انتقل إلى المحتوى

البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/صفحة واحدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



بسم الله الرحمن الرحيم

ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة

[عدل]

فيها: كانت وفاة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى.

استهلت هذه السنة وهو في غاية الصحة والسلامة، وخرج هو وأخوه العادل إلى الصيد شرقي دمشق، وقد اتفق الحال بينه وبين أخيه أنه بعد ما يفرغ من أمر الفرنج يسير هو إلى بلاد الروم، ويبعث أخاه إلى بغداد، فإذا فرغا من شأنهما سارا جميعا إلى بلاد أذربيجان، بلاد العجم، فإنه ليس دونها أحد يمانع عنها.

فلما قدم الحجيج في يوم الاثنين حادي عشر صفر خرج السلطان لتلقيهم، وكان معه ابن أخيه سيف الإسلام، صاحب اليمن، فأكرمه والتزمه، وعاد إلى القلعة فدخلها من باب الجديد، فكان ذلك آخر ما ركب في هذه الدنيا.

ثم إنه اعتراه حمى صفراوية ليلة السبت سادس عشر صفر، فلما أصبح دخل عليه القاضي الفاضل وابن شداد وابنه الأفضل، فأخذ يشكو إليهم كثرة قلقه البارحة، وطاب له الحديث، وطال مجلسهم عنده.

ثم تزايد به المرض واستمر، وقصده الأطباء في اليوم الرابع، ثم اعتراه يبس وحصل له عرق شديد بحيث نفذ إلى الأرض، ثم قوي اليبس فأحضر الأمراء الأكابر فبويع لولده الأفضل نور الدين علي.

وكان نائبا على دمشق، وذلك عندما ظهرت مخايل الضعف الشديد، وغيبوبة الذهن في بعض الأوقات، وكان الذين يدخلون عليه في هذه الحال الفاضل وابن شداد وقاضي البلد بن الزكي.

ثم اشتد به الحال ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر، واستدعى الشيخ أبا جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده يقرأ القرآن ويلقنه الشهادة إذا جد به الأمر، فذكر أنه كان يقرأ عنده وهو في الغمرات فقرأ { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } 1.

فقال: وهو كذلك صحيح.

فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخر رمق، فلما قرأ القارئ { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } 2

تبسم وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه سبحانه، ومات رحمه الله، وأكرم مثواه، وجعل جنات الفردوس مأواه.

وكان له من العمر سبع وخمسون سنة، لأنه ولد بتكريت في شهور سنة ثنتين وثلاثين وخمسمائة، رحمه الله، فقد كان ردءا للإسلام وحرزا وكهفا من كيد الكفرة اللئام، وذلك بتوفيق الله له.

وكان أهل دمشق لم يصابوا بمثل مصابه، وود كل منهم لو فداه بأولاده وأحبابه وأصحابه، وقد غلقت الأسواق واحتفظ على الحواصل، ثم أخذوا في تجهيزه، وحضر جميع أولاده وأهله، وكان الذي تولى غسله خطيب البلد الفقيه الدولعي.

وكان الذي أحضر الكفن ومؤنة التجهيز القاضي الفاضل من صلب ماله الحلال، هذا وأولاده الكبار والصغار يتباكون وينادون، وأخذ الناس في العويل والانتحاب والدعاء له والابتهال، ثم أبرز جسمه في نعشه في تابوت بعد صلاة الظهر.

وأمّ الناس عليه القاضي ابن الزكي ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة، ثم شرع ابنه في بناء تربة له ومدرسة للشافعية بالقرب من مسجد القدم، لوصيته بذلك قديما، فلم يكمل بناؤها، وذلك حين قدم ولده العزيز وكان محاصرا لأخيه الأفضل كما سيأتي بيانه في سنة تسعين وخمسمائة.

ثم اشترى له الأفضل دارا شمالي الكلاسة في وزان ما زاده القاضي الفاضل في الكلاسة، فجعلها تربة، هطلت سحائب الرحمة عليها، ووصلت ألطاف الرأفة إليها.

وكان نقله إليها في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين، وصلى عليه تحت النسر قاضي القضاة محمد بن علي القرابي ابن الزكي، عن إذن الأفضل، ودخل في لحده ولده الأفضل فدفنه بنفسه، وهو يومئذ سلطان الشام.

ويقال: إنه دفن معه سيفه الذي كان يحضر به الجهاد، وذلك عن أمر القاضي الفاضل، وتفاءلوا بأنه يكون معه يوم القيامة يتوكأ عليه، حتى يدخل الجنة إن شاء الله.

ثم عمل عزاؤه بالجامع الأموي ثلاثة أيام، يحضره الخاص والعام، والرعية والحكام، وقد عمل الشعراء فيه مراثي كثيرة من أحسنها ما عمله العماد الكاتب في آخر كتابه البرق السامي، وهي مائتا بيت واثنان، وقد سردها الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الروضتين، منها قوله:

شمل الهدى والملك عمّ شتاته ** والدهر ساء وأقلعت حسناته

أين الذي مذ لم يزل مخشيّة ** مرجوةً رهباته وهباته؟

أين الذي كانت له طاعاتنا ** مبذولةً ولربه طاعاته

بالله أين الناصر الملك الذي ** لله خالصةً صفتْ نياته؟

أين الذي ما زال سلطانا لنا ** يرجى نداه وتتقى سطواته؟

أين الذي شرف الزمان بفضله ** وسمت على الفضلاء تشريفاته؟

أين الذي عنت الفرنج لبأسه ** ذلا، ومنها أدركت ثاراته؟

أغلال أعناق العدا أسيافه ** أطواق أجياد الورى مناته

من للعلى من للذرى من للهدى ** يحميه؟ من للبأس من للنائل؟

طلب البقاء لملكه في آجلٍ ** إذ لم يثق ببقاء ملكٍ عاجل

بحرٌ أعاد البر بحرا بره ** وبسيفه فتحت بلاد الساحل

من كان أهل الحق في أيامه ** وبعزه يردون أهل الباطل

وفتوحه والقدس من أبكارها ** أبقت له فضلا بغير مساجل

ما كنت استسقي لقبرك وابلا ** ورأيت جودك مخجلا للوابل

فسقاك رضوان الإله لأنني ** لا أرتضي سقيا الغمام الهاطل

تركته وشيء من ترجمته

[عدل]

قال العماد وغيره: لم يترك في خزانته من الذهب سوى جرم واحد - أي دينار واحد - صوريا وستة وثلاثين درهما.

وقال غيره: سبعة وأربعين درهما، ولم يترك دارا ولا عقارا ولا مزرعة ولا بستانا، ولا شيئا من أنواع الأملاك.

هذا وله من الأولاد سبعة عشر ذكرا وابنة واحدة، وتوفي له في حياته غيرهم، والذين تأخروا بعده ستة عشر ذكرا أكبرهم الملك الأفضل نور الدين علي، ولد بمصر سنة خمس وستين ليلة عيد الفطر.

ثم العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان ولد بمصر أيضا في جمادى الأولى سنة سبع وستين.

ثم الظافر مظفر الدين أبو العباس الخضر، ولد بمصر في شعبان سنة ثمان وستين، وهو شقيق الأفضل.

ثم الظاهر غياث الدين أبو منصور غازي، ولد بمصر في نصف رمضان سنة ثمان وستين.

ثم العزيز فتح الدين أبو يعقوب إسحاق، ولد بدمشق في ربيع الأول سنة سبعين.

ثم نجم الدين أبو الفتح مسعود، ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين وهو شقيق العزيز.

ثم الأغر شرف الدين أبو يوسف يعقوب، ولد بمصر سنة ثنتين وسبعين، وهو شقيق العزيز أيضا.

ثم الزاهر مجير الدين أبو سليمان داود، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين وهو شقيق الظاهر.

ثم أبو الفضل قطب الدين موسى، وهو شقيق الأفضل، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين أيضا، ثم لقب بالمظفر أيضا.

ثم الأشرف معز الدين أبو عبد الله محمد، ولد بالشام سنة خمس وسبعين.

ثم المحسن ظهير الدين أبو العباس أحمد ولد بمصر سنة سبع وسبعين، وهو شقيق الذي قبله.

ثم المعظم فخر الدين أبو منصور توران شاه ولد بمصر في ربيع الأول سنة سبع وسبعين، وتأخرت وفاته إلى سنة ثمان وخمسين وستمائة.

ثم الجوال ركن الدين أبو سعيد أيوب ولد سنة ثمان وسبعين، وهو شقيق للمعز.

ثم الغالب نصير الدين أبو الفتح ملك شاه، ولد في رجب سنة ثمان وسبعين وهو شقيق المعظم.

ثم المنصور أبو بكر أخو المعظم لأبويه، ولد بحران بعد وفاة السلطان.

ثم عماد الدين شادي لأم ولد، ونصير الدين مروان لأم ولد أيضا.

وأما البنت فهي مؤنسة خاتون تزوجها ابن عمها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب رحمهم الله تعالى.

وإنما لم يخلف أموالا ولا أملاكا لجوده وكرمه وإحسانه إلى أمرائه وغيرهم، حتى إلى أعدائه، وقد تقدم من ذلك ما يكفي، وقد كان متقللا في ملبسه، ومأكله ومركبه.

وكان لا يلبس إلا القطن والكتان والصوف، ولا يعرف أنه تخطى إلى مكروه، ولا سيما بعد أن أنعم الله عليه بالملك، بل كان همه الأكبر ومقصده الأعظم نصره الإسلام، وكسر أعدائه اللئام، وكان يعمل رأيه في ذلك وحده، ومع من يثق به ليلا ونهارا، وهذا مع ما لديه من الفضائل والفواضل، والفوائد الفرائد، في اللغة والأدب وأيام الناس.

حتى قيل إنه كان يحفظ الحماسة بتمامها، وكان مواظبا على الصلوات في أوقاتها في الجماعة، يقال: إنه لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل، حتى ولا في مرض موته، كان يدخل الإمام فيصلي به، فكان يتجشم القيام مع ضعفه.

وكان يفهم ما يقال بين يديه من البحث والمناظرة، ويشارك في ذلك مشاركة قريبة حسنة، وإن لم يكن بالعبارة المصطلح عليها، وكان قد جمع له القطب النيسابوري عقيدة فكان يحفظها ويحفظها من عقل من أولاده.

