي المستعلي.

وفي شوال قتل رجل باطني عند باب النوبى كان قد شهد عليه عدلان أحدهما ابن عقيل: أنه دعاهما إلى مذهبه فجعل يقول: أتقتلونني وأنا أقول لا إله إلا الله؟

فقال ابن عقيل: قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الآية وما بعدها 18.

وفي رمضان منها قتل برسق أحد أكابر الأمراء، وكان أول من تولى شحنة بغداد.

وحج بالناس فيها خمارتكين الحسناني.

وفي يوم عاشوراء كبست دار بهاء الدولة أبو نصر بن جلال الدولة أبي طاهر بن بويه لأمور ثبتت عليه عند القاضي فأريق دمه ونقضت داره، وعمل مكانها مسجدان للحنفية والشافعية، وقد كان السلطان ملكشاه قد أقطعه المدائن ودير عاقول وغيرهما.

من الأعيان:

أحمد بن محمد بن الحسن ابن علي بن زكريا بن دينار

أبو يعلى العبدي البصري، ويعرف بابن الصواف، ولد سنة أربعمائة، وسمع الحديث، وكان زاهدا متصوفا، وفقيها مدرسا، ذا سمت ووقار، وسكينة ودين، وكان علامة في عشرة علوم، توفي في رمضان منها عن تسعين سنة، رحمه الله.

المعمر بن محمد ابن المعمر بن أحمد بن محمد

أبو الغنائم الحسيني، سمع الحديث، وكان حسن الصورة كريم الأخلاق كثير التعبد، لا يعرف أنه آذى مسلما ولا شتم صاحبا.

توفي عن نيف وستين سنة، وكان نقيبا ثنتين وثلاثين سنة، وكان من سادات قريش، وتولى بعده ولده أبو الفتوح حيدرة، ولقب بالرضى ذي الفخرين، ورثاه الشعراء بأبيات ذكرها ابن الجوزي.

يحيى بن أحمد بن محمد البستي

سمع الحديث ورحل فيه، وكان ثقة صالحا صدوقا أديبا، عمّر مائة سنة وثنتي عشرة سنة وثلاثة أشهر، وهو مع ذلك صحيح الحواس، يقرأ عليه القرآن والحديث، رحمه الله وإيانا آمين.

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وأربعمائة

في جمادى الأولى منها ملك الإفرنج مدينة إنطاكية بعد حصار شديد، بمواطأة بعض المستحفظين على بعض الأبراج، وهرب صاحبها باغيسيان في نفر يسير، وترك بها أهله وماله، ثم إنه ندم في أثناء الطريق ندما شديدا على ما فعل، بحيث إنه غشي عليه وسقط عن فرسه، فذهب أصحابه وتركوه، فجاء راعي غنم فقطع رأسه وذهب به إلى ملك الفرنج، ولما بلغ الخبر إلى الأمير كربوقا صاحب الموصل جمع عساكر كثيرة، واجتمع عليه دقاق صاحب دمشق، وجناح الدولة صاحب حمص، وغيرهما، وسار إلى الفرنج فالتقوا معهم بأرض إنطاكية فهزمهم الفرنج، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأخذوا منهم أموالا جزيلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم صارت الفرنج إلى معرة النعمان فأخذوها بعد حصار، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

ولما بلغ هذا الأمر الفظيع إلى الملك بركيارق شق عليه ذلك وكتب إلى الأمراء ببغداد أن يتجهزوا هم والوزير ابن جهير، لقتال الفرنج، فبرز بعض الجيش إلى ظاهر البلد بالجانب الغربي ثم انفسخت هذه العزيمة لأنهم بلغهم أن الفرنج في ألف ألف مقاتل، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وحج بالناس فيها خمارتكين.

من الأعيان:

طراد بن محمد بن علي

ابن الحسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عباس، أبو الفوارس بن أبي الحسن بن أبي القاسم بن أبي تمام، من ولد زيد ابن بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وهي أم ولده عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن عبد الله بن عباس، سمع الحديث الكثير، والكتب الكبار، وتفرد بالرواية عن جماعة، ورحل إليه من الآفاق وأملى الحديث في بلدان شتى، وكان يحضر مجلسه العلماء والسادات وحضر أبو عبد الله الدامغاني مجلسه، وباشر نقابة الطالبيين مدة طويلة، وتوفي عن نيف وتسعين سنة، ودفن في مقابر الشهداء، رحمه الله.

المظفر أبو الفتح ابن رئيس الرؤساء أبو القاسم

أبن المسلمة، كانت داره مجمعا لأهل العلم والدين والأدب، وبها توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، ودفن عند الشيخ أبي إسحاق في تربته.

ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة

فيها: أخذت الفرنج بيت المقدس.

لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة، أخذت الفرنج لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار، وتبروا ما علوا تتبيرا.

قال ابن الجوزي: وأخذوا من حول الصخرة اثنين وأربعين قنديلا من فضة، زنة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنورا من فضة زنته أربعون رطلا بالشامي، وثلاثة وعشرين قنديلا من ذهب، وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق، مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان، منهم القاضي أبو سعد الهروي، فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا، وقد نظم أبو سعد الهروي كلاما قرئ في الديوان وعلى المنابر، فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد، فخرج ابن عقيل وغير واحد من أعيان الفقهاء فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

فقال في ذلك أبو المظفر الأبيوردي شعرا:

مزجنا دمانا بالدموع السواجم ** فلم يبق منا عرضة للمراجم

وشر سلاح المرء دمع يريقه ** إذا الحرب شبت نارها بالصوارم

فأيها بني الإسلام إن وراءكم ** وقائع يلحقن الذرى بالمناسم

وكيف تنام العين ملء جفونها ** على هفوات أيقظت كل نائم

وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ** ظهور المذاكي أو بطون القشاعم

تسومهم الروم الهوان وأنتم ** تجرون ذيل الخفض فعل المسالم

ومنها قوله:

وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة ** تظل لها الولدان شيب القوادم

وتلك حروب من يغب عن غمارها ** ليسلم يقرع بعدها سن نادم

سللن بأيدي المشركين قواضبا ** ستغمد منهم في الكلى والجماجم


يكاد لهن المستجير بطيبة ** ينادي بأعلا الصوت يا آل هاشم

أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا ** رماحهم والدين واهي الدعائم

ويجتنبون النار خوفا من الردى ** ولا يحسبون العار ضربة لازم

أيرضى صناديد الأعاريب بالأذى ** ويغضي على ذل كماة الأعاجم

فليتهموا إذ لم يذودوا حمية ** عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم

وإن زهدوا في الأجر إذ حمس الوغى ** فهلا أتوه رغبة في المغانم

وفيها: كان ابتداء أمر السلطان محمد بن ملكشاه، وهو أخو السلطان سنجر لأبيه وأمه، واستحفل إلى أن خطب له ببغداد في ذي الحجة من هذه السنة.

وفيها: سار إلى الري فوجد زبيدة خاتون أم أخيه بركيارق فأمر بخنقها، وكان عمرها إذ ذاك ثنتين وأربعين سنة، في ذي الحجة منها وكانت له مع بركيارق خمس وقعات هائلة.

وفيها: غلت الأسعار جدا ببغداد، حتى مات كثير من الناس جوعا، وأصابهم وباء شديد حتى عجزوا عن دفن الموتى من كثرتهم.

من الأعيان:

السلطان إبراهيم بن السلطان محمود

ابن مسعود بن السلطان محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة وأطراف الهند، وعدا ذلك، كانت له حرمه وأبهة عظيمة، وهيبة وافرة جدا.

حكى الكيا الهراسي: حين بعثه السلطان بركيارق في رسالته إليه عما شاهده عنده من أمور السلطنة في ملبسه ومجلسه، وما رأى عنده من الأموال والسعادة الدنيوية، قال: رأيت شيئا عجيبا، وقد وقد وعظه بحديث: «لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا» فبكى.

قال: وكان لا يبني لنفسه منزلا إلا بنى قبله مسجدا أو مدرسة أو رباطا.

توفي في رجب منها وقد جاوز التسعين، وكانت مدة ملكه منها ثنتين وأربعين سنة.

عبد الباقي بن يوسف ابن علي بن صالح

أبو تراب البراعي، ولد سنة إحدى وأربعمائة وتفقه على أبي الطيب الطبري وسمع الحديث عليه وعلى غيره، ثم أقام بنيسابور.

وكان يحفظ شيئا كثيرا من الحكايات والملح، وكان صبورا متقللا من الدنيا، على طريقة السلف، جاءه منشور بقضاء همدان فقال: أنا منتظر منشور من الله عز وجل، على يدي ملك الموت بالقدوم عليه، والله لجلوس ساعة في هذه المسلة على راحة القلب أحب إليّ من ملك العراقين، وتعليم مسألة لطالب أحب إليّ مما على الأرض من شيء، والله لا أفلح قلب يعلق بالدنيا وأهلها، وإنما العلم دليل، فمن لم يدله علمه على الزهد في الدنيا وأهلها لم يحصل على طائل من العلم، ولو علم ما علم، فإنما ذلك ظاهر من العلم، والعلم النافع وراء ذلك، والله لو قطعت يدي ورجلي وقلعت عيني أحب إليّ من ولاية فيها انقطاع عن الله والدار الآخرة، وما هو سبب فوز المتقين وسعادة المؤمنين.

توفي رحمه الله في ذي القعدة من هذه السنة عن ثلاث وتسعين سنة، رحمه الله آمين.

أبو القاسم ابن إمام الحرمين

قتله بعض الباطنية بنيسابور رحمه الله ورحم أباه.

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة

في صفر منها دخل السلطان بركيارق إلى بغداد، ونزل بدار الملك، وأعيدت له الخطبة، وقطعت خطبة أخيه محمد، وبعث إليه الخليفة هدية هائلة، وفرح به العوام والنساء، ولكنه في ضيق من أمر أخيه محمد، لإقبال الدولة عليه واجتماعهم إليه، وقلة ما معه من أموال، ومطالبة الجند له بأرزاقهم، فعزم على مصادرة الوزير ابن جهير، فالتجأ إلى الخليفة فمنعه من ذلك.

ثم اتفق الحال على المصالحة عنه بمائة ألف وستين ألف دينار، ثم سار فالتقى هو وأخوه محمد بمكان قريب من همدان، فهزمه أخوه محمد ونجا هو بنفسه في خمسين فارسا، وقتل في هذه الوقعة سعد الدولة جوهر آيين الخادم، وكان قديم الهجرة في الدولة، وقد ولى شحنة بغداد.

وكان حليما حسن السيرة، لم يتعمد ظلم أحد، ولم ير خادم ما رأى، من الحشمة والحرمة وكثرة الخدم، وقد كان يكثر الصلاة بالليل، ولا يجلس إلا على وضوء، ولم يمرض مدة حياته ولم يصدع قط.

ولما جرى ما جرى في هذه الوقعة ضعف أمر السلطان بركيارق، ثم تراجع إليه جيشه وانضاف إليه الأمير داود في عشرين ألفا، فالتقى هو وأخوه مع أخيه سنجر فهزمهم سنجر أيضا وهرب في شرذمة قليلة، وأسر الأمير داود فقتله الأمير برغش أحد أمراء سنجر، فضعف بركيارق وتفرقت عنه رجاله، وقطعت خطبته من بغداد في رابع عشر رجب وأعيدت خطبة السلطان محمد.

وفي رمضان منها قبض على الوزير عميد الدولة بن جهير، وعلى أخويه زعيم الرؤساء أبي القاسم، وأبي البركات الملقب بالكافي، وأخذت منهم أموال كثيرة وحبس بدار الخلافة حتى مات في شوال منها.

وفي ليلة السابع والعشرين منه قتل الأمير بلكابك سرمز رئيس شحنة أصبهان، ضربه باطني بسكين في خاصرته وقد كان يتحرز منهم كثيرا، وكان يدرع تحت ثيابه سوى هذه الليلة، ومات من أولاده في هذه الليلة جماعة خرج من داره خمس جنائز من صبيحتها.

وفيها: أقبل ملك الفرنج في ثلاثمائة ألف مقاتل فالتقى معه ستكين بن انشمند طايلو، إتابك دمشق الذي يقال له: أمين الدولة، واقف الأمينية بدمشق وببصرى، لا التي ببعلبك، فهزم الأفرنج وقتل منهم خلقا كثيرا، بحيث لم ينج منهم سوى ثلاثة آلاف، وأكثرهم جرحى - يعني الثلاثة آلاف - وذلك في ذي القعدة منها، ولحقهم إلى ملطية فملكها وأسر ملكها ولله الحمد.

وحج بالناس الأمير التونتاش التركي، وكان شافعي المذهب.

من الأعيان:

عبد الرزاق الغزنوي الصوفي

شيخ رباط عتّاب: حج مرات على التجريد، مات وله نحو مائة سنة، ولم يترك كفنا، وقد قالت له امرأته لما احتضر: سنفتضح اليوم.

قال: لم؟

قالت له: لأنه لا يوجد لك كفن.

فقال لها: لو تركت كفنا لافتضحت.

وعكسه أبو الحسن البسطامي شيخ رباط ابن المحلبان، كان لا يلبس إلا الصوف شتاء وصيفا، ويظهر الزهد، وحين توفي وجد له أربعة آلاف دينار مدفونة، فتعجب الناس من حاليهما، فرحم الله الأول، وسامح الثاني.

الوزير عميد الدولة بن جهير

محمد بن أبي نصر بن محمد بن جهير الوزير، أبو منصور، كان أحد رؤساء الوزراء، خدم ثلاثة من الخلفاء، وزر لاثنين منهم، وكان حليما قليل العجلة، غير أنه كان يتكلم فيه بسبب الكبر، وقد ولي الوزارة مرات، يعزل ثم يعاد، ثم كان آخرها هذه المرة حبس بدار الخلافة فلم يخرج من السجن إلا ميتا، في شوال منها.

ابن جَزْلة الطبيب

يحيى بن عيسى بن جزلة صاحب المنهاج في الطب، كان نصرانيا ثم كان يتردد إلى الشيخ أبي علي بن الوليد المغربي، يشتغل عليه في المنطق، وكان أبو علي يدعوه إلى الإسلام ويوضح له الدلالات حتى أسلم وحسن إسلامه، واستخلفه الدامغاني في كتب السجلات، ثم كان يطبب الناس بعد ذلك بلا أجر، وربما ركب لهم الأدوية من ماله تبرعا، وقد أوصى بكتبه أن تكون وقفا بمشهد أبي حنيفة، رحمه الله وإيانا آمين.

ثم دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة

فيها: عظم الخطب بأصبهان ونواحيها بالباطنية فقتل السلطان منهم خلقا كثيرا، وأبيحت ديارهم وأموالهم للعامة، ونودي فيهم: إن كل من قدرتم عليه منهم فاقتلوه وخذوا ماله، وكانوا قد استحوذوا على قلاعٍ كثيرة، وأول قلعة ملكوها في سنة ثلاث وثمانين، وكان الذي ملكها الحسن بن صباح، أحد دعاتهم، وكان قد دخل مصر وتعلم من الزنادقة الذين بها.

ثم صار إلى تلك النواحي ببلاد أصبهان، وكان لا يدعو إليه من الناس إلا غبيا جاهلا، لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز، حتى يحرق مزاجه ويفسد دماغه، ثم يذكر له أشياء من أخبار أهل البيت، ويكذب له من أقاويل الرافضة الضلال، أنهم ظلموا ومنعوا حقهم الذي أوجبه الله لهم ورسوله.

ثم يقول له: فإذا كانت الخوارج تقاتل بني أمية لعلي، فأنت أحق أن تقاتل في نصرة إمامك علي بن أبي طالب.

ولا يزال يسقيه العسل وأمثاله ويرقيه حتى يستجيب له ويصير أطوع له من أمه وأبيه، ويظهر له أشياء من المخرقة والنيرنجيات والحيل التي لا تروج إلا الجهال، حتى التف عليه بشرٌ كثير، وجمٌ غفير، وقد بعث إليه السلطان ملكشاه يتهدده وينهاه عن ذلك.

وبعث إليه بفتاوى العلماء فلما قرأ الكتاب بحضرة الرسول قال لمن حوله من الشباب: إني أريد أن أرسل منكم رسولا إلى مولاه، فاشرأبت وجوه الحاضرين.

ثم قال لشباب منهم: اقتل نفسك فأخرج سكينا فضرب بها غلصمته فسقط ميتا.

وقال لآخر منهم: ألق نفسك من هذا الموضع، فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفل خندقها فتقطع.

ثم قال لرسول السلطان: هذا الجواب.

فمنها امتنع السلطان من مراسلته، هكذا ذكره ابن الجوزي.

وسيأتي ما جرى للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فاتح بيت المقدس، وما جرى له مع سنان صاحب الإيوان مثل هذا إن شاء الله تعالى.

وفي شهر رمضان: أمر الخليفة المستظهر بالله بفتح جامع القصر، وأن لا يبيض، وأن يصلى فيه التراويح، وأن يجهر بالبسملة، وأن يمنع النساء من الخروج ليلا للفرجة.

وفي أول هذه السنة: دخل السلطان بركيارق إلى بغداد، فخطب له بها، ثم لحقه أخواه محمد وسنجر فدخلاها وهو مريض فعبرا في الجانب الغربي فقطعت خطبته وخطب لهما بها.

وهرب بركيارق إلى واسط، ونهب جيشه ما اجتازوا به من البلاد والأراضي، فنهاه بعض العلماء عن ذلك، ووعظه فلم يفد شيئا.

وفي هذه السنة: ملكت الفرنج قلاعا كثيرةً منها: قيسارية، وسروج، وسار ملك الفرنج كندر - وهو الذي أخذ بيت المقدس - إلى عكا فحاصرها، فجاءه سهم في عنقه فمات من فوره لعنه الله.

من الأعيان:

أحمد بن محمد ابن عبد الواحد بن الصباح

أبو منصور، سمع الحديث وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، ثم على ابن عمه أبي نصر بن الصباح، وكان فقيها فاضلا كثير الصلاة، يصوم الدهر، وقد ولي القضاء بربع الكرخ والحسبة بالجانب الغربي.

عبد الله بن الحسن ابن أبي منصور أبو محمد الطبسي

رحل إلى الآفاق وجمع وصنف، وكان أحد الحفاظ المكثرين ثقةً صدوقا عالما بالحديث، ورعا حسن الخلق.

عبد الرحمن بن أحمد ابن محمد أبو محمد الرزاز السرخسي

نزل مرو وسمع الحديث وأملى ورحل إليه العلماء، وكان حافظا لمذهب الشافعي، متدينا ورعا، رحمه الله.

عزيز بن عبد الملك منصور أبو المعالي الجيلي القاضي

الملقب: سيدله، كان شافعيا في الفروع، أشعريا في الأصول، وكان حاكما بباب الأزج، وكان بينه وبين أهل باب الأزج من الحنابلة شنآن كبير.

سمع رجلا ينادي على حمار له ضائع فقال: يدخل الأزج ويأخذ بيد من شاء.

وقال يوما للنقيب طراد الزينبي: لو حلف إنسان أنه لا يرى إنسانا فرأى أهل باب الأزج لم يحنث.

فقال له الشريف: من عاشر قوما أربعين يوما فهو منهم. ولهذا لما مات فرحوا بموته كثيرا.

محمد بن أحمد ابن عبد الباقي بن الحسن بن محمد بن طوق

أبو الفضائل الربعي الموصلي، تفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وسمع من القاضي أبي الطيب الطبري، وكان ثقة صالحا، كتب الكثير.

محمد بن الحسن أبو عبد الله المرادي

نزل أوان وكان مقرئا فقيها صالحا، له كرامات ومكاشفات، أخذ عن القاضي أبي يعلي بن الفراء الحديث وغيره.

قال ابن الجوزي: بلغني أن ابنا له صغيرا طلب منه غزالا وألح عليه، فقال له: يا بني غدا يأتيك غزال، فلما كان الغد أتت غزال فصارت تنطح الباب بقرنيها حتى فتحته.

فقال له أبوه: يا بني أتتك الغزال.

محمد بن علي بن عبيد الله ابن أحمد بن صالح بن سليمان بن ودعان

أبو نصر الموصل القاضي، قدم بغداد سنة ثلاث وتسعين، وحدث عن عمه بالأربعين الودعانية، وقد سرقها عمه أبو الفتح بن ودعان من زيد بن رفاعة الهاشمي، فركب لها أسانيد إلى من بعد زيد بن رفاعة، وهي موضوعة كلها، وإن كان في بعضها معاني صحيحة، والله أعلم.

محمد بن منصور أبو سعد المستوفي شرف الملك الخوارزمي

جليل القدر، وكان متعصبا لأصحاب أبي حنيفة، ووقف لهم مدرسة بمرو، ووقف فيها كتبا كثيرة، وبنى مدرسة ببغداد عند باب الطاق، وبنى القبة على قبر أبي حنيفة، وبنى أربطة في المفاوز، وعمل خيرا كثيرا، وكان من آكل الناس مأكلا ومشربا، وأحسنهم ملبسا، وأكثرهم مالا، ثم نزل العمالة بعد هذا كله، وأقبل على العبادة والاشتغال بنفسه إلى أن مات.

محمد بن منصور القسري

المعروف: بعميد خراسان، قدم بغداد أيام طغرلبك، وحدث عن أبي حفص عمر بن أحمد بن مسرور، وكان كثير الرغبة في الخير، وقف بمرو مدرسة على أبي بكر بن أبي المظفر السمعاني وورثته.

قال ابن الجوزي: فهم يتولونها إلى الآن، وبنى بنيسابور مدرسة، وفيها تربته.

وكانت وفاته في شوال من هذه السنة.

نصر بن أحمد ابن عبد الله بن البطران الخطابي البزار القارئ

ولد سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وسمع الكثير، وتفرد عن ابن زرقويه وغيره، وطال عمره، ورحل إليه من الآفاق، وكان صحيح السماع.

ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمائة

في ثالث المحرم منها، قبض على أبي الحسن علي بن محمد المعروف: بالكيا الهراسي، وعزل عن تدريس النظامية، وذلك أنه رماه بعضهم عند السلطان بأنه باطني، فشهد له جماعة من العلماء - منهم ابن عقيل - ببراءته من ذلك، وجاءت الرسالة من دار الخلافة يوم الثلاثاء بخلاصة.

وفيها: في يوم الثلاثاء الحادي عشر من المحرم جلس الخليفة المستظهر بدار الخلافة وعلى كتفيه البردة والقضيب بيده، وجاء الملكان الأخوان محمد وسنجر أبناء ملكشاه، فقبلا الأرض وخلع عليهما الخلع السلطانية، على محمد سيفا وطوقا وسوار لؤلؤ وأفراسا من مراكبه، وعلى سنجر دون ذلك، وولى السلطان محمد الملك، واستنابه في جميع ما يتعلق بأمر الخلافة، دون ما أغلق عليه الخليفة بابه، ثم خرج السلطان محمد في تاسع عشر الشهر فأرجف الناس، وخرج بركيارق فأقبل السلطان محمد فالتقوا وجرت حروب كثيرة، وانهزم محمد وجرى عليه مكروه شديد، كما سيأتي بيانه.

وفي رجب منها قبل القاضي أبو الحسن بن الدامغاني شهادة أبي الحسين وأبي حازم ابني القاضي أبي يعلي ابن الفراء.

وفيها: قدم عيسى بن عبد الله القونوي فوعظ الناس وكان شافعيا أشعريا، فوقعت فتنة بين الحنابلة والأشعرية ببغداد.

وفيها: وقع حريق عظيم ببغداد.

وحج بالناس حميد العمري صاحب سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس، صاحب الحلة.

من الأعيان:

أبو القاسم صاحب مصر

الخليفة الملقب بالمستعلي، في ذي الحجة منها، وقام بالأمر بعده ابنه علي وله تسع سنين، ولقب بالآمر بأحكام الله.

محمد بن هبة الله أبو نصر القاضي البندنيجي الضرير الفقيه الشافعي

أخذ عن الشيخ أبي إسحاق ثم جاور بمكة أربعين سنة، يفتي ويدرس ويروي الحديث ويحج، من شعره قوله:

عدمتك نفسي ما تملي بطالتي ** وقد مر أصحابي وأهل مودتي

أعاهد ربي ثم أنقض عهده ** وأترك عزمي حين تعرض شهوتي

وزادي قليل ما أراه مبلغي ** أللزاد أبكي أم لبعد مسافتي

ثم دخلت سنة ست وتسعين وأربعمائة

فيها: حاصر السلطان بركيارق أخاه محمدا بأصبهان، فضاقت على أهلها الأرزاق، واشتد الغلاء عندهم جدا، وأخذ السلطان محمد أهلها بالمصادرة والحصار حولهم من خارج البلد، فاجتمع عليهم الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ثم خرج السلطان محمد من أصبهان هاربا فأرسل أخوه في أثره مملوكه إياز، فلم يتمكن من القبض عليه، ونجا بنفسه سالما.

قال ابن الجوزي: وفي صفر منها زيد في ألقاب قاضي القضاة أبي الحسن بن الدمغاني تاج الإسلام.

وفي ربيع الأول قطعت الخطبة للسلاطين ببغداد، واقتصر على ذكر الخليفة فيها، والدعاء له، ثم التقى الأخوان بركيارق ومحمد، فانهزم محمد أيضا ثم اصطلحا.

وفيها: ملك دقاق بن تتش صاحب دمشق مدينة الرحبة.

وفيها: قتل أبو المظفر الخجندي الواعظ بالري، وكان فقيها شافعيا مدرسا، قتله رافضي علوي في الفتنة، وكان عالما فاضلا، كان نظام الملك يزوره ويعظمه.

وحج بالناس خمارتكين.

من الأعيان:

أحمد بن علي ابن عبد الله بن سوار

أبو طاهر المقري، صاحب المصنفات في علوم القرآن، كان ثقة ثبتا مأمونا عالما بهذا الشأن، قد جاوز الثمانين.

أبو المعالي أحد الصلحاء الزهاد

ذوي الكرامات والمكاشفات، وكان كثير العبادة متقللا من الدنيا، لا يلبس صيفا ولا شتاء إلا قميصا واحدا، فإذا اشتد البرد وضع على كتفه مئزرا، وذكر أنه أصابته فاقة شديدة في رمضان، فعزم على الذهاب إلى بعض الأصحاب ليستقرض منه شيئا، قال: فبينما أنا أريده إذا بطائر قد سقط على كتفي، وقال: يا أبا المعالي أنا الملك الفلاني، لا تمض إليه نحن نأتيك به.

قال: فبكر إلى الرجل.

رواه ابن الجوزي في (منتظمه) من طرق عدة، كانت وفاته في هذه السنة، ودفن قريبا من قبر أحمد.

السيدة بنت القائم بأمر الله

أمير المؤمنين التي تزوجها طغرلبك، دفنت بالرصافة، وكانت كثيرة الصدقة، وجلس لعزائها في بيت النوبة الوزير، والله أعلم.

ثم دخلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة

فيها: قصد الفرنج لعنهم الله الشام فقاتلهم المسلمون فقتلوا من الفرج اثني عشر ألفا، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وقد أسر في هذه الوقعة بردويل صاحب الرها.

وفيها: سقطت منارة واسط وقد كانت من أحسن المنائر، كان أهل البلد يفتخرون بها وبقبة الحجاج، فلما سقطت سمع لأهل البلد بكاء وعويل شديد، ومع هذا لم يهلك بسببها أحد، وكان بناؤها في سنة أربع وثلاثمائة في زمن المقتدر.

وفيها: تأكد الصلح بين الأخوين السلطانين بركيارق ومحمد، وبعث إليه بالخلع وإلى الأمير إياز.

وفيها: أخذت مدينة عكا وغيرها من السواحل.

وفيها: استولى الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور صاحب الحلة على مدينة واسط.

وفيها: توفي الملك دقاق بن تتش صاحب دمشق، فأقام مملوكه طغتكين ولدا له صغيرا مكانه، وأخذ البيعة له، وصار هو أتابكه بدير المملكة مدة بدمشق.

وفيها: عزل السلطان سنجر وزيره أبا الفتح الطغرائي ونفاه إلى غزنة.

وفيها: ولي أبو نصر نظام الحضريين ديوان الإنشاء.

وفيها: قتل الطبيب الماهر الحاذق أبو نعيم، وكانت له إصابات عجيبة.

وحج بالناس فيها الأمير خمارتكين.

من الأعيان:

أزردشير بن منصور

أبو الحسن العبادي الواعظ، تقدم أنه قدم بغداد فوعظ بها فأحبته العامة في سنة ست وثمانين، وقد كانت له أحوال جيدة فيما يظهر، والله أعلم.

إسماعيل بن محمد ابن أحمد بن عثمان

أبو الفرج القومساني، من أهل همدان، سمع من أبيه وجده، وكان حافظا حسن المعرفة بالرجال وأنواع الفنون، مأمونا.

العلا بن أحمد بن وهب ابن الموصلايا

سعد الدولة، كاتب الإنشاء ببغداد، وكان نصرانيا فأسلم في سنة أربع وثمانين فمكث في الرياسة مدة طويلة، نحوا من خمس وستين سنة، وكان فصيح العبارة، كثير الصدقة، وتوفي عن عمر طويل.

محمد بن أحمد بن عمر أبو عمر النهاوندي

قاضي البصرة مدة طويلة، وكان فقيها، سمع من أبي الحسن الماوردي وغيره، مولده في سنة سبع، وقيل: تسع، وأربعمائة، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة

فيها: توفي السلطان بركيارق وعهد إلى ولده الصغير ملكشاه، وعمره أربع سنين وشهور، وخطب له ببغداد، ونثر عند ذكره الدنانير والدراهم، وجعل أتابكه الأمير إياز ولقب جلال الدولة، ثم جاء السلطان محمد إلى بغداد فخرج إليه أهل الدولة ليتلقوه وصالحوه، وكان الذي أخذ البيعة بالصلح الكيا الهراسي، وخطب له بالجانب الغربي، ولابن أخيه بالجانب الشرقي، ثم قتل الأمير إياز وحملت إليه الخلع والدولة والدست، وحضر الوزير سعد الدولة عند الكيا الهراسي، في درس النظامية، ليرغب الناس في العلم.

وفي ثامن رجب منها أزيل الغيار عن أهل الذمة الذين كانوا ألزموه في سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ولا يعرف ماسبب ذلك.

وفيها: كانت حروب كثيرة ما بين المصريين والفرنج، فقتلوا من الفرنج خلقا كثيرا، ثم أديل عليهم الفرنج فقتلوا منهم خلقا.

من الأعيان:

السلطان بركيارق بن ملكشاه

ركن الدولة السلجوقي، جرت له خطوب طويلة وحروب هائلة، خطب له ببغداد ست مرات، ثم تنقطع الخطبة له ثم تعاد، مات وله من العمر أربع وعشرون سنة وشهور، ثم قام من بعده ولده ملكشاه، فلم يتم له الأمر بسبب عمه محمد.

عيسى بن عبد الله القاسم أبو الوليد الغزنوي الأشعري

كان متعصبا للأشعري، خرج من بغداد قاصدا لبلده فتوفي بإسفرايين.

محمد بن أحمد بن إبراهيم ابن سلفة الأصبهاني

أبو أحمد، كان شيخا عفيفا ثقة، سمع الكثير، وهو والد الحافظ أبي طاهر السلفي الحافظ.

أبو علي الخيالي الحسين بن محمد

ابن أحمد الغساني الأندلسي، مصنف (تقييد المهمل على الألفاظ)، وهو كتاب مفيد كثير النفع وكان حسن الخط عالما باللغة والشعر والأدب، وكان يسمع في جامع قرطبة، توفي ليلة الجمعة لثنتي عشرة خلت من شعبان، عن إحدى وسبعين سنة.

محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصقر

أبو الحسن الواسطي، سمع الحديث وتفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وقرأ الأدب وقال الشعر.

من ذلك قوله:

من قال لي جاه ولي حشمة ** ولي قبول عند مولانا

ولم يعد ذاك بنفع على ** صديقه لا كان ما كانا

ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة

في المحرم منها ادعى رجل النبوة بنواحي نهاوند، وسمى أربعة من أصحابه بأسماء الخلفاء الأربعة فاتبعه على ضلالته خلق من الجهلة الرعاع، وباعوا أملاكهم ودفعوا أثمانها إليه، وكان كريما يعطي من قصده ما عنده، ثم إنه قتل بتلك الناحية.

ورام رجل آخر من ولد ألب أرسلان بتلك الناحية الملك فلم يتم أمره، بل قبض عليه في أقل من شهرين، وكانوا يقولون: ادعى رجل النبوة وآخر الملك، فما كان بأسرع من زوال دولتهما.

وفي رجب منها زادت دجلة زيادة عظيمة، فأتلفت شيئا كثيرا من الغلات، وغرقت دور كثيرة ببغداد.

وفيها: كسر طغتكين أتابك عساكر دمشق الفرنج، وعاد مؤيدا منصورا إلى دمشق، وزينت البلد زينة عجيبة مليحة، سرورا بكسره الفرنج.

وفيها: في رمضان منها حاصر الملك رضوان بن تتش صاحب حلب مدينة نصيبين.

وفيها: ورد إلى بغداد ملك من الملوك وصحبته رجل يقال له: الفقيه، فوعظ الناس في جامع القصر.

وحج بالناس رجل من أقرباء الأمير سيف الدولة صدقة.

من الأعيان:

أبو الفتح الحاكم

سمع الحديث من البيهقي وغيره، وعلق عن القاضي حسين طريقه وشكره في ذلك، وكان قد تفقه أولا على الشيخ أبي علي السنجي، ثم تفقه وعلق عن إمام الحرمين في الأصول بحضرته، واستجاده وولي بلده مدة طويلة، وناظر، ثم ترك ذلك كله وأقبل على العبادة وتلاوة القرآن.

قال ابن خلكان: وبنى للصوفية رباطا من ماله، ولزم التعبد إلى أن مات في مستهل المحرم من هذه السنة.

محمد بن أحمد ابن محمد بن علي بن عبد الرزاق

أبو منصور الحناط، أحد القراء والصلحاء، ختم ألوفا من الناس، وسمع الحديث الكثير، وحين توفي اجتمع العالم في جنازته اجتماعا لم يجتمع لغيره مثله، ولم يعهد له نظير في تلك الأزمان، وكان عمره يوم توفي سبعا وتسعين سنة، رحمه الله.

وقد رثاه الشعراء، ورآه بعضهم في المنام فقال له: ما فعل بك ربك؟

فقال: غفر لي بتعليمي الصبيان الفاتحة.

محمد بن عبيد الله بن الحسن ابن الحسين

أبو الفرج البصري قاضيها، سمع أبا الطيب الطبري والماوردي وغيرهما، ورحل في طلب الحديث، وكان عابدا خاشعا عند الذكر.

مهارش بن مجلي

أمير العرب بحديثة عانة، وهو الذي أودع عنده القائم بأمر الله، حين كانت فتنة البساسيري، فأكرم الخليفة حين ورد عليه، ثم جازاه الخليفة الجزاء الأوفى، وكان الأمير مهارش هذا كثير الصدقة والصلاة، توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة، رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة خمسمائة من الهجرة

قال أبو داود في (سننه): حدثنا حجاج بن إبراهيم، حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله : «لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم».

حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو المغيرة، حدثني صفوان عن شريح بن عبيد، عن سعد بن أبي وقاص عن النبي أنه قال: «إني لأرجو أن لا يعجز أمتي عند ربها أن يؤخرها نصف يوم.

قيل لسعد: وكم نصف يوم؟

قال: خمسمائة سنة».

وهذا من دلائل النبوة.

وذكر هذه المدة لا ينفي زيادة عليها، كما هو الواقع، لأنه عليه السلام ذكر شيئا من أشراط الساعة لا بد من وقوعها كما أخبر سواء بسواء.

وسيأتي ذكرها فيما بعد زماننا، وبالله المستعان.

ومما وقع في هذه السنة من الحوادث أن السلطان محمد بن ملكشاه حاصر قلاعا كثيرة من حصون الباطنية، فافتتح منها أماكن كثيرة، وقتل خلقا منهم، منها قلعة حصينة كان أبوه قد بناها بالقرب من أصبهان، في رأس جبل منيع هناك، وكان سبب بنائه لها أنه كان مرة في بعض صيوده فهرب منه كلب فاتبعه إلى رأس الجبل فوجده، وكان معه رجل من رسل الروم، فقال الرومي: لو كان هذا الجبل ببلادنا لاتخذنا عليه قلعة.

فحدا هذا الكلام السلطان إلى أن ابتنى في رأسه قلعة أنفق عليها ألف ألف دينار، ومائتي ألف دينار، ثم استحوذ عليها بعد ذلك رجل من الباطنية يقال له: أحمد بن عبد الله بن عطاء، فتعب المسلمون بسببها، فحاصرها ابنه السلطان محمد سنة حتى افتتحها، وسلخ هذا الرجل وحشى جلده تبنا وقطع رأسه، وطاف به في الأقاليم، ثم نقض هذه القلعة حجرا حجرا، وألقت امرأته نفسها من أعلى القلعة فتلفت، وهلك ما كان معها من الجواهر النفسية، وكان الناس يتشاءمون بهذه القلعة، يقولون: كان دليلها كلبا، والمشير بها كافرا، والمتحصن بها زنديقا.

وفيها: وقعت حروب كثيرة بين بني خفاجة وبين بني عبادة، فقهرت عبادة خفاجة وأخذت بثأرها المتقدم منها.

وفيها: استحوذ سيف الدولة صدقة على مدينة تكريت بعد قتال كثير.

وفيها: أرسل السلطان محمد الأمير جاولي سقاوو إلى الموصل وأقطعه إياها، فذهب فانتزعها من الأمير جكرمش بعد ما قاتله وهزم أصحابه وأسره، ثم قتله بعد ذلك؛ وقد كان جكرمش من خيار الأمراء سيرة وعدلا وإحسانا، ثم أقبل قلج أرسلان بن قتلمش فحاصر الموصل فانتزعها من جاولي، فصار جاولي إلى الرحبة، فأخذها ثم أقبل إلى قتال قلج فكسره وألقى قلج نفسه في النهر الذي للخابور فهلك.

وفيها: نشأت حروب بين الروم والفرنج فاقتتلوا قتالا عظيما، ولله الحمد، وقتل من الفريقين طائفة كبيرة، ثم كانت الهزيمة على الفرنج، ولله الحمد رب العالمين.

قتل فخر الملك أبو المظفر

وفي يوم عاشوراء منها قتل فخر الملك أبو المظفر بن نظام الملك، وكان أكبر أولاد أبيه، وهو وزير السلطان سنجر بنيسابور، وكان صائما، قتله باطني، وكان قد رأى في تلك الليلة الحسين بن علي وهو يقول له: عجل إلينا وأفطر عندنا الليلة.

فأصبح متعجبا، فنوى الصوم ذلك اليوم، وأشار إليه بعض أصحابه أن لا يخرج ذلك اليوم من المنزل، فما خرج إلا في آخر النهار فرأى شابا يتظلم وفي يده رقعة فقال: ما شأنك؟

فناوله الرقعة فبينما هو يقرؤها إذ ضربه بخنجر بيده فقتله، فأخذ الباطني فرفع إلى السلطان فقرره فأقر على جماعة من أصحاب الوزير أنهم أمروه بذلك، وكان كاذبا، فقتل وقتلوا أيضا.

وفي رابع عشر صفر عزل الخليفة الوزير أبا القاسم علي بن جُهير وخرب داره التي كان قد بناها أبوه، من خراب بيوت الناس، فكان في ذلك عبرة وموعظة لذوي البصائر والنهى، واستنيب في الوزارة القاضي أبو الحسن الدامغاني، ومعه آخر.

وحج بالناس فيها الأمير تركمان واسمه أليرن، من جهة الأمير محمد بن ملكشاه.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن محمد بن المظفر

أبو المظفر الخوافي الفقيه الشافعي.

قال ابن خلكان: كان أنظر أهل زمانه، تفقه على إمام الحرمين، وكان أوجه تلامذته، وقد ولي القضاء بطوس ونواحيها، وكان مشهورا بحسن المناظرة وإفحام الخصوم، قال: والخوافي بفتح الخاء والواو نسبة إلى خواف، ناحية من نواحي نيسابور.

جعفر بن محمد ابن الحسين بن أحمد بن جعفر السراج

أبو محمد القاري البغدادي، ولد سنة ست عشرة وأربعمائة، وقرأ القرآن بالروايات، وسمع الكثير من الأحاديث النبويات، من المشايخ والشيخات في بلدان متباينات، وقد خرج له الحافظ أبو بكر الخطيب أجزاء مسموعاته، وكان صحيح الثبت، جيد الذهن، أديبا شاعرا، حسن النظم، نظم كتابا في القراءات، وكتاب (التنبيه والخرقى) وغير ذلك، وله كتاب (مصارع العشاق) وغير ذلك، ومن شعره قوله:

قتل الذين بجهلهم ** أضحوا يعيبون المحابر

والحاملين لها من الـ ** ـأيدي بمجتمع الأساور

لولا المحابر والمقا ** لم والصحائف والدفاتر

والحافظون شريعة الـ ** ـمبعوث من خير العشائر

والناقلون حديثه عن ** كابر ثبت وكابر

لرأيت من بشع الضلا ** ل عساكرا تتلو عساكر

كل يقول بجهله ** والله للمظلوم ناصر

سميتهم أهل الحديث ** أولي النهى وأولي البصائر

هم حشو جنات النعيم ** على الأسرة والمنابر

رفقاء أحمد كلهم ** عن حوضه ريان صادر

وذكر له ابن خلكان أشعارا رائقة منها قوله:

ومدّع شرخ الشباب وقد ** عممه الشيب على وفرته

يخضب بالوشمة عثنونه ** يكفيه أن يكذب في لحيته

عبد الوهاب بن محمد ابن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد الشيرازي الفارسي

سمع الحديث الكثير، وتفقه وولاه نظام الملك تدريس النظامية ببغداد، في سنة ثلاث وثمانين، فدرس بها مدة، وكان يملي الأحاديث، وكان كثير التصحيف، روى مرة حديث: «صلاة في إثر صلاة كتاب في عليين».

فقال: كتاب في غلس.

ثم أخذ يفسر ذلك بأنه أكثر لإضاءتها.

محمد بن إبراهيم ابن عبيد الأسدي الشاعر

لقي الخنيسي التهامي، وكان مغرما بما يعارض شعره، وقد أقام باليمن وبالعراق ثم بالحجاز ثم بخراسان، ومن شعره:

قلت ثقلت إذ أتيت مرارا ** قال ثقلت كاهلي بالأيادي

قلت طولت قال بل تطولت ** قلت مزقت قال حبل ودادي

يوسف بن علي أبو القاسم الزنجاني الفقيه

كان من أهل الديانة، حكى عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي عن القاضي أبي الطيب، قال: كنا يوما بجامع المنصور في حلقة فجاء شاب خراساني فذكر حديث أبي هريرة في المطر فقال الشاب: غير مقبول.

فما استتم كلامه حتى سقطت من سقف المسجد حية فنهض الناس هاربين وتبعت الحية ذلك الشاب من بينهم، فقيل له: تب تب.

فقال: تبت.

فذهبت فلا ندري أين ذهبت.

رواها ابن الجوزي عن شيخه أبي المعمر الأنصاري عن أبي القاسم هذا، والله أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسمائة من الهجرة

فيها: جدد الخليفة الخلع على وزيره الجديد أبي المعالي هبة الله بن محمد بن المطلب، وأكرمه وعظمه.

وفي ربيع الآخر منها دخل السلطان محمد إلى بغداد فتلقاه الوزير والأعيان، وأحسن إلى أهلها، ولم يتعرض أحد من جيشه إلى شيء.

وغضب السلطان على صدقة بن منصور الأسدي صاحب الحلة وتكريت بسبب أنه آوى رجلا من أعدائه يقال له: أبو دلف سرحان الديلمي، صاحب ساوة، وبعث إليه ليرسله إليه فلم يفعل، فأرسل إليه جيشا فهزموا جيش صدقة.

وقد كان جيشه عشرين ألف فارس وثلاثين ألف راجل، وقتل صدقة في المعركة، وأسر جماعة من رؤس أصحابه وأخذوا من زوجته خمسمائة ألف دينار، وجواهر نفيسة.

قال ابن الجوزي: وظهر في هذه السنة صبية عمياء تتكلم على أسرار الناس، وما في نفوسهم من الضمائر والنيات، وبالغ الناس في أنواع الحيل عليها ليعلموا حالها فلم يعلموا.

قال ابن عقيل: وأشكل أمرها على العلماء والخواص والعوام، حتى سألوها عن نقوش الخواتم المقلوبة الصعبة، وعن أنواع الفصوص وصفات الأشخاص وما في داخل البنادق من المشمع والطين المختلف، والخرق وغير ذلك فتخبر به سواء بسواء، حتى بالغ أحدهم ووضع يده على ذكره وسألها عن ذلك فقالت: يحمله إلى أهله وعياله.

وفيها: قدم القاضي فخر الملك أبو عبيد علي صاحب طرابلس إلى بغداد يستنفر المسلمين على الفرنج، فأكرمه السلطان غياث الدين محمد إكراما زائدا، وخلع عليه وبعث معه الجيوش الكثيرة لقتال الفرنج.

من الأعيان:

تميم بن المعز بن باديس

صاحب إفريقية، كان من خيار الملوك حلما وكرما، وإحسانا، ملك ستا وأربعين سنة، وعمر تسعا وتسعين سنة، وترك من البنين أنهد من مائة، ومن البنات ستين بنتا، وملك من بعده ولده يحيى، ومن أحسن ما مدح به الأمير تميم قول الشاعر:

أصح وأعلى ما سمعناه في الندا ** من الخبر المرويّ منذ قديم

أحاديث ترويها السيول عن الحيا ** عن البحر عن كف الأمير تميم

صدقة بن منصور ابن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي

الأمير سيف الدولة، صاحب الحلة وتكريت وواسط وغيرها، كان كريما عفيفا ذا ذمام، ملجأ لكل خائف يأمن في بلاده، وتحت جناحه، وكان يقرأ الكتب المشكلة ولا يحسن الكتابة، وقد اقتنى كتبا نفيسة جدا، وكان لا يتزوج على امرأة قط، ولا يتسرى على سرية حفظا للذمام، ولئلا يكسر قلب أحد، وقد مدح بأوصاف جميلة كثيرة جدا.

قتل في بعض الحروب، قتله غلام اسمه برغش، وكان له من العمر تسع وخمسون سنة، رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة ثنتين وخمسمائة

في يوم الجمعة الثاني والعشرين من شعبان تزوج الخليفة المستظهر بالخاتون بنت ملكشاه أخت السلطان محمد، على صداق مائة ألف دينار، ونثر الذهب، وكتب العقد بأصبهان.

وفيها: كانت الحروب الكثيرة بين الأتابك طغتكين صاحب دمشق وبين الفرنج.

وفيها: ملك سعيد بن حميد العمري الحلة السيفية.

وفيها: زادت دجلة زيادة كثيرة فغرقت الغلات فغلت الأسعار بسبب ذلك غلاء شديدا.

وحج بالناس الأمير قيماز.

من الأعيان:

الحسن العلوي أبو هاشم ابن رئيس همدان

وكان ذا مال جزيل، صادره السلطان في بعض الأوقات بتسعمائة ألف دينار، فوزنها ولم يبع فيها عقارا ولا غيره.

الحسن بن علي أبو الفوارس بن الخازن

الكاتب المشهور بالخط المنسوب.

توفي في ذي الحجة منها.

قال ابن خلكان: كتب بيده خمسمائة ختمة، مات فجأة.

الروياني صاحب البحر

عبد الواحد بن إسماعيل، أبو المحاسن الروياني، من أهل طبرستان، أحد أئمة الشافعية، ولد سنة خمس عشرة وأربعمائة، ورحل إلى الآفاق حتى بلغ ما وراء النهر، وحصل علوما جمة وسمع الحديث الكثير، وصنف كتبا في المذهب من ذلك (البحر) في الفروع، وهو حافل كامل شامل للغرائب وغيرها، وفي المثل: (حدث عن البحر ولا حرج).

وكان يقول: لو احترقت كتب الشافعي أمليتها من حفظي.

قتل ظلما يوم الجمعة، وهو يوم عاشوراء في الجامع بطبرستان، قتله رجل من أهلها، رحمه الله.

قال ابن خلكان: أخذ الفقه عن ناصر المروزي وعلق عنه، وكان للروياني الجاه العظيم، والحرمة الوافرة، وقد صنف كتبا في الأصول والفروع، منها (بحر المذهب)، وكتاب (مناصيص الإمام الشافعي)، وكتاب (الكافي)، و(حلية المؤمن)، وله كتب في الخلاف أيضا.

يحيى بن علي ابن محمد بن الحسن بن بسطام

الشيباني التبريزي، أبو زكريا، أحد أئمة اللغة والنحو، قرأ على أبي العلاء وغيره، وتخرج به جماعة منهم منصور بن الجواليقي.

قال ابن ناصر: وكان ثقة في النقل، وله المصنفات الكثيرة.

وقال ابن خيرون: لم يكن مرضى الطريقة، توفي في جمادى الآخرة ودفن إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي بباب إبرز، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسمائة

فيها: أخذت الفرنج مدينة طرابلس وقتلوا من فيها من الرجال، وسبوا الحريم والأطفال؛ وغنموا الأمتعة والأموال، ثم أخذوا مدينة جبلة بعدها بعشر ليال، فلا حول ولا قوة إلا بالله الكبير المتعال.

وقد هرب منهم فخر الملك بن عمار، فقصد صاحب دمشق طغتكين فأكرمه وأقطعه بلادا كثيرة.

وفيها: وثب بعض الباطنية على الوزير أبي نصر بن نظام الملك فجرحه ثم أُخذ الباطني فسُقي الخمر فأقر على جماعة من الباطنية فأُخذوا فقتلوا.

وحج بالناس الأمير قيماز.

من الأعيان:

أحمد بن علي ابن أحمد، أبو بكر العلوي

كان يعمل في تجصيص الحيطان، ولا ينقش صورة، ولا يأخذ من أحد شيئا، وكانت له أملاك ينتفع منها ويتقوت، وقد سمع الحديث من القاضي أبي يعلى، وتفقه عليه بشيء من الفقه، وكان إذا حج يزور القبور بمكة، فإذا وصل إلى قبر الفضيل بن عياض يخط إلى جانبه خطا بعصاه ويقول: يا رب ههنا.

فقيل: إنه حج في هذه السنة فوقف بعرفات محرما فتوفي بها من آخر ذلك اليوم، فغسل وكفن وطيف به حول البيت ثم دفن إلى جانب الفضيل بن عياض في ذلك المكان الذي كان يخطه بعصاه، وبلغ الناس وفاته ببغداد فاجتمعوا للصلاة عليه صلاة الغائب، حتى لو مات بين أظهرهم لم يكن عندهم مزيد على ذلك الجمع، رحمه الله.

عمر بن عبد الكريم ابن سعدويه الفتيان الدهقاني

رحل في طلب الحديث، ودار الدنيا، وخرج وانتخب، وكان له فقه في هذا الشأن، وكان ثقة، وقد صحح عليه أبو حامد الغزالي كتاب (الصحيحين)، كانت وفاته بسرخس في هذه السنة.

محمد ويعرف بأخي حماد

وكان أحد الصلحاء الكبار، كان به مرض مزمن، فرأى النبي في المنام فعوفي، فلزم مسجدا له أربعين سنة، لا يخرج إلا إلى الجمعة، وانقطع عن مخالطة الناس، كانت وفاته في هذه السنة، ودفن في زاوية بالقرب من قبر أبي حنيفة، رحمه الله.

ثم دخلت سنة أربع وخمسمائة

في أولها تجهز جماعة من البغاددة من الفقهاء وغيرهم، ومنهم ابن الذاغوني، للخروج إلى الشام لأجل الجهاد، وقتال الفرنج، وذلك حين بلغهم أنهم فتحوا مدائن عديدة، من ذلك مدينة صيدا في ربيع الأول، وكذا غيرها من المدائن، ثم رجع كثير منهم حين بلغهم كثرة الفرنج.

وفيها: قدمت خاتون بنت ملكشاه زوجة الخليفة إلى بغداد فنزلت في دار أخيها السلطان محمد، ثم حمل جهازها على مائة واثنين وستين جملا، وسبعة وعشرين بغلا، وزينت بغداد لقدومها، وكان دخولها على الخليفة في الليلة العاشرة من رمضان، وكانت ليلة مشهودة.

وفيها: درس أبو بكر الشاشي بالنظامية مع التاجية، وحضر عنده الوزير والأعيان.

وحج بالناس قيماز، ولم يتمكن الخراسانيون من الحج من العطش وقلة الماء.

من الأعيان:

إدريس بن حمزة أبو الحسن الشاشي الرملي العثماني

أحد فحول المناظرين عن مذهب الشافعي، تفقه أولا على نصر بن إبراهيم، ثم ببغداد على أبي إسحاق الشيرازي، ودخل خراسان حتى وصل إلى ما وراء النهر، وأقام بسمرقند ودرّس بمدرستها إلى أن توفي في هذه السنة.

علي بن محمد ابن علي بن عماد الدين

أبو الحسن الطبري، ويعرف بالكيا الهراسي، أحد الفقهاء الكبار، من رؤس الشافعية، ولد سنة خمسين وأربعمائة، واشتغل على إمام الحرمين، وكان هو والغزالي أكبر التلامذة، وقد ولي كل منهما تدريس النظامية ببغداد.

وقد كان أبو الحسن هذا فصيحا جهوري الصوت جميلا، وكان يكرر لعن إبليس على كل مرقاة من مراقي النظامية بنيسابور سبع مرات، وكانت المراقي سبعين مرقاة، وقد سمع الحديث الكثير، وناظر وأفتى ودرّس، وكان من أكابر الفضلاء وسادات الفقهاء، وله كتاب يرد فيه على ما انفرد به الإمام أحمد بن حنبل في مجلد، وله غيره من المصنفات، وقد اتهم في وقت بأنه يمالئ الباطنية، فنزع منه التدريس ثم شهد جماعة من العلماء ببراءته من ذلك منهم ابن عقيل، فأعيد إليه.

توفي في يوم الخميس مستهل محرم من هذه السنة عن أربع وخمسين سنة، دفن إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي.

وذكر ابن خلكان: أنه كان يحفظ الحديث ويناظر به، وهو القائل: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح.

وحكى السلفي عنه: أنه استفتي في كتبة الحديث هل يدخلون في الوصية للفقهاء؟

فأجاب: نعم لقوله : «من حفظ على أمتي أربعين حديثا بعثه الله عالما».

واستفتي في يزيد بن معاوية فذكر عنه تلاعبا وفسقا، وجوز شتمه، وأما الغزالي فإنه خالف في ذلك، ومنع من شتمه ولعنه، لأنه مسلم، ولم يثبت بأنه رضي بقتل الحسين، ولو ثبت لم يكن ذلك مسوغا للعنه، لأن القاتل لا يلعن لا سيما وباب التوبة مفتوح الذي يقبل التوبة عن عباده غفور رحيم.

قال الغزالي: وأما الترحم عليه فجائز، بل مستحب، بل نحن نترحم عليه في جملة المسلمين والمؤمنين، عموما في الصلوات.

ذكره ابن خلكان مبسوطا بلفظه في ترجمة الكيا هذا، قال: والكيا كبير القدر مقدم معظم، والله أعلم.

ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة

فيها: بعث السلطان غياث الدين جيشا كثيفا، صحبة الأمير مودود بن زنكي صاحب الموصل، في جملة أمراء ونواب، منهم سكمان القطبي، صاحب تبريز، وأحمديل صاحب مراغة، والأمير إيلغازي صاحب ماردين، وعلى الجميع الأمير مودود صاحب الموصل، لقتال الفرنج بالشام، فانتزعوا من أيدي الفرنج حصونا كثيرة، وقتلوا منهم خلقا كثيرا ولله الحمد.

ولما دخلوا دمشق دخل الأمير مودود إلى جامعها ليصلي فيه فجاءه باطني في زي سائل فطلب منه شيئا فأعطاه، فلما اقترب منه ضربه في فؤاده فمات من ساعته، ووجد رجل أعمى في سطح الجامع ببغداد معه سكين مسموم فقيل: إنه كان يريد قتل الخليفة.

وفيها: ولد للخليفة من بنت السلطان ولد فضربت الدبادب والبوقات، ومات له ولد وهكذا الدنيا فرضي بوفاته، وجلس الوزير للهناء والعزاء.

وفي رمضان عزل الوزير أحمد بن النظام، وكانت مدة وزارته أربع سنين وإحدى عشر شهرا.

وفيها: حاصرت الفرنج مدينة صور، وكانت بأيدي المصريين، عليها عز الملك الأعز من جهتهم، فقاتلهم قتالا شديدا، ومنعها منعا جيدا، حتى فني ما عنده من النشاب والعدد، فأمده طغتكين صاحب دمشق، وأرسل إليه العدد والآلات فقوي جأشه وترحلت عنه الفرنج في شوال منها.

وحج بالناس أمير الجيوش قطز الخادم، وكانت سنة مخصبة مرخصة.

من الأعيان:

أبو حامد الغزالي محمد بن محمد بن محمد

أبو حامد الغزالي، ولد سنة خمسين وأربعمائة، وتفقه على إمام الحرمين، وبرع في علوم كثيرة، وله مصنفات منتشرة في فنون متعددة، فكان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه وساد في شبيبته حتى أنه درّس بالنظامية ببغداد، في سنة أربع وثمانين، وله أربع وثلاثون سنة، فحضر عنده رؤس العلماء، وكان ممن حضر عنده أبو الخطاب وابن عقيل، وهما من رؤس الحنابلة، فتعجبوا من فصاحته واطلاعه.

قال ابن الجوزي: وكتبوا كلامه في مصنفاتهم.

ثم إنه خرج عن الدنيا بالكلية وأقبل على العبادة وأعمال الآخرة، وكان يرتزق من النسخ، ورحل إلى الشام فأقام بها بدمشق وبيت المقدس مدة، وصنف في هذه المدة كتابه (إحياء علوم الدين)، وهو كتاب عجيب، ويشتمل على علوم كثيرة من الشرعيات، وممزوج بأشياء لطيفة من التصوف وأعمال القلوب، لكن فيه أحاديث كثيرة وغرائب ومنكرات وموضوعات، كما يوجد في غيره من كتب الفروع التي يستدل بها على الحلال والحرام، فالكتاب الموضوع للرقائق والترغيب والترهيب أسهل أمرا من غيره، وقد شنع عليه أبو الفرج بن الجوزي، ثم ابن الصلاح، في ذلك تشنيعا كثيرا، وأراد المازري أن يحرق كتابه (إحياء علوم الدين)، وكذلك غيره من المغاربة، وقالوا: هذا كتاب إحياء علوم دينه، وأما ديننا فإحياء علومه كتاب الله وسنة رسوله.

كما قد حكيت ذلك في ترجمته في (الطبقات)، وقد زيف ابن شكر مواضع (إحياء علوم الدين)، وبيّن زيفها في مصنف مفيد، وقد كان الغزالي يقول: أنا مزجي البضاعة في الحديث.

ويقال: إنه مال في آخر عمره إلى سماع الحديث والتحفظ للصحيحين، وقد صنف ابن الجوزي كتابا على الأحياء وسماه (علوم الأحيا بأغاليط الإحيا).

قال ابن الجوزي: ثم ألزمه بعض الوزراء بالخروج إلى نيسابور فدرس بنظاميتها، ثم عاد إلى بلده طوس فأقام بها، وابتنى رباطا واتخذ دارا حسنة، وغرس فيها بستانا أنيقا، وأقبل على تلاوة القرآن وحفظ الأحاديث الصحاح، وكانت وفاته في يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن بطوس رحمه الله تعالى، وقد سأله بعض أصحابه وهو في السياق فقال: أوصني.

فقال: عليك بالإخلاص، ولم يزل يكررها حتى مات، رحمه الله.

ثم دخلت سنة ست وخمسمائة

في جمادى الآخرة منها جلس ابن الطبري مدرسا بالنظامية وعزل عنها الشاشي.

وفيها: دخل الشيخ الصالح أحد العباد يوسف بن داود إلى بغداد، فوعظ الناس، وكان له القبول التام، وكان شافعيا تفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ثم اشتغل بالعبادة والزهادة، وكانت له أحوال صالحة، جاراه رجل مرة يقال له: ابن السقافي، مسألة فقال له: اسكت فإني أجد من كلامك رائحة الكفر، ولعلك أن تموت على غير دين الإسلام.

فاتفق بعد حين أنه خرج ابن السقا إلى بلاد الروم في حاجة، فتنصر هناك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقام إليه مرة وهو يعظ الناس ابنا أبي بكر الشاشي فقالا له: إن كنت تتكلم على مذهب الأشعري وإلا فاسكت.

فقال: لا متعتما بشبابكما.

فماتا شابين، ولم يبلغا سن الكهولة.

وحج بالناس فيها أمير الجيوش بطز الخادم، ونالهم عطش.

من الأعيان:

صاعد بن منصور ابن إسماعيل بن صاعد

أبو العلاء الخطيب النيسابوري، سمع الحديث الكثير، وولي الخطابة بعد أبيه والتدريس والتذكير، وكان أبو المعالي الجويني يثني عليه، وقد ولي قضاء خوارزم.

محمد بن موسى بن عبد الله أبو عبد الله البلاساغوني التركي الحنفي

ويعرف باللامشي، أورد عنه الحافظ ابن عساكر حديثا وذكر أنه ولي قضاء بيت المقدس، فشكوا منه فعزل عنها، ثم ولي قضاء دمشق، وكان غاليا في مذهب أبي حنيفة، وهو الذي رتب الإقامة مثنى، قال: إلى أن أزال الله ذلك بدولة الملك صلاح الدين.

قال: وكان قد عزم على نصب إمام حنفي بالجامع، فامتنع أهل دمشق من ذلك، وامتنعوا من الصلاة خلفه، وصلوا بأجمعهم في دار الخيل، وهي التي قبل الجامع مكان المدرسة الأمينية، وما يجاورها وحدها الطرقات الأربعة، وكان يقول: لو كانت لي الولاية لأخذت من أصحاب الشافعي الجزية.

وكان مبغضا لأصحاب مالك أيضا.

قال: ولم تكن سيرته في القضاء محمودة.

وكانت وفاته يوم الجمعة الثالث عشر من جمادى الآخرة منها.

قال: وقد شهدت جنازته وأنا صغير في الجامع.

المعمر بن المعمر أبو سعد بن أبي عمار الواعظ

كان فصيحا بليغا ماجنا ظريفا ذكيا، له كلمات في الوعظ حسنة ورسائل مسموعة مستحسنة، توفي في ربيع الأول منها، ودفن بباب حرب.

أبو علي المعري

كان عابدا زاهدا، يتقوت بأدنى شيء، ثم عنّ له أن يشتغل بعلم الكيمياء، فأخذ إلى دار الخلافة فلم يظهر له خبر بعد ذلك.

نزهة أم ولد الخليفة المستظهر بالله

كانت سوداء محتشمة كريمة النفس، توفيت يوم الجمعة ثاني عشر شوال منها.

أبو سعد السمعاني

مصنف (الأنساب) وغيره وهو تاج الإسلام عبد الكريم بن محمد بن أبي المظفر المنصور عبد الجبار السمعاني، المروزي، الفقيه الشافعي، الحافظ المحدث، قوام الدين أحد الأئمة المصنفين، رحل وسمع الكثير حتى كتب عن أربعة آلاف شيخ، وصنف (التفسير) و(التاريخ) و(الأنساب) و(الذيل) على تاريخ الخطيب البغدادي.

وذكر له ابن خلكان مصنفات عديدة جدا، منها كتابه الذي جمع فيه ألف حديث عن مائة شيخ، وتكلم عليها إسنادا ومتنا، وهو مفيد جدا، رحمه الله.

ثم دخلت سنة سبع وخمسمائة

فيها: كانت وقعة عظيمة بين المسلمين والفرنج في أرض طبرية، كان فيها ملك دمشق الأتابك طغتكين، ومعه صاحب سنجار وصاحب ماردين، وصاحب الموصل، فهزموا الفرنج هزيمة فاضحة، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وغنموا منهم أموالا جزيلة، وملكوا تلك النواحي كلها، ولله الحمد والمنة، ثم رجعوا إلى دمشق فذكر ابن الساعي في (تاريخه) مقتل الملك مودود صاحب الموصل في هذه السنة، قال: صلى هو والملك طغتكين يوم الجمعة بالجامع، ثم خرجا إلى الصحن ويد كل واحد منهما في يد الآخر فطفر باطني على مودود فقتله، رحمه الله.

فيقال: إن طغتكين هو الذي مالأ عليه، فالله أعلم.

وجاء كتاب من الفرنج إلى المسلمين وفيه: أن أمة قتلت عميدها في يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها.

وفيها: ملك حلب ألب أرسلان بن رضوان بن تتش بعد أبيه، وقام بأمر سلطنته لؤلؤ الخادم، فلم يبق معه سوى الرسم.

وفيها: فتح المارستان الذي أنشأه كمشتكين الخادم ببغداد.

وحج بالناس زنكي بن برشق.

من الأعيان:

إسماعيل بن الحافظ أبي بكر بن الحسين البيهقي

سمع الكثير وتنقل في البلاد، ودرس بمدينة خوارزم، وكان فاضلا من أهل الحديث، مرضي الطريقة، وكانت وفاته ببلده بيهق في هذه السنة.

شجاع بن أبي شجاع فارس بن الحسين بن فارس أبو غالب الذهلي الحافظ

سمع الكثير، وكان فاضلا في هذا الشأن، وشرع في تتميم تاريخ الخطيب ثم غسله، وكان يكثر من الاستغفار والتوبة لأنه كتب شعر ابن الحجاج سبع مرات، توفي في هذا العام عن سبع وسبعين سنة.

محمد بن أحمد ابن محمد بن أحمد

بن إسحاق بن الحسين بن منصور بن معاوية بن محمد بن عثمان بن عتبة بن عنبسة بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب، الأموي أبو المظفر بن أبي العباس الأبيوردي الشاعر.

كان عالما باللغة والأنساب، سمع الكثير وصنف (تاريخ أبي ورد)، و(أنساب العرب)، وله كتاب في المؤتلف والمختلف، وغير ذلك، وكان ينسب إلى الكبر والتيه الزائد، حتى كان يدعو في صلاته: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها.

وكتب مرة إلى الخليفة الخادم المعاوي، فكشط الخليفة الميم فبقت العاوي، ومن شعره قوله:

تنكر لي دهري ولم يدر أنني ** أعز وأحداث الزمان تهون

وظل يريني الدهر كيف اغتراره ** وبت أريه الصبر كيف يكون

محمد بن طاهر ابن علي بن أحمد

أبو الفضل المقدسي الحافظ، ولد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وأول سماعه سنة ستين، وسافر في طلب الحديث إلى بلاد كثيرة، وسمع كثيرا، وكان له معرفة جيدة بهذه الصناعة، وصنف كتبا مفيدة، غير أنه صنف كتابا في إباحة السماع، وفي التصوف، وساق فيه أحاديث منكرة جدا، وأورد أحاديث صحيحة في غيره وقد أثنى على حفظه غير واحد من الأئمة.

وذكر ابن الجوزي في كتابه هذا الذي سماه (صفة التصوف) وقال عنه: يضحك منه من رآه.

قال: وكان داودي المذهب، فمن أثنى عليه أثنى لأجل حفظه للحديث، وإلا فما يجرح به أولى.

قال: وذكره أبو سعد السمعاني وانتصر له بغير حجة، بعد أن قال: سألت عنه شيخنا إسماعيل بن أحمد الطلحي فأكثر الثناء عليه، وكان سيء الرأي فيه.

قال: وسمعنا أبا الفضل بن ناصر يقول محمد: بن طاهر لا يحتج به، صنف في جواز النظر إلى المرد، وكان يذهب مذهب الإباحية، ثم أورد له من شعره قوله في هذه الأبيات:

دع التصوف والزهد الذي اشتغلت ** به خوارج أقوام من الناس

وعج على دير داريا فإن به الرهـ ** ـبان ما بين قسيس وشماس

واشرب معتقة من كف كافرة ** تسقيك خمرين من لحظ ومن كاس

ثم استمع رنة الأوتار من رشأ ** مهفهف طرفه أمضى من الماس

غنى بشعر امرئ في الناس مشتهر ** مدون عندهم في صدر قرطاس

لولا نسيم بدا منكم يروحني ** لكنت محترقا من حر أنفاسي

ثم قال السمعاني: لعله قد تاب من هذا كله.

قال ابن الجوزي: وهذا غير مرضي أن يذكر جرح الأئمة له ثم يعتذر عن ذلك باحتمال توبته.

وقد ذكر ابن الجوزي: أنه لما احتضر جعل يردد هذا البيت:

وما كنتم تعرفون الجفا ** فممن نرى قد تعلمتم

ثم كانت وفاته بالجانب الغربي من بغداد في ربيع الأول منها.

أبو بكر الشاشي

صاحب (المستظهري) محمد بن أحمد بن الحسين الشاشي، أحد أئمة الشافعة في زمانه، ولد في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وسمع الحديث على أبي يعلى بن الفراء، وأبي بكر الخطيب، وأبي إسحاق الشيرازي، وتفقه عليه وعلى غيره، وقرأ (الشامل) على مصنفه ابن الصباغ، واختصره في كتابه الذي جمعه للمستظهر بالله، وسماه (حلية العلماء بمعرفة مذاهب الفقهاء)، ويعرف (بالمستظهري)، وقد درّس بالنظامية ببغداد ثم عزل عنها وكان ينشد:

تعلم يا فتى والعود غض ** وطينك لين والطبع قابل

فحسبك يا فتى شرفا وفخرا ** سكوت الحاضرين وأنت قائل

توفي سحر يوم السبت السادس عشر من شوال منها، ودفن إلى جانب أبي إسحاق الشيرازي بباب إبرز.

المؤتمن بن أحمد ابن علي بن الحسين بن عبيد الله

أبو نصر الساجي المقدسي، سمع الحديث الكثير، وخرج وكان صحيح النقل، حسن الخط، مشكور السيرة لطيفا، اشتغل في الفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي مدة، ورحل إلى أصبهان وغيرها، وهو معدود من جملة الحفاظ، لا سيما للمتون، وقد تكلم فيه ابن طاهر.

قال ابن الجوزي: وهو أحق منه بذلك، وأين الثريا من الثرى؟

توفي المؤتمن يوم السبت ثاني عشر صفر منها، ودفن بباب حرب، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسمائة

فيها: وقع حريق عظيم ببغداد.

وفيها: كانت زلزلة هائلة بأرض الجزيرة، هدمت منها ثلاثة عشر برجا، ومن الرها بيوتا كثيرة، وبعض دور خراسان، ودورا كثيرة في بلاد شتى، فهلك من أهلها نحو من مائة ألف، وخسف بنصف قلعة حران وسلم نصفها، وخسف بمدينة سميساط، وهلك تحت الردم خلق كثير.

وفيها: قتل صاحب حلب تاج الدولة ألب أرسلان بن رضوان بن تتش، قتله غلمانه، وقام من بعده أخوه السلطان شاه بن رضوان.

وفيها: ملك السلطان سنجر بن ملكشاه بلاد غزنة، وخطب له بها بعد مقاتلة عظيمة، وأخذ منها أموالا كثيرة لم يرى مثلها، من ذلك خمس تيجان قيمة كل تاج منها ألف ألف دينار، وسبعة عشر سريرا من ذهب وفضة، وألف وثلاثمائة قطعة مصاغ مرصعة، فأقام بها أربعين يوما، وقرر في ملكها بهرام شاه، رجل من بيت سبكتكين، ولم يخطب بها لأحد من السلجوقية غير سنجر هذا، وإنما كان لها ملوك سادة أهل جهاد وسنة، لا يجسر أحد من الملوك عليهم، ولا يطيق أحد مقاومتهم، وهم بنو سبكتكين.

وفيها: ولى السلطان محمد الأمير آقسنقر البرسقي الموصل وأعمالها، وأمره بمقاتلة الفرنج، فقاتلهم في أواخر هذه السنة فأخذ منهم الرها وحريمها وبروج وسميساط، ونهب ماردين وأسر ابن ملكها إياز إيلغازي، فأرسل السلطان محمد إليه من يتهدده ففر منه إلى طغتكين صاحب دمشق، فاتفقا على عصيان السلطان محمد، فجرت بينهما وبين نائب حمص قرجان بن قراجة حروب كثيرة، ثم اصطلحوا.

وفيها: ملكت زوجة مرعش الإفرنجية بعد وفاة زوجها لعنهما الله.

وحج بالناس فيها أمير الجيوش أبو الخير يمن الخادم، وشكر الناس حجهم معه.

ثم دخلت سنة تسع وخمسمائة

فيها: جهز السلطان غياث الدين محمد بن ملكشاه صاحب العراق جيشا كثيفا مع الأمير برشق بن إيلغازي صاحب ماردين إلى صاحب دمشق طغتكين، وإلى آقسنقر البرشقي ليقاتلهما، لأجل عصيانهما عليه، وقطع خطبته، وإذا فرغ منهما عمد لقتال الفرنج.

فلما اقترب الجيش من بلاد الشام هربا منه وتحيزا إلى الفرنج، وجاء الأمير برشق إلى كفرطاب ففتحها عنوة، وأخذ ما كان فيها من النساء والذرية، وجاء صاحب إنطاكية روجيل في خمسمائة فارس وألفي راجل، فكبس المسلمين فقتل منهم خلقا كثيرا، وأخذ أموالا جزيلة، وهرب برشق في طائفة قليلة، وتمزق الجيش الذي كان معه شذر مذر، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي ذي القعدة منها قدم السلطان محمد إلى بغداد، وجاء إلى طغتكين صاحب دمشق معتذرا إليه، فخلع عليه، ورضي عنه ورده إلى عمله.

وفيها توفي من الأعيان:

إسماعيل بن محمد ابن أحمد بن علي أبو عثمان الأصبهاني

أحد الرحالين في طلب الحديث، وقد وعظ في جامع المنصور ثلاثين مجلسا، واستملى عليه محمد بن ناصر، وتوفي بأصبهان.

منجب بن عبد الله المستظهري

أبو الحسن الخادم، كان كثير العبادة، وقد أثنى عليه محمد بن ناصر، قال: وقف على أصحاب الحديث وقفا.

عبد الله بن المبارك ابن موسى

أبو البركات السقطي، سمع الكثير ورحل فيه، وكان فاضلا عارفا باللغة، ودفن بباب حرب.

يحيى بن تميم بن المعز بن باديس

صاحب إفريقية، كان من خيار الملوك، عارفا حسن السيرة، محبا للفقراء والعلماء، وله عليهم أرزاق، مات وله اثنتان وخمسون سنة، وترك ثلاثين ولدا، وقام بالأمر من بعده ولده علي.

ثم دخلت سنة عشر وخمسمائة

فيها: وقع حريق ببغداد احترقت فيه دور كثيرة، منها دار نور الهدى الزينبي، ورباط نهر زور، ودار كتب النظامية، وسلمت الكتب لأن الفقهاء نقلوها.

وفيها: قتل صاحب مراغة في مجلس السلطان محمد، قتله الباطنية.

وفي يوم عاشوراء وقعت فتنة عظيمة بين الروافض والسنة بمشهد علي بن موسى الرضا بمدينة طوس، فقتل فيها خلق كثير.

وفيها: سار السلطان إلى فارس بعد موت نائبها خوفا عليها من صاحب كرمان.

وحج بالناس بطز الخادم، وكانت سنة مخصبة آمنة، ولله الحمد.

من الأعيان:

عقيل بن الإمام أبي الوفا

علي بن عقيل الحنبلي، كان شابا قد برع وحفظ القرآن وكتب وفهم المعاني جيدا، ولما توفي صبر أبوه وشكر وأظهر التجلد، فقرأ قارئ في العزاء قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبا شَيْخا كَبِيرا} الآية 19، فبكى ابن عقيل بكاء شديدا.

علي بن أحمد بن محمد ابن الرزاز

آخر من حدث عن ابن مخلد بجزء الحسن بن عرفة، وتفرد بأشياء غيره، توفي فيها عن سبع وتسعين سنة.

محمد بن منصور ابن محمد بن عبد الجبار

أبو بكر السمعاني، سمع الكثير وحدث ووعظ بالنظامية ببغداد، وأملى بمرو مائة وأربعين مجلسا، وكانت له معرفة تامة بالحديث، وكان أديبا شاعرا فاضلا، له قبول عظيم في القلوب، توفي بمرو عن ثلاث وأربعين سنة.

محمد بن أحمد بن طاهر ابن أحمد بن منصور الخازن

فقيه الإمامية ومفتيهم بالكرخ، وقد سمع الحديث من التنوخي وابن غيلان، توفي في رمضان منها.

محمد بن علي بن محمد أبو بكر النسوي

الفقيه الشافعي سمع الحديث، وكانت إليه تزكية الشهود ببغداد، وكان فاضلا أديبا ورعا.