وكان يحب سماع القرآن والحديث والعلم، ويواظب على سماع الحديث، حتى أنه يسمع في بعض مصافه جزء وهو بين الصفين فكان يتبحبح بذلك ويقول هذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثا، وكان ذلك بإشارة العماد الكاتب.

وكان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث، وكان كثير التعظيم لشرائع الدين.

كان قد صحب ولده الظاهر وهو بحلب شاب يقال له الشهاب السهروردي، وكان يعرف الكيميا وشيئا من الشعبذة والأبواب النيرنجيات، فافتتن به ولد السلطان الظاهر، وقربه وأحبه، وخالف فيه حملة الشرع، فكتب إليه أن يقتله لا محالة، فصلبه عن أمر والده وشهره.

ويقال بل حبسه بين حيطين حتى مات كمدا، وذلك في سنة ست وثمانين وخمسمائة، وكان من أشجع الناس وأقواهم بدنا وقلبا، مع ما كان يعتري جسمه من الأمراض والأسقام، ولا سيما في حصار عكا، فإنه كان مع كثرة جموعهم وأمدادهم لا يزيده ذلك إلا قوة وشجاعة، وقد بلغت جموعهم خمسمائة ألف مقاتل، ويقال: ستمائة ألف، فقتل منهم مائة ألف مقاتل.

ولما انفصل الحرب وتسلموا عكا وقتلوا من كان بها من المسلمين وساروا برمتهم إلى القدس جعل يسايرهم منزلة منزلة، وجيوشهم أضعاف أضعاف من معه، ومع هذا نصره الله وخذلهم، وسبقهم إلى القدس فصانه وحماه منهم، ولم يزل بجيشه مقيما به يرهبهم ويرعبهم ويغلبهم ويسلبهم حتى تضرعوا إليه وخضعوا لديه، ودخلوا عليه في الصلح، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم وبينه، فأجابهم إلى ما سألوا على الوجه الذي أراده، لا على ما يريدونه، وكان ذلك من جملة الرحمة التي رحم الله بها المؤمنين.

فإنه ما انقضت تلك لسنون حتى ملك البلاد أخوه العادل فعز به المسلمون وذل به الكافرون، وكان سخيا جبيا ضحوك الوجه كثير البشر، لا يتضجر من خير يفعله، شديد المصابرة على الخيرات والطاعات، فرحمه الله وقد ذكر الشيخ شهاب الدين أبو شامة طرفا صالحا من سيرته وأيامه، وعدله في سريرته وعلانيته، وأحكامه.

وكان قد قسم البلاد بين أولاده، فالديار المصرية لولده العزيز عماد الدين أبي الفتح، ودمشق وما حولها لولده الأفضل نور الدين علي، وهو أكبر أولاده، والمملكة الحلبية لولده الظاهر غازي غياث الدين، ولأخيه العادل الكرك والشوبك وبلاد جعبر وبلدان كثيرة قاطع الفرات. وحماه ومعاملة أخرى معها للملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن أخي السلطان، وحمص والرحبة وغيرها لأسد الدين بن شيركوه بن ناصر الدين بن محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير، نجم الدين أخي أبيه نجم الدين أيوب.

واليمن بمعاقله ومخالفيه جميعه في قبضة السلطان ظهير الدين سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، أخي السلطان صلاح الدين، وبعلبك وأعمالها للأمجد بهرام شاه بن فروخ شاه، وبصرى وأعمالها للظافر بن الناصر.

ثم شرعت الأمور بعد موت صلاح الدين تضطرب وتختلف في جميع هذه الممالك، حتى آل الأمر واستقرت الممالك واجتمعت الكلمة على الملك العادل أبي بكر صلاح الدين، وصارت المملكة في أولاده كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.

وفيها: جدد الخليفة الناصر لدين الله خزانة كتب المدرسة النظامية ببغداد، ونقل إليها ألوفا من الكتب الحسنة المثمنة، وفي المحرم منها جرت ببغداد كائنة غريبة وهي أن ابنة لرجل من التجار في الطحين عشقت غلام أبيها فلما علم أبوها بأمرها طرد الغلام من داره فواعدته البنت ذات ليلة أن يأتيها فجاء إليها مختفيا فتركته في بعض الدار.

فلما جاء أبوها في أثناء الليل أمرته فنزل فقتله، وأمرته بقتل أمها وهي حبلى، وأعطته الجارية حليا بقيمة ألفي دينار، فأصبح أمره عند الشرطة فمسك وقتل قبحه الله، وقد كان سيده من خيار الناس وأكثرهم صدقة وبرا، وكان شابا وضيء الوجه رحمه الله.

وفيها: درّس بالمدرسة الجديدة عند قبر معروف الكرخي الشيخ أبو علي التويابي وحضر عنده القضاة والأعيان، وعمل بها دعوة حافلة.

من الأعيان:

السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب

ابن شاذي، وقد تقدمت وفاته مبسوطة.

الأمير بكتمر صاحب خلاط

[عدل]

قتل في هذه السنة، وكان من خيار الملوك وأشجعهم وأحسنهم سيرة رحمه الله.

الأتابك عز الدين مسعود

[عدل]

ابن مودود بن زنكي، صاحب الموصل نحوا من ثلاث عشرة سنة، من خيار الملوك، كان بنسبه نور الدين الشهيد عمه، ودفن بتربته عند مدرسة أنشأها بالموصل أثابه الله.

جعفر بن محمد بن فطيرا

[عدل]

أبو الحسن أحد الكتاب بالعراق، كان ينسب إلى التشيع، وهذا كثير في أهل تلك البلاد لا أكثر الله منهم، جاءه رجل ذات يوم فقال له رأيت البارحة أمير المؤمنين عليا في المنام.

فقال لي: اذهب إلى ابن فطيرا فقل له يعطيك عشرة دنانير.

فقال له ابن فطيرا: متى رأيته؟

قال: أول الليل.

فقال ابن فطيرا وأنا رأيته آخر الليل فقال لي: إذا جاءك رجل من صفته كذا وكذا فطلب منك شيئا فلا تعطه، فأدبر الرجل موليا فاستدعاه ووهبه شيئا.

ومن شعره فيما أورده ابن الساعي وقد تقدم ذلك لغيره:

ولما سبرت الناس أطلب منهم ** أخا ثقةٍ عند اعتراض الشدائد

وفكرت في يومي سروري وشدتي ** وناديت في الأحياء هل من مساعد؟

فلم أر فيما ساءني غير شامتٍ ** ولم أر فما سرني غير حاسد

يحيى بن سعيد بن غازي

[عدل]

أبو العباس البصري النجراني صاحب المقامات، كان شاعرا أديبا فاضلا بليغا، له اليد الطولى في اللغة والنظم، ومن شعره قوله:

غناء خودٍ ينساب لطفا ** بلا عناءٍ في كل أذن

ما رده قط باب سمعٍ ** ولا أتى زائرا بإذن

السيدة زبيدة بنت الإمام المقتفي لأمر الله

[عدل]

أخت المستنجد وعمة المستضيء، كانت قد عمرت طويلا ولها صدقات كثيرة دارة، وقد تزوجها في وقت السلطان مسعود على صداق مائة ألف دينار، فتوفي قبل أن يدخل بها، وقد كانت كارهة لذلك، فحصل مقصودها وطلبتها.

الشيخة الصالحة فاطمة خاتون

[عدل]

بنت محمد بن الحسن العميد، كانت عابدة زاهدة، عمرت مائة سنة وست سنين، كان قد تزوجها في وقت أمير الجيوش مطر وهي بكر، فبقيت عنده إلى أن توفي ولم تتزوج بعده، بل اشتغلت بذكر الله عز وجل والعبادة، رحمها الله.

وفيها: أنفذ الخليفة الناصر العباسي إلى الشيخ أبي الفرج بن الجوزي يطلب منه أن يزيد على أبيات عدي بن زيد المشهورة ما يناسبها من الشعر، ولو بلغ ذلك عشر مجلدات، وهي هذه الأبيات:

أيها الشامت المعير بالدهـ ** ـر أأنت المبرأ الموفور

أم لديك العهد الوثيق من الـ ** أيام، بل أنت جاهلٌ مغرور

من رأيت المنون خلدت أم من ** ذا عليه من أن يضام خفير

أين كسرى كسر الملوك أبو ** ساسان أم أين قبله سابور؟

وبنوا الأصفر الملوك ملوك الر ** وم لم يبق منهم مذكور

وأخو الحضر إذ بناه وإذ ** دجلة تجبى إليه والخابور

شاده مرمرا وجلله كلسا ** فللطير في ذراه وكور

لم تهبه ريب المنون فزا ** ل الملك عنه فبابه مهجور

وتذكر رب الخورنق إذ ** أشرف يوما وللهندي تكفير

سره حاله وكثرة ما ** يملك والبحر معرضا والسدير

فارعوى قلبه وقال وما ** غبطة حي إلى الممات يصير

ثم بعد النعيم والملك والنهي والـ ** أمر وارتهم هناك قبور

ثم أضحوا كأنهم أورق جفـ ** ـت فألوت بها الصبا والدبور

غير أن الأيام تختص بالمرء ** وفيها لعمري العظات والتفكير

ثم دخلت سنة تسعين وخمسمائة

[عدل]

لما استقر الملك الأفضل بن صلاح الدين مكان أبيه بدمشق، بعث بهدايا سنية إلى باب الخليفة الناصر، من ذلك سلاح أبيه وحصانه الذي كان يحضر عليه الغزوات.

ومنها صليب الصلبوت الذي استلبه أبوه من الفرنج يوم حطين، وفيه من الذهب ما ينيف على عشرين رطلا مرصعا بالجواهر النفيسة، وأربع جواري من بنات ملوك الفرنج، وأنشأ له العماد الكاتب كتابا حافلا يذكر فيه التعزية بأبيه، والسؤال من الخليفة أن يكون في الملك من بعده، فأجيب إلى ذلك.

ولما كان شهر جمادى الأولى قدم العزيز صاحب مصر إلى دمشق ليأخذها من أخيه الأفضل فخيم على الكسوة يوم السبت سادس جمادى، وحاصر البلد، فمانعه أخوه ودافعه عنها، فقطع الأنهار ونهبت الثمار، وأشتد الحال، ولم يزل الأمر كذلك حتى قدم العادل عمهما فأصلح بينهما.