محفوظ بن أحمد ابن الحسن

أبو الخطاب الكلوذاني، أحد أئمة الحنابلة ومصنفيهم، سمع الكثير وتفقه بالقاضي أبي يعلى، وقرأ الفرائض على الوني، ودرس وأفتى وناظر وصنف في الأصول والفروع، وله شعر حسن، وجمع قصيدة يذكر فيها اعتقاده ومذهبه يقول فيها:

دع عنك تذكار الخليط المتحد ** والشوق نحو الآنسات الخرد

والنوح في تذكار سعدى إنما ** تذكار سعدى شغل من لم يسعد

واسمع معاني إن أردت تخلصا ** يوم الحساب وخذ بقولي تهتدي

وذكر تمامها وهي طويلة، كانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة، وصلي عليه بجامع القصر، وجامع المنصور، ودفن بالقرب من الإمام أحمد.

ثم دخلت سنة إحدى عشرة وخمسمائة

في رابع صفر منها انكسف القمر كسوفا كليا، وفي تلك الليلة هجم الفرنج على ربض حماه فقتلوا خلقا كثيرا، ورجعوا إلى بلادهم.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة ببغداد سقط منها دور كثيرة بالجانب الغربي، وغلت الغلات بها جدا.

وفيها: قتل لؤلؤ الخادم الذي كان استحوذ على مملكة حلب بعد موت أستاذه رضوان بن تتش، قتله جماعة من الأتراك، وكان قد خرج من حلب متوجها إلى جعبر، فنادى جماعة من مماليكه وغيرهم: أرنب، أرنب.

فرموه بالنشاب موهمين أنهم يصيدون أرنبا فقتلوه.

وفيها: كان وفاة غياث الدين السلطان محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، سلطان بلاد العراق وخراسان وغير ذلك من البلاد الشاسعة، والأقاليم الواسعة.

كان من خيار الملوك وأحسنهم سيرة، عادلا رحيما، سهل الأخلاق، محمود العشرة، ولما حضرته الوفاة استدعى ولده محمودا وضمه إليه وبكى كل منهما، ثم أمره بالجلوس على سرير المملكة، وعمره إذ ذاك أربعة عشر سنة، فجلس وعليه التاج والسواران وحكم، ولما توفي أبوه صرف الخزائن إلى العساكر، وكان فيها إحدى عشر ألف ألف دينار، واستقر الملك له، وخطب له ببغداد وغيرها من البلاد، ومات السلطان محمد عن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأياما.

وفيها: ولد الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب حلب بدمشق.

من الأعيان:

القاضي المرتضى أبو محمد عبد الله بن القاسم بن المظفر بن علي بن القاسم الشهرزوري

والد القاضي جمال الدين عبد الله الشهرزوري، قاضي دمشق في أيام نور الدين، اشتغل ببغداد وتفقه بها، وكان شافعي المذهب، بارعا دينا، حسن النظم، وله قصيدة في علم التصوف، وكان يتكلم على القلوب، أورد قصيدته بتمامها ابن خلكان لحسنها وفصاحتها وأولها:

لمعت نارهم وقد عسعس الليـ ** ـل وملّ الحادي وحار الدليل

فتأملتها وفكري من البيـ ** ـن عليل ولحظ عيني كليل

وفؤادي ذاك الفؤاد المعنّى ** وغرامي ذاك الغرام الدخيل

وله:

يا ليل ما جئتكم زائرا ** إلا وجدت الأرض تطوى لي

ولا ثنيت العزم عن بابكم ** إلا تعثرت بأذيالي

وله:

يا قلب إلى متى لا يفيد النصح ** دع مزحك كم جنى عليك المزح

ما جارحة منك غذاها جرح ** ما تشعر بالخمار حتى تصحو

توفي في هذه السنة.

قال ابن خلكان: وزعم عماد الدين في (الخريدة): أنه توفي بعد العشرين وخمسمائة، فالله أعلم.

محمد بن سعد ابن نبهان

أبو علي الكاتب، سمع الحديث وروى وعمر مائة سنة وتغير قبل موته، وله شعر حسن، فمنه قوله في قصيدة له:

لي رزق قدره الله ** نعم ورزق أتوقاه

حتى إذا استوفيت منه ** الذي قدر لي لا أتعداه

قال كرام كنت أغشاهم ** في مجلس كنت أغشاه

صار ابن نبهان إلى ربه ** يرحمنا الله وإياه

أمير الحاج يمن بن عبد الله أبو الخير المستظهري

كان جوادا كريما ممدحا ذا رأي وفطنة ثاقبة، وقد سمع الحديث من أبي عبد الله الحسين بن طلحة النعالي بإفادة أبي نصر الأصبهاني، وكان يؤم به في الصلوات، ولما قدم رسولا إلى أصبهان حدث بها.

توفي في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بأصبهان.

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وخمسمائة

فيها: خطب للسلطان محمد بن ملكشاه بأمر الخليفة المستظهر بالله.

وفيها: سأل دبيس بن صدقة الأسدي من السلطان محمود أن يرده إلى الحلة وغيرها، مما كان أبوه يتولاه من الأعمال، فأجابه إلى ذلك، فعظم وارتفع شأنه.

وفاة الخليفة المستظهر بالله

هو أبو العباس أحمد بن المقتدي، كان خيرا فاضلا ذكيا بارعا، كتب الخط المنسوب، وكانت أيامه ببغداد كأنها الأعياد، وكان راغبا في البر والخير، مسارعا إلى ذلك، لا يرد سائلا، وكان جميل العشرة لا يصغي إلى أقوال الوشاة من الناس، ولا يثق بالمباشرين، وقد ضبط أمور الخلافة جيدا، وأحكمها وعلمها، وكان لديه علم كثير، وله شعر حسن قد ذكرناه أولا عند ذكر خلافته.

وقد ولي غسله ابن عقيل وابن السني، وصلى عليه ولده أبو منصور الفضل وكبر أربعا، ودفن في حجرة كان يسكنها، ومن العجب أنه لما مات السلطان ألب أرسلان مات بعده الخليفة القائم، ثم لما مات السلطان ملكشاة مات بعده المقتدي، ثم لما مات السلطان محمد مات بعده المستظهر هذا، في سادس عشر ربيع الآخر، وله من العمر إحدى وأربعون سنة، وثلاثة أشهر وإحدى عشر يوما.

خلافة المسترشد أمير المؤمنين

أبو منصور الفضل بن المستظهر: لما توفي أبوه كما ذكرنا بويع له بالخلافة، وخطب له على المنابر، وقد كان ولي العهد من بعده مدة ثلاث وعشرين سنة، وكان الذي أخذ البيعة له قاضي القضاة أبو الحسن الدامغاني، ولما استقرت البيعة له هرب أخوه أبو الحسن في سفينة ومعه ثلاثة نفر، وقصد دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي بالحلة، فأكرمه وأحسن إليه، فقلق أخوه الخليفة المسترشد من ذلك، فراسل دبيسا في ذلك مع نقيب النقباء الزينبي، فهرب أخو الخليفة من دبيس فأرسل إليه جيشا فألجأوه إلى البرية، فلحقه عطش شديد، فلقيه بدويان فسقياه ماء وحملاه إلى بغداد، فأحضره أخوه إليه فاعتنقا وتباكيا، وأنزله الخليفة دارا كان يسكنها قبل الخلافة، وأحسن إليه، وطيب نفسه، وكانت مدة غيبته عن بغداد إحدى عشر شهرا، واستقرت الخلافة بلا منازعة للمسترشد.

وفيها: كان غلاء شديد ببغداد وانقطع الغيث وعدمت الأقوات، وتفاقم أمر العيارين ببغداد، ونهبوا الدور نهارا جهارا، ولم يستطع الشرط دفع ذلك.

وحج بالناس في هذه السنة الخادم.

من الأعيان:

الخليفة المستظهر

كما تقدم.

ثم توفيت بعده جدته أم أبيه المقتدي.

أرجوان الأرمنية

وتدعى قرة العين، كان لها بر كثير ومعروف، وقد حجت ثلاث حجات، وأدركت خلافة ابنها المقتدي، وخلافة ابنه المستظهر، وخلافة ابنه المسترشد، ورأت للمسترشد ولدا.

بكر بن محمد بن علي ابن الفضل أبو الفضل الأنصاري

روى الحديث، وكان يضرب به المثل في مذهب أبي حنيفة، وتفقه على عبد العزيز بن محمد الحلواني، وكان يذكر الدروس من أي موضع سئل من غير مطالعة ولا مراجعة، وربما كان في ابتداء طلبه يكرر المسألة أربعمائة مرة، توفي في شعبان منها.

الحسين بن محمد بن عبد الوهاب الزينبي

قرأ القرآن، وسمع الحديث، وتفقه على أبي عبد الله الدامغاني، فبرع وأفتى ودرس بمشهد أبي حنيفة، ونظر في أوقافها، وانتهت إليه رياسة مذهب أبي حنيفة، ولقب نور الهدى، وسار في الرسلية إلى الملوك، وولي نقابة الطالبيين والعباسيين، ثم استعفى بعد شهور فتولاها أخوه طراد.

توفي يوم الاثنين الحادي عشر من صفر، وله من العمر ثنتان وتسعون سنة، وصلى عليه ابنه أبو القاسم علي، وحضرت جنازته الأعيان والعلماء، ودفن عند قبر أبي حنيفة داخل القبة.

يوسف بن أحمد أبو طاهر

ويعرف بابن الجزري، صاحب المخزن في أيام المستظهر، وكان لا يوفي المسترشد حقه من التعظيم وهو ولي العهد، فلما صارت إليه الخلافة صادره بمائة ألف دينار، ثم استقر غلاما له فأومأ إلى بيت فوجد فيه أربعمائة ألف دينار، فأخذها الخليفة ثم كانت وفاته بعد هذا بقليل بهذا العام.

أبو الفضل بن الخازن

كان أديبا لطيفا شاعرا فاضلا، فمن شعره قوله:

وافيت منزله فلم أر صاحبا ** إلا تلقاني بوجه ضاحك

والبشر في وجه الغلام نتيجة ** لمقدمات ضياء وجه المالك

ودخلت جنته وزرت جحيمه ** فشكرت رضوانا ورأفة مالك

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وخمسمائة

فيها: كانت الحروب الشديدة بين السلطان محمود بن محمد وبين عمه السلطان سنجر بن ملكشاه، وكان النصر فيها لسنجر، فخطب له ببغداد في سادس عشر جمادى الأولى من هذه السنة، وقطعت خطبة ابن أخيه في سائر أعماله.

وفيها: سارت الفرنج إلى مدينة حلب ففتحوها عنوة وملكوها، وقتلوا من أهلها خلقا، فسار إليهم صاحب ماردين إيلغازي بن أرتق في جيش كثيف، فهزمهم ولحقهم إلى جبل قد تحصنوا به، فقتل منهم هنالك مقتلة عظيمة، ولله الحمد.

ولم يفلت منهم إلا اليسير، وأسر من مقدميهم نيفا وتسعين رجلا، وقتل فيمن قتل سيرجال صاحب إنطاكية، وحمل رأسه إلى بغداد، فقال بعض الشعراء في ذلك وقد بالغ مبالغة فاحشة:

قل ما تشاء فقولك المقبول ** وعليك بعد الخالق التعويل

واستبشر القرآن حين نصرته ** وبكى لفقد رجاله الإنجيل

وفيها: قتل الأمير منكوبرس الذي كان شحنة بغداد، وكان ظالما غاشما سيء السيرة، قتله السلطان محمود بن محمد صبرا بين يديه لأمور، منها: أنه تزوج سرية أبيه قبل انقضاء عدتها، ونعم ما فعل وقد أراح الله المسلمين منه ما كان أظلمه وأغشمه.

وفيها: تولى قضاء قضاة بغداد الأكمل أبو القاسم بن علي بن أبي طالب بن محمد الزينبي، وخلع عليه بعد موت أبي الحسن الدامغاني.

وفيها: ظهر قبر إبراهيم الخليل عليه السلام وقبر ولديه إسحاق ويعقوب، وشاهد ذلك الناس، ولم تبلَ أجسادهم، وعندهم قناديل من ذهب وفضة، ذكر ذلك ابن الخازن في (تاريخه)، وأطال نقله من (المنتظم) لابن الجوزي، والله أعلم.

من الأعيان:

ابن عقيل علي بن عقيل بن محمد

أبو الوفا شيخ الحنابلة ببغداد، وصاحب (الفنون) وغيرها من التصانيف المفيدة، ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وقرأ القرآن على ابن سبطا، وسمع الحديث الكثير، وتفقه بالقاضي أبي يعلى بن الفراء، وقرأ الأدب على ابن برهان، والفرائض على عبد الملك الهمداني، والوعظ على أبي طاهر بن العلاف، صاحب ابن سمعون، والأصول على أبي الوليد المعتزلي، وكان يجتمع بجميع العلماء من كل مذهب، فربما لامه بعض أصحابه فلا يلوي عليهم، فلهذا برز على أقرانه وساد أهل زمانه في فنون كثيرة، مع صيانة وديانة وحسن صورة وكثرة اشتغال، وقد وعظ في بعض الأحيان فوقعت فتنة فترك ذلك، وقد متعه الله بجميع حواسه إلى حين موته.

توفي بكرة الجمعة ثاني جمادى الأولى من هذه السنة، وقد جاوز الثمانين، وكانت جنازته حافلة جدا، ودفن قريبا من قبر الإمام أحمد، إلى جانب الخادم مخلص، رحمه الله.

أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني

قاضي القضاة ابن قاضي القضاة، ولد في رجب سنة ست وأربعين وأربعمائة، وولي القضاء بباب الطاق من بغداد وله من العمر ست وعشرون سنة، ولا يعرف حاكم قضى لأربعة من الخلفاء غيره إلا شريح، ثم ذكر إمامته وديانته وصيانته مما يدل على نخوته، وتفوقه وقوته، تولى الحكم أربعا وعشرين سنة وستة أشهر، وقبره عند مشهد أبي حنيفة.

المبارك بن علي ابن الحسين أبو سعد المخرمي

سمع الحديث وتفقه على مذهب أحمد، وناظر وأفتى ودرس، وجمع كتبا كثيرة لم يسبق إلى مثلها، وناب في القضاء وكان حسن السيرة جميل الطريق، سديد الأقضية، وقد بنى مدرسة بباب الأزج وهي المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلي الحنبلي، ثم عزل عن القضاء وصودر بأموال جزيلة، وذلك في سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وتوفي في المحرم من هذه السنة، ودفن إلى جانب أبي بكر الخلال عند قبر أحمد.

ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة

في النصف من ربيع الأول منها كانت وقعة عظيمة بين الأخوين السلطان محمود ومسعود ابني محمد بن ملكشاه عند عقبة أسداباذ، فانهزم عسكر مسعود وأسر وزيره الأستاذ أبو إسماعيل وجماعة من أمرائه، فأمر السلطان محمود بقتل الوزير أبي إسماعيل، فقتل وله نيف وستون سنة، وله تصانيف في صناعة الكيمياء.

ثم أرسل إلى أخيه مسعود الأمان واستقدمه عليه، فلما التقيا بكيا واصطلحا.

وفيها: نهب دبيس صاحب الحلة البلاد، وركب بنفسه إلى بغداد، ونصب خيمته بإزاء دار الخلافة، وأظهر ما في نفسه من الضغائن، وذكر كيف طيف برأس أبيه في البلاد، وتهدد المسترشد، فأرسل إليه الخليفة يسكن جأشه ويعده أنه سيصلح بينه وبين السلطان محمود، فلما قدم السلطان محمود بغداد أرسل دبيس يستأمن فأمنه وأجراه على عادته، ثم إنه نهب جسر السلطان فركب بنفسه السلطان لقتاله واستصحب معه ألف سفينة ليعبر فيها، فهرب دبيس والتجأ إلى إيلغازي فأقام عنده سنة، ثم عاد إلى الحلة وأرسل إلى الخليفة والسلطان يعتذر إليهما مما كان منه، فلم يقبلا منه، وجهز إليه السلطان جيشا فحاصروه وضيقوا عليه قريبا من سنة، وهو ممتنع في بلاده لا يقدر الجيش على الوصول إليه.

وفيها: كانت وقعة عظيمة بين الكُرج والمسلمين بالقرب من تفليس، ومع الكرج كفار الفقجاق فقتلوا من المسلمين خلقا كثيرا، وغنموا أموالا جزيلة، وأسروا نحوا من أربعة آلاف أسير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ونهب الكُرج تلك النواحي وفعلوا أشياء منكرة، وحاصروا تفليس مدة ثم ملكوها عنوة، بعد ما أحرقوا القاضي والخطيب حين خرجوا إليهم يطلبون منهم الأمان، وقتلوا عامة أهلها، وسبوا الذرية واستحوذوا على الأموال، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وفيها: أغار جوسكين الفرنجي على خلق من العرب والتركمان فقتلهم وأخذ أموالهم، وهذا هو صاحب الرها.

وفيها: تمردت العيارون ببغداد وأخذوا الدور جهارا ليلا ونهارا، فحسبنا الله ونعم الوكيل.

وفيها: كان ابتداء ملك محمد بن تومرت ببلاد المغرب، كان ابتداء أمر هذا الرجل أنه قدم في حداثة سنه من بلاد المغرب فسكن النظامية ببغداد، واشتغل بالعلم فحصل منه جانبا جيدا من الفروع والأصول، على الغزالي وغيره، وكان يظهر التعبد والورع، وربما كان ينكر على الغزالي حسن ملابسه، ولا سيما لما لبس خلع التدريس بالنظامية أظهر الإنكار عليه جدا، وكذلك على غيره، ثم إنه حج وعاد إلى بلاده، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقرئ الناس القرآن ويشغلهم في الفقه، فطار ذكره في الناس، واجتمع به يحيى بن تميم بن المعز بن باديس صاحب بلاد إفريقية، فعظمه وأكرمه، وسأله الدعاء، فاشتهر أيضا بذلك، وبعد صيته، وليس معه إلا ركوة وعصا، ولا يسكن إلا المساجد.

ثم جعل ينتقل من بلد إلى بلد حتى دخل مراكش ومعه تلميذه عبد المؤمن بن علي، وقد كان توسم النجابة والشهامة فيه، فرأى في مراكش من المنكرات أضعاف ما رأى في غيرها، من ذلك أن الرجال يتلثمون والنساء يمشين حاسرات عن وجوههن، فأخذ في إنكار ذلك حتى أنه اجتازت به في بعض الأيام أخت أمير المسلمين يوسف ملك مراكش وما حولها، ومعها نساء مثلها راكبات حاسرات عن وجوههن، فشرع هو وأصحابه في الإنكار عليهن، وجعلوا يضربون وجوه الدواب فسقطت أخت الملك عن دابتها، فأحضره الملك وأحضر الفقهاء فظهر عليهم بالحجة، وأخذ يعظ الملك في خاصة نفسه، حتى أبكاه ومع هذا نفاه الملك عن بلده فشرع يشنع عليه ويدعو الناس إلى قتاله، فاتبعه على ذلك خلق كثير.

فجهز إليه الملك جيشا كثيفا فهزمهم ابن تومرت، فعظم شأنه وارتفع أمره، وقويت شوكته، وتسمى بالمهدي، وسمى جيشه جيش الموحدين وألف كتابا في التوحيد وعقيدة تسمى المرشدة، ثم كانت له وقعات مع جيوش صاحب مراكش، فقتل منهم في بعض الأيام نحوا من سبعين ألفا، وذلك بإشارة أبي عبد الله التومرتي، وكان ذكر أنه نزل إليه ملك وعلمه القرآن والموطأ، وله بذلك ملائكة يشهدون به في بئر سماه، فلما اجتاز به وكان قد أرصد فيه رجالا، فلما سألهم عن ذلك والناس حضور معه على ذلك البئر شهدوا له بذلك، فأمر حينئذ بطم البئر عليهم فماتوا عن آخرهم، ولهذا يقال: من أعان ظالما سلط عليه.

ثم جهز ابن تومرت الذي لقب نفسه بالمهدي جيشا عليهم أبو عبد الله التومرتي، وعبد المؤمن، لمحاصرة مراكش، فخرج إليهم أهلها فاقتتلوا قتالا شديدا، وكان في جملة من قتل أبو عبد الله التومرتي هذا الذي زعم أن الملائكة تخاطبه، ثم افتقدوه في القتلى فلم يجدوه، فقالوا إن الملائكة رفعته.

وقد كان عبد المؤمن دفنه والناس في المعركة، وقتل ممن معه من أصحاب المهدي خلق كثير، وقد كان حين جهز الجيش مريضا مدنفا، فلما جاءه الخبر ازداد مرضا إلى مرضه، وساءه قتل أبي عبد الله التومرتي، وجعل الأمر من بعده لعبد المؤمن بن علي ولقبه أمير المؤمنين.

وقد كان شابا حسنا حازما عاقلا، ثم مات ابن تومرت وقد أتت عليه إحدى وخمسون سنة، ومدة ملكه عشر سنين، وحين صار إلى عبد المؤمن بن علي الملك أحسن إلى الرعايا، وظهرت له سيرة جيدة فأحبه الناس، واتسعت ممالكه، وكثرت جيوشه ورعيته، ونصب العداوة إلى تاشفين صاحب مراكش، ولم يزل الحرب بينهما إلى سنة خمس وثلاثين، فمات تاشفين فقام ولده من بعده، فمات في سنة تسع وثلاثين ليلة سبع وعشرين من رمضان.

فتولى أخوه إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين، فسار إليه عبد المؤمن فملك تلك النواحي، وفتح مدينة مراكش، وقتل هنالك أمما لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل، قتل ملكها إسحاق وكان صغير السن في سنة ثنتين وأربعين، وكان إسحاق هذا آخر ملوك المرابطين، وكان ملكهم سبعين سنة.

والذين ملكوا منهم أربعة: علي وولده يوسف، وولداه أبو سفيان وإسحاق ابنا علي المذكور، فاستوطن عبد المؤمن مدينة مراكش، واستقر ملكه بتلك الناحية، وظفر في سنة ثلاث وأربعين بدكالة وهي قبيلة عظيمة نحو مائتي ألف راجل وعشرين ألف فارس مقاتل، وهم من الشجعان الأبطال، فقتل منهم خلقا كثيرا، وجما غفيرا، وسبى ذراريهم، وغنم أموالهم حتى إنه بيعت الجارية الحسناء بدراهم معدودة، وقد رأيت لبعضهم في سيرة ابن تومرت هذا مجلدا في أحكامه وإمامته، وما كان في أيامه، وكيف تملك بلاد المغرب، وما كان يتعاطاه من الأشياء التي توهم أنها أحوال برة، وهي محالات لا تصدر إلا عن فجرة، وما قتل من الناس وأزهق من الأنفس.

من الأعيان:

أحمد بن عبد الوهاب بن السني

أبو البركات، أسند الحديث وكان يعلم أولاد الخليفة المستظهر، فلما صارت الخلافة إلى المسترشد ولاه المخزن، وكان كثير الأموال والصدقات، يتعاهد أهل العلم، وخلف مالا كثيرا حزر بمائتي ألف دينار، أوصى منه بثلاثين ألف دينار لمكة والمدينة، توفي فيها عن ست وخمسين سنة وثلاثة أشهر، وصلى عليه الوزير أبو علي بن صدقة، ودفن بباب حرب.

عبد الرحيم بن عبد الكبير

ابن هوازن، أبو نصر القشيري، قرأ على أبيه وإمام الحرمين، وروى الحديث عن جماعة، وكان ذا ذكاء وفطنة، وله خاطر حاضر جريء، ولسان ماهر فصيح، وقد دخل بغداد فوعظ بها فوقع بسببه فتنة بين الحنابلة والشافعية، فحبس بسببها الشريف أبو جعفر بن أبي موسى، وأخرج ابن القشيري من بغداد لإطفاء الفتنة فعاد إلى بلده، توفي في هذه السنة.

عبد العزيز بن علي ابن حامد أبو حامد الدينوري

كان كثير المال والصدقات، ذا حشمة وثروة وجاهة عند الخليفة، وقد روى الحديث ووعظ، وكان مليح الإيراد حلو المنطق، توفي بالري، والله أعلم.

ثم دخلت سنة خمس عشر وخمسمائة

فيها: أقطع السلطان محمود الأمير إيلغازي مدينة ميا فارقين، فبقيت في يد أولاده إلى أن أخذها صلاح الدين يوسف بن أيوب، في سنة ثمانين وخمسمائة.

وفيها: أقطع آقسنقر البرشقي مدينة الموصل لقتال الفرنج.

وفيها: حاصر ملك بن بهرام وهو ابن أخي إيلغازي مدينة الرها فأسر ملكلها جوسكين الإفرنجي وجماعة من رؤس أصحابه وسجنهم بقلعة خرتبرت.

وفيها: هبت ريح سوداء فاستمرت ثلاثة أيام فأهلكت خلقا كثيرا من الناس والدواب.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة بالحجاز فتضعضع بسببها الركن اليماني، وتهدم بعضه، وتهدم شيء من مسجد رسول الله .

وفيها: ظهر رجل علوي بمكة كان قد اشتغل بالنظامية في الفقه وغيره، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فاتبعه ناس كثير فنفاه صاحبها ابن أبي هاشم إلى البحرين.

وفيها: احترقت دار السلطان بأصبهان، فلم يبق فيها شيء من الآثار والقماش والجواهر والذهب والفضة سوى الياقوت الأحمر، وقبل ذلك بأسبوع احترق جامع أصبهان، وكان جامعا عظيما، فيه من الأخشاب ما يساوي ألف دينار، ومن جملة ما احترق فيه خمسمائة مصحف، من جملتها مصحف بخط أبي بن كعب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي شعبان منها جلس الخليفة المسترشد في دار الخلافة في أبهة الخلافة وجاء الأخوان السلطان محمود ومسعود فقبلا الأرض ووقفا بين يديه، فخلع على محمود سبع خلع وطوقا وسوارين وتاجا، وأجلس على كرسي ووعظه الخليفة، وتلا عليه قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَهُ ** وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّا يَرَهُ} 20 وأمره بالإحسان إلى الرعايا، وعقد له لواءين بيده، وقلده الملك، وخرجا من بين يديه مطاعين معظمين، والجيش بين أيديهما في أبهة عظيمة جدا.

وحج بالناس قطز الخادم.

وممن توفي فيها:

ابن القطاع اللغوي أبو القاسم علي بن جعفر بن محمد

ابن الحسين بن أحمد بن محمد بن زيادة الله بن محمد بن الأغلب السعدي الصقلي، ثم المصري اللغوي المصنف كتاب (الأفعال)، الذي برز فيه على ابن القوطية، وله مصنفات كثيرة، قدم مصر في حدود سنة خمسمائة لما أشرفت الفرنج على أخذ صقلية، فأكرمه المصريون وبالغوا في إكرامه، وكان ينسب إلى التساهل في الدين، وله شعر جيد قوي، مات وقد جاوز الثمانين.

أبو القاسم شاهنشاه الأفضل بن أمير الجيوش بمصر

مدبر دولة الفاطميين، وإليه تنسب قيسيرية أمير الجيوش بمصر، والعامة تقول مرجوش، وأبوه باني الجامع الذي بثغر الإسكندرية بسوق العطارين، ومشهد الرأس بعسقلان أيضا، وكان أبوه نائب المستنصر على مدينة صور، وقيل: على عكا، ثم استدعاه إليه في فصل الشتاء فركب البحر فاستنابه على ديار مصر، فسدد الأمور بعد فسادها، ومات في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وقام في الوزارة ولده الأفضل هذا، وكان كأبيه في الشهامة والصرامة، ولما مات المستنصر أقام المستعلي واستمرت الأمور على يديه، وكان عادلا حسن السيرة، موصوفا بجودة السريرة، فالله أعلم، ضربه فداوى وهو راكب فقتله في رمضان من هذه السنة، عن سبع وخمسين سنة.

وكانت إمارته من ذلك بعد أبيه ثمان وعشرين سنة، وكانت داره دار الوكالة اليوم بمصر، وقد وجد له أموال عديدة جدا تفوق العد والإحصاء، من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، والجواهر النفائس، فانتقل ذلك كله إلى الخليفة الفاطمي فجعل في خزانته، وذهب جامعه إلى سواء الحساب على الفتيل من ذلك والنقير والقطمير، واعتاض عنه الخليفة بأبي عبد الله البطائحي، ولقبه المأمون.

قال ابن خلكان: ترك الأفضل من الذهب العين ستمائة ألف ألف دينار مكررة، ومن الدراهم مائتين وخمسين أردبا، وسبعين ثوب ديباج أطلس، وثلاثين راحلة أحقاق ذهب عراقي، ودواة ذهب فيها جوهرة باثني عشر ألف دينار، ومائة مسمار ذهب زنة كل مسمار مائة مثقال، في عشرة مجالس كان يجلس فيها، على كل مسمار منديل مشدود بذهب، كل منديل على لون من الألوان من ملابسه، وخمسمائة صندوق كسوة للبس بدنه.

قال: وخلف من الرقيق والخيل والبغال والمراكب والمسك والطيب والحلي ما لا يعلم قدره إلا الله عز وجل، وخلف من البقر والجواميس والغنم ما يستحيي الإنسان من ذكره، وبلغ ضمان ألبانها في سنة وفاته ثلاثين ألف دينار، وترك صندوقين كبيرين مملوءين إبر ذهب برسم النساء.

عبد الرزاق بن عبد الله ابن علي بن إسحاق الطوسي

ابن أخي نظام الملك، تفقه بإمام الحرمين، وأفتى ودرّس وناظر، ووزر للملك سنجر.

خاتون السفريه

حظية السلطان ملكشاه، وهي أم السلطانين محمد وسنجر، كانت كثيرة الصدقة والإحسان إلى الناس، لها في كل سنة سبيل يخرج مع الحجاج.

وفيها دين وخير، ولم تزل تبحث حتى عرفت مكان أمها وأهلها، فبعثت الأموال الجزيلة حتى استحضرتهم، ولما قدمت عليها أمها كان لها عنها أربعين سنة لم ترها، فأحبت أن تستعلم فهمها فجلست بين جواريها، فلما سمعت أمها كلامها عرفتها فقامت إليها فاعتنقا وبكيا، ثم أسلمت أمها على يديها جزاها الله خيرا.

وقد تفردت بولادة ملكين من ملوك المسلمين، في دولة الأتراك والعجم، ولا يعرف لها نظير في ذلك إلا اليسير من ذلك وهي ولادة بنت العباس، ولدت لعبد الملك الوليد وسليمان، وشاهوند ولدت للوليد يزيد وإبراهيم، وقد وليا الخلافة أيضا، والخيزران ولدت للمهدي الهادي والرشيد.

الطغرائي

صاحب لامية العجم، الحسين بن علي بن عبد الصمد، مؤيد الدين الأصبهاني، العميد فخر الكتاب الليثي الشاعر، المعروف بالطغرائي، ولي الوزارة بأربل مدة، أورد له ابن خلكان قصيدته اللامية التي ألفها في سنة خمس وخمسمائة، في بغداد، يشرح فيها أحواله وأموره، وتعرف بلامية العجم أولها:

أصالة الرأي صانتني عن الخطل ** وحلية الفضل زانتني لدى العطل

مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع ** والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل

فيم الإقامة بالزوراء؟ لا سكني ** بها ولا ناقتي فيها ولا جملي

وقد سردها ابن خلكان بكمالها، وأورد له غير ذلك من الشعر، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ست عشرة وخمسمائة

في المحرم منها رجع السلطان طغرلبك إلى طاعة أخيه محمود، بعد ما كان قد خرج عنها وأخذ بلاد أذربيجان.

وفيها: أقطع السلطان محمود مدينة واسط لآقسنقر مضافا إلى الموصل، فسير إليها عماد الدين زنكي بن آقسنقر، فأحسن السيرة بها وأبان عن حزم وكفاية.

وفي صفر منها قتل الوزير السلطان محمود أبو طالب السميرمي، قتله باطني، وكان قد برز للمسير إلى همذان، وكانت قد خرجت زوجته في مائة جارية بمراكب الذهب، فلما بلغهن قتله رجعن حافيات حاسرات عن وجوههن، قد هنّ بعد العز، واستوزر السلطان مكانه شمس الدين الملك عثمان بن نظام الملك.

وفيها: التقى آقسنقر ودبيس بن صدقة، فهزمه دبيس وقتل خلقا من جيشه، فأوثق السلطان منصور بن صدقة أخا دبيس وولده، ورفعهما إلى القلعة، فعند ذلك آذى دبيس تلك الناحية ونهب البلاد، وجز شعره ولبس السواد، ونهبت أموال الخليفة أيضا، فنودي في بغداد للخروج لقتاله، وبرز الخليفة في الجيش وعليه قباء أسود وطرحه، وعلى كتفيه البردة وبيده القضيب، وفي وسطه منطقة حرير صيني، ومعه وزيره نظام الدين أحمد بن نظام الملك، ونقيب النقباء علي بن طراد الزينبي، وشيخ الشيوخ صدر الدين بن إسماعيل، وتلقاه آقسنقر البرشقي ومعه الجيش فقبلوا الأرض ورتب البرشقي الجيش، ووقف القراء بين يدي الخليفة، وأقبل دبيس وبين يديه الإماء يضربن بالدفوف والمخانيث بالملاهي، والتقى الفريقان، وقد شهر الخليفة سيفه وكبر واقترب من المعركة، فحمل عنتر بن أبي العسكر على ميمنة الخليفة فكسرها وقتل أميرها ثم حمل مرة ثانية فكشفهم كالأولى فحمل عليه عماد الدين زنكي ابن آقسنقر فأسر عنتر وأسر معه بديل بن زائدة، ثم انهزم عسكر دبيس، وألقوا أنفسهم في الماء فغرق كثير منهم، فأمر الخليفة بضرب أعناق الأسارى صبرا بين يديه، وحصل نساء دبيس وسراريه تحت الأسر.

وعاد الخليفة إلى بغداد فدخلها في يوم عاشوراء من السنة الآتية، وكانت غيبته عن بغداد ستة عشر يوما، وأما دبيس فإنه نجا بنفسه وقصد غزية ثم إلى المنتفق فصحبهم إلى البصرة فدخلها ونهبها وقتل أميرها، ثم خاف من البرشقي فخرج منها وسار على البرية والتحق بالفرنج، وحضر معهم حصار حلب، ثم فارقهم والتحق بالملك طغرل أخي السلطان محمود.

وفيها: ملك السلطان سهام الدين تمراش بن إيلغازي ابن أرتق قلعة ماردين بعد وفاة أبيه، وملك أخوه سليمان ميافارقين.

وفيها: ظهر معدن نحاس بديار بكر قريبا من قلعة ذي القرنين.

وفيها: دخل جماعة من الوعاظ إلى بغداد فوعظوا بها، وحصل لهم قبول تام من العوام.

وحج بالناس قطز الخادم.

من الأعيان:

عبد الله بن أحمد ابن عمر بن أبي الأشعث

أبو محمد السمرقندي، أخو أبي القاسم، وكان من حفاظ الحديث، وقد زعم أن عنده منه ما ليس عند أبي زرعة الرازي، وقد صحب الخطيب مدة وجمع وألّف وصنّف ورحل إلى الآفاق، توفي يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول بها عن ثمانين سنة.

علي بن أحمد السميرمي

نسبة إلى قرية بأصبهان، كان وزير السلطان محمود، وكان مجاهرا بالظلم والفسق، وأحدث على الناس مكوسا، وجددها بعدما كانت قد أزيلت من مدة متطاولة، وكان يقول: قد استحييت من كثرة ظلم من لا ناصر له، وكثرة ما أحدثت من السنن السيئة.

ولما عزم على الخروج إلى همذان أحضر المنجمين فضربوا له تخت رمل لساعة خروجه ليكون أسرع لعودته، فخرج في تلك الساعة وبين يديه السيوف المسلولة، والمماليك الكثيرة بالعدد الباهرة، فما أغنى عنه ذلك شيئا، بل جاءه باطني فضربه فقتله، ثم مات الباطني بعده، ورجع نساؤه بعد أن ذهبن بين يديه على مراكب الذهب، حاسرات عن وجوههن، قد أبدلهن الله الذل بعد العز، والخوف بعد الأمن، والحزن بعد السرور والفرح، جزاء وفاقا، وذلك يوم الثلاثاء سلخ صفر، وما أشبه حالهن بقول أبي العتاهية في الخيزران وجواريها حين مات المهدي:

رحن في الوشي عليهن المسوح ** كل بطاح من الناس له يوم يطوح

لتموتن ولو عمّرت ما عمر نوح ** فعلى نفسك نح إن كنت لابد تنوح

الحريري صاحب المقامات

القاسم بن علي بن محمد بن محمد بن عثمان، فخر الدولة أبو محمد الحريري، مؤلف (المقامات)، التي سارت بفصاحتها الركبان، وكاد يربو فيها على سحبان، ولم يسبق إلى مثلها ولا يلحق.

ولد سنة ست وأربعين وأربعمائة، وسمع الحديث واشتغل باللغة والنحو، وصنف في ذلك كله، وفاق أهل زمانه، وبرز على أقرانه، وأقام ببغداد وعمل صناعة الإنشاء مع الكتاب في باب الخليفة، ولم يكن ممن تنكر بديهته ولا تتعكر فكرته وقريحته.

قال ابن الجوزي: صنف وقرأ الأدب واللغة، وفاق أهل زمانه بالذكاء والفطنة والفصاحة، وحسن العبارة، وصنف (المقامات) المعروفة التي من تأملها عرف ذكاء منشئها، وقدره وفصاحتها، وعلمه.

توفي في هذه السنة بالبصرة.

وقد قيل: إن أبا زيد والحارث بن همام المطهر لا وجود لهما، وإنما جعل هذه المقامات من باب الأمثال، ومنهم من يقول: أبو زيد بن سلام السروجي كان له وجود، وكان فاضلا، وله علم ومعرفة باللغة، فالله أعلم.

وذكر ابن خلكان: أن أبا زيد كان اسمه المطهر بن سلام، وكان بصريا فاضلا في النحو واللغة، وكان يشتغل عليه الحريري بالبصرة، وأما الحارث بن همام فإنه غني بنفسه، لما جاء في الحديث: «كلكم حارث وكلكم همام».

كذا قال ابن خلكان.

وإنما اللفظ المحفوظ: «أصدق الأسماء حارث وهمام»، لأن كل أحد إما حارث وهو الفاعل، أو همام من الهمة وهو العزم والخاطر.

وذكر أن أول مقامة عملها الثامنة والأربعون وهي الحرامية، وكان سببها: أنه دخل عليهم في مسجد البصرة رجل ذو طمرين فصيح اللسان، فاستسموه، فقال: أبو زيد السروجي.

فعمل فيه هذه المقامة، فأشار عليه وزير الخليفة المسترشد جلال الدين عميد الدولة أبو علي الحسن بن أبي المعز بن صدقة، أن يكمل عليها تمام خمسين مقامة.

قال ابن خلكان: كذا رأيته في نسخة بخط المصنف، على حاشيتها، وهو أصح من قول من قال: إنه الوزير شرف الدين أبو نصر أنوشروان بن محمد بن خالد بن محمد القاشاني، وهو وزير المسترشد أيضا.

ويقال: إن الحريري كان قد عملها أربعين مقامة، فلما قدم بغداد ولم يصدق في ذلك لعجز الناس عن مثلها، فامتحنه بعض الوزراء أن يعمل مقامة فأخذ الدواة والقرطاس وجلس ناحية فلم يتيسر له شيء، فلما عاد إلى بلده عمل عشرة أخرى فأتمها خمسين مقامة.

وقد قال فيه أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر، وكان من جملة المكذبين له فيها:

شيخ لنا من ربيعة الفرس ** ينتف عثنونه من الهوس

أنطقه الله بالمشان كما ** رماه وسط الديوان بالخرس

ومعنى قوله بالمشان: هو مكان بالبصرة.

وكان الحريري صدر ديوان المشان.

ويقال: إنه كان ذميم الخلق، فاتفق أن رجلا رحل إليه فلما رآه ازدراه ففهم الحريري ذلك فأنشأ يقول:

ما أنت أول سار غرّه قمر ** ورائدا أعجبته خضرة الدمن

فاختر لنفسك غيري إنني رجل ** مثل المعيديّ فاسمع بي ولا ترني

ويقال: إن المعيدي اسم حصان جواد كان في العرب ذميم الخلق، والله أعلم.

البغوي المفسر

الحسين بن مسعود بن محمد البغوي، صاحب (التفسير)، و(شرح السنة)، و(التهذيب) في الفقه، و(الجمع بين الصحيحين)، و(المصابيح في الصحاح والحسان)، وغير ذلك، اشتغل على القاضي حسين، وبرع في هذه العلوم، وكان علّامة زمانه فيها، وكان دينا ورعا زاهدا عابدا صالحا.

توفي في شوال منها وقيل: في سنة عشر، فالله أعلم.

ودفن مع شيخه القاضي حسين بالطالقان، والله أعلم.

ثم دخلت سنة سبع عشرة وخمسمائة

في يوم عاشوراء منها عاد الخليفة من الحلة إلى بغداد مؤيدا منصورا من قتال دبيس.

وفيها: عزم الخليفة على طهور أولاد أخيه، وكانوا اثني عشر ذكرا، فزينت بغداد سبعة أيام بزينة لم ير مثلها.

وفي شعبان منها قدم أسعد المهيتي مدرّسا بالنظامية ببغداد، وناظرا عليها، وصرف الباقرجي عنها، ووقع بينه وبين الفقهاء فتنة بسبب أنه قطع منهم جماعة، واكتفى بمائتي طالب منهم، فلم يهن ذلك على كثير منهم.

وفيها: سار السلطان محمود إلى بلاد الكرج وقد وقع بينهم وبين القفجاق خلف فقاتلهم فهزمهم، ثم عاد إلى همدان.

وفيها: ملك طغتكين صاحب دمشق مدينة حماه بعد وفاة صاحبها قراجا، وقد كان ظالما غاشما.

وفيها: عزل نقيب العلويين وهدمت داره، وهو علي بن أفلح، لأنه كان عينا لدبيس، وأضيف إلى علي بن طراد نقابة العلويين مع نقابة العباسيين.

من الأعيان:

أحمد بن محمد ابن علي بن صدقة، التغلبي

المعروف بابن الخياط الشاعر الدمشقي، الكاتب، له ديوان شعر مشهور.

قال ابن عساكر: خُتم به شعر الشعراء بدمشق، شعره جيد حسن، وكان مكثرا لحفظ الأشعار المتقدمة وأخبارهم، وأورد له ابن خلكان قطعة جيدة من شعره من قصيدته التي لو لم يكن له سواها لكفته وهي التي يقول فيها:

خذا من صبا نجد أمانا لقلبه ** فقد كاد رياها يطير بلبه

وإياكما ذاك النسيم فإنه ** متى هب كان الوجد أيسر خطبه

خليليّ، لو أحببتما لعلمتما ** محل الهوى من مغرم القلب صبه

أتذكر والذكرى تشوق وذو الهوى ** يتوق ومن يعلق به الحب يصبه

غرام على يأس الهوى ورجائه ** وشوق على بعد المزار وقربه

وفي الركب مطويَّ الضلوع على جوىً ** متى يدعه داعي الغرام يلبه

إذا خطرت من جانب الرمل نفحة ** تضمن منها داؤه دون صحبه

ومحتجب بين الأسنة معرض ** وفي القلب من أعراضه مثل حجبه

أغار إذا آنست في الحي أنة ** حذارا وخوفا أن تكون لحبه

توفي في رمضان منها عن سبع وتسعين سنة بدمشق.

ثم دخلت سنة ثمان عشر وخمسمائة

فيها: ظهرت الباطنية بآمد فقاتلهم أهلها فقتلوا منهم سبعمائة.

وفيها: ردت شحنكية بغداد إلى سعد الدولة يرنقش الزكوي وسلم إليه منصور بن صدقة أخو دبيس ليسلمه إلى دار الخلافة، وورد الخبر بأن دبيسا قد التجأ إلى طغرلبك وقد اتفقا على أخذ بغداد، فأخذ الناس بالتأهب إلى قتالهما، وأمر آقنسقر بالعود إلى الموصل، فاستناب على البصرة عماد الدين زنكي بن آقنسنقر.

وفي ربيع الأول دخل الملك حسام تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب حلب، وقد ملكها بعد ملكها بلك بن بهرام، وكان قد حاصر قلعة منبج فجاءه سهم في حلقه فمات، فاستناب تمرتاش بحلب، ثم عاد إلى ماردين فأخذت منه بعد ذلك، أخذها آقسنقر مضافة إلى الموصل.

وفيها: أرسل الخليفة القاضي أبا سعد الهروي ليخطب له ابنة السلطان سنجر، وشرع الخليفة في بناء دار على حافة دجلة لأجل العروس.

وحج بالناس جمال الدولة إقبال المسترشدي.

من الأعيان:

أحمد بن علي بن برهان

أبو الفتح، ويعرف بابن الحمامي، تفقه على أبي الوفاء بن عقيل، وبرع في مذهب الإمام أحمد، ثم نقم عليه أصحابه أشياء، فحمله ذلك على الانتقال إلى مذهب الشافعي، فاشتغل على الغزالي والشاشي، وبرع وساد وشهد عند الزينبي فقبله، ودرّس في النظامية شهرا.

توفي في جمادى ودفن بباب إبرز.

عبد الله بن محمد بن جعفر أبو علي الدامغاني

سمع الحديث، وشهد عند أبيه، وناب في الكرخ عن أخيه، ثم ترك ذلك كله وولي حجابة باب النوبى، ثم عزل ثم أعيد، توفي في جمادى.

أحمد بن محمد ابن إبراهيم أبو الفضل الميداني

صاحب كتاب (الأمثال)، ليس له مثله في بابه، له شعر جيد، توفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين من رمضان، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة تسع عشرة وخمسمائة

فيها: قصد دبيس والسلطان طغرل بغداد ليأخذاها من يد الخليفة، فلما اقتربا منها برز إليهما الخليفة في جحفل عظيم، والناس مشاة بين يديه إلى أول منزلة، ثم ركب الناس بعد ذلك، فلما أمست الليلة التي يقتتلون في صبيحتها، ومن عزمهم أن ينهبوا بغداد، أرسل الله مطرا عظيما، ومرض السلطان طغرل في تلك الليلة، فتفرقت تلك الجموع، ورجعوا على أعقابهم خائبين خائفين، والتجأ دبيس وطغرل إلى الملك سنجر وسألاه الأمان من الخليفة، والسلطان محمود، فحبس دبيسا في قلعة، ووشى واشٍ أن الخليفة يريد أن يستأثر بالملك، وقد خرج من بغداد إلى اللان لمحاربة الأعداء، فوقع في نفس سنجر من ذلك وأضمر سوء، مع أنه قد زوج ابنته من الخليفة.

وفيها: قتل القاضي أبو سعد بن نصر بن منصور الهروي بهمدان، قتلته الباطنية، وهو الذي أرسله الخليفة إلى سنجر ليخطب ابنته.

وحج بالناس قطز الخادم.

من الأعيان:

آقسنقر البرشقي

صاحب حلب، قتلته الباطنية - وهم الفداوية - في مقصورة جامعها يوم الجمعة، وقد كان تركيا جيد السيرة، محافظا على الصلوات في أوقاتها، كثير البر والصدقات إلى الفقراء، كثير الإحسان إلى الرعايا، وقام في الملك بعده ولده السلطان عز الدين مسعود، وأقره السلطان محمود على عمله.

بلال بن عبد الرحمن ابن شريح بن عمر

بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سليمان بن بلال بن رباح، مؤذن رسول الله ، رحل وجال في البلاد، وكان شيخا جهوري الصوت، حسن القراءة، طيب النغمة، توفي في هذه السنة بسمرقند، رحمه الله.

القاضي أبو سعد الهروي

أحمد بن نصر، أحد مشاهير الفقهاء، وسادة الكبراء، قتلته الباطنية بهمذان فيها.

ثم دخلت سنة عشرين وخمسمائة

فيها: تراسل السلطان محمود والخليفة على السلطان سنجر، وأن يكونا عليه، فلما علم بذلك سنجر كتب إلى ابن أخيه محمود ينهاه ويستميله إليه، ويحذره من الخليفة، وأنه لا تؤمن غائلته، وأنه متى فرغ مني دار إليك فأخذك، فأصغى إلى قول عمه ورجع عن عزمه.

وأقبل ليدخل بغداد عامه ذلك، فكتب إليه الخليفة ينهاه عن ذلك لقلة الأقوات بها، فلم يقبل منه، وأقبل إليه، فلما أزف قدومه خرج الخليفة من داره وتجهز إلى الجانب الغربي فشق عليه ذلك وعلى الناس.

ودخل عيد الأضحى فخطب الخليفة الناس بنفسه خطبة عظيمة بليغة فصيحة جدا، وكبر وراءه خطباء الجوامع، وكان يوما مشهودا.

وقد سردها ابن الجوزي بطولها ورواها عن من حضرها، مع قاضي القضاة الزينبي، وجماعة من العدول، ولما نزل الخليفة عن المنبر ذبح البدنة بيده، ودخل السرادق وتباكى الناس ودعوا للخليفة بالتوفيق والنصر.

ثم دخل السلطان محمود إلى بغداد يوم الثلاثاء الثامن عشر من ذي الحجة، فنزلوا في بيوت الناس وحصل للناس منهم أذى كثير في حريمهم، ثم إن السلطان راسل الخليفة في الصلح فأبى ذلك الخليفة، وركب في جيشه وقاتل الأتراك ومعه شرذمة قليلة من المقاتلة، ولكن العامة كلهم معه، وقتل من الأتراك خلقا، ثم جاء عماد الدين زنكي في جيش كثيف من واسط في سفن إلى السلطان نجدة، فلما استشعر الخليفة ذلك دعا إلى الصلح، فوقع الصلح بين السلطان والخليفة، وأخذ الملك يستبشر بذلك جدا، ويعتذر إلى الخليفة مما وقع، ثم خرج في أول السنة الآتية إلى همذان لمرض حصل له.

وفيها: كان أول مجلس تكلم فيه ابن الجوزي على المنبر يعظ الناس، وعمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة، وحضره الشيخ أبو القاسم علي بن يعلى العلوي البلخي، وكان نسيبا، علمه كلمات ثم أصعده المنبر فقالها، وكان يوما مشهودا.

قال ابن الجوزي: وحزر الجمع يومئذ بخمسين ألفا، والله أعلم.

وفيها: اقتتل طغتكين صاحب دمشق وأعداؤه من الفرنج، فقتل منهم خلقا كثيرا، وغنم منهم أموالا جزيلة، ولله الحمد والمنة.

من الأعيان:

أحمد بن محمد بن محمد أبو الفتح الطوسي الغزالي أخو أبي حامد الغزالي

كان واعظا مفوها، ذا حظ من الكلام والزهد وحسن التأني، وله نكت جيدة، ووعظ مرة في دار الملك محمود فأطلق له ألف دينار، وخرج فإذا على الباب فرس الوزير بسرجها الذهب، وسلاحها وما عليها من الحلي، فركبها، فبلغ ذلك الوزير، فقال: دعوه ولا يرد عليّ الفرس.

فأخذها الغزالي.

وسمع مرة ناعورة تئن فألقى عليها رداءه فتمزق قطعا قطعا.

قال ابن الجوزي: وقد كانت له نكت إلا أن الغالب على كلامه التخليط والأحاديث الموضوعة المصنوعة، والحكايات الفارغة، والمعاني الفاسدة.

ثم أورد ابن الجوزي أشياء منكرة من كلامه، فالله أعلم، من ذلك: أنه كان كلما أشكل عليه شيء رأى رسول الله في اليقظة فسأله عن ذلك فدله على الصواب، وكان يتعصب إلى بليس ويعتذر له، وتكلم فيه ابن الجوزي بكلام طويل كثير.

قال: ونسب إلى محبة المردان والقول بالمشاهدة، فالله أعلم بصحة ذلك.

قال ابن خلكان: كان واعظا مليح الوعظ حسن المنظر صاحب كرامات وإشارات، وكان من الفقهاء، غير أنه مال إلى الوعظ فغلب عليه ودرّس بالنظامية نيابة عن أخيه لما تزهد، واختصر (إحياء علوم الدين) في مجلد سماه (لباب الإحيا)، وله: (الذخيرة في علم البصيرة)، وطاف البلاد وخدم الصوفية بنفسه، وكان مائلا إلى الانقطاع والعزلة، والله أعلم بحاله.

أحمد بن علي ابن محمد الوكيل

المعروف بابن برهان، أبو الفتح الفقيه الشافعي، تفقه على الغزالي وعلى الكيا الهراسي، وعلى الشاشي، وكان بارعا في الأصول، وله كتاب (الذخيرة) في أصول الفقه، وكان يعرف فنونا جيدة، بعينها.

وولي تدريس النظامية ببغداد دون شهر.

بهرام بن بهرام أبو شجاع البيع

سمع الحديث وبنى مدرسة لأصحاب أحمد بكلواذي، ووقف قطعة من أملاكه على الفقهاء بها.

صاعد بن سيار ابن محمد بن عبد الله بن إبراهيم أبو الأعلا الإسحاقي الهروي الحافظ

أحد المتقنين، سمع الحديث وتوفي بعتورج قرية على باب هراة.

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وخمسمائة

استهلت هذه السنة والخليفة والسلطان محمود متحاربان والخليفة في السرادق في الجانب الغربي، فلما كان يوم الأربعاء رابع المحرم توصل جماعة من جند السلطان إلى دار الخلافة فحصل فيها ألف مقاتل عليهم السلاح، فنهبوا الأموال، وخرج الجواري وهن حاسرات يستغثن حتى دخلن دار الخاتون.

قال ابن الجوزي: وأنا رأيتهن كذلك، فلما وقع ذلك ركب الخليفة في جيشه وجيء بالسفن وانقلبت بغداد بالصراخ حتى كأن الدنيا قد زلزلت، وثارت العامة مع جيش الخليفة فكسروا جيش السلطان، وقتلوا خلقا من الأمراء، وأسروا آخرين ونهبوا دار السلطان ودار وزيره، ودار طبيبه أبي البركات، وأخذوا ما كان في داره من الودائع، ومرت خبطة عظيمة جدا، حتى أنهم نهبوا الصوفية، برباط نهر جور، وجرت أمور طويلة، ونالت العامة من السلطان، وجعلوا يقولون له: يا باطني تترك الفرنج وتقاتل الخليفة.

ثم إن الخليفة انتقل إلى داره في سابع المحرم، فلما كان في يوم عاشوراء تماثل الحال وطلب السلطان من الخليفة الأمان والصلح، فلان الخليفة إلى ذلك، وتباشر الناس بالصلح، فأرسل إليه الخليفة نقيب النقباء وقاضي القضاة، وشيخ الشيوخ وبضعا وثلاثين شاهدا، فاحتبسهم السلطان عنده ستة أيام فساء ذلك الناس، وخافوا من فتنة أخرى أشد من الأولى، وكان يرنقش الزكوي شحنة بغداد يغري السلطان بأهل بغداد لينهب أموالهم، فلم يقبل منه، ثم أدخل لأولئك الجماعة فأدخلوا عليه وقت المغرب فصلى بهم القاضي وقرأوا عليه كتاب الخليفة، فقام قائما، وأجاب الخليفة إلى جميع ما اقترح عليه، ووقع الصلح والتحليف، ودخل جيش السلطان وهم في غاية الجهد من قلة الطعام عندهم في العسكر، وقالوا: لو لم يصلح لمتنا جوعا.

وظهر من السلطان حلم كثير عن العوام، وأمر الخليفة برد ما نهب من دور الجند، وأن من كتم شيئا أبيح دمه.

وبعث الخليفة علي بن طراد الزينبي النقيب إلى السلطان سنجر ليبعد عن بابه دبيسا، وأرسل معه الخلع والإكرام، فأكرم سنجر رسول الخليفة، وأمر بضرب الطبول على بابه في ثلاثة أوقات، وظهر منه طاعة كثيرة، ثم مرض السلطان محمود ببغداد فأمره الطبيب بالانتقال عنها إلى همذان، فسار في ربيع الآخر فوضع شحنكية بغداد إلى عماد الدين زنكي، فلما وصل السلطان إلى همذان بعث على شحنكية بغداد مجاهد الدين بهروز، وجعل إليه الحلة وبعث عماد الدين زنكي إلى الموصل وأعمالها.

وفيها: درس الحسن بن سليمان بالنظامية ببغداد.

وفيها: ورد أبو الفتوح الإسفرايني فوعظ ببغداد، فأورد أحاديث كثيرة منكرة جدا، فاستتيب منها وأمر بالانتقال منها إلى غيرها فشد معه جماعة من الأكابر وردوه إلى ما كان عليه، فوقع بسببه فتن كثيرة بين الناس، حتى رجمه بعض العامة بالأسواق، وذلك لأنه كان يطلق عبارات لا يحتاج إلى إيرادها، فنفرت منه قلوب العامة وأبغضوه، وجلس الشيخ عبد القادر الجيلي فتكلم على الناس فأعجبهم، وأحبوه وتركوا ذاك.

وفيها: قتل السلطان سنجر من الباطنية اثنا عشر ألفا.

وحج بالناس قطز الخادم.

من الأعيان:

محمد بن عبد الملك ابن إبراهيم بن أحمد، أبو الحسن بن أبي الفضل الهمذاني الفرضي

صاحب (التاريخ) من بيت الحديث.

وذكر ابن الجوزي عن شيخه عبد الوهاب أنه طعن فيه.

توفي فجأة في شوال، ودفن إلى جانب ابن شريح.

فاطمة بنت الحسين بن الحسن ابن فضلويه

سمعت الخطيب وابن المسلمة وغيرهما، وكانت واعظة لها رباط تجتمع فيه الزاهدات، وقد سمع عليها ابن الجوزي مسند الشافعي وغيره.

أبو محمد عبد الله بن محمد ابن السيد البطليوسي

ثم التنيسي صاحب المصنفات في اللغة وغيرها، جمع المثلث في مجلدين وزاد فيه على قطرب شيئا كثيرا جدا، وله شرح (سقط الزند) لأبي العلاء، أحسن من شرح المصنف، وله شرح (أدب الكاتب) لابن قتيبة، ومن شعره الذي أورده له ابن خلكان:

أخو العلم حي خالد بعد موته ** وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ** يظن من الأحياء وهو عديم

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة

في أولها قدم رسول سنجر إلى الخليفة يسأل منه أن يخطب له على منابر بغداد، وكان يخطب له في كل جمعة بجامع المنصور.

وفيها: مات ابن صدقة وزير الخليفة، وجعل مكانه نقيب النقباء.

وفيها: اجتمع السلطان محمود بعمه سنجر واصطلحا بعد خشونة، وسلم سنجر دبيسا إلى السلطان محمود على أن يسترضي عنه الخليفة ويعزل زنكي عن الموصل، ويسلم ذلك إلى دبيس.

واشتهر في ربيع الأول ببغداد أن دبيسا أقبل إلى بغداد في جيش كثيف، فكتب الخليفة إلى السلطان محمود: لئن لم تكف دبيسا عن القدوم إلى بغداد وإلا خرجنا إليه ونقضنا ما بيننا وبينك من العهود والصلح.

وفيها: ملك الأتابك زنكي بن آقسنقر مدينة حلب وما حولها من البلاد.

وفيها: ملك تاج الملوك بوري بن طغتكين مدينة دمشق بعد وفاة أبيه، وقد كان أبوه من مماليك ألب أرسلان، وكان عاقلا حازما عادلا خيرا، كثير الجهاد في الفرنج، رحمه الله.

وفيها: عمل ببغداد مصلى للعيد ظاهر باب الحلية، وحوط عليه، وجعل فيه قبلة.

وحج بالناس قطز الخادم المتقدم ذكره.

من الأعيان:

الحسن بن علي بن صدقة

أبو علي وزير الخليفة المسترشد، توفي في رجب منها.

ومن شعره الذي أورد له ابن الجوزي وقد بالغ في مدح الخليفة فيه وأخطأ:

وجدت الورى كالماء طعما ورقة ** وأن أمير المؤمنين زلاله

وصورت معنى العقل شخصا مصورا ** وأن أمير المؤمنين مثاله

فلولا مكان الشرع والدين والتقى ** لقلت من الأعظام جل جلاله

الحسين بن علي ابن أبي القاسم اللامتني

من أهل سمرقند، روى الحديث وتفقه، وكان يضرب به المثل في المناظرة، وكان خيرا دينا على طريقة السلف، مطرحا للتكلف أمارا بالمعروف، قدم من عند الخاقان ملك ما وراء النهر في رسالة إلى دار الخلافة، فقيل له: ألا تحج عامك هذا؟

فقال: لا أجعل الحج تبعا لرسالتهم.

فعاد إلى بلده فمات في رمضان من هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة، رحمه الله.

طغتكين الأتابك

صاحب دمشق التركي، أحد غلمان تتش، كان من خيار الملوك وأعدلهم وأكثرهم جهادا للفرنج، وقام من بعده ولده تاج الملوك بوري.

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة

في المحرم منها دخل السلطان محمود إلى بغداد، واجتهد في إرضاء الخليفة عن دبيس، وأن يسلم إليه بلاد الموصل، فامتنع الخليفة من ذلك وأبى أشد الإباء، هذا وقد تأخر دبيس عن الدخول إلى بغداد، ثم دخلها وركب بين الناس فلعنوه وشتموه في وجهه، وقدم عماد الدين زنكي فبذل للسلطان في كل سنة مائة ألف دينار، وهدايا وتحفا، والتزم للخليفة بمثلها على أن لا يولي دبيسا شيئا وعلى أن يستمر زنكي على عمله بالموصل، فأقره على ذلك وخلع عليه، ورجع إلى عمله فملك حلب وحماه، وأسر صاحبها سونج بن تاج الملوك، فافتدى نفسه بخمسين ألف دينار.

وفي يوم الاثنين سلخ ربيع الآخر خلع السلطان على نقيب النقباء استقلالا، ولا يعرف أحد من العباسيين باشر الوزارة غيره.

وفي رمضان منها جاء دبيس في جيش إلى الحلة فملكها ودخلها في أصحابه، وكانوا ثلاثمائة فارس، ثم إنه شرع في جمع الأموال وأخذ الغلات من القرى حتى حصل نحوا من خمسمائة ألف دينار، واستخدم قريبا من عشرة آلاف مقاتل، وتفاقم الحال بأمره، وبعث إلى الخليفة يسترضيه فلم يرض عليه، وعرض عليه أموالا فلم يقبلها، وبعث إليه السلطان جيشا فانهزم إلى البرية ثم أغار على البصرة فأخذ منها حواصل السلطان والخليفة، ثم دخل البرية فانقطع خبره.

وفي هذه السنة قتل صاحب دمشق من الباطنية ستة آلاف، وعلق رؤس كبارهم على باب القلعة، وأراح الله الشام منهم.

وفيها: حاصرت الفرنج مدينة دمشق فخرج إليهم أهلها، فقاتلوهم قتالا شديدا، وبعث أهل دمشق عبد الله الواعظ ومعه جماعة من التجار يستغيثون بالخليفة، وهموا بكسر منبر الجامع، حتى وعدهم بأنه سيكتب إلى السلطان ليبعث لهم جيشا يقاتلون الفرنج، فسكنت الأمور، فلم يبعث لهم جيشا حتى نصرهم الله من عنده، فإن المسلمين هزموهم وقتلوا منهم عشرة آلاف، ولم يفلت منهم سوى أربعين نفسا، ولله الحمد والمنة.

وقتل بيمند الفرنجي صاحب إنطاكية.

وفيها: تخبط الناس في الحج حتى ضاق الوقت بسبب فتنة دبيس، حتى حج بهم برنقش الزكوي، وكان اسمه بغاجق.

من الأعيان:

أسعد بن أبي نصر الميهني أبو الفتح

أحد أئمة الشافعية في زمانه، تفقه على أبي المظفر السمعاني، وساد أهل زمانه وبرع وتفرد من بين أقرانه، وولي تدريس النظامية ببغداد، وحصل له وجاهة عند الخاص والعام وعلق عنه تعليقة في الخلاف.

ثم عزل عن النظامية فسار إلى همذان فمات بها في هذه السنة، رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة أربع وعشرين وخمسمائة

فيها: كانت زلزلة عظيمة بالعراق تهدم بسببها دور كثيرة ببغداد.

ووقع بأرض الموصل مطر عظيم فسقط بعضه نارا تأجج فأحرقت دورا كثيرة، وخلقا من ذلك المطر، وتهارب الناس.

وفيها: وجد ببغداد عقارب طيارة لها شوكتان، فخاف الناس منها خوفا شديدا.

وفيها: ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند وكان بها محمد بن خاقان.

وفيها: ملك عماد الدين زنكي بلادا كثيرة من الجزيرة وهما مع الفرنج، وجرت معهم حروب طويلة، نصر عليهم في تلك المواقف كلها، ولله الحمد.

وقتل خلقا من جيش الروم حين قدموا الشام، ومدحه الشعراء على ذلك.

قتل خليفة مصر

وفي ثاني ذي القعدة قتل الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله بن المستعلي صاحب مصر، قتله الباطنية وله من العمر أربع وثلاثون سنة، وكانت مدة خلافته تسعا وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا، وكان هو العاشر من ولد عبيد الله المهدي؛ ولما قتل تغلب على الديار المصرية غلام من غلمانه أرمني فاستحوذ على الأمور ثلاثة أيام حتى حضر أبو علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالي، فأقام الخليفة الحافظ أبا الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم بن المستنصر؛ وله من العمر ثمان وخمسون سنة، ولما أقامه استحوذ على الأمور دونه وحصره في مجلسه، لا يدع أحدا يدخل إليه إلا من يريد هو، ونقل الأموال من القصر إلى داره، ولم يبق للحافظ سوى الاسم فقط.

من الأعيان:

إبراهيم بن يحيى بن عثمان بن محمد

أبو إسحاق الكلبي من أهل غزة، جاوز الثمانين، وله شعر جيد في الأتراك، فمنه:

في فتية من جيوش الترك ما تركت ** للرعد كراتهم صوتا ولا صيتا

قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة ** حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا

وله:

ليت الذي بالعشق دونك خصني ** يا ظالمي قسم المحبة بيننا

ألقى الهزبر فلا أخاف وثوبه ** ويرو عني نظر الغزال إذا دنا

وله:

إنما هذه الحياة متاع ** والسفيه الغوي من يصطفيها

ما مضى فات والمؤمل غيب ** ولك الساعة التي أنت فيها

وله أيضا:

قالوا: هجرت الشعر قلت: ضرورة ** باب الدواعي والبواعث مغلق

خلت الديار فلا كريم يرتجى ** منه النوال ولا مليح يعشق

ومن العجائب أنه لا يشترى ** ويخان فيه مع الكساد ويسرق

كانت وفاته في هذه السنة ببلاد بلخ ودفن بها.

ومما أنشده ابن خلكان له:

إشارة منك تكفينا وأحسن ما ** رد السلام غداة البين بالعنم

حتى إذا طاح عنها المرط من دهش ** وانحل بالضم سلك العقد في الظلم

تبسمت فأضاء الليل فالتقطت ** حبات منتثر في ضوء منتظم

الحسين بن محمد ابن عبد الوهاب بن أحمد بن محمد

بن الحسين بن عبيد الله بن القاسم بن عبد الله بن سليمان ابن وهب الدباس أبو عبد الله الشاعر المعروف بالبارع، قرأ القراءات وسمع الحديث، وكان عارفا بالنحو واللغة والأدب، وله شعر حسن، توفي في هذه السنة وقد جاوز الثمانين.

محمد بن سعدون بن مرجا

أبو عامر العبدري القرشي الحافظ، أصله من بيروقة من بلاد المغرب وبغداد، وسمع بها على طراد الزينبي والحميدي وغير واحد، وكانت له معرفة جيدة بالحديث، وكان يذهب في الفروع مذهب الظاهرية، توفي في ربيع الآخر في بغداد.

ثم دخلت سنة خمس وعشرين وخمسمائة

فيها: ضل دبيس عن الطريق في البرية فأسره بعض أمراء الأعراب بأرض الشام، وحمله إلى ملك دمشق بوري بن طغتكين، فباعه من زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل بخمسين ألف دينار، فلما حصل في يده لم يشك أنه سيهلكه، لما بينهما من العداوة، فأكرمه زنكي وأعطاه أموالا جزيلة وقدمه واحترمه، ثم جاءت رسل الخليفة في طلبه فبعثه معهم، فلما وصل إلى الموصل حبس قلعتها.

وفيها: وقع بين الأخوين محمود ومسعود، فتواجها للقتال ثم اصطلحا.

وفيها: كانت وفاة الملك محمود بن ملكشاه فأقيم في الملك مكانه ابنه داود، وجعل له إتابك وزير أبيه وخطب له بأكثر البلاد.

من الأعيان:

أحمد بن محمد بن عبد القاهر الصوفي

سمع الحديث وتفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكان شيخا لطيفا، عليه نور العبادة والتعلم.

قال ابن الجوزي: أنشدني:

على كل حال فاجعل الحزم عدة ** تقدمها بين النوائب والدهر

فإن نلت خيرا نلته بعزيمة ** وإن قصرت عنك الأمور فعن عذر

قال: وأنشدني أيضا:

لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا ** وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد

وقلت يا عدتي في كل نائبة ** ومن عليه لكشف الضر أعتمد

وقد مددت يدي والضر مشتمل ** إليك يا خير من مدت إليه يد

فلا تردنها يا رب خائبة ** فبحر جودك يروي كل من يرد

الحسن بن سليمان ابن عبد الله بن عبد الغني أبو علي الفقيه

مدرس النظامية، وقد وعظ بجامع القصر، وكان يقول: ما في الفقه منتهى، ولا في الوعظ مبتدى.

توفي فيها، وغسله القاضي أبو العباس بن الرطبي، ودفن عند أبي إسحاق.

حماد بن مسلم الرحبي الدباس

كان يذكر له أحوال ومكاشفات واطلاع على مغيبات، وغير ذلك من المقامات، ورأيت ابن الجوزي يتكلم فيه ويقول: كان عريا من العلوم الشرعية، وإنما كان ينفق على الجهال.

وذكر عن ابن عقيل أنه كان ينفر منه، وكان حماد الدباس يقول: ابن عقيل عدوي.

قال ابن الجوزي: وكان الناس ينذرون له فيقبل ذلك، ثم ترك ذلك وصار يأخذ من المنامات وينفق على أصحابه.

توفي في رمضان ودفن بالشونيزية.

علي بن المستظهر بالله أخو الخليفة المسترشد

توفي في رجب منها وله من العمر إحدى وعشرون سنة، فترك ضرب الطبول وجلس الناس للعزاء أياما.

محمد بن أحمد ابن أبي الفضل الماهاني

أحد أئمة الشافعية، تفقه بإمام الحرمين وغيره، ورحل في طلب الحديث، ودرس وأفتى وناظر.

توفي فيها وقد جاوز التسعين، ودفن بقرية ماهان من بلاد مرو.

محمود السلطان بن السلطان ملكشاه

كان من خيار الملوك، فيه حلم وأناة وصلابة، وجلسوا للعزاء به ثلاثة أيام، سامحه الله.

هبة الله بن محمد ابن عبد الواحد بن العباس بن الحصين

أبو القاسم الشيباني، راوي المسند عن علي بن المهذب، عن أبي بكر بن مالك، عن عبد الله بن أحمد عن أبيه، وقد سمع قديما لأنه ولد سنة ثنتين وثلاثين وأربعمائة، وباكر به أبوه فأسمعه، ومعه أخوه عبد الواحد، على جماعة من علية المشايخ، وقد روى عنه ابن الجوزي وغير واحد، وكان ثقة ثبتا صحيح السماع، توفي بين الظهر والعصر يوم الأربعاء منها، وله ثلاث وتسعون سنة، رحمه الله، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة ست وعشرين وخمسمائة

فيها: قدم مسعود بن محمد بن ملكشاه بغداد وقدمها قراجا الساقي، وسلجوق شاه بن محمد، وكل منهما يطلب الملك لنفسه، وقدم عماد الدين زنكي لينضم إليهما فتلقاه الساقي فهزمه فهرب منه إلى تكريت، فخدمه نائب قلعتها نجم الدين أيوب والد الملك صلاح الدين يوسف، فاتح بيت المقدس كما سيأتي إن شاء الله، حتى عاد إلى بلاده، وكان هذا هو السبب في مصير نجم الدين أيوب إليه، وهو بحلب، فخدم عنده ثم كان من الأمور ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ثم إن الملكين مسعود وسلجوق شاه اجتمعا فاصطلحا وركبا إلى الملك سنجر فاقتتلا معه، وكان جيشه مائة وستين ألفا وكان جيشهما قريبا من ثلاثين ألفا، وكان جملة من قتل بينهما أربعين ألفا، وأسر جيش سنجر قراجا الساقي فقتله صبرا بين يديه، ثم أجلس طغرل بن محمد على سرير الملك، وخطب له على المنابر، ورجع سنجر إلى بلاده، وكتب طغرل إلى دبيس وزنكي ليذهبا إلى بغداد ليأخذاها، فأقبلا في جيش كثيف فبرز إليهما الخليفة فهزمها، وقتل خلقا من أصحابهما، وأزاح الله شرهما عنه، ولله الحمد.

وفيها: قتل أبو علي بن الأفضل بن بدر الجمالي وزير الحافظ الفاطمي، فنقل الحافظ الأموال التي كان أخذها إلى داره واستوزر بعده أبا الفتح، يانس الحافظي، ولقبه أمير الجيوش، ثم احتال فقتله واستوزر ولده حسنا، وخطب له بولاية العهد.

وفيها: عزل المسترشد وزيره علي بن طراد الزينبي واستوزر أنوشروان بن خالد بعد تمنع.

وفيها: ملك دمشق شمس الملوك إسماعيل بن بوري بن طغتكين بعد وفاة أبيه، واستوزر يوسف بن فيروز، وكان خيرا، ملك بلادا كثيرة، وأطاعه إخوته.

من الأعيان:

أحمد بن عبيد الله ابن محمد بن عبيد الله بن محمد

بن أحمد بن حمدان بن عمر بن عيسى بن إبراهيم بن غثنة بن يزيد السلمي، ويعرف بابن كادش العكبري، أبو العز البغدادي، سمع الحديث الكثير، وكان يفهمه ويرويه، وهو آخر من روى عن الماوردي، وقد أثنى عليه غير واحد، منهم أبو محمد بن الخشاب، وكان محمد بن ناصر يتهمه ويرميه بأنه اعترف بوضع حديث، فالله أعلم.

وقال عبد الوهاب الأنماطي: كان مخلطا.

توفي في جمادى الأولى منها.

محمد بن محمد بن الحسين ابن القاضي أبي يعلى بن الفراء الحنبلي

ولد في شعبان سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، سمع أباه وغيره وتفقه وناظر وأفتى ودرّس، وكان له بيت فيه مال فعدي عليه من الليل فقتل وأخذ ماله، ثم أظهر الله عز وجل على قاتله فقتلوه.

ثم دخلت سنة سبع وعشرين وخمسمائة

في صفر منها دخل السلطان مسعود إلى بغداد فخطب له بها وخلع عليه الخليفة وولاه السلطنة، ونثر الدنانير والدراهم على الناس، وخلع على السلطان داود بن محمود.

وفيها: جمع دبيس جمعا كثيرا بواسط، فأرسل إليه السلطان جيشا فكسروه، وفرقوا شمله.

ثم إن الخليفة عزم على الخروج إلى الموصل ليأخذها من زنكي فعرض عليه زنكي من الأموال والتحف شيئا كثيرا ليرجع عنه فلم يقبل، ثم بلغه أن السلطان مسعود قد اصطلح مع دبيس وخلع عليه، فكر راجعا سريعا إلى بغداد سالما معظما.

وفيها: مات ابن الزاغوني أحد أئمة الحنابلة، فطلب حلقته ابن الجوزي، وكان شابا، فحصلت لغيره، ولكن أذن له الوزير أنوشروان في الوعظ، فتكلم في هذه السنة على الناس في أماكن متعددة من بغداد، وكثرت مجالسه وازدحم عليه الناس.

وفيها: ملك شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق مدينة حماة، وكانت بيد زنكي.

وفي ذي الحجة نهب التركمان مدينة طرابلس وخرج إليهم القومص لعنه الله الفرنجي فهزموه وقتلوا خلقا من أصحابه، وحاصروه فيها مدة طويلة، حتى طال الحصار، فانصرفوا.

وفيها: تولي قاسم بن أبي فليتة مكة بعد أبيه.

وفيها: قتل شمس الملوك أخاه سونج.

وفيها: اشترى الباطنية قلعة حصن القدموس بالشام فسكنوها وحاربوا من جاورهم من المسلمين والفرنج.

وفيها: اقتتلت الفرنج فيما بينهم قتالا شديدا فمحق الله بسبب ذلك خلقا كثيرا، وغزاهم فيها عماد الدين زنكي فقتل منهم ألف قتيل، وغنم أموالا جزيلة، ويقال لها: غزوة أسوار.

وحج بالناس فيها قطز الخادم وكذا في التي بعدها وقبلها.

وتوفي فيها من الأعيان:

أحمد بن سلامة ابن عبد الله بن مخلد بن إبراهيم

أبو العباس بن الرطبي، تفقه على أبي إسحاق وابن الصباغ ببغداد، وبأصبهان على محمد بن ثابت الخجندي، ثم تولى الحكم ببغداد بالحريم والحسبة ببغداد، وكان يؤدب أولاد الخليفة، توفي في رجب منها ودفن عند أبي إسحاق.

أسعد بن أبي نصر بن أبي الفضل

أبو الفضل الميهني مجد الدين أحد أئمة الشافعية، وصاحب (الخلاف والمطروقة)، وقد درس بالنظامية في سنة سبع عشرة وخمسمائة إلى سنة ثلاث وعشرين فعزل عنها، واستمر أصحابه هنالك وقد تقدم في سنة سبع عشرة أنه وليها، وأنه توفي في سنة ثلاث وعشرين.

وقال ابن خلكان: توفي سنة سبع وعشرين

ابن الزاغوني الحنبلي

علي بن عبد الله بن نصر بن السري الزاغوني، الإمام المشهور، قرأ القراءات وسمع الحديث، واشتغل بالفقه والنحو واللغة، وله المصنفات الكثيرة في الأصول والفروع، وله يد في الوعظ، واجتمع الناس في جنازته، وكانت حافلة جدا.

الحسن بن محمد ابن إبراهيم البورباري

من قراء أصبهان، سمع الحديث ورحل وخرج، وله تاريخ، وكان يكتب حسنا ويقرأ فصيحا، توفي بأصبهان في هذه السنة.

علي بن يعلى ابن عوض

أبو القاسم العلوي الهروي، سمع مسند أحمد من أبي الحصين، والترمذي من أبي عامر الأزدي، وكان يعظ الناس بنيسابور، ثم قدم بغداد فوعظ بها، فحصل له القبول التام، وجمع أموالا وكتبا.

قال ابن الجوزي: وهو أول من سلكني في الوعظ، وتكلمت بين يديه وأنا صغير، وتكلمت عند انصرافه.

محمد بن أحمد ابن يحيى أبو عبد الله العثماني الديباجي

وكان ببغداد يعرف بالمقدسي، كان أشعري الاعتقاد ووعظ الناس ببغداد.

قال ابن الجوزي: سمعته ينشد في مجلسه قوله:

دع دموعي يحق لي أن أنوحا ** لم تدع لي الذنوب قلبا صحيحا

أخلقت مهجتي أكف المعاصي ** ونعاني المشيب نعيا فصيحا

كلما قلت قد برا جرح قلبي ** عاد قلبي من الذنوب جريحا

إنما الفوز والنعيم لعبد ** جاء في الحشر آمنا مستريحا

محمد بن محمد ابن الحسين بن محمد بن أحمد

بن خلف بن حازم بن أبي يعلى بن الفراء، الفقيه ابن الفقيه، ولد سنة سبع وخمسين وأربعمائة، سمع الحديث وكان من الفقهاء الزاهدين الأخيار، توفي في صفر منها.

أبو محمد عبد الجبار ابن أبي بكر محمد بن حمديس الأزدي الصقلي

الشاعر المشهور، أنشد له ابن خلكان أشعارا رائقة فمنها قوله:

قم هاتها من كف ذات الوشاح ** فقد نعى الليل بشير الصباح

باكر إلى اللذات واركب لها ** سوابق اللهو ذوات المراح

من قبل أن نرشف شمس الضحا ** ريق الغوادي من ثغور الأقاح

ومن جملة معانيه النادرة:

زادت على كحل الجفون تكحلا **وتسم نصل السهم وهو قتولُ

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة

فيها: اصطلح الخليفة وزنكي.

وفيها: فتح زنكي قلاعا كثيرة، وقتل خلقا من الفرنج.

وفيها: فتح شمس الملوك الشقيف تيروت، ونهب بلاد الفرنج.

وفيها: قدم سلجوق شاه بغداد فنزل بدار المملكة وأكرمه الخليفة وأرسل إليه عشرة آلاف دينار، ثم قدم السلطان مسعود وأكثر أصحابه ركاب على الجمال لقلة الخيل.

وفيها: تولى إمرة بني عقيل أولاد سليمان بن مهارش العقيلي، إكراما لجدهم.

وفيها: أعيد ابن طراد إلى الوزارة.

وفيها: خلع على إقبال المسترشدي خلع الملوك، ولقب ملك العرب سيف الدولة، ثم ركب في الخلع وحضر الديوان.

وفيها: قوي أمر الملك طغرل وضعف أمر الملك مسعود.

من الأعيان:

أحمد بن علي بن إبراهيم أبو الوفا الفيروزأبادي

أحد مشايخ الصوفية، يسكن رباط الزوزني، وكان كلامه يستحلى، وكان يحفظ من أخبار الصوفية وسيرهم وأشعارهم شيئا كثيرا.

أبو علي الفارقي الحسن بن إبراهيم بن مرهون أبو علي الفارقي

ولد سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وتفقه بها على أبي عبد الله محمد بن بيان الكازروني صاحب المحاملي، ثم على الشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ، وسمع الحديث وكان يكرر على (المهذب) و(الشامل).

ثم ولي القضاء بواسط، وكان حسن السيرة جيد السريرة، ممتعا بعقله وحواسه، إلى أن توفي في محرم هذه السنة عن ست وسبعين سنة.

عبد الله بن محمد ابن أحمد بن الحسن

أبو محمد بن أبي بكر الشاشي، سمع الحديث وتفقه على أبيه، وناظر وأفتى وكان فاضلا واعظا فصيحا مفوها، شكره ابن الجوزي في وعظه وحسن نظمه ونثره، ولفظه، توفي في المحرم وقد قارب الخمسين، ودفن عند أبيه.

محمد بن أحمد ابن علي بن أبي بكر العطان

ويعرف بابن الحلاج البغدادي، سمع الحديث وقرأ القراءات، وكان خيرا زاهدا عابدا، يتبرك بدعائه ويزار.

محمد بن عبد الواحد الشافعي أبو رشيد

من أهل آمل طبرستان، ولد سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، وحج وأقام بمكة، وسمع من الحديث شيئا يسيرا، وكان زاهدا منقطعا عن الناس مشتغلا بنفسه، ركب مرة مع تجار في البحر، فأوفوا على جزيرة.

فقال: دعوني في هذه أعبد الله تعالى.

فمانعوه، فأبى إلاّ المقام بها، فتركوه وساروا فردتهم الريح إليه، فقالوا: إنه لا يمكن المسير إلا بك، وإذا أردت المقام بها فارجع إليها.

فسار معهم ثم رجع إليها فأقام بها مدة ثم ترحل عنها ثم رجع إلى بلده آمل فمات بها، رحمه الله.

ويقال: إنه كان يقتات في تلك الجزيرة بأشياء موجودة فيها، وكان بها ثعبان يبتلع الإنسان، وبها عين ماء يشرب منها ويتوضأ منها، وقبره مشهور بآمل يزار.

أم خليفة المسترشد

توفيت ليلة الاثنين بعد العتمة تاسع عشر شوال منها، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة تسع وعشرين وخمسمائة

فيها: كانت وفاة المسترشد وولاية الراشد، وكان سبب ذلك أنه: كان بين السلطان مسعود وبين الخليفة واقع كبير، اقتضى الحال أن الخليفة أراد قطع الخطبة له من بغداد فاتفق موت أخيه طغرل بن محمد بن ملكشاه، فسار إلى البلاد فملكها، وقوي جأشه، ثم شرع يجمع العساكر ليأخذ بغداد من الخليفة، فلما علم الخليفة بذلك انزعج واستعد لذلك، وقفز جماعة من رؤس الأمراء إلى الخليفة خوفا على أنفسهم من سطوة الملك محمود، وركب الخليفة من بغداد في جحافل كثيرة، فيهم القضاة ورؤس الدولة من جميع الأصناف، فمشوا بين يديه أول منزلة حتى وصل إلى السرادق، وبعث بين يديه مقدمة وأرسل الملك مسعود مقدمة عليهم دبيس بن صدقة بن منصور، فجرت خطوب كثيرة، وحاصل الأمر أن الجيشين التقيا في عاشر رمضان يوم الاثنين فاقتتلوا قتالا شديدا، ولم يقتل من الصفين سوى خمسة أنفس.

ثم حمل الخليفة على جيش مسعود فهزمهم، ثم تراجعوا فحملوا على جيش الخليفة فهزموهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا وأسروا الخليفة، ثم نهبت أموالهم وحواصلهم، من جملة ذلك أربعة آلاف ألف دينار، وغير ذلك من الأثاث والخلع والآنية والقماش، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وطار الخبر في الأقاليم بذلك، وحين بلغ الخبر إلى بغداد انزعج الناس لذلك، وزلزلوا زلزالا شديدا، صورة ومعنى، وجاءت العامة إلى المنابر فكسروها وامتنعوا من حضور الجماعات، وخرج النساء في البلد حاسرات ينحن على الخليفة، وما جرى عليه من الأسر، وتأسى بأهل بغداد في ذلك خلق كثير من أهل البلاد، وتمت فتنة كبيرة وانتشرت في الأقاليم، واستمر الحال على ذلك شهر ذي القعدة والشناعة في الأقاليم منتشرة، فكتب الملك سنجر إلى ابن أخيه يحذره غب ذلك عاقبة ما وقع فيه من الأمر العظيم، ويأمره أن يعيد الخليفة إلى مكانه ودار خلافته.

فامتثل الملك مسعود ذلك وضرب للخليفة سرادق عظيم، ونصب له فيه قبة عظيمة وتحتها سرير هائل، وألبس السواد على عادته وأركبه بعض ما كان يركبه من مراكبه، وأمسك لجام الفرس ومشى في خدمته، والجيش كلهم مشاة حتى أجلس الخليفة على سريره، ووقف الملك مسعود فقبل الأرض بين يديه وخلع الخليفة عليه، وجيء بدبيس مكتوفا وعن يمينه أميران، وعن يساره أميران، وسيف مسلول ونسعة بيضاء، فطرح بين يدي الخليفة ماذا يرسم تطبيبا لقلبه، فأقبل السلطان فشفع في دبيس وهو ملقى يقول: العفو يا أمير المؤمنين، أنا أخطأت والعفو عند المقدرة.

فأمر الخليفة بإطلاقه وهو يقول: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم.

فنهض قائما والتمس أن يقبل يد الخليفة فأذن له فقبلها، وأمرها على وجهه وصدره، وسأل العفو عنه وعما كان منه.

واستقر الأمر على ذلك، وطار هذا الخبر في الآفاق وفرح الناس بذلك، فلما كان مستهل ذي الحجة جاءت الرسل من جهة الملك سنجر إلى ابن أخيه يستحثه على الإحسان إلى الخليفة، وأن يبادر إلى سرعة رده إلى وطنه، وأرسل مع الرسل جيشا ليكونوا في خدمة الخليفة إلى بغداد، فصحب الجيش عشرة من الباطنية، فلما وصل الجيش حملوا على الخليفة فقتلوه في خيمته وقطعوه قطعا، ولم يلحق الناس منه إلا الرسوم، وقتلوا معه أصحابه منهم عبيد الله بن سكينة، ثم أخذ أولئك الباطنية فأحرقوا قبحهم الله، وقيل: إنهم كانوا مجهزين لقتله، فالله أعلم.

وطار هذا الخبر في الآفاق فاشتد حزن الناس على الخليفة المسترشد، وخرجت النساء في بغداد حاسرات عن وجوههن ينحن في الطرقات، قتل على باب مراغة في يوم الخميس سابع عشر ذي الحجة وحملت أعضاؤه إلى بغداد، وعمل عزاؤه ثلاثة أيام بعد ما بويع لولده الراشد.

وقد كان المسترشد شجاعا مقداما بعيد الهمة فصيحا بليغا، عذب الكلام حسن الإيراد، مليح الخط، كثير العبادة محببا إلى العامة والخاصة، وهو آخر خليفة رُئي خطيبا، قتل وعمره خمس وأربعون سنة، وثلاثة أشهر، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يوما، وكانت أمه أم ولد من الأتراك، رحمه الله.

خلافة الراشد بالله أبي جعفر منصور بن المسترشد

كان أبوه قد أخذ له العهد ثم أراد أن يخلعه فلم يقدر على ذلك لأنه لم يغدر، فلما قتل أبوه بباب مراغة في يوم الخميس السابع عشر من ذي القعدة من سنة تسع وعشرين وخمسمائة، بايعه الناس والأعيان، وخطب له على المنابر ببغداد، وكان إذ ذاك كبيرا له أولاد، وكان أبيض جسيما حسن اللون، فلما كان يوم عرفة من هذه السنة جيء بالمسترشد وصلى عليه ببيت التوبة، وكثر الزحام، وخرج الناس لصلاة العيد من الغد وهم في حزن شديد على المسترشد، وقد ظهر الرفض قليلا في أول أيام الراشد.

من الأعيان:

أحمد بن محمد بن الحسين ابن عمرو

أبو المظفر بن أبي بكر الشاشي، تفقه بأبيه واخترمته المنية بعد أخيه ولم يبلغ سن الرواية.

إسماعيل بن عبد الله ابن علي أبو القاسم الحاكم

تفقه بإمام الحرمين، وكان رفيق الغزالي يحترمه ويكرمه، وكان فقيها بارعا، وعابدا ورعا، توفي بطوس ودفن إلى جانب الغزالي.

دبيس بن صدقة

ابن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد، أبو الأعز الأسدي الأمير من بيت الأمرة وسادة الأعراب، كان شجاعا بطلا، فعل الأفاعيل وتمرق في البلاد من خوفه من الخليفة، فلما قتل الخليفة عاش بعده أربعة وثلاثين يوما، ثم اتهم عند السلطان بأنه قد كاتب زنكي ينهاه عن القدوم إلى السلطان، ويحذره منه، ويأمره أن ينجو بنفسه، فبعث إليه السلطان غلاما أرمنيا فوجده منكسا رأسه يفكر في خيمته، فما كلمه حتى شهر سيفه فضربه به فأبان رأسه عن جثته، ويقال: بل استدعاه السلطان فقتله صبرا بين يديه، فالله أعلم.

طغرل السلطان بن السلطان محمد بن ملكشاه

توفي بهمذان يوم الأربعاء ثالث المحرم منها.

علي بن محمد النروجاني

كان عابدا زاهدا، حكى ابن الجوزي عنه أنه كان يقول: بأن القدرة تتعلق بالمستحيلات، ثم أنكر ذلك وعذره لعدم تعقله لما يقول ولجهله.

الفضل أبو منصور

أمير المؤمنين المسترشد، تقدم شيء من ترجمته، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاثين وخمسمائة

فيها: وقع بين الخليفة الراشد وبين السلطان مسعود بسبب أنه أرسل إلى الخليفة يطلب منه ما كان كتبه له والده المسترشد حين أسره، التزم له بأربعمائة ألف دينار فامتنع من ذلك، وقال: ليس بيننا وبينكم إلا السيف.

فوقع بينهما الخلف، فاستجاش السلطان بالعساكر، واستنهض الخليفة الأمراء، وأرسل إلى عماد الدين زنكي فجاء والتف على الخليفة خلائق، وجاء في غضون ذلك السلطان داود بن محمود بن محمد بن ملكشاه، فخطب له الخليفة ببغداد، وخلع عليه وبايعه على الملك، فتأكدت الوحشة بين السلطان والخليفة جدا.

وبرز الخليفة إلى ظاهر بغداد ومشى الجيش بين يديه، كما كانوا يعاملون أباه، وذلك يوم الأربعاء سلخ شعبان، وخرج السلطان داود من جانب آخر، فلما بلغهم كثرة جيوش السلطان محمود حسن عماد الدين زنكي للخليفة أن يذهب معه إلى الموصل، واتفق دخول مسعود إلى بغداد، في غيبتهم يوم الاثنين رابع شوال، فاستحوذ على دار الخلافة بما فيها جميعه.

ثم استخلص من نساء الخليفة وحظاياه الحلي والمصاغ والثياب التي للزينة، وغير ذلك، وجمع القضاة والفقهاء، وأبرز لهم خط الراشد أنه متى خرج من بغداد لقتال السلطان فقد خلع نفسه من الخلافة، فأفتى من أفتى من الفقهاء بخلعه، فخلع في يوم الاثنين سادس عشر شهر ذي القعدة بحكم الحاكم وفتيا الفقهاء، وكانت خلافته إحدى عشر شهرا وإحدى عشر يوما، واستدعى السلطان بعمه المقتفي بن المستظهر فبويع بالخلافة عوضا عن ابن أخيه الراشد بالله.

خلافة المقتفي لأمر الله

أبي عبد الله بن المستظهر، وأمه صفراء تسمى نسيما، ويقال لها: ست السادة، وله من العمر يومئذ أربعون سنة، بويع بالخلافة بعد خلع الراشد بيومين، وخطب له على المنابر يوم الجمعة لعشرين من ذي القعدة، ولقب بالمقتفي لأنه يقال: إنه رأى رسول الله وهو في المنام وهو يقول له: سيصل هذا الأمر إليك فاقتف بي.

فصار إليه بعد ستة أيام فلقب بذلك.

فائدة حسنة ينبغي التنبه لها

ولي المقتفي والمسترشد الخلافة وكانا أخوين، وكذلك السفاح والمنصور، وكذلك الهادي والرشيد، ابنا المهدي، وكذلك الواثق والمتوكل ابنا المعتصم أخوان، وأما ثلاثة إخوة فالأمين والمأمون والمعتصم بنو الرشيد، والمنتصر والمعتز والمعتمد بنو المتوكل، والمكتفي والمقتدر والقاهر بنو المعتضد، والراضي والمقتفي والمطيع بنو المقتدر، وأما أربعة إخوة فلم يكن إلا في بني أمية وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبد الملك بن مروان، ولما استقر المقتفي بالخلافة استمر الراشد ذاهبا إلى الموصل صحبة صاحبها عماد الدين زنكي، فدخلها في ذي الحجة من هذه السنة.

من الأعيان:

محمد بن حمويه ابن محمد بن حمويه

أبو عبد الله الجويني، روى الحديث وكان صدوقا مشهورا بالعلم والزهد، وله كرامات، دخل إلى بغداد فلما ودعهم بالخروج منها أنشدهم:

لئن كان لي من بعد عود إليكم ** نصيب لبانات الفؤاد إليكم

وإن تكن الأخرى وفي الغيب غيره ** قضاه وإلا فالسلام عليكم

محمد بن عبد الله ابن أحمد بن حبيب أبو بكر العامري

المعروف بابن الخباز، سمع الحديث وكان يعظ الناس على طريق التصوف، وكان ابن الجوزي فيمن تأدب به، وقد أثنى عليه وأنشد عنه من شعره:

كيف احتيالي وهذا في الهوى حالي ** والشوق أملك لي من عذل عذالي

وكيف أشكو وفي حبي له شغل ** يحول بين مهماتي وأشغالي

وكانت له معرفة بالفقه والحديث، وقد شرح كتاب (الشهاب)، وقد ابتنى رباطا، وكان عنده فيه جماعة من المتعبدين والزهاد، ولما احتضر أوصاهم بتقوى الله عز وجل والإخلاص لله والدين، فلما فرغ شرع في النزع وعرق جبينه فمد يده وقال بيتا لغيره:

ها قد بسطت يدي إليك فردها ** بالفضل لا بشماتة الأعداء

ثم قال: أرى المشايخ بين أيديهم الأطباق وهم ينتظرونني.

ثم مات، وذلك ليلة الأربعاء نصف رمضان، ودفن برباطه ثم غرق رباطه وقبره في سنة أربعين وخمسمائة.

محمد بن الفضل ابن أحمد بن محمد بن أبي العباس أبو عبد الله الصاعدي الفراوي

كان أبوه من ثغر فراوه، وسكن نيسابور، فولد له بها محمد هذا، وقد سمع الحديث الكثير على جماعة من المشايخ بالآفاق.

وتفقه وأفتى وناظر ووعظ وكان ظريفا حسن الوجه جميل المعاشرة كثير التبسم، وأملى أكثر من ألف مجلس، ورحل إليه الطلبة من الآفاق حتى يقال: للفراوي ألف راوي، وقيل: إن ذلك كان مكتوبا في خاتمه.

وقد أسمع صحيح مسلم قريبا من عشرين مرة، توفي في شوال منها عن تسعين سنة.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة

فيها: كثر موت الفجأة بأصبهان فمات ألوف من الناس، وأغلقت دور كثيرة.

وفيها: تزوج الخليفة بالخاتون فاطمة بنت محمد بن ملكشاه على صداق مائة ألف دينار، فحضر أخوها السلطان مسعود العقد وجماعة من أعيان الدولة والوزراء والأمراء، ونثر على الناس أنواع النثار.

وفيها: صام أهل بغداد رمضان ثلاثين يوما ولم يروا الهلال ليلة إحدى وثلاثين، مع كون السماء كانت مصحية.

قال ابن الجوزي: وهذا شيء لم يقع مثله.

وفيها: هرب وزير صاحب مصر وهو تاج الدولة بهرام النصراني، وقد كان تمكن في البلاد وأساء السيرة، فتطلبه الخليفة الحافظ حتى أخذه فسجنه ثم أطلقه فترهب وترك العمل، فاستوزر بعده رضوان بن الريحيني ولقبه الملك الأفضل، ولم يلقب وزير قبله بهذا، ثم وقع بينه وبين الخليفة الحافظ، فلم يزل به الخليفة حتى قتله واستقل بتدبير أموره وحده.

وفيها: ملك عماد الدين زنكي عدة بلدان.

وفيها: طلع بالشام سحاب أسود أظلمت له الدنيا، ثم ظهر بعده سحاب أحمر كأنه نار أضاءت له الدنيا، ثم جاءت ريح عاصف ألقت أشجارا كثيرة، ثم وقع مطر شديد، وسقط برد كبار.

وفيها: قصد ملك الروم بلاد الشام فأخذ بلادا كثيرة من أيدي الفرنج، وأطاعه ابن اليون ملك الأرمن.

من الأعيان:

أحمد بن محمد بن ثابت ابن الحسن أبو سعد الخجندي

تفقه على والده الإمام أبي بكر الخجندي الأصبهاني، وولي تدريس النظامية ببغداد مرارا، ويعزل عنها، وقد سمع الحديث ووعظ، وتوفي في شعبان منها، وقد قارب التسعين.

هبة الله بن أحمد ابن عمر الحريري

يعرف بابن الطير، سمع الكثير وهو آخر من روى عن أبي الحسن ابن زوج الحرة، وقد حدث عنه الخطيب، وكان ثبتا كثير السماع، كثير الذكر والتلاوة، ممتعا بحواسه وقواه، إلى أن توفي في جمادى الأولى عن ست وتسعين سنة.

ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين وخمسمائة

فيها: قتل الخليفة الراشد المخلوع وذلك أنه اجتمع معه الملك داود وجماعة من كبار الأمراء، فقصدوا قتال مسعود بأرض مراغة فهزمهم وبدد شملهم، وقتل منهم خلقا صبرا، منهم صدقة بن دبيس، وولى أخاه محمدا مكانه على الحلة، وهرب الخليفة الراشد المخلوع، فدخل أصبهان فقتله رجل ممن كان يخدمه من الخراسانية، وكان قد برأ من وجع أصابه، فقتلوه في الخامس والعشرين من رمضان، ودفن بشهرستان ظاهر أصبهان.

وقد كان حسن اللون مليح الوجه شديد القوة مهيبا، أمه أم ولد.

وفيها: كسى الكعبة رجل من التجار يقال له: راست الفارسي، بثمانية عشر ألف دينار، وذلك لأنه لم تأتها كسوة في هذا العام لأجل اختلاف الملوك.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة ببلاد الشام والجزيرة والعراق، فانهدم شيء كثير من البيوت، ومات تحت الهدم خلق كثير.

وفيها: أخذ الملك عماد الدين زنكي مدينة حمص في المحرم، وتزوج في رمضان بالست زمرد خاتون، أم صاحب دمشق، وهي التي تنسب إليها الخاتونية البرانية.

وفيها: ملك صاحب الروم مدينة بزاعة، وهي على ستة فراسخ من حلب، فجاء أهلها الذين نجوا من القتل والسبي يستغيثون بالمسلمين ببغداد، فمنعت الخطبة ببغداد، وجرت فتن طويلة.

وفيها: تزوج السلطان مسعود بسفرى بنت دبيس بن صدقة وزينت بغداد لذلك سبعة أيام.

قال ابن الجوزي: فحصل بسبب ذلك فساد عريض طويل منتشر، ثم تزوج ابنة عمه فزينت بغداد ثلاثة أيام أيضا.

وفيها: ولد للسلطان الناصر صلاح يوسف بن أيوب ابن شاري بقلعة تكريت.

من الأعيان:

أحمد بن محمد أبو بكر بن أبي الفتح الدينوري الحنبلي

سمع الحديث وتفقه على أبي الخطاب الكلوذاني وأفتى ودرس وناظر، كان أسعد الميهني يقول عنه: ما اعترض أبو بكر الدينوري على دليل أحد إلا ثلمه، وقد تخرج به ابن الجوزي وأنشد:

تمنيت أن يمسي فقيها مناظرا ** بغير عياء والجنون فنون

وليس اكتساب المال دون مشقة ** تلقيتها، فالعلم كيف يكون؟

عبد المنعم بن عبد الكريم ابن هوازن

أبو المظفر القشيري، آخر من بقي منهم، سمع أباه وأبا بكر البيهقي وغيرهما، وسمع منه عبد الوهاب الأنماطي، وأجاز ابن الجوزي، وقارب التسعين.

محمد بن عبد الملك ابن محمد بن عمر

أبو الحسن الكرخي، سمع الكثير في بلاد شتى، وكان فقيها مفتيا، تفقه بأبي إسحاق وغيره من الشافعية، وكان شاعرا فصيحا، وله مصنفات كثيرة منها (الفصول في اعتقاد الأئمة الفحول)، يذكر فيه مذاهب السلف في باب الاعتقاد، ويحكي فيه أشياء غريبة حسنة، وله تفسير وكتاب في الفقه، وكان لا يقنت في الفجر، ويقول: لم يصح ذلك في حديث، وقد كان إمامنا الشافعي يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي الحائط.

وقد كان حسن الصورة جميل المعاشرة، ومن شعره قوله:

تناءت داره عني ولكن ** خيال جماله في القلب ساكن

إذا امتلأ الفؤاد به فماذا ** يضر إذا خلت منه الأماكن

توفي وقد قارب التسعين.

الخليفة الراشد منصور بن المسترشد

قتل بأصبهان بعد مرض أصابه، فقيل: إنه سم، وقيل: قتلته الباطنية، وقيل: قتله الفراشون الذين كانوا يلون أمره فالله أعلم.

وقد حكى ابن الجوزي عن أبي بكر الصولي أنه قال: الناس يقولون كل سادس يقوم بأمر الناس من أول الإسلام لابد أن يخلع.

قال ابن الجوزي: فتأملت ذلك فرأيته عجبا قيام رسول الله ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم الحسن فخلعه معاوية ثم يزيد ومعاوية بن يزيد ومروان وعبد الملك، ثم عبد الله بن الزبير فخلع وقتل، ثم الوليد ثم سليمان ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد ثم هشام ثم الوليد بن يزيد فخلع وقتل، ولم ينتظم لبني أمية بعده أمر حتى قام السفاح العباسي ثم أخوه المنصور ثم المهدي ثم الهادي ثم الرشيد ثم الأمين فخلع وقتل، ثم المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر ثم المستعين فخلع ثم قتل، ثم المعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي ثم المقتدر فخلع ثم أعيد فقتل، ثم القاهر والراضي والمتقي والمكتفي والمطيع ثم الطائع فخلع، ثم القادر والقائم والمقتدي والمستظهر والمسترشد ثم الراشد فخلع وقتل.

أنوشروان بن خالد

ابن محمد القاشاني القيني، من قرية قين من قاشان، الوزير أبو نصر، وزر للسلطان محمود وللخليفة المسترشد، وكان عاقلا مهيبا عظيم الخلقة، وهو الذي ألزم أبا محمد الحريري بتكميل المقامات، وكان سبب ذلك أن أبا محمد كان جالسا في مسجد بني حرام في محلة من محال البصرة، فدخل عليه شيخ ذو طمرين فقالوا: من أنت؟

قال: أنا رجل من سروج، يقال لي: أبو زيد.

فعمل الحريري المقامة الحرامية واشتهرت في الناس، فلما طالعها الوزير أنوشروان أعجب بها وكلف أبا محمد الحريري أن يزيد عليها غيرها فزاد عليها غيرها إلى تمام خمسين مقامة، فهي هذه المشهورة المتداولة بين الناس، وقد كان الوزير أنوشروان كريما، وقد مدحه الحريري صاحب (المقامات):

ألا ليت شعري والتمني لعله ** وإن كان فيه راحة لأخي الكرب

أتدرون أني مذ تناءت دياركم ** وشط اقترابي من جنابكم الرحب

أكابد شوقا ما أزال أداره ** يقلبني في الليل جنبا على جنب

وأذكر أيام التلاقي فأنثني ** لتذكارها بادي الأسى طائر اللب

ولي حنة في كل وقت إليكم ** ولا حنة الصادي إلى البارد العذب

فو الله لو أني كتمت هواكم ** لما كان مكتوما بشرق ولا غرب

ومما شجا قلبي المعنىّ وشفّه ** رضاكم بإهمال الإجابة عن كتبي

وقد كنت لا أخشى مع الذنب جفوة ** فقد صرت أخشاها ومالي من ذنب

ولما سرى الوفد العراقي نحوكم ** وأعوزني المسرى إليكم مع الركب

جعلت كتابي نائبا عن ضرورتي ** ومن لم يجد ماء تيمم بالترب

ويعضد أيضا بضعة من جوارحي ** تنبيكم عن سر حالي وتستنبي

ولست أرى أذكاركم بعد خيركم ** بمكرمة، حسبي اعتذاركم حسبي

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة

فيها: كانت زلزلة عظيمة بمدينة جبرت فمات بسببها مائتا ألف وثلاثون ألفا، وصار مكانها ماء أسود عشرة فراسخ في مثلها، وزلزل أهل حلب في ليلة واحدة ثمانين مرة.

وفيها: وضع السلطان محمود مكوسا كثيرة عن الناس، وكثرت الأدعية له.

وفيها: كانت وقعة عظيمة بين السلطان سنجر وخوارزم شاه، فهزمه سنجر وقتل ولده في المعركة، فحزن عليه والده حزنا شديدا.

وفيها: قتل صاحب دمشق شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري بن طغتكين، قتله ثلاثة من خواصه ليلا وهربوا من القلعة، فأدرك اثنان فصلبا وأفلت واحد.

وفيها: عزل اليهود والنصارى عن المباشرات ثم أعيدوا قبل شهر.

وحج بالناس فيها قطز الخادم.

وفيها توفي من الأعيان:

زاهر بن طاهر ابن محمد

أبو القاسم بن أبي عبد الرحمن بن أبي بكر السحامي المحدث المكثر، الرحال الجوال، سمع الكثير وأملى بجامع نيسابور ألف مجلس، وتكلم فيه أبو سعد السمعاني، وقال: إنه كان يخل بالصلوات.

وقد رد ابن الجوزي على السمعاني بعذر المرض ويقال: إنه كان به مرض يكثر بسببه جمع الصلوات فالله أعلم.

بلغ خمسا وثمانين سنة توفي بنيسابور في ربيع الآخر، ودفن بمقبرته.

يحيى بن يحيى بن علي ابن أفلح

أبو القاسم الكاتب، وقد خلع عليه المسترشد ولقبه جمال الملك، وأعطاه أربعة دور، وكانت له دار إلى جانبهن فهدمهن كلهن واتخذ مكانهن دارا هائلة، طولها ستون ذراعا في عرض أربعين ذراعا، وأطلق له الخليفة أخشابها وآجرها وطرازاتها، وكتب عليها أشعارا حسنة من نظمه ونظم غيره، فمن ذلك ما هو على باب دارها:

إن أعجب الراؤن من ظاهري ** فباطني لو علموا أعجب

شد باني من كفه مزنة ** يخجل منها العارض الصيب

ورنحت روضة أخلاقه ** في ديار نورها مذهب

صدر كسيّ صدري من نوره ** شمسا على الأيام لا تغرب

وعلى الطرز مكتوب:

ومن المروءة للفتى ** ما عاش دار فاخره

فاقنع من الدنيا بها ** واعمل لدار الآخره

هاتيك وافيت بما ** وعدت وهاتي باتره

وفي موضع آخر مكتوب

وناد كأن جنان الخـ ** ـلد أعارته من حسنها رونقا

وأعطته من حادثات الزما ** ن أن لا يلم به موبقا

فأضحى ينبئه على كل ما ** بنى مغربا كان أو مشرقا

تظل الوفود به عكفا ** ويمسي الضيوف به طرّقا

بقيت له يا جمال الملو ** ك وذا الفضل مهما أردت البقا

وسالمه فيك ريب الزما ** ن ووقيت فيه الذي يتقى

فما والله صدقت هذه الأماني، بل عما قريب اتهمه الخليفة بأنه يكاتب دبيسا فأمر بخراب داره تلك فلم يبق فيها جدار، بل صارت خربة بعد ما كانت قرة العيون من أحسن المقام والقرار، وهذه حكمة الله من تقلب الليل والنهار، وما تجري بمشيئة الأقدار، وهي حكمته في كل دار بنيت بالأشر والبطر، وفي كل لباس لبس على التيه والكبر والأشر.

وقد أورد له ابن الجوزي أشعارا حسنة من نظمه، وكلمات من نثره فمن ذلك قوله:

دع الهوى لا ناس يعرفون به ** قد مارسوا الحب حتى أصعبه

أدخلت نفسك فيما لست تجربه ** والشيء صعب على من لا يجربه

أمن اصطبار وإن لم تستطع خلدا ** فرب مدرك أمر عز مطلبه

أحن الضلوع على قلب يخيرني ** في كل يوم يعييني تقلبه

تأرج الريح من نجد يهيجه ** ولامع البرق من نغمات يطربه

وقوله:

هذه الخيف وهاتيك مني ** فترفق أيها الحادي بنا

واحبس الركب علينا ساعة ** نندب الدار ونبكي الدنا

فلذا الموقف أعددت البكا ** ولذا اليوم الدموع تقتني

زماننا كان وكنا جيرة ** فأعاد الله ذاك الزمنا

بيننا يوم ائتلاف نلتقي ** كان من غير تراضي بيننا

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وخمسمائة

فيها: حاصر زنكي دمشق فحصنها الأتابك معين الدين بن مملوك طغتكين، فاتفق موت ملكها جمال الدين محمود بن بوري بن طغتكين، فأرسل معين الدين إلى أخيه مجير الدين أتق، وهو ببعلبك فملكه دمشق، فذهب زنكي إلى بعلبك فأخذها واستناب عليها نجم الدين أيوب صلاح الدين.

وفيها: دخل الخليفة على الخاتون فاطمة بنت السلطان مسعود، أغلقت بغداد أياما.

وفيها: نودي للصلاة على رجل صالح فاجتمع الناس بمدرسة الشيخ عبد القادر فاتفق أن الرجل عطس فأفاق، وحضرت جنازة رجل آخر غيره فصلى عليه ذلك الجمع الكثير.

وفيها: نقصت المياه من سائر الدنيا.

وفيها: ولد صاحب حماه تقي الدين عمر شاهنشاه بن أيوب بن شاري.

من الأعيان:

أحمد بن جعفر ابن الفرج أبو العباس الحربي

أحد العباد الزهاد، سمع الحديث وكانت له أحوال صالحة، حتى كان يقال: إنه كان يُرى في بعض السنين بعرفات، ولم يحج في تلك السنة.

عبد السلام بن الفضل أبو القاسم الجيلي

سمع الحديث وتفقه على الكيا الهراسي، وبرع في الأصول والفروع، وغير ذلك، وولي قضاء البصرة وكان من خيار القضاة.

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وخمسمائة

فيها: وصلت البردة والقضيب إلى بغداد، وكانا مع المسترشد حين هرب سنة تسع وعشرين وخمسمائة فحفظهما السلطان سنجر عنده حتى ردهما في هذه السنة.

وفيها: كملت المدرسة الكمالية المنسوبة إلى كمال الدين، أبي الفتوح حمزة بن طلحة، صاحب المخزن، ودرس فيها الشيخ أبو الحسن الحلي، وحضر عنده الأعيان.

من الأعيان:

إسماعيل بن محمد ابن علي أبو القاسم الطلحي الأصبهاني

سمع الكثير، ورحل وكتب وأملى بأصبهان، قريبا من ثلاثة آلاف مجلس، وكان إماما في الحديث والفقه والتفسير واللغة، حافظا متقنا، توفي ليلة عيد الأضحى وقد قارب الثمانين، ولما أراد الغاسل تنحية الخرقة عن فرجه ردها بيده، وقيل: إنه وضع يده على فرجه.

محمد بن عبد الباقي

ابن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الربيع بن ثابت بن وهب بن مسجعة بن الحارث بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري، سمع الحديث وتفرد عن جماعة من المشايخ، وأملى الحديث في جامع القصر، وكان مشاركا في علوم كثيرة، وقد أسر في صغره في أيدي الروم فأرادوه على أن يتكلم بكلمة الكفر فلم يفعل، وتعلم منهم خط الروم، وكان يقول: من خدم المحابر خدمته المنابر.

ومن شعره الذي أورده له ابن الجوزي عنه وسمعه منه قوله:

احفظ لسانك لا تبح بثلاثة ** سن ومال إن سئلت، ومذهب

فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة ** بمكفر وبحاسد ومكذب

وقوله:

لي مدة لا بد أبلغها ** فإذا انقضت مت

لو عاندتني الأسد ضارية ** ما ضرني ما لم يجي الوقت

قال ابن الجوزي: بلغ من العمر ثلاثا وتسعين سنة، لم تتغير حواسه ولا عقله، توفي ثاني رجب منها، وحضر جنازته الأعيان وغيرهم، ودفن قريبا من قبر بشر.

يوسف بن أيوب ابن الحسن بن زهرة

أبو يعقوب الهمذاني، تفقه بالشيخ أبي إسحاق، وبرع في الفقه والمناظرة، ثم ترك ذلك واشتغل بالعبادة، وصحب الصالحين وأقام بالجبال، ثم عاد إلى بغداد فوعظ بها، وحصل له قبول.

توفي في ربيع الأول ببعض قرى هراة.

ثم دخلت سنة ست وثلاثين وخمسمائة

فيها: كانت حروب كثيرة بين السلطان سنجر وخوارزم شاه، فاستحوذ خوارزم على مرو بعد هزيمة سنجر ففتك بها، وأساء التدبير بالنسبة إلى الفقهاء الحنفية الذين بها، وكان جيش خوارزم ثلاثمائة ألف مقاتل.

وفيها: تحمل عمل دمشق النهروز، وخلع نهروز شحنة بغداد على حباب صباغ الحرير الرومي، وركب هو والسلطان مسعود في سفينة في ذلك النهر، وفرح السلطان بذلك، وكان قد صرف السلطان على ذلك النهر سبعين ألف دينار.

وفيها: حج كمال الدين طلحة صاحب المخزن، وعاد فتزهد وترك العمل ولزم داره.

وفيها: عقدت الجمعة بمسجد العباسيين بإذن الخليفة.

وحج بالناس قطز.

من الأعيان:

إسماعيل بن أحمد بن عمر ابن أبي الأشعث

أبو القاسم بن أبي بكر السمرقندي الدمشقي ثم البغدادي، سمع الكثير وتفرد بمشايخ، وكان سماعه صحيحا، وأملى بجامع المنصور مجالس كثيرة نحو ثلاثمائة مجلس، توفي وقد جاوز الثمانين.

يحيى بن علي ابن محمد بن علي

أبو محمد بن الطراح المدبر، ولد سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وسمع الكثير وأسمع، وكان شيخا حسنا مهيبا كثير العبادة، توفي في رمضان منها.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وخمسمائة

فيها: ملك عماد الدين زنكي الحديثة، ونقل آل مهارش منها إلى الموصل، ورتب فيها نوابا من جهته.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة

فيها: تجهز السلطان مسعود ليأخذ الموصل والشام من زنكي، فصالحه على مائة ألف دينار، فدفع إليه منها عشرين ألف دينار، وأطلق له الباقي، وسبب ذلك أن ابنه سيف الدين غازي كان لا يزال في خدمة السلطان مسعود.

وفيها: ملك زنكي بعض بلاد بكر.

وفيها: حصر الملك سنجر خوارزم شاه، ثم أخذ منه مالا وأطلقه.

وفيها: وجد رجل يفسق بصبي فألقي من رأس منارة.

وفي ليلة الثلاثاء الرابع والعشرين من ذي القعدة زلزلت الأرض.

وحج بالناس قطز.

من الأعيان:

عبد الوهاب بن المبارك ابن أحمد

أبو البركات الأنماطي، الحافظ الكبير، كان ثقة دينا ورعا، طليق الوجه، سهل الأخلاق، توفي في المحرم عن ست وتسعين سنة.

علي بن طراد ابن محمد الزينبي

الوزير العباسي، أبو القاسم نقيب النقباء على الطائفتين، في أيام المستظهر، ووزر للمسترشد، وتوفي في رمضان عن ست وسبعين سنة.

الزمخشري محمود ابن عمر بن محمد بن عمر

أبو القاسم الزمخشري، صاحب (الكشاف) في التفسير، و(المفصل) في النحو وغير ذلك من المصنفات المفيدة، وقد سمع الحديث وطاف البلاد، وجاور بمكة مدة، وكان يظهر مذهب الاعتزال ويصرح بذلك في تفسيره، ويناظر عليه، وكانت وفاته بخوارزم ليلة عرفة منها، عن ست وسبعين سنة.

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وخمسمائة

فيها: أخذ العماد زنكي الرها وغيرها من حصون الجزيرة من أيدي الفرنج، وقتل منهم خلقا كثيرا وسبى نساء كثيرة، وغنم أموالا جزيلة، وأزال عن المسلمين كربا شديدا.

وحج بالناس قطز الخادم وتنافس هو وأمير مكة فنهب الحجيج وهم يطوفون.

وفيها توفي من الأعيان:

إبراهيم بن محمد بن منصور ابن عمر أبو الوليد الكرخي

تفقه بأبي إسحاق وأبي سعد المتولي، حتى صار أوحد زمانه فقها وصلاحا، مات في هذه السنة.

سعد بن محمد ابن عمر أبو منصور البزار

سمع الحديث وتفقه بالغزالي والشاشي والمتولي والكيا، وولي تدريس النظامية، وكان له سمت حسن، ووقار وسكون، وكان يوم جنازته مشهودا، ودفن عند أبي إسحاق.

عمر بن إبراهيم ابن محمد بن أحمد بن علي بن الحسين

بن علي بن حمزة بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشي العلوي، أبو البركات الكوفي، ثم البغدادي، سمع الكثير وكتب كثيرا، وأقام بدمشق مدة، وكان له معرفة جيدة بالفقه والحديث والتفسير واللغة والأدب، وله تصانيف في النحو، وكان خشن العيش صابرا محتسبا.

توفي في شعبان من هذه السنة عن سبع وتسعين سنة، رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة أربعين وخمسمائة

فيها: حصر علي بن دبيس أخاه محمدا ولم يزل يحاصره حتى اقتلع من يده الحلة وملكها.

وفي رجب منها دخل السلطان مسعود بغداد خوفا من اجتماع عباس صاحب الري، ومحمد شاه بن محمود، ثم خرج منها في رمضان.

وحج بالناس أرجوان مملوك أمير الجيوش بسبب ما كان وقع بين قطز وأمير مكة في السنة الماضية.

من الأعيان:

أحمد بن محمد ابن الحسين بن علي بن أحمد بن سليمان

أبو سعد الأصبهاني، ثم البغدادي، سمع الحديث وكان على طريقة السلف، حلو الشمائل، مطرح الكلفة، ربما خرج إلى السوق بقميص وقلنسوة، وحج أحد عشر حجة، وكان يملي الحديث ويكثر الصوم، توفي بنهاوند في ربيع الأول من هذه السنة وقد قارب الثمانين.

علي بن أحمد ابن الحسين بن أحمد أبو الحسن اليزدي

تفقه بأبي بكر الشاشي، وسمع الحديث وأسمعه، وكان له ولأخيه قميص واحد، إذا خرج هذا لبسه وجلس الآخر في البيت عريانا وكذا الآخر.

موهوب بن أحمد ابن محمد بن الخضر

أبو منصور الجواليقي، شيخ اللغة في زمانه، باشر مشيخة اللغة بالنظامية بعد شيخه أبي زكريا التبريزي، وكان يؤم بالمقتفي، وربما قرأ الخليفة عليه شيئا من الكتب، وكان عاقلا متواضعا في ملبسه، طويل الصمت كثير الفكر، وكانت له حلقة بجامع القصر أيام الجمع، وكان فيه لكنة، وكان يجلس إلى جانبه المغربي معبر المنامات، وكان فاضلا لكنه كان كثير النعاس في مجلسه، فقال فيهما بعض الأدباء:

بغداد عندي ذنبها لن يغفرا ** وعيوبها مكشوفة لن تسترا

كون الجواليقي فيها ممليا ** لغة وكون المغربي معبّرا

ما سور لُكْنته يقول فصاحة ** وليوم يقظته يعبّر في الكرا

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمسمائة

في ليلة مستهل ربيع الأول منها احترق القصر الذي بناه المسترشد، وكان في غاية الحسن، وكان الخليفة المقتفى قد انتقل بجواريه وحظاياه إليه ليقيم فيه ثلاثة أيام، فما هو إلا أن ناموا احترق عليهم القصر بسبب أن جارية أخذت في يدها شمعة فعلق لهبها ببعض الأخشاب فاحترق القصر وسلم الله الخليفة وأهله، فأصبح فتصدق بأشياء كثيرة وأطلق خلقا من المحبسين.

وفي رجب منها وقع بين الخليفة والسلطان مسعود واقع فبعث الخليفة إلى الجوامع والمساجد فأغلقت ثلاثة أيام، حتى اصطلحا.

وفي يوم الجمعة نصف ذي القعدة جلس ابن العبادي الواعظ فتكلم السلطان مسعود حاضر، وكان قد وضع على الناس في البيع مكسا فاحشا، فقال في جملة وعظه: يا سلطان العالم، أنت تطلق في بعض الأحيان للمغني إذا طربت قريبا مما وضعت على المسلمين من هذا المكس، فهبني مغنيا وقد طربت فهب لي هذا المكس شكرا لنعم الله عليك.

فأشار السلطان بيده أن قد فعلت، فضج الناس بالدعاء له، وكتب بذلك سجلات، ونودي في البلد بإسقاط ذلك المكس، ففرح الناس بذلك، ولله الحمد والمنة.

وفيها: قل المطر جدا، وقلت مياه الأنهار، وانتشر جراد عظيم، وأصاب الناس داء في حلوقهم، فمات بذلك خلائق كثيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: قتل الملك عماد الدين زنكي بن قيم الدولة التركي صاحب الموصل، وحلب وغيرها من البلاد الشامية والجزيرة، وكان محاصرا قلعة جعبر، وفيها شهاب الدين سالم بن مالك العقيلي، فبرطل بعض مماليك زنكي حتى قتلوه في الليلة الخامسة من ربيع الأول من هذه السنة.

قال العماد الكاتب: كان سكرانا، فالله أعلم.

وقد كان زنكي من خيار الملوك وأحسنهم سيرة وشكلا، وكان شجاعا مقداما حازما، خضعت له ملوك الأطراف، وكان من أشد الناس غيرة على نساء الرعية، وأجود الملوك معاملة، وأرفقهم بالعامة، وقام بالأمر من بعد بالموصل ولده سيف الدولة، وبحلب نور الدين محمود، فاستعاد نور الدين هذا مدينة الرها، وكان أبوه قد فتحها.

فلما مات عصوا فقهرهم نور الدين.

وفيها: ملك عبد المؤمن صاحب المغرب وخادم ابن تومرت جزيرة الأندلس، بعد حروب طويلة.

وفيها: ملكت الفرنج مدينة طرابلس الغرب.

وفيها: استعاد صاحب دمشق مدينة بعلبك.

وفيها: جاء نجم الدين أيوب إلى صاحب دمشق فسلمه القلعة وأعطاه أمزبة عنده بدمشق.

وفيها: قتل السلطان مسعود حاجبه عبد الرحمن بن طغرلبك وقتل عباسا صاحب الري، وألقى رأسه إلى أصحابه فانزعج الناس ونهبوا خيام عباس هذا، وقد كان عباس من الشجعان المشهورين، قاتل الباطنية مع مخدومه جوهر، فلم يزل يقتل منهم حتى بنى مأذنة من رؤسهم بمدينة الري.

وفيها: مات نقيب النقباء ببغداد محمد بن طراد الزينبي، فتولى بعده علي بن طلحة الزينبي.

وفيها: سقط جدار على ابنة الخليفة، وكانت قد بلغت مبالغ النساء، فماتت فحضر جنازتها الأعيان.

وحج بالناس قطز الخادم.

من الأعيان:

زنكي بن آقسنقر أبو نور

تقدم ذكر شيء من ترجمته وهو أبو نور الدين محمود الشهيد، وقد أطنب الشيخ أبو شامة في الروضتين في ترجمته، وما قيل فيه من نظم ونثر، رحمه الله.

سعد الخير محمد بن سهل بن سعد

أبو الحسن المغربي الأندلسي الأنصاري، رحل وحصل كتبا نفيسة، وروى عنه ابن الجوزي وغيره، وقد أوصى عند وفاته أن يصلي عليه الغزنوي، وأن يدفن عند قبر عبد الله بن الإمام أحمد، وحضر جنازته خلائق من الناس.

شافع بن عبد الرشيد ابن القاسم

أبو عبد الله الجيلي الشافعي، تفقه على الكيا وعلى الغزالي، وكان يسكن الكرخ، وله حلقة بجامع المنصور في الرواق.

قال ابن الجوزي: وكنت أحضر حلقته.

عبد الله بن علي ابن أحمد بن عبد الله

أبو محمد سبط أبي منصور الزاهد، قرأ القراءات وصنف فيها، وسمع الحديث الكثير، واقتنى الكتب الحسنة، وأمّ في مسجده نيفا وخمسين سنة، وعلم خلقا القرآن.

قال ابن الجوزي: ما سمعت أحدا أحسن قراءة منه.

وحضر جنازته خلق كثير.

عباس شحنة الري

توصل إلى أن ملكها ثم قتله مسعود، وقد كان كثير الصدقات والإحسان إلى الرعية، وقتل من الباطنية خلقا حتى بنى من رؤسهم منارة بالري، وتأسف الناس عليه.

محمد بن طراد ابن محمد الزينبي أبو الحسن نقيب النقباء

وهو أخو علي بن طراد الوزير، سمع الكثير من أبيه ومن عمه أبي نصر وغيرهما، وقارب السبعين.

وجيه بن طاهر ابن محمد بن محمد

أبو بكر الشحامي أخو زاهر، وقد سمع الكثير من الحديث، وكانت له معرفة به، وكان شيخا حسن الوجه، سريع الدمعة، كثير الذكر، جمع السماع إلى العمل إلى صدق اللهجة، توفي ببغداد في هذه السنة.

ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين وخمسمائة

فيها: ملكت الفرنج عدة حصون من جزيرة الأندلس.

وفيها: ملك نور الدين بن محمود زنكي عدة حصون من يد الفرنج بالسواحل.

وفيها: خطب للمستنجد بالله بولاية العهد من بعد أبيه المقتفي.

وفيها: تولى عون بن يحيى بن هبيرة كتابة ديوان الزمام، وولي زعيم الدين يحيى بن جعفر صدرية المخزن المعمورة.

وفيها: اشتد الغلاء بإفريقية وهلك بسببه أكثر الناس حتى خلت المنازل، وأقفلت المعاقل.

وفيها: تزوج سيف الدين غازي بنت صاحب ماردين حسام الدين تمرتاش بن أرتق، بعد أن حاصره فصالحه على ذلك، فحملت إليه إلى الموصل بعد سنتين، وهو مريض قد أشرف على الموت، فلم يدخل بها حتى مات، فتولى بعده على الموصل أخوه قطب بن مودود فتزوجها.

قال ابن الجوزي: وفي صفر رأى رجل في المنام قائلا يقول له: من زار أحمد بن حنبل غفر له.

قال: فلم يبق خاص ولا عام إلا زاره.

قال ابن الجوزي: وعقدت يومئذ ثم مجلسا فاجتمع فيه ألوف من الناس.

من الأعيان:

أسعد بن عبد الله ابن أحمد بن محمد

بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو منصور، سمع الحديث الكثير، وكان خيرا صالحا ممتعا بحواسه وقواه إلى حين الوفاة.

وقد جاوز المائة بنحو من سبع سنين.

أبو محمد عبد الله بن محمد ابن خلف

بن أحمد بن عمر اللخمي الأندلسي، الرباطي الحافظ، مصنف كتاب (اقتياس الأنوار والتماس الأزهار)، في أنساب الصحابة، ورواة الآثار، وهو من أحسن التصانيف الكبار، قتل شهيدا صبيحة يوم الجمعة العشرين من جمادى بالبرية.

نصر الله بن محمد ابن عبد القوي

أبو الفتح اللاذقي المصيصي الشافعي، تفقه بالشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي، بصور، وسمع بها منه ومن أبي بكر الخطيب، وسمع ببغداد والأنبار، وكان أحد مشايخ الشام، فقيها في الأصول والفروع، توفي فيها وقد جاوز التسعين بأربع سنين.

هبة الله بن علي ابن محمد بن حمزة

أبو السعادات ابن الشجري النحوي، ولد سنة خمسين وأربعمائة، وسمع الحديث وانتهت إليه رياسة النحاة.

قال: سمعت بيتا في الذم أبلغ من قول مكوبه:

وما أنا إلا المسك قد ضاع عندكم ** يضيع وعند الأكثرين يضوع

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة

فيها: استغاث مجير الدين بن أتابك دمشق بالملك نور الدين صاحب حلب على الفرنج، فركب سريعا فالتقى معهم بأرض بصرى فهزمهم، ورجع فنزل على الكسوة، وخرج ملك دمشق مجير الدين أرتق فخدمه واحترمه وشاهد الدماشقة حرمة نور الدين حتى تمنوه.

وفيها: ملكت الفرنج المهدية وهرب منها صاحبها الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن منصور بن يوسف بن بليكين بأهله، وخاف على أمواله فتمزقت في البلاد، وتمزق هو أيضا في البلاد، وأكلتهم الأقطار، وكان آخر ملوك بني باديس، وكان ابتداء ملكهم في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، فدخل الفرنج إليها وخزائنها مشحونة بالحواصل والأموال والعدد وغير ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: حاصرت الفرنج وهم في سبعين ألف مقاتل، ومعهم ملك الألمان في خلق لا يعلمهم إلا الله عز وجل، دمشق وعليها مجير الدين أرتق وأتابكه معين الدين، وهو مدبر المملكة، وذلك يوم السبت سادس ربيع الأول، فخرج إليهم أهلها في مائة ألف وثلاثين ألفا، فاقتتلوا معهم قتالا شديدا.

قتل من المسلمين في أول يوم نحو من مائتي رجل، ومن الفرنج خلق كثير لا يحصون، واستمر الحرب مدة وأخرج مصحف عثمان إلى وسط صحن الجامع، واجتمع الناس حوله يدعون الله عز وجل والنساء، والأطفال مكشفي الرؤس يدعون ويتباكون، والرماد مفروش في البلد، فاستغاث أرتق بنور الدين محمود صاحب حلب وبأخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل، فقصداه سريعا في نحو من سبعين ألفا بمن انضاف إليهم من الملوك وغيرهم، فلما سمعت الفرنج بقدوم الجيش تحولوا عن البلد، فلحقهم الجيش فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وجما غفيرا، وقتلوا قسيسا معهم اسمه إلياس، وهو الذي أغراهم بدمشق، وذلك أنه افترى مناما عن المسيح أنه وعده فتح دمشق، فقتل لعنه الله، وقد كادوا يأخذون البلد، ولكن الله سلم، وحماها بحوله وقوته.

قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرا} 21، ومدينة دمشق لا سبيل للأعداء من الكفرة عليها، لأنها المحلة التي أخبر رسول الله عنها أنها معقل الإسلام عند الملاحم والفتن، وبها ينزل عيسى ابن مريم، وقد قتل الفرنج خلقا كثيرا من أهل دمشق، وممن قتلوا الفقيه الكبير الملقب حجة الدين شيخ المالكية بها، أبو الحجاج يوسف بن درناس الفندلاوي، بأرض النيرب، ودفن بمقابر باب الصغير، وكان مجير الدين قد صالح الفرنج عن دمشق ببانياس، فرحلوا عنها وتسلموا بانياس.

وفيها: وقع بين السلطان مسعود وأمرائه ففارقوه، وقصدوا بغداد فاقتتلوا مع العامة، فقتلوا منهم خلقا كثيرا من الصغار والكبار، ثم اجتمعوا قبال التاج وقبلوا الأرض واعتذروا إلى الخليفة مما وقع، وساروا نحو النهروان فتفرقوا في البلاد، ونهبوا أهلها، فغلت الأسعار بالعراق بسبب ذلك.

وفيها: ولي قضاء القضاة ببغداد أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن الدامغاني، بعد وفاة الزينبي.

وفيها: ملك سولي بن الحسين ملك الثغور مدينة غزنة، فذهب صاحبها بهرام شاه بن مسعود من أولاد سبكتكين إلى فرغانة فاستغاث بملكها، فجاء بجيوش عظيمة فاقتلع غزنة من سولي، وأخذه أسيرا فصلبه، وقد كان كريما جوادا، كثير الصدقات.

من الأعيان:

إبراهيم بن محمد ابن نهار بن محرز الغنوي الرقي

سمع الحديث وتفقه بالشاشي والغزالي، وكتب شيئا كثيرا من مصنفاته، وقرأها عليه، وصحبه كثيرا، وكان مهيبا كثير الصمت، توفي في ذي الحجة منها وقد جاوز الثمانين.

شاهان شاه بن أيوب

ابن شادي، استشهد مع نور الدين، وهو والد الست عذار، واقفة العذارية، وتقي الدين عمر واقف التقوية.

علي بن الحسين ابن محمد بن علي الزينبي

أبو القاسم الأكمل بن أبي طالب نور الهدى بن أبي الحسن نظام الحضرتين ابن نقيب النقباء أبي القاسم بن القاضي أبي تمام العباسي، قاضي القضاة ببغداد وغيرها، سمع الحديث وكان فقيها رئيسا، وقورا حسن الهيئة والسمت، قليل الكلام، سافر مع الخليفة الراشد إلى الموصل، وجرت له فصول ثم عاد إلى بغداد فمات بها في هذه السنة، وقد جاوز الستين، وكانت جنازته حافلة.

أبو الحجاج يوسف بن درباس

الفندلاوي، شيخ المالكية بدمشق، قتل يوم السبت سادس ربيع الأول قريبا من الربوة في أرض النيرب، هو والشيخ عبد الرحمن الجلجولي، أحد الزهاد رحمهما الله تعالى، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة

فيها: كانت وفاة القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمد بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، قاضيها أحد مشايخ العلماء المالكية، وصاحب المصنفات الكثيرة المفيدة، منها (الشفا)، و(شرح مسلم)، و(مشارق الأنوار) وغير ذلك، وله شعر حسن، وكان إماما في علوم كثيرة، كالفقه واللغة والحديث والأدب، وأيام الناس، ولد سنة ست وأربعين وأربعمائة، ومات يوم الجمعة في جمادى الآخرة، وقيل: في رمضان من هذه السنة، بمدينة سبتة.

وفيها: غزا الملك نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب بلاد الفرنج، فقتل منهم خلقا، وكان فيمن قتل البرنس صاحب إنطاكية، وفتح شيئا كثيرا من قلاعهم، ولله الحمد.

وكان قد استنجد بمعين الدين بن أتابك دمشق، فأرسل إليه بفريق من جيشه صحبة الأمير مجاهد الدين بن مروان بن ماس، نائب صرخد فأبلوا بلاء حسنا، وقد قال الشعراء في هذه الغزوة أشعارا كثيرة، منهم ابن القيسراني وغيره، وقد سردها أبو شامة في (الروضتين).

وفي يوم الأربعاء ثالث ربيع الآخر استوزر للخلافة أبو المظفر يحيى بن هبيرة، ولقب عون الدين، وخلع عليه.

وفي رجب قصد الملك شاه بن محمود بغداد، ومعه خلق من الأمراء، ومعه علي بن دبيس وجماعة من التركمان وغيرهم، وطلبوا من الخليفة أن يخطب له فامتنع من ذلك، وتكررت المكاتبات، وأرسل الخليفة إلى السلطان مسعود يستحثه في القدوم، فتمادى عليه وضاق النطاق، واتسع الخرق على الراقع، وكتب الملك سنجر إلى ابن أخيه يتوعده إن لم يسرع إلى الخليفة، فما جاء إلا في أواخر السنة، فانقشعت تلك الشرور كلها، وتبدلت سرورا أجمعها.

وفي هذه السنة زلزلت الأرض زلزالا شديدا، وتموجت الأرض عشر مرات، وتقطع جبل بحلوان، وانهدم الرباط النهر جوري، وهلك خلق كثير بالبرسام، لا يتكلم المرضى به حتى يموتوا.

وفيها: مات سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل، وملك بعده أخوه قطب الدين مودود بن زنكي، وتزوج بامرأة أخيه التي لم يدخل بها، الخاتون بنت تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق، صاحب ماردين، فولدت له أولادا كلهم ملكوا الموصل، وكانت هذه المرأة تضع خمارها بين خمسة عشر ملكا.

وفيها: سار نور الدين إلى سنجار ففتحها، فجهز إليه أخوه قطب الدين مودود جيشا ليرده عنها، ثم اصطلحا فعوضه منها الرحبة وحمص، واستمرت سنجار لقطب الدين، وعاد نور الدين إلى بلده.

ثم غزا فيها الفرنج فقتل منهم خلقا وأسر البرنس صاحب إنطاكية، فمدحه الشعراء منهم الفتح القيسراني بقصيدة يقول في أولها:

هذي العزائم لا ما تنعق القضب ** وذي المكارم لا ما قالت الكتب

وهذه الهمم اللاتي متى خطبت ** تعثرت خلفها الأشعار والخطب

صافحت يا ابن عماد الدين ذروتها ** براحة للمساعي دونها تعب

ما زال جدك يبني كل شاهقة ** حتى بنى قبة أوتادها الشهب

وفيها: فتح نور الدين حصن فاميا وهو قريب من حماه.

وفيها: مات صاحب مصر الحافظ لدين الله عبد المجيد بن أبي القاسم بن المستنصر، فقام بالأمر من بعده ولده الظافر إسماعيل، وقد كان أحمد بن الأفضل بن أمير الجيوش قد استحوذ على الحافظ وخطب له بمصر ثلاثا، ثم آخر الأمر أذن بحي على خير العمل، والحافظ هذا هو الذي وضع طبل القولنج الذي إذا ضربه من به القولنج يخرج من القولنج والريح الذي به.

وخرج بالحجاج الأمير قطز الخادم، فمرض بالكوفة فرجع واستخلف على الحجاج مولاه قيماز، وحين وصوله إلى بغداد توفي بعد أيام، فطمعت العرب في الحجاج فوقفوا لهم في الطريق وهم راجعون، فضعف قيماز عن مقاومتهم فأخذ لنفسه أمانا وهرب وأسلم إليهم الحجيج، فقتلوا أكثرهم وأخذوا أموال الناس، وقل من سلم فيمن نجا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: مات معين الدين بن أتابك العساكر بدمشق، وكان أحد مماليك طغتكين، وهو والد الست خاتون زوجة نور الدين، وهو واقف المدرسة المعينية، داخل باب الفرج، وقبره في قبة قتلى الشامية البرانية، بمحلة العونية، عند دار البطيخ.

ولما مات معين الدين قويت شوكة الوزير الرئيس مؤيد الدولة على ابن الصوفي وأخيه زين الدولة حيدرة، ووقعت بينهما وبين الملك مجير الدين أرتق وحشة، اقتضت أنهما جندا من العامة والغوغاء ما يقاومه فاقتتلوا، فقتل خلق من الفريقين، ثم وقع الصلح بعد ذلك.

من الأعيان:

أحمد بن نظام الملك أبو الحسن

علي بن نصر الوزير للمسترشد، والسلطان محمود، وقد سمع الحديث، وكان من خيار الوزراء.

أحمد بن محمد ابن الحسين الأرجاني

قاضي تستر، روى الحديث وكان له شعر رائق يتضمن معاني حسنة، فمن ذلك قوله:

ولما بلوت الناس أطلب عندهم ** أخا ثقة عند اعتراض الشدائد

تطعمت في حالي رخاء وشدة ** وناديت في الأحياء: هل من مساعد؟

فلم أرَ فيما ساءني غير شامت ** ولم أرَ فيما سرني غير حاسد

فطلقت ود العالمين جميعهم ** ورحت فلا ألوي على غير واحد

تمتعتما يا ناظري بنظرة ** وأوردتما قلبي أمر الموارد

أعيني كفا عن فؤادي فإنه ** من البغي سعي اثنين في قتل واحد

والقاضي عياض بن موسى السبتي

صاحب التصانيف المفيدة، ومن شعره قوله:

الله يعلم أني منذ لم أركم ** كطائر خانه ريش الجناحين

ولو قدرت ركبت الريح نحوكم ** فإن بعدكم عني جنى حيني

وقد ترجمه ابن خلكان ترجمة حسنة.

عيسى بن هبة الله ابن عيسى

أبو عبد الله النقاش، سمع الحديث، مولده سنة سبع وخمسين وأربعمائة.

قال ابن الجوزي: وكان ظريفا خفيف الروح، له نوادر حسنة رأى الناس، وعاشر الأكياس، وكان يحضر مجلسي ويكاتبني وأكاتبه، كتبت إليه مرة فعظمته في الكتاب فكتب إلي:

قد زدتني في الخطاب حتى ** خشيت نقصا من الزياده

وله:

إذا وجد الشيخ في نفسه ** نشاطا فذلك موت خفي

ألست ترى أن ضوء السرا ** ج له لهب قبل أن ينطفي

غازي بن أقنسقر الملك سيف الدين

صاحب الموصل، وهو أخو نور الدين محمود، صاحب حلب ثم دمشق فيما بعد، وقد كان سيف الدين هذا من خيار الملوك وأحسنهم سيرة، وأجودهم سريرة، وأصبحهم صورة، شجاعا كريما، يذبح كل يوم لجيشه مائة من الغنم، ولمماليكه ثلاثين رأسا، وفي يوم العيد ألف رأس سوى البقر والدجاج، وهو أول من حمل على رأسه سنجق من ملوك الأطراف، وأمر الجند أن لا يركبوا إلا بسيف ودبوس، وبنى مدرسة بالموصل ورباطا للصوفية، وامتدحه الحيص بيص، فأعطاه ألف دينار عينا وخلعة.

ولما توفي بالحمى في جمادى الآخرة دفن في مدرسته المذكورة، وله من العمر أربعون سنة، وكانت مدة ملكه بعد أبيه ثلاث سنين وخمسين يوما، رحمه الله.

قطز الخادم

أمير الحاج مدة عشرين سنة وأكثر، سمع الحديث وقرأ على ابن الزاغوني، وكان يحب العلم والصدقة، وكان الحاج معه في غاية الدعة والراحة والأمن، وذلك لشجاعته ووجاهته عند الخلفاء والملوك، توفي ليلة الثلاثاء الحادي عشر من ذي القعدة ودفن بالرصافة.

ثم دخلت سنة خمس وأربعين وخمسمائة

فيها: فتح نور الدين محمود حصن فامية، وهو من أحصن القلاع، قيل: فتحه في التي قبلها.

وفيها: قصد دمشق ليأخذها فلم يتفق له ذلك، فخلع على ملكها مجير الدين أرتق، وعلى وزيره ابن الصوفي، وتقررت الخطبة له بها بعد الخليفة والسلطان، وكذلك السكة.

وفيها: فتح نور الدين حصن إعزاز وأسر ابن ملكها ابن جوسلين، ففرح المسلمون بذلك، ثم أسر بعده والده جوسلين الفرنجي، فتزايدت الفرحة بذلك، وفتح بلادا كثيرة من بلاده.

وفي المحرم منها حضر يوسف الدمشقي تدريس النظامية، وخلع عليه، ولما لم يكن ذلك بإذن الخليفة بل بمرسوم السلطان وابن النظام، منع من ذلك فلزم بيته ولم يعد إلى المدرسة بالكلية، وتولاها الشيخ أبو النجيب بإذن الخليفة ومرسوم السلطان.

قال ابن الجوزي: في هذه السنة وقع مطر باليمن كله دم، حتى صبغ ثياب الناس.

من الأعيان:

الحسن بن ذي النون

ابن أبي القاسم، بن أبي الحسن، أبو المفاخر النيسابوري، قدم بغداد فوعظ بها، وجعل ينال من الأشاعرة فأحبته الحنابلة، ثم اختبروه فإذا هو معتزلي ففتر سوقه، وجرت بسببه فتنة ببغداد، وقد سمع منه ابن الجوزي شيئا من شعره، من بذلك:

مات الكرام ومروا وانقضوا ومضوا ** ومات من بعدهم تلك الكرامات

وخلفوني في قوم ذوي سفه ** لو أبصروا طيف ضيف في الكرى ماتوا

عبد الملك بن عبد الوهاب الحنبلي القاضي بهاء الدين

كان يعرف مذهب أبي حنيفة وأحمد، ويناظر عنهما، ودفن مع أبيه وجده بقبور الشهداء.

عبد الملك بن أبي نصر بن عمر أبو المعالي الجبلي

كان فقيها صالحا متعبدا فقيرا، ليس له بيت يسكنه، وإنما يبيت في المساجد المهجورة، وقد خرج مع الحجيج فأقام بمكة يعبد ربه ويفيد العلم، فكان أهلها يثنون عليه خيرا.

الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي

شارح الترمذي، كان فقيها عالما وزاهدا عابدا، وسمع الحديث بعد اشتغاله في الفقه، وصحب الغزالي وأخذ عنه، وكان يتهمه برأي الفلاسفة، ويقول: دخل في أجوافهم فلم يخرج منها، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة

فيها: أغار جيش السلطان على بلاد الإسماعيلية، فقتلوا خلقا ورجعوا سالمين.

وفيها: حاصر نور الدين دمشق شهورا، ثم ترحل عنها إلى حلب، وكان الصلح على يدي البرهان البلخي.

وفيها: اقتتل الفرنج وجيش نور الدين فانهزم المسلمون وقتل منهم خلق، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولما وقع هذا الأمر شق ذلك على نور الدين وترك الترفه وهجر اللذة حتى يأخذ بالثار، ثم إن أمراء التركمان ومعهم جماعة من أعوانهم ترصدوا الملك جوسليق الإفرنجي، فلم يزالوا به حتى أسروه في بعض متصيداته فأرسل نور الدين فكبس التركمان وأخذ منهم جوسليق أسيرا، وكان من أعيان الكفرة، وأعظم الفجرة، فأوقفه بين يديه في أذل حال، ثم سجنه.

ثم سار نور الدين إلى بلاده فأخذها كلها بما فيها.

وفي ذي الحجة جلس ابن العبادي في جامع المنصور وتكلم، وعنده جماعة من الأعيان، فكادت الحنابلة يثيرون فتنة ذلك اليوم، ولكن لطف الله وسلم.

وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني.

من الأعيان:

برهان الدين أبو الحسن بن علي البلخي

شيخ الحنفية بدمشق، درس بالبلخية ثم بالخاتونية البرانية، وكان عالما عاملا، ورعا زاهدا، ودفن بمقابر باب الصغير.

ثم دخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائة

فيها: توفي السلطان مسعود وقام بالأمر من بعده أخوه ملكشاه بن محمود، ثم جاء السلطان محمد وأخذ الملك واستقر له، قتل الأمير خاص بك، وأخذ أمواله وألقاه للكلاب، وبلغ الخليفة أن واسط قد تخبطت أيضا، فركب إليها في الجيش في أبهة عظيمة، وأصلح شأنها، وكر على الكوفة والحلة، ثم عاد إلى بغداد فزينت له البلد.

وفيها: ملك عبد المؤمن صاحب المغرب بجاية وهي بلاد بني حماد، فكان آخر ملوكهم يحيى بن عبد العزيز بن حماد، ثم جهز عبد المؤمن جيشا إلى صنهاجة فحاصرها، وأخذ أموالها.

وفيها: كانت وقعة عظيمة بين نور الدين الشهيد وبين الفرنج، فكسرهم وقتل منهم خلقا، ولله الحمد.

وفيها: اقتتل السلطان سنجر وملك الغور علاء الدين الحسين ابن الحسين أول ملوكهم، فكسره سنجر وأسره، فلما أحضره بين يديه قال له: ماذا كنت تصنع بي لو أسرتني؟

فأخرج قيدا من فضة وقال: كنت أقيدك بهذا.

فعفى عنه وأطلقه إلى بلاده، فسار إلى غزنة فانتزعها من يد صاحبها بهرام شاه السبكتكيني، واستخلف عليها أخاه سيف الدين فغدر به أهل البلد وسلموه إلى بهرام شاه فصلبه، ومات بهرام شاه قريبا فسار إليه علاء الدين فهرب خسرو بن بهرام شاه عنها، فدخلها علاء الدين فنهبها ثلاثة أيام، وقتل من أهلها بشرا كثيرا، وسخر أهلها فحملوا ترابا في مخالي إلى محلة هنالك بعيدة عن البلد، فعمر من ذلك التراب قلعة معروفة إلى الآن.

وبذلك انقضت دولة بني سبكتكين عن بلاد غزنة وغيرها، وقد كان ابتداء أمرهم في سنة ست وستين وثلاثمائة إلى سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وكانوا من خيار الملوك، وأكثرهم جهادا في الكفرة، وأكثرهم أموالا ونساء وعددا وعُددا، وقد كسروا الأصنام وأبادوا الكفار، وجمعوا من الأموال ما لم يجمع غيرهم من الملوك، مع أن بلادهم كانت من أطيب البلاد وأكثرهم ريفا ومياها ففني جميعه وزال عنهم، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 22.

ثم ملك الغور والهند وخراسان، واتسعت ممالكهم وعظم سلطان علاء الدين بعد الأسر.

وحكى ابن الجوزي: أن في هذه السنة باض ديك بيضة واحدة، ثم باض بازي بيضتين، وباضت نعامة من غير ذكر، وهذا شيء عجيب.

من الأعيان:

المظفر بن أردشير أبو منصور العبادي

الواعظ، سمع الحديث ودخل إلى بغداد فأملى ووعظ، وكان الناس يكتبون ما يعظ به، فاجتمع له من ذلك مجلدات.

قال ابن الجوزي: لا تكاد تجد في المجلد خمس كلمات جيدة، وتكلم فيه وأطال الحط عليه، واستحسن من كلامه قوله وقد سقط مطر وهو يعظ الناس، وقد ذهب الناس إلى تحت الجدران فقال: لا تفروا من رشاش ماء رحمة قطر من سحاب نعمة، ولكن فروا من رشاش نار اقتدح من زناد الغضب.

توفي وقد جاوز الخمسين بقليل.

مسعود السلطان صاحب العراق وغيرها

حصل له من التمكن والسعادة شيء كثير لم يحصل لغيره، وجرت له خطوب طويلة كما تقدم بعض ذلك، وقد أسر في بعض حروبه الخليفة المسترشد كما تقدم، توفي يوم الأربعاء سلخ جمادى الآخرة منها.

يعقوب الخطاط الكاتب

توفي بالنظامية، فجاء ديوان الحشر ليأخذوا ميراثه فمنعهم الفقهاء، فجرت فتنة عظيمة آل الحال إلى عزل المدرس الشيخ أبي النجيب وضربه في الديوان تعزيرا.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة

فيها: وقع الحرب بين السلطان سنجر وبين الأتراك، فقتل الأتراك من جيشه خلقا كثيرا بحيث صارت القتلى مثل التلول العظيمة، وأسروا السلطان سنجر وقتلوا من كان معه من الأمراء صبرا، ولما أحضروه قاموا بين يديه وقبلوا الأرض له، وقالوا: نحن عبيدك.

وكانوا عدة من الأمراء الكبار من مماليكهم، فأقام عندهم شهرين ثم أخذوه وساروا به فدخلوا مرو، وهي كرسي مملكة خراسان، فسأله بعضهم أن يجعلها له إقطاعا، فقال سنجر هذا: لا يمكن، هذه كرسي المملكة.

فضحكوا منه وضرطوا به، فنزل عن سرير المملكة ودخل خانقاه، وصار فقيرا من جملة أهلها، وتاب عن الملك واستحوذ أولئك الأتراك على البلاد فنهبوها وتركوها قاعا صفصفا، وأفسدوا في الأرض فسادا عريضا، وأقاموا سليمان شاه ملكا، فلم تطل أيامه حتى عزلوه، وولوا ابن أخت سنجر الخاقان محمود بن كوخان، وتفرقت الأمور واستحوذ كل إنسان منهم على ناحية من تلك المماليك، وصارت الدولة دولا.

وفيها: كانت حروب كثيرة بين عبد المؤمن وبين العرب ببلاد المغرب.

وفيها: أخذت الفرنج مدينة عسقلان من ساحل غزة.

وفيها: خرج الخليفة إلى واسط في جحفل فأصلح شأنها وعاد إلى بغداد.

وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني.