ورد الأمر للألفة بعد اليمين على أن يكون للعزيز القدس وما جاور فلسطين من ناحيته أيضا، وعلى أن يكون جبلة واللاذقية للظاهر صاحب حلب، وأن يكون لعمهما العادل أقطاعه الأول ببلاد مصر مضافا إلى ما بيده من الشام، والجزيرة، كحران، والرها، وجعبر وما جاور ذلك.

فاتفقوا على ذلك، وتزوج العزيز بابنة عمه العادل، ومرض ثم عوفي وهو مخيم بمرج الصفر، وخرجت الملوك لتهنئته بالعافية والتزويج والصلح، ثم كر راجعا إلى مصر لطول شوقه إلى أهله وأولاده، وكان الأفضل بعد موت أبيه قد أساء التدبير فأبعد أمراء أبيه وخواصه، وقرب الأجانب وأقبل على شرب المسكر واللهو واللعب.

واستحوذ عليه وزيره ضياء الدين ابن الأثير الجزري، وهو الذي كان يحدوه إلى ذلك، فتلف وأتلفه، وأضل وأضله، وزالت النعمة عنهما كما سيأتي.

وفيها: كانت وقعة عظيمة بين شهاب الدين ملك غزنة وبين كفار الهند، أقبلوا إليه في ألف ألف مقاتل، ومعهم سبعمائة فيل منها فيل أبيض لم ير مثله، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا لم ير مثله.

فهزمهم شهاب الدين عند نهر عظيم يقال له الملاحون، وقتل ملكهم واستحوذ على حواصله وحواصل بلاده وغنم فيلتهم ودخل بلد الملك الكبرى، فحمل من خزانته ذهبا وغيره على ألف وأربعمائة جمل، ثم عاد إلى بلاده سالما منصورا.

وفيها: ملك السلطان خوارزم شاه تكش - ويقال له ابن الأصباعي - بلاد الري وغيرها، واصطلح مع السلطان طغرلبك السلجوقي وكان قد تسلم بلاد الري وسائر مملكة أخيه سلطان شاه وخزائنه، وعظم شأنه، ثم التقى هو والسلطان طغرلبك في ربيع الأول من هذه السنة.

فقتل السلطان طغرلبك، وأرسل رأسه إلى الخليفة، فعلق على باب النوبة عدة أيام، وأرسل الخليفة الخلع والتقاليد إلى السلطان خوارزم شاه، وملك همدان وغيرها من البلاد المتسعة.

وفيها: نقم الخليفة على الشيخ أبي الفرج بن الجوزي وغضب عليه، ونفاه إلى واسط، فمكث بها خمسة أيام لم يأكل طعاما، وأقام بها خمسة أعوام يخدم نفسه ويستقي لنفسه الماء، وكان شيخا كبيرا قد بلغ ثمانين سنة، وكان يتلو في كل يوم وليلة ختمة.

قال: ولم أقرأ يوسف لوجدي على ولدي يوسف، إلى أن فرج الله كما سيأتي إن شاء الله.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن إسماعيل بن يوسف أبو الخير القزويني الشافعي المفسر

[عدل]

قدم بغداد ووعظ بالنظامية، وكان يذهب إلى قوم الأشعري في الأصول، وجلس في يوم عاشوراء فقيل له: العن يزيد بن معاوية.

فقال: ذاك إمام مجتهد، فرماه الناس بالآجر فاختفى ثم هرب إلى قزوين.

ابن الشاطبي ناظم الشاطبية

[عدل]

أبو محمد القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير، مصنف (الشاطبية) في القراءات السبع، فلم يسبق إليها ولا يلحق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كل ناقد بصير، هذا مع أنه ضرير ولد سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة.

وبلده شاطبة - قرية شرقي الأندلس -كان فقيرا، وقد أريد أن يلي خطابة بلده فامتنع من ذلك لأجل مبالغة الخطباء على المنابر في وصف الملوك، خرج الشاطبي إلى الحج فقدم الإسكندرية سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة.

وسمع على السلفي وولاه القاضي الفاضل مشيخة الإقراء بمدرسته، وزار القدس وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة، فكانت وفاته بها في جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن بالقرافة بالقرب من التربة الفاضلية، وكان دينا خاشعا ناسكا كثير الوقار، لا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان يتمثل كثيرا بهذه الأبيات، وهي لغز في النعش، وهي لغيره:

أتعرف شيئا في السماء يطير ** إذا سار هاج الناس حيث يسير

فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا ** وكل أمير يعتليه أسير

يحث على التقوى ويكره قربه ** وتنفر منه النفس وهو نذير

ولم يستزر عن رغبة في زيارة ** ولكن على رغم المزور يزور

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة

[عدل]

فيها: كانت وقعة الزلاقة ببلاد الأندلس شمالي قرطبة، بمرج الحديد، كانت وقعة عظيمة نصر الله فيها الإسلام وخذل فيها عبدة الصلبان.

وذلك أن القيش ملك الفرنج ببلاد الأندلس، ومقر ملكه بمدينة طليطلة، كتب إلى الأمير يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب يستنخيه ويستدعيه ويستحثه إليه، ليكون من بعض من يخضع له في مثالبه وفي قتاله، في كلام طويل فيه تأنيب وتهديد ووعيد شديد.

فكتب السلطان يعقوب بن يوسف في رأس كتابه فوق خطه: { ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } 3.

ثم نهض من فوره في جنوده وعساكره، حتى قطع الزقاق إلى الأندلس، فالتقوا في المحل المذكور، فكانت الدائرة أولا على المسلمين، فقتل منهم عشرون ألفا، ثم كانت أخيرا على الكافرين فهزمهم الله وكسرهم وخذلهم أقبح كسرة، وشر هزيمة وأشنعها.

فقتل منهم مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفا، وأسر منهم ثلاثة عشر ألفا، وغنم المسلمون منهم شيئا كثيرا، من ذلك مائة ألف خيمة وثلاثة وأربعون خيمة، ومن الخيل ستة وأربعون ألف فرس؛

ومن البغال مائة ألف بغل، ومن الحمر مثلها، ومن السلاح التام سبعون ألفا، ومن العدد شيء كثير، وملك عليهم من حصونهم شيئا كثيرا، وحاصر مدينتهم طليطلة مدة، ثم لم يفتحها فانفصل عنها راجعا إلى بلاده.

ولما حصل للقيش ما حصل حلق لحيته ورأسه ونكس صليبه وركب حمارا وحلف لا يركب فرسا ولا يتلذذ بطعام ولا ينام مع امرأة حتى تنصره النصرانية.

ثم طاف على ملوك الفرنج فجمع من الجنود ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فاستعد له السلطان يعقوب فالتقيا فاقتتلا قتالا عظيما لم يسمع بمثله، فانهزم الفرنج أقبح من هزيمتهم الأولى، وغنموا منهم نظير ما تقدم أو أكثر، واستحوذ السلطان على كثير من معاملهم وقلاعهم، ولله الحمد والمنة.

حتى قيل إنه بيع الأسير بدرهم، والحصان بخمسة دراهم، والخيمة بدرهم، والسيف بدون ذلك ثم قسم السلطان هذه الغنائم على الوجه الشرعي، فاستغنى المجاهدون إلى الأبد، ثم طلبت الفرنج من السلطان الأمان فهادنهم على وضع الحرب خمس سنين، وإنما حمله على ذلك أن رجلا يقال له علي بن إسحاق التوزي الذي يقال له المكلثم، ظهر ببلاد إفريقية فأحدث أمورا فظيعة في غيبة السلطان، واشتغاله بقتال الفرنج مدة ثلاث سنين.

فأحدث هذا المارق التوزي بالبادية حوادث، وعاث في الأرض فسادا، وقتل خلقا كثيرا، وتملك بلادا.

وفي هذه السنة والتي قبلها استحوذ جيش الخليفة على بلاد الري وأصبهان وهمدان وخوزستان وغيرها من البلاد، وقوي جانب الخلافة على الملوك والممالك.

وفيها: خرج العزيز من مصر قاصدا دمشق ليأخذها من يد أخيه الأفضل، وكان الأفضل قد تاب وأناب وأقلع عما كان فيه من الشراب واللهو واللعب، وأقبل على الصيام والصلاة، وشرع بكتابة مصحف بيده، وحسنت طريقته، غير أن وزيره الضيا الجزري يفسد عليه دولته، ويكدر عليه صفوته.

فلما بلغ الأفضل إقبال أخيه نحوه سار سريعا إلى عمه العادل وهو بجعبر فاستنجده فسار معه وسبقه إلى دمشق، وراح الأفضل أيضا إلى أخيه الظاهر بحلب، فسارا جميعا نحو دمشق.

فلما سمع العزيز بذلك وقد اقترب من دمشق، كر راجعا سريعا إلى مصر، وركب وراءه العادل والأفضل ليأخذا منه مصر، وقد اتفقا على أن يكون ثلث مصر للعادل وثلثاها للأفضل، ثم بدا للعادل في ذلك فأرسل للعزيز يثبته، وأقبل على الأفضل يثبطه.

وأقاما على بلبيس أياما حتى خرج إليهما القاضي الفاضل من جهة العزيز، فوقع الصلح على أن يرجع القدس ومعاملتها للأفضل، ويستقر العادل مقيما بمصر على إقطاعه القديم، فأقام العادل بها طمعا فيها ورجع العادل إلى دمشق بعدما خرج العزيز لتوديعه، وهي هدنة على قذا، وصلح على دخن.

وفيها توفي من الأعيان:

علي بن حسان بن سافر

[عدل]

أبو الحسن الكاتب البغدادي، كان أديبا شاعرا. من شعره قوله:

نفى رقادي ومضى ** برق بسلع ومضا

لاح كما سلت يد الـ ** أسود عضبا أبيضا

كأنه الأشهب في ** النقع إذا ما ركضا

يبدو كما تختلف الر ** يح على جمر الغضا

فتحسب الريح أبـ **ـدا نظرا و غمضا

أو شعلة النار علا ** لهيبها وانخفضا

آهٍ له من بارقٍ ** ضاء على ذات الأضا

أذكرني عهدا مضى ** على الغوير وانقضى

فقال لي قلبي أتو ** صي حاجة وأعرضا

يطلب من أمرضه ** فديت ذاك الممرضا

يا غرض القلب لقد ** غادرت قلبي غرضا

لأسهمٍ كأنما ** يرسلها صرف القضا

فبت لا أرتاب في ** أنَّ رقادي قد قضى

حتى قفا الـليل وكاد ** الـليل أن ينقرضا

وأقبل الصبح لأطـ ** ـراف الدجا مبيضا

وسل في الشرق على الغـ ** ـرب ضياء وانقضى

ثم دخلت سنة ثنتين و تسعين وخمسمائة

[عدل]

في رجب منها أقبل العزيز من مصر ومعه عمه العادل في عساكر، ودخلا دمشق قهرا، وأخرجا منها الأفضل ووزيره الذي أساء تدبيره، وصلى العزيز عند تربة والده صلاح، وخطب له بدمشق، ودخل القلعة المنصورة في يوم وجلس في دار العدل للحكم والفصل، وكل هذا وأخوه الأفضل حاضر عنده في الخدمة، وأمر القاضي محيي الدين بن الزكي بتأسيس المدرسة العزيزية إلى جانب تربة أبيه وكانت دارا للأمير عز الدين شامة.

ثم استناب على دمشق عمه الملك العادل ورجع إلى مصر يوم الاثنتين تاسع شوال، والسكة والخطبة بدمشق له، وصولح الأفضل على صرخد، وهرب وزيره ابن الأثير الجزري إلى جزيرته، وقد أتلف نفسه ومُلكه، وملكه بجريرته، وانتقل الأفضل إلى صرخد بأهله وأولاده، وأخيه قطب الدين.

وفي هذه السنة هبت ريح شديدة سوداء مدلهمة بأرض العراق ومعها رمل أحمر، حتى احتاج الناس إلى السرج بالنهار.

وفيها: ولى قوام الدين أبو طالب يحيى بن سعد بن زيادة كتاب (الإنشاء) ببغداد، وكان بليغا، وليس هو كالفاضل.

وفيها: درّس مجير الدين أبو القاسم محمود بن المبارك بالنظامية، وكان فاضلا مناظرا.

وفيها قتل رئيس الشافعية بأصبهان

[عدل]

محمود بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت الخُجندي قتله ملك الدين سنقر الطويل، وكان ذلك سبب زوال ملك أصبهان عن الديوان.

وفيها مات الوزير وزير الخلافة مؤيد الدين أبو الفضل محمد بن علي بن القصاب

[عدل]

وكان أبوه يبيع اللحم في بعض أسواق بغداد.

فتقدم ابنه وساد أهل زمانه.

توفي بهمدان وقد أعاد رساتيق كثيرة من بلاد العراق وخراسان وغيرها، إلى ديوان الخلافة، وكان ناهضا ذا همة وله صرامة وشعر جيد.

وفيها توفي:

الفخر محمود بن علي

التوقاني الشافعي، عائدا من الحج.

أبو الغنائم محمد بن علي

[عدل]

ابن المعلم الهرثي من قرى واسط، عن إحدى وتسعين سنة، وكان شاعرا فصيحا، وكان ابن الجوزي في مجالسه يستشهد بشيء من لطائف أشعاره، وقد أورد ابن الساعي قطعة جيدة من شعره الحسن المليح.

وفيها توفي:

الفقيه أبو الحسن علي بن سعيد

[عدل]

ابن الحسن البغدادي المعروف بابن العريف، ويلقب بالبيع الفاسد، كان حنبليا ثم اشتغل شافعيا على أبي القاسم بن فضلان، وهو الذي لقبه بذلك لكثرة تكراره على هذه المسألة بين الشافعية والحنفية، ويقال إنه صار بعد هذا كله إلى مذهب الإمامية فالله أعلم.

وفيها توفي:

الشيخ أبو شجاع

[عدل]

محمد بن علي بن مغيث بن الدهان الفرضي الحاسب المؤرخ البغدادي، قدم دمشق وامتدح الكندي أبو اليمن زيد بن الحسن فقال:

يا زيد زادك ربي من مواهبه ** نعما يقصر عن إدراكها الأمل

لا بدل الله حالا قد حباك بها ** ما دار بين النحاة الحال والبدل

النحو أنت أحق العالمين به ** أليس باسمك فيه يضرب المثل

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة

[عدل]

فيها: ورد كتاب من القاضي الفاضل إلى ابن الزكي يخبره فيه أن في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أتى عارض فيه ظلمات متكاثفة، وبروق خاطفة، ورياح عاصفة، فقوي الجو بها واشتد هبوبها قد أثبت لها أعنة مطلقات، وارتفعت لها صفقات، فرجفت لها الجدران واصطفقت، وتلاقت على بعدها واعتنقت، وثار السماء والأرض عجاجا.

حتى قيل إن هذه على هذه قد انطبقت، ولا يحسب إلا أن جهنم قد سال منها وادٍ، وعدا منها عادٍ، وزاد عصف الريح إلى أن أطفأ سرج النجوم، ومزقت أديم السماء، ومحت ما فوقه من الرقوم، فكنا كما قال تعالى: { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ } 4.

ويردون أيديهم على أعينهم من البوارق، لا عاصم لخطف الأبصار، ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار.

وفر الناس نساء ورجالا وأطفالا، ونفروا من دورهم خفافا وثقالا، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فاعتصموا بالمساجد الجامعة، وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة، بوجوه عانية، ونفوس عن الأهل والمال سالية، ينظرون من طرف خفي.

ويتوقعون أي خطب جلي، قد انقطعت من الحياة علقهم، وعميت عن النجاة طرقهم، ووقعت الفكرة فيما هم عليه قادمون، وقاموا على صلاتهم وودوا لو كانوا من الذين عليها دائمون، إلى أن أذن بالركود، وأسعف الهاجدون بالهجود.

فأصبح كل مسلم على رفيقه، ويهنيه بسلامة طريقه، ويرى أنه قد بعث بعد النفخة، وأفاق بعد الصيحة والصرخة، وأن الله قد رد له الكرة، وأحياه بعد أن كاد يأخذه على غرة.

ووردت الأخبار بأنها قد كسرت المراكب في البحار، والأشجار في القفار، وأتلفت خلقا كثيرا من السفار، ومنهم من فّر فلا ينفعه الفرار.

إلى أن قال: ولا يحسب المجلس أني أرسلت القلم محرفا والعلم مجوفا، فالأمر أعظم، ولكن الله سلم، ونرجو أن الله قد أيقظنا بما به وعظنا، ونبهنا بما فيه ولهنا، فما من عباده إلا من رأى القيامة عيانا، ولم يلتمس عليها من بعد ذلك برهانا، إلا أهل بلدنا فما قص الأولون مثلها في المثلات، ولا سبقت لها سابقة في المعضلات.

والحمد لله الذي من فضله قد جعلنا نخبر عنها، ولا يخبر عنا، ونسأل الله أن يصرف عنا عارض الحرص والغرور، ولا يجعلنا من أهل الهلاك والثبور.

وفيها: كتب القاضي الفاضل من مصر إلى الملك العادل بدمشق يحثه على قتال الفرنج، ويشكره على ما هو بصدده من محاربتهم، وحفظ حوزة الإسلام، فمن ذلك قوله في بعض تلك الكتب.

هذه الأوقات التي أنتم فيها عرائس الأعمار، وهذه النفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار، وما أسعد من أودع يد الله ما في يديه، فتلك نعم الله عليه، وتوفيقه الذي ما كل من طلبه وصل إليه، وسواد العجاج في هذه المواقف بباطن ما سودته الذنوب من الصحائف، فما أسعد تلك الوقفات وما أعود بالطمأنينة تلك الرجعات.

وكتب أيضا أدام الله ذلك الاسم تاجا على مفارق المنابر والطروس، وحياه للدينا وما فيها من الأجساد والنفوس، وعرف المملوك من الأمر الذي اقتضته المشاهدة، وجرت به العافية في سرور، ولا يزيد على سيبه الحال بقوله:

ألم تر أن المرء تدوي يمينه ** فيقطعها عمدا ليسلم سائره

ولو كان فيها تدبير لكان مولانا سبق إليه، ومن قلم من الإصبع ظفرا فقد جلب إلى الجسد بفعله نفعا، ودفع عنه ضررا، وتجشم المكروه ليس بضائر إذا كان ما جلبه سببا إلى المحمود، وآخر سنوه أول كل غزوه، فلا يسأم مولانا نية الرباط وفعلها، وتجشم الكلف وحملها.

فهو إذا صرف وجهه إلى وجه واحد وهو وجه الله، صرف الوجوه إليه كلها: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } 5.

وفي هذه السنة انقضت مدة الهدنة التي كان عقدها الملك صلاح الدين للفرنج فأقبلوا بحدهم وحديدهم، فتلقاهم الملك العادل بمرج عكا فكسرهم وغنمهم، وفتح يافا عنوة ولله الحمد والمنة.

وقد كانوا كتبوا إلى ملك الألمان يستنهضونه لفتح بيت المقدس فقدر الله هلاكه سريعا، وأخذت الفرنج في هذه السنة بيروت من نائبها عز الدين شامة من غير قتال ولا نزال، ولهذا قال بعض الشعراء في الأمير شامة:

سلم الحصن ما عليك ملامة ** ما يلام الذي يروم السلامة

فتعطى الحصون من غير حربٍ ** سنةٌ سنها ببيروت شامة

ومات فيها ملك الفرنج كندهري، سقط من شاهق فمات، فبقيت الفرنج كالغنم بلا راعٍ، حتى ملكوا عليهم صاحب قبرس وزوجوه بالملكة امرأة كندهري، وجرت خطوب كثيرة بينهم وبين العادل، ففي كلها يستظهر عليهم ويكسرهم، ويقتل خلقا من مقاتلتهم، ولم يزالوا كذلك معه حتى طلبوا الصلح والمهادنة، فعاقدهم على ذلك في السنة الآتية.

وفيها توفي ملك اليمن:

سيف الإسلام طغتكين

[عدل]

أخو السلطان صلاح الدين، وكان قد جمع أموالا جزيلة جدا، وكان يسبك الذهب مثل الطواحين ويدخره كذلك، وقام في الملك بعده ولده إسماعيل، وكان أهوج قليل التدبير، فحمله جهله على أن ادّعى أنه قرشي أموي، وتلقب بالهادي.