وفيها كانت وفاة الشاعرين القرينين الشهيرين في الزمان الأخير:

بـ الفرزدق وجرير

وهما أبو الحسن أحمد بن منير الجوني بحلب، وأبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير القيسراني الحلبي بدمشق، وعلي بن السلار الملقب بالعادل وزير الظافر صاحب مصر، وهو باني المدرسة بالإسكندرية للشافعية للحافظ أبي طاهر السلفي، وقد كان العادل هذا ضد اسمه، كان ظلوما غشوما حطوما، وقد ترجمه ابن خلكان.

ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة

فيها: ركب الخليفة المقتفي في جيش كثيف إلى تكريت فحاصر قلعتها، ولقي هناك جمعا من الأتراك والتركمان، فأظفره الله بهم، ثم عاد إلى بغداد.

ملك السلطان نور الدين الشهيد بدمشق

وجاءت الأخبار بأن مصر قد قتل خليفتها الظافر، ولم يبق منهم إلا صبي صغير ابن خمس شهور، قد ولوه عليهم ولقبوه الفائز، فكتب الخليفة عهدا إلى نور الدين محمود بن زنكي بالولاية على بلاد الشام والديار المصرية، وأرسله إليها.

وفيها: هاجت ريح شديدة بعد العشاء فيها نار فخاف الناس أن تكون الساعة، وزلزلت الأرض وتغير ماء دجلة إلى الحمرة، وظهر بأرض واسط بالأرض دم لا يعرف ما سببه، وجاءت الأخبار عن الملك سنجر أنه في أسر الترك، وهو في غاية الذل والإهانة وأنه يبكي على نفسه كل وقت.

وفيها: انتزع نور الدين محمود دمشق من يد ملكها نور الدين أرتق، وذلك لسوء سيرته وضعف دولته، ومحاصرة العامة له في القلعة، مع وزيره مؤيد الدولة علي بن الصوفي، وتغلب الخادم عطاء على المملكة مع ظلمه وغشمه، وكان الناس يدعون ليلا ونهارا أن يبدلهم بالملك نور الدين.

واتفق مع ذلك أن الفرنج أخذوا عسقلان فحزن نور الدين على ذلك، ولا يمكنه الوصول إليهم، لأن دمشق بينه وبينهم، ويخشى أن يحاصروا دمشق فيشق على أهلها، ويخاف أن يرسل مجير الدين إلى الفرنج فيخذلونه كما جرى غير مرة، وذلك أن الفرنج لا يريدون أن يملك نور الدين دمشق فيقوى بها عليهم ولا يطيقونه، فأرسل بين يديه الأمير أسد الدين شيركوه في ألف فارس في صفة طلب الصلح، فلم يلتفت إليه مجير الدين ولا عده شيئا، ولا خرج إليه أحد من أعيان أهل البلد، فكتب إلى نور الدين بذلك.

فركب الملك نور الدين في جيشه فنزل عيون الفاسريا من أرض دمشق، ثم انتقل إلى قريب من الباب الشرقي، ففتحها قهرا ودخل من الباب الشرقي بعد حصار عشرة أيام، وكان دخوله في يوم الأحد عاشر صفر من هذه السنة، وتحصن مجير الدين في القلعة فأنزله منها وعوضه مدينة حمص ودخل نور الدين إلى القلعة واستقرت يده على دمشق، ولله الحمد.

ونادى في البلد بالأمان والبشارة بالخير، ثم وضع عنهم المكوس وقرئت عليهم التواقيع على المنابر، ففرح الناس بذلك وأكثروا الدعاء له، وكتب ملوك الفرنج إليه يهنونه بدمشق ويتقربون إليه ويخضعون له.

من الأعيان:

الرئيس مؤيد الدولة علي بن الصوفي

وزير دمشق لمجير الدين، وقد ثار على الملك غير مرة، واستفحل أمره، ثم يقع الصلح بينهما كما تقدم.

عطاء الخادم

أحد أمراء دمشق، وقد تغلب على الأمور بأمر مجير الدين، وكان ينوب على بعلبك في بعض الأحيان، وقد كان ظالما غاشما وهو الذي ينسب إليه مسجد عطاء خارج باب شرقي، والله أعلم.

ثم دخلت سنة خمسين وخمسمائة هجرية

فيها: خرج الخليفة في تجمل إلى دموقا فحاصرها فخرج إليه أهلها أن يرحل عنهم فإن أهلها قد هلكوا من الجيشين، فأجابهم ورحل عنهم، وعاد إلى بغداد بعد شهرين ونصف، ثم خرج نحو الحلة والكوفة والجيش بين يديه، وقال له سليمان شاه: أنا ولي عهد سنجر، فإن قررتني في ذلك وإلا فأنا كأحد الأمراء.

فوعده خيرا، وكان يحمل الغاشية بين يدي الخليفة على كاهله، فمهد الأمور ووطدها، وسلم على مشهد على إشارة بأصبعه، وكأنه خاف عليه غائلة الروافض أو أن يعتقد في نفسه من القبر شيئا أو غير ذلك، والله أعلم.

فتح بعلبك بيد نور الدين الشهيد

وفيها: افتتح نور الدين بعلبك عودا على بدء وذلك أن نجم الدين أيوب كان نائبا بها على البلد والقلعة فسلمها إلى رجل يقال له: الضحاك البقاعي، فاستحوذ عليها وكاتب نجم الدين لنور الدين، ولم يزل نور الدين يتلطف حتى أخذ القلعة أيضا واستدعى بنجم الدين أيوب إليه إلى دمشق فأقطعه إقطاعا حسنا، وأكرمه من أجل أخيه أسد الدين، فإنه كانت له اليد الطولى في فتح دمشق، وجعل الأمير شمس الدولة بوران شاه بن نجم الدين شحنة دمشق ثم من بعده جعل أخاه صلاح الدين يوسف هو الشحنة، وجعله من خواصه لا يفارقه حضرا ولا سفرا، لأنه كان حسن الشكل حسن اللعب بالكرة، وكان نور الدين يحب لعب الكرة لتدمين الخيل وتعليمها الكر والفر، وفي شحنة صلاح الدين يوسف يقول عرقلة: وهو حسان بن نمير الكلبي الشاعر:

رويدكم يا لصوص الشام ** فإني لكم ناصح في مقالي

فإياكم وسمي النبي يوسف ** رب الحجا والكمال

فذاك مقطّع أيدي النساء ** وهذا مقطّع أيدي الرجال

وقد ملك أخاه بوران شاه بلاد اليمن فيما بعد ذلك، وكان يلقب شمس الدولة.

من الأعيان:

محمد بن ناصر ابن محمد بن علي الحافظ

أبو الفضل البغدادي ولد ليلة النصف من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، وسمع الكثير، وتفرد بمشايخ، وكان حافظا ضابطا مكثرا من السنة كثير الذكر سريع الدمعة.

وقد تخرج به جماعة منهم أبو الفرج بن الجوزي، سمع بقراءته مسند أحمد وغيره من الكتب الكبار، وكان يثني عليه كثيرا، وقد رد على أبي سعد السمعاني في قوله: محمد بن ناصر يحب أن يقع في الناس.

قال ابن الجوزي: والكلام في الناس بالجرح والتعديل ليس من هذا القبيل وإنما ابن السمعاني يحب أن يتعصب على أصحاب الإمام أحمد، نعوذ بالله من سوء القصد والتعصب.

توفي محمد بن ناصر ليلة الثلاثاء الثامن عشر من شعبان منها، عن ثلاث وثمانين سنة، وصلّي عليه مرات، ودفن بباب حرب.

مجلي بن جميع أبو المعالي

المخزومي الأرسوفي ثم المصري قاضيها، الفقيه الشافعي، مصنف (الذخائر) وفيها غرائب كثيرة وهي من الكتب المفيدة.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة

في المحرم دخل السلطان سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه إلى بغداد وعلى رأسه الشمسية، فتلقاه الوزير ابن هبيرة وأدخله على الخليفة، فقبل الأرض وحلفه على الطاعة وصفاء النية والمناصحة والمودة، وخلع عليه خلع الملوك، وتقرر أن للخليفة العراق ولسليمان شاه ما يفتحه من خراسان، ثم خطب له ببغداد بعد الملك سنجر، ثم خرج منها في ربيع الأول فاقتتل هو والسلطان محمد بن محمود بن ملكشاه، فهزمه محمد وهزم عسكره، فذهب مهزوما فتلقاه نائب قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، فأسره وحبسه بقلعة الموصل، وأكرمه مدة حبسه وخدمه، وهذا من أغرب الاتفاقات.

وفيها: ملكت الفرنج المهدية من بلاد المغرب بعد حصار شديد.

وفيها: فتح نور الدين محمود بن زنكي قلعة تل حارم واقتلعها من أيدي الفرنج، وكانت من أحصن القلاع وأمنع البقاع، وذلك بعد قتال عظيم ووقعة هائلة كانت من أكبر الفتوحات، وامتدحه الشعراء عند ذلك.

وفيها: هرب الملك سنجر من الأسر وعاد إلى ملكه بمرو، وكان له في يد أعدائه نحو من خمس سنين.

وفيها: ولى عبد المؤمن ملك الغرب أولاده على بلاده، استناب كل واحد منهم على بلد كبير وإقليم متسع.

حصار بغداد

وسبب ذلك أن السلطان محمد بن محمود بن ملكشاه أرسل إلى المقتفي يطلب منه أن يخطب له في بغداد، فلم يجبه إلى ذلك، فسار من همذان إلى بغداد ليحاصرها فانجفل الناس وحصن الخليفة البلد، وجاء السلطان محمد فحصر بغداد، ووقف تجاه التاج من دار الخلافة في جحفل عظيم، ورموا نحوه النشاب، وقاتلت العامة مع الخليفة قتالا شديدا بالنفط وغيره، واستمر القتال مدة، فبينما هم كذلك إذ جاءه الخبر أن أخاه قد خلفه في همذان، فانشمر عن بغداد إليها في ربيع الأول من سنة اثنتين وخمسين، وتفرقت عنه العساكر الذين كانوا معه في البلاد، وأصاب الناس بعد ذلك القتال مرض شديد، وموت ذريع، واحترقت محال كثيرة من بغداد، واستمر ذلك فيها مدة شهرين.

وفيها: أطلق أبو الوليد البدر بن الوزير بن هبيرة من قلعة تكريت، وكان معتقلا فيها من مدة ثلاث سنين، فتلقاه الناس إلى أثناء الطريق، وامتدحه الشعراء، وكان من جملتهم الأبله الشاعر، أنشد الوزير قصيدة يقول في أولها:

بأي لسان للوشاة ألام ** وقد علموا أني سهرت وناموا؟

إلى أن قال:

ويستكثرون الوصل لي ليلة ** وقد مر عام بالصدود وعام

فطرب الوزير عند ذلك، وخلع عليه ثيابه وأطلق له خمسين دينارا.

وحج بالناس قيماز.

من الأعيان:

علي بن الحسين أبو الحسن الغزنوي الواعظ

كان له قبول كثير من العامة، وبنت له الخاتون زوجة المستظهر رباطا بباب الأزج، ووقفت عليه أوقافا كثيرة، وحصل له جاه عريض وزاره السلطان، وكان حسن الإيراد مليح الوعظ، يحضر مجلسه خلق كثير وجم غفير من أصناف الناس.

وقد ذكر ابن الجوزي أشياء من وعظه، قال: وسمعته يوما يقول: حزمة حزن خير من أعدال أعمال.

ثم أنشد:

كم حسرة لي في الحشا ** من ولد إذا نشا

أملت فيه رشده ** فما يشاء كما نشا

قال: وسمعته يوما ينشد:

يحسدني قومي على صنعتي ** لأنني في صنعتي فارس

سهرت في ليلي واستنعسوا ** وهل يستوي الساهر والناعس؟

قال: وكان يقول: تولون اليهود والنصارى فيسبون نبيكم في يوم عيدكم، ثم يصبحون يجلسون إلى جانبكم؟

ثم يقول: ألا هل بلغتُ؟

قال: وكان يتشيع، ثم سعى في منعه من الوعظ ثم أذن له، ولكن ظهر للناس أمر العبادي، وكان كثير من الناس يميلون إليه، وقد كان السلطان يعظمه ويحضر مجلسه، فلما مات السلطان مسعود ولي الغزنوي بعده، وأهين إهانة بالغة، فمرض ومات في هذه السنة.

قال ابن الجوزي: وبلغني أنه كان يعرق في نزعه ثم يفيق وهو يقول: رضىً وتسليم، ولما مات دفن في رباطه الذي كان فيه.

محمود بن إسماعيل بن قادوس

أبو الفتح الدمياطي، كاتب الإنشا بالديار المصرية، وهو شيخ القاضي الفاضل، كان يسميه ذا البلاغتين، وذكره العماد الكاتب في الجريدة.

ومن شعره فيمن يكرر التكبير ويوسوس في نية الصلاة في أولها:

وفاتر النية عنينها ** مع كثرة الرعدة والهمزة

يكبر التسعين في مرة ** كأنه يصلي على حمزة

الشيخ أبو البيان

بنا بن محمد المعروف بابن الحوراني، الفقيه الزاهد العابد الفاضل الخاشع، قرأ القرآن وكتاب (التنبيه) على مذهب الشافعي، وكان حسن المعرفة باللغة، كثير المطالعة، وله كلام يؤثر عنه، ورأيت له كتابا بخطه فيه النظائم التي يقولها أصحابه وأتباعه بلهجة غريبة، وقد كان من نشأته إلى أن توفي على طريقة صالحة، وقد زاره الملك نور الدين محمود في رباطه داخل درب الحجر، ووقف عليه شيئا، وكانت وفاته يوم الثلاثاء ثالث ربيع الأول من هذه السنة، ودفن بمقابر الباب الصغير، وكان يوم جنازته يوما مشهودا، وقد ذكرته في (طبقات الشافعية)، رحمه الله.

عبد الغافر بن إسماعيل ابن عبد القادر بن محمد بن عبد الغافر بن أحمد بن سعيد

الفارسي الحافظ، تفقه بإمام الحرمين وسمع الكثير على جده لأمه أبي القاسم القشيري، ورحل إلى البلاد وأسمع، وصنف (المفهم) في غريب مسلم وغيره، وولي خطابة نيسابور، وكان فاضلا دينا حافظا.

ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين وخمسمائة

استهلت هذه السنة ومحمد شاه بن محمود محاصر بغداد والعامة والجند من جهة الخليفة المقتفي يقاتلون أشد القتال، والجمعة لا تقام لعذر القتال، والفتنة منتشرة، ثم يسر الله بذهاب السلطان، كما تقدم في السنة التي قبلها، وقد بسط ذلك ابن الجوزي في هذه السنة فطول.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة بالشام، هلك بسببها خلق كثير لا يعلمهم إلا الله، وتهدم أكثر حلب وحماه وشيزر وحمص وكفر طاب وحصن الأكراد واللاذقية والمعرة وفامية وإنطاكية وطرابلس.

قال ابن الجوزي: وأما شيزر فلم يسلم منها إلا امرأة وخادم لها، وهلك الباقون، وأما كفر طاب فلم يسلم من أهلها أحد، وأما فامية فساحت قلعتها، وتل حران انقسم نصفين فأبدى نواويس وبيوتا كثيرة في وسطه.

قال: وهلك من مدائن الفرنج شيء كثير، وتهدم أسوار أكثر مدن الشام، حتى أن مكتبا من مدينة حماه انهدم على من فيه من الصغار فهلكوا عن آخرهم، فلم يأت أحد يسأل عن أحد منهم، وقد ذكر هذا الفصل الشيخ أبو شامة في كتاب (الروضتين) مستقصى، وذكر ما قاله الشعراء من القصائد في ذلك.

وفيها: ملك السلطان محمود بن محمد بعد خاله سنجر جميع بلاده.

وفيها: فتح السلطان محمود بن زنكي حصن شيزر بعد حصار، وأخذ مدينة بعلبك، وكان بها الضحاك البقاعي، وقد قيل: إن ذلك كان في سنة خمسين كما تقدم فالله أعلم، وقد تقدم ذلك.

وفيها: مرض نور الدين فمرض الشام بمرضه ثم عوفي ففرح المسلمون فرحا شديدا، واستولى أخوه قطب الدين مودود صاحب الموصل على جزيرة ابن عمر.

وفيها: عمل الخليفة بابا للكعبة مصفحا بالذهب، وأخذ بابها الأول فجعله لنفسه تابوتا.

وفيها: أغارت الإسماعيلية على حجاج خراسان فلم يبقوا منهم أحدا، لا زاهدا ولا عالما.

وفيها: كان غلاء شديد بخراسان حتى أكلوا الحشرات، وذبح إنسان منهم رجلا علويا فطبخه وباعه في السوق، فحين ظهر عليه قتل.

وذكر أبو شامة: أن فتح بانياس كان في هذه السنة على يد نور الدين بنفسه، وقد كان معين الدين سلمها إلى الفرنج حين حاصروا دمشق، فعوضهم بها، وقيل: ملكها وغنم شيئا كثيرا.

وفيها: قدم الشيخ أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي، فسمعوا عليه البخاري في دار الوزير ببغداد.

وحج بالناس قيماز.

من الأعيان:

أحمد بن محمد ابن عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل

أبو الليث النسفي من أهل سمرقند، سمع الحديث وتفقه ووعظ، وكان حسن السمت، قدم بغداد فوعظ الناس، ثم عاد إلى بلده فقتله قطاع الطريق، رحمه الله تعالى.

أحمد بن بختيار ابن علي بن محمد

أبو العباس المارداني الواسطي قاضيها، سمع الحديث وكانت له معرفة تامة في الأدب واللغة، وصنف كتبا في التاريخ وغير ذلك، وكان ثقة صدوقا توفي ببغداد وصلي عليه بالنظامية.

السلطان سنجر ابن الملك شاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق

أبو الحارث واسمه أحمد، ولقب بسنجر، مولده في رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وأقام في الملك نيفا وستين سنة، من ذلك استقلالا إحدى وأربعين سنة، وقد أسره الغز نحوا من خمس سنين، ثم هرب منهم وعاد إلى ملكه بمرو، ثم توفي في ربيع الأول من هذه السنة ودفن في قبة بناها سماها دار الآخرة، رحمه الله.

محمد بن عبد اللطيف ابن محمد بن ثابت

أبو بكر الخجندي الفقيه الشافعي، ولي تدريس النظامية ببغداد، وكان يناظر حسنا ويعظ الناس وحوله السيوف مسللة.

قال ابن الجوزي: ولم يكن ماهرا في الوعظ، وكانت حاله أشبه بالوزراء من العلماء، وتقدم عند السلاطين حتى كانوا يصدرون عن رأيه، توفي بأصبهان فجأة فيها.

محمد بن المبارك ابن محمد بن الخل أبو الحسن بن أبي البقاء

سمع الحديث وتفقه على الشاشي، ودرس وأفتى، وتوفي في محرم هذه السنة، وتوفي أخوه الشيخ أبوالحسين بن الخل الشاعر في ذي القعدة منها.

يحيى بن عيسى ابن إدريس أبو البركات الأنباري الواعظ

قرأ القرآن وسمع الحديث وتفقه ووعظ الناس على طريقة الصالحين، وكان يبكي من أول صعوده إلى حين نزوله، وكان زاهدا عابدا ورعا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، ورزق أولادا صالحين سماهم بأسماء الخلفاء الأربعة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحفظهم القرآن كلهم بنفسه، وختم خلقا كثيرا، وكان هو وزوجته يصومان الدهر، ويقومان الليل، ولا يفطران إلا بعد العشاء، وكانت له كرامات ومنامات صالحة، ولما مات قالت زوجته: اللهم لا تحيني بعده.

فماتت بعده بخمسة عشر يوما، وكانت من الصالحات، رحمهما الله تعالى.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة

فيها: كثر فساد التركمان من أصحاب ابن برجم الإيواني، فجهز إليهم الخليفة منكورس المسترشدي في جيش كثيف، فالتقوا معهم فهزمهم أقبح هزيمة، وجاؤوا بالأسارى والرؤوس إلى بغداد.

وفيها: كانت وقعة عظيمة بين السلطان محمود وبين الغز، فكسروه ونهبوا البلاد، وأقاموا بمرو ثم طلبوه إليهم فخاف على نفسه فأرسل ولده بين يديه فأكرموه، ثم قدم السلطان عليهم فاجتمعوا عليه وعظموه.

وفيها: وقعت فتنة كبيرة بمرو بين فقيه الشافعية المؤيد بن الحسين، وبين نقيب العلويين بها أبي القاسم زيد بن الحسن، فقتل منهم خلق كثير، وأحرقت المدارس والمساجد والأسواق، وانهزم المؤيد الشافعي إلى بعض القلاع.

وفيها: ولد الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله.

وفيها: خرج المقتفي نحو الأنبار متصيدا وعبر الفرات وزار الحسين ومضى إلى واسط وعاد إلى بغداد، ولم يكن معه الوزير.

وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني.

وفيها: كسر جيش مصر الفرنج بأرض عسقلان كسروهم كسرة فجيعة صحبة الملك صالح أبو الغارات، فارس الدين طلائع بن رزيك، وامتدحه الشعراء.

وفيها: قدم الملك نور الدين من حلب إلى دمشق وقد شفي من المرض ففرح به المسلمون، وخرج إلى قتال الفرنج، فانهزم جيشه وبقي هو في شرذمة قليلة من أصحابه في نحر العدو، فرموهم بالسهام الكثيرة، ثم خاف الفرنج أن يكون وقوفه في هذه الشرذمة القليلة خديعة لمجيء كمين إليهم، ففروا منهزمين، ولله الحمد.

من الأعيان:

عبد الأول بن عيسى ابن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق

أبو الوقت السجزي الصوفي الهروي، راوي البخاري ومسند الدارمي، والمنتخب من مسند عبد بن حميد، قدم بغداد فسمع عليه الناس هذه الكتب، وكان من خيار المشايخ وأحسنهم سمتا وأصبرهم على قراءة الحديث.

قال ابن الجوزي: أخبرني أبو عبد الله محمد بن الحسين التكريتي الصوفي قال: أسندته إليّ فمات، وكان آخر ما تكلم به أن قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ** بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} 23.

نصر بن منصور ابن الحسين بن أحمد بن عبد الخالق العطار

أبو القاسم الحراني كان كثير المال، يعمل من صدقاته المعروف الكثير من أنواع القربات الحسنة، ويكثر تلاوة القرآن، ويحافظ على الصلوات في الجماعة، ورُؤيت له منامات صالحة، وقارب الثمانين، رحمه الله.

يحيى بن سلامة ابن الحسين أبو الفضل الشافعي

الحصكفي نسبة إلى حصن كيف، كان إماما في علوم كثيرة من الفقه والآداب، ناظما ناثرا، غير أنه كان ينسب إلى الغلو في التشيع، وقد أورد له ابن الجوزي قطعة من نظمه، فمن ذلك قوله في جملة قصيدة له:

تقاسموا يوم الوداع كبدي ** فليس لي منذ تولوا كبد

على الجفون رحلوا في الحشاء ** نزلوا وماء عيني وردوا

وأدمعي مسفوحة وكبدي ** مقروحة وعلتي ما قد بدوا

وصبوتي دائمة ومقلتي ** دامية ونومها مشرد

تيّمني منهم غزال أغيد ** يا حبذا ذاك الغزال الأغيد

حسامه مجرد وصرحه ** ممرد وخده مورّد

وصدغه فوق احمرار خده ** مبلبل معقرب مجعد

كأنما نكهته وريقه ** مسك وخمر والثنايا بَرَد

يقعده عند القيام ردفه ** وفي الحشا منه المقيم المقعد

له قوام كقضيب بانة ** يهتز قصدا ليس فيه أود


وهي طويلة جدا، ثم خرج من هذا التغزل إلى مدح أهل البيت والأئمة الاثني عشر، رحمهم الله:

وسائلي عن حب أهل البيت ** هل أقر إعلانا به أم أجحد

هيهات ممزوج بلحمي ودمي ** حبهم هو الهدى والرشد

حيدرة والحسنان بعده ** ثم علي وابنه محمد

وجعفر الصادق وابن جعفر ** موسى ويتلوه علي السيد

أعني الرضى ثم ابنه محمد ** ثم علي وابنه المسدد

والحسن الثاني ويتلو تلوه ** محمد بن الحسن المفتقد

فإنهم أئمتي وسادتي ** وإن لحاني معشر وفندوا

أئمة أكرم بهم أئمة ** أسماؤهم مسرودة تطرد

هم حجج الله على عباده ** وهم إليه منهج ومقصد

قوم لهم فضل ومجد باذخ ** يعرفه المشرك والموحد

قوم لهم في كل أرض مشهد ** لا بل لهم في كل قلب مشهد

قوم مني والمعشران لهم ** والمروتان لهم والمسجد

قوم لهم مكة والأبطح والخـ ** ـيف وجمع والبقيع الغرقد

ثم ذكر بلطف مقتل الحسين بألطف عبارة إلى أن قال:

يا أهل بيت المصطفى يا ** عدتي ومن على حبهم أعتمد

أنتم إلى الله غدا وسيلتي ** وكيف أخشى وبكم أعتضد

وليكم في الخلد حي خالد ** والضد في نار لظى مخلد

ولست أهواكم ببغض غيركم ** إني إذا أشقى بكم لا أسعد

فلا يظن رافضي أنني ** وافقته أو خارجي مفسد

محمد والخلفاء بعده ** أفضل خلق الله فيما أجد

هم أسسوا قواعد الدين لنا ** وهم بنوا أركانه وشيدوا

ومن يخن أحمد في أصحابه ** فخصمه يوم المعاد أحمد

هذا اعتقادي فالزموه تفلحوا ** هذا طريقي فاسلكوه تهتدوا

والشافعي مذهبي مذهبه ** لأنه في قوله مؤيد

اتبعته في الأصل والفرع معا ** فليتبعني الطالب المرشد

إني بإذن الله ناج سابق ** إذا ونى الظالم ثم المفسد

ومن شعره أيضا:

إذا قل مالي لم تجدني جازعا ** كثير الأسى معرى بعض الأنامل

ولا بطرا إن جدد الله نعمة ** ولو أن ما أوتي جميع الناس لي

ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة

مرض الخليفة المقتفي مرضا شديدا، ثم عوفي فزينت بغداد أياما، وتصدق بصدقات كثيرة.

وفيها: استعاد عبد المؤمن مدينة المهدية من أيدي الفرنج، وقد كانوا أخذوها من المسلمين في سنة ثلاث وأربعين.

وفيها: قاتل عبد المؤمن خلقا كثيرا من الغرب حتى صارت عظام القتلى هناك كالتل العظيم.

وفي صفر منها سقط برد بالعراق كبار، زنة البردة قريب من خمسة أرطال، ومنها ما هو تسعة أرطال بالبغدادي، فهلك بذلك شيء كثير من الغلات، وخرج الخليفة إلى واسط فاجتاز بسوقها ورأى جامعها، وسقط عن فرسه فشج جبينه، ثم عوفي.

وفي ربيع الآخر زادت دجلة زيادة عظيمة، فغرق بسبب ذلك محال كثيرة من بغداد، حتى صار أكثر الدور بها تلولا، وغرقت تربة أحمد، وخسفت هناك القبور، وطفت الموتى على وجه الماء.

قاله ابن الجوزي: وفي هذه السنة كثر المرض والموت.

وفيها: أقبل ملك الروم في جحافل كثيرة قاصدا بلاد الشام فرده الله خائبا خاسئا، وذلك لضيق حالهم من الميرة، وأسر المسلمون ابن أخته، ولله الحمد.

وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني.

من الأعيان:

أحمد بن معالي ابن بركة الحربي

تفقه بأبي الخطاب الكلوذاني الحنبلي، وبرع وناظر ودرس وأفتى، ثم صار بعد ذلك شافعيا، ثم عاد حنبليا، ووعظ ببغداد وتوفي في هذه السنة، وذلك أنه دخلت به راحلته في مكان ضيق فدخل قربوس سرجه في صدره فمات.

السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه

لما رجع من محاصرة بغداد إلى همذان أصابه مرض السل فلم ينجح منه، بل توفي في ذي الحجة منها، وقبل وفاته بأيام أمر أن يعرض عليه جميع ما يملكه ويقدر عليه، وهو جالس في المنظرة، فركب الجيش بكماله وأحضرت أمواله كلها، ومماليكه حتى جواريه وحظاياه، فجعل يبكي ويقول: هذه العساكر لا يدفعون عني مثقال ذرة من أمر ربي، ولا يزيدون في عمري لحظة.

ثم ندم وتأسف على ما كان منه إلى الخليفة المقتفي، وأهل بغداد وحصارهم وأذيتهم، ثم قال: وهذه الخزائن والأموال والجواهر لو قبلهم ملك الموت مني فداء لجدت بذلك جميعه له، وهذه الحظايا والجواري الحسان والمماليك لو قبلهم فداء مني لكنت بذلك سمحا له.

ثم قال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ** هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} 24 ثم فرق شيئا كثيرا من ذلك من تلك الحواصل والأموال، وتوفي عن ولد صغير، واجتمعت العساكر والأمراء على عمه سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه، وكان مسجونا بالموصل فأفرج عنه وانعقدت له السلطنة، وخطب له على منابر تلك البلاد سوى بغداد والعراق، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة

فيها: كانت وفاة الخليفة المقتفي بأمر الله.

أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله

مرض بالتراقي وقيل: بدمل خرج بحلقه، فمات ليلة الأحد ثاني ربيع الأول منها عن ست وستين سنة إلا ثمانية وعشرين يوما، ودفن بدار الخلافة، ثم نقل إلى الترب، وكانت خلافته أربعا وعشرين سنة وثلاثة أشهر وستة وعشرين يوما، وكان شهما شجاعا مقداما، يباشر الأمور بنفسه، ويشاهد الحروب ويبذل الأموال الكثيرة لأصحاب الأخبار، وهو أول من استبد بالعراق منفردا عن السلطان، من أول أيام الديلم إلى أيامه، وتمكن في الخلافة وحكم على العسكر والأمراء.

وقد وافق أباه في أشياء: من ذلك مرضه بالتراقي، وموته في ربيع الأول، وتقدم موت السلطان محمد شاه قبله بثلاثة أشهر، وكذلك أبوه المستظهر مات قبله السلطان محمود بثلاثة أشهر وبعد غرق بغداد بسنة مات أبوه، وكذلك هذا.

قال عفيف الناسخ: رأيت في المنام قائلا يقول: إذا اجتمعت ثلاث خاآت مات المقتفي يعني: خمسا وخمسين وخمسمائة.

خلافة المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفي

لما توفي أبوه كما ذكرنا بويع بالخلافة في صبيحة يوم الأحد ثاني ربيع الأول من هذه السنة، بايعه أشراف بني العباس، ثم الوزير والقضاة والعلماء والأمراء وعمره يومئذ خمس وأربعون سنة، وكان رجلا صالحا، وكان ولي عهد أبيه من مدة متطاولة، ثم عمل عزاء أبيه، ولما ذكر اسمه يوم الجمعة في الخطبة نثرت الدراهم والدنانير على الناس، وفرح المسلمون به بعد أبيه، وأقر الوزير ابن هبيرة على منصبه ووعده بذلك إلى الممات، وعزل قاضي القضاة ابن الدامغاني وولى مكانه أبا جعفر بن عبد الواحد، وكان شيخا كبيرا، له سماع بالحديث، وباشر الحكم بالكوفة، ثم توفي في ذي الحجة منها.

وفي شوال من هذه السنة اتفق الأتراك بباب همذان على سليمان شاه، وخطبوا لأرسلان شاه بن طغرل.

وفيها توفي:

الفائز خليفة مصر الفاطمي

وهو أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر، توفي في صفر منها وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة، ومدة ولايته من ذلك ست سنين وشهران، وكان مدبر دولته أبو الغارات، ثم قام بعده العاضد آخر خلفائهم، وهو أبو محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ، ولم يكن أبوه خليفة، وكان يومئذ قد ناهز الاحتلام، فقام بتدبير مملكته الملك الصالح طلائع بن رزيك الوزير، أخذ له البيعة وزوجه بابنته، وجهزها بجهاز عظيم يعجز عنه الوصف، وقد عمرت بعد زوجها العاضد ورأت زوال دولة الفاطميين على يد الملك صلاح الدين بن يوسف، في سنة أربع وستين كما سيأتي.

وفيها كانت وفاة السلطان الكبير صاحب غزنة

خسروشاه بن ملكشاه

ابن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن محمود بن سبكتكين، من بيت ملك ورياسة باذخة، يرثونها كابرا عن كابر، وكان من سادات الملوك وأحسنهم سيرة، يحب العلم وأهله، توفي في رجب منها، وقام بعده ولده ملكشاه، فسار إليه علاء الدين الحسين بن الغور فحاصر غزنة فلم يقدر عليها ورجع خائبا.

وفيها مات:

ملكشاه بن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه

السلجوقي بأصبهان مسموما، فيقال: إن الوزير عون الدين بن هبيرة دس إليه من سقاه إياه، والله أعلم.

وفيها مات: أمير الحاج

قيماز بن عبد الله الأرجواني

سقط عن فرسه وهو يلعب بالكرة بميدان الخليفة، فسال دماغه من أذنه فمات من ساعته، وقد كان من خيار الأمراء، فتأسف الناس عليه، وحضر جنازته خلق كثير، مات في شعبان منها، فحج بالناس فيها الأمير برغش مقطع الكوفة.

وحج الأمير الكبير شيركوه بن شاذي، مقدم عساكر الملك نور الدين، وتصدق بأموال كثيرة.

وفيها: استعفى القاضي زكي الدين أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى أبو الحسن القرشي من القضاء بدمشق، فأعفاه نور الدين، وولى مكانه القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري، وكان من خيار القضاة وأكثرهم صدقة، وله صدقات جارية بعده، وكان عالما وإليه ينسب الشباك الكمالي الذي يجلس فيه الحكام بعد صلاة الجمعة من المشهد الغربي بالجامع الأموي، والله أعلم.

من الأعيان:

الأمير مجاهد الدين نزار بن مامين الكردي

أحد مقدمي جيش الشام، قبل نور الدين وبعده، وقد ناب في مدينة صرخد، وكان شهما شجاعا كثير البر والصدقات، وهو واقف المدرسة المجاهدية بالقرب من الغورية جوار الخيميين، وله أيضا المدرسة المجاهدية داخل باب الفراديس البراني، وبها قبره.

وله السبع المجاهدي داخل باب الزيادة من الجامع بمقصورة الخضر، توفي بداره في صفر منها، فحمل إلى الجامع وصلي عليه ثم أعيد إلى مدرسته ودفن بها داخل باب الفراديس، وتأسف الناس عليه.

الشيخ عدي بن مسافر

ابن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان الهكاري، شيخ الطائفة العدوية، أصله من البقاع غربي دمشق، من قرية بيت نار، ثم دخل إلى بغداد فاجتمع فيها بالشيخ عبد القادر والشيخ حماد الدباس، والشيخ عقيل المنبجي، وأبي الوفا الحلواني، وأبي النجيب السهروردي وغيرهم، ثم انفرد عن الناس وتخلى بجبل هكار وبنى له هناك زاوية واعتقده أهل تلك الناحية اعتقادا بليغا، حتى إن منهم من يغلو غلوا كثيرا منكرا ومنهم من يجعله إلها أو شريكا، وهذا اعتقاد فاحش يؤدي إلى الخروج من الدين جملة.

مات في هذه السنة بزاويته وله سبعون سنة، رحمه الله.

عبد الواحد بن أحمد ابن محمد بن حمزة، أبو جعفر الثقفي

قاضي قضاة بغداد، وليها بعد أبي الحسن الدامغاني في أول هذه السنة، وكان قاضيا بالكوفة قبل ذلك، توفي في ذي الحجة منها وقد ناهز الثمانين، وولي بعده ابنه جعفر.

والفائز صاحب مصر، وقيماز تقدما في الحوادث.

محمد بن يحيى ابن علي بن مسلم أبو عبد الله الزبيدي

ولد بمدينة زبيد باليمن سنة ثمانين تقريبا، وقدم بغداد سنة تسع وخمسمائة، فوعظ وكانت له معرفة بالنحو والأدب، وكان صبورا على الفقر لا يشكو حاله إلى أحد، وكانت له أحوال صالحة رحمه الله، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائة

فيها: قتل السلطان سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه، وكان عنده استهزاء وقلة مبالاة بالدين، مدمن شرب الخمر في رمضان، فثار عليه مدبر مملكته يزديار الخادم فقتله، وبايع بعده السلطان أرسلان شاه بن طغرل بن محمد بن ملكشاه.

وفيها: قتل الملك الصالح فارس الدين أبو الغارات طلائع بن رزيك الأرمني، وزير العاضد صاحب مصر، ووالد زوجته، وكان قد حجر على العاضد لصغره واستحوذ على الأمور والحاشية، ووزر بعده ولده رزيك، ولقب بالعادل.

وقد كان أبوه الصالح كريما أديبا، يحب أهل العلم ويحسن إليهم، كان من خيار الملوك والوزراء، وقد امتدحه غير واحد من الشعراء.

قال ابن خلكان: كان أولا متوليا بمنية بني الخصيب، ثم آل به الحال إلى أن صار وزير العاضد والفائز قبله، ثم قام في الوزارة بعده ولده العادل رزيك بن طلائع، فلم يزل فيها حتى انتزعها منه شاور كما سيأتي.

قال: والصالح هذا هو باني الجامع عند باب زويلة ظاهر القاهرة.

قال: ومن العجائب أنه ولي الوزارة في تاسع عشر شهر، ونقل من دار الوزارة إلى القرافة في تاسع عشر شهر، وزالت دولتهم في تاسع عشر شهر آخر.

قال: ومن شعره ما رواه عنه زين الدين علي بن نجا الحنبلي:

مشيبك قد محى صنع الشباب ** وحل الباز في وكر الغراب

تنام ومقلة الحدثان يقظى ** وما ناب النوائب عنك ناب

وكيف نفاد عمرك وهو كنز ** وقد أنفقت منه بلا حساب

وله:

كم ذا يرينا الدهر من أحداثه ** عبرا وفينا الصد والإعراض

ننسى الممات وليس يجري ذكره ** فينا فتذكرنا به الأمراض

ومن شعره أيضا قوله:

أبى الله إلا أن يدوم لنا الدهر ** ويخدمنا في ملكنا العز والنصر

علمنا بأن المال تفنى ألوفه ** ويبقى لنا من بعده الأجر والذكر

خلطنا الندى بالبأس حتى كأننا ** سحاب لديه البرق والرعد والقطر

وله أيضا وهو مما نظمه قبل موته بثلاث ليال:

نحن في غفلة ونوم وللمو ** ت عيون يقظانة لا تنام

قد رحلنا إلى الحمام سنينا ** ليت شعري متى يكون الحمام؟

ثم قتله غلمان العاضد في النهار غيلة وله إحدى وستون سنة، وخلع على ولده العادل بالوزارة، ورثاه عمارة التميمي بقصائد حسان، ولما نقل إلى تربته بالقرافة سار العاضد معه حتى وصل إلى قبره فدفنه في التابوت.

قال ابن خلكان: فعمل الفقيه عمارة في التابوت قصيدة فجار فيها في قوله:

وكأنه تابوت موسى أودعت ** في جانبيه سكينة ووقار

وفيها: كانت وقعة عظيمة بين بني خفاجة وأهل الكوفة، فقتلوا من أهل الكوفة خلقا، منهم الأمير قيصر وجرحوا أمير الحاج برغش جراحات، فنهض إليهم وزير الخلافة عون الدين بن هبيرة، فتبعهم حتى أوغل خلفهم في البرية في جيش كثيف، فبعثوا يطلبون العفو.

وفيها: ولي مكة الشريف عيسى بن قاسم بن أبي هاشم، وقيل: قاسم بن أبي فليتة بن قاسم بن أبي هاشم.

وفيها: أمر الخليفة بإزالة الدكاكين التي تضيق الطرقات، وأن لا يجلس أحد من الباعة في عرض الطريق، لئلا يضر ذلك بالمارة.

وفيها: وقع رخص عظيم ببغداد جدا.

وفيها: فتحت المدرسة التي بناها ابن الشمحل في المأمونية، ودرس فيها أبو حكيم إبراهيم بن دينار النهرواني الحنبلي، وقد توفي من آخر هذه السنة، ودرس بعده فيها أبو الفرج بن الجوزي، وقد كان عنده معيدا، ونزل عن تدريس آخر بباب الأزج عند موته.

من الأعيان:

حمزة بن علي بن طلحة

أبو الفتوح الحاجب، كان خصيصا عند المسترشد والمقتفي، وقد بنى مدرسة إلى جانب داره، وحج فرجع متزهدا، ولزم بيته معظما نحوا من عشرين سنة، وقد امتدحه الشعراء فقال فيه بعضهم:

يا عضد الإسلام يا من سمت ** إلى العلا همته الفاخرة

كانت لك الدنيا فلم ترضها ** ملكا فأخلدت إلى الآخرة

ثم دخلت سنة سبع وخمسين وخمسمائة

فيها: دخلت الكرج بلاد المسلمين فقتلوا خلقا من الرجال وأسروا من الذراري، فاجتمع ملوك تلك الناحية: ايلدكز صاحب أذربيجان، وابن سكمان صاحب خلاط، وابن آقسنقر صاحب مراغة، وساروا إلى بلادهم في السنة الآتية فنهبوها، وأسروا ذراريهم، والتقوا معهم فكسروهم كسرة فظيعة منكرة، مكثوا يقتلون فيهم ويأسرون ثلاثة أيام.

وفي رجب أعيد يوسف الدمشقي إلى تدريس النظامية بعد عزل ابن نظام الملك بسبب أن امرأة ادعت أنه تزوجها فأنكر ثم اعترف، فعزل عن التدريس.

وفيها: كملت المدرسة التي بناها الوزير ابن هبيرة بباب البصرة، ورتب فيها مدرسا وفقيها.

وحج بالناس أمير الكوفة برغش.

من الأعيان:

شجاع شيخ الحنفية

ودفن عند المشهد، وكان شيخ الحنفية بمشهد أبي حنيفة، وكان جيد الكلام في النظر، أخذ عنه الحنفية.

صدقة بن وزير الواعظ

دخل بغداد ووعظ بها وأظهر تقشفا، وكان يميل إلى التشيع وعلم الكلام، ومع هذا كله راج عند العوام وبعض الأمراء، وحصل له فتوح كثير، ابتنى منه رباطا ودفن فيه، سامحه الله تعالى.

زمرد خاتون

بنت جاولي أخت الملك دقماق بن تتش لأمه، وهي بانية الخاتونية ظاهر دمشق عند قرية صنعاء بمكان يقال له: تل الثعالب، غربي دمشق، على جانب الشرق القبلي بصنعاء الشام، وهي قرية معروفة قديما، وأوقفتها على الشيخ برهان الدين علي بن محمد البلخي الحنفي المتقدم ذكره.

وكانت زوجة الملك بوري بن طغتكين، فولدت له ابنيه شمس الملوك إسماعيل المذكور، وقد ملك بعد أبيه وسار سيرته، ومالأ الفرنج على المسلمين وهم بتسليم البلد والأموال إليهم فقتلوه، وتملك أخوه وذلك بعد مراجعتها ومساعدتها، وقد كانت قرأت القرآن، وسمعت الحديث، وكانت حنفية المذهب تحب العلماء والصالحين، وقد تزوجها الأتابكي زنكي صاحب حلب طمعا في أن يأخذ بسببها دمشق فلم يظفر بذلك، بل ذهبت إليه إلى حلب ثم عادت إلى دمشق بعد وفاته، وقد دخلت بغداد وسارت من هناك إلى الحجاز، وجاورت بمكة سنة، ثم جاءت فأقامت بالمدينة النبوية حتى ماتت بها ودفنت بالبقيع في هذه السنة، وقد كانت كثيرة البر والصدقات والصلاة والصوم.

قال السبط: ولم تمت حتى قل ما بيدها، وكانت تغربل القمح والشعير وتتقوت بأجرته، وهذا من تمام الخير والسعادة وحسن الخاتمة، رحمها الله تعالى، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة

فيها: مات صاحب المغرب عبد المؤمن بن علي التومرتي، وخلفه في الملك من بعده ابنه يوسف وحمل أباه إلى مراكش على صفة أنه مريض، فلما وصلها أظهر موته فعزاه الناس وبايعوه على الملك من بعد أبيه، ولقبوه أمير المؤمنين.

وقد كان عبد المؤمن هذا حازما شجاعا جوادا معظما للشريعة، وكان من لا يحافظ على الصلوات في زمانه يقتل، وكان إذا أذن المؤذن وقبل الأذان يزدحم الخلق في المساجد، وكان حسن الصلاة ذا طمأنينة فيها، كثير الخشوع، ولكن كان سفاكا للدماء حتى على الذنب الصغير، فأمره إلى الله يحكم فيه بما يشاء.

وفيها: قتل سيف الدين محمد بن علاء الدين الغزي، قتله الغز، وكان عادلا.

وفيها: كبست الفرنج نور الدين وجيشه، فانهزم المسلمون لا يلوي أحد على أحد، ونهض الملك نور الدين فركب فرسه والشبحة في رجله فنزل رجل كردي فقطعها، فسار نور الدين فنجا، وأدركت الفرنج ذلك الكردي فقتلوه، رحمه الله، فأحسن نور الدين إلى ذريته، وكان لا ينسى ذلك له.

وفيها: أمر الخليفة بإجلاء بني أسد عن الحلة وقتل من تخلف منهم، وذلك لإفسادهم ومكاتبتهم السلطان محمد شاه، وتحريضهم له على حصار بغداد، فقتل من بني أسد أربعة آلاف، وخرج الباقون منها، وتسلم نواب الخليفة الحلة.

وحج بالناس فيها الأمير برغش الكبير.

من الأعيان:

السلطان الكبير أبو محمد عبد المؤمن بن علي

القيسي الكوفي تلميذ ابن التومرت، كان أبوه يعمل في الطين فاعلا، فحين وقع نظر ابن التومرت عليه أحبه وتفرس فيه أنه شجاع سعيد، فاستصحبه فعظم شأنه، والتفت عليه العساكر التي جمعها ابن التومرت من المصامدة وغيرهم، وحاربوا صاحب مراكش علي بن يوسف بن تاشفين، ملك الملثمين.

واستحوذ عبد المؤمن على وهران وتلمسان وفاس وسلا وسبتة، ثم حاصر مراكش أحد عشر شهرا فافتتحها في سنة ثنتين وأربعين وخمسمائة، وتمهدت له الممالك هنالك، وصفا له الوقت وكان عاقلا وقورا شكلا حسنا محبا للخير، توفي في هذه السنة ومكث في الملك ثلاثا وثلاثين سنة، وكان يسمي نفسه أمير المؤمنين، رحمه الله.

طلحة بن علي ابن طراد، أبو أحمد الزينبي

نقيب النقباء، مات فجأة وولي النقابة بعده ولده أبو الحسن علي وكان أمرد فعزل وصودر في هذه السنة.

محمد بن عبد الكريم ابن إبراهيم، أبو عبد الله المعروف بابن الأنباري

كاتب الإنشاء ببغداد، كان شيخا حسنا ظريفا وانفرد بصناعة الإنشاء، وبعث رسولا إلى الملك سنجر وغيره، وخدم الملوك والخلفاء، وقارب التسعين.

ومن شعره في محبي الدنيا والصور:

يا من هجرت ولا تبالي ** هل ترجع دولة الوصال

هل أطمع يا عذاب قلبي ** أن ينعم في هواك بالي

ما ضرك أن تعلليني ** في الوصل بموعد المحال

أهواك وأنت حظ غيري ** يا قاتلتي فما احتيالي

أيام عنائي قبل سود ** ما أشبههن بالليالي

العذل فيك يعذلوني ** عن حبك ما لهم ومالي

يا ملزمني السلو عنها ** الصب أنا وأنت سالي

والقول بتركها صواب ** ما أحسنه لو استوى لي

طلقت تجلدي ثلاثا ** والصبوة بعد في خيالي

ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمسمائة

فيها: قدم شاور بن مجير الدين أبو شجاع السعدي الملقب بأمير الجيوش، وهو إذ ذاك وزير الديار المصرية بعد آل رزيك، لما قتل الناصر رزيك بن طلائع، وقام في الوزارة بعده، واستفحل أمره فيها، ثار عليه أمير يقال له: الضرغام بن سوار، وجمع له جموعا كثيرة، واستظهر عليه وقتل ولديه طيبا وسليمان، وأسر الثالث وهو الكامل بن شاور فسجنه ولم يقتله، ليدٍ كانت لأبيه عنده، واستوزر ضرغام ولقب بالمنصور.

فخرج شاور من الديار المصرية هاربا من العاضد ومن ضرغام، ملتجئا إلى نور الدين محمود، وهو نازل بجوسق الميدان الأخضر، فأحسن ضيافته وأنزله بالجوسق المذكور، وطلب شاور منه عسكرا ليكونوا معه ليفتح بهم الديار المصرية، وليكون لنور الدين ثلث مغلها، فأرسل معه جيشا عليه أسد الدين شيركوه بن شادي، فلما دخلوا بلاد مصر خرج إليهم الجيش الذين بها فاقتتلوا أشد القتال، فهزمهم أسد الدين وقتل منهم خلقا، وقتل ضرغام بن سوار وطيف برأسه في البلاد، واستقر أمر شاور في الوزارة، وتمهد حاله.

ثم اصطلح العاضد وشاور على أسد الدين، ورجع عما كان عاهد عليه نور الدين، وأمر أسد الدين بالرجوع فلم يقبل منه، وعاث في البلاد، وأخذ أموالا كثيرة، وافتتح بلدانا كثيرة من الشرقية وغيرها، فاستغاث شاور عليهم بملك الفرنج الذي بعسقلان، واسمه مري، فأقبل في خلق كثير فتحول أسد الدين إلى بلبيس وقد حصنها وشحنها بالعدد والآلات وغير ذلك.

فحصروه فيها ثمانية أشهر، وامتنع أسد الدين وأصحابه أشد الامتناع، فبينما هم على ذلك إذ جاءت الأخبار بأن الملك نور الدين قد اغتنم غيبة الفرنج فسار إلى بلادهم فقتل منهم خلقا كثيرا، وفتح حارم وقتل من الفرنج بها خلقا، وسار إلى بانياس فضعف صاحب عسقلان الفرنجي، وطلبوا من أسد الدين الصلح فأجابهم إلى ذلك، وقبض من شاور ستين ألف دينار، وخرج أسد الدين وجيشه فساروا إلى الشام في ذي الحجة.

وقعة حارم

فتحت في رمضان من هذه السنة، وذلك أن نور الدين استغاث بعساكر المسلمين فجاؤوه من كل فج ليأخذ ثأره من الفرنج، فالتقى معهم على حارم فكسرهم كسرة فظيعة، وأسر البرنس بيمند صاحب إنطاكية، والقومص صاحب طرابلس، والدوك صاحب الروم، وابن جوسلين، وقتل منهم عشرة آلاف، وقيل: عشرين ألفا.

وفي ذي الحجة منها فتح نور الدين مدينة بانياس، وقيل: إنه إنما فتحها في سنة ستين، فالله أعلم.

وكان معه أخوه نصر الدين أمير أميران، فأصابه سهم في إحدى عينيه فأذهبها، فقال له الملك نور الدين: لو نظرت لما أعد الله لك من الأجر في الآخرة لأحببت أن تذهب الأخرى.

وقال لابن معين الدين: إنه اليوم بردت جلدة والدك من نار جهنم، لأنه كان سلمها للفرنج، فصالحه عن دمشق.

وفي شهر ذي الحجة احترق قصر جيرون حريقا عظيما، فحضر في تلك الليلة الأمراء منهم أسد الدين شيركوه، بعد رجوعه من مصر، وسعى سعيا عظيما في إطفاء هذه النار وصون حوزة الجامع منها.

من الأعيان:

جمال الدين وزير صاحب الموصل

قطب الدين مودود بن زنكي، كان كثير المعروف، واسمه محمد بن علي بن أبي منصور، أبو جعفر الأصبهاني، الملقب بالجمال، كان كثير الصدقة والبر، وقد أثر آثارا حسنة بمكة والمدينة، من ذلك: أنه ساق عينا إلى عرفات، وعمل هناك مصانع، وبنى مسجد الخيف ودرجه، وعملها بالرخام، وبنى على المدينة النبوية سورا، وبنى جسرا على دجلة عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت، والحديد والرصاص، وبنى الربط الكثيرة.

وكان يتصدق في كل يوم في بابه بمائة دينار، ويفتدي من الأسارى في كل سنة بعشرة آلاف دينار، وكان لا تزال صدقاته وافدة إلى الفقهاء والفقراء، حيث كانوا من بغداد وغيرها من البلاد، وقد حبس في سنة ثمان وخمسين، فذكر ابن الساعي في تاريخه عن شخص كان معه في السجن: أنه نزل إليه طائر أبيض قبل موته فلم يزل عنده وهو يذكر الله حتى توفي في شعبان من هذه السنة، ثم طار عنه ودفن في رباط بناه لنفسه بالموصل.

وقد كان بينه وبين أسد الدين شيركوه بن شادي مواخاة وعهد أيهما مات قبل الآخر أن يحمله إلى المدينة النبوية، فحمل إليها من الموصل على أعناق الرجال، فما مروا به على بلدة إلا صلوا عليه وترحموا عليه، وأثنوا خيرا، فصلوا عليه بالموصل وتكريت وبغداد والحلة والكوفة وفيد ومكة وطيف به حول الكعبة، ثم حمل إلى المدينة النبوية فدفن بها في رباط بناه شرقي مسجد النبي .

قال ابن الجوزي وابن الساعي: ليس بينه وبين حرم النبي وقبره سوى خمسة عشر ذراعا.

قال ابن الساعي: ولما صلي عليه بالحلة صعد شاب نشزا فأنشد:

سرى نعشه على الرقاب وطالما ** سرى جوده فوق الركاب ونائلهُ

يمر على الوادي فتثني رماله ** عليه وبالنادي فتثني أرامله

وممن توفي بعد الخمسين:

ابن الخازن الكاتب أحمد بن محمد

بن الفضل بن عبد الخالق أبو الفضل المعروف بابن الخازن الكاتب البغدادي الشاعر.

كان يكتب جيدا فائقا، اعتنى بكتابة الختمات، وأكثر ابنه نصر الله من كتابة المقامات، وجمع لابنه ديوان شعر أورد منه ابن خلكان قطعة كبيرة.

ثم دخلت سنة ستين وخمسمائة

في صفر منها وقعت بأصبهان فتنة عظيمة بين الفقهاء بسبب المذاهب دامت أياما، وقتل فيها خلق كثير.

وفيها: كان حريق عظيم ببغداد فاحترقت محال كثيرة جدا.

وذكر ابن الجوزي: أن في هذه السنة ولدت امرأة ببغداد أربع بنات في بطن واحد.

وحج بالناس فيها الأمير برغش الكبير.

من الأعيان:

عمر بن بهليقا

الطحان الذي جدد جامع العقيبة ببغداد، واستأذن الخليفة في إقامة الجمعة فيه، فأذن له في ذلك، وكان قد اشترى ما حوله من القبور فأضاف ذلك إليه، ونبش الموتى منها، فقيض الله له من نبشه من قبره بعد دفنه، جزاء وفاقا.

محمد بن عبد الله بن العباس بن عبد الحميد

أبو عبد الله الحراني، كان آخر من بقي من الشهود المقبولين عند أبي الحسن الدامغاني، وقد سمع الحديث، وكان لطيفا ظريفا، جمع كتابا سماه (روضة الأدباء) فيها نتف حسنة.

قال ابن الجوزي: زرته يوما فأطلت الجلوس عنده فقلت: أقوم فقد ثقلت، فأنشدني:

لئن سمئت إبراما وثقلا ** زيارات رفعت بهن قدري

فما أبرمت إلا حبل ودي ** ولا ثقلت إلا ظهر شكري

مرجان الخادم

كان يقرأ القراءات، وتفقه لمذهب الشافعي، وكان يتعصب على الحنابلة ويكرههم، ويعادي الوزير ابن هبيرة وابن الجوزي معاداة شديدة، ويقول لابن الجوزي: مقصودي قلع مذهبكم، وقطع ذكركم.

ولما توفي ابن هبيرة في هذه السنة قوي على بن الجوزي وخافه ابن الجوزي، فلما توفي في هذه السنة فرح ابن الجوزي فرحا شديدا، توفي في ذي القعدة منها.

ابن التلميذ الطبيب الحاذق الماهر

اسمه هبة الله بن صاعد، توفي عن خمس وتسعين سنة، وكان موسعا عليه في الدنيا، وله عند الناس وجاهة كبيرة، وقد توفي قبحه الله على دينه، ودفن بالبيعة العتيقة، لا رحمه الله إن كان مات نصرانيا، فإنه كان يزعم أنه مسلم، ثم مات على دينه.

الوزير ابن هبيرة

يحيى بن محمد بن هبيرة، أبو المظفر الوزير للخلافة عون الدين، مصنف كتاب (الإفصاح)، وقد قرأ القرآن وسمع الحديث، وكانت له معرفة جيدة بالنحو واللغة والعروض، وتفقه على مذهب الإمام أحمد، وصنف كتبا جيدة مفيدة من ذلك (الإفصاح) في مجلدات، شرح فيه الحديث، وتكلم على مذاهب العلماء، وكان على مذهب السلف في الاعتقاد.

وقد كان فقيرا لا مال له، ثم تعرض للخدمة إلى أن وزر للمقتفي ثم لابنه المستنجد، وكان من خيار الوزراء وأحسنهم سيرة، وأبعدهم عن الظلم، وكان لا يلبس الحرير، وكان المقتفي يقول: ما وزر لبني العباس مثله.

وكذلك ابنه المستنجد، وكان المستنجد معجبا به.

قال مرجان الخادم: سمعت أمير المؤمنين المستنجد ينشد لابن هبيرة وهو بين يديه من شعره:

صفت نعمتان خصتاك وعمتا ** فذكرهما حتى القيامة يذكر

وجودك والدنيا إليك فقيرة ** وجودك والمعروف في الناس ينكر

فلوا رام يا يحيى مكانك جعفر ** ويحيى لكفا عنه يحيى وجعفر

ولم أر من ينوي لك السوء يا أبا ** المظفر إلا كنت أنت المظفر

وقد كان يبالغ في إقامة الدولة العباسية، وحسم مادة الملوك السلجوقية عنهم بكل ممكن، حتى استقرت الخلافة في العراق كله؛ ليس للملوك معهم حكم بالكلية ولله الحمد.

وكان يعقد في داره للعلماء مجلسا للمناظرة يبحثون فيه ويناظرون عنده، يستفيد منهم ويستفيدون منه، فاتفق يوما أنه كلم رجلا من الفقهاء كلمة فيها بشاعة قال له: يا حمار، ثم ندم فقال: أريد أن تقول لي كما قلت لك.

فامتنع ذلك الرجل، فصالحه على مائتي دينار.

مات فجأة، ويقال: إنه سمه طبيب فسم ذلك الطبيب بعد ستة أشهر، وكان الطبيب يقول: سممته فسممت.

مات يوم الأحد الثاني عشر من جمادى الأولى من هذه السنة، عن إحدى وستين سنة، وغسله ابن الجوزي، وحضر جنازته خلق كثير وجم غفير جدا، وغلقت الأسواق، وتباكى الناس عليه، ودفن بالمدرسة التي أنشأها بباب البصرة رحمه الله.

وقد رثاه الشعراء بمراثٍ كثيرة

ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة

فيها: فتح نور الدين محمود حصن المنيطرة من الشام وقتل عنده خلق كثير من الفرنج، وغنم أموالا جزيلة.

وفيها: هرب عز الدين بن الوزير ابن هبيرة من السجن، ومعه مملوك تركي، فنودي عليه في البلد من رده فله مائة دينار، ومن وجد عنده هدمت داره وصلب على بابها، وذبحت أولاده بين يديه، فدلهم رجل من الأعراب عليه فأخذ من بستان فضرب ضربا شديدا وأعيد إلى السجن وضيق عليه.

وفيها: أظهر الروافض سب الصحابة وتظاهروا بأشياء منكرة، ولم يكونوا يتمكنون منها في هذه الأعصار المتقدمة، خوفا من ابن هبيرة، ووقع بين العوام كلام فيما يتعلق بخلق القرآن.

وحج بالناس برغش.

من الأعيان:

الحسن بن العباس ابن أبي الطيب بن رستم أبو عبد الله الأصبهاني

كان من كبار الصالحين البكائين، قال: حضرت يوما مجلس ما شاده وهو يتكلم على الناس فرأيت رب العزة في هذه الليلة وهو يقول لي: وقفت على مبتدع وسمعت كلامه؟ لأحرمنك النظر في الدنيا.

فأصبح لا يبصر وعيناه مفتوحتان كأنه بصير.

عبد العزيز بن الحسن ابن الحباب الأغلبي السعدي القاضي

أبو المعالي البصري، المعروف بابن الجليس، لأنه كان يجالس صاحب مصر، وقد ذكره العماد في الخريدة، وقال: كان له فضل مشهور وشعر مأثور فمن ذلك قوله:

ومن عجب أن السيوف لديهم ** تحيض دماء والسيوف ذكور

وأعجب من ذا أنها في أكفهم ** تأجج نارا والأكف بحور

الشيخ عبد القادر الجيلي

ابن أبي صالح أبو محمد الجيلي، ولد سنة سبعين وأربعمائة، ودخل بغداد فسمع الحديث وتفقه على أبي سعيد المخرمي الحنبلي، وقد كان بنى مدرسة ففوضها إلى الشيخ عبد القادر، فكان يتكلم على الناس بها، ويعظهم، وانتفع به الناس انتفاعا كثيرا.

وكان له سمت حسن، وصمت غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه تزهد كثير وله أحوال صالحة ومكاشفات، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالا وأفعالا ومكاشفات أكثرها مغالاة، وقد كان صالحا ورعا، وقد صنف كتاب (الغنية) و(فتوح الغيب) وفيهما أشياء حسنة، وذكر فيهما أحاديث ضعيفة وموضوعة، وبالجملة كان من سادات المشايخ، توفي وله تسعون سنة ودفن بالمدرسة التي كانت له.

ثم دخلت سنة ثنتين وستين وخمسمائة

فيها: أقبلت الفرنج في جحافل كثيرة إلى الديار المصرية، وساعدهم المصريون فتصرفوا في بعض البلاد، فبلغ ذلك أسد الدين شيركوه فاستأذن الملك نور الدين في العود إليها، وكان كثير الحنق على الوزير شاور، فأذن له فسار إليها في ربيع الآخر ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وقد وقع في النفوس أنه سيملك الديار المصرية، وفي ذلك يقول عرقلة المسمى بحسان الشاعر:

أقول والأتراك قد أزمعت ** مصر إلى حرب الأعاريب

رب كما ملكها يوسف الصـ** ـدّيق من أولاد يعقوب فملكها في عصرنا يوسف الصـ** ـادق من أولاد أيوب

من لم يزل ضرّاب هام العدا ** حقا وضراب العراقيب

ولما بلغ الوزير شاور قدوم أسد الدين والجيش معه بعث إلى الفرنج فجاؤوا من كل فج إليه، وبلغ أسد الدين ذلك من شأنهم، وإنما معه ألفا فارس، فاستشار من معه من الأمراء فكلهم أشار عليه بالرجوع إلى نور الدين، لكثيرة الفرنج، إلا أميرا واحدا يقال له: شرف الدين برغش، فإنه قال: من خاف القتل والأسر فليقعد في بيته عند زوجته، ومن أكل أموال الناس فلا يسلم بلادهم إلى العدو.

وقال مثل ذلك ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، فعزم الله لهم فساروا نحو الفرنج فاقتتلوا هم وإياهم قتالا عظيما، فقتلوا من الفرنج مقتلة عظيمة، وهزموهم، ثم قتلوا منهم خلقا لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ولله الحمد.

فتح الإسكندرية على يدي أسد الدين شيركوه

ثم أشار أسد الدين بالمسير إلى الإسكندرية فملكها وجبى أموالها، واستناب عليها ابن أخيه صلاح الدين يوسف وعاد إلى الصعيد فملكه، وجمع منه أموالا جزيلة جدا، ثم إن الفرنج والمصريين اجتمعوا على حصار الإسكندرية ثلاثة أشهر لينتزعوها من يد صلاح الدين، وذلك في غيبة عمه في الصعيد، وامتنع فيها صلاح الدين أشد الامتناع، ولكن ضاقت عليهم الأقوات وضاق عليهم الحال جدا، فسار إليهم أسد الدين فصالحه شاور الوزير عن الإسكندرية بخمسين ألف دينار، فأجابه إلى ذلك، وخرج صلاح الدين منها وسلمها إلى المصريين، وعاد إلى الشام في منتصف شوال.

وقرر شاور للفرنج على مصر في كل سنة مائة ألف دينار، وأن يكون لهم شحنة بالقاهرة، وعادوا إلى بلادهم بعد أن كان الملك نور الدين أعقبهم في بلادهم، وفتح من بلادهم حصونا كثيرة، وقتل منهم خلقا من الرجال، وأسر جما غفيرا من النساء والأطفال، وغنم شيئا كثيرا من الأمتعة والأموال، ولله الحمد.

وكان معه أخوه قطب الدين مودود فأطلق له الرقة فسار فتسلمها.

وفيها: في شعبان منها كان قدوم العماد الكاتب من بغداد إلى دمشق، وهو أبو حامد محمد بن محمد الأصبهاني، صاحب (الفتح القدسي)، و(البرق الشامي)، و(الخريدة)، وغير ذلك من المصنفات.

فأنزله قاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري بالمدرسة النورية الشافعية داخل باب الفرج، فنسبت إليه لسكناه بها، فيقال لها: العمادية، ثم ولي تدريسها في سنة سبع وستين بعد الشيخ الفقيه ابن عبد، و أول من جاء للسلام عليه نجم الدين أيوب كانت له وبه معرفة من تكريت، فامتدحه العماد بقصيدة ذكرها أبو شامة، وكان أسد الدين وصلاح الدين بمصر فبشره فيها بولاية صلاح الدين الديار المصرية حيث يقول:

ويستقر بمصر يوسف، وبه ** تقر بعد التنائي عين يعقوب

ويتلقى يوسف فيها بإخوته ** والله يجمعهم من غير تثريب

ثم تولى عماد الدين كتابة الإنشاء للملك نور الدين محمود.

من الأعيان:

برغش أمير الحاج سنين متعددة

كان مقدما على العساكر، خرج من بغداد لقتال شملة التركماني فسقط عن فرسه فمات.

أبو المعالي الكاتب محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون

صاحب (التذكرة الحمدونية)، وقد ولي ديوان الزمام مدة، توفي في ذي القعدة ودفن بمقابر قريش.

الرشيد الصدفي

كان يجلس بين يدي العبادي على الكرسي، كانت له شيبة وسمت ووقار، وكان يدمن حضور السماعات، ويرقص، فاتفق أنه مات وهو يرقص في بعض السماعات.

ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائة

في صفر منها وصل شرف الدين أبو جعفر ابن البلدي من واسط إلى بغداد، فخرج الجيش لتلقيه والنقيبان والقاضي، ومشى الناس بين يديه إلى الديوان فجلس في دست الوزارة، وقرئ عهده ولقب بالوزير شرف الدين جلال الإسلام معز دولة سيد الوزراء صدر الشرق والغرب.

وفيها: أفسدت خفاجة في البلاد ونهبوا القرى، فخرج إليهم جيش من بغداد فهربوا في البراري فانحسر الجيش عنهم خوفا من العطش، فكروا على الجيش فقتلوا منهم خلقا وأسروا آخرين، وكان قد أسر الجيش منهم خلقا فصلبوا على الأسوار.

وفي شوال منها وصلت امرأة الملك نور الدين محمود بن زنكي إلى بغداد تريد الحج من هناك، وهي الست عصمت الدين خاتون بنت معين الدين، ومعها الخدم والخدام، وفيهم صندل الخادم، وحملت لها الإمامات وأكرمت غاية الإكرام.

وفيها: مات قاضي قضاة بغداد جعفر، فشغر البلد عن حاكم ثلاثا وعشرين يوما، حتى ألزموا روح بن الحدثني قاضي القضاة في رابع رجب.

من الأعيان:

جعفر بن عبد الواحد أبو البركات الثقفي

قاضي قضاة بغداد بعد أبيه، ولد سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وسبب وفاته أنه طلب منه مال وكلمه الوزير ابن البلدي كلاما خشنا فخاف فرمي الدم ومات.

أبو سعد السمعاني عبد الكريم بن محمد بن منصور

أبو سعد السمعاني، رحل إلى بغداد فسمع بها وذيّل على تاريخها للخطيب البغدادي، وقد ناقشه ابن الجوزي في (المنتظم)، وذكر عنه أنه كان يتعصب على أهل مذهبه، ويطعن في جماعة منهم، وأنه يترجم بعبارة عامية، مثل قوله عن بعض الشيخات: إنها كانت عفيفة.

وعن الشاعر المشهور بحيص بيص إنه كانت له أخت يقال لها: دخل خرج، وغير ذلك.

عبد القاهر بن محمد ابن عبد الله أبو النجيب السهروردي

كان يذكر أنه من سلالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، سمع الحديث وتفقه وأفتى ودرس بالنظامية وابتنى لنفسه مدرسة ورباطا، وكان مع ذلك متصوفا يعظ الناس، ودفن بمدرسته.

محمد بن عبد الحميد ابن أبي الحسين أبو الفتح الرازي

المعروف بالعلاء العالم، وهو من أهل سمرقند، وكان من الفحول في المناظرة، وله طريقة في الخلاف والجدل، يقال لها: التعليقة العالمية.

قال ابن الجوزي: وقد قدم بغداد وحضر مجلسي.

وقال أبو سعد السمعاني: كان يدمن شرب الخمر.

قال: وكان يقول ليس في الدنيا أطيب من كتاب المناظرة وباطية من خمر أشرب منها.

قال ابن الجوزي: ثم بلغني عنه أنه أقلع عن شرب الخمر والمناظرة وأقبل على النسك والخير.

يوسف بن عبد الله ابن بندار الدمشقي

مدرس النظامية ببغداد، تفقه على أسعد الميهني، وبرع في المناظرة، وكان يتعصب للأشعرية، وقد بعث رسولا في هذه السنة إلى شملة التركماني فمات في تلك البلاد.

ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة

فيها: كان فتح مصر على يدي الأمير أسد الدين شيركوه.

وفيها: طغت الفرنج بالديار المصرية، وذلك أنهم جعلوا شاور شحنة لهم بها، وتحكموا في أموالها ومساكنها أفواجا أفواجا، ولم يبق شيء من أن يستحوذوا عليها ويخرجوا منها أهلها من المسلمون، وقد سكنها أكثر شجعانهم، فلما سمع الفرنج بذلك جاؤوا إليها من كل فج وناحية صحبة ملك عسقلان في جحافل هائلة، فأول ما أخذوا مدينة بلبيس وقتلوا من أهلها خلقا وأسروا آخرين، ونزلوا بها وتزكوا بها أثقالهم، وجعلوها موئلا ومعقلا لهم.

ثم ساروا فنزلوا على القاهرة من ناحية باب البرقية، فأمر الوزير شاور الناس أن يحرقوا مصر، وأن ينتقل الناس منها إلى القاهرة، فنهبوا البلد وذهب للناس أموال كثيرة جدا وبقيت النار تعمل في مصر أربعة وخمسين يوما، فعند ذلك أرسل صاحبها العاضد يستغيث بنور الدين، وبعث إليه بشعور نسائه يقول: أدركني واستنقذ نسائي من أيدي الفرنج.

والتزم له بثلث خراج مصر على أن يكون أسد الدين مقيما بها عندهم، والتزم له بإقطاعات زائدة على الثلث، فشرع نور الدين في تجهيز الجيوش إلى مصر، فلما استشعر الوزير شاور بوصول المسلمين أرسل إلى ملك الفرنج يقول: قد عرفت محبتي ومودتي لكم، ولكن العاضد والمسلمين لا يوافقوني على تسليم البلد، وصالحهم ليرجعوا عن البلد بألف ألف دينار، وعجل لهم من ذلك ثمانمائة ألف دينار.

فانشمروا راجعين إلى بلادهم خوفا من عساكر نور الدين، وطمعا في العودة إليها مرة ثانية {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 25.

ثم شرع الوزير شاور في مطالبة الناس بالذهب الذي صالح به الفرنج وتحصيله، وضيق على الناس مع ما نالهم من الضيق والحريق والخوف، فجبر الله مصابهم بقدوم عساكر المسلمين عليهم وهلاك الوزير على يديهم.

وذلك أن نور الدين استدعى الأمير أسد الدين من حمص إلى حلب فساق إليه هذه المسافة وقطعها في يوم واحد، فإنه قام من حمص بعد أن صلى وسلم الصبح ثم دخل منزله فأصاب فيه شيئا من الزاد، ثم ركب وقت طلوع الشمس فدخل حلب على السلطان نور الدين من آخر ذلك اليوم، و يقال: إن هذا لم يتفق لغيره إلا للصحابة، فسر بذلك نور الدين فقدمه على العساكر وأنعم عليه بمائتي ألف دينار وأضاف إليه من الأمراء الأعيان، كل منهم يبتغي بمسيره رضى الله والجهاد في سبيله، وكان من جملة الأمراء ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولم يكن منشرحا لخروجه هذا بل كان كارها

له، وقد قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الآية 26 وأضاف إليه ستة آلاف من التركمان، وجعل أسد الدين مقدما على هذه العساكر كلها، فسار بهم من حلب إلى دمشق ونور الدين معهم، فجهزه من دمشق إلى الديار المصرية، وأقام نور الدين بدمشق.

ولما وصلت الجيوش النورية إلى الديار المصرية وجدوا الفرنج قد انشمروا عن القاهرة راجعين إلى بلادهم بالصفقة الخاسرة، وكان وصوله إليها في سابع ربيع الآخر، فدخل الأمير أسد الدين على العاضد في ذلك اليوم فخلع عليه خلعة سنية فلبسها وعاد إلى مخيمه بظاهر البلد، وفرح المسلمون بقدومه، وأجريت عليهم الجرايات، وحملت إليهم التحف والكرامات، وخرج وجوه الناس إلى المخيم خدمة لأسد الدين.

وكان فيمن جاء إليه المخيم الخليفة العاضد متنكرا، فأسر إليه أمورا مهمة منها قتل الوزير شاور، وقرر ذلك معه وأعظم أمر الأمير أسد الدين، ولكن شرع يماطل بما كان التزمه للملك نور الدين، وهو مع ذلك يتردد إلى أسد الدين، ويركب معه، وعزم على عمل ضيافة له فنهاه أصحابه عن الحضور خوفا عليه من غائلته، وشاوروه في قتل شاور فلم يمكنهم الأمير أسد الدين من ذلك.

فلما كان في بعض الأيام جاء شاور إلى منزل أسد الدين فوجده قد ذهب لزيارة قبر الشافعي، وإذا ابن أخيه يوسف هنالك فأمر صلاح الدين يوسف بالقبض على الوزير شاور، ولم يمكنه قتله إلا بعد مشاورة عمه أسد الدين وانهزم أصحابه فأعلموا العاضد لعله يبعث ينقذه، فأرسل العاضد إلى الأمير أسد الدين يطلب منه رأسه، فقتل شاور وأرسلوا برأسه إلى العاضد في سابع عشر ربيع الآخر، ففرح المسلمون بذلك.

وأمر أسد الدين بنهب دار شاور فنهبت، ودخل أسد الدين على العاضد فاستوزره وخلع عليه خلعة عظيمة، ولقبه الملك المنصور، فسكن دار شاور وعظم شأنه هنالك.

ولما بلغ نور الدين خبر فتح مصر فرح بذلك وقصدته الشعراء بالتهنئة، غير أنه لم ينشرح لكون أسد الدين صار وزيرا للعاضد، وكذلك لما انتهت الوزارة إلى ابن أخيه صلاح الدين، فشرع نور الدين في إعمال الحيلة في إزالة ذلك فلم يتمكن، ولا قدر عليه، ولا سيما أنه بلغه أن صلاح الدين استحوذ على خزائن العاضد كما سيأتي بيانه إن شاء الله، والله أعلم.

وأرسل أسد الدين إلى القصر يطلب كاتبا فأرسلوا إليه القاضي الفاضل رجاء أن يقبل منه إذا قال وأفاض فيما كانوا يؤملون، وبعث أسد الدين العمال في الأعمال وأقطع الإقطاعات، وولى الولايات، وفرح بنفسه أياما معدودات، فأدركه حمامه في يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام، فلما توفي أسد الدين رحمه الله، أشار الأمراء الشاميون على العاضد بتولية صلاح الدين يوسف الوزارة بعد عمه، فولاه العاضد الوزارة وخلع عليه خلعة سنية، ولقبه الملك الناصر.