فكتب إليه عمه العادل ينهاه عن ذلك ويتهدده بسبب ذلك، فلم يقبل منه ولا التفت إليه، بل تمادى وأساء التدبير إلى الأمراء والرعية، فقتل وتولى بعده مملوك من مماليك أبيه.

وفيها توفي:

الأمير الكبير أبو الهيجاء السمين الكردي

[عدل]

كان من أكابر أمراء صلاح الدين، وهو الذي كان نائبا على عكا، وخرج منها قبل أخذ الإفرنج، ثم دخلها بعد المشطوب، فأخذت منه، واستنابه صلاح الدين على القدس.

ثم لما أخذها العزيز عزل عنها فطلب إلى بغداد فأكرم إكراما زائدا، وأرسله الخليفة مقدما على العساكر إلى همدان، فمات هناك.

وفيها توفي:

قاضي بغداد أبو طالب علي بن علي بن هبة الله بن محمد

[عدل]

البخاري، سمع الحديث على أبي الوقت وغيره، وتفقه على أبي القاسم بن فضلان، وتولى نيابة الحكم ببغداد، ثم استقل بالمنصب وأضيف إليه في وقت نيابة الوزارة، ثم عزل عن القضاء ثم أعيد ومات وهو حاكم، نسأل الله العافية، وكان فاضلا بارعا من بيت فقه وعدالة وله شعر:

تنحّ عن القبيح ولا ترده ** ومن أوليته حسنا فزده

كفا بك من عدوك كل كيدٍ ** إذا كاد العدو ولم تكده

وفيها توفي:

السيد الشريف نقيب الطالبيين ببغداد

[عدل]

أبو محمد الحسن بن علي بن حمزة بن محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسين بن يزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب العلوي الحسيني المعروف بابن الأقساسي، الكوفي مولدا ومنشأ.

كان شاعرا مطبقا، امتدح الخلفاء والوزراء، وهو من بيت مشهور بالأدب والرياسة والمروءة، قدم بغداد فامتدح المقتفي والمستنجد وابنه المستضيء وابنه الناصر، فولاه النقابة كان شيخا مهيبا، جاوز الثمانين، وقد أورد له ابن الساعي قصائد كثيرة منها:

اصبر على كيد الزما ** ن فما يدوم على طريقة

سبق القضاء فكن به ** راضٍ ولا تطلب حقيقة

كم قد تغلب مرةً ** وأراك من سعةٍ وضيقة

ما زال في أولاده ** يجري على هذي الطريقة

وفيها توفيت:

الست عذراء بنت شاهنشاه

[عدل]

ابن أيوب، ودفنت بمدرستها داخل باب النصر، والست خاتون والدة الملك العادل، ودفنت بدراها بدمشق المجاورة لدار أسد الدين شيركوه.

ثم دخلت سنة أربع تسعين وخمسمائة

[عدل]

فيها: جمعت الفرنج جموعها وأقبلوا فحاصروا تبنين، فاستدعى العادل بني أخيه لقتالهم، فجاءه العزيز من مصر، والأفضل من صرخند.

فأقلعت الفرنج عن الحصن وبلغهم موت ملك الألمان فطلبوا من العادل الهدنة والأمان، فهادنهم ورجعت الملوك إلى أماكنها، وقد عظم المعظم عيسى بن العادل في هذه المرة، واستنابه أبوه على دمشق، وسار إلى ملكه بالجزيرة، فأحسن فيهم السيرة.

وكان قد توفي في هذه السنة السلطان صاحب سنجار وغيرها من المدائن الكبار، وهو عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي الأتابكي، كان من خيار الملوك وأحسنهم شكلا وسيرة، وأجودهم طوية وسريرة، غير أنه كان يبخل، وكان شديد المحبة للعلماء، ولا سيما الحنفية.

وقد ابتنى لهم مدرسة بسنجار، وشرط لهم طعاما يطبخ لكل واحد منهم في كل يوم، وهذا نظر حسن، والفقيه أولى بهذه الحسنة من الفقير، لاشتغال الفقيه بتكراره ومطالعته عن الفكر فيما يقيته، فعدى على أولاده ابن عمه صاحب الموصل، فأخذ الملك منهم، فاستغاث بنوه بالملك العادل، فرد فيهم الملك ودرأ عنهم الضيم، واستقرت بالمملكة لولده قطب الدين محمد.

ثم سار الملك إلى ماردين فحاصرها في شهر رمضان، فاستولى على ريفها ومعاملتها، وأعجزته قلعتها، فطاف عليها ومشى، وما ظن أحد أنه تملكها، لأن ذلك لم يكن مثبوتا ولا مقدارا.

وفيها: ملكت الخزر مدينة بلخ وكسروا الخطا وقهروهم، وأرسل الخليفة إليهم أن يمنعوا خوارزم شاه من دخول العراق، فإنه كان يروم أن يخطب له ببغداد.

وفيها: حاصر خوارزم شاه مدينة بخارى ففتحها بعد مدة، وقد كانت امتنعت عليه دهرا ونصرهم الخطا، فقهرهم جميعا وأخذها عنوة، وعفا عن أهلها وصفح.

وقد كانوا ألبسوا كلبا أعور قباء وسموه خوارزم شاه، ورموه في المنجيق إلى الخوارزمية، وقالوا هذا مالكم، وكان خوارزم شاه أعور، فلما قدر عليهم عفا عنهم، جزاه الله خيرا.

وفيها توفي من الأعيان:

العوام بن زيادة

[عدل]

كاتب الإنشاء بباب الخلافة، وهو أبو طالب يحيى بن سعيد بن هبة الله بن علي بن زيادة، انتهت إليه رياسة الرسائل والإنشاء والبلاغة والفصاحة في زمانه بالعراق.

وله علوم كثيرة غير ذلك من الفقه على مذهب الشافعي، أخذه عن ابن فضلان، وله معرفة جيدة بالأصلين الحساب واللغة، وله شعر جيد وقد ولي عدة مناصب كان مشكورا في جميعها، ومن مستجاد شعره قوله:

لا تحقرن عدوا تزدريه فكم ** قد أتعس الدهر جد الجد باللعب

فهذه الشمس يعروها الكسوف لها ** على جلالتها بالرأس والذنب

وله:

باضطراب الزمان ترتفع الأنـ ** ـذال فيه حتى يعم البلاء

وكذا الماء راكدٌ فإذا ** حرك ثارت من قعره الأقذاء

وله أيضا:

قد سلوت الدنيا ولم يسلها ** من علقت في آماله والأراجي

فإذا ما صرفت وجهي عنها ** قذفتني في بحرها العجاج

يستضيئون بي وأهلك وحدي ** فكأني ذبالة في سراج

توفي في ذي الحجة وله ثنتان وسبعون سنة، وحضر جنازته خلق كثير، ودفن عند موسى بن جعفر.

القاضي أبو الحسن علي بن رجاء بن زهير

[عدل]

ابن علي البطائحي، قدم بغداد فتفقه بها وسمع الحديث وأقام برحبة مالك بن طوق مدة يشتغل على أبي عبد الله بن النبيه الفرضي، ثم ولي قضاء العراق مدة.

وكان أديبا، وقد سمع من شيخه أبي عبد الله بن النبيه ينشد لنفسه معارضا للحريري في بيتيه اللذين زعم أنهما لا يعزوان ثالثا لهما، وهما قوله:

سمْ ممة يحُمد آثارها ** واشكر لمن أعطا ولو سمسمة

والمكر مهما اسطعت لا تأته ** لتقتني السؤدد والمكرمة

فقال ابن النبيه:

ما الأمة الوكساء بين الورى ** أحسن من حر أتى ملامه

فمه إذا استجديت عن قول لا ** فالحر لا يملأ منها فمه

الأمير عز الدين جرديك

[عدل]

كان من أكابر الأمراء في أيام نور الدين، وكان ممن شرك في قتل شاور، وحظي عند صلاح الدين، وقد استنابه على القدس حين افتتحها، وكان يستند به للمهمات الكبار فيسدها بنفسه وشجاعته.

ولما ولي الأفضل عزله عن القدس فترك بلاد الشام وانتقل إلى الموصل، فمات بها في هذه السنة.

ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة

[عدل]

فيها كانت وفاة العزيز صاحب مصر

وذلك أنه خرج إلى الصيد، فكانت ليلة الأحد العشرين من المحرم، ساق خلف ذئب فكبا به فرسه فسقط عنه فمات بعد أيام، ودفن بداره.

ثم حول إلى عند تربة الشافعي، وله سبع أو ثمان وعشرون سنة، ويقال: إنه كان قد عزم في هذه السنة على إخراج الحنابلة من بلده، ويكتب إلى بقية إخوته بإخراجهم من البلاد.

وشاع ذلك عنه وذاع، وسمع ذلك منه وصرح به، وكل ذلك من معلميه وخلطائه وعشرائه من الجهمية، وقلة علمه بالحديث، فلما وقع منه هذا ونوى هذه النية القبيحة الفاسدة أهلكه الله ودمره سريعا، وعظم قدر الحنابلة بين الخلق بمصر والشام، عند الخاص والعام.

وقيل: إن بعض صالحيهم دعا عليه، فما هو إلا أن خرج إلى الصيد فكان هلاكه سريعا، وكتب الفاضل كتاب التعزية بالعزيز لعمه العادل، وهو محاصر ماردين ومعه العساكر، وولده محمد الكامل، وهو نائبه على بلاد الجزيرة المقاربة لبلاد الحيرة، وصورة الكتاب:

أدام الله سلطان مولانا الملك العادل، وبارك في عمره وأعلا أمره بأمره، وأعز نصر الإسلام بنصره، وفدت الأنفس نفسه الكريمة، وأصغر الله العظائم بنعمه فيه العظيمة، وأحياه الله حياة طيبة هو والإسلام في مواقيت الفتوح الجسيمة، وينقلب عنها بالأمور المسلمة والعواقب السليمة، ولا نقص له رجالا ولا أعدمه نفسا ولا ولدا، ولا قصر له ذيلا ولا يدا، ولا أسخن له عينا ولا كبدا، ولا كدر له خاطرا ولا موردا.

ولما قدر الله ما قدر من موت الملك العزيز كانت حياته مكدرة عليه منغصة مهملة، فلما حضر أجله كانت بديهة المصاب عظيمة، وطالعة المكروه أليمة، وإذا محاسن الوجه بليت تعفى الثرى عن وجهه الحسن.

وكانت مدة مرضه بعد عوده من الفيوم أسبوعين، وكانت في الساعة السابعة من ليلة الأحد والعشرين من المحرم، والمملوك في حال تسطيرها مجموع بين مرض القلب والجسد، ووجع أطراف وعلة كبد، وقد فجع بهذا المولى والعهد بوالده غير بعيد، والأسى عليه في كل يوم جديد.

ولما توفي العزيز خلف من الولد عشرة ذكور، فعمد أمراؤه فملكوا عليهم ولده محمدا، ولقبوه بالمنصور، وجمهور الأمراء في الباطن مائلون إلى تمليك العادل، ولكنهم يستبعدون مكانه، فأرسلوا إلى الأفضل وهو بصرخد فأحضروه على البريد سريعا.

فلما حضر عندهم منع رفدهم ووجدوا الكلمة مختلفة عليه، ولم يتم له ما صار إليه، وخامر عليه أكابر الأمراء الناصرية، وخرجوا من مصر فأقاموا ببيت المقدس وأرسلوا يستحثون الجيوش العادلية، فأقر ابن أخيه على السلطنة ونوه باسمه على السكة والخطبة في سائر بلاد مصر، لكن استفاد الأفضل في سفرته هذه أن أخذ جيشا كثيفا من المصريين، وأقبل بهم ليسترد دمشق في غيبة عمه.

وذلك بإشارة أخيه صاحب حلب، وملك حمص أسد الدين، فلما انتهى إليها ونزل حواليها قطع أنهارها وعقر أشجارها، وأكل ثمارها، ونزل بمخيمه على مسجد القدم، وجاء إليه أخوه الظاهر وابن عمه الأسد الكاسر وجيش حماه، فكثر جيشه وقوي بأسه، وقد دخل جيشه إلى البلد، ونادوا بشعاره فلم يتابعهم من العامة أحد، وأقبل العادل من ماردين بعساكره وقد التف عليه أمراء أخيه وطائفة بني أخيه، وأمده كل مصر بأكابره، وسبق الأفضل إلى دمشق بيومين فحصنها وحفظها، وقد استناب على ما ردين ولده محمدا الكامل.

ولما دخل دمشق خامر إليه أكثر الأمراء من المصريين وغيرهم، وضعف أمر الأفضل ويئس من برهم وخيرهم، فأقام محاصر البلد بمن معه حتى انسلخ الحول ثم انفصل الحال في أول السنة الآتية على ما سيأتي.

وفيها: شرع في بناء سور بغداد بالآجر والكلس، وفرق على الأمراء وكملت عمارته بعد هذه السنة، فأمنت بغداد من الغرق والحصار، ولم يكن لها سور قبل ذلك.

وفيها توفي:

السلطان أبو محمد يعقوب بن يوسف

[عدل]

ابن عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس بمدينته، وكان قد بنى عندها مدينة مليحة سماها المهدية، وقد كان دينا حسن السيرة صحيح السريرة، وكان مالكي المذهب، ثم صار ظاهريا حزميا ثم مال إلى مذهب الشافعي، واستقضى في بعض بلاده منهم قضاة، وكانت مدة ملكه خمس عشرة سنة، وكان كثير الجهاد رحمه الله، وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس، وكان قريبا إلى المرأة والضعيف رحمه الله.

وهو الذي كتب إليه صلاح الدين يستنجده على الفرنج فلما لم يخاطبه بأمير المؤمنين غضب من ذلك ولم يجبه إلى ما طلب منه، وقام بالملك بعده ولده محمد فسار كسيرة والده، ورجع إليه كثير من البلدان اللاتي كانت قد عصت على أبيه، ثم من بعد ذلك تفرقت بهم الأهواء وباد هذا البيت بعد الملك يعقوب.

وفيها: ادّعى رجل أعجمي بدمشق أنه عيسى بن مريم، فأمر الأمير صارم الدين برغش نائب القلعة، بصلبه عند حمام العماد الكاتب، خارج باب الفرج مقابل الطاحون التي بين البابين، وقد باد هذا الحمام قديما، وبعد صلبه بيومين ثارت العامة على الروافض وعمدوا إلى قبر رجل منهم بباب الصغير يقال له وثاب فنبشوه وصلبوه مع كلبين، وذلك في ربيع الآخر منها.

وفيها: وقعت فتنة كبيرة ببلاد خراسان، وكان سببها أن فخر الدين محمد بن عمر الرازي وفد إلى الملك غياث الدين الغوري صاحب غزنة، فأكرمه وبنى له مدرسة بهراة، وكان أكثر الغورية كرامية فأبغضوا الرازي وأحبوا إبعاده عن الملك، فجمعوا له جماعة من الفقهاء الحنفية والكرامية، وخلقا من الشافعية، وحضر ابن القدوة وكان شيخا معظما في الناس، وهو على مذهب ابن كرام وابن الهيصم فتناظر هو والرازي، وخرجا من المناظرة إلى السب والشتم.

فلما كان من الغد اجتمع الناس في المسجد الجامع، وقام واعظ فتكلم فقال في خطبته:

أيها الناس، إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله ، وأما علم أرسطاطاليس وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي وما تلبّس به الرازي فإنا لا نعلمها ولا نقول بها، وإنما هو كتاب الله وسنة رسوله، ولأي شيء يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وسنة رسوله، على لسان متكلم ليس معه على ما يقول دليل.

قال: فبكى الناس وضجوا وبكت الكرامية واستغاثوا، وأعانهم على ذلك قوم من خواص الناس، وأنهوا إلى الملك صورة ما وقع، فأمر بإخراج الرازي من بلاده، وعاد إلى هراة، فلهذا أشرب قلب الرازي بغض الكرامية، وصار يلهج بهم في كلامه في كل موطن ومكان.

وفيها: رضي الخليفة عن أبي الفرج بن الجوزي شيخ الوعاظ، وقد كان أخرج من بغداد إلى واسط فأقام بها خمس سنين، فانتفع به أهلها واشتغلوا عليه واستفادوا منه، فلما عاد إلى بغداد خلع عليه الخليفة وأذن له في الوعظ على عادته عند التربة الشريفة المجاورة لقبر معروف الكرخي، فكثر الجمع جدا وحضر الخليفة وأنشد يومئذ فيما يخاطب به الخليفة:

لا تعطش الروض الذي بنيته ** بصوب إنعامك قد روضا

لا تبر عودا أنت قد رشته ** حاشى لباني المجد أن ينقضا

إن كان لي ذنبٌ قد جنيته ** فاستأنف العفو وهب لي الرضا

قد كنت أرجوك لنيل المنى ** فاليوم لا أطلب إلا الرضا

ومما أنشده يومئذ:

شقينا بالنوى زمنا فلما ** تلاقينا كأنا ما شقينا

سخطنا عندما جنت الليالي ** وما زالت بنا حتى رضينا

ومن لم يحيى بعد الموت يوما ** فإنا بعد ما متنا حيينا

وفي هذه السنة استدعى الخليفة الناصر قاضي الموصل ضياء الدين ابن الشهروزري فولاه قضاء قضاة بغداد.

وفيها: وقعت فتنة بدمشق بسبب الحافظ عبد الغني المقدسي، وذلك أنه كان يتكلم في مقصورة الحنابلة بالجامع الأموي، فذكر يوما شيئا من العقائد، فاجتمع القاضي ابن الزكي وضياء الدين الخطيب الدولعي بالسلطان المعظم، والأمير صارم الدين برغش.

فعقد له مجلسا فيما يتعلق بمسألة الاستواء على العرش والنزول والحرف والصوت، فوافق النجم الحنبلي بقية الفقهاء واستمر الحافظ على ما يقوله لم يرجع عنه، واجتمع بقية الفقهاء عليه، وألزموه بإلزامات شنيعة لم يلتزمها، حتى قال له الأمير برغش كل هؤلاء على الضلالة وأنت وحدك على الحق؟

قال: نعم

فغضب الأمير وأمر بنفيه من البلد؛ فاستنظره ثلاثة أيام فأنظره، وأرسل برغش الأسارى من القلعة فكسروا منبر الحنابلة وتعطلت يومئذ صلاة الظهر في محراب الحنابلة، وأخرجت الخزائن والصناديق التي كانت هناك، وجرت خبطة شديدة، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

وكان عقد المجلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي الحجة، فارتحل الحافظ عبد الغني إلى بعلبك ثم سار إلى مصر فآواه المحدثون، فحنوا عليه وأكرموه.

من الأعيان:

الأمير مجاهد الدين قيماز الرومي

[عدل]

نائب الموصل المستولي على مملكتها أيام ابن أستاذه نور الدين أرسلان، وكان عاقلا ذكيا فقيها حنيفا، وقيل شافعيا، يحفظ شيئا كثيرا من التواريخ والحكايات، وقد ابتنى عدة جوامع ومدارس وربط وخانات، وله صدقات كثيرة دارة، قال ابن الأثير: وقد كان من محاسن الدنيا.

أبو الحسن محمد بن جعفر

[عدل]

ابن أحمد بن محمد بن عبد العزيز العباس الهاشمي، قاضي القضاة ببغداد، بعد ابن النجاري، كان شافعيا تفقه على أبي الحسن بن الخل وغيره، وقد ولي القضاء والخطابة بمكة، وأصله منها، ولكن ارتحل إلى بغداد فنال منها ما نال من الدنيا، وآل به الأمر إلى ما آل.

ثم إنه عزل عن القضاء بسبب محضر رقم خطه عليه، وكان فيما قيل مزورا عليه. فالله أعلم، فجلس في منزله حتى مات.

الشيخ جمال الدين أبو القاسم

[عدل]

يحيى بن علي بن الفضل بن بركة بن فضلان، شيخ الشافعية ببغداد، تفقه أولا على سعيد بن محمد الزار مدرس النظامية.