صفة الخلعة التي لبسها صلاح الدين

مما ذكره أبو شامة في (الروضتين) عمامة بيضاء تنيسي بطرف ذهب، وثوب ديبقي بطراز ذهب، وجبة بطراز ذهب، وطيلسان بطراز مذهبة، وعقد جوهر بعشرة آلاف دينار، وسيف محلى بخمسة آلاف دينار، وحجزة بثمانية آلاف دينار، وعليها طوق ذهب، وسرفسار ذهب مجوهر، وفي رأسها مائتا حبة جوهر، وفي قوائمها أربعة عقود جوهر، وفي رأسها قصبة ذهب فيها تندة بيضاء بأعلام بيض، ومع الخلعة عدة بقج، وخيل وأشياء أخر، ومنشور الوزارة ملفوف بثوب أطلس أبيض، وذلك في يوم الاثنين الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وكان يوما مشهودا.

وسار الجيش بكماله في خدمته، لم يتخلف عنه سوى عين الدولة الياروقي، وقال: لا أخدم يوسف بعد نور الدين.

ثم سار بجيشه إلى الشام فلامه نور الدين على ذلك، وأقام الملك صلاح الدين بمصر بصفة نائب للملك نور الدين، يخطب له على المنابر بالديار المصرية، ويكاتبه بالأمير الإسفهسلار صلاح الدين ويتواضع له صلاح الدين في الكتب والعلامة، لكن قد التفت عليه القلوب، وخضعت له النفوس، واضطهد العاضد في أيامه غاية الاضطهاد، وارتفع قدر صلاح الدين بين العباد بتلك البلاد، وزاد في إقطاعات الذين معه فأحبوه واحترموه وخدموه.

وكتب إليه نور الدين يعنفه على قبول الوزارة بدون مرسومه، وأمره أن يقيم حساب الديار المصرية، فلم يلتفت صلاح الدين إلى ذلك وجعل نور الدين يقول في غضون ذلك: ملك ابن أيوب.

وأرسل صلاح الدين إلى نور الدين يطلب منه أهله وإخوته وقرابته، فأرسلهم إليه وشرط عليهم السمع والطاعة له، فاستقر أمره بمصر وتوطأت دولته بذلك، وكمل أمره وتمكن سلطانه وقويت أركانه.

وقد قال بعض الشعراء في قتل صلاح الدين لشاور الوزير:

هيا لمصر حور يوسف ملكها ** بأمر من الرحمن كان موقوتا

وما كان فيها قتل يوسف شاورا ** يماثل إلا قتل داود جالوتا

قال أبو شامة: وقتل العاضد في هذه السنة أولاد شاور وهم شجاع الملقب بالكامل، والطاري الملقب بالمعظم، وأخوهما الآخر الملقب بفارس المسلمين، وطيف برؤوسهم ببلاد مصر.

ذكر قتل الطواشي

مؤتمن الخلافة وأصحابه على يدي صلاح الدين، وذلك أنه كتب من دار الخلافة بمصر إلى الفرنج ليقدموا إلى الديار المصرية ليخرجوا منها الجيوش الإسلامية الشامية، وكان الذي يفد بالكتاب إليهم الطواشي مؤتمن الخلافة، مقدم العساكر بالقصر، وكان حبشيا وأرسل الكتاب مع إنسان أمن إليه فصادفه في بعض الطريق من أنكر حاله، فحمله إلى الملك صلاح الدين فقرره، فأخرج الكتاب ففهم صلاح الدين الحال فكتمه.

واستشعر الطواشي مؤتمن الدولة أن صلاح الدين قد اطلع على الأمر فلازم القصر مدة طويلة خوفا على نفسه، ثم عنّ له في بعض الأيام أن خرج إلى الصيد، فأرسل صلاح الدين إليه من قبض عليه وقتله وحمل رأسه إليه، ثم عزل جميع الخدام الذين يلون خدمة القصر، واستناب على القصر عوضهم بهاء الدين قراقوش، وأمره أن يطالعه بجميع الأمور، صغارها وكبارها.

وقعة السودان

وذلك أنه لما قتل الطواشي مؤتمن الخلافة الحبشي، وعزل بقية الخدام غضبوا لذلك، واجتمعوا قريبا من خمسين ألفا، فاقتتلوا هم وجيش صلاح الدين بين القصرين، فقتل خلق كثير من الفريقين، وكان العاضد ينظر من القصر إلى المعركة، وقد قذف الجيش الشامي من القصر بحجارة، وجاءهم منه سهام فقيل: كان ذلك بأمر العاضد، وقيل: لم يكن بأمره.

ثم إن أخا الناصر نورشاه شمس الدولة - وكان حاضرا للحرب قد بعثه نور الدين لأخيه ليشد أزره - أمر بإحراق منظرة العاضد، ففتح الباب ونودي: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تخرجوا هؤلاء السودان من بين أظهركم ومن بلادكم.

فقوي الشاميون وضعف جأش السودان جدا، وأرسل السلطان إلى محلة السودان المعروفة بالمنصورة، التي فيها دورهم وأهلوهم بباب زويلة فأحرقها، فولوا عند ذلك مدبرين، وركبهم السيف فقتل منهم خلقا كثيرا، ثم طلبوا الأمان فأجابهم إلى ذلك، وأخرجهم إلى الجيزة، ثم خرج لهم شمس الدولة نورشاه أخو الملك صلاح الدين فقتل أكثرهم أيضا، ولم يبق منهم إلا القليل، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.

وفيها: افتتح نور الدين قلعة جعبر وانتزعها من يد صاحبها شهاب الدين مالك بن علي العقيلي، وكانت في أيديهم من أيام السلطان ملكشاه.

وفيها: احترق جامع حلب فجدده نور الدين.

وفيها: مات ماروق الذي تنسب إليه المحلة بظاهر حلب.

من الأعيان:

سعد الله بن نصر بن سعيد الدجاجي

أبو الحسن الواعظ الحنبلي، ولد سنة ثمانين وأربعمائة، وسمع الحديث وتفقه ووعظ، وكان لطيف الوعظ، وقد أثنى عليه ابن الجوزي في ذلك، وذكر أنه سئل مرة عن أحاديث الصفات فنهى عن التعرض لذلك وأنشد:

أبى الغائب الغضبان يا نفس أن ترضى ** وأنت الذي صيرت طاعته فرضا

فلا تهجري من لا تطيقين هجره ** وإن هم بالهجران خديك والأرضا

وذكر ابن الجوزي عنه أنه قال: خفت مرة من الخليفة فهتف بي هاتف في المنام وقال لي: اكتب:

ادفع بصبرك حادث الأيام ** وترج لطف الواحد العلام

لا تيأسن وإن تضايق كربها ** ورماك ريب صروفها بسهام

فله تعالى بين ذلك فرجة ** تخفى على الأفهام والأوهام

كم من نجا من بين أطراف القنا ** وفريسة سلمت من الضرغام

توفي في شعبان منها عن أربع وثمانين سنة، ودفن عند رباط الزوري، ثم نقل إلى مقبرة الإمام أحمد.

شاور بن مجير الدين

أبو شجاع السعدي، الملقب أمير الجيوش، وزير الديار المصرية أيام العاضد، وهو الذي انتزع الوزارة من يدي رزيك، وهو أول من استكتب القاضي الفاضل، استدعى به من إسكندرية من باب السدرة فحظي عنده وانحصر منه الكتاب بالقصر، لما رأوا من فضله وفضيلته.

وقد امتدحه الشعراء منهم عمارة اليمني حيث يقول:

ضجر الحديد من الحديد وشاور ** من نصر دين محمد لم يضجر

حلف الزمان ليأتين بمثله ** حنثت بيمينك يا زمان فكفر

ولم يزل أمره قائما إلى أن ثار عليه الأمير ضرغام بن سوار فالتجأ إلى نور الدين فأرسل معه الأمير أسد الدين شيركوه، فنصروه على عدوه، فنكث عهده فلم يزل أسد الدين حنقا عليه حتى قتله في هذه السنة، على يدي ابن أخيه صلاح الدين، ضرب عنقه بين يدي الأمير جردنك في السابع عشر من ربيع الآخر، واستوزر بعده أسد الدين، فلم تطل مدته بعده إلا شهرين وخمسة أيام.

قال ابن خلكان: هو أبو شجاع شاور بن مجير الدين بن نزار بن عشائر بن شاس بن مغيث بن حبيب بن الحارث بن ربيعة بن مخيس بن أبي ذؤيب عبد الله وهو والد حليمة السعدية، كذا قال، وفيما قال نظر لقصر هذا النسب لبعد المدة، والله أعلم.

شيركوه بن شادي

أسد الدين الكردي الزرزاري وهم أشرف شعوب الأكراد، وهو من قرية يقال لها: درين من أعمال أذربيجان، خدم هو وأخوه نجم الدين أيوب - وكان الأكبر - الأمير مجاهد الدين نهروز الخادم شحنة العراق، فاستناب نجم الدين أيوب على قلعة تكريت، فاتفق أن دخلها عماد الدين زنكي هاربا من قراجا الساقي، فأحسنا إليه وخدماه.

ثم اتفق أنه قتل رجلا من العامة فأخرجهما نهروز من القلعة، فصارا إلى زنكي بحلب فأحسن إليهما، ثم حظيا عند ولده نور الدين محمود، فاستناب أيوب على بعلبك، وأقره ولده نور الدين، وصار أسد الدين عند نور الدين أكبر أمرائه، وأخصهم عنده، وأقطعه الرحبة وحمص مع ماله عنده من الإقطاعات، وذلك لشهامته وشجاعته وصرامته وجهاده في الفرنج، في أيام معدودات ووقعات معتبرات، ولا سيما يوم فتح دمشق، وأعجب من ذلك ما فعله بديار مصر، بل الله بالرحمة ثراه وجعل الجنة مأواه، وكانت وفاته يوم السبت فجأة بخانوق حصل له، وذلك في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، رحمه الله.

قال أبو شامة: وإليه تنسب الخانقاة الأسدية بالشرق القبلي.

ثم آل الأمر من بعده إلى ابن أخيه صلاح الدين يوسف، ثم استوسق له الملك والممالك هنالك.

محمد بن عبد الله بن عبد الواحد

ابن سليمان المعروف بابن البطي، سمع الحديث الكثير، وأسمع ورحل إليه وقارب التسعين.

محمد الفارقي أبو عبد الله الواعظ

يقال: إنه كان يحفظ (نهج البلاغة) ويعبر ألفاظه، وكان فصيحا بليغا يكتب كلامه ويروي عنه كتاب يعرف بـ(الحكم الفارقية).

المعمر بن عبد الواحد ابن رجار أبو أحمد الأصبهاني

أحد الحفاظ الوعاظ، روى عن أصحاب أبي نعيم، وكانت له معرفة جيدة بالحديث، توفي وهو ذاهب إلى الحج بالبادية، رحمه الله.

ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة

في صفر منها حاصرت الفرنج مدينة دمياط من بلاد مصر خمسين يوما، بحيث ضيقوا على أهلها، وقتلوا أمما كثيرة، جاؤوا إليها من البر والبحر رجاء أن يملكوا الديار المصرية وخوفا من استيلاء المسلمين على القدس، فكتب صلاح الدين إلى نور الدين يستنجده عليهم، ويطلب منه أن يرسل إليه بأمداد من الجيوش، فإنه إن خرج من مصر خلفه أهلها بسوء، وإن قعد عن الفرنج أخذوا دمياط وجعلوها معقلا لهم يتقوون بها على أخذ مصر.

فأرسل إليه نور الدين ببعوث كثيرة، يتبع بعضها بعضا.

ثم إن نور الدين اغتنم غيبة الفرنج عن بلدانهم فصمد إليهم في جيوش كثيرة، فجلس خلال ديارهم، وغنم من أموالهم وقتل وسبى شيئا كثيرا، وكان من جملة من أرسله إلى صلاح الدين أبوه الأمير نجم الدين أيوب، في جيش من تلك الجيوش، ومعه بقية أولاده، فتلقاه الجيش من مصر، وخرج العاضد لتلقيه إكراما لولده، وأقطعه إسكندرية ودمياط وكذلك لبقية أولاده.

وقد أمد العاضد صلاح الدين في هذه الكائنة بألف ألف دينار حتى انفصلت الفرنج عن دمياط، وأجلت الفرنج عند مياط لأنه بلغهم أن نور الدين قد غزا بلادهم، وقتل خلقا من رجالهم، وسبى كثيرا من نسائهم وأطفالهم، وغنم من أموالهم، فجزاه الله عن المسلمين خيرا.

ثم سار نور الدين في جمادى الآخرة إلى الكرخ ليحاصرها - وكانت من أمنع البلاد - وكاد أن يفتحها ولكن بلغه أن مقدمين من الفرنج قد أقبلا نحو دمشق، فخاف أن يلتف عليهما الفرنج فترك الحصار وأقبل نحو دمشق فحصنها، ولما انجلت الفرنج عن دمياط فرح نور الدين فرحا شديدا، وأنشد الشعراء كل منهم في ذلك قصيدا، وقد كان الملك نور الدين شديد الاهتمام قوي الاغتمام بذلك، حتى قرأ عليه بعض طلبة الحديث جزءا في ذلك فيه حديث مسلسل بالتبسم، فطلب منه أن يبتسم ليصل التسلسل، فامتنع من ذلك، وقال: إني لأستحي من الله أن يراني مبتسما والمسلمون يحاصرهم الفرنج بثغر دمياط.

وقد ذكر الشيخ أبو شامة أن إمام مسجد أبي الدرداء بالقلعة المنصورة رأى في تلك الليلة التي أجلي فيها الفرنج عن دمياط رسول الله وهو يقول: سلم على نور الدين وبشره بأن الفرنج قد رحلوا عن دمياط.

فقلت: يا رسول الله بأي علامة؟

فقال: بعلامة ما سجد يوم تل حارم وقال في سجوده: اللهم انصر دينك ومن هو محمود الكلب؟.

فلما صلى نور الدين عنده الصبح بشره بذلك وأخبره بالعلامة، فلما جاء إلى عند ذكر من هو محمود الكلب انقبض من قول ذلك، فقال له نور الدين: قل ما أمرك به رسول الله .

فقال ذلك.

فقال: صدقت.

وبكى نور الدين تصديقا وفرحا بذلك، ثم كشفوا فإذا الأمر كما أخبر في المنام.

قال العماد الكاتب: وفي هذه السنة عمر الملك نور الدين جامع داريا، وعمر مشهد أبي سليمان الداراني بها، وشتى بدمشق.

وفيها: حاصر الكرك أربعة أيام، وفارقه من هناك نجم الدين أيوب والد صلاح الدين، متوجها إلى ابنه بمصر، وقد وصاه نور الدين أن يأمر ابنه صلاح الدين أن يخطب بمصر للخليفة المستنجد بالله العباسي، وذلك أن الخليفة بعث يعاتبه في ذلك.

وفيها: قدم الفرنج من السواحل ليمنعوا الكرك مع ثبيب بن الرقيق وابن القنقري، وكانا أشجع فرسان الفرنج، فقصدهما نور الدين ليقابلهما، فحادا عن طريقه.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة بالشام والجزيرة وعمت أكثر الأرض، وتهدمت أسوار كثيرة بالشام، وسقطت دور كثيرة على أهلها، ولا سيما بدمشق وحمص وحماه وحلب وبعلبك، سقطت أسوارها وأكثر قلعتها، فجدد نور الدين عمارة أكثر ما وقع بهذه الأماكن.

و فيها توفي:

الملك قطب الدين مودود بن زنكي

أخو نور الدين محمود صاحب الموصل، وله من العمر أربعون سنة، ومدة ملكه منها إحدى وعشرون سنة، وكان من خيار الملوك محببا إلى الرعية، عطوفا عليهم، محسنا إليهم، حسن الشكل.

وتملك من بعده ولده سيف الدين غازي من الست خاتون بنت تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق أصحاب ماردين، وكان مدبر مملكته والمتحكم فيها فخر الدين عبد المسيح، وكان ظالما غاشما.

وفيها: كانت حروب كثيرة بين ملوك الغرب بجزيرة الأندلس، وكذلك كانت حروب كثيرة بين ملوك الشرق أيضا.

وحج بالناس فيها وفيما قبلها الأمير برغش الكبير، ولم أر أحدا من أكابر الأعيان توفي فيها.

ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة

فيها: كانت وفاة المستنجد وخلافة ابنه المستضيء، وذلك أن المستنجد كان قد مرض في أول هذه السنة، ثم عوفي فيما يبدو للناس فعمل ضيافة عظيمة بسبب ذلك، وفرح الناس بذلك، ثم أدخله الطبيب إلى الحمام وبه ضعف شديد فمات في الحمام، ويقال: إن ذلك كان بإشارة بعض الدولة على الطبيب، استعجالا لموته.

توفي يوم السبت بعد الظهر ثاني ربيع الآخر عن ثمان وأربعين سنة، وكانت مدة خلافته إحدى عشرة سنة وشهرا، وكان من خيار الخلفاء وأعدلهم وأرفقهم بالرعايا، ومنع عنهم المكوس والضرائب، ولم يترك بالعراق مكسا، وقد شفع إليه بعض أصحابه في رجل شرير، وبذل فيه عشرة آلاف دينار، فقال له الخليفة: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وائتني بمثله لأريح المسلمين من شره.

وكان المستنجد أسمر طويل اللحية، وهو الثاني والثلاثين من العباسيين وذلك في الجمل لام باء، ولهذا قال فيه بعض الأدباء:

أصبحت لب بني العباس جملتها ** إذا عددت حساب الجمل الخلفا

وكان أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر، وقد رأى في منامه رسول الله وهو يقول له: قل اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، دعاء القنوت بتمامه.

وصلي عليه يوم الأحد قبل الظهر، ودفن بدار الخلافة، ثم نقل إلى الترب من الرصافة، رحمه الله تعالى.

خلافة المستضيء

وهو أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد بن المقتفي، وأمه أرمنية تدعى عصمت، وكان مولده في شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة.

بويع بالخلافة يوم مات أبوه بكرة الأحد تاسع ربيع الآخر، وبايعه الناس ولم يل الخلافة أحد اسمه الحسن بعد الحسن بن علي غير هذا، ووافقه في الكنية أيضا، وخلع يومئذ على الناس أكثر من ألف خلعة، وكان يوما مشهودا، وولي قضاء قضاة بغداد الروح بن الحدثني يوم الجمعة حادي عشرين ربيع الآخر، وخلع على الوزير وهو الأستاذ عضد الدولة، وضربت على بابه الدبابات ثلاثة أوقات الفجر والمغرب والعشاء، وأمر سبعة عشر أميرا من المماليك وأذن للوعاظ فتكلموا بعد ما منعوا مدة طويلة، لما كان يحدث بسبب ذلك من الشرور الطويلة، ثم كثر احتجاجه، ولما جاءت البشارة بولايته إلى الموصل، قال العماد الكاتب:

قد أضاء الزمان بالمستضيء ** وارث البرد وابن عم النبي

جاء بالحق والشريعة والعد ** ل فيا مرحبا بهذا المحيي

فهنيئا لأهل بغداد فازوا ** بعد بؤس بكل عيش هني

ومضى إن كان في الزمن المظـ ** ـلم بالعود في الزمان المضي

وفيها: سار الملك نور الدين إلى الرقة فأخذها، وكذا نصيبين والخابور وسنجار، وسلمها إلى زوج ابنته ابن أخيه مودود بن عماد الدين، ثم سار إلى الموصل فأقام بها أربعة وعشرين يوما، وأقرها على ابن أخيه سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود، مع الجزيرة، وزوجه ابنته الأخرى، وأمر بعمارة جامعها وتوسعته، ووقف على تأسيسه بنفسه، وجعل له خطيبا ودرسا للفقه، وولي التدريس للفيقه أبي بكر البرقاني، تلميذ محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وكتب له منشورا بذلك، ووقف على الجامع قرية من قرى الموصل، وذلك كله بإشارة الشيخ صالح العابد عمر الملا، وقد كانت له زاوية يقصد فيها، وله في كل سنة دعوة في شهر المولد، يحضر فيه عنده الملوك والأمراء والعلماء والوزراء ويحتفل بذلك.

وقد كان الملك نور الدين صاحبه، وكان يستشيره في أموره، وممن يعتمده في مهماته وهو الذي أشار عليه في مدة مقامه في الموصل بجميع ما فعله من الخيرات، فلهذا حصل بقدومه لأهل الموصل كل مسرة، واندفعت عنهم كل مضرة، وأخرج من بين أظهرهم الظالم الغاشم فخر الدين عبد المسيح وسماه عبد الله وأخذه معه إلى دمشق فأقطعه إقطاعا حسنا، وقد كان عبد المسيح هذا نصرانيا، فأظهر الإسلام وكان يقال: إن له كنيسة في جوف داره، وكان سيء السيرة خبيث السريرة في حق العلماء والمسلمين خاصة.

ولما دخل نور الدين الموصل كان الذي استأمن له نور الدين الشيخ عمر الملا، وحين دخل نور الدين الموصل خرج إليه ابن أخيه فوقف بين يديه فأحسن إليه وأكرمه، وألبسه خلعة جاءته من الخليفة فدخل فيها إلى البلد في أبهة عظيمة، ولم يدخل نور الدين الموصل حتى قوي الشتاء فأقام بها كما ذكرنا، فلما كان في آخر ليلة من إقامته بها رأى رسول الله يقول له: طابت لك بلدك وتركت الجهاد وقتال أعداء الله؟

فنهض من فوره إلى السفر، وما أصبح إلا سائرا إلى الشام، واستقضى الشيخ ابن أبي عصرون، وكان معه على سنجار ونصيبين والخابور، فاستناب فيها ابن أبي عصرون نوابا وأصحابا.

وفيها: عزل صلاح الدين قضاة مصر لأنهم كانوا شيعة، وولى قضاء القضاة بها لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الشافعي، فاستناب في سائر المعاملات قضاة شافعية، وبنى مدرسة للشافعية، وأخرى للمالكية، واشترى ابن أخيه تقي الدين عمر دارا تعرف بمنازل العز، وجعلها مدرسة للشافعية ووقف عليها الروضة وغيرها.

وعمر صلاح الدين أسوار البلد، وكذلك أسوار إسكندرية، وأحسن إلى الرعايا إحسانا كثيرا، وركب فأغار على بلاد الفرنج بنواحي عسقلان وغزة وضرب قلعة كانت لهم على أيلة وقتل خلقا كثيرا من مقاتلتهم، وتلقى أهله وهم قادمون من الشام، واجتمع شمله بهم بعد فرقة طويلة.

وفيها: قطع صلاح الدين الأذان بحي على خير العمل من ديار مصر كلها، وشرع في تمهيد الخطبة لبني العباس على المنابر.

من الأعيان:

طاهر بن محمد بن طاهر أبو زرعة المقدسي

الأصل الرازي، المولد الهمداني الدار، ولد سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وأسمعه والده الحافظ محمد بن طاهر الكثير، ومما كان يرويه مسند الشافعي، توفي بهمدان يوم الأربعاء سابع ربيع الآخر، وقد قارب التسعين.

يوسف القاضي أبو الحجاج بن الخلال

صاحب (ديوان الإنشاء) بمصر، وهو شيخ القاضي الفاضل في هذا الفن، اشتغل عليه فيه فبرع حتى قدر أنه صار مكانه حين ضعف عن القيام بأعباء الوظيفة لكبره، وكان القاضي الفاضل يقوم به وبأهله حتى مات، ثم كان بعد موته كثير الإحسان إلى أهله، رحمهم الله.

يوسف بن الخليفة المستنجد بالله بن المقتفي بن المستظهر

تقدم ذكر وفاته وترجمته، وقد توفي بعده عمه أبو نصر بن المستظهر بأشهر، ولم يبق بعده أحد من ولد المستظهر، وكانت وفاته يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من ذي القعدة منها.

ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة

فيها كانت وفاة:

العاضد صاحب مصر.

في أول جمعة منها، فأمر صلاح الدين بإقامة الخطبة لبني العباس بمصر وأعمالها في الجمعة الثانية، وكان يوما مشهودا، ولما انتهى الخبر إلى الملك نور الدين أرسل إلى الخليفة يعلمه بذلك، مع ابن أبي عصرون شهاب الدين أبي المعالي، فزينت بغداد وغلقت الأسواق، وعملت القباب، وفرح المسلمون فرحا شديدا، وكانت قد قطعت الخطبة لبني العباس من ديار مصر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع العباسي، حين تغلب الفاطميون على مصر أيام المعز الفاطمي، باني القاهرة، إلى هذا الآن، وذلك مائتا سنة وثمان سنين.

قال ابن الجوزي: وقد ألفت في ذلك كتابا سميته (النصر على مصر).

موت العاضد آخر خلفاء العبيديين

والعاضد في اللغة: القاطع، لا يعضد شجرها: لا يقطع، وبه قطعت دولتهم، واسمه عبد الله ويكنى بأبي محمد بن يوسف الحافظ بن المستنصر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور القاهري، أبي الغنائم بن المهدي أولهم.

كان مولد العاضد في سنة ست وأربعين، فعاش إحدى وعشرين سنة وكانت سيرته مذمومة، وكان شيعيا خبيثا، لو أمكنه قتل كل من قدر عليه من أهل السنة، واتفق أنه لما استقر أمر الملك صلاح الدين رسم بالخطبة لبني العباس عن مرسوم الملك نور الدين، وذلك أن الخليفة بعث إلى نور الدين فعاتبه في ذلك قبل وفاته، وكان المستنجد إذ ذاك مدنفا مريضا، فلما مات تولى بعده ولده، فكانت الخطبة بمصر له، ثم إن العاضد مرض فكانت وفاته في يوم عاشوراء، فحضر الملك صلاح الدين جنازته وشهد عزاه، وبكى عليه وتأسف وظهر منه حزن كثير عليه، وقد كان مطيعا له فيما يأمره به، وكان العاضد كريما جوادا، سامحه الله.

ولما مات استحوذ صلاح الدين على القصر بما فيه، وأخرج منه أهل العاضد إلى دار أفردها لهم، وأجرى عليهم الأرزاق والنفقات الهنية، والعيشة الرضية، عوضا عما فاتهم من الخلافة، وكان صلاح يتندم على إقامة الخطبة لبني العباس بمصر قبل وفاة العاضد، وهلا صبر بها إلى بعد وفاته، ولكن كان ذلك قدرا مقدورا.

ومما نظمه العماد في ذلك:

توفي العاضد الدعيّ فما ** يفتح ذو بدعة بمصر فما

وعصر فرعونها انقضى وغدا ** يوسفها في الأمور محتكما

قد طفئت جمرة الغواة وقد ** داخ من الشرك كل ما اضطرما

وصار شمل الصلاح ملتئما ** بها، وعقد السداد منتظما

لما غدا مشعرا شعار بني الـ ** ـعباس حقا والباطل اكتتما

وبات داعي التوحيد منتظرا ** ومن دعاة الإشراك منتقما

وظل أهل الضلال في ظلل ** داجية من غبائة وعمى وارتكس الجاهلون في ظلم ** لما أضاءت منابر العلما

وعاد بالمستضيء معتليا ** بناء حق بعد ما كان منهدما

أعيدت الدولة التي اضطهدت ** وانتصر الدين بعدما اهتضما

واهنز عطف الإسلام من جلل ** وافتر ثغر الإسلام وابتسما

واستبشرت أوجه الهدى فرحا ** فليقرع الكفر سنه ندما

عاد حريم الأعداء منتهك الـ ** ـحمى وفي الطغاة منقسما

قصور أهل القصور أخربها ** عامر بيت من الكمال سما

أزعج بعد السكوت ساكنها ** ومات ذلا وأنفه رغما

ومما قيل من الشعر ببغداد يبشر الخليفة المستضيء بالخطبة له بمصر وأعمالها:

ليهنيك يا مولاي فتح تتابعت ** إليك به خوض الركائب توجف

أخذت به مصرا وقد حال دونها ** من الشرك يأس في لها الحق يقذف

فعادت بحمد الله باسم إمامنا ** تتيه على كل البلاد وتشرف

ولا غرو إن ذلت ليوسف مصره ** وكانت إلى عليائه تتشوف

فشابهه خلقا وخلقا وعفة ** وكل عن الرحمن في الأرض يخلف

كشفت بها عن آل هاشم سبة ** وعارا أبى إلا بسيفك يكشف

وقد ذكر ذلك أبو شامة في (الروضتين)، وهى أطول من هذه، وذكر أن أبا الفضائل الحسين بن محمد بن بركات الوزير أنشدها للخليفة عند موته بعد منام رآه، وأراد بيوسف الثاني المستنجد.

وهكذا ذكر ابن الجوزي: أنها أنشدت في حياة المستنجد، ولم يخطب بها إلا لابنه المستضيء، فجرى المقال باسم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقد أرسل الخليفة إلى الملك نور الدين معظمة لما بشر بالخطبة له بمصر، وكذلك للملك صلاح الدين إلى الديار المصرية ومعها أعلام سود ولواء معقود، ففرقت على الجوامع بالشام وبمصر.

قال ابن أبي طي في كتابه: ولما تفرغ صلاح الدين من توطيد المملكة وإقامة الخطبة والتعزية، استعرض حواصل القصرين فوجد فيهما من الحواصل والأمتعة والآلات والملابس والمفارش شيئا باهرا، وأمرا هائلا، من ذلك سبعمائة يتيمة من الجوهر، وقضيب زمرد طوله أكثر من شبر وسمكه نحو الإبهام، وحبل من ياقوت، وإبريق عظيم من الحجر المانع، وطبل للقولنج إذا ضرب عليه أحد فيه ريح غليظة أو غيرها خرج منه ذلك الريح من دبره، وينصرف عنه ما يجده من القولنج، فاتفق أن بعض أمراء الأكراد أخذه في يده ولم يدر ما شأنه فضرب عليه فحبق - أي: ضرط -، فألقاه من يده على الأرض فكسره، فبطل أمره.

وأما القضيب الزمرد فإن صلاح الدين كسره ثلاث فلق فقسمه بين نسائه، وقسم بين الأمراء شيئا كثيرا من قطع البلخش والياقوت والذهب والفضة والأثاث والأمتعة وغير ذلك، ثم باع ما فضل عن ذلك وجمع عليه أعيان التجار، فاستمر البيع فيما بقي هنالك من الأثاث والأمتعة نحوا من عشر سنين.

وأرسل إلى الخليفة ببغداد من ذلك هدايا سنية نفيسة، وكذلك إلى الملك نور الدين، أرسل إليه من ذلك جانبا كثيرا صالحا، ولم يدخر لنفسه شيئا مما حصل له من الأموال، بل كان يعطي ذلك من حوله من الأمراء وغيرهم، فكان مما أرسله إلى نور الدين ثلاث قطع بلخش زنة الواحدة إحدى وثلاثون مثقالا، والأخرى ثمانية عشر مثقالا، والثالثة عشرة مثاقيل، وقيل: أكثر مع لآلئ كثيرة، وستون ألف دينار، وعطر لم يسمع بمثله، ومن ذلك حمارة وفيل عظيم جدا، فأرسلت الحمارة إلى الخليفة في جملة هدايا.

قال ابن أبي طي: ووجد خزانة كتب ليس لها في مدائن الإسلام نظير، تشتمل على ألفي ألف مجلد، قال: ومن عجائب ذلك أنه كان بها ألف ومائتان وعشرون نسخة من (تاريخ الطبري)، وكذا قال العماد الكاتب: كانت الكتب قريبة من مائة وعشرين ألف مجلد.

وقال ابن الأثير: كان فيها من الكتب بالخطوط المنسوبة مائة ألف مجلد، وقد تسلمها القاضي الفاضل، فأخذ منها شيئا كثيرا مما اختاره وانتخبه.

قال: وقسم القصر الشمالي بين الأمراء فسكنوه، وأسكن أباه نجم الدين أيوب في قصر عظيم على الخليج، يقال له: اللؤلؤة، الذي فيه بستان الكافوري، وأسكن أكثر الأمراء في دور من كان ينتمي إلى الفاطميين، ولا يلقى أحد من الأتراك أحدا من أولئك الذين كانوا بها من الأكابر إلا شلحوه ثيابه ونهبوا داره، حتى تمزق كثير منهم في البلاد، وتفرقوا شذرمذر وصاروا أيدي سبأ.

وقد كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسرا، فصاروا كأمس الذاهب كأن لم يغنوا فيها.

وكان أول من ملك منهم المهدي، وكان من سلمية حدادا اسمه عبيد، وكان يهوديا، فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله، وادعى أنه شريف علوي فاطمي، وقال عن نفسه: إنه المهدي كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء والأئمة بعد الأربعمائة كما قد بسطنا ذلك فيما تقدم، والمقصود أن هذا الدعي الكذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد، ووازره جماعة من الجهلة، وصارت له دولة وصولة، ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها المهدية نسبة إليه، وصار ملكا مطاعا، يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض.

ثم كان من بعده ابنه القائم محمد، ثم ابنه المنصور إسماعيل، ثم ابنه المعز معد، وهو أول من دخل ديار مصر منهم، وبنيت له القاهرة المعزية والقصران، ثم ابنه العزيز نزار، ثم ابنه الحاكم منصور، ثم ابنه الظاهر علي، ثم ابنه المستنصر معد، ثم ابنه المستعلي أحمد، ثم ابنه الآمر منصور، ثم ابن عمه الحافظ عبد المجيد، ثم ابنه الظافر إسماعيل، ثم الفائز عيسى، ثم ابن عمه العاضد عبد الله وهو آخرهم، فجملتهم أربعة عشر ملكا، ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة.

وكذلك عدة خلفاء بني أمية أربعة عشر أيضا، ولكن كانت مدتهم نيفا وثمانين سنة، وقد نظمت أسماء هؤلاء وهؤلاء بأرجوزة تابعة لأرجوزة بني العباس عند انقضاء دولتهم ببغداد، في سنة ست وخمسين وستمائة، كما سيأتي.

وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالا، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد، وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكماله، حتى أخذوا القدس ونابلس وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعكا وصيدا وبيروت وصفد وطرابلس وإنطاكية وجميع ما وإلى ذلك، إلى بلاد إياس وسيس، واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين وبلاد شتى غير ذلك.

وقتلوا من المسلمين خلقا وأمما لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان ما لا يحد ولا يوصف، وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها، وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق، ولكن الله سلم، وحين زالت أيامهم وانتقض إبرامهم أعاد الله عز وجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته، وقد قال الشاعر المعروف عرقلة:

أصبح الملك بعد آل علي ** مشرقا بالملوك من آل شادي

وغدا الشرق يحسد الغر ** ب للقوم فمصر تزهو على بغداد

ما حووها إلا بعزم وحزم ** وصليل الفولاذ في الأكباد

لا كفرعون والعزيز ومن ** كان بها كالخطيب والأستاد

قال أبو شامة: يعني بالأستاد: كأنه نور الدين الأخشيدي، وقوله: آل علي يعني: الفاطميين على زعمهم ولم يكونوا فاطميين، وإنما كان ينسبون إلى عبيد، وكان اسمه سعيدا، وكان يهوديا حدادا بسلمية، ثم ذكر ما ذكرناه من كلام الأئمة فيهم وطعنهم في نسبهم.

قال: وقد استقصيت الكلام في (مختصر تاريخ دمشق) في ترجمة عبد الرحمن بن إلياس، ثم ذكر في (الروضتين) في هذا الموضع أشياء كثيرة في غضون ما سقته من قبائحهم، وما كانوا يجهرون به في بعض الأحيان من الكفريات، وقد تقدم من ذلك شيء كثير في تراجمهم. قال أبو شامة: وقد أفردت كتابا سميته (كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد)، وكذا صنف العلماء في الرد عليهم كتبا كثيرة، من أجل ما وضع في ذلك كتاب القاضي أبو بكر الباقلاني الذي سماه (كشف الأسرار وهتك الأستار)، وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بني أيوب يمدحهم على ما فعلوه بديار مصر:

أبدتم من بلى دولة الكفر من ** بني عبيد بمصر إن هذا هو الفضل

زنادقة، شيعية، باطنية ** مجوس وما في الصالحين لهم أصل

يسرون كفرا، يظهرون تشيعا ** ليستروا سابور عمهم الجهل

وفيها: أسقط الملك صلاح الدين عن أهل مصر المكوس والضرائب، وقرئ المنشور بذلك على رؤوس الأشهاد يوم الجمعة بعد الصلاة ثالث صفر.

وفيها: حصلت نفرة بين نور الدين وصلاح الدين، وذلك أن نور الدين غزا في هذه السنة بلاد الفرنج في السواحل فأحل بهم بأسا شديدا، وقرر في أنفسهم منه نقمة ووعيدا، ثم عزم على محاصرة الكرك، وكتب إلى صلاح الدين يلتقيه بالعساكر المصرية إلى بلاد الكرك، ليجتمعا هنالك ويتفقا على المصالح التي يعود نفعها على المسلمين، فتوهم من ذلك صلاح الدين وخاف أن يكون لهذا الأمر غائلة يزول بها ما حصل له من التمكن من بلاد مصر، ولكنه مع ذلك ركب في جيشه من مصر لأجل امتثال المرسوم، فسار أياما، ثم كر راجعا معتلا بقلة الظهر، والخوف على اختلال الأمور إذا بعد عن مصر واشتغل عنها، وأرسل يعتذر إلى نور الدين.

فوقع في نفسه منه، واشتد غضبه عليه، وعزم على الدخول إلى مصر وانتزاعها من صلاح الدين وتوليتها غيره، ولما بلغ هذا الخبر صلاح الدين ضاق بذلك ذرعه، وذكر ذلك بحضرة الأمراء والكبراء، فبادر ابن أخيه تقي الدين عمر، وقال: والله لو قصدنا نور الدين لنقاتلنه.

فشتمه الأمير نجم الدين أيوب والد صلاح الدين وسبه وأسكته ثم قال لابنه: اسمع ما أقول لك والله ما ههنا أحد أشفق عليك مني ومن خالك هذا -يعني: شهاب الدين الحارمي - ولو رأينا نور الدين لبادرنا إليه ولقبلنا الأرض بين يديه، وكذلك بقية الأمراء والجيش، ولو كتب إلي أن أبعثك إليه مع نجاب لفعلت.

ثم أمر من هنالك بالانصراف والذهاب، فلما خلى بابنه قال له: أما لك عقل؟ تذكر مثل هذا بحضرة هؤلاء، فيقول عمر مثل هذا الكلام فتقره عليه، فلا يبقى عند نور الدين أهم من قصدك وقتالك وخراب ديارنا، وأعمارنا، ولو قد رأى الجيش كلهم نور الدين لم يبق معك واحد منهم، ولذهبوا كلهم إليه، ولكن ابعث إليه وترفق له وتواضع عنده، وقل له: وأي حاجة إلى مجيء مولانا السلطان إلى قتالي؟ ابعث إلي بنجاب أو جمال حتى أجيء معه إلى بين يديك.

فبعث إليه بذلك فلما سمع نور الدين مثل هذا الكلام، لان قلبه له، وانصرفت همته عنه، واشتغل بغيره، وكان أمر الله قدرا مقدورا.

وفيها: اتخذ نور الدين الحمام الهوادي، وذلك لامتداد مملكته واتساعها، فإنه ملك من حد النوبة إلى همذان لا يتخللها إلا بلاد الفرنج، وكلهم تحت قهره وهدنته، ولذلك اتخذ في كل قلعة وحصن الحمام التي تحمل الرسائل إلى الآفاق في أسرع مدة، وأيسر عدة، وما أحسن ما قال فيهن القاضي الفاضل الحمام ملائكة الملوك، وقد أطنب ذلك العماد الكاتب، وأطرب وأعجب وأغرب.

من الأعيان:

عبد الله بن أحمد ابن أحمد بن أحمد أبو محمد بن الخشاب

قرأ القرآن وسمع الحديث، واشتغل بالنحو حتى ساد أهل زمانه فيهما، وشرح (الجمل) لعبد القاهر الجرجاني، وكان رجلا صالحا متطوعا، وهذا نادر في النحاة، توفي في شعبان من هذه السنة ودفن قريبا من الإمام أحمد، ورئي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟

فقال: غفر لي وأدخلني الجنة إلا أنه أعرض عني وعن جماعة من العلماء تركوا العمل واشتغلوا بالقول.

قال ابن خلكان: كان مطرحا للكلفة في مأكله وملبسه، وكان لا يبالي بمن شرق أو غرب.

محمد بن محمد بن محمد أبو المظفر الدوي

تفقه على محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وناظر ووعظ ببغداد، وكان يظهر مذهب الأشعري، ويتكلم في الحنابلة، مات في رمضان منها.

ناصر بن الجوني الصوفي

كان يمشي في طلب الحديث حافيا، توفي ببغداد.

قال أبو شامة: وفيها توفي.

نصر الله بن عبد الله أبو الفتوح

الإسكندري المعروف بابن قلاقس الشاعر بعيذاب، توفي عن خمس وأربعين سنة.

والشيخ أبو بكر يحيى بن سعدون القرطبي، نزيل الموصل المقري النحوي، قال: وفيها ولد العزيز والظاهر ابنا صلاح الدين، والمنصور محمد بن تقي الدين عمر.

ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة

فيها: أرسل نور الدين إلى صلاح الدين - وكان الرسول الموفق خالد بن القيسراني - ليقيم حساب الديار المصرية، وذلك لأن نور الدين استقل الهدية التي أرسل بها إليه من خزائن العاضد، ومقصوده أن يقرر على الديار المصرية خراجا منها في كل عام.

وفيها: حاصر صلاح الدين الكرك والشوبك فضيق على أهلها وخرب أماكن كثيرة من معاملاتها، ولكن لم يظفر بها عامه ذلك.

وفيها: اجتمعت الفرنج بالشام لقصد زرع، فوصلوا إلى سمسكين فبرز إليهم نور الدين فهربوا منه إلى الغور، ثم إلى السواد، ثم إلى الشلالة، فبعث سرية إلى طبرية فعاثوا هنالك وسبوا وقتلوا وغنموا وعادوا سالمين، ورجع الفرنج خائبين.

وفيها: أرسل السلطان صلاح الدين أخاه شمس الدولة نور شاه إلى بلاد النوبة فافتتحها، واستحوذ على معقلها وهو حصن يقال له: إبريم، ولما رآها بلدة قليلة الجدوى لا يفي خراجها بكلفتها، استخلف على الحصن المذكور رجلا من الأكراد يقال له: إبراهيم، فجعله مقدما مقررا بحصن إبريم، وانضاف إليه جماعة من الأكراد البطالين، فكثرت أموالهم وحسنت أحوالهم هنالك، وشنوا الغارات وحصلوا على الغنائم.

وفيها: كانت وفاة الأمير نجم الدين أيوب بن شادي والد صلاح الدين، سقط عن فرسه فمات، وسنأتي على ترجمته في الوفيات.

وفيها: سار الملك نور الدين إلى بلاد عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان السلجوقي، وأصلح ما وجده فيها من الخلل.

ثم سار فافتح مرعش وبهسا، وعمل في كل منهما بالحسنى.

قال العماد: وفيها: وصل الفقيه الإمام الكبير قطب الدين النيسابوري، وهو فقيه عصره ونسيج وحده، فسر به نور الدين وأنزله بحلب بمدرسة باب العراق، ثم أتى به إلى دمشق فدرس بزاوية جامع الغربية المعروفة بالشيخ نصر المقدسي، ثم نزل بمدرسة الجاروق، ثم شرع نور الدين بإنشاء مدرسة كبيرة للشافعية، فأدركه الأجل قبل ذلك.

قال أبو شامة: وهي العادلية الكبيرة التي عمرها بعد ذلك الملك العادل أبو بكر بن أيوب.

وفيها: رجع شهاب الدين بن أبي عصرون من بغداد وقد أدى الرسالة بالخطبة العباسية بالديار المصرية، ومعه توقيع من الخلافة بإقطاع درب هارون وصريفين لنور الدين، وقد كانتا قديما لأبيه عماد الدين زنكي، فأراد نور الدين أن ينشئ ببغداد مدرسة على حافة الدجلة، ويجعل هذين المكانين وقفا عليها فعاقه القدر عن ذلك.

وفيها: وقعت بناحية خوارزم حروب كثيرة بين سلطان شاه وبين أعدائه، استقصاها ابن الأثير وابن الساعي.

وفيها: هزم ملك الأرمن مليح بن ليون عساكر الروم، وغنم منهم شيئا كثيرا، وبعث إلى نور الدين بأموال كثيرة، وثلاثين رأسا من رؤوس كبارهم، فأرسلها نور الدين إلى الخليفة المستضيء.

وفيها: بعث صلاح الدين سرية صحبه قراقوش مملوك تقي الدين عمر ابن شاهنشاه إلى بلاد إفريقية، فملكوا طائفة كثيرة منها، من ذلك مدينة طرابلس الغرب وعدة مدن معها.

من الأعيان:

إيلدكز التركي الأتابكي

صاحب أذربيجان وغيرها، كان مملوكا للكمال السميرمي وزير السلطان محمود، ثم علا أمره وتمكن وملك بلاد أذربيجان وبلاد الجبل وغيرها، وكان عادلا منصفا شجاعا محسنا إلى الرعية، توفي بهمدان.

الأمير نجم الدين أبو الشكر أيوب بن شادي

ابن مروان، زاد بعضهم بعد مروان بن يعقوب، والذي عليه جمهورهم أنه لا يعرف بعد شادي أحد في نسبهم، وأغرب بعضهم وزعم أنهم من سلالة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وهذا ليس بصحيح، والذي نسب إليه ادعاء هذا هو أبو الفداء إسماعيل بن طغتكين بن أيوب بن شادي ويعرف بابن سيف الإسلام، وقد ملك اليمن بعد أبيه فتعاظم في نفسه وادعى الخلافة وتلقب بالإمام الهادي بنور الله، ولهجوا بذلك، وقال هو في ذلك:

وأنا الهادي الخليفة والذي ** أدوس رقاب الغلب بالضمر الجرد

ولا بد من بغداد أطوي ربوعها ** وأنشرها نشر الشماس على البرد

وأنصب أعلامي على شرفاتها ** وأحيي بها ما كان أسه جدي

ويخطب لي فيها على كل منبر ** وأظهر أمر الله في الغور والنجد

وما ادعاه ليس بصحيح، ولا أصل له يعتمد عليه، ولا مستند يستند إليه، والمقصود أن الأمير نجم الدين كان أسن من أخيه أسد الدين شيركوه، ولد بأرض الموصل، كان الأمير نجم الدين شجاعا، خدم الملك محمد بن ملكشاه فرأى فيه شهامة وأمانة، فولاه قلعة تكريت، فحكم فيها فعدل، وكان من أكرم الناس، ثم أقطعها الملك مسعود لمجاهد الدين نهروز شحنة العراق، فاستمر فيها، فاجتاز به في بعض الأحيان الملك عماد الدين زنكي منهزما من قراجا الساقي فآواه وخدمه خدمة بالغة تامة، وداوى جراحاته وأقام عنده مدة خمسة عشر يوما، ثم ارتحل إلى بلده الموصل.

ثم اتفق أن نجم الدين أيوب عاقب رجلا نصرانيا فقتله، وقيل: إنما قتله أخوه أسد الدين شيركوه، وهذا بخلاف الذي ذكره ابن خلكان، فإنه قال: رجعت جارية من بعض الخدم فذكرت له أنه تعرض لها اسفهسلار الذي بباب القلعة، فخرج إليه أسد الدين فطعنه بحربة فقتله، فحبسه أخوه نجم الدين وكتب إلى مجاهد الدين نهروز يخبره بصورة الحال، فكتب إليه يقول: إن أباكما كانت له علي خدمة، وكان قد استنابه في هذه القلعة قبل ابنه نجم الدين أيوب، وإني أكره أن أسوءكما، ولكن انتقلا منها.

فأخرجهما نهروز من قلعته.

وفي ليلة خروجه منها ولد له الملك الناصر صلاح الدين يوسف.

قال: فتشاءمت به لفقدي بلدي ووطني.

فقال له بعض الناس: قد نرى ما أنت فيه من التشاؤم بهذا المولود فما يؤمنك أن يكون هذا المولود ملكا عظيما له صيت؟

فكان كما قال، فاتصلا بخدمة الملك عماد الدين زنكي أبي نور الدين، ثم كانا عند نور الدين متقدمان عنده، وارتفعت منزلتهما وعظما، فاستناب نور الدين نجم الدين أيوب على بعلبك، وكان أسد الدين من أكبر أمرائه، ولما تسلم بعلبك أقام مدة طويلة، وولد له فيها أكثر أولاده، ثم كان من أمره ما ذكرناه في دخوله الديار المصرية.

ثم إنه في ذي الحجة سقط عن فرسه فمات بعد ثمانية أيام في اليوم السابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وكان ابنه صلاح الدين محاصر الكرك غائبا عنه، فلما بلغه خبر موته تألم لغيبته عن حضوره، وأرسل يتحرق ويتحزن، وأنشد:

وتخطفه يد الردى في غيبتي ** هبني حضرت، فكنت ماذا أصنع؟

وقد كان نجم الدين أيوب كثير الصلاة والصدقة والصيام، كريم النفس جوادا ممدحا، قال ابن خلكان: وله خانقاه بالديار المصرية، ومسجد وقناة خارج باب النصر من القاهرة، وقفها في سنة ست وستين.

قلت: وله بدمشق خانقاه أيضا، تعرف بالنجمية، وقد استنابه ابنه على الديار المصرية حين خرج إلى الكرك، وحكمه في الخزائن، وكان من أكرم الناس، وقد امتدحه الشعراء كالعماد وغيره، ورثوه بمراث كثيرة، وقد ذكر ذلك مستقصى الشيخ أبو شامة في (الروضتين)، ودفن مع أخيه أسد الدين بدار الإمارة، ثم نقلا إلى المدينة النبوية في سنة ثمانين، فدفنا بتربة الوزير جمال الدين الموصلي، الذي كان مواخيا لأسد الدين شيركوه، وهو الجمال المتقدم ذكره الذي ليس بين تربته ومسجد النبي إلا مقدار سبعة عشر ذراعا، فدفنا عنده.

قال أبو شامة: وفي هذه السنة توفي ملك الرافضة والنحاة.

الحسن بن صافي بن بزدن التركي

كان من أكابر أمراء بغداد المتحكمين في الدولة، ولكنه كان رافضيا خبيثا متعصبا للروافض، وكانوا في خفارته وجاهه، حتى أراح الله المسلمين منه في هذه السنة في ذي الحجة منها، ودفن بداره ثم نقل إلى مقابر قريش، فلله الحمد والمنة.

وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحا شديدا، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحدا منهم إلا يحمد الله، فغضب الشيعة من ذلك، ونشأت بينهم فتنة بسبب ذلك، وذكر ابن الساعي في (تاريخه): أنه كان في صغره شابا حسنا مليحا معشوقا للأكابر من الناس.

قال: ولشيخنا أبي اليمن الكندي فيه، وقد رمدت عينه:

بكل صباح لي وكل عشية ** وقوف على أبوابكم وسلام

وقد قيل لي يشكو سقاما بعينه ** فها نحن منها نشتكي ونضام

ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة

قال ابن الجوزي في (المنتظم): إنه سقط عندهم ببغداد برد كبار كالنارنج، ومنه ما وزنه سبعة أرطال، ثم أعقب ذلك سيل عظيم، وزيادة عظيمة في دجلة، لم يعهد مثلها أصلا، فخرب أشياء كثيرة من العمران والقرى والمزارع، حتى القبور، وخرج الناس إلى الصحراء، وكثر الضجيج والابتهال إلى الله حتى فرج الله عز وجل، وتناقصت زيادة الماء بحمد الله ومنه.

قال: وأما الموصل فإنه كان بها نحو ما كان ببغداد وانهدم بالماء نحو من ألفي دار، واستهدم بسببه مثل ذلك، وهلك تحت الردم خلق كثير، وكذلك الفرات زادت زيادة عظيمة، فهلك بسببها شيء كثير من القرى، وغلت الأسعار بالعراق في هذه السنة في الزروع والثمار، ووقع الموت في الغنم، وأصيب كثير ممن أكل منها بالعراق وغيرها.

قال ابن الساعي: وفي شوال منها توالت الأمطار بديار بكر والموصل أربعين يوما وليلة، لم يروا الشمس سوى مرتين لحظتين يسيرتين، ثم تستتر بالغيوم، فتهدمت بيوت كثيرة ومساكن على أهلها، وزادت الدجلة بسبب ذلك زيادة عظيمة، وغرق كثير من مساكن بغداد والموصل، ثم تناقص الماء بإذن الله.

قال ابن الجوزي: وفي رجب وصل ابن الشهرزوري من عند نور الدين ومعه ثياب مصرية، وحمارة ملونة جلدها مخطط مثل الثوب العتابي.

وفيها: عزل ابن الشامي عن تدريس النظامية ووليها أبو الخير القزويني.

قال: وفي جمادى الآخرة اعتقل المجير الفقيه ونسب إلى الزندقة والانحلال وترك الصلاة والصوم، فغضب له ناس وزكوه وأخرج، وذكر أنه وعظ بالحديثة فاجتمع عنده قريبا من ثلاثين ألفا.

قال ابن الساعي: وفيها سقط أحمد بن أمير المؤمنين المستضيء من قبة شاهقة إلى الأرض فسلم، ولكن نبت يده اليمنى وساعده اليسرى، وانسلخ شيء من أنفه، وكان معه خادم أسود يقال له: نجاح، فلما رأى سيده قد سقط ألقى هو نفسه أيضا خلفه، وقال: لا حاجة لي في الحياة بعده، فسلم أيضا، فلما صارت الخلافة إلى أبي العباس الناصر - وهو هذا الذي قد سقط - لم ينسها لنجاح هذا، فحكمه في الدولة وأحسن إليه، وقد كانا صغيرين لما سقطا.

وفيها: سار الملك نور الدين نحو بلاد الروم وفي خدمته الجيش وملك الأرمن وصاحب ملطية، وخلق من الملوك والأمراء، وافتتح عدة من حصونهم، وحاصر قلعة الروم فصالحه صاحبها بخمسين ألف دينار جزية، ثم عاد إلى حلب وقد وجد النجاح في كل ما طلب، ثم أتى دمشق مسرورا محبورا.

وفيها: كان فتح بلاد اليمن للملك صلاح الدين، وكان سبب ذلك أن صلاح الدين بلغه أن بها رجلا يقال له: عبد النبي بن مهدي، وقد تغلب عليها ودعا إلى نفسه وتسمى بالإمام، وزعم أنه سيملك الأرض كلها.

وقد كان أخوه علي بن مهدي قد تغلب قبله عليها، وانتزعها من أيدي أهل زبيد، ومات سنة ستين فملكها بعد أخوه هذا، وكل منهما كان سيء السيرة والسريرة، فعزم صلاح الدين لكثرة جيشه وقوته على إرسال سرية إليه، وكان أخوه الأكبر شمس الدولة شجاعا مهيبا بطلا، وكان ممن يجالس عمارة اليمني الشاعر، وكان عمارة ينعت له بلاد اليمن وحسنها وكثرة خيرها، فحداه ذلك على أن خرج في تلك السرية في رجب من هذه السنة، فورد مكة فاعتمر بها ثم سار منها إلى زبيد، فخرج إليه عبد النبي فهزمه توران شاه، وأسره وأسر زوجته الحرة، وكانت ذات أموال جزيلة فاستقرها على أشياء جزيلة، وذخائر جليلة، ونهب الجيش زبيد، ثم توجه إلى عدن فقاتله ياسر ملكها فهزمه وأسره، وأخذ البلد بيسير من الحصار، ومنع الجيش من نهبها، وقال: ما جئنا لنخرب البلاد، وإنما جئنا لعمارتها وملكها.

ثم سار في الناس سيرة حسنة عادلة فأحبوه، ثم تسلم بقية الحصون والمعاقل والمخالف، واستوسق له ملك اليمن بحذافيره وألقى إليه أفلاذ كبده ومطاميره، وخطب للخليفة العباسي المستضيء، وقتل الدعي المسمى بعبد النبي، وصفت اليمن من أكدارها، وعادت إلى ما سبق من مضمارها، وكتب بذلك إلى أخيه الملك الناصر يخبره بما فتح الله عليه، وأحسن إليه، فكتب الملك صلاح الدين بذلك إلى نور الدين، فأرسل نور الدين بذلك إلى الخليفة يبشره بفتح اليمن والخطبة بها له.

وفيها: خرج الموفق خالد بن القيسراني من الديار المصرية، وقد أقام بها الملك الناصر حساب الديار المصرية وما خرج من الحواصل حسب ما رسم به الملك نور الدين كما تقدم، وقد كاد صلاح الدين لما جاءته الرسالة بذلك يظهر شق العصا، ويواجه بالمخالفة والإباء، لكنه عاد إلى طباعه الحسنة وأظهر الطاعة المستحسنة، وأمر بكتابة الحساب وتحرير الكتاب والجواب، فبادر إلى ذلك جماعة الدواوين والحساب والكتاب، وبعث مع ابن القيسراني بهدية سنية وتحف هائلة هنية، فمن ذلك: خمس ختمات شريفات مغطات بخطوط مستويات، ومائة عقد من الجواهر النفيسات، خارجا عن قطع البلخش واليواقيت، والفصوص والثياب الفاخرات، والأواني والأباريق والصحاف الذهبيات والفضيات، والخيول المسومات، والغلمان والجواري الحسان والحسنات، ومن الذهب عشرة صناديق مقفلات مختومات، مما لا يدرى كم فيها من مئين ألوف ومئات، من الذهب المصري المعد للنفقات.

فلما فصلت العير من الديار المصرية لم تصل إلى الشام حتى أن نور الدين مات رحمه الله رب الأرضين والسموات، فأرسل صلاح الدين من ردها إليه وأعادها عليه، ويقال: إن منها ما عدي عليه وعلم بذلك حين وضعت بين يديه.

مقتل عمارة بن أبي الحسن ابن زيدان الحكمي من قحطان

أبو محمد الملقب بنجم الدين اليمني الفقيه الشاعر الشافعي، وسبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكاما فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين، ووزيرا وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك، ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج، إذا قدموا لنصرة الفاطميين.

فخرج توران شاه ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث، ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه، وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالؤا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالا جزيلة، وأفاض عليه حللا جميلة.

ثم استدعاهم السلطان واحدا واحدا فقررهم فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم فأفتوه بقتلهم، ثم عند ذلك أمر بقتل رؤسهم وأعيانهم، دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب.

وكان عمارة معاديا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان لا تسمع منه.

فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك، فندم ندما عظيما.

ولما ذهب به ليصلب مر بدار الفاضل فطلبه فتغيب عنه فأنشد:

عبد الرحيم قد احتجب ** إن الخلاص هو العجب

قال ابن أبي طي: وكان الذين صلبوا الفضل بن الكامل القاضي، وهو أبا القاسم هبة الله ابن عبد الله بن كامل قاضي قضاة الديار المصرية زمن الفاطميين، ويلقب بفخر الأمناء، فكان أول من صلب فيما قاله العماد، وقد كان ينسب إلى فضيلة وأدب، وله شعر رائق، فمن ذلك قوله في غلام رفاء:

يا رافيا خرق كل ثوب ** وما رفا حبه اعتقادي

عسى بكف الوصال ترفو ** ما مزق الهجر من فؤادي

وابن عبد القوي داعي الدعاة، وكان يعلم بدفائن القصر فعوقب ليدل عليها، فامتنع من ذلك فمات واندرست.

والعويرس ووهو ناظر الديوان، وتولى مع ذلك القضاء.

وشبريا وهو كاتب السر.

وعبد الصمد الكاتب وهو أحد أمراء المصريين، ونجاح الحمامي، ومنجم نصراني، كان قد بشرهم بأن هذا الأمر يتم بعلم النجوم.

وعمارة اليمني الشاعر

وكان عمارة شاعرا مطيقا بليغا فصيحا، لا يلحق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور وقد ذكرته في (طبقات الشافعية) لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي، وله مصنف في الفرائض، وكتاب(الوزراء الفاطميين)، وكتاب جمع سيرة نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبا فاضلا فقيها، غير أنه كان ينسب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا، وأقل ما كان ينسب إلى الرفض، وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العماد في الخريدة: أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها:

العلم مذ كان محتاج إلى العلم ** وشفرة السيف تستغني عن القلم

وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة.

قال: وفيها:

قد كان أول هذا الدين من رجل ** سعى إلى أن دعوه سيد الأمم

قال العماد: فأفتى أهل العلم من أهل مصر بقتله، وحرضوا السلطان على المثلة به وبمثله، قال: ويجوز أن يكون هذا البيت معمولا عليه، والله أعلم.

وقد أورد ابن الساعي شيئا من رقيق شعره، فمن ذلك قوله يمدح بعض الملوك:

إذا قابلت بشرى جبينه ** فارقته والبشر فوق جبيني

وإذا لثمت يمينه وخرجت من ** بابه لثم الملوك يميني

ومن ذلك قوله:

لي في هوى الرشا العذري إعذار ** لم يبق لي مدا قسر الدمع إنكار

لي في القدود وفي لثم الخدو ** د وفي ضم النهود لبانات وأوطار

هذا اختياري فوافق إن رضيت به ** وإلا فدعني لما أهوى وأختار

ومما أنشده الكندي في عمارة اليمني حين صلب:

عمارة في الإسلام أبدى جناية ** وبايع فيها بيعة وصليبا

وأمسى شريك الشرك في بعض أحمد ** وأصبح في حب الصليب صليبا

سيلقى غدا ما كان يسعى لنفسه ** ويسقى صديدا في لظى وصليبا

قال الشيخ أبو شامة: فالأول صليب النصارى، والثاني بمعنى مصلوب، والثالث بمعنى القوي، والرابع ودك العظام.

ولما صلب الملك الناصر هؤلاء يوم السبت الثاني من شهر رمضان من هذه السنة بين القصرين من القاهرة، كتب إلى الملك نور الدين يعلمه بما وقع منهم وبهم من الخزي والنكال.

قال العماد: فوصل الكتاب بذلك يوم توفي الملك نور الدين، رحمه الله تعالى.

وكذلك قتل صلاح الدين رجلا من أهل الإسكندرية يقال له: قديد القفاجي، كان قد افتتن به الناس، وجعلوا له جزءا من أكسابهم، حتى النساء من أموالهن، فأحيط به فأراد القفاجي الخلاص ولات حين مناص، فقتل أسوة فيمن سلف، ومما وجد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه:

أسفي على زمان الإمام العاضد ** أسف العقيم على فراق الواحد

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت ** يا بن النبي من ازدحام الوافد

وعلى انفرادك من عساكرك التي ** كانوا كأمواج الخضم الراكد

قلدت مؤتمن أمرهم فكبا ** وقصر عن صلاح الفاسد

فعسى الليالي أن ترد إليكم ** ما عودتكم من جميل عوائد

وله من جملة قصيدة:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة ** لك الملامة إن قصرت في عذلي

بالله زر ساحة القصرين وابك معي ** لا على صفين ولا الجمل

وقل لأهلها والله ما التحمت ** فيكم قروحي ولا جرحى بمندمل

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة ** في نسل ابني أمير المؤمنين علي

وقد أورد له الشيخ أبو شامة في (الروضتين) أشعارا كثيرة من مدائحه في الفاطميين، وكذا ابن خلكان.

ابن قسرول

صاحب كتاب (مطالع الأنوار)، وضعه على كتاب (مشارق الأنوار) للقاضي عياض، وكان من علماء بلاده وفضلائهم المشهورين، مات فجأة بعد صلاة الجمعة سادس شوال منها عن أربع وستين سنة.

قاله ابن خلكان، والله سبحانه وتعالى أعلم.

فصل في وفاة الملك نور الدين محمود زنكي وذكر شيء من سيرته العادلة

هو الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن الملك الأتابك قسيم الدولة عماد الدين أبي سعيد زنكي، الملقب بالشهيد بن الملك آقسنقر الأتابك، الملقب بقسيم الدولة التركي السلجوقي مولاهم، ولد وقت طلوع الشمس من يوم الأحد السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب، ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل وغيرهما من البلدان الكثيرة الكبيرة، وتعلم القرآن والفروسية والرمي، وكان شهما شجاعا ذا همة عالية، وقصد صالح، وحرمة وافرة وديانة بينة.

فلما قتل أبوه سنة إحدى وأربعين وهو محاصر جعبر كما ذكرنا، صار الملك بحلب إلى ابنه نور الدين هذا، وأعطاه أخوه سيف الدين غازي الموصل، ثم تقدم، ثم افتتح دمشق في سنة تسع وأربعين فأحسن إلى أهلها وبنى لهم المدارس والمساجد والربط، ووسع لهم الطرق على المارة، وبنى عليها الرصافات ووسع الأسواق، ووضع المكوس بدار الغنم والبطيخ والعرصد، وغير ذلك.

وكان حنفي المذهب يحب العلماء والفقراء ويكرمهم ويحترمهم، ويحسن إليهم، وكان يقوم في أحكامه بالمعدلة الحسنة، واتباع الشرع المطهر، ويعقد مجالس العدل ويتولاها بنفسه، ويجتمع إليه في ذلك القاضي والفقهاء والمفتيون من سائر المذاهب، ويجلس في يوم الثلاثاء بالمسجد المعلق الذي بالكشك، ليصل إليه كل واحد من المسلمين وأهل الذمة، حتى يساويهم، وأحاط السور على حارة اليهود، وكان خرابا، وأغلق باب كسان وفتح باب الفرج، ولم يكن هناك قبله باب بالكلية.

وأظهر ببلاده السنة وأمات البدعة، وأمر بالتأذين بحي على الصلاة حي على الفلاح، ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل لأن شعار الرفض كان ظاهرا بها، وأقام الحدود وفتح الحصون، وكسر الفرنج مرارا عديدة، واستنقذ من أيديهم معاقل كثيرة من الحصون المنيعة التي كانوا قد استحوذوا عليها من معاقل المسلمين، كما تقدم بسط ذلك في السنين المتقدمة.

وأقطع العرب إقطاعات لئلا يتعرضوا للحجيج، وبنى بدمشق مارستانا لم يبن في الشام قبله مثله ولا بعده أيضا، ووقف وقفا على من يعلم الأيتام الخط والقراءة، وجعل لهم نفقة وكسوة، وعلى المجاورين بالحرمين وله أوقاف داره على جميع أبواب الخير، وعلى الأرامل والمحاويج.

وكان الجامع دائرا فولى نظره القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهزوري الموصلي، الذي قدم به فولاه قضاء قضاة دمشق، فأصلح أموره وفتح المشاهد الأربعة، وقد كانت حواصل الجامع بها من حين احترقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة، وأضاف إلى أوقاف الجامع المعلومة الأوقاف التي لا يعرف واقفوها، ولا يعرف شروطهم فيها، وجعلها قلما واحدا، وسمى مال المصالح، ورتب عليه لذوي الحاجات والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام وما أشبه ذلك.

وقد كان رحمه الله حسن الخط كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعا للآثار النبوية، محافظا على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة، محبا لفعل الخيرات، عفيف البطن والفرج، مقتصدا في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلا نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا، ولم يسمع منه كلمة فحش قط، في غضب ولا رضى، صموتا وقورا.

قال ابن الأثير: لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين، ولا أكثر تحريا للعدل والإنصاف منه، وكانت له دكاكين بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم، فكان يقتات منها، وزاد امرأته من كراها على نفقتها عليها، واستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال فكان يتناوله ولا يزيد عليه شيئا، ولو مات جوعا، وكان يكثر اللعب بالكرة فعاتبه رجل من كبار الصالحين في ذلك فقال: إنما الأعمال بالنيات، وإنما أريد بذلك تمرين الخيل على الكر والفر، وتعليمها ذلك، ونحن لا نترك الجهاد.

وكان لا يلبس الحرير، وكان يأكل من كسب يده بسيفه ورمحه، وركب يوما مع بعض أصحابه والشمس في ظهورهما والظل بين أيديهما لا يدركانه ثم رجعا فصار الظل وراءهما، ثم ساق نور الدين فرسه سوقا عنيفا وظله يتبعه، فقال لصاحبه: أتدري ما شبهت هذا الذي نحن فيه؟

شبهته بالدنيا تهرب ممن يطلبها، وتطلب من يهرب منها.

وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى:

مثل الرزق الذي تطلبه ** مثل الظل يمشي معك

أنت لا تدركه مستعجلا ** فإذا وليت عنه تبعك

وكان فقيها على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث وأسمعه، وكان كثير الصلاة بالليل من وقت السحر إلى أن يركب:

جمع الشجاعة والخشوع لديه ** ما أحسن الشجعان في المحراب

وكذلك كانت زوجته عصمت الدين خاتون بنت الأتابك معين الدين تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وردها فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها فذكرت نومها الذي فوت عليها وردها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطبلخانة أجرا جزيلا، وجراية كثيرة:

فألبس الله هاتيك العظام وإن ** بلين تحت الثرى عفوا وغفرانا

سقى ثرى أودعوه رحمة ملأت ** مثوى قبورهم روحا وريحانا

وذكر ابن الأثير: أن الملك نور الدين بينما هو ذات يوم يلعب بالكرة إذ رأى رجلا يحدث آخر ويومئ إلى نور الدين، فبعث الحاجب ليسأله ما شأنه، فإذا هو رجل معه رسول من جهة الحاكم، وهو يزعم أن له على نور الدين حقا يريد أن يحاكمه عند القاضي، فلما رجع الحاجب إلى نور الدين وأعلمه بذلك ألقى الجوكان من يده، وأقبل مع خصمه ماشيا إلى القاضي الشهرزوري، وأرسل نور الدين إلى القاضي: أن لا تعاملني إلا معاملة الخصوم.

فحين وصلا وقف نور الدين مع خصمه بين يدي القاضي، حتى انفصلت الخصومة والحكومة، ولم يثبت للرجل على نور الدين حق، بل ثبت الحق للسلطان على الرجل، فلما تبين ذلك قال السلطان: إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دعي إليه، فإنما نحن معاشر الحكام أعلانا وأدنانا شجنكية لرسول الله ولشرعه، فنحن قائمون بين يديه طوع مراسيمه، فما أمر به امتثلناه، وما نهانا عنه اجتنبناه، وأنا أعلم أنه لا حق للرجل عندي، ومع هذا أشهدكم أني قد ملكته ذلك الذي ادعى به ووهبته له.

قال ابن الأثير: وهو أول من ابتنى دارا للعدل، وكان يجلس فيها في الأسبوع مرتين، وقيل: أربع مرات، وقيل: خمس.

ويحضر القاضي والفقهاء من سائر المذاهب، ولا يحجبه يومئذ حاجب ولا غيره، بل يصل إليه القوي والضعيف، فكان يكلم الناس ويستفهمهم ويخاطبهم بنفسه، فيكشف المظالم، وينصف المظلوم من الظالم.

وكان سبب ذلك أن أسد الدين شيركوه بن شادي كان قد عظم شأنه عند نور الدين، حتى صار كأنه شريكه في المملكة، واقتنى الأملاك والأموال والمزارع والقرى، وكان ربما ظلم نوابه جيرانه في الأراضي والأملاك العدل، وكان القاضي كمال الدين ينصف كل من استعداه على جميع الأمراء إلا أسد الدين هذا فما كان يهجم عليه، فلما ابتنى نور الدين دار العدل تقدم أسد إلى نوابه أن لا يدعوا لأحد عنده ظلامة، وإن كانت عظيمة، فإن زوال ماله عنده أحب إليه من أن يراه نور الدين بعين ظالم، أو يوقفه مع خصم من العامة، ففعلوا ذلك.

فلما جلس نور الدين بدار العدل مدة متطاولة ولم ير أحدا يستعدي على أسد الدين، سأل القاضي عن ذلك فأعلمه بصورة الحال، فسجد نور الدين شكرا لله، وقال: الحمد لله الذي أصحابنا ينصفون من أنفسهم.

وأما شجاعته فيقال: إنه لم ير على ظهر فرس قط أشجع ولا أثبت منه، وكان حسن اللعب بالكرة، وكان ربما ضربها ثم يسوق وراءها ويأخذها من الهوى بيده، ثم يرميها إلى آخر الميدان، ولم ير جوكانة يعلو على رأسه، ولا يرى الجوكان في يده، لأن الكم ساتر لها، ولكنه استهانة بلعب الكرة، وكان شجاعا صبورا في الحرب، يضرب المثل به في ذلك، وكان يقول: قد تعرضت للشهادة غير مرة فلم يتفق لي ذلك، ولو كان فيّ خير ولي عند الله قيمة لرزقنيها، والأعمال بالنية.

وقال له يوما قطب الدين النيسابوري: بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك، فإنك لو قتلت قتل جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين.

فقال له: اسكت يا قطب الدين فإن قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود؟ من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو؟ ومن هو محمود؟

قال: فبكى من كان حاضرا، رحمه الله.

وقد أسر بنفسه في بعض الغزوات بعض ملوك الإفرنج، فاستشار الأمراء فيه هل يقتله أو يأخذ ما يبذل له من المال؟

وكان قد بذل له في فداء نفسه مالا كثيرا، فاختلفوا عليه ثم حسن في رأيه إطلاقه وأخذ الفداء منه، فبعث إلى بلده من خلاصته من يأتيه بما افتدى به نفسه، فجاء به سريعا فأطلقه نور الدين، فحين وصل إلى بلاده مات ذلك الملك ببلده، فأعجب ذلك نور الدين وأصحابه، وبنى من ذلك المال المارستان الذي بدمشق، وليس له في البلاد نظير، ومن شرطه أنه على الفقراء والمساكين، وإذا لم يوجد بعض الأدوية التي يعز وجودها إلا فيه فلا يمنع منه الأغنياء، ومن جاء إليه فلا يمنع من شرابه، ولهذا جاء إليه نور الدين وشرب من شرابه، رحمه الله.

قلت: ويقول بعض الناس: إنه لم تخمد منه النار منذ بني إلى زماننا هذا، فالله أعلم.

وقد بنى الخانات الكثيرة في الطرقات والأبراج، ورتب الخفراء في الأماكن المخوفة، وجعل فيها الحمام الهوادي التي تطلعه على الأخبار في أسرع مدة، وبنى الربط والخانقات، وكان يجمع الفقهاء عنده والمشايخ والصوفية ويكرمهم ويعظمهم، وكان يحب الصالحين، وقد نال بعض الأمراء مرة عنده من بعض الفقهاء، وهو قطب الدين النيسابوري، فقال له نور الدين: ويحك إن كان ما تقول حقا فله من الحسنات الكثيرة الماحية لذلك ما ليس عندك مما يكفر عنه سيئات ما ذكرت إن كنت صادقا، على أني والله لا أصدقك، وإن عدت ذكرته أو أحدا غيره عندي بسوء لأوذينك.

فكف عنه ولم يذكره بعد ذلك.

وقد ابتنى بدمشق دارا لاستماع الحديث وإسماعه.

قال ابن الأثير: وهو أول من بنى دار حديث، وقد كان مهيبا وقورا شديد الهيبة في قلوب الأمراء، لا يتجاسر أحد أن يجلس بين يديه إلا بإذنه، ولم يكن أحد من الأمراء يجلس بلا إذن سوى الأمير نجم الدين أيوب، وأما أسد الدين شيركوه ومجد الدين بن الداية نائب حلب، وغيرهما من الأكابر فكانوا يقفون بين يديه، ومع هذا كان إذا دخل أحد من الفقهاء أو الفقراء قام له ومشى خطوات وأجلسه معه على سجادته في وقار وسكون، وإذا أعطى أحدا منهم شيئا مستكثرا يقول: هؤلاء جند الله وبدعائهم ننصر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا.

وقد سمع عليه جزء حديث وفيه «فخرج رسول الله متقلدا السيف» فجعل يتعجب من تغيير عادات الناس لما ثبت عنه عليه السلام، وكيف يربط الأجناد والأمراء على أوساطهم ولا يفعلون كما فعل رسول الله ، ثم أمر الجند بأن لا يحملوا السيوف إلا متقلديها، ثم خرج هو في اليوم الثاني إلى الموكب وهو متقلد السيف، وجميع الجيش كذلك، يريد بذلك الاقتداء برسول الله ، فرحمه الله.

وقص عليه وزيره موفق الدين خالد بن محمد بن نصر القيسراني الشاعر أنه رأى في منامه كأنه يغسل ثياب الملك نور الدين، فأمره بأن يكتب مناشير بوضع المكوس والضرائب عن البلاد، وقال له: هذا تأويل رؤياك.

وكتب إلى الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم، ويقول لهم: إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم.

وكتب بذلك إلى سائر ممالكه وبلدان سلطانه، وأمر الوعاظ أن يستحلوا له من التجار، وكان يقول في سجوده: اللهم ارحم المكاس العشار الظالم محمود الكلب.