ثم ارتحل إلى خراسان فأخذ عن الشيخ محمد الزبيدي تلميذ الغزالي وعاد إلى بغداد وقد اقتبس علم المناظرة والأصلين، وساد أهل بغداد وانتفع به الطلبة والفقهاء، وبنيت له مدرسة فدّرس بها وبعد صيته، وكثرت تلاميذه، وكان كثير التلاوة وسماع الحديث، وكان شيخا حسنا لطيفا ظريفا، ومن شعره:

وإذا أردت منازل الأشراف ** فعليك بالإسعاف والإنصاف

وإذا بغا باغٍ عليك فخله ** والدهر فهو له مكاف كاف

ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة

[عدل]

استهلت هذه السنة والملك الأفضل بالجيش المصري محاصر دمشق لعمه العادل، وقد قطع عنها الأنهار والميرة، فلا خبز ولا ماء إلا قليلا، وقد تطاول الحال، وقد خندقوا من أرض اللوان إلى اللد خندقا لئلا يصل إليهم جيش دمشق، وجاء فصل الشتاء وكثرت الأمطار والأوحال.

فلما دخل شهر صفر قدم الملك الكامل محمد بن العادل علي أبيه بخلق من التركمان، وعساكر من بلاد الجزيرة والرها وحران، فعند ذلك انصرف العساكر المصرية، وتفرقوا أيادي سبا، فرجع الظاهر إلى حلب والأسد إلى حمص، والأفضل إلى مصر، وسلم العادل من كيد الأعادي، بعد ما كان قد عزم على تسليم البلد.

وسارت الأمراء الناصرية خلف الأفضل ليمنعوه من الدخول إلى القاهرة، وكاتبوا العادل أن يسرع السير إليهم، فنهض إليهم سريعا فدخل الأفضل مصر وتحصن بقلعة الجبل، وقد اعتراه الضعف والفشل.

ونزل العادل على البركة وأخذ ملك مصر ونزل إليه ابن أخيه الأفضل خاضعا ذليلا، فأقطعه بلادا من الجزيرة، ونفاه من الشام لسوء السيرة، ودخل العادل القلعة وأعاد القضاء إلى صدر الدين عبد الملك بن درباس المارديني الكردي.

وأبقى الخطبة والسكة باسم ابن أخيه المنصور، والعادل مستقل بالأمور، واستوزر الصاحب صفي الدين بن شكر لصرامته وشهامته، وسيادته وديانته، وكتب العادل إلى ولده الكامل يستدعيه من بلاد الجزيرة ليملكه على مصر، فقدم عليه فأكرمه واحترمه وعانقه والتزمه.

وأحضر الملك الفقهاء واستفتاهم في صحة مملكة ابن أخيه المنصور بن العزيز، وكان ابن عشر سنين، فأفتوا بأن ولايته لا تصح لأنه متولي عليه، فعند ذلك طلب الأمراء ودعاهم إلى مبايعته فامتنعوا فأرغبهم وأرهبهم.

وقال فيما قال: قد سمعتم ما أفتى به العلماء، وقد علمتم أن ثغور المسلمين لا يحفظها الأطفال الصغار، وإنما يحفظها الملوك الكبار، فأذعنوا عند ذلك وبايعوه.

ثم من بعده لولده الكامل، فخطب الخطباء بذلك بعد الخليفة لهما، وضربت السكة باسمهما، واستقرت دمشق باسم المعظم عيسى بن العادل، ومصر باسم الكامل.

وفي شوال رجع إلى دمشق الأمير ملك الدين أبو منصور سليمان بن مسرور بن جلدك، وهو أخو الملك العادل لأمه، وهو واقف الفلكية داخل باب الفراديس، وبها قبره، فأقام بها محترما معظما إلى أن توفي في هذه السنة.

وفيها وفي التي بعدها: كان بديار مصر غلاء شديد، فهلك بسببه الغني والفقير، وهرب الناس منها نحو الشام فلم يصل إليها إلا القليل، وتخطفهم الفرنج من الطرقات وغروهم من أنفسهم واغتالوهم بالقليل من الأقوات، وأما بلاد العراق فإنه كان مرخصا.

قال ابن الساعي: وفي هذه السنة باض ديك ببغداد فسألت جماعة عن ذلك فأخبروني به.

وممن توفي بها من الأعيان:

السلطان علاء الدين خوارزم شاه

[عدل]

تكش بن ألب رسلان من ولد طاهر بن الحسين، وهو صاحب خوارزم وبعض بلاد خراسان والري وغيرها من الأقاليم المتسعة، وهو الذي قطع دولة السلاجقة.

كان عادلا حسن السيرة له معرفة جيدة بالموسيقى، حسن المعاشرة، فقيها على مذهب أبي حنيفة، ويعرف الأصول، وبنى للحنفية مدرسة عظيمة، ودفن بتربة بناها بخوارزم، وقام في الملك من بعده ولده علاء الدين محمد، وكان قبل ذلك يلقب بقطب الدين.

وفيها: قتل وزير السلطان خوارزم شاه المذكور نظام الدين مسعود بن علي

[عدل]

وكان حسن السيرة، شافعي المذهب، له مدرسة عظيمة بخوارزم، وجامع هائل، وبنى بمرو جامعا عظيما للشافعية، فحسدتهم الحنابلة وشيخهم بها يقال له شيخ الإسلام، فيقال إنهم أحرقوه وهذا إنما يحمل عليه قلة الدين والعقل، فأغرمهم السلطان خوارزم شاه ما غرم الوزير على بنائه.

وفيها: توفي الشيخ المسند المعمر رحلة الوقت أبو الفرج بن عبد المنعم بن عبد الوهاب

[عدل]

ابن صدقة بن الخضر بن كليب الحراني الأصل البغدادي المولد والدار والوفاة، عن ست وتسعين سنة، سمع الكثير وأسمع، وتفرد بالرواية عن جماعة من المشايخ، وكان من أعيان التجار وذوي الثروة.

الفقيه مجد الدين أبو محمد بن طاهر بن نصر بن جميل

[عدل]

مدرّس القدس أول من درّس بالصلاحية، وهو والد الفقهاء بني جميل الدين، كانوا بالمدرسة الجاروخية، ثم صاروا إلى العمادية والدماعية في أيامنا هذه، ثم ماتوا ولم يبق إلا شرحهم.

الأمير صارم الدين قايماز

[عدل]

ابن عبد الله النجي، كان من أكابر الدولة الصلاحية، كان عند صلاح الدين بمنزلة الأستاذ، وهو الذي تسلم القصر حين مات العاضد.

فحصل له أموال جزيلة جدا، وكان كثير الصدقات والأوقاف، تصدق في يوم بسبعة آلاف دينار عينا، وهو واقف المدرسة القيمازية، شرقي القلعة.

وقد كانت دار الحديث الأشرفية دارا لهذا الأمير، وله بها حمام، فاشترى ذلك الملك الأشرف فيما بعد وبناها دار حديث، وأخرب الحمام وبناه مسكنا للشيخ المدّرس بها.

ولما توفي قيماز ودفن في قبره نبشت دوره وحواصله، وكان متهما بمال جزيل، فتحصل ما جمع من ذلك مائة ألف دينار وكان يظن أن عنده أكثر من ذلك، وكان يدفن أمواله في الخراب من أراضي ضياعه وقرياه، سامحه الله.

الأمير لؤلؤ

[عدل]

أحد الحجاب بالديار المصرية، كان من أكابر الأمراء في أيام صلاح الدين، وهو الذي كان متسلم الأسطول في البحر، فكم من شجاع قد أسر، وكم من مركب قد كسر، وقد كان مع كثرة جهاده دار الصدقات، كثير النفقات في كل يوم، وقع غلاء بمصر فتصدق باثني عشر ألف رغيف، لاثني عشر ألف نفس.

الشيخ شهاب الدين الطوسي

[عدل]

أحد مشايخ الشافعية بديار مصر، شيخ المدرسة المنسوبة إلى تقي الدين شاهنشاه بن أيوب، التي يقال لها منازل العز، وهو من أصحاب محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، كان له قدر ومنزلة عند ملوك مصر، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، توفي في هذه السنة، فازدحم الناس على جنازته، وتأسفوا عليه.

الشيخ ظهير الدين عبد السلام الفارسي

[عدل]

شيخ الشافعية بحلب، أخذ الفقه عن محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وتتلمذ للرازي، ورحل إلى مصر وعرض عليه أن يدرّس بتربة الشافعي فلم يقبل، فرجع إلى حلب فأقام بها إلى أن مات.

الشيخ العلامة بدر الدين ابن عسكر

[عدل]

رئيس الحنفية بدمشق، قال أبو شامة: ويعرف بابن العقادة.

الشاعر أبو الحسن علي بن نصر بن عقيل بن أحمد بغدادي

[عدل]

قدم دمشق في سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ومعه ديوان شعر له فيه درر حسان، وقد تصدى لمدح الملك الأمجد صاحب بعلبك وله:

وما الناس إلا كامل الحظ ناقصٌ ** وآخر منهم ناقص الحظ كامل

وإني لمثر من خيار أعفة ** وإن لم يكن عندي من المال كامل

وفيها توفي القاضي الفاضل الإمام العلامة شيخ الفصحاء والبلغاء أبو علي عبد الرحيم بن القاضي الأشرف

[عدل]

أبي المجد علي بن الحسن بن البيساني المولى الأجل القاضي الفاضل، كان أبوه قاضيا بعسقلان فأرسل ولده في الدولة الفاطمية إلى الديار المصرية، فاشتغل بها بكتابة الإنشاء على أبي الفتح قادوس وغيره، فساد أهل البلاد حتى بغداد، ولم يكن له في زمانه نظير، ولا فيما بعده إلى وقتنا هذا مثيل.

ولما استقر الملك صلاح الدين بمصر جعله كاتبه وصاحبه ووزيره وجليسه وأنيسه، وكان أعز عليه من أهله وأولاده، وتساعدا حتى فتح الأقاليم والبلاد، هذا بحسامه وسنانه، وهذا بقلمه ولسانه وبيانه.

وقد كان الفاضل من كثرة أمواله كثير الصدقات والصلات والصيام والصلاة، وكان يواظب كل يوم وليلة على ختمة كاملة، مع ما يزيد عليها من نافلة، رحيم القلب حسن السيرة، طاهر القلب والسريرة له مدرسة بديار مصر على الشافعية والمالكية، وأوقاف على تخليص الأسارى من يدي النصارى.