وقيل: إن برهان الدين البلخي أنكر على الملك نور الدين في استعانته في حروب الكفار بأموال المكوس، وقال له مرة: كيف تنصرون وفي عساكركم الخمور والطبول والزمور؟

ويقال: إن سبب وضعه المكوس عن البلاد أن الواعظ أبا عثمان المنتخب بن أبي محمد الواسطي - وكان من الصالحين الكبار، وكان هذا الرجل ليس له شيء ولا يقبل من أحد شيئا، إنما كانت له جبة يلبسها إذا خرج إلى مجلس وعظه، وكان يجتمع في مجلس وعظه الألوف من الناس - أنشد نور الدين أبياتا تتضمن ما هو متلبس في ملكه، وفيها تخويف وتحذير شديد له:

مثل وقوفك أيها المغرور ** يوم القيامة والسماء تمور

إن قيل نور الدين رحت مسلما ** فاحذر بأن تبقى وما لك نور

أنهيت عن شرب الخمور وأنت في ** كأس المظالم طائش مخمور

عطلت كاسات المدام تعففا ** وعليك كاسات الحرام تدور

ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى ** فردا وجاءك منكر ونكير

ماذا تقول إذا وقفت بموقف ** فردا ذليلا والحساب عسير

وتعلقت فيك الخصوم وأنت في ** يوم الحساب مسلسل مجرور

وتفرقت عنك الجنود وأنت في ** ضيق القبور موسد مقبور

ووددت أنك ما وليت ولاية ** يوما ولا قال الأنام أمير

وبقيت بعد العز رهن حفيرة ** في عالم الموتى وأنت حقير

وحشرت عريانا حزينا باكيا ** قلقا وما لك في الأنام مجير

أرضيت أن تحيا وقلبك دارس ** عافى الخراب وجسمك المعمور

أرضيت أن يحظى سواك بقربه ** أبدا وأنت معذب مهجور

مهد لنفسك حجة تنجو بها ** يوم المعاد ويوم تبدو العور

فلما سمع نور الدين هذه الأبيات بكى بكاء شديدا، وأمر بوضع المكوس والضرائب في سائر البلاد.

وكتب إليه الشيخ عمر الملا من الموصل - وكان قد أمر الولاة والأمراء بها أن لا يفصلوا بها أمرا حتى يعلموا الملا به، فما أمرهم به من شيء امتثلوه، وكان من الصالحين الزاهدين، وكان نور الدين يستقرض منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه جميع رمضان - فكتب إليه الشيخ عمر بن الملا هذا: إن المفسدين قد كثروا، ويحتاج إلى سياسة ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ إنسان في البرية من يجيء يشهد له؟

فكتب إليه الملك نور الدين على ظهر كتابه: إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم، ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا، فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى، فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة فهو يكملها بزيادته، وهذا من الجرأة على الله وعلى ما شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم.

فلما وصل الكتاب إلى الشيخ عمر الملا جمع الناس بالموصل وقرأ عليهم الكتاب، وجعل يقول: انظروا إلى كتاب الزاهد إلى الملك، وكتاب الملك إلى الزاهد.

وجاء إليه أخو الشيخ أبي البيان يستعديه على رجل أنه سبه ورماه بأنه يرائي وأنه وأنه، وجعل يبالغ في الشكاية عليه.

فقال له السلطان: أليس الله تعالى يقول: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاما} 27.

وقال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 28.

فسكت الشيخ ولم يحر جوابا.

وقد كان نور الدين يعتقده ويعتقد أخاه أبا البيان، وأتاه زائرا مرات، ووقف عليه وقفا.

وقال الفقيه أبو الفتح الأشري معيد النظامية ببغداد، وكان قد جمع سيرة مختصرة لنور الدين، قال: وكان نور الدين محافظا على الصلوات في أوقاتها، في جماعة بتمام شروطها والقيام بها بأركانها، والطمأنينة في ركوعها وسجودها، وكان كثير الصلاة بالليل، كثير الابتهال في الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل في أموره كلها.

قال: وبلغنا عن جماعة من الصوفية ممن يعتمد على قولهم أنهم دخلوا بلاد القدس للزيارة أيام أخذ القدس الفرنج فسمعهم يقولون: إن القسيم ابن القسيم - يعنون نور الدين - له مع الله سر، فإنه لم يظفر وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا وينصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل ويرفع يده إلى الله ويدعو فإنه يستجيب له ويعطيه سؤله فيظفر علينا.

قال: فهذا كلام الكفار في حقه.

وحكى الشيخ أبو شامة: أن نور الدين وقف بستان الميدان سوى الغيضة التي تليه نصفه على تطييب جامع دمشق، والنصف الآخر يقسم عشرة أجزاء جزآن على تطييب المدرسة التي أنشأها للحنيفة، والثمانية أجزاء الأخرى على تطييب المساجد التسعة، وهي مسجد الصالحين بجبل قيسون وجامع القلعة، ومسجد عطية، ومسجد ابن لبيد بالعسقار، ومسجد الرماحين المعلق، ومسجد العباس بالصالحية، ومسجد دار البطيخ المعلق، والمسجد الذي جدده نور الدين جوار بيعة اليهود، لكل من هذه المساجد جزء من إحدى عشر جزء من النصف.

ومناقبه ومآثره كثيرة جدا، وقد ذكرنا نبذة من ذلك يستدل بها على ما وراءها.

وقد ذكر الشيخ شهاب الدين في أول (الروضتين) كثيرا من محاسنه، وذكر ما مدح به من القصائد، وذكر أنه لما فتح أسد الدين الديار المصرية ثم مات، ثم تولى صلاح الدين هم بعزله عنها، واستنابة غيره فيها غير مرة، ولكن يعوقه عن ذلك ويصده قتال الفرنج، واقتراب أجله، فلما كان في هذه السنة - وهي سنة تسع وستين وخمسمائة - وهي آخر مدته، أضمر على الدخول إلى الديار المصرية وصمم عليه، وأرسل إلى عساكر بلاد الموصل وغيرها ليكونوا ببلاد الشام حفظا لها من الفرنج في غيبته ويركب هو في جمهور الجيش إلى مصر، وقد خاف منه الملك صلاح الدين خوفا شديدا.

فلما كان يوم عيد الفطر من هذه السنة ركب إلى الميدان الأخضر القبلي، وصلى فيه صلاة عيد الفطر، وكان ذلك نهار الأحد، ورمى القبق في الميدان الأخضر الشمالي، والقدر يقول له: هذا آخر أعيادك.

ومد في ذلك اليوم سماطا حافلا، وأمر بانتهابه، وطهر ولده الملك الصالح إسماعيل في هذا اليوم، وزينت له البلد، وضربت البشائر للعيد والختان، ثم ركب في يوم الاثنين وأكب على العادة ثم لعب بالكرة في ذلك اليوم، فحصل له غيظ من بعض الأمراء - ولم يكن ذلك من سجيته - فبادر إلى القلعة وهو كذلك في غاية الغضب، وانزعج ودخل في حيز سوء المزاج، واشتغل بنفسه وأوجاعه، وتنكرت عليه جميع حواسه وطباعه، واحتبس أسبوعا عن الناس، والناس في شغل عنه بما هم فيه من اللعب والانشراح في الزينة التي نصبوها لأجل طهور ولده، فهذا يجود بروحه، وهذا يجود بموجوده، سرورا بذلك، فانعكست تلك الأفراح بالأتراح، ونسخ الجد ذلك المزاح، وحصلت للملك خوانيق في حلقه منعته من النطق، وهذا شأن أوجاع الحلق، وكان قد أشير عليه بالفصد فلم يقبل، وبالمبادرة إلى المعالجة فلم يفعل، وكان أمر الله قدرا مقدورا.

فلما كان يوم الأربعاء الحادي عشر من شوال من هذه السنة قبض إلى رحمة الله تعالى عن ثمان وخمسين سنة، مكث منها في الملك ثمان وعشرين سنة رحمه الله، وصلي عليه بجامع القلعة بدمشق، ثم حول إلى تربته التي أنشأها للحنفية بين باب الخواصين، وباب الخيميين على الدرب، وقبره بها يزار، ويحلق بشباكه ويطيب ويتبرك به كل مار، فيقول: قبر نور الدين الشهيد، لما حصل له في حلقه من الخوانيق، وكذا كان يقال لابنه الشهيد ويلقب بالقسيم، وكانت الفرنج تقول له: القسيم ابن القسيم.

وقد رثاه الشعراء بمراث كثيرة قد أوردها أبو شامة، وما أحسن ما قاله العماد:

عجبت من الموت لما أتى ** إلى ملك في سجايا ملك

وكيف ثوى الفلك المستد ** ير في الأرض وسط فلك

وقال حسان الشاعر الملقب بالعرقلة في مدرسة نور الدين لما دفن بها، رحمه الله تعالى:

ومدرسة ستدرس كل شيء ** وتبقى في حمى علم ونسك

تضوع ذكرها شرقا وغربا ** بنور الدين محمود بن زنكي

يقول وقوله حق وصدق ** بغير كناية وبغير شك

دمشق في المدائن بيت ملكي ** وهذي في المدارس بنت ملكي

صفة نور الدين رحمه الله تعالى

كان طويل القامة أسمر اللون حلو العينين واسع الجبين، حسن الصورة، تركي الشكل، ليس له لحية إلا في حنكه، مهيبا متواضعا عليه جلالة ونور، يعظم الإسلام وقواعد الدين، ويعظم الشرع.

فلما مات نور الدين في شوال من هذه السنة بويع من بعده بالملك لولده الصالح إسماعيل، وكان صغيرا، وجعل أتابكه الأمير شمس الدين بن مقدم، فاختلف الأمراء وحادت الآراء وظهرت الشرور، وكثرت الخمور، وقد كانت لا توجد في زمنه ولا أحد يجسر أن يتعاطى شيئا منها، ولا من الفواحش، وانتشرت الفواحش وظهرت حتى أن ابن أخيه سيف الدين غازي بن مودود صاحب الموصل لما تحقق موته - وكان محصورا منه - نادى مناديه بالبلد بالمسامحة باللعب واللهو والشراب والمسكر والطرب، ومع المنادي دف وقدح ومزمار الشيطان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد كان ابن أخيه هذا وغيره من الملوك والأمراء الذين له حكم عليهم، لا يستطيع أحد منهم أن يفعل شيئا من المناكر والفواحش، فلما مات مرح أمرهم وعاثوا في الأرض فسادا وتحقق قول الشاعر:

ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ** ولا تسقني سرا وقد أمكن الجهر

وطمعت الأعداء من كل جانب في المسلمين، وعزم الفرنج على قصد دمشق وانتزاعها من أيدي المسلمين، فبرز إليهم ابن مقدم الأتابك فواقعهم عند بانياس فضعف عن مقاومتهم، فهادنهم مدة، ودفع إليهم أموالا جزيلة عجلها لهم، ولولا أنه خوفهم بقدوم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لما هادنوه.

ولما بلغ ذلك صلاح الدين كتب إلى الأمراء وخاصة ابن مقدم يلومهم على ما صنعوا من المهادنة ودفع الأموال إلى الفرنج، وهم أقل وأذل، وأخبرهم أنه على عزم قصد البلاد الشامية ليحفظها من الفرنج، فردوا إليه كتابا فيه غلظة، وكلام فيه بشاعة، فلم يلتفت إليهم ومن شدة خوفهم منه كتبوا إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل ليملكوه عليهم ليدفع عنهم كيد الملك الناصر صلاح الدين صاحب مصر، فلم يفعل لأنه خاف أن يكون مكيدة منهم له، وذلك أنه كان قد هرب منه الطواشي سعد الدولة مستكين الذي كان قد جعله الملك نور الدين عينا عليه، وحافظا له من تعاطي ما لا يليق من الفواحش والخمر واللعب واللهو.

فلما مات نور الدين ونادى في الموصل تلك المناداة القبيحة خاف منه الطواشي المذكور أن يمسكه فهرب منه سرا، فلما تحقق غازي موت عمه بعث في إثر هذا الخادم ففاته فاستحوذ على حواصله، ودخل الطواشي حلب ثم سار إلى دمشق فاتفق مع الأمراء على أن يأخذوا ابن نور الدين الملك الصالح إسماعيل إلى حلب فيربيه هنالك مكان ربي والده، وتكون دمشق مسلمة إلى الأتابك شمس الدولة بن مقدم، والقلعة إلى الطواشي جمال الدين ريحان.

فلما سار الملك الصالح من دمشق خرج معه الكبراء والأمراء من دمشق إلى حلب، وذلك في الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وحين وصلوا حلب جلس الصبي على سرير ملكها واحتاطوا على بني الداية شمس الدين بن الداية أخو مجد الدين الذي كان رضيع نور الدين، وإخوته الثلاثة، وقد كان شمس الدين علي بن الداية يظن أن ابن نور الدين يسلم إليه فيربيه، لأنه أحق الناس بذلك، فخيبوا ظنه وسجنوه وإخوته في الجب.

فكتب الملك صلاح الدين إلى الأمراء يلومهم على ما فعلوا على ما فعلوا من نقل الولد من دمشق إلى حلب، ومن حبسهم بني الداية وهم من خيار الأمراء ورؤس الكبراء، ولم لا يسلموا الولد إلى مجد الدين بن الداية الذي هو أحظى عند نور الدين وعند الناس منهم.

فكتبوا إليه يسيئون الأدب عليه، وكل ذلك يزيده حنقا عليهم، ويحرضه على القدوم إليهم، ولكنه في الوقت في شغل شاغل لما دهمه ببلاد مصر من الأمر الهائل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في أول السنة الآتية.

من الأعيان والمشاهير:

الحسن بن الحسن ابن أحمد بن محمد العطار

أبو العلاء الهمداني الحافظ، سمع الكثير ورحل إلى بلدان كثيرة، اجتمع بالمشايخ وقدم بغداد وحصل الكتب الكثيرة، واشتغل بعلم القراءات واللغة، حتى صار أوحد زمانه في علمي الكتاب والسنة، وصنف الكتب الكثيرة المفيدة، وكان على طريقة حسنة سخيا عابدا زاهدا صحيح الاعتقاد حسن السمت، له ببلده المكانة والقبول التام، وكانت وفاته ليلة الخميس الحادي عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة، وقد جاوز الثمانين بأربعة أشهر وأيام.

قال ابن الجوزي: وقد بلغني أنه رئي في المنام أنه في مدينة جميع جدرانها كتب وحوله كتب لا تعد ولا تحصى، وهو مشتغل بمطالعتها، فقيل له: ما هذا؟

فقال: سألت الله أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدنيا فأعطاني.

وفيها توفي:

الأهوازي

خازن كتب مشهد أبي حنيفة ببغداد، توفي فجأة في ربيع الأول من هذه السنة.

محمود بن زنكي بن آقسنقر

السلطان الملك العادل نور الدين، صاحب بلاد الشام وغيرها من البلدان الكثيرة الواسعة، كان مجاهدا في الفرنج، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، محبا للعلماء والفقراء والصالحين، مبغضا للظلم، صحيح الاعتقاد، مؤثرا لأفعال الخير، لا يجسر أحد أن يظلم أحدا في زمانه، وكان قد قمع المناكر وأهلها، ورفع العلم والشرع، وكان مدمنا لقيام الليل يصوم كثيرا، ويمنع نفسه عن الشهوات، وكان يحب التيسير على المسلمين، ويرسل البر إلى العلماء والفقراء والمساكين والأيتام والأرامل، وليست الدنيا عنده بشيء رحمه الله وبل ثراه بالرحمة والرضوان.

قال ابن الجوزي: استرجع نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى من أيدي الكفار نيفا وخمسين مدينة، وقد كان يكاتبني وأكاتبه.

قال: ولما حضرته الوفاة أخذ العهد على الأمراء من بعده لولده - يعني الصالح إسماعيل - وجدد العهد مع صاحب طرابلس أن لا يغير على الشام في المدة التي كان ماده فيها، وذلك أنه كان قد أسره في بعض غزواته وأسر معه جماعة من أهل دولته، فافتدى نفسه منه بثلاثمائة ألف دينار وخمسمائة حصان وخمسمائة وردية ومثلها برانس، أي: لبوس، وقنطوريات وخمسمائة أسير من المسلمين، وعاهده أن لا يغير على بلاد المسلمين لمدة سبعة سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام، وأخذ منه رهائن على ذلك مائة من أولاده وأولاد أكابر الفرنج وبطارقتهم، فإن نكث أراق دماءهم، وكان قد عزم على فتح بيت المقدس شرفه الله، فوافته المنية في شوال من هذه السنة، والأعمال بالنيات، فحصل له أجر ما نوى، وكانت ولايته ثمان وعشرين سنة وأشهرا، وقد تقدم ذلك.

وهذا مقتضى ما ذكره ابن الجوزي ومعناه.

الخضر بن نصر علي بن نصر الأربلي الفقيه الشافعي

أول من درس بإربل في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وكان فاضلا دينا، انتفع به الناس، وكان قد اشتغل على الكيا الهراسي وغيره ببغداد، وقدم دمشق فأرخه ابن عساكر في هذه السنة، وترجمه ابن خلكان في (الوفيات)، وقال: قبره يزار، وقد زرته غير مرة، ورأيت الناس ينتابون قبره ويتبركون به.

وهذا الذي قاله ابن خلكان مما ينكره أهل العلم عليه وعلى أمثاله ممن يعظم القبور.

وفيها: هلك ملك الفرنج مرِّي لعنه الله، وأظنه ملك عسقلان ونحوها من البلاد، وقد كان قارب أن يملك الديار المصرية لولا فضل الله ورحمته بعباده المؤمنين.

ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة

استهلت والسلطان الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب قد عزم على الدخول إلى بلاد الشام لأجل حفظه من الفرنج، ولكن دهمه أمر شغله عنه، وذلك أن الفرنج قدموا إلى الساحل المصري في أسطول لم يسمع بمثله، وكثرة مراكب وآلات من الحرب والحصار والمقاتلة، من جملة ذلك مائتي شيني في كل منها مائة وخمسون مقاتلا، وأربعمائة قطعة أخرى.

وكان قدومهم من صقلية إلى ظاهر إسكندرية قبل رأس السنة بأربعة أيام، فنصبوا المنجنيقات والدبابات حول البلد، وبرز إليهم أهلها فقاتلوهم دونها قتالا شديدا أياما، وقتل من كلا الفريقين خلق كثير، ثم اتفق أهل البلد على حريق المنجانيق والدبابات ففعلوا ذلك، فأضعف ذلك قلوب الفرنج.

ثم كبسهم المسلمون فقتلوا منهم جماعة وغنموا منهم ما أرادوا، فانهزم الفرنج في كل وجه، ولم يكن لهم ملجأ إلا البحر أو القتل أو الأسر، واستحوذ المسلمون على أموالهم وعلى خيولهم وخيامهم، وبالجملة قتلوا خلقا من الرجال وركب من بقي منهم في أسطول إلى بلادهم خائبين.

ومما عوق الملك الناصر عن الشام أيضا أن رجلا يعرف بالكنز سماه بعضهم عباس بن شادي وكان من مقدمي الديار المصرية والدولة الفاطمية، كان قد استند إلى بلد يقال له: أسوان، وجعل يجمع عليه الناس، فاجتمع عليه خلق كثير من الرعاع من الحاضرة والغربان والرعيان، وكان يزعم إليهم أنه سيعيد الدولة الفاطمية، ويدحض الأتابكة التركية، فالتف عليه خلق كثير، ثم قصدوا قوص وأعمالها، وقتل طائفة من أمرائها ورجالها، فجرد إليه صلاح الدين طائفة من الجيش وأمر عليهم أخاه الملك العادل أبا بكر الكردي، فلما التقيا هزمه أبو بكر وأسر أهله وقتله.

فصل بروز السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف

فلما تمهدت البلاد ولم يبق بها رأس من الدولة العبيدية، برز السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف في الجيوش التركية قاصدا البلاد الشامية، وذلك حين مات سلطانها نور الدين محمود بن زنكي وأخيف سكانها وتضعضعت أركانها، واختلف حكامها، وفسد نقضها وإبرامها، وقصده جمع شملها والإحسان إلى أهلها، وأمن سهلها وجبلها، ونصرة الإسلام ودفع الطغام وإظهار القرآن وإخفاء سائر الأديان، وتكسير الصلبان في رضى الرحمن، وإرغام الشيطان.

فنزل البركة في مستهل صفر وأقام بها حتى اجتمع عليه العسكر واستناب على مصر أخاه أبا بكر، ثم سار إلى بلبيس في الثالث عشر من ربيع الأول، فدخل مدينة دمشق في يوم الاثنين سلخ ربيع الأول، ولم ينتطح فيها عنزان، ولا اختلف عليه سيفان، وذلك أن نائبها شمس الدين بن مقدم كان قد كتب إليه أولا فأغلظ له في الكتاب، فلما رأى أمره متوجها جعل يكاتبه ويستحثه على القدوم إلى دمشق، ويعده بتسليم البلد، فلما رأى الجد لم يمكنه المخالفة، فسلم البلد إليه بلا مدافعة.

فنزل السلطان أولا في دار والده دار العقيلي التي بناها الملك الظاهر بيبرس مدرسة، وجاء أعيان البلد للسلام عليه فرأوا منه غاية الإحسان، وكان نائب القلعة إذ ذاك الطواشي ريحان، فكاتبه وأجزل نواله حتى سلمها إليه، ثم نزل إليه فأكرمه واحترمه، ثم أظهر السلطان أنه أحق الناس بتربية ولد نور الدين، لما لنور الدين عليهم من الإحسان المتين، وذكر أنه خطب لنور الدين بالديار المصرية، ثم إن السلطان عامل الناس بالإحسان وأمر بإبطال ما أحدث بعد نور الدين من المكوس والضرائب، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ولله عاقبة الأمور.

فلما استقرت له دمشق بحذافيرها نهض إلى حلب مسرعا لما فيها من التخبيط والتخليط، واستناب على دمشق أخاه طغتكين بن أيوب الملقب بسيف الإسلام، فلما اجتاز حمص أخذ ربضها ولم يشتغل بقلعتها، ثم سار إلى حماة فتسلمها من صاحبها عز الدين بن جبريل، وسأله أن يكون سفيره بينه وبين الحلبيين، فأجابه إلى ذلك.

فسار إليهم فحذّرهم بأس صلاح الدين فلم يلتفتوا إليه، بل أمروا بسجنه واعتقاله، فأبطا الجواب على السلطان، فكتب إليهم كتابا بليغا يلومهم فيه على ما هم فيه من الاختلاف، وعدم الائتلاف، فردوا عليه أسوأ جواب، فأرسل إليهم يذكرهم أيامه وأيام أبيه وعمه في خدمة نور الدين في المواقف المحمودة التي يشهد لهم بها أهل الدين، ثم سار إلى حلب فنزل على جبل جوشن، ثم نودي في أهل حلب بالحضور في ميدان باب العراق، فاجتمعوا فأشرف عليهم ابن الملك نور الدين فتودد إليهم وتباكى لديهم وحرضهم على قتال صلاح الدين، وذلك عن إشارة الأمراء المقدمين.

فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته على كل أحد، وشرط عليه الروافض منهم أن يعاد الأذان بحي على خير العمل، وأن يذكر في الأسواق، وأن يكون لهم في الجامع الجانب الشرقي، وأن يذكر أسماء الأئمة الاثني عشر بين يدي الجنائز، وأن يكبروا على الجنازة خمسا، وأن تكون عقود أنكحتهم إلى الشريف أبي طاهر بن أبي المكارم حمزة بن زاهر الحسيني، فأجيبوا إلى ذلك كله.

فأذن بالجامع وسائر البلد بحي على خير العمل، وعجز أهل البلد عن مقاومة الناصر، وأعملوا في كيده كل خاطر، فأرسلوا أولا إلى شيبان صاحب الحسبة فأرسل نفرا من أصحابه إلى الناصر ليقتلوه فلم يظفر منه بشيء، بل قتلوا بعض الأمراء، ثم ظهر عليهم فقتلوا عن آخرهم، فراسلوا عند ذلك القومص صاحب طرابلس الفرنجي، ووعدوه بأموال جزيلة إن هو رحل عنهم الناصر، وكان هذا القومص قد أسره نور الدين وهو معتقل عنده مدة عشر سنين، ثم افتدى نفسه بمائة ألف دينار وألف أسير من المسلمين، وكان لا ينساها لنور الدين بل قصد لحمص ليأخذها فركب إليه السلطان الناصر، وقد أرسل السلطان إلى بلده طرابلس سرية فقتلوا وأسروا وغنموا.

فلما اقترب الناصر منه نكص على عقبيه راجعا إلى بلده، ورأى أنه قد أجابهم إلى ما أرادوا منه، فلما فصل الناصر إلى حمص لم يكن قد أخذ قلعتها فتصدى لأخذها، فنصب عليها المنجنيقات فأخذها قسرا، وملكها قهرا، ثم كر راجعا إلى حلب فأناله الله في هذه الكرة ما طلب.

فلما نزل بها كتب إليهم القاضي الفاضل على لسان السلطان كتابا بليغا فصيحا فائقا رائقا، على يدي الخطيب شمس الدين يقول فيه: فإذا قضى التسليم حق اللقا، فاستدعى الإخلاص جهد الدعا، فليَعُد وليُعِد حوادث ما كان حديثا يفترى، وجواري أمور إن قال فيها كثيرا فأكثر منه ما قد جرى، ويشرح صدر منها لعله يشرح منها صدرا، وليوضح الأحوال المستبشرة فإن الله لا يعبد سرا.

ومن العجائب أن تسير غرائب ** في الأرض لم يعلم بها المأمول

كالعيس أقتل ما يكون لها الصدى ** والماء فوق ظهورها محمول

فإنا كنا نقتبس النار بأكفنا، وغيرنا يستنير، ونستنبط الماء بأيدينا وسوانا يستمير، ونلتقي السهام بنحورنا وغيرنا يعتمد التصوير، ونصافح الصفاح بصدورنا وغيرنا يدعي التصدير، ولابد تسترد بضاعتنا بموقف العدل الذي يُرد به المغصوب ونظهر طاعتنا فنأخذ بحظ الألسن كما أخذ بحظ القلوب، وكان أول أمرنا أنا كنا في الشام نفتح الفتوح بمباشرتنا أنفسنا، ونجاهد الكفار متقدمين بعساكرنا، نحن ووالدنا وعمنا، فأي مدينة فتحت أو أي معقل للعدو أو عسكر أو مصاف للإسلام معه ضرب ولم نكن فيه؟ فما يجهل أحد صنعنا، ولا يجحد عدونا أن يصطلي الجمرة ونملك الكرة، ونقدم الجماعة ونرتب المقاتلة، وندبر التعبئة، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها، ولا يضرنا أن يكون لغيرنا ذكرها.

ثم ذكر ما صنعوا بمصر من كسر الكفر وإزالة المنكر وقمع الفرنج وهدم البدع، وما بسط من العدل ونشر من الفضل، وما أقامه من الخطب العباسية ببلاد مصر واليمن والنوبة وإفريقية، وغير ذلك بكلام بسيط حسن.

فلما وصلهم الكتاب أساؤوا الجواب، وقد كانوا كاتبوا صاحب الموصل سيف الدين غازي بن مودود أخي نور الدين محمود بن زنكي، فبعث إليهم أخاه عز الدين في عساكره، وأقبل إليهم في دساكره، وانضاف إليهم الحلبيون وقصدوا حماه في غيبة الناصر واشتغاله بقلعة حمص وعمارتها، فلما بلغه خبرهم سار إليهم في قل من الجيش، فانتهى إليهم وهم في جحافل كثيرة، فواقفوه وطمعوا فيه لقلة من معه، وهموا بمناجزته فجعل يداريهم ويدعوهم إلى المصالحة لعل الجيش يلحقونه، حتى قال لهم في جملة ما قال: أنا اقنع بدمشق وحدها وأقيم بها الخطبة للملك الصالح إسماعيل، وأترك ما عداها من أرض الشام.

فامتنع من المصالحة الخادم سعد الدولة كمشتكين، إلا أن يجعل لهم الرحبة التي هي بيد ابن عمه ناصر الدين بن أسد الدين، فقال: ليس لي ذلك، ولا أقدر عليه.

فأبوا الصلح وأقدموا على القتال، فجعل جيشه كردوسا واحدا، وذلك يوم الأحد التاسع عشر من رمضان عند قرون حماه، وصبر صبرا عظيما، وجاء في أثناء الحال ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه ومعه أخوه فروخ شاه في طائفة من الجيش، وقد ترجح دسته عليهم، وخلص رعبه إليهم، فولوا هنالك هاربين، وتولوا منهزمين، فأسر من أسر من رؤسهم، ونادى أن لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح.

ثم أطلق من وقع في أسره وسار على الفور إلى حلب، وقد انعكس عليهم الحال وآلوا إلى شر مآل فبالأمس كان يطلب منهم المصالحة والمسالمة، وهم اليوم يطلبون منه أن يكف عنهم ويرجع، على أن المعرة وكفر طاب وماردين له زيادة على ما بيده من أراضي حماه وحمص، فقبل ذلك وكف عنهم وحلف على أن لا يغزو بعدها الملك الصالح، وأن يدعو له على سائر منابر بلاده، وشفع في بني الداية أخوه مجد الدين، على أن يخرجوا، ففعل ذلك ثم رجع مؤيدا منصورا.

فلما كان بحماه وصلت إليه رسل الخليفة المستضيء بأمر الله بالخلع السنية والتشريفات العباسية والأعلام السود، والتوقيع من الديوان بالسلطنة ببلاد مصر والشام، وأفيضت الخلع على أهله وأقاربه وأصحابه وأعوانه، وكان يوما مشهودا.

واستناب على حماه ابن خاله وصهره الأمير شهاب الدين محمود، ثم سار إلى حمص فأطلقها إلى ابن عمه ناصر الدين، كما كانت من قبله لأبيه شيركوه أسد الدين، ثم بعلبك على البقاع إلى دمشق في ذي القعدة.

وفيها: ظهر رجل من قرية مشغرا من معاملة دمشق وكان مغربيا فادعى النبوة، وأظهر شيئا من المخاريق والمحاييل والشعبذة والأبواب النارنجية، فافتتن به طوائف من الهمج والعوام، فتطلبه السلطان فهرب إلى معاملة حلب، فألف عليه كل مقطوع الذنب، وأضل خلقا من الفلاحين، وتزوج امرأة أحبها، وكانت من أهل تلك البطائح فعلمها أن ادعت النبوة، فأشبها قصة مسيلمة وسجاح.

وفيها: هرب وزير الخليفة ونهبت داره.

وفيها: درس أبو الفرج بن الجوزي بمدرسة أنشئت للحنابلة فحضر عنده قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني والفقهاء والكبراء، وكان يوما مشهودا، وخلعت عليه خلعة سنية.

وفيها توفي من الأعيان:

روح بن أحمد أبو طالب الحدثني

قاضي القضاة ببغداد في بعض الأحيان، وكان ابنه في أرض الحجاز، فلما بلغه موت أبيه مرض بعده فمات بعد أيام، وكان ينبذ بالرفض.

شملة التركماني

كان قد تغلب على بلاد فارس، واستحدث قلاعا وتغلب على السلجوقية، وانتظم له الدست نحوا من عشرين سنة، ثم حاربه بعض التركمان فقتلوه.

قيماز بن عبد الله

قطب الدين المستنجدي، وزر للخليفة المستضيء، وكان مقدما على العساكر كلها، ثم خرج على الخليفة وقصد أن ينهب دار الخلافة، فصعد الخليفة فوق سطح في داره وأمر العامة بنهب دار قيماز، فنهبت وكان ذلك بإفتاء الفقهاء، فهرب فهلك هو ومن معه في المهامه والقفار.

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة

فيها: طلب الفرنج من السلطان صلاح الدين وهو مقيم بمرج الصفر أن يهادنهم فأجابهم إلى ذلك، لأن الشام كان مجدبا، وأرسل جيشه صحبة القاضي الفاضل إلى الديار المصرية ليستغلوا المغل ثم يقبلوا، وعزم هو على المقام بالشام، واعتمد على كاتبه العماد عوضا عن القاضي، ولم يكن أحد أعز عليه منه:

وما عن رضى كانت سليمى بديلة ** ولكنها للضرورات أحكام

وكانت إقامة السلطان بالشام وإرسال الجيش صحبة القاضي الفاضل غاية الحزم والتدبير ليحفظ ما استجد من الممالك خوفا عليه مما هنالك، فلما أرسل الجيوش إلى مصر وبقي هو في طائفة يسيرة والله قد تكفل له بالنصر، كتب صاحب الموصل سيف الدين غازي ابن أخي نور الدين إلى جماعة الحلبيين يلومهم على ما وقع بينهم وبين الناصر من المصالحة، وقد كان إذ ذاك مشغولا بمحاربة أخيه ومحاصرته، وهو عماد الدين زنكي بسنجار، وليست هذه بفعلة صالحة، وما كان سبب قتاله لأخيه إلا لكونه أبى طاعة الملك الناصر، فاصطلح مع أخيه حين عرف قوة الناصر وناصريه، ثم حرض الحلبيين على نقض العهود ونبذها إليه، فأرسلوا إليه بالعهود التي عاهدوه عليها ودعوه إليها، فاستعان عليهم بالله وأرسل إلى الجيوش المصرية ليقدموا عليه.

فأقبل صاحب الموصل بعساكره ودساكره، واجتمع بابن عمه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، وسار في عشرين ألف مقاتل على الخيول المضمرة الجرد الأبابيل، وسار نحوهم الناصر وهو كالهزبر الكاسر، وإنما معه ألف فارس من الحماة، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، ولكن الجيوش المصرية قد خرجوا إليه قاصدين، وله ناصرين في جحافل كالجبال.

فاجتمع الفريقان وتداعوا إلى النزال، وذلك في يوم الخميس العاشر من شوال فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى حمل الملك الناصر بنفسه الكريمة، وكانت بإذن الله الهزيمة، فقتلوا خلقا من الحلبيين والمواصلة، وأخذوا مضارب الملك سيف الدين غازي وحواصله، وأسروا جماعة من رؤسهم فأطلقهم الناصر بعد ما أفاض الخلع على أبدانهم ورؤسهم، وقد كانوا استعانوا بجماعة من الفرنج في حال القتال، وهذا ليس من أفعال الأبطال، وقد وجد السلطان في مخيم السلطان غازي سبتا من الأقفاص التي فيها الطيور المطربة، وذلك في مجلس شرابه المسكر، وكيف من هذا حاله ومسلكه ينتصر؟

فأمر السلطان بردها عليه وتسييرها إليه، وقال للرسول: قل له بعد وصولك إليه وسلامك عليه: اشتغالك بهذه الطيور أحب إليك مما وقعت فيه من المحذور.

وغنم منهم شيئا كثيرا ففرقه على أصحابه غيبا وحضورا، وأنعم بخيمة سيف الدين غازي على ابن أخيه عز الدين فروخ شاه بن نجم الدين، ورد ما كان في وطاقه من الجواري والمغنيات، وقد كان معه أكثر من مائة مغنية، ورد آلات اللهو واللعب إلى حلب، وقال: قولوا لهم هذه أحب إليكم من الركوع والسجود.

ووجد عسكر المواصلة كالحانة من كثرة الخمور والبرابط والملاهي، وهذه سبيل كل فاسق ساه لاهي.

فلما رجعت الجيوش إلى حلب وقد انقلبوا شر منقلب، وندموا على ما نقضوا من الإيمان، وشقهم العصا على السلطان، حصنوا البلد، خوفا من الأسد، وأسرع صاحب الموصل فوصلها، وما صدق حتى دخلها، فلما فرغ الناصر مما غنم أسرع المسير إلى حلب وهو في غاية القوة، فوجدهم قد حصنوها.

فقال: المصلحة أن نبادر إلى فتح الحصون التي حول البلد، ثم نعود إليهم فلا يمتنع علينا منهم أحد.

فشرع يفتحها حصنا حصنا، ويهدم أركان دولتهم ركنا ركنا، ففتح مراغة ومنبج ثم سار إلى إعزاز فأرسل الحلبيون إلى سنان فأرسل جماعة لقتل السلطان، فدخل جماعة منهم في جيشه في زي الجند فقاتلوا أشد القتال، حتى اختلطوا بهم فوجدوا ذات يوم فرصة والسلطان ظاهر للناس فحمل عليه واحد منهم فضربه بسكين على رأسه فإذا هو محترس منهم باللأمة، فسلمه الله، غير أن السكين مرت على خده فجرحته جرحا هينا، ثم أخذ الفداوي رأس السلطان فوضعه إلى الأرض ليذبحه، ومن حوله قد أخذتهم دهشة، ثم ثاب إليهم عقلهم فبادروا إلى الفداوي فقتلوه وقطعوه، ثم هجم عليه آخر في الساعة الراهنة فقتل، ثم هجم آخر على بعض الأمراء فقتل أيضا، ثم هرب الرابع فأدرك فقتل، وبطل القتال ذلك اليوم.

ثم صمم السلطان على البلد ففتحها وأقطعها ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وقد اشتد حنقه على أهل حلب، لما أرسلوا إليه من الفداوية وإقدامهم على ذلك منه، فجاء فنزل تجاه البلد على جبل جوشن، وضربت خيمته على رأس الباروقية، وذلك في خامس عشر ذي الحجة، وجبى الأموال وأخذ الخراج من القرى، ومنع أن يدخل البلد شيء أو يخرج منه أحد، واستمر محاصرا لها حتى انسلخت السنة.

وفي ذي الحجة من هذه السنة عاد نور الدولة أخو السلطان من بلاد اليمن إلى أخيه شوقا إليه، وقد حصل أموالا جزيلة، ففرح به السلطان، فلما اجتمعا قال السلطان البر التقي: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} 29، وقد استناب على بلاد اليمن من ذوي قرابته، فلما استقر عند أخيه استنابه على دمشق وأعمالها، وقيل: إن قدومه كان قبل وقعة المواصلة، وكان من أكبر أسباب الفتح والنصر، لشجاعته وفروسيته.

وفيها: أنقذ تقي الدين عمر بن أخي الناصر مملوكه بهاء الدين قراقوش في جيشه إلى بلاد المغرب، ففتح بلادا كثيرة، وغنم أموالا جزيلة، ثم عاد إلى مصر.

وفيها: قدم إلى دمشق أبو الفتوح الواعظ عبد السلام بن يوسف بن محمد بن مقلد التنوخي الدمشقي الأصل، البغدادي المنشأ، ذكره العماد في (الخريدة).

قال: وكان صاحبي، وجلس للوعظ وحضر عنده السلطان صلاح الدين، وأورد له مقطعات أشعار، فمن ذلك ما كان يقول:

يا مالكا مهجتي يا منتهى أملي ** يا حاضرا شاهدا في القلب والفكر

خلقتني من تراب أنت خالقه ** حتى إذا صرت تمثالا من الصور

أجريت في قالبي رحا منورة ** تمر فيه كجري الماء في الشجر

جمعتني من صفا روح منورة ** وهيكل صغته من معدن كدر

إن غبت فيك فيا فخري ويا شرفي ** وإن حضرت فيا سمعي ويا بصري

أو احتجبت فسرى فيك في وله ** وإن خطرت فقلبي منك في خطر

تبدو فتمحو رسومي ثم تثبتها ** وإن تغيب عني عشت بالأثر

وفيها توفي من الأعيان:

الحافظ أبو القاسم ابن عساكر

علي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر أبو القاسم الدمشقي

أحد أكابر حفاظ الحديث، ومن عني به سماعا وجمعا وتصنيفا واطلاعا وحفظا لأسانيده ومتونه، وإتقانا لأساليبه وفنونه، صنف (تاريخ الشام) في ثمانين مجلدة، فهي باقية بعده مخلدة، وقد ندر على من تقدمه من المؤرخين، وأتعب من يأتي بعده من المتأخرين، فحاز فيه قصب السبق، ومن نظر فيه وتأمله رأى ما وصفه فيه وأصله، وحكم بأنه فريد دهره، في التواريخ، وأنه الذروة العليا من الشماريخ، هذا مع ماله في علوم الحديث من الكتب المفيدة، وما هو مشتمل عليه من العبادة والطرائق الحميدة، فله (أطراف الكتب الستة)، و(الشيوخ النبل)، و(تبيين كذب المفتري على أبي الحسن الأشعري)، وغير ذلك من المصنفات الكبار والصغار، والأجزاء والأسفار.

و قد أكثر في طلب الحديث من الترحال والأسفار، وجاز المدن والأقاليم والأمصار، وجمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من الحفاظ نسخا واستنساخا، ومقابلة وتصحيح الألفاظ، وكان من أكابر سروات الدماشقة، ورياسته فيهم عالية باسقة، من ذوي الأقدار والهيئات، والأموال الجزيلة، والصلاة والهبات.

كانت وفاته في الحادي عشر من رجب، وله من العمر ثنتان وسبعون سنة، وحضر السلطان صلاح الدين جنازته، ودفن بمقابر باب الصغير، رحمه الله تعالى.

وكان الذي صلى عليه الشيخ قطب الدين النيسابوري.

قال ابن خلكان: وله أشعار كثيرة منها:

أيا نفس ويحك جاء المشيب ** فماذا التصابي وماذا الغزل

تولى شبابي كأن لم يكن ** وجاء المشيب كأن لم يزل

كأني بنفسي على غرة ** وخطب المنون بها قد نزل

فيا ليت شعري ممن أكون ** وما قدر الله لي في الأزل

قال: وقد التزم فيها بما لم يلزم وهو الزاي مع اللام.

قال: وكان أخوه صائن الدين هبة الله بن الحسن محدثا فقيها، اشتغل ببغداد على أسعد الميهني، ثم قدم دمشق فدرس بالغزالية، وتوفي بها عن ثلاث وستين سنة.

ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة

استهلت هذه السنة والناصر محاصر حلب، فسألوه وتوسلوا إليه أن يصالحهم فصالحهم على أن تكون حلب وأعمالها للملك الصالح فقط، فكتبوا بذلك الكتاب، فلما كان المساء بعث السلطان الصالح إسماعيل يطلب منه زيادة قلعة إعزاز، وأرسل بأخت له صغيرة وهي الخاتون بنت نور الدين ليكون ذلك أدعى له بقبول السؤال، وأنجع في حصول النوال.

فحين رآها السلطان قام قائما، وقبّل الأرض وأجابها إلى سؤالها، وأطلق لها من الجواهر والتحف شيئا كثيرا، ثم ترحل عن حلب فقصد الفداوية الذين اعتدوا عليه فحاصر حصنهم مصبات فقتل وسبى وحرق وأخذ أبقارهم وخرب ديارهم، ثم شفع فيهم خاله شهاب الدين محمود بن تتش صاحب حماه، لأنهم جيرانه، فقبل شفاعته، وأحضر إليه نائب بعلبك الأمير شمس الدين محمد بن الملك مقدم، الذي كان نائب دمشق، جماعة من أسارى الفرنج الذين عاثوا في البقاع في غيبته، فجدد ذلك له الغزو في الفرنج، فصالح الفداوية الإسماعيلية أصحاب سنان، ثم كر راجعا إلى دمشق فتلقاه أخوه شمس الدولة توران شاه، فلقبه الملك المعظم، وعزم الناصر على دخول مصر.

وكان القاضي كمال الدين محمد الشهرزوري قد توفي في السادس من المحرم من هذه السنة، وقد كان من خيار القضاة وأخص الناس بنور الدين الشهيد، فوض إليه نظر الجامع ودار الضرب وعمارة الأسوار والنظر في المصالح العامة.

ولما حضرته الوفاة أوصى بالقضاء لابن أخيه ضياء الدين بن تاج الدين الشهرزوري، ومع أنه كان يجد عليه، لما كان بينه وبينه حين كان صلاح الدين سجنه بدمشق، وكان يعاكسه ويخالفه، ومع هذا أمضى وصيته لابن أخيه، فجلس في مجلس القضاء على عادة عمه وقاعدته، وبقي في نفس السلطان من تولية شرف الدين أبي سعيد عبد الله بن أبي عصرون الحلبي، وكان قد هاجر إلى السلطان إلى دمشق فوعده أن يوليه قضاءها، وأسر بذلك إلى القاضي الفاضل، فأشار الفاضل على الضياء أن يستعفي من القضاء فاستعفى فأعفي، وترك له وكالة بيت المال.

وولى السلطان ابن أبي عصرون على أن يستنيب القاضي محيي الدين أبي المعالي محمد بن زكي الدين، ففعل ذلك، ثم بعد ذلك استقل بالحكم محيي الدين أبو حامد بن أبي عصرون عوضا عن أبيه شرف الدين، بسبب ضعف بصره.

وفي صفر منها وقف السلطان الناصر قرية حزم على الزاوية الغزالية، ومن يشتغل بها بالعلوم الشرعية، وما يحتاج إليه الفقيه، وجعل النظر لقطب الدين النيسابوري مدرسها.

وفي هذا الشهر تزوج السلطان الملك الناصر بالست خاتون عصمة الدين بنت معين الدين أنر، وكانت زوجة نور الدين محمود، وكانت مقيمة بالقلعة، وولي تزويجها منه أخوها الأمير سعد الدين بن أنر، وحضر القاضي ابن عصرون العقد ومن معه من العدول، وبات الناصر عندها تلك الليلة والتي بعدها، ثم سافر إلى مصر بعد يومين، ركب يوم الجمعة قبل الصلاة فنزل مرج الصفر، ثم سافر فعشا قريبا من الصفين، ثم سار فدخل مصر يوم السبت سادس عشر ربيع الأول من هذه السنة، وتلقاه أخوه ونائبه عليها الملك العادل سيف الدين أبو بكر إلى عند بحر القلزم، ومعه من الهدايا شيء كثير من المآكل المتنوعة وغيرها.

وكان في صحبة السلطان العماد الكاتب، ولم يكن ورد الديار المصرية قبل ذلك، فجعل يذكر محاسنها وما اختصت به من بين البلدان، وذكر الأهرام وشبههما بأنواع من التشبيهات، وبالغ في ذلك حسب ما ذكر في (الروضتين).

وفي شعبان منها ركب الناصر إلى الإسكندرية فأسمع ولديه الفاضل علي والعزيز عثمان على الحافظ السلفي، وتردد بهما إليه ثلاثة أيام الخميس والجمعة والسبت رابع رمضان، وعزم الناصر على تمام الصيام بها، وقد كمل عمارة السور على البلد، وأمر بتجديد الأسطول وإصلاح مراكبه وسفنه وشحنه بالمقاتلة وأمرهم بغزو جزائر البحر، وأقطعهم الإقطاعات الجزيلة على ذلك، وأرصد للأسطول من بيت المال ما يكفيه لجميع شؤونه.

ثم عاد إلى القاهرة في أثناء رمضان فأكمل صومه.

وفيها: أمر الناصر ببناء مدرسة للشافعية على قبر الشافعي، وجعل الشيخ نجم الدين الخبوشاني مدرسها وناظرها.

وفيها: أمر ببناء المارستان بالقاهرة ووقف عليه وقوفا كثيرة.

وفيها: بنى الأمير مجاهد الدين قيماز نائب قلعة الموصل جامعا حسنا ورباطا ومدرسة ومارستانا متجاورات بظاهر الموصل، وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمس وتسعين وخمسمائة رحمه الله.

وله عدة مدارس وخوانقات وجوامع غير ما ذكرنا، وكان دينا خيرا فاضلا حنفي المذهب، يذاكر في الأدب والأشعار والفقه، كثير الصيام وقيام الليل.

وفيها: أمر الخليفة بإخراج المجذومين من بغداد لناحية منها ليتميزوا عن أهل العافية، نسأل الله العافية.

وذكر ابن الجوزي في (المنتظم) عن امرأة قالت: كنت أمشي في الطريق وكأن رجلا يعارضني كلما مررت به، فقلت له: إنه لا سبيل إلى هذا الذي ترومه مني إلا بكتاب وشهود.

فتزوجني عند الحاكم، فمكثت معه مدة ثم اعتراه انتفاخ ببطنه فكنا نظن أنه استسقاء فنداويه لذلك، فلما كان بعد مدة ولد ولدا كما تلد النساء، وإذا هو خنثى مشكل، وهذا من أغرب الأشياء.

وفيها توفي من الأعيان:

علي بن عساكر ابن المرحب بن العوام أبو الحسن البطائحي المقري

اللغوي، سمع الحديث وأسمعه، وكان حسن المعرفة بالنحو واللغة، ووقف كتبه بمسجد ابن جرارة ببغداد، توفي في شعبان وقد نيف على الثمانين.

محمد بن عبد الله ابن القاسم أبو الفضل

قاضي القضاة بدمشق، كمال الدين الشهرزوري، الموصلي، وله بها مدرسة على الشافعية، وأخرى بنصيبين، وكان فاضلا دينا أمينا ثقة، ولي القضاء بدمشق لنور الدين الشهيد محمود بن زنكي، واستوزره أيضا فيما حكاه ابن الساعي.

قال: وكان يبعثه في الرسائل، كتب مرة على قصة إلى الخليفة المقتفي: محمد بن عبد الله الرسول.

فكتب الخليفة تحت ذلك (ص).

قلت: وقد فوض إليه نور الدين نظر الجامع ودار الضرب والأسوار، وعمر له المارستان والمدارس وغير ذلك، وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة بدمشق.

الخطيب شمس الدين ابن الوزير أبو الضياء خطيب الديار المصرية

وابن وزيرها، كان أول من خطب بديار مصر للخليفة المستضيء بأمر الله العباسي، بأمر الملك صلاح الدين، ثم حظي عنده حتى جعله سفيرا بينه وبين الملوك والخلفاء، وكان رئيسا مطاعا كريما ممدحا، يقرأ عليه الشعراء والأدباء.

ثم جعل الناصر مكانه الشهرزوري المتقدم بمرسوم السلطان، وصارت وظيفة مقررة.

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة

فيها: أمر الملك الناصر ببناء قلعة الجبل وإحاطة السور على القاهرة ومصر، فعمر قلعة للملك لم يكن في الديار المصرية مثلها ولا على شكلها، وولى عمارة ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش مملوك تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب.

وفيها: كانت وقعة الرملة على المسلمين، وفي جمادى الأولى منها سار السلطان الناصر صلاح الدين من مصر قاصدا غزو الفرنج، فانتهى إلى بلاد الرملة فسبى وغنم، ثم تشاغل جيشه بالغنائم وتفرقوا في القرى والمحال، وبقي هو في طائفة من الجيش منفردا، فهجمت عليه الفرنج في جحفل من المقاتلة فما سلم إلا بعد جهد جهيد، ثم تراجع الجيش إليه واجتمعوا عليه بعد أيام، ووقعت الأراجيف في الناس بسبب ذلك، وما صدق أهل مصر حتى نظروا إليه وصار الأمر كما قيل: رضيت من الغنيمة بالإياب **

ومع هذا دقت البشائر في البلدان فرحا بسلامة السلطان، ولم تجر هذه الوقعة إلا بعد عشر سنين، وذلك يوم حطين، وقد ثبت السلطان في هذه الوقعة ثباتا عظيما، وأسر للملك المظفر تقي الدين عمر بن أخي السلطان ولده شاهنشاه، فبقي عندهم سبع سنين، وقتل ابنه الآخر، وكان شابا قد طرّ شاربه، فحزن على المقتول والمفقود، وصبر تأسيا بأيوب، وناح كما ناح داود، وأسر الفقيهان الأخوان ضياء الدين عيسى وظهير الدين فافتداهما السلطان بعد سنتين بتسعين ألف دينار.

وفيها: تخبطت دولة حلب وقبض السلطان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين على الخادم كمشتكين، وألزمه بتسليم قلعة حارم، وكانت له، فأبى من ذلك فعلقه منكوسا ودخن تحت أنفه حتى مات من ساعته.

وفيها: جاء ملك كبير من ملوك الفرنج يروم أخذ الشام لغيبة السلطان واشتغال نوابه ببلدانهم.

قال العماد الكاتب: ومن شرط هدنة الفرنج أنه متى جاء ملك كبير من ملوكهم لا يمكنهم دفعه أنهم يقاتلون معه ويؤازرونه وينصرونه، فإذا انصرف عنهم عادت الهدنة كما كانت.

فقصد هذا الملك وجملة الفرنج مدينة حماه وصاحبها شهاب الدين محمود خال السلطان مريض، ونائب دمشق ومن معه من الأمراء مشغولون ببلدانهم، فكادوا يأخذون البلد ولكن هزمهم الله بعد أربعة أيام، فانصرفوا إلى حارم فلم يتمكنوا من أخذها وكشفهم عنها الملك الصالح صاحب حلب، وقد دفع إليهم من الأموال والأسرى ما طلبوه منه.

وتوفي صاحب حماه شهاب الدين محمود خال السلطان الناصر، وتوفي قبله ولده تتش بثلاثة أيام، ولما سمع الملك الناصر بنزول الفرنج على حارم خرج من مصر قاصدا بلاد الشام، فدخل دمشق في رابع عشر شوال، وصحبته العماد الكاتب، وتأخر القاضي الفاضل بمصر لأجل الحج.

وفيها: جاء كتاب القاضي الفاضل الناصر يهنئه بوجود مولود وهو أبو سليمان داود، وبه كمل له اثني عشر ذكرا، وقد ولد له بعده عدة أولاد ذكور، فإنه توفي عن سبعة عشر ذكرا وابنة صغيرة اسمها مؤنسة، التي تزوجها ابن عمها الملك الكامل محمد بن العادل، كما سيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

وفيها: جرت فتنة عظيمة بين اليهود والعامة ببغداد، بسبب أن مؤذنا أذن عند كنيسة فنال منه بعض اليهود بكلام أغلظ له فيه، فشتمه المسلم فاقتتلا، فجاء المؤذن يشتكي منه إلى الديوان، فتفاقم الحال، وكثرت العوام، وأكثروا الضجيج.

فلما حان وقت الجمعة منعت العامة الخطباء في بعض الجوامع، وخرجوا من فورهم فنهبوا سوق العطارين الذي فيه اليهود، وذهبوا إلى كنيسة اليهود فنهبوها، ولم يتمكن الشرط من ردهم، فأمر الخليفة بصلب بعض العامة، فأخرج في الليل جماعة من الشطار الذين كانوا في الحبوس وقد وجب عليهم القتل فصلبوا، فظن كثير من الناس أن هذا كان بسبب هذه الكائنة، فسكن الناس.

وفيها: خرج الوزير الخليفة عضد الدولة ابن رئيس الرؤساء ابن المسلمة قاصدا الحج، وخرج الناس في خدمته ليودعوه فتقدم إليه ثلاثة من الباطنية في صورة فقراء ومعهم قصص، فتقدم أحدهم ليناوله قصة فاعتنقه وضربه بالسكين ضربات، وهجم الثاني وكذلك الثالث عليه فهبروه وجرحوا جماعة حوله، وقتل الثلاثة من فورهم، ورجع الوزير إلى منزله محمولا فمات من يومه.

وهذا الوزير هو الذي قتل ولدي الوزير ابن هبيرة وأعدمهما، فسلط الله عليه من قتله، وكما تدين تدان، جزاء وفاقا.

من الأعيان:

صدقة بن الحسين أبو الفرج الحداد

قرأ القرآن وسمع الحديث، وتفقه وأفتى، وقال الشعر وقال في الكلام، وله تاريخ ذيل على شيخه ابن الزاغوني، وفيه غرائب وعجائب.

قال ابن الساعي: كان شيخا عالما فاضلا، وكان فقيرا يأكل من أجرة النسخ، وكان يأوي إلى مسجد ببغداد عند البدرية يؤم فيه، وكان يعتب على الزمان وبنيه، ورأيت ابن الجوزي في (المنتظم) يذمه ويرميه بالعظائم، وأورد له من أشعاره ما فيه مشابهة لابن الراوندي في الزندقة، فالله أعلم.

توفي في ربيع الآخر من هذه السنة عن خمس وسبعين سنة، ودفن بباب حرب، ورؤيت له منامات غير صالحة، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.

محمد بن أسعد بن محمد أبو منصور العطار

المعروف بحفدة، سمع الكثير وتفقه وناظر وأفتى ودرس وقدم بغداد فمات بها.

محمود بن تتش شهاب الدين الحارمي

خال السلطان صلاح الدين، كان من خيار الأمراء وشجعانهم، أقطعه ابن أخته حماه، وقد حاصره الفرنج وهو مريض فأخذوا حماه وقتلوا بعض أهلها، ثم تناخى أهلها فردوهم خائبين.

فاطمة بنت نصر العطار

كانت من سادات النساء، وهي من سلالة أخت صاحب المخزن، كانت من العابدات المتورعات المخدرات، يقال: إنها لم تخرج من منزلها سوى ثلاث مرات، وقد أثنى عليها الخليفة وغيره، والله أعلم.

ثم دخلت سنة أربع وسبعين وخمسمائة

فيها: ورد كتاب من القاضي الفاضل من مصر إلى الناصر وهو بالشام يهنيه بسلامة أولاده الملوك الاثني عشر، يقول: وهم بحمد الله بهجة الحياة وزينتها، وريحانة القلوب والأرواح وزهرتها، إن فؤادا وسع فراقهم لواسع، وإن قلبا قنع بأخبارهم لقانع، وإن طرفا نام عن البعد عنهم لهاجع، وإن ملكا ملك صبره عنهم لحازم، وإن نعمة الله بهم لنعمة بها العيش ناعم، أما يشتاق جيد المولى أن تطوق بدررهم؟ أما تظمأ عينه أن تروى بنظرهم؟ أما يحن قلبه للقيهم؟ أما يلتقط هذا الطائر بفتيلهم؟ وللمولى أبقاه الله أن يقول:

وما مثل هذا الشوق يحمل بعضه ** ولكن قلبي في الهوى يتقلّب

وفيها: أسقط صلاح الدين المكوس والضرائب عن الحجاج بمكة، وقد كان يؤخذ من حجاج الغرب شيء كثير، ومن عجز عن أدائه حبس فربما فاته الوقوف بعرفة، وعوض أمير مكة بمال أقطعه إياه بمصر، وأن يحمل إليه في كل سنة ثمانية آلاف أردب إلى مكة، ليكون عونا له ولأتباعه، ورفقا بالمجاورين، وقررت للمجاورين أيضا غلات تحمل إليهم، رحمه الله.

وفيها: عصى الأمير شمس الدين بن مقدم ببعلبك، ولم يجيء إلى خدمة السلطان، وهو نازل على حمص، وذلك أنه بلغه أن أخا السلطان توران شاه طلب بعلبك منه قأطلقها له، فامتنع ابن المقدم من الخروج منها حتى جاء السلطان بنفسه فحصره فيها من غير قتال، ثم عوض ابن المقدم عنه بتعويض كثير خير مما كان بيده، فخرج منها وتسلّمها وسلّمها توران شاه.

قال ابن الأثير: وكان في هذه السنة غلاء شديد بسبب قلة المطر، عم العراق والشام وديار مصر، واستمر إلى سنة خمس وسبعين، فجاء المطر ورخصت الأسعار ثم عقب ذلك وباء شديد، وعم البلاد مرض آخر وهو السرسام، فما ارتفع إلا في سنة ست وسبعين، فمات بسبب ذلك خلق كثير، وأمم لا يعلم عددهم إلا الله.

وفي رمضان منها وصلت خلع الخليفة إلى الملك صلاح الدين وهو بدمشق، وزيد في ألقابه معز أمير المؤمنين، وخلع على أخيه توران شاه بمصطفى أمير المؤمنين.

وفيها: جهز الناصر ابن أخيه فروخ شاه بن شاهنشاه بين يديه لقتال الفرنج الذين عاثوا في نواحي دمشق، فنهبوا ما حولها، وأمره أن يداريهم حتى يتوسطوا البلاد ولا يقاتلهم حتى يقدم عليه، فلما رأوه عاجلوه بالقتال فكسرهم وقتل من ملوكهم صاحب الناصرة الهنفري، وكان من أكابر ملوكهم وشجعانهم، لا ينهنه اللقاء، فكبته الله في هذه الغزوة، ثم ركب الناصر في إثر ابن أخيه فما وصل إلى الكسوة حتى تلقته الرؤوس على الرماح، والغنائم والأسارى.

وفيها: بنت الفرنج قلعة عند بيت الأحزان للداوية فجعلوها مرصد لحرب المسلمين، وقطع طريقهم، ونقضت ملوكهم العهود التي كانت بينهم وبين صلاح الدين، وأغاروا على نواحي البلدان من كل جانب، ليشغلوا المسلمين عنهم، وتفرقت جيوشهم فلا تجتمع في بقعة واحدة، فرتب السلطان ابن أخيه عمر على حماه ومعه ابن مقدم وسيف الدين علي بن أحمد المشطوب بنواحي البقاع وغيرها، وبثغر حمص ابن عمه ناصر الدين بن أسد الدين شيركوه.

وبعث إلى أخيه الملك أبي بكر العادل نائبه بمصر أن يبعث إليه ألفا وخمسمائة فارس يستعين بهم على قتال الفرنج، وكتب إلى الفرنج يأمرهم بتخريب هذا الحصن الذي بنوه للداوية فامتنعوا إلا أن يبذل لهم ما غرموه عليه، فبذل لهم ستين ألف دينار فلم يقبلوا، ثم أوصلهم إلى مائة ألف دينار، فقال له ابن أخيه تقي الدين عمر: ابذل هذا إلى أجناد المسلمين وسر إلى هذا الحصن فخربه.

فأخذ بقوله في ذلك وخربه في السنة الآتية كما سنذكره.

وفيها: أمر الخليفة المستضيء بكتابة لوح على قبر الإمام أحمد بن حنبل، فيه آية الكرسي، وبعدها: هذا قبر تاج السنة وحبر الأمة العالي الهمة العالم العابد الفقيه الزاهد، وذكروا تاريخ وفاته، رحمه الله تعالى.

وفيها: احتيط ببغداد على شاعر ينشد للروافض أشعارا في ثلب الصحابة وسبهم، وتهجين من يحبهم، فعقد له مجلس بأمر الخليفة ثم استنطق فإذا هو رافضي خبيث داعية إليه، فأفتى الفقهاء بقطع لسانه ويديه، ففعل به ذلك.

ثم اختطفته العامة فما زالوا يرمونه بالآجر حتى ألقى نفسه في دجلة فاستخرجوه منها فقتلوه حتى مات، فأخذوا شريطا وربطوه في رجله وجروه على وجهه حتى طافوا به البلد وجميع الأسواق، ثم ألقوه في بعض الأتونة مع الآجر والكلس، وعجز الشرط عن تخليصه منهم.

وفيها توفي من الأعيان:

أسعد بن بلدرك الجبريلي

سمع الحديث، وكان شيخا ظريف المذاكرة جيد المبادرة، توفي عن مائة سنة وأربع سنين.

الحيص بيص

سعد بن محمد بن سعد، الملقب شهاب الدين، أبو الفوارس المعروف بحيص بيص، له ديوان شعر مشهور، توفي يوم الثلاثاء خامس شهر شعبان من هذه السنة، وله ثنتان وثمانون سنة، وصلّي عليه بالنظامية، ودفن بباب التبن، ولم يعقب، ولم يكن له في المراسلات بديل، كان يتقعر فيها ويتفاصح جدا، فلا تواتيه إلا وهي معجرفة، وكان يزعم أنه من بني تميم، فسئل أبوه عن ذلك فقال: ما سمعته إلا منه.

فقال بعض الشعراء يهجوه فيما ادعاه من ذلك:

كم تبادي وكم تطيل طرطو ** رك وما فيك شعرة من تميم

فكل الضـب وأرقرط الحنظل إليا ** يس واشرب إن شئت بول الظليم

فليس ذا وجه من يضيف ولا يقـ ** ـري ولا يدفع الأذى عن حريم

ومن شعر الحيص بيص الجيد:

سلامة المرء ساعة عجب ** وكل شيءٍ لحتفه سبب

يفر والحادثات تطلبه ** يفر منها ونحوها الهرب

وكيف يبقى على تقلبه ** مسلما من حياته العطب

ومن شعره أيضا:

لا تلبس الدهر على غرة ** فما لموت الحي من بد

ولا يخادعك طول البقا ** فتحسب التطويل من خلد

يقرب ما كان آخرا ** ما أقرب المهد من اللحد

ويقرب من هذا ما ذكره صاحب (العقد) أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي في عقده:

ألا إنما الدنيا غضارة أيكةٍ ** إذا اخضر منها جانب جف جانب

وما الدهر والآمال إلا فجائع ** عليها وما اللذات إلا مصائب

فلا تكتحل عيناك منها بعبرةٍ ** على ذاهب منها فإنك ذاهب

وقد ذكر أبو سعد السمعاني حيص بيص هذا في ذيله وأثنى عليه، وسمع عليه ديوانه ورسائله.

وأثنى على رسائله القاضي ابن خلكان، وقال: كان فيه تيه وتعاظم، ولا يتكلم إلا معربا، وكان فقيها شافعي المذهب، واشتغل بالخلاف وعلم النظر، ثم تشاغل عن ذلك كله بالشعر، وكان من أخبر الناس بأشعار العرب، واختلاف لغاتهم.

قال: وإنما قيل له الحيص بيص، لأنه رأى الناس في حركة واختلاط، فقال: ما للناس في حيص بيص، أي: في شر وهرج.

فغلب عليه هذه الكلمة، وكان يزعم أنه من ولد أكثم بن صيفي طبيب العرب، ولم يترك عقبا.

كانت له حوالة بالحلة فذهب يتقاضاها فتوفي ببغداد في هذه السنة.

محمد بن نسيم أبو عبد الله الخياط

عتيق الرئيس أبي الفضل بن عبسون، سمع الحديث وقارب الثمانين، سقط من درجة فمات.

قال: أنشدني مولى الدين، يعني: ابن علام الحكيم بن عبسون:

للقارئ المحزون أجدر بالتقى ** من راهب في ديره متقوس

ومراقب الأفلاك كانت نفسه ** بعبادة الرحمن أحرى الأنفس

والماسح الأرضين وهي فسيحة ** أولى بمسح في أكف اللمس

أولى بخشية ربه من جاهلٍ ** بمثلثٍ ومربعٍ ومخمس

ثم دخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة

وفيها: كانت وقعة مرج عيون، استهلت هذه السنة والسلطان صلاح الدين الناصر نازل بجيشه على تل القاضي ببانياس، ثم قصده الفرنج بجمعهم فنهض إليهم فما هو إلا أن التقى الفريقان واصطدم الجندان، فأنزل الله نصره وأعز جنده، فولت ألوية الصلبان ذاهبة وخيل الله لركابهم راكبة، فقتل منهم خلق كثير، وأسر من ملوكهم جماعة، وأنابوا إلى السمع والطاعة، منهم مقدم الداوية ومقدم الابسباتارية وصاحب الرملة وصاحب طبرية وقسطلان يافا وآخرون من ملوكهم، وخلق من شجعانهم وأبطالهم، ومن فرسان القدس جماعة كثيرون تقريبا من ثلاثمائة أسير من أشرافهم، فصاروا يهانون في القيود.

قال العماد: فاستعرضهم السلطان في الليل حتى أضاء الفجر، وصلى يومئذ الصبح بوضوء العشاء، وكان جالسا ليلتئذ في نحو العشرين والفرنج كثير، فسلمه الله منهم، ثم أرسلهم إلى دمشق ليعتقلوا بقلعتها، فافتدى ابن البارزاني صاحب الرملة نفسه بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية، وإطلاق ألف أسير من بلاده، فأجيب إلى ذلك، وافتدى جماعة منهم أنفسهم بأموال جزيلة، ومنهم من مات في السجن.

واتفق أنه في اليوم الذي ظفر فيه السلطان بالفرنج بمرج عيون، ظهر أسطول المسلمين على بطشه للفرنج في البحر وأخرى معها فغنموا منها ألف رأس من السبي، وعاد إلى الساحل مؤيدا منصورا، وقد امتدح الشعراء السلطان في هذه الغزوة بمدائح كثيرة، وكتب بذلك إلى بغداد فدقت البشائر بها فرحا وسرورا.

وكان الملك المظفر تقي الدين عمر غائبا عن هذه الوقعة مشتغلا بما هو أعظم منها، وذلك أن ملك الروم فرارسلان بعث يطلب حصن رعنان، وزعم أن نور الدين اغتصبه منه، وأن ولده قد عصي، فلم يجبه إلى ذلك السلطان، فبعث صاحب الروم عشرين ألف مقاتل يحاصرونه، فأرسل السلطان تقي الدين عمر في ثمانمائة فارس منهم سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، فالتقوا معهم فهزموهم بإذن الله.

واستقرت يد صلاح الدين على حصن رعنان، وقد كان مما عوض به ابن المقدم عن بعلبك، وكان تقي الدين عمر يفتخر بهذه الوقعة ويرى أنه قد هزم عشرين ألفا، وقيل: ثلاثين ألفا بثمانمائة، وكان السبب في ذلك أنه بيّتهم وأغار عليهم، فما لبثوا بل فروا منهزمين عن آخرهم، فأكثر فيهم القتل واستحوذ على جميع ما تركوه في خيامهم، ويقال: إنه كسرهم يوم كسر السلطان الفرنج بمرج عيون، والله أعلم.

ذكر تخريب حصن الأحزان وهو قريب من صفد

ثم ركب السلطان إلى الحصن الذي كانت الفرنج قد بنوه في العام الماضي وحفروا فيه بئرا وجعلوه لهم عينا، وسلموه إلى الدواية، فقصده السلطان فحاصره ونقبه من جميع جهاته، وألقى فيه النيران وخربه إلى الأساس، وغنم جميع ما فيه، فكان فيه مائة ألف قطعة من السلاح ومن المأكل شيء كثير، وأخذ منه سبعمائة أسير فقتل بعضا وأرسل إلى دمشق الباقي، ثم عاد إلى دمشق مؤيدا منصورا، غير أنه مات من أمرائه عشرة بسبب ما نالهم من الحر والوباء في مدة الحصار، وكانت أربعة عشر يوما، ثم إن الناس زاروا مشهد يعقوب على عادتهم، وقد امتدحه الشعراء فقال بعضهم:

بحمدك أعطاف القنا قد تعطفت ** وطرف الأعادي دون مجدك يطرف

شهاب هدى في ظلمة الليل ثاقب ** وسيف إذا ما هزه الله مرهف

وقفت على حصن المحاض وإنه ** لموقف حق لا يوازيه موقف

فلم يبد وجه الأرض بل حال دونه ** رجال كآساد الثرى وهي ترجف

وجرد سلهوب ودرع مضاعف ** وأبيضٌ هندي ولدنٌ مهفهف

وما رجعت أعلامك البيض ساعة ** إلا غدت أكبادها السود ترجف

كنائس أغياد صليب وبيعة ** وشاد به دين حنيف ومصحف

صليب وعباد الصليب ومنزل ** لنوالٍ قد غادرته وهو صفصف

أتسكن أوطان النبيين عصبة ** تمين لدى أيمانها وهي تحلف

نصحتكم والنصح في الدين واجب ** ذروا بيت يعقوب فقد جاء يوسف

وقال آخر:

هلاك الفرنج أتى عاجلا ** وقد آن تكسير صلبانها

ولو لم يكن قد دنا حتفها ** لما عمّرت بيت أحزانها

من كتاب كتبه القاضي الفاضل إلى بغداد في خراب هذا الحصن

وقد قيس عرض حائطه فزاد على عشرة أذرع وقطعت له عظام الحجارة كل فص منها سبعة أذرع، إلى ما فوقها وما دونها، وعدتها تزيد على عشرين ألف حجر، لا يستقر الحجر في بنيانه إلا بأربعة دنانير فما فوقها، وفيما بين الحائطين حشو من الحجارة الضخمة الصم، أتوا بها من رؤوس الجبال الشم، وقد جعلت شعبيته بالكلس الذي إذا أحاطت بالحجر مازجه بمثل جسمه، ولا يستطيع الحديد أن يتعرض إلى هدمه.

وفيها: أقطع صلاح الدين ابن أخيه عز الدين فروخ شاه بعلبك.

وأغار فيها على صفت وأعمالها، فقتل طائفة كبيرة من مقاتليها، وكان فروخ شاه من الصناديد الأبطال.

وفيها: حج القاضي الفاضل من دمشق وعاد إلى مصر فقاسى في الطريق أهوالا، ولقي ترحا وتعبا وكلالا، وكان في العام الماضي قد حج من مصر وعاد إلى الشام، وكان ذلك العام في حقه أسهل من هذا العام.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة انهدم بسببها قلاع وقرى، ومات خلق كثير فيها من الورى، وسقط من رؤوس الجبال صخور كبار، وصادمت بين الجبال في البراري والقفار، مع بعد ما بين الجبال من الأقطار.

وفيها: أصاب الناس غلاء شديد وفناء شريد وجهد جهيد، فمات خلق كثير بهذا وهذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفاة المستضيء بأمر الله وشيء من ترجمته

كان ابتداء مرضه أواخر شوال فأرادت زوجته أن تكتم ذلك فلم يمكنها، ووقعت فتنة كبيرة ببغداد ونهبت العوام دورا كثيرة، وأموالا جزيلة، فلما كان يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال خطب لولي العهد أبي العباس أحمد بن المستضيء، وهو الخليفة الناصر لدين الله، وكان يوما مشهودا نثر الذهب فيه على الخطباء والمؤذنين، ومن حضر ذلك، عند ذكر اسمه على المنبر.

وكان مرضه بالحمى ابتدأ فيها يوم عيد الفطر، ولم يزل الأمر بتزايد به حتى استكمل في مرضه شهرا، ومات سلخ شوال، وله من العمر تسع وثلاثون سنة، وكانت مدة خلافته تسع سنين وثلاثة أشهر وسبعة عشر يوما، وغسل وصلي عليه من الغد.

ودفن بدار النصر التي بناها، وذلك عن وصيته التي أوصاها، وترك ولدين أحدهما ولي عهده وهو عدة الدنيا والدين، أبو العباس أحمد الناصر لدين الله، والآخر أبو منصور هاشم وقد وزر له جماعة من الرؤساء، وكان من خيار الخلفاء آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، مزيلا عن الناس المكوسات والضرائب، مبطلا للبدع والمعائب، وكان حليما وقورا كريما، وبويع بالخلافة من بعده لولده الناصر.

وفيها توفي من الأعيان:

إبراهيم بن علي أبو إسحاق الفقيه الشافعي

المعروف بابن الفراء الأموي ثم البغدادي، كان فاضلا مناظرا فصيحا بليغا شاعرا، توفي عن أربع وسبعين سنة، وصلى عليه أبو الحسن القزويني مدرس النظامية.

إسماعيل بن موهوب ابن محمد بن أحمد الخضر أبو محمد الجواليقي

حجة الإسلام، أحد أئمة اللغة في زمانه والمشار إليه من بين أقرانه بحسن الدين وقوة اليقين، وعلم اللغة والنحو، وصدق اللهجة وخلوص النية، وحسن السيرة في مرباه ومنشاه ومنتهاه، سمع الحديث وسمع الأثر واتبع سبيله ومرماه، رحمه الله تعالى.

المبارك بن علي بن الحسن أبو محمد ابن الطباخ البغدادي

نزيل مكة ومجاورها، وحافظ الحديث بها والمشار إليه بالعلم فيها.

كان يوم جنازته يوما مشهودا.

خلافة الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء

لما توفي أبوه في سلخ شوال من سنة خمس وسبعين وخمسمائة، بايعه الأمراء والوزراء والكبراء والخاصة والعامة، وكان قد خطب له على المنابر في حياة أبيه قبل موته بيسير، فقيل: إنه إنما عهد له قبل موته بيوم، وقيل: بأسبوع، ولكن قدر الله أنه لم يختلف عليه اثنان بعد وفاة أبيه، ولقب بالناصر، ولم يل الخلافة من بني العباس قبله أطول مدة منه، فإنه مكث خليفة إلى سنة وفاته في ثلاث وعشرين وستمائة، وكان ذكيا شجاعا مهيبا كما سيأتي ذكر سيرته عند وفاته.

وفي سابع ذي القعدة من هذه السنة عزل صاحب المخزن ظهير الدين أبو بكر بن العطار، وأهين غاية الإهانة، هو وأصحابه وقتل خلق منهم، وشهر في البلد، وتمكن أمر الخليفة الناصر وعظمت هيبته في البلاد، وقام قائم الخلافة في جميع الأمور.

ولما حضر عيد الأضحى أقيم على ما جرت به العادة، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة

فيها: هادن السلطان صلاح الدين الفرنج وسار إلى بلاد الروم فأصلح بين ملوكها، من بني أرتق وكرّ على بلاد الأرمن فأقام عليها وفتح بعض حصونها، وأخذ منها غنائم كثيرة جدا، من أواني الفضة والذهب، لأن ملكها كان قد غدر بقوم من التركمان، فرده إلى بلاده ثم صالحه على مال يحمله إليه وأسارى يطلقهم من أسره، وآخرين يستنقذهم من أيدي الفرنج، ثم عاد مؤيدا منصورا فدخل حماه في أواخر جمادى الآخرة، وامتدحه الشعراء على ذلك، ومات صاحب الموصل سيف الدين غازي بن مودود، وكان شابا حسنا مليح الشكل تام القامة، مدور اللحية، مكث في الملك عشر سنين، ومات عن ثلاثين سنة.

وكان عفيفا في نفسه، مهيبا وقورا، لا يلتفت إذا ركب وإذا جلس، وكان غيورا لا يدع أحدا من الخدم الكبار يدخل على النساء، وكان لا يقدم على سفك الدماء، وكان ينسب إلى شيء من البخل، سامحه الله.

توفي في ثالث صفر، وكان قد عزم على أن يجعل الملك من بعده لولده عز الدين سنجرشاه، فلم يوافقه الأمراء خوفا من صلاح الدين لصغر سنه، فاتفقوا كلهم على أخيه فأجلس مكانه في المملكة، وكان يقال له: عز الدين مسعود، وجعل مجاهد الدين قايماز نائبه ومدبر مملكته.

وجاءت رسل الخليفة يلتمسون من صلاح الدين أن يبقي سروج والرها والرقة، وحران والخابور ونصيبين في يده كما كانت في يد أخيه، فامتنع السلطان من ذلك، وقال: هذه البلاد هي حفظ ثغور المسلمين، وإنما تركتها في يده ليساعدنا على غزو الفرنج، فلم يفعل ذلك.

وكتب إلى الخليفة يعرفه أن المصلحة في ترك ذلك عونا للمسلمين.

وفاة السلطان توران شاه

فيها: توفي السلطان الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب، أخي الملك صلاح الدين، وهو الذي افتتح بلاد اليمن عن أمر أخيه، فمكث فيها حينا واقتنى منها أموالا جزيلة، ثم استناب فيها، وأقبل إلى الشام شوقا إلى أخيه، وقد كتب إليه في أثناء الطريق شعرا عمله له بعض الشعراء، يقال له: ابن المنجم، وكانوا قد وصلوا إلى سما:

هل لأخي بل مالكي علم بالذي ** إليه وإن طال التردد راجع

وإني بيوم واحد من لقائه ** عليّ وإن عظم الموت بايع

ولم يبق إلا دون عشرين ليلةٍ ** ويحيى اللقا أبصارنا والمسامع

إلى ملك تعنو الملوك إذا بدا ** وتخشع إعظاما له وهو خاشع

كتبت وأشواقي إليك ببعضها ** تعلمت النوح الحمام السواجع

وما الملك إلا راحة أنت زندها ** تضم على الدنيا ونحن الأصابع

وكان قدومه على أخيه سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، فشهد معه مواقف مشهودة محمودة، واستنابه على دمشق مدة، ثم سار إلى مصر فاستنابه على الإسكندرية فلم توافقه، وكانت تعتريه القوالنج فمات في هذه السنة، ودفن بقصر الإمارة فيها.

ثم نقلته أخته ست الشام بنت أيوب فدفنته بتربتها التي بالشامية البرانية، فقبره القبلي، والوسطاني قبر زوجها وابن عمها ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه، صاحب حماه والرحبة، والموخر قبرها، والتربة الحسامية منسوبة إلى ولدها حسام الدين عمر بن لاشين، وهي إلى جانب المدرسة من غربها.

وقد كان توران شاه هذا كريما شجاعا عظيم الهيبة كبير النفس، واسع النفقة والعطاء، قال فيه ابن سعدان الحلبي:

هو الملك إن تسمع بكسرى وقيصر ** فإنهما في الجود والباس عبداه

وما حاتم ممن يقاس بمثله ** فخذ ما رأيناه ودع ما رويناه

ولذ بعلاه مستجيرا فإنه ** يجيرك من جور الزمان وعدواه

ولا تحمل للسحائب منه إذا ** هطلت جودا سحائب كفاه

فترسل كفاه بما اشتق منهما ** فلليمن يمناه ولليسر يسراه

ولما بلغ موته أخاه صلاح الدين بن أيوب وهو مخيم بظاهر حمص، حزن عليه حزنا شديدا، وجعل ينشد باب المراثي من الحماسة وكانت محفوظة.

وفي رجب منها قدمت رسل الخليفة الناصر وخلع وهدايا إلى الناصر صلاح الدين، فلبس خلعة الخليفة بدمشق، وزينت له البلد، وكان يوما مشهودا.

وفي رجب أيضا منها سار السلطان إلى مصر لينظر في أحوالها ويصوم بها رمضان، ومن عزمه أن يحج عامه ذلك، واستناب على الشام ابن أخيه عز الدين فروخ شاه، وكان عزيز المثل غزير الفضل.

فكتب القاضي الفاضل عن الملك العادل أبي بكر إلى أهل اليمن والبقيع ومكة يعلمهم بعزم السلطان الناصر على الحج، ومعه صدر الدين أبو القاسم عبد الرحيم شيخ الشيوخ ببغداد، الذي قدم من جهة الخليفة في الرسالة، وجاء بالخلع ليكون في خدمته إلى الديار المصرية، وفي صحبته إلى الحجاز، فدخل السلطان مصر وتلقاه الجيش، وأما شيخ الشيوخ فإنه لم يقم بها إلا قليلا حتى توجه إلى الحجاز في البحر، فأدرك الصيام في المسجد الحرام.

وفيها: سار قراقوش التقوى إلى المغرب فحاصر بها فاس وقلاعا كثيرة حولها، واستحوذ على أكثرها، واتفق له أنه أسر من بعض الحصون غلاما أسود فأراد قتله، فقال له أهل الحصن: لا تقتله وخذ لك ديته عشرة آلاف دينار.

فأبى فأوصله إلى مائة ألف، فأبى إلا قتله فقتله، فلما قتله نزل صاحب الحصن وهو شيخ كبير ومعه مفاتيح ذلك الحصن، فقال له: خذ هذه فإني شيخ كبير، وإنما كنت أحفظه من أجل هذا الصبي الذي قتلته، ولي أولاد أخ أكره أن يملكوه بعدي.

فأقره فيه وأخذ منه أموالا كثيرة.

وفيها توفي من الأعيان:

الحافظ أبو طاهر السلفي

أحمد بن محمد بن إبراهيم سلفة الحافظ الكبير المعمر، أبو طاهر السلفي الأصبهاني، وإنما قيل له: السلفي، لجده إبراهيم سلفة، لأنه كان مشقوق إحدى الشفتين، وكان له ثلاث شفاه فسمته الأعاجم لذلك.

قال ابن خلكان: وكان يلقب بصدر الدين، وكان شافعي المذهب، ورد بغداد واشتغل بها على الكيا الهراسي، وأخذ اللغة عن الخطيب أبي زكريا.

يحيى بن علي التبريزي سمع الحديث الكثير، ورحل في طلبه إلى الآفاق ثم نزل ثغر الإسكندرية في سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وبنى له العادل أبو الحسن علي بن السلار وزير الخليفة الظافر مدرسة، وفوضها إليه، فهي معروفة به إلى الآن.

قال ابن خلكان: وأما أماليه وكتبه وتعاليقه فكثيرة جدا، وكان مولده فيما ذكر المصريون سنة ثنتين وسبعين وأربعمائة.

ونقل الحافظ عبد الغني عنه أنه قال: أذكر مقتل نظام الملك في سنة خمس وثمانين وأربعمائة ببغداد، وأنا ابن عشر تقريبا.

ونقل أبو القاسم الصفراوي أنه قال: مولدي بالتخمين لا باليقين سنة ثمان وسبعين، فيكون مبلغ عمره ثمانيا وتسعين سنة، لأنه توفي ليلة الجمعة خامس ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمسمائة بثغر الإسكندرية والله أعلم، ودفن بوعلة، وفيها جماعة من الصالحين.

وقد رجح ابن خلكان قول الصفراوي، قال: ولم يبلغنا من ثلاثمائة أن أحدا جاوز المائة إلا القاضي أبا الطيب الطبري، وقد ترجمه ابن عساكر في (تاريخه) ترجمة حسنة، وإن كان قد مات قبله بخمس سنين، فذكر رحلته في طلب الحديث ودورانه في الأقاليم، وأنه كان يتصوف أولا ثم أقام بثغر الإسكندرية وتزوج بامرأة ذات يسار، فحسنت حاله، وبنت عليه مدرسة هناك، وذكر طرفا من أشعاره منها قوله:

أتأمن إلمام المنية بغتتةً ** وأمن الفتى جهلٌ وقد خبر الدهرا

وليس يحابي الدهر في دورانه ** أراذل أهليه ولا السادة الزهرا

وكيف وقد مات النبي وصحبه ** وأزواجه طرا وفاطمة الزهرا

وله أيضا:

يا قاصدا علم الحديث لدينه ** إذ ضل عن طرق الهداية وهمه

إن العلوم كما علمت كثيرة ** وأجلها فقه الحديث وعلمه

من كان طالبه وفيه تيقظ ** فأتم سهمٍ في المعالي سهمه

لولا الحديث وأهله لم يستقم ** دين النبي وشذ عنا حكمه

وإذا استراب بقولنا متحذلقٌ ** ما كل فهم في البسيطة فهمه

ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة

استهلت وصلاح الدين مقيم بالقاهرة مواظب على سماع الحديث، وجاءه كتاب من نائبه بالشام عز الدين فروخ شاه يخبره فيه بما منّ الله به على الناس من ولادة النساء بالتوأم جبرا لما كان أصابهم من الوباء بالعام الماضي والفناء، وبأن الشام مخصبة بإذن الله لما كان أصابهم من الغلاء.

وفي شوال توجه الملك صلاح الدين إلى الإسكندرية لينظر من أمر به من تحصين سورها وعمارة أبراجها وقصورها، وسمع بها (موطأ مالك) على الشيخ أبي طاهر بن عوف، عن الطرطوشي، وسمع معه العماد الكاتب، وأرسل القاضي الفاضل رسالة إلى السلطان يهنئه بهذا السماع.

وفاة الملك الصالح بن نور الدين الشهيد صاحب حلب وماجرى بعده من الأمور

كانت وفاته في الخامس والعشرين من رجب من هذه السنة بقلعة حلب، ودفن بها، وكان سبب وفاته فيما قيل: أن الأمير علم الدين سليمان بن حيدر سقاه سما في عنقود عنب في الصيد، وقيل: بل سقاه ياقوت الأسدي في شراب فاعتراه قولنج فما زال كذلك حتى مات وهو شاب حسن الصورة، بهي المنظر، ولم يبلغ عشرين سنة.

وكان من أعف الملوك ومن أشبه أباه فما ظلم، وصف له الأطباء في مرضه شرب الخمر فاستفتى الفقهاء في شربها تداويا فأفتوه بذلك، فقال: أيزيد شربها في أجلي أو ينقص منه تركها شيئا؟

قالوا: لا.

قال: فوالله لا أشربها وألقى الله وقد شربت ما حرمه عليّ.

ولما يئس من نفسه استدعا الأمراء فحلفهم لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل، لقوة سلطانه وتمكنه، ليمنعها من صلاح الدين، وخشي أن يبايع لابن عمه الآخر عماد الدين زنكي، صاحب سنجار، وهو زوج أخته وتربية والده، فلا يمكنه حفظها من صلاح الدين فلما مات استدعى الحلبيون عز الدين مسعود بن قطب الدين، صاحب الموصل، فجاء إليهم فدخل حلب في أبهة عظيمة، وكان يوما مشهودا، وذلك في العشرين من شعبان، فتسلم خزائنها وحواصلها، وما فيها من السلاح.

وكان تقي الدين عمه في مدينة منبج فهرب إلى حماه فوجد أهلها قد نادوا بشعار صاحب الموصل وأطمع الحلبيون مسعودا بأخذ دمشق لغيبة صلاح الدين عنها، وأعلموه محبة أهل الشام لهذا البيت الأتابكي نور الدين، فقال لهم: بيننا وبين صلاح الدين أيمان وعهود، وأنا لا أغدر به.

فأقام بحلب شهورا وتزوج بأم الملك الصالح في شوال، ثم سار إلى الرقة فنزلها وجاءه رسل أخيه عماد الدين زنكي يطلب منه أن يقايضه من حلب إلى سنجار، وألح عليه في ذلك، وتمنع أخوه ثم فعل على كرهٍ منه، فسلم إليه حلب وتسلم عز الدين سنجار والخابور والرقة ونصيبين وسروج وغير ذلك من البلاد.

ولما سمع الملك صلاح الدين بهذه الأمور ركب من الديار المصرية في عساكره فسار حتى أتى الفرات فعبرها، وخامر إليه بعض أمراء صاحب الموصل، وتقهقر صاحب الموصل عن لقائه، واستحوذ صلاح الدين على بلاد الجزيرة بكمالها، وهم بمحاصرة الموصل فلم يتفق له ذلك، ثم جاء إلى حلب فتسلمها من عماد الدين زنكي لضعفه عن ممانعتها، ولقلة ما ترك فيها عز الدين من الأسلحة وذلك في السنة الآتية.

وفيها: عزم البرنس صاحب الكرك على قصد تيماء من أرض الحجاز، ليتوصل منها إلى المدينة النبوية، فجهز له صلاح الدين سرية من دمشق تكون حاجزة بينه وبين الحجاز، فصده ذلك عن قصده.

وفيها: ولي السلطان صلاح الدين أخاه سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب نيابة اليمن، وأرسله إليها، وذلك لاختلاف نوابها واضطراب أصحابها، بعد وفاة المعظم أخي السلطان، فسار إليها طغتكين فوصلها في سنة ثمان وسبعين، فسار فيها أحسن سيرة، واحتاط على أموال حطان بن منقذ صاحب زبيد، وكانت تقارب ألف ألف دينار أو أكثر.

وأما نائب عدن فخر الدين عثمان الزنجبيلي فإنه خرج من اليمن قبل قدوم طغتكين فسكن الشام، وله أوقاف مشهورة باليمن ومكة، وإليه تنسب المدرسة الزنجبيلة، خارج باب توما، تجاه دار المطعم، وكان قد حصل من اليمن أموالا عظيمة جدا.

وفيها: غدرت الفرنج ونقضت عهودها، وقطعوا السبل على المسلمين برا وبحرا وسرا وجهرا، فأمكن الله من لطيشة عظيمة فيها نحو من ألفين وخمسمائة من مقاتلتهم المعدودين، ألقاها الموج إلى ثغر دمياط قبل خروج السلطان من مصر، فأحيط بها فغرق بعضهم وحصل في الأسر نحو ألف وسبعمائة.

وفيها: سار قراقوش إلى بلاد إفريقية ففتح بلادا كثيرة، وقاتل عسكر ابن عبد المؤمن صاحب المغرب، واستفحل أمره هناك، وقراقوش مملوك تقي الدين عمر بن أخي السلطان صلاح الدين، ثم عاد إلى مصر فأمره صلاح الدين أن يتم السور المحيط بالقاهرة ومصر، وذلك قبل خروجه منها في هذه السنة، وكان ذلك آخر عهده بها حتى توفاه الله بعد أن أناله الله بلوغ مناه، ففتح عليه بيت المقدس وما حوله، ولما خيم بارزا، من مصر وأولاده حوله جعل يشمهم ويقبلهم ويضمهم فأنشد بعضهم في ذلك:

تمتع من شميم عرار نجد ** فما بعد العشية من عرار

وكان الأمر كما قال، لم يعد إلى مصر بعد هذا العام، بل كان مقامه بالشام.

وفيها: ولد للسلطان ولدان أحدهما المعظم توران شاه، والملك المحسن أحمد، وكان بين ولادتهما سبعة أيام، فزينت البلاد واستمر الفرح أربعة عشر يوما.

وفيها توفي من الأعيان:

الشيخ كمال الدين أبو البركات

عبد الرحمن بن محمد بن أبي السعادات، عبيد الله بن محمد بن عبيد الله الأنباري النحوي الفقيه العابد الزاهد، كان خشن العيش، ولا يقبل من أحد شيئا، ولا من الخليفة، وكان يحضر نوبة الصوفية بدار الخلافة، ولا يقبل من جوائز الخليفة ولا فلسا، وكان مثابرا على الاشتغال، وله تصانيف مفيدة، توفي في شعبان من هذه السنة.

قال ابن خلكان: له كتاب (أسرار العربية) مفيد جدا، و(طبقات النحاة) مفيد جدا، وكتاب (الميزان في النحو) أيضا، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة

في خامس محرمها كان بروز السلطان من مصر قاصدا دمشق لأجل الغزو والإحسان إلى الرعايا، وكان ذلك آخر عهده بمصر، وأغار بطريقه على بعض نواحي بلاد الإفرنج، وقد جعل أخاه تاج الملوك بوري بن أيوب على الميمنة، فالتقوا على الأرزق بعد سبعة أيام.

وقد أغار عز الدين فروخ شاه على بلاد طبرية، وافتتح حصونا جيدة، وأسر منهم خلقا واغتنم عشرين ألف رأس من الأنعام، ودخل الناصر دمشق سابع صفر، ثم خرج منها في العشر الأول من ربيع الأول، فاقتتل مع الفرنج في نواحي طبرية وبيسان تحت حصن كوكب، فقتل خلق من الفريقين، وكانت النصرة للمسلمين على الفرنج.

ثم رجع إلى دمشق مؤيدا منصورا، ثم ركب قاصدا حلب وبلاد الشرق ليأخذها، وذلك أن المواصلة والحلبيين كاتبوا الفرنج على حرب المسلمين، فغارت الفرنج على بعض أطراف البلاد ليشغلوا الناصر عنهم بنفسه، فجاء إلى حلب فحاصرها ثلاثا، ثم رأى العدول عنها إلى غيرها أولى، فسار حتى بلغ الفرات، واستحوذ على بلاد الجزيرة والرها والرقة ونصيبين، وخضعت له الملوك، ثم عاد إلى حلب فتسلمها من صاحبها عماد الدين زنكي، فاستوثقت له الممالك شرقا وغربا، وتمكن حينئذ من قتال الفرنج.

ولما عجز إبرنس الكرك عن إيصال الأذى إلى المسلمين في البر، عمل مراكب في بحر القلزم ليقطعوا الطريق على الحجاج والتجار، فوصلت أذيتهم إلى عيذاب، وخاف أهل المدينة النبوية من شرهم، فأمر الملك العادل الأمير حسام الدين لؤلؤ صاحب الأسطول أن يعمل مراكبه في بحر القلزم ليحارب أصحاب الإبرنس، ففعل ذلك فظفر بهم في كل موطن، فقتلوا منهم وحرقوا وغرقوا وسبوا في مواطن كثيرة، ومواقف هائلة، وأمن البر والبحر بإذن الله تعالى، وأرسل الناصر إلى أخيه العادل ليشكر ذلك عن مساعيه، وأرسل إلى ديوان الخليفة يعرفهم بذلك.

فصل في وفاة المنصور عز الدين

فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك ونائب دمشق لعمه الناصر، وهو والد الأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك بعد أبيه، وإليه تنسب المدرسة الفروخ شاهية بالشرق الشمالي بدمشق، وإلى جانبها التربة الأمجدية لولده، وهما وقف على الحنفية والشافعية.

وقد كان فروخ شاه شجاعا شهما عاقلا ذكيا كريما ممدحا، امتدحه الشعراء لفضله وجوده، وكان من أكبر أصحاب الشيخ تاج الدين أبي اليمن الكندي، عرفه من مجلس القاضي الفاضل، فانتمى إليه، وكان يحسن إليه، وله وللعماد الكاتب فيه مدائح، وكان ابنه الأمجد شاعرا جيدا، ولاه عم أبيه صلاح الدين بعلبك بعد أبيه، واستمر فيها مدة طويلة.

ومن محاسن فروخ شاه صحبته لتاج الدين الكندي وله شعر رائق:

أنا في أسر السقام ** و هو في هذا المقام

رشأ يرشق عينا ** فؤادي بسهام

كلما أرشفني فا ** ه على حرّ الأوام

ذقت منه الشـ ** ـهد المصفى في المدام

وقد دخل يوما الحمام فرأى رجلا كان يعرفه من أصحاب الأموال، و قد نزل به الحال حتى إنه كان يستتر ببعض ثيابه لئلا تبدو عورته، فرق له وأمر غلامه أن ينقل بقجة وبساطا إلى موضع الرجل، وأمره فأحضر ألف دينار وبغلة وتوقيعا له في كل شهر بعشرين ألف دينار، فدخل الرجل الحمام فقيرا وخرج منه غنيا، فرحمة الله على الأجواد الجياد.

وفيها توفي من الأعيان:

الشيخ أبو العباس أحمد بن أبي الحسن علي بن أبي العباس أحمد المعروف بابن الرفاعي

شيخ الطائفة الأحمدية الرفاعية البطائحية، لسكناه أم عبيدة من قرى البطائح، وهي بين البصرة وواسط، كان أصله من العرب فسكن هذه البلاد، والتف عليه خلق كثير.

يقال: إنه حفظ (التنبيه في الفقه) على مذهب الشافعي.

قال ابن خلكان: ولأتباعه أحوال عجيبة من أكل الحيات، وهي حية، والدخول في النار في التنانير وهي تضطرم، ويلعبون بها وهي تشتعل، ويقال: إنهم في بلادهم يركبون الأسود.

وذكر ابن خلكان: أنه قال: وليس للشيخ أحمد عقب، وإنما النسل لأخيه وذريته يتوارثون المشيخة بتلك البلاد.

وقال ومن شعره على ما قيل:

إذا جن ليلي هام قلبي بذكركم ** أنوح كما ناح الحمام المطوق

وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى ** وتحتي بحار بالأسى تتدفق

سلوا أم عمرو كيف بات أسيرها ** تفك الأسارى دونه وهو موثق

فلا هو مقتول ففي القتل راحة ** ولا هو ممنون عليه فيطلق

ومن شعره قوله:

أغار عليها من أبيها وأمها ** ومن كل من يدنو إليها وينظر

وأحسد للمرآة أيضا بكفها ** إذا نظرت مثل الذي أنا أنظر

قال: ولم يزل على تلك الحال إلى أن توفي يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة.

خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال

أبو القاسم القرطبي الحافظ المحدث المؤرخ، صاحب التصانيف، له كتاب (الصلة) جعله ذيلا على تاريخ أبي الوليد بن الفرضي، وله كتاب (المستغيثين بالله)، وله مجلدة في تعيين الأسماء المبهمة على طريق الخطيب، وله أسماء من روى (الموطأ) على حروف المعجم، بلغوا ثلاثة وسبعين رجلا، مات في رمضان عن أربع وثمانين سنة.

العلامة قطب الدين أبو المعالي

مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، تفقه على محمد بن يحيى صاحب الغزالي، قدم دمشق ودرس بالغزالية والمجاهدية، وبحلب بمدرسة نور الدين وأسد الدين، ثم بهمذان، ثم رجع إلى دمشق ودرّس بالغزالية، وانتهت إليه رياسة المذهب، ومات بها في سلخ رمضان يوم العيد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، عن ثلاث وتسعين سنة، وعنه أخذ الفخر ابن عساكر وغيره، وهو الذي صلى على الحافظ ابن عساكر، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة

في رابع عشر محرمها تسلم السلطان الناصر مدينة آمد صلحا بعد حصار طويل، من يد صاحبها ابن بيسان، بعد حمل ما أمكنه من حواصله وأمواله مدة ثلاثة أيام، ولما تسلم البلد وجد فيه شيئا كثيرا من الحواصل وآلات الحرب، حتى إنه وجد برجا مملوءا بنصول النشاب، وبرجا آخر فيه مائة ألف شمعة، وأشياء يطول شرحها، ووجد فيها خزانة كتب ألف ألف مجلد، وأربعين ألف مجلد، فوهبها كلها للقاضي الفاضل، فانتخب منها حمل سبعين حمارة.

ثم وهب السلطان البلد بما فيه لنور الدين محمد بن قرا أرسلان - وكان قد وعده بها - فقيل له: إن الحواصل لم تدخل في الهبة.

فقال: لا أبخل بها عليه.

وكان في خزانتها ثلاثة آلاف ألف دينار، فامتدحه الشعراء على هذا الصنيع.

ومن أحسن ذلك قول بعضهم:

قل للملوك تنحوا عن ممالككم ** فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها

ثم سار السلطان في بقية المحرم إلى حلب فحاصرها وقاتله أهلها قتالا شديدا، فجرح أخو السلطان تاج الملوك بوري بن أيوب جرحا بليغا، فمات منه بعد أيام، وكان أصغر أولاد أيوب، لم يبلغ عشرين سنة، وقيل: إنه جاوزها بثنتين، وكان ذكيا فهما، له ديوان شعر لطيف، فحزن عليه أخوه صلاح الدين حزنا شديدا، ودفنه بحلب، ثم نقله إلى دمشق.

ثم اتفق الحال بين الناصر وبين صاحب حلب عماد الدين زنكي بن آقنسقر على عوض أطلقه له الناصر، بأن يرد عليه سنجار ويسلمه حلب، فخرج عماد الدين من القلعة إلى خدمة الناصر وعزّاه في أخيه ونزل عنده في المخيم، ونقل أثقاله إلى سنجار، وزاده السلطان الخابور والرقة ونصيبين وسروج، واشترط عليه إرسال العسكر في الخدمة لأجل الغزاة في الفرنج، ثم سار وودعه السلطان ومكث السلطان في المخيم يرى حلب أياما غير مكترث بحلب ولا وقعت منه موقعا.

ثم صعد إلى قلعتها يوم الاثنين السابع والعشرين من صفر، وعمل له الأمير طهمان وليمة عظيمة، فتلا هذه الآية وهو داخل في بابها: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الآية 30.

ولما دخل دار الملك تلا قوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}الآية 31.

ولما دخل مقام إبراهيم صلى فيه ركعتين وأطال السجود به والدعاء والتضرع إلى الله، ثم شرع في عمل وليمة، وضربت البشائر وخلع على الأمراء، وأحسن إلى الرؤساء والفقراء، ووضعت الحرب أوزارها، وقد امتحده الشعراء بمدائح حسان.

ثم إن القلعة وقعت منه بموقع عظيم، ثم قال: ما سررت بفتح قلعة أعظم سرورا من فتح مدينة حلب، وأسقطت عنها وعن سائر بلاد الجزيرة المكوس والضرائب، وكذلك عن بلاد الشام ومصر.

وقد عاث الفرنج في غيبته في الأرض فسادا، فأرسل إلى العساكر فاجتمعوا إليه، وكان قد بشر بفتح بيت المقدس حين فتح حلب، وذلك أن الفقيه مجد الدين بن جهبل الشافعي رأى في تفسير أبي الحكم العربي عند قوله: {الم ** غُلِبَتِ الرُّومُ ** فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} الآية 32، البشارة بفتح بيت المقدس في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، واستدل على ذلك بأشياء، فكتب ذلك في ورقة وأعطاها للفقيه عيسى الهكاري، ليبشر بها السلطان، فلم يتجاسر على ذلك خوفا من عدم المطابقة، فأعلم بذلك القاضي محي الدين بن الزكي، فنظم معناها في قصيدة يقول فيها:

وفتحكم حلب الشهباء في صفر ** قضى لكم بافتتاح القدس في رجب

وقدمها إلى السلطان فتاقت نفسه إلى ذلك، فلما افتتحها كما سيأتي، أمر ابن الزكي فخطب يومئذ وكان يوم الجمعة، ثم، بلغه بعد ذلك أن ابن جهبل هو الذي قال ذلك أولا، فأمره فدرس على نفس الصخرة درسا عظيما، فأجزل له العطاء، وأحسن عليه الثناء.

ثم رحل من حلب في أواخر ربيع الآخر واستخلف على حلب ولده الظاهر غازي، وولي قضاءها لابن الزكي، فاستناب له فيها نائبا، وسار مع السلطان فدخلوا دمشق في ثالث جمادى الأولى، وكان ذلك يوما مشهودا، ثم برز منها خارجا إلى قتال الفرنج في أول جمادى الآخرة قاصدا نحو بيت المقدس، فانتهى إلى بيسان فنهبها، ونزل على عين جالوت، وأرسل بين يديه سرية هائلة فيها بردويل وطائفة من النورية.

وجاء مملوك عمه أسد الدين فوجدوا جيش الفرنج قاصدين إلى أصحابهم نجدة، فالتقوا معهم فقتلوا من الفرنج خلقا وأسروا مائة أسير، ولم يفقد من المسلمين سوى شخص واحد، ثم عاد في آخر ذلك اليوم، وبلغ السلطان أن الفرنج قد اجتمعوا لقتاله، فقصدهم وتصدى لهم لعلهم يصافونه، فالتقى معهم فقتل منهم خلقا كثيرا، وجرح مثلهم فرجعوا ناكصين على أعقابهم خائفين منه غاية المخافة، ولا زال جيشه خلفهم يقتل ويأسر حتى غزوا في بلادهم فرجعوا عنهم.

وكتب القاضي الفاضل إلى الخليفة يعلمه بما منّ الله عليه وعلى المسلمين من نصرة الدين، وكان لا يفعل شيئا ولا يريد أن يفعله إلا أطلع عليه الخليفة أدبا واحتراما وطاعة واحتشاما.

فصل محاصرة السلطان للكرك

وفي رجب سار السلطان إلى الكرك فحاصرها، وفي صحبته تقي الدين عمر ابن أخيه، وقد كتب لأخيه العادل ليحضر عنده ليوليه حلب وأعمالها وفق ما كان طلب، واستمر الحصار على الكرك مدة شهر رجب، ولم يظفر منها بطلب، وبلغه أن الفرنج قد اجتمعوا كلهم ليمنعوا منه الكرك، فكر راجعا إلى دمشق - وذلك من أكبر همته - وأرسل ابن أخيه تقي الدين إلى مصر نائبا، وفي صحبته القاضي الفاضل.

وبعث أخاه على مملكة حلب وأعمالها، واستقدم ولده الظاهر إليه، وكذلك نوابه ومن يعز عليه، وإنما أعطى أخاه حلب ليكون قريبا منه، فإنه كان لا يقطع أمرا دونه، واقترض السلطان من أخيه العادل مائة ألف دينار، وتألم الظاهر بن الناصر على مفارقة حلب، وكانت إقامته بها ستة أشهر، ولكن لا يقدر أن يظهر ما في نفسه لوالده، لكن ظهر ذلك عل صفحات وجهه ولفظات لسانه.

ثم دخلت سنة ثمانين وخمسمائة

فيها: أرسل الناصر إلى العساكر الحلبية والجزيرية والمصرية والشامية أن يقدموا عليه لقتال الفرنج، فقدم عليه تقي الدين عمر من مصر ومعه الفاضل، ومن حلب العادل، وقدمت ملوك الجزيرة وسنجار وغيرها.

فأخذ الجميع وسار نحو الكرك فأحرقوا بها في رابع عشر جمادى الأولى، وركب عليها المنجنيقات، وكانت تسعة، وأخذ في حصارها، وذلك أنه رأى أن فتحها أنفع للمسلمين من غيرها، فإن أهلها يقطعون الطريق على الحجاج، فبينما هو كذلك إذ بلغه أن الفرنج قد اجتمعوا له كلهم فارسهم وراجلهم، ليمنعوا منه الكرك، فانشمر عنها وقصدهم فنزل على حسان تجاههم، ثم صار إلى ماعر، فانهزمت الفرنج قاصدين الكرك.

فأرسل وراءهم من قتل منهم مقتلة عظيمة، وأمر السلطان بالإغارة على السواحل لخلوها من المقاتلة، فنهبت نابلس وما حولها من القرى والرساتيق، ثم عاد السلطان إلى دمشق فأذن للعساكر في الانصراف إلى بلادهم، وأمر ابن أخيه عمر الملك المظفر أن يعود إلى مصر، وأقام هو بدمشق ليؤدي فرض الصيام، وليجل الخيل ويحد الحسام، وقدم على السلطان خلع الخليفة فلبسها، وألبس أخاه العادل، وابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، ثم خلع خلعته على ناصر الدين بن قرا أرسلان، صاحب حصن كيفا وآمد التي أطلقها له السلطان.

وفيها: مات صاحب المغرب يوسف بن عبد المؤمن بن علي، وقام في الملك بعده ولده يعقوب.

وفي أواخرها بلغ صلاح الدين أن صاحب الموصل نازل أربل فبعث صاحبها يستصرخ به، فركب من فوره إليه، فسار إلى بعلبك ثم إلى حماة، فأقام بها أياما ينتظر وصول العماد إليه، وذلك لأنه حصل له ضعف فأقام ببعلبك، وقد أرسل إليه الفاضل من دمشق طبيبا، يقال له: أسعد بن المطران، فعالجه مداواة من طب لمن حب.

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة

استهلت والسلطان مخيم بظاهر حماة، ثم سار إلى حلب، ثم خرج منها في صفر قاصدا الموصل فجاء إلى حران فقبض على صاحبها مظفر الدين، وهو أخو زين الدين صاحب إربل، ثم رضي عنه وأعاده إلى مملكته حتى يتبين خبث طويته، ثم سار إلى الموصل فتلقاه الملوك من كل ناحية، وجاء إلى خدمته عماد الدين أبو بكر بن قرا أرسلان.

وسار السلطان فنزل على الإسماعيليات قريبا من الموصل، وجاءه صاحب إربل نور الدين الذي خضعت له ملوك تلك الناحية، ثم أرسل صلاح الدين ضياء الدين الشهرزوري إلى الخليفة يعلمه بما عزم عليه من حصار الموصل، وإنما مقصوده ردهم إلى طاعة الخليفة، ونصرة الإسلام.

فحاصرها مدة ثم رحل عنها ولم يفتحها، وسار إلى خلاط واستحوذ على بلدان كثيرة، وأقاليم جمة ببلاد الجزيرة وديار بكر، وجرت أمور استقصاها ابن الأثير في (كامله)، وصاحب (الروضتين)، ثم وقع الصلح بينه وبين المواصلة، على أن يكونوا من جنده إذا ندبهم لقتال الفرنج، وعلى أن يخطب له وتضرب له السكة، ففعلوا ذلك في تلك البلاد كلها.

وانقطعت خطبة السلاجقة والأزيقية بتلك البلاد كلها، ثم اتفق مرض السلطان بعد ذلك مرضا شديدا، فكان يتجلد ولا يظهر شيئا من الألم حتى قوي عليه الأمر وتزايد الحال، حتى وصل إلى حران فخيم هنالك من شدة ألمه، وشاع ذلك في البلاد، وخاف الناس عليه وأرجف الكفرة والملحدون بموته، وقصده أخوه العادل من حلب بالأطباء والأدوية، فوجده في غاية الضعف، وأشار عليه بأن يوصي.

فقال: ما أبالي وأنا أترك من بعدي أبا بكر وعمر وعثمان وعليا- يعني: أخاه العادل وتقي الدين عمر صاحب حماه وهو إذ ذاك نائب مصر، وهو بها مقيم، وابنيه العزيز عثمان والأفضل عليا-.

ثم نذر لئن شفاه الله من مرضه هذا ليصرفن همته كلها إلى قتال الفرنج، ولا يقاتل بعد ذلك مسلما، وليجعل أكبر همه فتح بيت المقدس، ولو صرف في سبيل الله جميع ما يملكه من الأموال والذخائر، وليقتلن البرنس صاحب الكرك بيده، لأنه نقض العهد وتنقص الرسول ، وذلك أنه أخذ قافلة ذاهبة من مصر إلى الشام، فأخذ أموالهم وضرب رقابهم، وهو يقول: أين محمدكم؟ دعوه ينصركم.

وكان هذا النذر كله بإشارة القاضي الفاضل، وهو أرشده إليه وحثه عليه، حتى عقده مع الله عز وجل، فعند ذلك شفاه الله وعافاه من ذلك المرض الذي كان فيه، كفارة لذنوبه، وجاءت البشارات بذلك من كل ناحية، فدقت البشائر وزينت البلاد.

وكتب الفاضل من دمشق وهو مقيم بها إلى المظفر عمر: أن العافية الناصرية قد استقامت واستفاضت أخبارها، وطلعت بعد الظلمة أنوارها، وظهرت بعد الاختفاء آثارها، وولت العلة ولله الحمد والمنة، وطفئت نارها، وانجلى غبارها، وخمد شرارها، وما كانت إلا فلتة وقى الله شرها وشنارها، وعظمية كفى الله الإسلام عارها، وتوبة امتحن الله بها نفوسنا، فرأى أقل ما عندها صبرنا، وما كان الله ليضيع الدعاء وقد أخلصته القلوب، ولا تتوقف الإجابة وإن سدت طريقها الذنوب، ولا ليخلف وعد فرج وقد أيس الصاحب والمصحوب:

نعيٌ زاد فيه الدهر ميما ** فأصبح بعد بؤساه نعيما

وما صدق النذير به لأني ** رأيت الشمس تطلع والنجوما

وقد استقبل مولانا السلطان الملك الناصر غضة جديدة، والعزمة ماضية حديدة، والنشاط إلى الجهاد، والتوبة لرب العباد، والجنة مبسوطة البساط، وقد انقضى الحساب وجزنا الصراط، وعرضنا نحن على الأهوال التي من خوفها كاد الجمل يلج بسم الخياط.

ثم ركب السلطان من حران بعد العافية فدخل حلب، ثم ركب فدخل دمشق، وقد تكاملت عافيته، وقد كان يوما مشهودا.

وفيها توفي من الأعيان

الفقيه مهذب الدين عبد الله بن أسعد الموصلي

مدرس حمص، وكان بارعا في فنون، ولا سيما في الشعر والأدب، وقد أثنى عليه العماد، والشيخ شهاب الدين أبو شامة.

الأمير ناصر الدين محمد بن شيركوه

صاحب حمص والرحبة، وهو ابن عم صلاح الدين، وزوج أخته ست الشام بنت أيوب، توفي بحمص فنقلته زوجته إلى تربتها بالشامية البرانية، وقبره الأوسط بينها وبين أخيها المعظم توران شاه صاحب اليمن، وقد خلف من الأموال والذخائر شيئا كثيرا، ينيف على ألف ألف دينار.

توفي يوم عرفة فجأة، فولي بعده مملكة حمص ولده أسد الدين شيركوه بأمر صلاح الدين.

المحمودي بن محمد بن علي بن إسماعيل

ابن عبد الرحيم الشيخ جمال الدين أبو الثناء محمودي بن الصابوني، كان أحد الأئمة المشهورين، وإنما يقال له: المحمودي، لصحبة جده السلطان محمود بن زنكي، فأكرمه ثم سار إلى مصر فنزلها، وكان صلاح الدين يكرمه، وأوقف عليه وعلى ذريته أرضا، فهي لهم إلى الآن.

الأمير سعد الدين مسعود

ابن معين الدين، كان من كبار الأمراء أيام نور الدين وصلاح الدين، وهو أخو الست خاتون وحين تزوجها صلاح الدين زوجه بأخته الست ربيعة خاتون بنت أيوب، التي تنسب إليها المدرسة الصاحبية بسفح قيسون على الحنابلة، وقد تأخرت مدتها فتوفيت في سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وكانت آخر من بقي من أولاد أيوب لصلبه، وكانت وفاته بدمشق في جمادى الآخرة من جرح أصابه وهو في حصار ميافارقين.

الست خاتون عصمت الدين

بنت معين الدين، نائب دمشق، وأتابك عساكرها قبل نور الدين كما تقدم، وقد كانت زوجة نور الدين ثم خلف عليها من بعده صلاح الدين في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.

وكانت من أحسن النساء وأعفهن وأكبرهن صدقة، وهي واقفة الخاتونية الجوانية بمحلة حجر الذهب، وخانقات خاتون ظاهر باب النصر في أول الشرف القبلي على بانياس، ودفنت بتربتها في سفح قاسيون قريبا من قباب السركسية، وإلى جنبها دار الحديث الأشرفية والأتابكية، ولها أوقاف كثيرة غير ذلك.

وأما الخاتونية البرانية التي على القنوات بمحلة صنعاء الشام، ويعرف ذلك المكان التي هي فيه بتل الثعالب، فهي من إنشاء الست زمرد خاتون بنت جاولي، وهي أخت الملك دقماق لأمه، وكانت زوجة زنكي والد نور الدين محمود، صاحب حلب، وقد ماتت قبل هذا الحين كما تقدمت وفاتها.

الحافظ الكبير أبو موسى المديني

محمد بن عمر بن محمد الأصبهاني الحافظ الموسوي المديني، أحد حفاظ الدنيا الرحالين الجوالين، له مصنفات عديدة، وشرح أحاديث كثيرة، رحمه الله.

السهيلي أبو القاسم

وأبو زيد عبد الرحمن بن الخطيب أبي محمد عبد الله بن الخطيب أبي عمر أحمد بن أبي الحسن أصبغ بن حسين بن سعدون بن رضوان بن فتوح - هو الداخل إلى الأندلس - الخثعمي السهيلي.

حكى القاضي ابن خلكان: أنه أملى عليه نسبه كذلك، قال: والسهيلي نسبة إلى قرية بالقرب من مالقة اسمها سُهيل، لأنه لا يرى سهيل النجم في شيء من تلك البلاد إلا منها من رأس جبل شاهق عندها، وهي من قرى المغرب.

ولد السهيلي سنة ثمان وخمسمائة، وقرأ القراءات واشتغل وحصل حتى برع وساد أهل زمانه بقوة القريحة وجودة الذهن وحسن التصنيف، وذلك من فضل الله تعالى ورحمته، وكان ضريرا مع ذلك.

له (الروض الأنف) يذكر فيه نكتا حسنة على السيرة لم يسبق إلى شيء منها أو إلى أكثرها، وله كتاب (الإعلام فيما أبهم في القران من الأسماء الأعلام)، وكتاب (نتائج الفكر)، ومسألة في الفرائض بديعة، ومسألة في سركون الدجال أعور، وأشياء فريدة كثيرة بديعة مفيدة، وله أشعار حسنة.

وكان عفيفا فقيرا، وقد حصل له مال كثير في آخر عمره من صاحب مراكش.

مات يوم الخميس السادس والعشرين من شعبان من هذه السنة، وله قصيدة كان يدعو الله بها ويرتجي الإجابة فيها وهي:

يا من يرى ما في الضمير ويسمع ** أنت المعد لكل ما يتوقع

يا من يرجى للشدائد كلها ** يا من إليه المشتكى والمفزع

يا من خزائن رزقه في قول كن ** امنن فإن الخير عندك أجمع

مالي سوى فقري إليك وسيلةٌ ** فبالافتقار إليك فقري أدفع

مالي سوى قرعي لبابك حيلةٌ ** فلئن رددت فأي باب أقرع؟

ومن الذي أرجو وأهتف باسمه ** إن كان فضلك عن فقيرك يمنع؟

حاشا لمجدك أن تقنط عاصيا ** الفضل أجزل والمواهب أوسع

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة

في الثاني ربيع الأول منها كان دخول الناصر دمشق بعد عافيته، وزار القاضي الفاضل، واستشاره، وكان لا يقطع أمرا دونه، وقرر في نيابة دمشق ولده الأفضل علي، ونزل أبو بكر العادل عن حلب لصهره زوج ابنته الملك الظاهر غازي بن الناصر.

وأرسل السلطان أخاه العادل صحبة ولده عماد الدين عثمان الملك العزيز على ملك مصر، ويكون الملك العادل أتابكه، وله إقطاع كبيرة جدا، وعزل عن نيابتها تقي الدين عمر، فعزم على الدخول إلى إفريقية، فلم يزل الناصر يتلطف به ويترفق له حتى أقبل بجنوده نحوه، فأكرمه واحترمه وأقطعه حماه وبلادا كثيرة معها، وقد كانت له قبل ذلك، وزاد له على ذلك مدينة ميافارقين، وامتدحه العماد بقصيدة ذكرها في (الروضتين).

وفيها: هادن قومس طرابلس السلطان وصالحه وصافاه، حتى كان يقاتل ملوك الفرنج أشد القتال وسبى منهم النساء والصبيان، وكاد أن يسلم ولكن صده السلطان فمات على الكفر والطغيان، وكانت مصالحته من أقوى أسباب النصر على الفرنج، وأشد ما دخل عليهم في دينهم.

قال العماد الكاتب: وأجمع المنجمون على خراب العالم في شعبان، لأن الكواكب الستة تجتمع فيه في الميزان، فيكون طوفان الريح في سائر البلدان، وذكر أن ناسا من الجهلة تأهبوا لذلك بحفر مغارات في الجبال ومدّخلات وأسراب في الأرض خوفا من ذلك.

قال: فلما كانت تلك الليلة التي أشاروا إليها وأجمعوا عليها لم ير ليلة مثلها في سكونها وركودها وهدوئها.

وقد ذكر ذلك غير واحد من الناس في سائر أقطار الأرض، وقد نظم الشعراء في تكذيب المنجمين في هذه الواقعة وغريبها أشعارا كثيرة حسنة منها:

مزق التقويم والزيج فقد بان الخطا ** إنما التقويم والزيج هباء وهوا

قلت للسبعة إبرامٌ ومنعٌ وعطا ** ومتى ينزلن في الميزان يستولي الهوا

ويثور الرمل حتى يمتلي منه الصفا ** ويعم الأرض رجفٌ وخرابٌ وبلى

ويصير القاع كالقف وكالطود العدا ** وحكمتم فأبى الحاكم إلا ما يشا

ما أتى الشرع ولا جاءت بهذا الأنبيا ** فبقيتم ضحكةً يضحك منها العلما

حسبكم خزيا وعارا ما يقول الشعرا ** ما أطمعكم في الحكم إلا الأمرا

ليت إذ لم يحسنوا في الدين طغاما أسا ** فعلى اصطرلاب بطليموس والزيج العفا

وعليه الخزي ما جادت على الأرض السما

من الأعيان:

أبو محمد عبد الله بن أبي الوحش

بري بن عبد الجبار بن بري المقدسي ثم المصري، أحد أئمة اللغة والنحو في زمانه، وكان عليه تعرض الرسائل بعد ابن بابشاد، وكان كثير الاطلاع عالما بهذا الشأن، ومطرحا للتكليف في كلامه، لا يلتفت ولا يعرج على الإعراب فيه إذا خاطب الناس، وله التصانيف المفيدة، توفي وقد جاوز الثمانين بثلاث سنين رحمه الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة

فيها: كانت وقعة حطين التي كانت أمارة وتقدمة وإشارة لفتح بيت المقدس، واستنقاذه من أيدي الكفرة.

قال ابن الأثير: كان أول يوم منها يوم السبت، وكان يوم النيروز، وذلك أول سنة الفرس، واتفق أن ذلك كان أول سنة الروم، و هو اليوم الذي نزلت فيه الشمس برج الحمل، وكذلك كان القمر في برج الحمل أيضا، وهذا شيء يبعد وقوع مثله.

وبرز السلطان من دمشق يوم السبت مستهل محرم في جيشه، فسار إلى رأس الماء فنزل ولده الأفضل هناك في طائفة من الجيش، وتقدم السلطان ببقية الجيش إلى بصرى، فخيم على قصر أبي سلام، ينتظر قدوم الحجاج، وفيهم أخته ست الشام وابنها حسام الدين محمد بن عمر بن لاشين، ليسلموا من معرة برنس الكرك.

فلما جاز الحجيج سالمين سار السلطان فنزل على الكرك وقطع ما حوله من الأشجار، ورعى الزرع وأكلوا الثمار، وجاءت العساكر المصرية وتوافت الجيوش المشرقية، فنزلوا عند ابن السلطان على رأس الماء، وبعث الأفضل سرية نحو بلاد الفرنج فقتلت وغنمت وسلمت ورجعت، فبشر بمقدمات الفتح والنصر.

وجاء السلطان بجحافله فالتفت عليه جميع العساكر، فرتب الجيوش وسار قاصدا بلاد الساحل، وكان جملة من معه من المقاتلة اثني عشر ألفا غير المتطوعة، فتسامعت الفرنج بقدومه فاجتمعوا كلهم وتصالحوا فيما بينهم، وصالح قومس طرابلس وبرنس الكرك الفاجر، وجاؤوا بحدهم وحديدهم، واستصحبوا معهم صليب الصلبوت يحمله منهم عباد الطاغوت، وضلال الناسوت، في خلق لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل.

يقال: كانوا خمسين ألفا، وقيل: ثلاثا وستين ألفا، وقد خوفهم صاحب طرابلس من المسلمين، فاعترض عليه البرنس صاحب الكرك، فقال له: لا أشك أنك تحب المسلمين وتخوفنا كثرتهم، وسترى غب ما أقول لك.

فتقدموا نحو المسلمين وأقبل السلطان ففتح طبرية وتقوى بما فيها من الأطعمة والأمتعة وغير ذلك، وتحصنت منه القلعة فلم يعبأ بها، وحاز البحيرة في حوزته، ومنع الله الكفرة أن يصلوا منها إلى قطرة، حتى صاروا في عطش عظيم، فبرز السلطان إلى سطح الجبل الغربي من طبرية عند قرية يقال لها: حطين، التي يقال: إن فيها قبر شعيب عليه الصلاة والسلام، وجاء العدو المخذول، وكان فيهم صاحب عكا وكفرنكا وصاحب الناصرة وصاحب صور، وغير ذلك من جميع ملوكهم.

فتواجه الفريقان وتقابل الجيشان، وأسفر وجه الإيمان واغبر وأقتم وأظلم وجه الكفر والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان، وذلك عشية يوم الجمعة، فبات الناس على مصافهم، وأصبح صباح يوم السبت الذي كان يوما عسيرا على أهل الأحد وذلك لخمس بقين من ربيع الآخر.

فطلعت الشمس على وجوه الفرنج واشتد الحر وقوي بهم العطش، وكان تحت أقدام خيولهم حشيش قد صار هشيما، وكان ذلك عليهم مشؤوما، فأمر السلطان النفاطة أن يرموه بالنفط، فرموه فتأجج نارا تحت سنابك خيولهم، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال، وتبارز الشجعان.

ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة فحملوا وكان النصر من الله عز وجل، فمنحهم الله أكتافهم فقتل منهم ثلاثون ألفا في ذلك اليوم، وأسر ثلاثون ألفا من شجعانهم وفرسانهم.

وكان في جملة من أسر جميع ملوكهم سوى قومس طرابلس، فإنه انهزم في أول المعركة، واستلبهم السلطان صليبهم الأعظم، وهو الذين يزعمون أنه صلب عليه المصلوب، وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفسية، ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله، ودمغ الباطل وأهله، حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفا وثلاثين أسيرا من الفرنج قد ربطهم بطنب خيمة، وباع بعضهم أسيرا بنعل ليلبسها في رجله، وجرت أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فلله الحمد دائما كثيرا طيبا مباركا.

فلما تمت هذه الوقعة، ووضعت الحرب أوزارها أمر السلطان بضرب مخيم عظيم، وجلس فيه على سرير المملكة وعن يمينه أسرة وعن يساره مثلها، وجيء بالأسارى تتهادى بقيودهم، فأمر بضرب أعناق جماعة من مقدمي الداوية - والأسارى بين يديه - صبرا، ولم يترك أحدا منهم ممن كان يذكر الناس عنه شرا.

ثم جيء بملوكهم فأجلسوا عن يمينه ويساره على مراتبهم، فأجلس ملكهم الكبير عن يمينه، وأجلس أرياط برنس الكرك وبقيتهم عن شماله، ثم جيء إلى السلطان بشراب من الجلاب مثلوجا، فشرب ثم ناول الملك فشرب، ثم ناول أرياط صاحب الكرك فغضب السلطان، وقال له: إنما ناولتك ولم آذن لك أن تسقيه، هذا لا عهد له عندي.

ثم تحول السلطان إلى خيمة داخل تلك الخيمة واستدعى بأرياط صاحب الكلرك، فلما أوقف بين يديه قام إليه بالسيف ودعاه إلى الإسلام فامتنع.

فقال له: نعم أنا أنوب عن رسول الله في الانتصار لأمته، ثم قتله وأرسل برأسه إلى الملوك وهم في الخيمة.

وقال: إن هذا تعرض لسبّ رسول الله .

ثم قتل السلطان جميع من كان من الأسارى من الداوية والاسبتارية صبرا وأراح المسلمين من هذين الجنسين الخبيثين، ولم يسلم ممن عرض عليه الإسلام إلا القليل، فيقال: إنه بلغت القتلى ثلاثين ألفا، والأسارى كذلك كانوا ثلاثين ألفا، وكان جملة جيشهم ثلاثة وستين ألفا، وكان من سلم مع قلتهم وهرب أكثرهم جرحى فماتوا ببلادهم.

وممن مات كذلك قومس طرابلس، فإنه انهزم جريحا فمات بها بعد مرجعه، ثم أرسل السلطان برؤوس أعيان الفرنج ومن لم يقتل من رؤوسهم، وبصليب الصلبوت صحبة القاضي ابن أبي عصرون إلى دمشق ليودعوا في قلعتها، فدخل بالصليب منكوسا وكان يوما مشهودا.

ثم سار السلطان إلى قلعة طبرية فأخذها، وقد كانت طبرية تقاسم بلاد حوران والبلقاء وما حولها من الجولان وتلك الأراضي كلها بالنصف، فأراح الله المسلمين من تلك المقاسمة.

ثم سار السلطان إلى حطين فزار قبر شعيب، ثم ارتفع منه إلى إقليم الأردن، فتسلم تلك البلاد كلها، وهي قرى كثيرة كبار وصغار، ثم سار إلى عكا فنزل عليه يوم الأربعاء سلخ ربيع الآخر، فافتتحها صلحا يوم الجمعة، وأخذ ما كان بها من حواصل الملوك وأموالهم وذخائرهم ومتاجر وغيرها.

واستنقذ من كان بها من أسرى المسلمين، فوجد فيها أربعة آلاف أسير، ففرج الله عنهم، وأمر بإقامة الجمعة بها، وكانت أول جمعة أقيمت بالساحل بعد أخذه الفرنج، نحوا من سبعين سنة.

ثم سار منها إلى صيدا وبيروت وتلك النواحي من السواحل يأخذها بلدا بلدا، لخلوها من المقاتلة والملوك، ثم رجع سائرا نحو غزة وعسقلان ونابلس وبيسان وأراضي الغور، فملك ذلك كله، واستناب على نابلس ابن أخيه حسام الدين عمر بن محمد بن لاشين، وهو الذي افتتحها.

وكان جملة ما افتتحه السلطان في هذه المدة القريبة خمسين بلدا كبارا، كل بلد له مقاتلة وقلعة ومنعة، وغنم الجيش والمسلمون من هذه الأماكن شيئا كثيرا، وسبوا خلقا.

ثم إن السلطان أمر جيوشه أن ترتع في هذه الأماكن مدة شهور ليستريحوا وتحمو أنفسهم وخيولهم لفتح بيت المقدس، وطار في الناس أن السلطان عزم على فتح بيت المقدس، فقصده العلماء والصالحون تطوعا، وجاؤوا إليه، ووصل أخاه العادل بعد وقعة حطين وفتح عكا، ففتح بنفسه حصونا كثيرة، فاجتمع من عباد الله ومن الجيوش شيء كثير جدا، فعند ذلك قصد السلطان القدس بمن معه كما سيأتي.

وقد امتدحه الشعراء بسبب وقعة حطين فقالوا وأكثروا، وكتب إليه القاضي الفاضل من دمشق - وهو مقيم بها لمرض اعتراه -: ليهن المولى أن الله أقام به الدين، وكتب المملوك هذه الخدمة والرؤوس لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها، وكلما ذكر المملوك أن البِيَع تعود مساجد، والمكان الذي كان يقال فيه: إن الله ثالث ثلاثة، يقال فيه اليوم: إنه الواحد، جدد لله شكرا تارة يفيض من لسانه، وتارة يفيض من جفنه سرورا بتوحيد الله، تعالى الملك الحق المبين.

وأن يقال: محمد رسول الله الصادق الأمين، وجزى الله يوسف خيرا عن إخراجه من سجنه، والمماليك ينتظرون المولى وكل من أراد أن يدخل الحمام بدمشق قد عزم على دخول حمام طبرية:

تلك المكارم لا قعبان من لبن ** وذلك السيف لا سيف ابن ذي يزن

ثم قال: وللألسنة بعد في هذا الفتح تسبيح طويل وقول جميل جليل.

فتح بيت المقدس في هذه السنة

واستنقاذه من أيدي النصارى بعد أن استحوذوا عليه مدة ثنتين وتسعين سنة.

لما افتتح السلطان تلك الأماكن المذكورة فيما تقدم، أمر العساكر فاجتمعت ثم سار نحو بيت المقدس، فنزل بيت غربي المقدس في الخامس عشر من رجب من هذه السنة - أعني سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة - فوجد البلد قد حصنت غاية التحصين، وكانوا ستين ألف مقاتل، دون بيت المقدس أو يزيدون، وكان صاحب القدس يومئذ رجلا يقال له: بالبان بن بازران، ومعه من سلم من وقعة حطين يوم التقى الجمعان، من الداوية والاسبتارية أتباع الشيطان، وعبدة الصلبان.

فأقام السلطان بمنزله المذكور خمسة أيام، وسلم إلى كل طائفة من الجيش ناحية من السور وأبراجه، ثم تحول السلطان إلى ناحية الشام لأنه رآها أوسع للمجال، والجلاد والنزال، وقاتل الفرنج دون البلد قتالا هائلا، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في نصرة دينهم وقمامتهم، واستشهد في الحصار بعض أمراء المسلمين، فحنق عند ذلك كثير من الأمراء والصالحين، واجتهدوا في القتال ونصب المناجنيق والعرادات على البلد، وغنت السيوف والرماح الخطيات، والعيون تنظر إلى الصلبان منصوبة فوق الجدران، وفوق قبة الصخرة صليب كبير، فزاد ذلك أهل الإيمان حنقا وشدة التشمير، وكان ذلك يوما عسيرا على الكافرين غير يسير.

فبادر السلطان بأصحابه إلى الزاوية الشرقية الشمالية من السور فنقبها وعلقها وحشاها وأحرقها، فسقط ذلك الجانب وخر البرج برمته فإذا هو واجب.

فلما شاهد الفرنج ذلك الحادث الفظيع، والخطب المؤلم الوجيع، قصد أكابرهم السلطان وتشفعوا إليه أن يعطيهم الأمان، فامتنع من ذلك وقال: لا أفتحها إلا عنوة، كما افتتحتموها أنتم عنوة، ولا أترك بها أحدا من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم من كان بها من المسلمين.

فطلب صاحبها بالبان بن بازران الأمان ليحضر عنده فأمنه، فلما حضر ترقق للسلطان وذل ذلا عظيما، وتشفع إليه بكل ما أمكنه فلم يجبه إلى الأمان لهم.

فقالوا: إن لم تعطنا الأمان رجعنا فقتلنا كل أسير بأيدينا - وكانوا قريبا من أربعة آلاف - وقتلنا ذرارينا وأولادنا ونساءنا وخربنا الدور والأماكن الحسنة، وأحرقنا المتاع وأتلفنا ما بأيدينا من الأموال، وهدمنا قبة الصخرة وحرقنا ما نقدر عليه، ولا نبقي ممكنا في إتلاف ما نقدر عليه، وبعد ذلك نخرج فنقاتل قتال الموت، ولا خير في حياتنا بعد ذلك، فلا يقتل واحد منا حتى يقتل أعدادا منكم، فماذا ترتجي بعد هذا من الخير؟

فلما سمع السلطان ذلك أجاب إلى الصلح وأناب، على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة دنانير، وعن كل صغير وصغيرة دينارين، ومن عجز عن ذلك كان أسيرا للمسلمين، وأن تكون الغلات والأسلحة والدور للمسلمين، وأنهم يتحولون منها إلى مأمنهم وهي مدينة صور.

فكتب الصلح بذلك، وأن من لم يبذل ما شرط عليه إلى أربعين يوما فهو أسير، فكان جملة من أسر بهذا الشرط ستة عشر ألف أسير من رجال ونساء وولدان، ودخل السلطان والمسلمون البلد يوم الجمعة قبل وقت الصلاة بقليل، وذلك يوم السابع والعشرين من رجب.

قال العماد: وهي ليلة الإسراء برسول الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

قال أبو شامة: وهو أحد الأقوال في الإسراء، ولم يتفق للمسلمين صلاة الجمعة يومئذ خلافا لمن زعم أنها أقيمت يومئذ، وأن السلطان خطب بنفسه بالسواد، والصحيح أن الجمعة لم يتمكنوا من إقامتها يومئذ لضيق الوقت، وإنما أقيمت في الجمعة المقبلة، وكان الخطيب محي الدين بن محمد بن علي القرشي ابن الزكي كما سيأتي قريبا.

ولكن نظفوا المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وخربت دور الداوية، وكانوا قد بنوها غربي المحراب الكبير، واتخذوا المحراب مشتا لعنهم الله، فنظف من ذلك كله، وأعيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين، ووضع الصليب عن قبتها، وعادت إلى حرمتها.

وقد كان الفرنج قلعوا منها قطعا فباعوها من أهل البحور الجوانية بزنتها ذهبا، فتعذر استعادة ما قطع منها.

ثم قبض من الفرنج ما كانوا بذلوه عن أنفسهم من الأموال، وأطلق السلطان خلقا منهم بنات الملوك بمن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهم، وشفع في أناس كثير فعفا عنهم، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئا مما يقتني ويدخر، وكان رحمه الله حليما كريما مقداما شجاعا رحيما.

أول جمعة أقيمت ببيت المقدس بعد فتحه

لما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والقساقس، ودخله أهل الإيمان، ونودي بالأذان وقرئ القرآن، ووحد الرحمن، كان أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان، بعد يوم الفتح بثمان.

فنصب المنبر إلى جانب المحراب، وبسطت البسط وعلقت القناديل وتُلي التنزيل، وجاء الحق وبطلت الأباطيل، وصفت السجادات وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون، وخرس القسيسون، وزال البوس وطابت النفوس، وأقبلت السعود وأدبرت النحوس، وعُبد الله الأحد الصمد الذي {يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ** وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ}33.

وكبره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع وسالت لرقة القلوب المدامع.

ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، ولم يكن عين خطيب فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي وهو في قبة الصخرة أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيبا، فلبس الخلعة السوداء وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة، ذكر فيها شرف البيت المقدس، وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات، وما فيه من الدلائل والأمارات.

وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في (الروضتين) بطولها وكان أول ما قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 34.

ثم أورد تحميدات القرآن كلها، ثم قال: الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طله وهطله، وأظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع.

أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه ونصرة أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر أجهاره.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رافع الشكر وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى.

وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك، ومكسر الأصنام، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.

ثم ذكر الموعظة وهي مشتملة على تغبيط الحاضرين بما يسّره الله على أيديهم من فتح بيت المقدس، الذي من شأنه كذا وكذا، فذكر فضائله ومآثره، وأنه أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين.

لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، وإليه أسري برسول الله من المسجد الحرام، وصلى فيه بالأنبياء والرسل الكرام، ومنه كان المعراج إلى السموات، ثم عاد إليه ثم سار منه إلى المسجد الحرام على البراق، وهو أرض المحشر والمنشر يوم التلاق، وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء، وقد أسس على التقوى من أول يوم.

قلت: ويقال: إن أول من أسسه يعقوب عليه السلام بعد أن بنى الخليل المسجد الحرام بأربعين سنة، كما جاء في (الصحيحين) ثم جدد بناءه سليمان بن داود عليهما السلام، كما ثبت فيه الحديث بالمسند والسنن وصحيح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم.

وسأل سليمان عليه السلام الله عند فراغه منه خلالا ثلاثا، حكما يصادف حكمه، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وأنه لا يأتي أحدٌ هذا المسجد لا ينهزه إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

ثم ذكر تمام الخطبتين، ثم دعا للخليفة الناصر العباسي، ثم دعا للسلطان الناصر صلاح الدين.

وبعد الصلاة جلس الشيخ زين الدين أبو الحسن بن علي نجا المصري على كرسي الوعظ بإذن السلطان، فوعظ الناس، واستمر القاضي ابن الزكي يخطب بالناس في أيام الجمع أربع جمعات.

ثم قرر السلطان للقدس خطيبا مستقرا، وأرسل إلى حلب فاستحضر المنبر الذي كان الملك العادل نور الدين الشهيد قد استعمله لبيت المقدس، وقد كان يؤمل أن يكون فتحه على يديه، فما كان إلا على يدي بعض أتباعه صلاح الدين بعد وفاته.

نكتة غريبة

قال أبو شامة في (الروضتين): وقد تكلم شيخنا أبو الحسن علي بن محمد السخاوي في تفسيره الأول فقال: وقع في تفسير أبي الحكم الأندلسي - يعني ابن برجان - في أول سورة الروم أخبار عن فتح بيت المقدس، وأنه ينزع من أيدي النصارى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.

قال السخاوي: ولم أره أخذ ذلك من علم الحروف، وإنما أخذه فيما زعم من قوله: {الم ** غُلِبَتِ الرُّومُ ** فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ** فِي بِضْعِ سِنِينَ...} 35 فبنى الأمر على التاريخ كما يفعل المنجمون، فذكر أنهم يَغلبون في سنة كذا وكذا، ويُغلبون في سنة كذا وكذا، على ما تقتضيه دوائر التقدير.

ثم قال: وهذه نجابة وافقت إصابة، إن صح، قال ذلك قبل وقوعه، وكان في كتابه قبل حدوثه.

قال: وليس هذا من قبيل علم الحروف، ولا من باب الكرامات والمكاشفات، ولا ينال في حساب.

قال: وقد ذكر في تفسير سورة القدر أنه لو علم الوقت الذي نزل فيه القرآن لعلم الوقت الذي يرفع فيه.

قلت: ابن برجان ذكر هذا في تفسيره في حدود سنة ثنتين وعشرين وخمسمائة.

ويقال: إن الملك نور الدين أوقف على ذلك فطمع أن يعيش إلى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، لأن مولده في سنة إحدى عشر وخمسمائة، فتهيأ لأسباب ذلك حتى إنه أعد منبرا عظيما لبيت المقدس إذا فتحه والله أعلم.

وأما الصخرة المعظمة فإن السلطان أزال ما حولها من المنكرات والصور والصلبان، وطهرها بعد ما كانت جيفة، وأظهرها بعد ما كانت خفية مستورة غير مرئية، وأمر الفقيه عيسى الهكاري أن يعمل حولها شبابيك من حديد، ورتب لها إماما راتبا، وقف عليه رزقا جيدا.

وكذلك إمام الأقصى، عمل للشافعية مدرسة يقال لها: الصلاحية والناصرية أيضا، وكان موضعها كنيسة على قبر حنة أم مريم، ووقف على الصوفية رباطا كان للتبرك إلى جنب القمامة، وأجرى على الفقهاء والفقراء الجوامك، وأرصد الختم والربعات في أرجاء المسجد الأقصى والصخرة، ليقرأ فيها المقيمون والزائرون وتنافس بنو أيوب فيما يفعلونه ببيت المقدس وغيره من الخيرات إلى كل أحد.

وعزم السلطان على هدم القمامة وأن يجعلها دكا لتنحسم مادة النصارى من بيت المقدس.

فقيل له: إنهم لا يتركون الحج إلى هذه البقعة، ولو كانت قاعا صفصفا، وقد فتح هذه البلد قبلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وترك هذه الكنيسة بأيديهم، ولك في ذلك أسوة.

فأعرض عنها وتركها على حالتها تأسيا بعمر رضي الله عنه، ولم يترك من النصارى فيها سوى أربعة يخدمونها، وحال بين النصارى وبينها، وهدم المقابر التي كانت لهم عند باب الرحمة، وعفا آثارها، وهدم ما كان هناك من القباب.

وأما أسارى المسلمين الذين كانوا بالقدس فإنه أطلقهم جميعهم، وأحسن إليهم، وأطلق لهم إعطاءات سنية، وكساهم وانطلق كل منهم إلى وطنه، وعاد إلى أهله ومسكنه، فلله الحمد على نعمه ومننه.

فلما فرغ السلطان صلاح الدين من القدس الشريف انفصل عنها في الخامس والعشرين من شعبان قاصدا مدينة صور بالساحل، وكان فتحها قد تأخر، وقد استحوذ عليها بعد وقعة حطين رجل من تجار الفرنج يقال له: المركيس، فحصنها وضبط أمرها وحفر حولها خندقا من البحر إلى البحر.

فجاء السلطان فحاصرها مدة، ودعا بالأسطول من الديار المصرية في البحر، فأحاط بها برا وبحرا، فعدت الفرنج في بعض الليالي على خمس شواني من أسطول المسلمين فملكتها، فأصبح المسلمون واجمين حزنا وتأسفا، وقد دخل عليهم فصل البرد وقلّت الأزواد، وكثرت الجراحات وكلَّ الأمراء من المحاصرات.

فسألوا السلطان أن ينصرف بهم إلى دمشق حتى يستريحوا ثم يعودوا إليها بعد هذا الحين، فأجابهم إلى ذلك على تمنع منه، ثم توجه بهم نحو دمشق واجتاز في طريقه على عكا، وتفرقت العساكر إلى بلادها.

وأما السلطان فإنه لما وصل إلى عكا نزل بقلعتها وأسكن ولده الأفضل برج الداوية، وولى نيابتها عز الدين حردبيل، وقد أشار بعضهم على السلطان بتخريب مدينة عكا خوفا من عود الفرنج إليها، فكاد ولم يفعل وليته فعل، بل وكل بعمارتها وتجديد محاسنها بهاء الدين قراقوش التقوي.

ووقف دار الاسبتارية بصفين على الفقهاء والفقراء، وجعل دار الأسقف مارستانا ووقف على ذلك كله أوقافا دارة، وولى نظر ذلك إلى قاضيها جمال الدين ابن الشيخ أبي النجيب.

ولما فرغ من هذه الأشياء عاد إلى دمشق مؤيدا منصورا، وأرسل إليه الملوك بالتهاني والتحف والهدايا من سائر الأقطار والأمصار، وكتب الخليفة إلى السلطان يعتب عليه في أشياء، منها أنه بعث إليه في بشارة الفتح بوقعة حطين شابا بغداديا كان وضيعا عندهم، لا قدر له ولا قيمة، وأرسل بفتح القدس مع نجاب، ولقب نفسه بالناصر مضاهاة للخليفة.

فتلقى ذلك بالبشر واللطف والسمع والطاعة، وأرسل يعتذر مما وقع.

وقال: الحرب كانت شغلته عن التروي في كثير من ذلك، وأما لقبه بالناصر فهو من أيام الخليفة المستضيء، ومع هذا فمهما لقبني أمير المؤمنين فلا أعدل عنه، وتأدب مع الخليفة غاية الأدب مع غناه عنه.

وفيها: كانت وقعة عظيمة ببلاد الهند بين الملك شهاب الدين الغوري صاحب غزنة، وبين ملك الهند الكبير، فأقبلت الهنود في عدد كثير من الجنود، ومعهم أربعة عشر فيلا، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت ميمنة المسلمين وميسرتهم، وقيل للملك: انج بنفسك.

فما زاده ذلك إلا إقداما، فحمل على الفيلة فجرح بعضها - وجرح الفيل لا يندمل - فرماه بعض الفيالة بحربة في ساعده فخرجت من الجانب الآخر فخر صريعا، فحملت عليه الهنود ليأخذوه فجاحف عنه أصحابه فاقتتلوا عنده قتالا شديدا.

وجرت حرب عظيمة لم يسمع بمثلها بموقف، فغلب المسلمون الهنود وخلصوا صاحبهم وحملوه على كواهلهم في محفة عشرين فرسخا، وقد نزفه الدم.

فلما تراجع إليه جيشه أخذ في تأنيب الأمراء، وحلف ليأكلن كل أمير عليق فرسه، وما أدخلهم غزنة إلا مشاة.

وفيها: ولدت امرأة من سواد بغداد بنتا لها أسنان.

وفيها: قتل الخليفة الناصر أستاذ داره أبا الفضل بن الصاحب، وكان قد استحوذ على الأمور ولم يبق للخليفة معه كلمة تطاع، ومع هذا كان عفيفا عن الأموال، جيد السيرة، فأخذ الخليفة منه شيئا كثيرا من الحواصل والأموال.

وفيها: استوزر الخليفة أبا المظفر جلال الدين، ومشى أهل الدولة في ركابه حتى قاضي القضاة ابن الدامغاني، وقد كان ابن يونس هذا شاهدا عند القاضي، وكان يقول وهو يمشي في ركابه: لعن الله طول العمر، فمات القاضي في آخر هذه السنة.

وفيها توفي من الأعيان:

الشيخ عبد المغيث بن زهير الحربي

كان من صلحاء الحنابلة، وكان يزار، وله مصنف في فضل يزيد بن معاوية، أتى فيه بالغرائب والعجائب، وقد رد عليه أبو الفرج بن الجوزي فأجاد وأصاب، ومن أحسن ما اتفق لعبد المغيث هذا أن بعض الخلفاء - وأظنه الناصر - جاءه زائرا مستخفيا، فعرفه الشيخ عبد المغيث ولم يعلمه بأنه قد عرفه، فسأله الخليفة عن يزيد أيلعن أم لا؟

فقال: لا أسوغ لعنه لأني لو فتحت هذا الباب لأفضى الناس إلى لعن خليفتنا.

فقال الخليفة: ولِمَ؟

قال: لأنه يفعل أشياء منكرة كثيرة، منها كذا وكذا، ثم شرع يعدد على الخليفة أفعاله القبيحة، وما يقع منه من المنكر لينزجر عنها، فتركه الخليفة وخرج من عنده وقد أثر كلامه فيه، وانتفع به.

مات في المحرم من هذه السنة.

وفيها توفي الشيخ:

علي بن خطاب بن خلف العابد الناسك

أحد الزهاد، وذوي الكرامات، وكان مقامه بجزيرة ابن عمر.

قال ابن الأثير في (الكامل): ولم أر مثله في حسن خلقه وسمته وكراماته وعبادته.

الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن مقدم

أحد نواب صلاح الدين، ولما افتتح الناصر بيت المقدس أحرم جماعة في زمن الحج منه إلى المسجد الحرام، وكان ابن المقدم أمير الحاج في تلك السنة، فلما توقف بعرفة ضرب الدبادب ونشر الألوية، وأظهر عز السلطان صلاح الدين وعظمته، فغضب طاشتكين أمير الحاج من جهة الخليفة، فزجره عن ذلك فلم يسمع.

فاقتتلا فجرح ابن مقدم ومات في اليوم الثاني بمنى، ودفن هنالك، وجرت خطوب كثيرة، وليم طاشتكين على ما فعل، وخاف معرة ذلك من جهة صلاح الدين والخليفة، وعزله الخليفة عن منصبه.

محمد بن عبيد الله ابن عبد الله سبط بن التعاويذي الشاعر

ثم أضر في آخر عمره وجاز الستين، توفي في شوال.

نصر بن فتيان بن مطر

الفقيه الحنبلي المعروف بابن المنى، كان زاهدا عابدا، مولده سنة إحدى وخمسمائة، وممن تفقه عليه من المشاهير الشيخ موفق الدين بن قدامة، والحافظ عبد الغني، ومحمد بن خلف بن راجح، والناصر عبد الرحمن بن المنجم بن عبد الوهاب، وعبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي وغيرهم، توفي خامس رمضان.

وفيها توفي قاضي القضاة:

أبو الحسن الدامغاني

وقد حكم في أيام المقتفي ثم المستنجد ثم عزل وأعيد في أيام المستضيء، وحكم للناصر حتى توفي في هذه السنة.

ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة

في محرمها حاصر السلطان صلاح الدين حصن كوكب فرأه منيعا صعبا، فوكّل به الأمير قايماز البجمي في خمسمائة فارس يضيقون عليهم المسالك، وكذلك وكّل لصفت وكانت للدواية خمسمائة فارس مع طغرلبك الجامدار يمنعون الميرة والتقاوى أن تصل إليهم.

وبعث إلى الكرك الشوبك يضيقون على أهلها ويحاصرونهم، ليفرغ من أموره لقتال هذه الأماكن.

ولما رجع السلطان من هذه الغزوة إلى دمشق وجد الصفي بن الفايض وكيل الخزانة قد بنى له دارا بالقلعة هائلة مطلة على الشرف القبلي، فغضب عليه وعزله وقال: إنا لم نخلق للمقام بدمشق ولا بغيرها من البلاد، وإنما خلقنا لعبادة الله عز وجل والجهاد في سبيله، وهذا الذي عملته مما يثبط النفوس ويقعدها عما خلقت له.

وجلس السلطان بدار العدل فحضرت عنده القضاة وأهل الفضل، وزار القاضي الفاضل في بستانه على الشرف في جوسق ابن الفراش، وحكى له ما جرى من الأمور، واستشاره فيما يفعل في المستقبل من المهمات والغزوات، ثم خرج من دمشق فسلك على بيوس وقصد البقاع.

وسار إلى حمص وحماه وجاءت الجيوش من الجزيرة وهو على العاصي، فسار إلى السواحل الشمالية ففتح أنطرطوس وغيرها من الحصون، وجبلة واللاذقية، وكانتا من أحصن المدن عمارة ورخاما ومحالا، وفتح صهيون وبكاس والشغر وهما قلعتان على العاصي حصينتان، فتحهما عنوة، وفتح حصن بدرية وهي قلعة عظيمة على جبل شاهق منيع، تحتها أودية عميقة يضرب بها المثل في سائر بلاد الفرنج والمسلمين.

فحاصرها أشد حصار وركب عليها المجانيق الكبار، وفرق الجيش ثلاث فرق، كل فريق يقاتل، فإذا كلوا وتعبوا خلفهم الفريق الآخر، حتى لا يزال القتال مستمرا ليلا ونهارا، فكان فتحها في نوبة السلطان أخذها عنوة في أيام معدودات، ونهب جميع ما فيها.

واستولى على حواصلها وأموالها، وقتل حماتها ورجالها، واستخدم نساءها وأطفالها، ثم عدل عنها ففتح حصن دربساك وحصن بغراس، كل ذلك يفتحه عنوة فيغنم ويسلم، ثم سمت به همته العالية إلى فتح أنطاكية، وذلك لأنه أخذ جميع ما حولها من القرى والمدن، واستظهر عليها بكثرة الجنود.

فراسله صاحب إنطاكية يطلب منه الهدنة على أن يطلق من عنده من أسرى المسلمين، فأجابه إلى ذلك لعلمه بتضجر من معه من الجيش، فوقعت الهدنة على سبعة أشهر، ومقصود السلطان أن يستريح من تعبها، وأرسل السلطان من تسلم منه الأسارى وقد ذلت دولة النصارى.

ثم سار فسأله ولده الظاهر أن يجتاز بحلب فأجابه إلى ذلك، فنزل بقلعتها ثلاثة أيام، ثم استقدمه ابن أخيه تقي الدين إليه حماه فنزل عنده ليلة واحدة، وأقطعه جبلة واللاذقية، ثم سار فنزل بقلعة بعلبك، ودخل حمامها.

ثم عاد إلى دمشق في أوائل رمضان، وكان يوما مشهودا، وجاءته البشائر بفتح الكرك وإنقاذه من أيدي الفرنج، وأراح الله منهم تلك الناحية، وسهل حزنها على السالكين من التجار والغزاة والحجاج {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}36.

فصل في فتح صفد وحصن كوكب

لم يقم السلطان بدمشق إلا أياما حتى خرج قاصدا صفد فنازلها في العشر الأوسط من رمضان، وحاصرها بالمجانيق، وكان البرد شديدا يصبح الماء فيه جليدا، فما زال حتى فتحها صلحا في ثامن شوال، ثم سار إلى صور فألقت إليه بقيادها، وتبرأت من أنصارها وأجنادها وقوادها، وتحققت لما فتحت صفد أنها مقرونة معها في أصفادها.

ثم سار منها إلى حصن كوكب - وهي معقل الاسبتارية كما أن صفد كانت معقل الداوية - وكانوا أبغض أجناس الفرنج إلى السلطان، لا يكاد يترك منهم أحدا إلا قتله إذا وقع في المأسورين، فحاصر قلعة كوكب حتى أخذها، وقتل من بها وأراح المارة من شر ساكنيها، وتمهدت تلك السواحل واستقر بها منازل قاطنيها.

هذا والسماء تصب، والرياح تهب، والسيول تعب، والأرجل في الأوحال تخب، وهو في كل ذلك صابر مصابر، وكان القاضي الفاضل معه في هذه الغزوة، وكتب القاضي الفاضل إلى أخي السلطان صاحب اليمن يستدعيه إلى الشام لنصرة الإسلام، وأنه قد عزم على حصار إنطاكية، ويكون تقي الدين عمر محاصرا طرابلس إذا انسلخ هذا العام.

ثم عزم القاضي الفاضل على الدخول إلى مصر، فودعه السلطان فدخل القدس فصلى به الجمعة وعيد فيه عيد الأضحى، ثم سار ومعه أخوه السلطان العادل إلى عسقلان، ثم أقطع أخاه الكرك عوضا عن عسقلان، وأمره بالانصراف ليكون عونا لابنه العزيز على حوادث مصر، وعاد السلطان فأقام بمدينة عكا حتى انسلخت هذه السنة.

وفيها: خرجت طائفة بمصر من الرافضة ليعيدوا دولة الفاطميين، واغتنموا غيبة العادل عن مصر، واستخفوا أمر العزيز عثمان بن صلاح الدين، فبعثوا اثني عشر رجلا ينادون في الليل: يا آل علي، يا آل علي، بنياتهم على أن العامة تجيبهم فلم يجبهم أحد، ولا التفت إليهم.

فلما رأوا ذلك انهزموا فأدركوا وأخذوا وقيدوا وحبسوا، ولما بلغ أمرهم السلطان صلاح الدين ساءه ذلك واهتم له، وكان القاضي الفاضل عنده بعد لم يفارقه، فقال له: أيها الملك ينبغي أن تفرح ولا تحزن، حيث لم يصغ إلى هؤلاء الجهلة أحد من رعيتك، ولو أنك بعثت جواسيس من قبلك يختبرون الناس لسرك ما بلغك عنهم.

فسرى عنه ما كان يجد، ورجع إلى قوله وأرسله إلى مصر ليكون له عينا وعونا.

وفيها توفي من الأعيان:

الأمير الكبير سلالة الملوك والسلاطين

الشيزري مؤيد الدولة أبو الحارث وأبو المظفر أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ أحد الشعراء المشهورين، المشكورين.

بلغ من العمر ستا وتسعين سنة، وكان عمره تاريخا مستقلا وحده، وكانت داره بدمشق، مكان العزيزية، وكانت معقلا للفضلاء، ومنزلا للعلماء، وله أشعار رائقة، ومعان فائقة، ولدية علم غزير، وعنده جود وفضل كثير، وكان من أولاد ملوك شيزر.

ثم أقام بمصر مدة في أيام الفاطميين، ثم عاد إلى الشام فقدم على الملك صلاح الدين في سنة سبعين وأنشده:

حمدت على طول عمري المشيبا ** وإن كنت أكثرت فيه الذنوبا

لأني حييت إلى أن لقيت ** بعد العدو صديقا حبيبا

وله في سنٍ قلعها وفقد نفعها:

وصاحب لا أملَّ الدهر صحبته ** يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد

لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا ** لناظريّ افترقنا فرقة الأبد

وله ديوان شعر كبير، وكان صلاح الدين يفضله على سائر الدواوين، وقد كان مولده في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وكان في شبيبته شهما شجاعا، قتل الأسد وحده مواجهةً، ثم عمر إلى أن توفي في هذه السنة ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين من رمضان، ودفن شرقي جبل قاسيون.

قال: وزرت قبره وأنشدت له:

لا تستعر جلدا على هجرانهم ** فقواك تضعف عن صدودٍ دائم

واعلم بأنك إن رجعت إليهم ** طوعا وإلا عدت عدوة نادم

وله أيضا:

وأعجب لضعف يدي عن حملها قلما ** من بعد حطم القنا في لبَّة الأسد

وقل لمن يتمنى طول مدته ** هذي عواقب طول العمر والمدد

قال ابن الأثير: وفيها توفي شيخه.

أبو محمد عبد الله بن علي ابن عبد الله بن سويد التكريتي

كان عالما بالحديث وله تصانيف حسنة.

الحازمي الحافظ

قال أبو شامة: وفيها توفي الحافظ أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم الحازمي الهمداني ببغداد، صاحب التصانيف على صغر سنه، منها (العجالة في النسب)، و(الناسخ والمنسوخ) وغيرها، ومولده سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمسمائة، وتوفي في الثامن والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة.

ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة

فيها: قدم من جهة الخليفة رسل إلى السلطان يعلمونه بولاية العهد لأبي نصر الملقب بالظاهر بن الخليفة الناصر، فأمر السلطان خطيب دمشق أبا القاسم عبد الملك بن زيد الدولعي أن يذكره على المنبر، ثم جهز السلطان مع الرسل تحفا كثيرة، وهدايا سنية، وأرسل بأسارى من الفرنج على هيئتهم في حال حربهم، وأرسل بصليب الصلبوت فدفن تحت عتبة باب النوى، من دار الخليفة، فكان بالأقدام يداس، بعدما كان يعظم ويباس.

والصحيح أن هذا الصليب كان منصوبا على الصخرة وكان من نحاس مطليا بالذهب، فحطه الله إلى أسفل العتب.

قصة عكا وما كان من أمرها

لما كان شهر رجب اجتمع من كان بصور من الفرنج وساروا إلى مدينة عكا، فأحاطوا بها يحاصرونها فتحصن من فيها من المسلمين، وأعدوا للحصار ما يحتاجون إليه، وبلغ السلطان خبرهم فسار إليهم من دمشق مسرعا، فوجدهم قد أحاطوا بها إحاطة الخاتم بالخنصر، فلم يزل يدافعهم عنها ويمانعهم منها، حتى جعل طريقا إلى باب القلعة يصل إليه كل من أراده، من جندي وسوقي، وامرأة وصبي.

ثم أدخل إليها ما أراد من الآلات والأمتعة، ودخل هو بنفسه فعلا على سورها ونظر إلى الفرنج وجيشهم وكثرة عددهم وعددهم، والميرة تفد إليهم في البحر في كل وقت، وكل ما لهم في ازدياد، وفي كل حين تصل إليهم الأمداد.

ثم عاد إلى مخيمه والجنود تفد إليه، وتقدم عليه من كل جهة ومكان، منهم رجال وفرسان، فلما كان في العشر الأخير من شعبان برزت الفرنج من مراكبها إلى مواكبها، في نحو من ألفي فارس وثلاثين ألف راجل، فبرز إليهم السلطان فيمن معه من الشجعان فاقتتلوا بمرج عكا قتالا عظيما، وهزم جماعة من المسلمين في أول النهار.

ثم كانت الدائرة على الفرنج فكانت القتلى بينهم أزيد من سبعة آلاف قتيل، ولما تناهت هذه الوقعة تحول السلطان عن مكانه الأول إلى موضع بعيد من رائحة القتلى، خوفا من الوخم والأذى، وليستريح الخيالة والخيل، ولم يعلم أن ذلك كان من أكبر مصالح العدو المخذول، فإنهم اغتنموا هذه الفرصة فحفروا حول مخيمهم خندقا من البحر محدقا بجيشهم، واتخذوا من ترابه سورا شاهقا، وجعلوا له أبوابا يخرجون منها إذا أرادوا وتمكنوا في منزلهم ذلك الذي اختاروا وارتادوا.

وتفارط الأمر على المسلمين، وقوي الخطب وصار الداء عضالا، وازداد الحال وبالا، اختبارا من الله وامتحانا، وكان رأي السلطان أن يناجزوا بعد الكرة سريعا، ولا يتركوا حتى يطيب البحر فتأتيهم الأمداد من كل صوب.

فتعذر عليه الأمر بإملال الجيش والضجر، وكل منهم لأمر الفرنج قد احتقر، ولم يدر ما قد حتم في القدر، فأرسل السلطان إلى جميع الملوك يستنفر ويستنصر، وكتب إلى الخليفة بالبث، وبث الكتب بالتحضيض والحث السريع، فجاءته الأمداد جماعات وآحادا.

وأرسل إلى مصر يطلب أخاه العادل ويستعجل الأسطول، فقدم عليه فوصل إليه خمسون قطعة في البحر مع الأمير حسام الدين لؤلؤ، وقدم العادل في عسكر المصريين، فلما وصل، الأسطول حادت مراكب الفرنج عنه يمنة ويسرة، وخافوا منه، واتصل بالبلد الميرة والعدد والعدد، وانشرحت الصدور بذلك، وانسلخت هذه السنة والحال ما حال بل هو على ما هو عليه، ولا ملجأ من الله إلا إليه.

وفيها توفي من الأعيان:

القاضي شرف الدين أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن أبي عصرون

أحد أئمة الشافعية، له كتاب (الانتصاف)، وقد ولي قضاء القضاة بدمشق، ثم أضر قبل موته بعشر سنين، فجعل ولده نجم الدين مكانه بطيب قلبه وقد بلغ من العمر ثلاثا وتسعين سنة ونصفا، ودفن بالمدرسة العصرونية، التي أنشأها عند سويقة باب البريد، قبالة داره، بينهما عرض الطريق، وكان من الصالحين والعلماء العاملين.

وقد ذكره ابن خلكان فقال: كان أصله من حديثة عانة الموصل، ورحل في طلب العلم إلى بلدان شتى، وأخذ عن أسعد الميهني وأبي علي الفارقي وجماعة، وولي قضاء سنجار وحران، وباشر في أيام نور الدين تدريس الغزالية، ثم انتقل إلى حلب فبنى له نور الدين بحلب مدرسة وبحمص أخرى.

ثم قدم دمشق في أيام صلاح الدين، فولي قضاءها في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة إلى أن توفي في هذه السنة، وقد جمع جزءا في قضاء الأعمى، وأنه جائز، وهو خلاف المذهب، وقد حكاه صاحب (البيان) وجها لبعض الأصحاب.

قال: ولم أره في غيره، ولكن حبك الشيء يعمي ويصم، وقد صنف كتبا كثيرة، منها (صفوة المذهب في نهاية المطلب) في سبع مجلدات، و(الانتصاف) في أربعة، و(الخلاف) في أربعة، و(الذريعة في معرفة الشريعة)، و(المرشد) وغير ذلك، وكتابا سماه (مأخذ النظر) ومختصرا في الفرائض.

وقد ذكره ابن عساكر في (تاريخه) والعماد فأثنى عليه، وكذلك القاضي الفاضل.

وأورد له العماد أشعارا كثيرة وابن خلكان منها:

أؤمل أن أحيا وفي كل ساعةٍ ** تمر بي الموتى يهز نعوشها

وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي ** بقايا ليالٍ في الزمان أعيشها

أحمد بن عبد الرحمن بن وهبان

أبو العباس المعروف بابن أفضل الزمان، قال ابن الأثير: كان عالما متبحرا في علوم كثيرة من الفقه، والأصول والحساب والفرائض والنجوم والهيئة والمنطق وغير ذلك، وقد جاور بمكة وأقام بها إلى أن مات بها، وكان من أحسن الناس صحبة وخلقا.

الفقيه الأمير ضياء الدين عيسى الهكاري

كان من أصحاب أسد الدين شيركوه، دخل معه إلى مصر، وحظي عنده، ثم كان ملازما للسلطان صلاح الدين حتى مات في ركابه بمنزلة الخروبة قريبا من عكا، فنقل إلى القدس فدفن به، كان ممن تفقه على الشيخ أبي القاسم بن البرزي الجزري، وكان من الفضلاء والأمراء الكبار.

المبارك بن المبارك الكرخي

مدرّس النظامية، تفقه بابن الخل وحظي بمكانة عند الخليفة والعامة، وكان يضرب بحسن خطه المثل.

ذكرته في (الطبقات).

ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة

استهلت والسلطان محاصر لحصن عكا، وأمداد الفرنج تفد إليهم من البحر في كل وقت، حتى أن نساء الفرنج ليخرجن بنية القتال، ومنهن من تأتي بنية راحة الغرباء لينكحوها في الغربة، فيجدون راحة وخدمة وقضاء وطر، قدم إليهم مركب فيه ثلاثمائة امرأة من أحسن النساء وأجملهن بهذه النية، فإذا وجدوا ذلك ثبتوا على الحرب والغربة، حتى أن كثيرا من فسقة المسلمين تحيزوا إليهم من أجل هذه النسوة، واشتهر الخبر بذلك.

وشاع بين المسلمين والفرنج بأن ملك الألمان قد أقبل بثلاثمائة ألف مقاتل، من ناحية القسطنطينية، يريد أخذ الشام وقتل أهله، انتصارا لبيت المقدس فعند ذلك حمل السلطان والمسلمون هما عظيما، وخافوا غاية الخوف، مع ما هم فيه من الشغل والحصار الهائل، وقويت قلوب الفرنج بذلك، واشتدوا للحصار والقتال.

ولكن لطف الله وأهلك عامة جنده في الطرقات بالبرد والجوع والضلال في المهالك، على ما سيأتي بيانه.

وكان سبب قتال الفرنج وخروجهم من بلادهم ونفيرهم ما ذكره ابن الأثير في (كامله): أن جماعة من الرهبان والقسيسين الذين كانوا ببيت المقدس وغيره، ركبوا من صور في أربعة مراكب، وخرجوا يطوفون ببلدان النصارى البحرية، وما هو قاطع البحر من الناحية الأخرى، يحرضون الفرنج ويحثونهم على الانتصار لبيت المقدس، ويذكرون لهم ما جرى على أهل القدس، وأهل السواحل من القتل والسبي وخراب الديار.

وقد صوروا صورة المسيح وصورة عربي آخر يضربه ويؤذيه، فإذا سألوهم من هذا الذي يضرب المسيح؟

قالوا: هذا نبي العرب يضربه وقد جرحه ومات.

فينزعجون لذلك ويحمون ويبكون ويحزنون فعند ذلك خرجوا من بلادهم لنصرة دينهم ونبيهم، وموضع حجهم على الصعب والذلول، حتى النساء المخدرات والزواني والزانيات الذين هم عند أهليهم من أعز الثمرات.

وفي نصف ربيع الأول تسلم السلطان شعيف أربون بالأمان، وكان صاحبه مأسورا في الذل والهوان، وكان من أدهى الفرنج وأخبرهم بأيام الناس، وربما قرأ في كتب الحديث وتفسير القرآن، وكان مع هذا غليظ الجلد قاسي القلب، كافر النفس.

ولما انفصل فصل الشتاء وأقبل الربيع جاءت ملوك الإسلام من بلدانها بخيولها وشجعانها، ورجالها وفرسانها، وأرسل الخليفة إلى الملك صلاح الدين أحمالا من النفط والرماح، ونفاطة ونقابين، كل منهم متقن في صنعته غاية الإتقان، ومرسوما بعشرين ألف دينار.

وانفتح البحر وتواترت مراكب الفرنج من كل جزيرة، لأجل نصرة أصحابهم، يمدونهم بالقوة والميرة، وعملت الفرنجة ثلاثة أبرجة من خشب وحديد، عليها جلود مسقاة بالخل، لئلا يعمل فيها النفط، يسع البرج منها خمسمائة مقاتل، وهي أعلا من أبرجة البلد، وهي مركبة على عجل بحيث يديرونها كيف شاؤوا، وعلى ظهر كل منها منجنيق كبير.

فلما رأى المسلمون ذلك أهمهم أمرها وخافوا على البلد ومن فيه من المسلمين أن يؤخذوا، وحصل لهم ضيق منها، فأعمل السلطان فكره بإحراقها، وأحضر النفاطين ووعدهم بالأموال الجزيلة إن هم أحرقوها، فانتدب لذلك شاب نحاس من دمشق يعرف بعلي بن عريف النحاسين، والتزم بإحراقها.

فأخذ النفط الأبيض وخلطه بأدوية يعرفها، وغلى ذلك في ثلاثة قدور من نحاس حتى صار نارا تأجج، ورمى كل برج منها بقدر من تلك القدور بالمنجنيق من داخل عكا، فاحترقت الأبرجة الثلاثة حتى صارت نارا بإذن الله، لها ألسنة في الجو متصاعدة، واحترق من كان فيها.

فصرخ المسلمون صرخة واحدة بالتهليل، واحترق في كل برج منها سبعون كفورا، وكان يوما على الكافرين عسيرا، وذلك يوم الاثنين الثاني والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وكان الفرنج قد تعبوا في عملها سبعة أشهر، فاحترقت في يوم واحد {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورا} 37.

ثم أمر السلطان لذلك الشاب النحاس بعطية سنية وأموال كثيرة، فامتنع أن يقبل شيئا من ذلك، وقال: إنما عملت ذلك ابتغاء وجه الله، ورجاء ما عنده سبحانه، فلا أريد منكم جزاءا ولا شكورا.

وأقبل الأسطول المصري وفيه الميرة الكثيرة لأهل البلد، فعبي الفرنج أسطولهم ليقاتلوا أسطول المسلمين، نهض السلطان بجيشه ليشغلهم عنهم، وقاتلهم أهل البلد أيضا.

واقتتل الأسطولان في البحر، وكان يوما عسيرا، وحربا في البر والبحر، فظفرت الفرنج بشبيني واحد من الأسطول الذي للمسلمين، وسلم الله الباقي، فوصل إلى البلد بما فيه من الميرة، وكانت حاجتهم قد اشتدت إليها جدا، بل إلى بعضها.

وأما ملك الألمان المتقدم ذكره، فإنه أقبل في عدد وعدد كثير جدا، قريب من ثلاثمائة ألف مقاتل، من نيته خراب البلد وقتل أهلها من المسلمين، والانتصار لبيت المقدس وأن يأخذ البلاد إقليما بعد إقليم، حتى مكة والمدينة، فما نال من ذلك شيئا بعون الله وقوته، بل أهلكهم الله عز وجل في كل مكان وزمان.

فكانوا يتخطفون كما يتخطف الحيوان، حتى اجتاز ملكهم بنهر شديد الجرية، فدعته نفسه أن يسبح فيه، فلما صار فيه حمله الماء إلى شجرة، فشجت رأسه، وأخمدت أنفاسه، وأراح الله منه العباد والبلاد.

فأقيم ولده الأصغر في الملك، وقد تمزق شملهم، وقلت منهم العدة، ثم أقبلوا لا يجتازون ببلد إلا قتلوا فيه، فما وصلوا إلى أصحابهم الذين على عكا إلا في ألف فارس، فلم يرفعوا بهم رأسا ولا لهم قدرا ولا قيمة بينهم، ولا عند أحد من أهل ملتهم ولا غيرهم.

وهكذا شأن من أراد إطفاء نور الله، وإذلال دين الإسلام.

وزعم العماد في سياقه أن الألمان وصلوا في خمسة آلاف، وأن ملوك الإفرنج كلهم كرهوا قدومهم عليهم، لما يخافون من سطوة ملكهم، وزوال دولتهم بدولته، ولم يفرح به إلا المركيس صاحب صور، الذي أنشأ هذه الفتنة وأثار هذه المحنة، فإنه تقوى به وبكيده، فإنه كان خبيرا بالحروب.

وقد قدم بأشياء كثيرة من آلات الحرب لم تخطر لأحد ببال. نصب دبابات أمثال الجبال، تسير بعجل ولها زلوم من حديد، تنطح السور فتخرقه، وتثلم جوانبه، فمنَّ الله العظيم بإحراقها، وأراح الله المسلمين منها، ونهض صاحب الألمان بالعسكر الفرنجي، فصادم به جيش المسلمين، فجاءت جيوش المسلمين برمتها إليه، فقتلوا من الكفرة خلقا كثيرا، وجما غفيرا.

وهجموا مرة على مخيم السلطان بغتة، فنهبوا بعض الأمتعة، فنهض الملك العادل أبو بكر - وكان رأس الميمنة - فركب في أصحابه، وأمهل الفرنج حتى توغلوا بين الخيام، ثم حمل عليهم بالرماح والحسام، فهربوا بين يديه فما زال يقتل منهم جماعة بعد جماعة، وفرقة بعد فرقة، حتى كسوا وجه الأرض منهم حللا أزهى من الرياض الباسمة، وأحب إلى النفوس من الخدود الناعمة.

وأقل ما قيل: إنه قتل منهم خمسة آلاف، وزعم العماد أنه قتل منهم فيما بين الظهر إلى العصر عشرة آلاف، والله أعلم.

هذا وطرف الميسرة لم يشعر بما جرى ولا درى، بل نائمون وقت القائلة في خيامهم، وكان الذين ساقوا وراءهم أقل من ألف، وإنما قتل من المسلمين عشرة أو دونهم، وهذه نعمة عظيمة.

وقد أوهن هذا جيش الفرنج وأضعفهم، وكادوا يطلبون الصلح وينصرفون عن البلد، فاتفق قدوم مدد عظيم إليهم من البحر مع ملك يقال له: كيد هرى، ومعه أموال كثيرة، فأنفق فيهم، وغرم عليهم، وأمرهم أن يبرزوا معه لقتال المسلمين، ونصب على عكا منجنيقين، غرم على كل واحد منهما ألفا وخمسمائة دينار، فأحرقهما المسلمون من داخل البلد.

وجاءت كتب صاحب الروم من القسطنطنية يعتذر لصلاح الدين من جهة ملك الألمان، وأنه لم يتجاوز بلده باختياره، وأنه تجاوزه لكثرة جنوده، ولكن ليبشر السلطان بأن الله سيهلكهم في كل مكان وكذلك وقع.

وأرسل إلى السلطان يخبره بأنه يقيم للمسلمين عنده جمعة وخطبا، فأرسل السلطان مع رسله خطيبا ومنبرا، وكان يوم دخولهم إليه يوما مشهودا، ومشهدا محمودا، فأقيمت الخطبة بالقسطنطنية، ودعا للخليفة العباسي، واجتمع فيها من هناك من المسلمين من التجار والمسلمين الأسرى، والمسافرين إليها، والحمد لله رب العالمين.

وكتب متولي عكا من جهة السلطان صلاح الدين، وهو الأمير بهاء الدين قراقوش، في العشر الأول من شعبان إلى السلطان: إنه لم يبق عندهم في المدينة من الأقوات إلا ما يبلغهم إلى ليلة النصف من شعبان.

فلما وصل الكتاب إلى السلطان أسرَّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم، خوفا من إشاعة ذلك، فيبلغ العدو فيقدموا على المسلمين، وتضعف القلوب، وكان قد كتب إلى أمير الأسطول بالديار المصرية أن يقدم بالميرة إلى عكا، فتأخر سيره.

ثم وصلت ثلاث بطش ليلة النصف، فيها من الميرة ما يكفي أهل البلد طول الشتاء، وهي صحبة الحاجب لؤلؤ، فلما أشرفت على البلد نهض إليها أسطول الفرنج ليحول بينها وبين البلد، ويتلف ما فيها.

فاقتتلوا في البحر قتالا شديدا، والمسلمون في البر يبتهلون إلى الله عز وجل في سلامتها، والفرنج أيضا تصرخ برا وبحرا، وقد ارتفع الضجيج، فنصر الله المسلمين وسلم مراكبهم، وطابت الريح للبطش، فسارت فأحرقت المراكب الفرنجية المحيطة بالميناء، ودخلت البلد سالمة، ففرح بها أهل البلد والجيش فرحا شديدا.

وكان السلطان قد جهز قبل هذه البطش الثلاث بطشة كبيرة من بيروت، فيها أربعمائة غرارة، وفيها من الجبن والشحم والقديد والنشاب والنفط شيء كثير، وكانت هذه البطشة من بطش الفرنج المغنومة.

وأمر من فيها من التجار أن يلبسوا زي الفرنج حتى أنهم حلقوا لحاهم، وشدوا الزنانير، واستصحبوا في البطشة معهم شيئا من الخنازير، وقدموا بها على مراكب الفرنج، فاعتقدوا أنهم منهم، وهي سائرة كأنها السهم إذا خرج من كبد القوس.

فحذرهم الفرنج غائلة الميناء من ناحية البلد، فاعتذروا بأنهم مغلوبون عنها، ولا يمكنهم حبسها من قوة الريح، وما زالوا كذلك حتى ولجوا الميناء، فأفرغوا ما كان معهم من الميرة، والحرب خدعة. فعبرت الميناء فامتلأ الثغر بها خيرا، فكفتهم إلى أن قدمت عليهم تلك البطش الثلاث المصرية.

وكانت البلد يكتنفها برجان، يقال لأحدهما: برج الديان، فاتخذت الفرنج بطشة عظيمة، لها خرطوم وفيه محركات إذا أرادوا أن يضعوه على شيء من الأسوار والأبرجة قلبوه فوصل إلى ما أرادوا.

فعظم أمر هذه البطشة على المسلمين، ولم يزالوا في أمرها محتالين، حتى أرسل الله عليها شواظا من نار فأحرقها وأغرقها، وذلك أن الفرنج أعدوا فيها نفطا كثيرا وحطبا جزلا، وأخرى خلفها فيها حطب محض.

فلما أراد المسلمون المحافظة على الميناء أرسلوا النفط على بطشة الحطب، فاحترقت وهي سائرة بين بطش المسلمين، واحترقت الأخرى، وكان في بطشة أخرى لهم مقاتلة تحت قبو، قد أحكموه فيها.

فلما أرسلوا النفط على برج الديان، انعكس الأمر عليهم بقدرة الله تعالى، وذلك لشدة الهواء تلك الليلة، فما تعدت النار بطشتهم فاحترقت، وتعدى الحريق إلى الأخرى فغرقت، ووصل إلى بطشة المقاتلة فتلفت، وهلك من فيها، فاشبهوا من سلف من أهل الكتاب من الكافرين في قوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} 38.

فصل اشتداد حصار الفرنج للمدينة

وفي ثالث رمضان اشتد حصار الفرنج للمدينة حتى نزلوا إلى الخندق، فبرز إليهم أهل البلد فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وتمكنوا من حريق الكيس والأسوار، وسرى حريقه إلى السقوف، وارتفعت له لهبة عظيمة في عنان السماء، ثم اجتذبه المسلمون إليهم بكلاليب من حديد في سلاسل، فحصل عندهم وألقوا عليه الماء البارد فبرد بعد أيام، فكان فيه من الحديد مائة قنطار بالدمشقي، ولله الحمد والمنة.

وفي الثامن والعشرين من رمضان توفي الملك زين الدين صاحب أربل في حصار عكا مع السلطان، فتأسف الناس عليه لشبابه وغربته وجودته، وعزي أخاه مظفر الدين فيه.

وقام بالملك من بعده وسأل من صلاح الدين أن يضيف إليه شهرزور، وحران، والرها، وسميساط، وغيرها، وتحمل مع ذلك خمسين ألف دينار نقدا، فأجيب إلى ذلك، وكتب له تقليدا، وعقد له لواء، وأضيف ما تركه إلى الملك المظفر تقي الدين ابن أخي السلطان صلاح الدين.

فصل إدارة الممالك من قبل القاضي الفاضل

وكان القاضي الفاضل بمصر يدير الممالك بها، ويجهز إلى السلطان ما يحتاج إليه من الأموال، وعمل الأسطول والكتب السلطانية، فمنها كتاب يذكر فيه أن سبب هذا التطويل في الحصار كثرة الذنوب، وارتكاب المحارم بين الناس، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا يفرج الشدائد إلا بالرجوع إليه، وامتثال أمره، فكيف لا يطول الحصار والمعاصي في كل مكان فاشية.

وقد صعد إلى الله منها ما يتوقع بعده الاستعاذة منه، وفيه أنه قد بلغه أن بيت المقدس قد ظهر فيه المنكرات والفواحش والظلم في بلاده ما لا يمكن تلافيه إلا بكلفة كثيرة.

ومنها كتاب يقول فيه: إنما أتينا من قبل أنفسنا، ولو صدقنا لعجل الله لنا عواقب صدقنا، ولو أطعناه لما عاقبنا بعدونا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به، فلا يختصم أحد إلا نفسه وعمله، ولا يرج إلا ربه ولا يغتر بكثرة العساكر والأعوان، ولا فلان الذي يعتمد عليه أن يقاتل ولا فلان.

فكل هذه مشاغل عن الله ليس النصر بها، وإنما النصر من عنده الله، ولا نأمن أن يكلنا الله إليها، والنصر به، واللطف منه، ونستغفر الله تعالى من ذنوبنا، فلولا أنها تسد طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل، وفيض دموع الخاشعين قد غسل، ولكن في الطريق عائق، خار الله لمولانا في القضاء السابق واللاحق.

ومن كتاب آخر يتألم فيه لما عند السلطان من الضعف في جسمه، بسبب ما حمل على قلبه مما هو فيه من الشدائد، أثابه الله بقوله: وما في نفس الملوك شائنة إلا بقية هذا الضعف الذي في جسم مولانا، فإنه بقلوبنا، ونفديه بأسماعنا وأبصارنا، ثم قال:

بنا معشر الخدام ما بك من أذى ** وإن أشفقوا مما أقول فبي وحدي

وقد أورد الشيخ شهاب الدين صاحب (الروضتين) ها هنا كتبا عدة من الفاضل إلى السلطان، فيها فصاحة وبلاغة ومواعظ وتحضيض على الجهاد، فرحمه الله من إنسان ما أفصحه، ومن وزير ما كان أنصحه، ومن عقل ما كان أرجحه.

فصل كتابة الفاضل كتابا إلى ملك الغرب

وكتب الفاضل كتابا على لسان السلطان إلى ملك المغرب أمير المسلمين، وسلطان جيش الموحدين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، يستنجده في إرسال مراكب في البحر تكون عونا للمسلمين على المراكب الفرنجية في عبارة طويلة فصيحة بليغة مليحة، حكاها أبو شامة بطولها.

وبعث السلطان صلاح الدين مع الكتاب سنية من التحف والألطاف، صحبة الأمير الكبير شمس الدين أبي الحزم عبد الرحمن بن منقذ، وسار في البحر في ثامن ذي القعدة، فدخل على سلطان المغرب في العشرين من ذي الحجة، فأقام عنده إلى عاشوراء من المحرم من سنة ثمان وثمانين، ولم يفد هذا الإرسال شيئا، لأنه تغضب إذ لم يلقب بأمير المؤمنين.

وكانت إشارة الفاضل إلى عدم الإرسال إليه، ولكن وقع ما وقع بمشيئة الله.

فصل وفيها حصل للناصر صلاح الدين سوء مزاج من كثرة ما يكابده من الأمور

فطمع العدو المخذول في حوزة الإسلام، فتجرد جماعة منهم للقتال، وثبت آخرون على الحصار.

فأقبلوا في عدد كثير وعدد فرتب السلطان الجيوش يمنة ويسرة، وقلبا وجناحين، فلما رأى العدو الجيش الكثيف فروا، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وجما غفيرا.

ولما دخل فصل الشتاء وانشمرت مراكب الفرنج عن البلد خوفا من الهلاك، بسبب اغتلام البحر، سأل من بالبلد من المسلمين من السلطان أن يريحهم مما هم فيه من الحصر العظيم، والقتال ليلا ونهارا، وأن يرسل إلى البلد بدلهم.

فرق لهم السلطان، وعزم على ذلك، وكانوا قريبا من عشرين ألف مسلم ما بين أمير ومأمور، فجهز جيشا آخر غيرهم، ولم يكن ذلك برأي جيد، ولكن ما قصد السلطان إلا خيرا، وأن هؤلاء يدخلون البلد بهمم حدة شديدة، ولهم عزم قوي، وهم في راحة بالنسبة إلى ما أولئك.

ولكن أولئك الذين كانوا بالبلد وخرجوا منه كانت لهم خبرة بالبلد وبالقتال، وكان لهم صبر وجلد، وقد تمونوا فيها مؤنة تكفيهم سنة، فانمحقت بسبب ذلك.

وقدم بطش من مصر فيه ميرة تكفي أهل البلد سنة كاملة، فقدر الله العظيم - وله الأمر من قبل ومن بعد - أنها لما توسطت البحر واقتربت من المينا، هاجت عليها ريح عظيمة فانقلبت تلك البطش، وتغلبت على عظمها، فاختبطت واضطربت وتصادمت فتكسرت وغرقت، وغرق ما كان فيها من الميرة والبحارة.

فدخل بسبب ذلك وهن عظيم على المسلمين، واشتد الأمر جدا، ومرض السلطان وازداد مرضا إلى مرضه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكان ذلك عونا للعدو والمخذول على أخذ البلد، ولا قوة إلا بالله، وذلك في ذي الحجة من هذه السنة.

وكان المقدم على الداخلين إلى عكا الأمير سيف الدين على بن أحمد بن المشطوب.

وفي اليوم السابع من ذي الحجة سقطت ثلمة عظيمة من سور عكا، فبادر الفرنج إليها فسبقهم المسلمون إلى سدها بصدورهم، وقاتلوا دونها بنحورهم، وما زالوا يمانعون عنها حتى بنوها أشد مما كانت، وأقوى وأحسن.

ووقع في هذه السنة وباء عظيم في المسلمين والكافرين، فكان السلطان يقول في ذلك:

اقتلوني ومالكا ** واقتلوا مالكا معي

واتفق موت ابن ملك الألمان لعنه الله في ثاني ذي الحجة، وجماعة من كبراء الكندهرية، وسادات الفرنج لعنهم الله، فحزن الفرنج على ابن ملك الألمان، وأوقدوا نارا عظيمة في كل خيمة، وصار كل يوم يهلك من الفرنج المائة والمائتان.

واستأمن السلطان جماعة منهم من شدة ما هم فيه من الجوع والضيق والحصر، وأسلم خلق كثير منهم.

وفيها: قدم القاضي الفاضل من مصر على السلطان، وكان قد طال شوق كل منهما إلى صاحبه، فأفضى كل منهما إلى صاحبه ما كان يسره ويكتمه من الآراء التي فيها مصالح المسلمين.

وفيها توفي من الأعيان:

ملك الألمان

وقد تقدم أنه قدم في ثلاثمائة ألف مقاتل؛ فهلكوا في الطرقات، فلم يصل إلى الفرنج إلا في خمسة آلاف، وقيل: في ألفي مقاتل.

وكان قد عزم على دمار الإسلام، واستنقاذ البلاد بكمالها من أيدي المسلمين، انتصارا في زعمه إلى بيت المقدس، فأهلكه الله بالغرق، كما أهلك فرعون.

ثم ملك بعده ولده الأصغر، فأقبل بمن بقي معه من الجيش إلى الفرنج، وهم في حصار عكا، ثم مات في هذه السنة، فلله الحمد والمنة.

محمد بن محمد بن عبد الله أبو حامد قاضي القضاة بالموصل

كمال الدين الشهرزوري الشافعي، أثنى عليه العماد وأنشد له من شعره قوله:

قامت بإثبات الصفات أدلةٌ ** قصمت ظهور أئمة التعطيل

وطلائع التنزيه لما أقبلت ** هزمت ذوي التشبيه والتمثيل

فالحق ما صرنا إليه جميعنا ** بأدلة الأخبار والتنزيل

من لم يكن بالشرع مقتديا فقد ** ألقاه فرط الجهل في التضليل

ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة

فيها: قدم ملك الفرنسيس وملك إنكلترا وغيرهما من ملوك البحر الفرنج، على أصحابهم الفرنج إلى عكا، وتمالؤا على أخذ عكا في هذه السنة كما سيأتي تفصيله.

وقد استهلت هذه السنة والحصار الشديد على عكا من الجانبين، وقد استكمل دخول العدو إلى البلد والملك العادل مخيم إلى جانب البحر، ليتكامل دخولهم ودخول ميرتهم.

وفي ليلة مستهل ربيع الأول منها خرج المسلمون من عكا فهجموا على مخيم الفرنج فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وسبوا وغنموا شيئا كثيرا، سبوا اثني عشر امرأة وانكسر مركب عظيم للفرنج، فغرق ما فيه منهم، وأسر باقيهم، وأغار صاحب حمص أسد الدين بن شيركوه على سرح الفرنج بأراضي طرابلس فاستاق منهم شيئا كثيرا من الخيول والأبقار والأغنام، وظفر الترك بخلق كثير من الفرنج فقتلوهم، ولم يقتل من المسلمين سوى طواش صغير عثر به فرسه.

وفي ثاني عشر ربيع الأول وصل إلى الفرنج ملك الفرنسيين في قريب من ستين بطش ملعونة مشحونة بعبدة الصليب، فحين وصل إليهم وقدم عليهم لم يبق لأحد من ملوكهم معه كلام ولا حكم، لعظمته عندهم، وقدم معه باز عظيم أبيض وهو الأشهب هائل فطار من يده فوقع على سور عكا فأخذه أهلها، وبعثوه إلى السلطان صلاح الدين، فبذل الفرنجي فيه ألف دينار فلم يجبه إلى ذلك.

وقدم بعده كيد فرير وهو من أكابر ملوكهم أيضا، ووصلت سفن ملك الإنكليز، ولم يجيء ملكهم لاشتغاله بجزيرة قبرص وأخذها من يد صاحبها، وتواصلت ملوك الإسلام أيضا من بلدانها في أول فصل الربيع، لخدمة الملك الناصر.

قال العماد: وقد كان للمسلمين لصوص يدخلون إلى خيام الفرنج فيسرقون، حتى أنهم كانوا يسرقون الرجال، فاتفق أن بعضهم أخذ صبيا رضيعا من مهده ابن ثلاثة أشهر، فوجدت عليه أمه وجدا شديدا، واشتكت إلى ملوكهم فقالوا لها: إن سلطان المسلمين رحيم القلب، وقد أذنا لك أن تذهبي إليه فتشكي أمرك إليه.

قال العماد: فجاءت إلى السلطان فأنهت إليه حالها، فرق لها رقة شديدة حتى دمعت عينه.

ثم أمر بإحضار ولدها فإذا هو قد بيع في السوق، فرسم بدفع ثمنه إلى المشتري، ولم يزل واقفا حتى جيء بالغلام فأخذته أمه وأرضعته ساعة وهي تبكي من شدة فرحها وشوقها إليه، ثم أمر بحملها إلى خيمتها على فرس مكرمة، رحمه الله تعالى وعفا عنه.

فصل في كيفية أخذ العدو عكا من يدي السلطان

لما كان شهر جمادى الأولى اشتد حصار الفرنج لعنهم الله لمدينة عكا، وتمالؤا عليها من كل فج عميق، وقدم عليهم ملك الإنكليز في جم غفير وجمع كثير، في خمسة وعشرين قطعة مشحونة بالمقاتلة.

وابتلى أهل الثغر منهم ببلاء لا يشبه ما قبله، فعند ذلك حركت الكؤسات في البلد، وكانت علامة ما بينهم وبين السلطان، فحرك السلطان كؤساته فاقترب من البلد وتحول إلى قريب منه، ليشغلهم عن البلد، وقد أحاطوا به من كل جانب، ونصبوا عليه سبعة منجانيق، وهي تضرب في البلد ليلا ونهارا، ولا سيما على برج عين البقر حتى أثرت به أثرا بينا.

وشرعوا في ردم الخندق بما أمكنهم من دواب ميتة، ومن قتل منهم، ومن مات أيضا ردموا به، وكان أهل البلد يلقون ما ألقوه فيه إلى البحر.

وتلقى ملك الإنكليز بطشة عظيمة للمسلمين قد أقبلت من بيروت مشحونة بالأمتعة والأسلحة فأخذها، وكان واقفا في البحر في أربعين مركبا لا يترك شيئا يصل إلى البلد بالكلية، وكان بالبطشة ستمائة من المقاتلين الصناديد الأبطال، فهلكوا عن آخرهم، رحمهم الله.

فإنه لما أحيط بهم وتحققوا إما الغرق أو القتل، خرقوا جوانبها كلها فغرقت، ولم يقدر الفرنج على أخذ شيء منها لا من الميرة ولا من الأسلحة، وحزن المسلمون على هذا المصاب حزنا عظيما، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن جبر الله سبحانه هذا البلاء بأن أحرق المسلمون في هذا اليوم دبابة كانت أربع طبقات، الأولى من الخشب، والثانية من رصاص، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، وهي مشرفة على السور والمقاتلة فيها.

وقد قلق أهل البلد منها بحيث حدثتهم أنفسهم من خوفهم من شرها بأن يطلبوا الأمان من الفرنج، ويسلموا البلد، ففرج الله عن المسلمين، وأمكنهم من حريقها، اتفق لهم ذلك في هذا اليوم الذي غرقت فيه البطشة المذكورة.

فأرسل أهل البلد يشكون إلى السلطان شدة الحصار وقوته عليهم، منذ قام ملك الإنكليز لعنه الله، ومع هذا قد مرض هو وجرح ملك الإفرنسيين أيضا، ولا يزيدهم ذلك إلا شدة وغلظة، وعتوا وبغيا.

وفارقهم المركيس وسار إلى بلده صور خوفا منهم أن يخرجوا ملكها من يده.

وبعث ملك الإنكليز إلى السلطان صلاح الدين يذكر له أن عنده جوارح قد جاء بها من البحر، وهو على نية إرسالها إليه، ولكنها قد ضعفت، وهو يطلب دجاجا وطيرا لتقوى به، فعرف أنه إنما يطلب ذلك لنفسه يلطفها به، فأرسل إليه شيئا كثيرا من ذلك كرما، ثم أرسل يطلب منه فاكهة وثلجا، فأرسل إليه أيضا فلم يفد معه الإحسان، بل لما عوفي عاد إلى شر مما كان.

واشتد الحصار ليلا ونهارا، فأرسل أهل البلد يقولون للسلطان: إما أن تعملوا معنا شيئا غدا وإلا طلبنا من الفرنج الصلح والأمان.

فشق ذلك على السلطان، وذلك لأنه كان قد بعث إليها أسلحة الشام والديار المصرية وسائر السواحل، وما كان غنمه من وقعة حطين ومن القدس، فهي مشحونة بذلك، فعند ذلك عزم السلطان على الهجوم على العدو، فلما أصبح ركب في جيشه فرأى الفرنج قد ركبوا من وراء خندقهم، والرجالة منهم قد ضربوا سورا حول الفرسان، وهم قطعة من حديد صماء لا ينفذ فيهم شيء، فأحجم عنهم لما يعلم من نكول جيشه عما يريده، وتحدوه عليه شجاعته، رحمه الله.

هذا وقد اشتد الحصار على البلد ودخلت الرجالة منهم إلى الخندق وعلقوا بدنة في السور وحشوها وأحرقوها، فسقطت ودخلت الفرنج إلى البلد، فمانعهم المسلمون وقاتلوهم أشد القتال، وقتلوا من رؤسهم ستة أنفس، فاشتد حنق الفرنج على المسلمين جدا بسبب ذلك.

وجاء الليل فحال بين الفريقين، فلما أصبح الصباح خرج أمير المسلمين بالبلد أحمد بن المشطوب فاجتمع بملك الإفرنسيين وطلب منهم الأمان على أنفسهم، ويتسلمون منه البلد، فلم يجبهم إلى ذلك، وقال له: بعد ما سقط السور جئت تطلب الأمان؟

فأغلظ له ابن المشطوب في الكلام ورجع إلى البلد في حالة الله بها عليم، فلما أخبر أهل البلد بما وقع خافوا خوفا شديدا، وأرسلوا إلى السلطان يعلمونه بما وقع.

فأرسل إليهم أن يسرعوا الخروج من البلد في البحر ولا يتأخروا عن هذه الليلة ولا يبقى بها مسلم، فتشاغل كثير ممن كان بها لجمع الأمتعة والأسلحة، وتأخروا عن الخروج تلك الليلة فما أصبح الخبر إلا عند الفرنج من مملوكين صغيرين سمعا بما رسم به السلطان، فهربا إلى قومهما فأخبروهم بذلك، فاحتفظوا على البحر احتفاظا عظيما، فلم يتمكن أحد من أهل البلد أن يتحرك بحركة، ولا خرج منها شيء بالكلية.

وهذان المملوكان كانا أسيرين، قد أسرهما السلطان من أولاد الفرنج، وعزم السلطان على كبس العدو في هذه الليلة، فلم يوافقه الجيش على ذلك، وقالوا: لا نخاطر بعسكر المسلمين.

فلما أصبح بعث إلى ملوك الفرنج يطلب منهم الأمان لأهل البلد على أن يطلق عدتهم من الأسرى الذين تحت يده من الفرنج، ويزيدهم صليب الصلبوت، فأبوا إلا أن يطلق لهم كل أسير تحت يده، ويطلق لهم جميع البلاد الساحلية التي أخذت منهم، وبيت المقدس، فأبى ذلك.

وترددت المراسلات في ذلك، والحصار يتزايد على أسوار البلد.

وقد تهدمت منه ثلم كثيرة، وأعاد المسلمون كثيرا منها، وسدوا ثغر تلك الأماكن بنحورهم رحمهم الله، وصبروا صبرا عظيما، وصابروا العدو، ثم كان آخر الأمر وصولهم إلى درجة الشهادة، وقد كتبوا إلى السلطان في آخر أمرهم يقولون له: يا مولانا لا تخضع لهؤلاء الملاعين، الذين قد أبوا عليك الإجابة إلى ما دعوتهم فينا، فإنا قد بايعنا الله على الجهاد حتى نقتل عن آخرنا، وبالله المستعان.

فلما كان وقت الظهر في اليوم السابع من جمادى الآخرة من هذه السنة، ما شعر الناس إلا وأعلام الكفار قد ارتفعت، وصلبانهم ونارهم على أسوار البلد، وصاح الفرنج صيحة واحدة، فعظمت عند ذلك المصيبة على المسلمين، واشتد حزن الموحدين، وانحصر كلام الناس في إنا لله وإنا إليه راجعون، وغشي الناس بهتة عظيمة، وحيرة شديدة، ووقع في عسكر السلطان الصياح والعويل.

ودخل المركيس لعنه الله وقد عاد إليهم من صور بهدايا فأهداها إلى الملوك، فدخل في هذا اليوم عكا بأربعة أعلام الملوك فنصبها في البلد، واحدا على المأذنة يوم الجمعة، وآخر على القلعة، وآخر على برج الداوية، وآخر على برج القتال، عوضا عن أعلام السلطان.

وتحيز المسلمون الذين بها إلى ناحية من البلد معتقلين، محتاط بهم مضيق عليهم، وقد أسروا النساء والأبناء، وغنمت أموالهم، وقيدت الأبطال وأهين الرجال، والحرب سجال، والحمد لله على كل حال.

فعند ذلك أمر السلطان الناس بالتأخر عن هذه المنزلة، وثبت هو مكانه لينظر ماذا يصنعون وما عليه يعولون، والفرنج في البلد مشغولون مدهوشون، ثم سار السلطان إلى العسكر وعنده من الهم ما لا يعلمه إلا الله.

وجاءت الملوك الإسلامية، والأمراء وكبراء الدولة يعزونه فيما وقع، ويسلونه على ذلك، ثم راسل ملوك الفرنج في خلاص من بأيديهم من الأسارى، فطلبوا منه عدتهم من أسراهم ومائة ألف دينار، وصليب الصلبوت إن كان باقيا، فأرسل فأحضر المال والصليب، ولم يتهيأ له من الأسارى إلا ستمائة أسير.

فطلب الفرنج منه أن يريهم الصليب من بعيد، فلما رفع سجدوا له وألقوا أنفسهم إلى الأرض، وبعثوا يطلبون منه ما أحضره من المال والأسارى، فامتنع إلا أن يرسلوا إليه الأسارى أو يبعثوا له برهائن على ذلك، فقالوا: لا ولكن أرسل لنا ذلك وارض بأمانتنا.

فعرف أنهم يريدون الغدر والمكر، فلم يرسل إليهم شيئا من ذلك، وأمر برد الأسارى إلى أهليهم بدمشق، ورد الصليب إلى دمشق مهانا، وأبرزت الفرنج خيامهم إلى ظاهر البلد وأحضروا ثلاثة آلاف من المسلمين فأوقفوهم بعد العصر وحملوا عليهم حملة رجل واحد فقتلوهم عن آخرهم في صعيد واحد، رحمهم الله وأكرم مثواهم.

ولم يستبقوا بأيديهم من المسلمين إلا أميرا أو صبيا، أو من يرونه في عملهم قويا أو امرأة.

وجرى الذي كان وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان.

وكان مدة إقامة صلاح الدين على عكا صابرا مصابرا مرابطا سبعة وثلاثين شهرا، وجملة من قتل من الفرنج خمسين ألفا.

فصل فيما حدث بعد أخذ الفرنج عكا

ساروا برمتهم قاصدين عسقلان، والسلطان بجيشه يسايرهم ويعارضهم منزلة منزلة، والمسلمون يتخطفونهم ويسلبونهم في كل مكان، وكل أسير أتي به إلى السلطان يأمر بقتله في مكانه.

وجرت خطوب بين الجيشين، ووقعات متعددات، ثم طلب ملك الإنكليز أن يجتمع بالملك العادل أخي السلطان يطلب منه الصلح والأمان، على أن يعاد لأهلها بلاد السواحل، فقال له العادل: إن دون ذلك قتل كل فارس منكم وراجل.

فغضب اللعين ونهض من عنده غضبان، ثم اجتمعت الفرنج على حرب السلطان عند غابة أرسوف، فكانت النصرة للمسلمين، فقتل من الفرنج عند غابة أرسوف ألوف بعد ألوف، وقتل من المسلمين خلق كثير أيضا.

وقد كان الجيش فرعن السلطان في أول الوقعة ولم يبق معه سوى سبعة عشر مقاتلا، وهو ثابت صابر والكؤسات لا تفتر، والأعلام منشورة، ثم تراجع الناس فكانت النصرة للمسلمين، ثم تقدم السلطان بعساكره فنزل ظاهر عسقلان، فأشار ذوو الرأي على السلطان بتخريب عسقلان خشية أن يتملكها الكفار، ويجعلونها وسيلة إلى أخذ بيت المقدس، أو يجري عندها من الحرب والقتال نظير ما كان عند عكا، أوشد.

فبات السلطان ليلته مفكرا في ذلك، فلما أصبح وقد أوقع الله في قلبه أن خرابها هو المصلحة فذكر ذلك لمن حضره، وقال لهم: والله لموت جميع أولادي أهون على من تخريب حجر واحد منها، ولكن إذا كان خرابها فيه مصلحة للمسلمين فلا بأس به.

ثم طلب الولاة وأمرهم بتخريب البلد سريعا، قبل وصول العدو إليها، فشرع الناس في خرابه، وأهله ومن حضره يتباكون على حسنه وطيب مقيله، وكثرة زروعه وثماره، ونضارة أنهاره وأزهاره، وكثرة رخامه وحسن بنائه.

وألقيت النار في سقوفه وأتلف ما فيه من الغلات التي لا يمكن تحويلها، ولا نقلها، ولم يزل الخراب والحريق فيه من جمادى الآخرة إلى سلخ شعبان من هذه السنة.

ثم رحل السلطان منها في ثاني رمضان وقد تركها قاعا صفصفا ليس فيها معلمة لأحد، ثم اجتاز بالرملة فخرب حصنها وخرب كنيسة لد، وزار بيت المقدس وعاد إلى المخيم سريعا، وبعث ملك الإنكليز إلى السلطان: إن الأمر قد طال وهلك الفرنج والمسلمون، وإنما مقصودنا ثلاثة أشياء لا سواها: رد الصليب وبلاد الساحل وبيت المقدس، لا نرجع عن هذه الثلاثة، ومنا عين تطرف.

فأرسل إليه السلطان أشد جواب، وأسد مقال، فعزمت الفرنج على قصد بيت المقدس، فتقدم السلطان بجيشه إلى القدس، وسكن في دار القساقس، قريبا من قمامة في ذي القعدة.

وشرع في تحصين البلد، وتعميق خنادقه، وعمل فيه بنفسه وأولاده، وعمل فيه الأمراء والقضاة والعلماء والصالحون، وكان وقتا مشهودا، واليزك حول البلد من ناحية الفرنج وفي كل وقت يستظهرون على الفرنج ويقتلون ويأسرون ويغنمون، ولله الحمد والمنة، وانقضت هذه السنة والأمر على ذلك.

وفيها: على ما ذكره العماد تولى القضاء محي الدين محمد بن الزكي بدمشق.

وفيها: عدى أمير مكة داود بن عيسى بن فليتة بن هاشم بن محمد بن أبي هاشم الحسني، فأخذ أموال الكعبة حتى انتزع طوقا من فضة كان على دائرة الحجر الأسود، كان قد لم شعثه حين ضربه ذلك القرمطي بالدبوس، فلما بلغ السلطان خبره من الحجيج عزله، وولى أخاه بكيرا، ونقض القلعة التي كان بناها أخوه على أبي قبيس، وأقام داود بنخلة، حتى توفي بها سنة سبع وثمانين.

وفيها توفي من الأعيان:

الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب

وكان عزيزا على عمه صلاح الدين، استنابه بمصر وغيرها من البلاد، ثم أقطعه حماه ومدنا كثيرة حولها في بلاد الجزيرة، وكان مع عمه السلطان على عكا، ثم استأذنه أن يذهب ليشرف على بلاده المجاورة للجزيرة والفرات.

فلما صار إليها اشتغل بها، وامتدت عينه إلى أخذ غيرها من أيدي الملوك المجاورين له، فقاتلهم فاتفق موته وهو كذلك، والسلطان عمه غضبان عليه بسبب اشتغاله بذلك عنه، وحملت جنازته حتى دفنت بحماه.

وله مدرسة هناك هائلة كبيرة، وكذلك له بدمشق مدرسة مشهورة، وعليها أوقاف كثيرة، وقد أقام بالملك بعده ولده المنصور ناصر الدين محمد، فأقره صلاح الدين على ذلك بعد جهد جهيد، ووعد ووعيد، ولولا السلطان العادل أخو صلاح الدين تشفع فيه لما أقره في مكان أبيه، ولكن سلم الله، توفي يوم الجمعة تاسع عشر رمضان من هذه السنة، وكان شجاعا فاتكا.

الأمير حسام الدين محمد بن عمر بن لاشين

أمه ست الشام بنت أيوب، واقفة الشاميتين بدمشق، توفي ليلة الجمعة تاسع عشر رمضان أيضا، ففجع السلطان بابن أخيه وابن أخته في ليلة واحدة، وقد كانا من أكبر أعوانه، ودفن بالتربة الحسامية، وهي التي أنشأتها أمه بمحلة العونية، وهي الشامية البرانية.

الأمير علم الدين سليمان بن حيدر الحلبي

كان من أكابر الدولة الصلاحية، وفي خدمة السلطان حيث كان، وهو الذي أشار على السلطان بتخريب عسقلان، واتفق مرضه بالقدس فاستأذن في أن يمرض بدمشق، فأذن له، فسار منها فلما وصل إلى غباغب مات بها في أواخر ذي الحجة.

وفي رجب منها توفي الأمير الكبير نائب دمشق

الصفي بن الفائض

وكان من أكبر أصحاب السلطان قبل الملك، ثم استنابه على دمشق حتى توفي بها في هذه السنة.

وفي ربيع الأول توفي

الطبيب الماهر أسعد بن المطران

وقد شرف بالإسلام، وشكره على طبه الخاص والعام.

الجيوشاتي الشيخ نجم الدين

الذي بنى تربة الشافعي بمصر بأمر السلطان صلاح الدين، ووقف عليها أوقافا سنية، وولاه تدريسها ونظرها، وقد كان السلطان يحترمه ويكرمه، وقد ذكرته في (طبقات الشافعية)، وما صنفه في المذهب من (شرح الوسيط) وغيره.

ولما توفي الجيوشاتي طلب التدريس جماعة فشفع الملك العادل عند أخيه في شيخ الشيوخ أبي الحسن محمد بن حمويه، فولاه إياه، ثم عزله عنها بعد موت السلطان، واستمرت عليه أيدي بني السلطان واحدا بعد واحد، ثم عادت إليها الفقهاء

والمدرسون بعد ذلك.

ثم دخلت سنة ثمان و ثمانين و خمسمائة

استهلت و السلطان صلاح الدين مخيم بالقدس، و قد قسم السور بين أولاده و أمرائه، وهو يعمل فيه بنفسه، ويحمل الحجر بين القربوسيين و بينه، والناس يقتدون بهم، والفقهاء والقراء يعملون، والفرنج لعنهم الله حول البلد من ناحية عسقلان وما والاها، لا يتجاسرون أن يقربوا البلد من الحرس واليزك الذين حول القدس، إلا أنهم على نية محاصرة القدس مصممون، ولكيد الإسلام مجمعون، وهم والحرس تارة يغلبون وتارة يغلبون، وتارة ينهبون وتارة ينهبون.

وفي ربيع الآخر وصل إلى السلطان الأمير سيف الدين المشطوب من الأسر، وكان نائبا على عكا حين أخذت، فافتدى نفسه منهم بخمسين ألف دينار، فأعطاه السلطان شيئا كثيرا منها، واستنابه على مدينة نابلس، فتوفي بها في شوال من هذه السنة.

وفي ربيع الآخر قتل المركيس صاحب صور لعنه الله، أرسل إليه ملك الإنكليز اثنين من الفداوية فقتلوه: أظهرا التنصر ولزما الكنيسة حتى ظفرا به فقتلاه وقُتلا أيضا، فاستناب ملك الإنكليز عليها ابن أخيه بلام الكندهر، وهو ابن أخت ملك الإفرنسيين لأبيه، فهما خالاه.

ولما صار إلى صور بنى بزوجة المركيس بعد موته بليلة واحدة، وهي حبلى أيضا، وذلك لشدة العداوة التي كانت بين الإنكليز وبينه، وقد كان السلطان صلاح الدين يبغضهما، ولكن المركيس كان قد صانعه بعض الشيء فلم يهن عليه قتله.

وفي تاسع جمادى الأولى استولى الفرنج لعنهم الله على قلعة الداروم فخربوها، وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها، وأسروا طائفة من الذرية، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم أقبلوا جملة نحو القدس فبرز إليهم السلطان في حزب الإيمان، فلما تراءى الجمعان نكص حزب الشيطان راجعين، فرارا من القتال والنزال، وعاد السلطان إلى القدس.

{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّا عَزِيزا} 39.

ثم إن ملك الإنكليز لعنه الله-وهو أكبر ملوك الفرنج ذلك الحين- ظفر ببعض فلول المسلمين فكبسهم ليلا فقتل منهم خلقا كثيرا،وأسر منهم خمسمائة أسير،وغنم منهم شيئا كثيرا من الأموال والجمال، والخيل والبغال، وكان جملة الجمال ثلاثة آلاف بعير، فتقوى الفرنج بذلك، وساء ذلك السلطان مساءة عظيمة جدا، وخاف من غائلة ذلك.

واستخدم الإنكليز الجمالة على الجمال، والخربندية على البغال، و السياس على الخيل، وأقبل وقد قويت نفسه جدا، وصمم على محاصرة القدس، وأرسل إلى ملوك الفرنج الذين بالساحل، فاستحضرهم ومن معهم من المقاتلة، فتعبأ السلطان لهم وتهيأ، وأكمل السور وعمر الخنادق، ونصب المنجانيق، وأمر بتغوير ما حول القدس من المياه،وأحضر السلطان أمراءه ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة: أبا الهيجاء المبسمين، والمشطوب، والأسدية،فاستشارهم فيما قد دهمه من هذا الأمر الفظيع،الموجع المؤلم، فأفاضوا في ذلك،وأشاروا كل برأيه،وأشار العماد الكاتب بأن يتحالفوا على الموت عند الصخرة،كما كان الصحابة يفعلون،فأجابوا إلى ذلك.

هذا كله والسلطان ساكت واجم مفكر،فسكت القوم كأنما على رؤوسهم الطير،ثم قال:الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:اعلموا أنكم جند الإسلام اليوم ومنعته،وأنتم تعلمون أن دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم في ذممكم معلقة،والله عز وجل سائلكم يوم القيامة عنهم، وأن هذا العدو ليس له من المسلمين من يلقاه عن العباد والبلاد غيركم،فإن وليتم والعياذ بالله طوى البلاد وأهلك العباد، وأخذ الأموال والأطفال والنساء، وعبد الصليب في المساجد، وعزل القرآن منها والصلاة،وكان ذلك كله في ذممكم، فإنكم أنتم الذين تصديتم لهذا كله،وأكلتم بيت مال المسلمين لتدفعوا عنهم عدوهم،وتنصروا ضعيفهم،فالمسلمون في سائر البلاد متعلقون بكم والسلام.

فانتدب لجوابه سيف الدين المشطوب وقال:يا مولانا نحن مماليكك وعبيدك،

وأنت الذي أعطيتنا وكبرتنا وعظمتنا، وليس لنا إلا رقابنا ونحن بين يديك، والله ما يرجع أحد منا عن نصرك حتى يموت.

فقال الجماعة مثل ما قال، ففرح السلطان بذلك وطاب قلبه،ومد لهم سماطا حافلا،وانصرفوا من بين يديه على ذلك.

ثم بلغه بعد ذلك أن بعض الأمراء قال:إنا نخاف أن يجري علينا في هذا البلد مثل ما جرى على أهل عكا، ثم يأخذون بلاد الإسلام بلدا بلدا، و المصلحة أن نلتقيهم بظاهر البلد، فإن هزمناهم أخذنا بقية بلادهم، وإن تكن الأخرى سلم العسكر ومضى بحاله، ويأخذون القدس ونحفظ بقية بلاد الإسلام بدون القدس مدة طويلة.

وبعثوا إلى السلطان يقولون له:إن كنت تريدنا نقيم بالقدس تحت حصار الفرنج،فكن أنت معنا أو بعض أهلك،حتى يكون الجيش تحت أمرك فإن الأكراد لا تطيع الترك،والترك لا تطيع الأكراد.

فلما بلغه ذلك شق عليه مشقة عظيمة، وبات ليلته أجمع مهموما كئيبا يفكر فيما قالوا، ثم انجلى الأمر واتفق الحال على أن يكون الملك الأمجد صاحب بعلبك مقيما عندهم نائبا عنه بالقدس،وكان ذلك نهار الجمعة،فلما حضر إلى صلاة الجمعة وأذن المؤذن للظهر قام فصلى ركعتين بين الأذانين،وسجد وابتهل إلى الله تعالى ابتهالا عظيما، وتضرع إلى ربه،وتمسكن وسأله فيما بينه وبينه كشف هذه الضائقة العظيمة.

فلما كان يوم السبت من الغد جاءت الكتب من الحرس الذين حول البلد بأن الفرنج قد اختلفوا فيما بينهم،فقال ملك الإفرنسيين: إنا إنما جئنا من البلاد البعيدة وأنفقنا الأموال العديدة في تخليص بيت المقدس ورده إلينا،وقد بقي بيننا وبينه مرحلة.

فقال الإنكليز: أن هذا البلد شق علينا حصاره،لأن المياه حوله قد عدمت،وإلى أن يأتينا الماء من المشقة البعيدة يعطل الحصار،ويتلف الجيش، ثم اتفق الحال بينهم على أن حكموا منهم عليهم ثلاثمائة منهم،فردوا أمرهم إلى اثني عشر منهم،فردوا أمرهم إلى ثلاثة منهم،فباتوا ليلتهم ينظرون ثم أصبحوا وقد حكموا عليهم بالرحيل،فلم يمكنهم مخالفتهم فسحبوا راجعين لعنهم الله أجمعين.

فساروا حتى نزلوا على الرملة، وقد طالت عليهم الغربة والزملة،وذلك في بكرة الحادي والعشرين من جمادى الآخرة،وبرز السلطان بجيشه إلى خارج القدس، وسار نحوهم خوفا أن يسيروا إلى مصر،لكثرة ما معهم من الظهر والأموال، وكان الإنكليز يلهج بذلك كثيرا،فخذلهم الله عن ذلك،وترددت الرسل من الإنكليز إلى السلطان في طلب الأمان ووضع الحرب بينه وبينهم ثلاث سنين، وعلى أن يعيد لهم عسقلان ويهب له كنيسة بيت المقدس وهي القمامة،وأن يمكن النصارى من زيارتها وحجها بلا شيء.

فامتنع السلطان من إعادة عسقلان وأطلق لهم قمامة،وفرض على الزوار مالا يؤخذ من كل منهم،فامتنع الإنكليز إلا أن تعاد لهم عسقلان،ويعمر سورها كما كانت،فصمم السلطان على عدم الإجابة.

ثم ركب السلطان حتى وافى يافا فحاصرها حصارا شديدا،فافتتحها وأخذوا الأمان لكبيرها وصغيرها،فبينما هم كذلك إذ أشرفت عليهم مراكب الإنكليز على وجه البحر،فقويت رؤوسهم واستعصت نفوسهم،فهجم اللعين فاستعاد البلد وقتل من تأخر بها من المسلمين صبرا بين يديه،وتقهقر السلطان عن منزلة الحصار إلى ما وراءها خوفا على الجيش من معرة الفرنج.

فجعل ملك الإنكليز يتعجب من شدة سطوة السلطان،وكيف فتح مثل هذا البلد العظيم في يومين،وغيره لا يمكنه فتحه في عامين،ولكن ما ظننت أنه مع شهامته وصرامته يتأخر من منزلته بمجرد قدومي،وأنا ومن معي لم نخرج من البحر إلا جرائد بلا سلاح،ثم ألح في طلب الصلح وأن تكون عسقلان داخلة في صلحهم،فامتنع السلطان.

ثم إن السلطان كبس في تلك الليالي الإنكليز وهو في سبعة عشر مقاتلا،وحوله قليل من الرجالة فأكب بجيشه حوله وحصره حصرا لم يبق معه نجاة،لو صمم معه الجيش،ولكنهم نكلوا كلهم عن الحملة، فلا قوة إلا بالله،وجعل السلطان يحرضهم غاية التحريض،فكلهم يمتنع كما يمتنع المريض من شرب الدواء.

هذا وملك الإنكليز قد ركب في أصحابه وأخذ عدة قتاله،وأهبة نزاله،واستعرض الميمنة إلى آخر الميسرة،يعني ميمنة المسلمين و ميسرتهم،فلم يتقدم إليه أحد من الفرسان،ولا نهره بطل من الشجعان،فعند ذلك كر السلطان راجعا،وقد أحزنه أنه لم ير من الجيش مطيعا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولو أن له بهم قوة لما ترك أحدا منهم يتناول من بيت المال فلسا.

ثم حصل لملك الإنكليز بعد ذلك مرض شديد،فبعث إلى السلطان يطلب فاكهة وثلجا فأمده بذلك من باب الكرم،

ثم عوفي لعنه الله وتكررت الرسل منه يطلب من السلطان المصالحة لكثرة شوقه إلى أولاده وبلاده،وطاوع السلطان على ما يقول وترك طلب عسقلان،ورضي بما رسم به السلطان،وكتب كتاب الصلح بينهما في سابع عشر من شعبان،وأكدت العهود والمواثيق من كل ملك من ملوكهم،وحلف الأمراء من المسلمين وكتبوا خطوطهم،واكتفى من السلطان بالقول المجرد كما جرت به عادة السلاطين،وفرح كل من الفريقين فرحا شديدا، وأظهروا سرورا كثيرا، ووقعت الهدنة على وضع الحرب ثلاث سنين وستة أشهر،وعلى أن يقرهم على ما بأيديهم من البلاد الساحلية،وللمسلمين ما يقابلها من البلاد الجبلية،وما بينهما من المعاملات تقسم على المناصفة،وأرسل السلطان مائة نقاب صحبة أمير لتخريب سور عسقلان وإخراج من بها من الفرنج.

وعاد السلطان إلى القدس فرتب أحواله ووطدها،وسدد أموره وأكدها،وزاد وقف المدرسة سوقا بدكاكينها وأرضا ببساتينها،وزاد وقف الصوفية،وعزم على الحج عامه ذلك،فكتب إلى الحجاز واليمن ومصر والشام ليعلموا بذلك،ويتأهبوا له،فكتب إليه القاضي الفاضل ينهاه عن ذلك خوفا على البلاد من استيلاء الفرنج عليها، ومن كثرة المظالم بها، وفساد الناس والعسكر وقلة نصحهم وأن النظر في أحوال المسلمين خير لك عامك هذا،والعدو مخيم بعد بالشام،وأنت تعلم أنهم يهادنون ليتقووا ويكثروا،ثم يمكروا ويغدروا،فسمع السلطان منه وشكر نصحه وترك ما عزم عليه وكتب به إلى سائر الممالك،واستمر مقيما بالقدس جميع شهر رمضان في صيام وصلاة وقرآن،وكلما وفد أحد من رؤساء الفرنج للزيارة فعل معه غاية الإكرام،تأليفا لقلوبهم،ولم يبق أحد من ملوكهم إلا جاء لزيارة القمامة متنكرا،ويحضر سماط السلطان فيمن حضر من جمهورهم،بحيث لا يرى.

والسلطان لا يعلم ذلك جملة ولا تفصيلا،ولهذا كان يعاملهم بالإكرام،ويريهم صفحا جميلا،وبرا جزيلا.

فلما كان في خامس شوال ركب السلطان في العساكر فبرز من القدس قاصدا دمشق،واستناب على القدس عز الدين جورديك،وعلى قضائها بهاء الدين بن يوسف بن رافع بن تميم الشافعي،فاجتاز على وادي الجيب وبات على بركة الداوية،ثم أصبح في نابلس فنظر في أحوالها.

ثم ترحل عنها، فجعل يمر بالقلاع والحصون والبلدان فينظر في أحوالها ويكشف المظالم عنها،وفي أثناء الطريق جاء إلى خدمته بيمند صاحب أنطاكية فأكرمه وأحسن إليه،وأطلق له أموالا جزيلة وخلعا،وكان العماد الكاتب في صحبته،فأخبر عن منازله منزلة منزلة إلى أن قال:وعبر يوم الاثنين عين الحر إلى مرج بيوس،وقد زال البوس.

وهناك وفد عليه أعيان دمشق وأماثلها،ونزل يوم الثلاثاء على العرادة،وجاءه هناك التحف والمتلقون على العادة، وأصبحنا يوم الأربعاء سادس عشر شوال بكرة بجنة دمشق داخلين،بسلام آمنين.

وكانت غبية السلطان عنها أربع سنين،فأخرجت دمشق أثقالها،وأبرزت نساءها وأطفالها ورجالها،وكان يوم الزينة، وخرج أكثر أهل المدينة، واجتمع أولاده الكبار والصغار، وقدم عليه رسل الملوك من سائر الأمصار، وأقام بقية عامه في اقتناص الصيد وحضور دار العدل،والعمل بالإحسان والفضل.

ولما كان عيد الأضحى امتدحه بعض الشعراء بقصيدة يقول فيها:

وأبيها لولا تغزل عينها ** لما قلت في التغزل شعرا

ولكانت مدائح الملك النا ** صر وإلى ما فيه أعمل فكرا

ملكٌ طبق الممالك بالعد ** ل مثلما أوسع البرية برّا

فيحل الأعياد صوما وفطرا ** ويلقى الهنا برا وبحرا

يأمر بالطاعات لله إن ** أضحى مليك على المناهي مصرا

نلت ما تسعى من الدين والدنيا ** فتيها على الملوك وفخرا

قد جمعت المجدين أصلا وفرعا ** وملكت الدارين دنيا وأخرى

ومما وقع في هذه السنة من الحوادث غزوة عظيمة بين صاحب غزنة شهاب الدين ملكها السبكتكيني وبين ملك الهند وأصحابه الذين كانوا قد كسروه في سنة ثلاث وثمانين،فأظفره الله بهم هذه السنة، فكسرهم وقتل خلقا منهم وأسر خلقا.

وكان من جملة من أسره ملكهم الأعظم،وثمانية عشر فيلا،من جملتها الذي كان جرحه،ثم أحضر الملك بين يديه فأهانه ولم يكرمه،واستحوذ على حصنه وأخبر بما فيه من كل جليل وحقير،ثم قتله بعد ذلك،وعاد إلى غزنة مؤيدا منصورا،مسرورا محبورا.

وفيها: اتهم أمير الحج ببغداد وهو طاشتكين، وقد كان على إمرة الحج من مدة عشرين سنة، وكان في غاية حسن السيرة، واتهم بأنه يكاتب صلاح الدين بن أيوب في أخذ بغداد،فإنه ليس بينه وبينها أحد يمانعه عنها،وقد كان مكذوبا عليه،ومع هذا أهين وحبس وصودر.

من الأعيان القاضي شمس الدين.

محمد بن محمد بن موسى

المعروف بابن الفراش،كان قاضي العساكر بدمشق،ويرسله السلطان إلى ملوك الآفاق،ومات بمليطة.

سيد الدين علي بن أحمد المشطوب

كان من أصحاب أسد الدين شيركوه، حضر معه الوقعات الثلاث بمصر، ثم صار من كبراء أمراء صلاح الدين، وهو الذي كان نائبا على عكا لما أخذوها الفرنج، فأسروه من جملة ما أسروا فافتدى نفسه بخمسين ألف دينار، وجاء السلطان وهو بالقدس فأعطاه أكثرها، وولاه نابلس.

توفي يوم الأحد ثالث وعشرين شوال بالقدس ودفن بداره.

صاحب بلاد الروم عز الدين قلج أرسلان بن مسعود

ابن قلج أرسلان، وكان قد قسم جميع بلاده بين أولاده، طمعا في طاعتهم له، فخالفوه وتجبروا وعتوا عليه، وخفضوا قدره وارتفعوا، ولم يزل كذلك حتى توفي في عامه هذا.

وفي ربيع الآخر توفي الشاعر أبو المرهف.

نصر بن منصور النميري

سمع الحديث واشتغل بالأدب، أصابه جدري وهو ابن أربع عشرة سنة فنقص بصره جدا، وكان لا يبصر الأشياء البعيدة، ويرى القريب منه، ولكن كان لا يحتاج إلى قائد، فارتحل إلى العراق لمداواة عينيه فآيسته الأطباء من ذلك،فاشتغل بحفظ القرآن ومصاحبة الصالحين فأفلح،وله ديوان شعر كبير حسن،وقد سئل مرة عن مذهبه واعتقاده فأنشأ يقول:

أحب عليا والبتول وولدها ** ولا أجحد الشيخين فضل التقدم

وأبرأ ممن نال عثمان بالأذى ** كما أتبرا من ولاء ابن ملجم

ويعجبني أهل الحديث لصدقهم ** فلست إلى قوم سواهم بمنتمي

توفي ببغداد ودفن بمقابر الشهداء بباب حرب، رحمه الله تعالى.

(بحمد الله تعالى قد تم الجزء الثاني عشر من البداية والنهاية للعلامة ابن كثير ويليه الجزء الثالث عشر وأوله سنة تسع وثمانين وخمسمائة هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التحية.)



هامش

  1. [البقرة: 152]
  2. [يوسف: 84]
  3. [البقرة: 273]
  4. [البقرة: 247]
  5. [الكهف: 79]
  6. [الرعد: 11]
  7. [الشعراء: 227]
  8. [النساء: 58]
  9. [آل عمران: 26]
  10. [التوبة: 100]
  11. [الحجر: 72]
  12. [ص: 34]
  13. [البقرة: 156]
  14. [الشورى: 30]
  15. [البقرة: 102]
  16. [النساء: 64]
  17. [يوسف: 26]
  18. [غافر: 84]
  19. [يوسف: 78]
  20. [الزلزلة: 7-8]
  21. [الحج: 40]
  22. [آل عمران: 26]
  23. [يس: 26-27]
  24. [الحاقة: 28-29]
  25. [آل عمران: 54]
  26. [آل عمران: 26]
  27. [الفرقان: 63]
  28. [الأعراف: 199]
  29. [يوسف: 90]
  30. [آل عمران: 26]
  31. [الأحزاب: 27]
  32. [الروم: 1-3]
  33. [الإخلاص: 3-4]
  34. [الأنعام: 45]
  35. [الروم: 1-4]
  36. [الأنعام: 45]
  37. [الفرقان: 23]
  38. [الحشر: 2]
  39. [الأحزاب: 25]