وقد اقتنى من الكتب نحوا من مائة ألف كتاب، وهذا شيء لم يفرح به أحد من الوزراء ولا العلماء ولا الملوك، ولد في سنة ثنتين وخمسمائة، توفي يوم دخل العادل إلى قصر مصر بمدرسته فجأة يوم الثلاثاء سادس ربيع الآخر، واحتفل الناس بجنازته، وزار قبره في اليوم الثاني الملك العادل، وتأسف عليه.

ثم استوزر العادل صفي الدين بن شكر، فلما سمع الفاضل بذلك دعا الله أن لا يحييه إلى هذه الدولة لما بينهما من المنافسة، فمات ولم ينله أحد بضيم ولا أذى، ولا رأى في الدولة من هو أكبر منه، وقد رثاه الشعراء بأشعار حسنة، منها قول القاضي هبة الله بن سناء الملك:

عبد الرحيم على البرية رحمةٌ ** أمنت بصحبتها حلول عقابها

يا سائلي عنه وعن أسبابه ** نال السماء فسله عن أسبابها

وأتته خاطبةً إليه وزارة ** ولطال ما أعيت على خطابها

وأتت سعادته إلى أبوابه ** لا كالذي يسعى إلى أبوابها

تعنوا الملوك لوجهه بوجوهها ** لا بل تساق لبابه برقابها

شغل الملوك بما يزول ونفسه ** مشغولة بالذكر في محرابها

في الصوم والصلوات أتعب نفسه ** وضمان راحته على إتعابها

وتعجل الإقلاع عن لذاته ** ثقةً بحسن مآلها ومآبها

فلتفخر الدنيا بسائس ملكها ** منه ودارس علمها وكتابها

صوّامها قوّامها علاّمها ** عمّالها بذّالها وهابها

والعجب أن الفاضل مع براعته ليس له قصيدة طويلة، وإنما له ما بين البيت والبيتين في أثناء رسائله وغيرها شيء كثير جدا، فمن ذلك قوله:

سبقتم بإسداء الجميل تكرما ** وما مثلكم فيمن يحدث أو يحكى

وكان ظني أن أسابقكم به ** ولكن بلت قبلي فهيج لي البكا

وله:

ولي صاحب ما خفت من جور حادثٍ ** من الدهر إلا كان لي من ورائه

إذا عضني صرف الزمان فإنني ** براياته أسطو عليه ورائه

وله في بدو أمره:

أرى الكتاب كلهم جميعا ** بأرزاقٍ تعمهم سنينا

ومالي بينهم رزقٌ كأني ** خلقت من الكرام الكاتبينا

وله في النحلة والزلقطة:

ومغردين تجاوبا في مجلسٍ ** منعاهما لأذاهما الأقوامُ

هذا يجود بعكس ما يأتي به ** هذا فيحمد ذا وذاك يلامُ

وله:

بتنا على حالٍ تسرُّ الهوى ** لكنه لا يمكن الشرح

بوابنا الليل، وقلنا له: ** إن غبت عنّا هجم الصبح

وأرسلت جارية من جواري الملك العزيز إلى الملك العزيز زرا من ذهب مغلف بعنبر أسود، فسأل الملك الفاضل عن معنى ما أرادت بإرساله فأنشأ يقول:

أهدت لك العنبر في وسطه ** زرٌّ من التبر رقيق اللحام

فالزر في العنبر معناهما ** زر هكذا مختفيا في الظلام

قال ابن خلكان: وقد اختلف في لقبه فقيل محيي الدين وقيل مجير الدين، وحكي عن عمارة اليمني: أنه كان يذكر جميل وأن العادل بل الصالح هو الذي استقدمه من الإسكندرية، وقد كان معدودا في حسناته.

وقد بسط ابن خلكان ترجمته بنحو ما ذكرنا، وفي هذه زيادة كثيرة والله أعلم.

ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة

[عدل]

فيها اشتد الغلاء بأرض مصر جدا، فهلك خلق كثير جدا من الفقراء والأغنياء، ثم أعقبه فناء عظيم، حتى حكى الشيخ أبو شامة في الذيل: أن العادل كفن من ماله في مدة شهر من هذه السنة نحوا من مائتي ألف، وعشرين ألف ميت، وأكلت الكلاب والميتات فيها بمصر.

وأكل من الصغار والأطفال خلق كثير يشوي الصغير والداه ويأكلانه، وكثر هذا في الناس جدا حتى صار لا ينكر بينهم، فلما فرغت الأطفال والميتات غلب القوي الضعيف فذبحه وأكله.

وكان الرجل يحتال على الفقير فيأتي به ليطعمه أو ليعطيه شيئا، ثم يذبحه ويأكله.

وكان أحدهم يذبح امرأته ويأكلها وشاع هذا بينهم بلا إنكار ولا شكوى، بل يعذر بعضهم بعضا، ووجد عند بعضهم أربعمائة رأس وهلك كثير من الأطباء الذين يستدعون إلى المرضى، فكانوا يذبحون ويؤكلون، كان الرجل يستدعى الطبيب ثم يذبحه ويأكله، وقد استدعى رجل طبيبا حاذقا وكان الرجل موسرا من أهل المال، فذهب الطبيب معه على وجلٍ وخوفٍ، فجعل الرجل يتصدق على من لقيه في الطريق ويذكر الله ويسبحه ويكثر من ذلك، فارتاب به الطبيب وتخيل منه، ومع هذا حمله الطمع على الاستمرار معه حتى دخل داره، فإذا هي خربة فارتاب الطبيب أيضا فخرج صاحبه فقال له: ومع هذا البطء جئت لنا بصيد، فلما سمعها الطبيب هرب فخرجا خلفه سراعا فما خلص إلا بعد جهد وشر.

وفيها: وقع وباء شديد ببلاد عنزة بين الحجاز واليمن، وكانوا عشرين قرية، فبادت منها ثماني عشرة لم يبق فيها ديار ولا نافخ نار، وبقيت أنعامهم وأموالهم لا قاني لها، ولا يستطيع أحد أن يسكن تلك القرى ولا يدخلها، بل كان من اقترب إلى شيء من هذه القرى هلك من ساعته، نعوذ بالله من بأس الله وعذابه وغضبه وعقابه.

أما القريتان الباقيتان فإنهما لم يمت منهما أحد ولا عندهم شعور بما جرى على من حولهم، بل هم على حالهم لم يفقد منهم أحد فسبحان الحكيم العليم.

واتفق باليمن في هذه السنة كائنة غريبة جدا، وهي أن رجلا يقال له عبد الله بن حمزة العلوي كان قد تغلب على كثير من بلاد اليمن، وجمع نحوا من اثني عشر ألف فارس، ومن الرجالة جمعا كثيرا.

وخافه ملك اليمن إسماعيل بن طغتكين بن أيوب، وغلب على ظنه زوال ملكه على يدي هذا الرجل، وأيقن بالهلكة لضعفه عن مقاومته، واختلاف أمرائه معه في المشورة، فأرسل الله صاعقة فنزلت عليهم فلم يبق منهم أحد سوى طائفة من الخيالة والرجالة، فاختلف جيشه فيما بينهم فغشيهم المعز فقتل منهم ستة آلاف، واستقر في ملكه آمنا.

وفيها: تكاتب الأخوان الأفضل من صرخد والظاهر من حلب على أن يجتمعا على حصار دمشق وينزعاها من المعظم بن العادل، وتكون للأفضل، ثم يسيرا إلى مصر فيأخذاها من العادل وابنه الكامل اللذين نقضا العهد وأبطلا خطبة المنصور، ونكثا المواثيق، فإذا أخذا مصر كانت للأفضل وتصير دمشق مضافة إلى الظاهر مع حلب.

فلما بلغ العادل ما تمالآ عليه أرسل جيشا مددا لابنه المعظم عيسى إلى دمشق، فوصلوا إليها قبل وصول الظاهر وأخيه إليها، وكان وصولهما إليها في ذي القعدة من ناحية بعلبك، فنزلا على مسجد القدم واشتد الحصار للبلد، وتسلق كثير من الجيش من ناحية خان القدم، ولم يبق إلا فتح البلد، لولا هجوم الليل.

ثم إن الظاهر بدا له في كون دمشق للأفضل فرأى أن تكون له أولا، ثم إذا فتحت مصر تسلمها الأفضل، فأرسل إليه في ذلك فلم يقبل الأفضل، فاختلفا وتفرقت كلمتهما، وتنازعا الملك بدمشق، فتفرقت الأمراء عنهما، وكوتب العادل في الصلح فأرسل يجيب إلى ما سألا وزاد في إقطاعهما شيئا من بلاد الجزيرة، وبعض معاملة المعرة.

وتفرقت العساكر عن دمشق في محرم سنة ثمان وتسعين، وسار كل منهما إلى ما تسلم من البلاد التي أقطعها وجرت خطوب يطول شرحها، وقد كان الظاهر وأخوه كتبا إلى صاحب الموصل نور الدين أرسلان الأتابكي أن يحاصر مدن الجزيرة التي مع عمهما العادل.

فركب في جيشه وأرسل إلى ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار، واجتمع معهما صاحب ماردين الذي كان العادل قد حاصره وضيق عليه مدة طويلة، فقصدت العساكر حران، وبها الفائز بن العادل، فحاصروه مدة، ثم لما بلغهم وقوع الصلح عدلوا إلى المصالحة، وذلك بعد طلب الفائز ذلك منهم، وتمهدت الأمور واستقرت على ما كانت عليه.

وفيها: ملك غياث الدين وأخوه شهاب الدين الغوريان جميع ما كان يملك خوارزم شاه من البلدان والحواصل والأموال، وجرت لهم خطوب طويلة جدا.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة ابتدأت من بلاد الشام إلى الجزيرة وبلاد الروم والعراق، وكان جمهورها وعظمها بالشام تهدمت منها دور كثيرة، وتخربت محال كثيرة، وخسف بقرية من أرض بصرى، وأما سواحل الشام وغيرها فهلك فيها شيء كثير، وأخربت محال كثيرة من طرابلس وصور وعكا ونابلس.

ولم يبق بنابلس سوى حارة السامرة، ومات بها وبقراها ثلاثون ألفا تحت الردم، وسقط طائفة كثيرة من المنارة الشرقية بدمشق بجامعها، وأربع عشرة شرافة منه، وغالب الكلاسة والمارستان النوري.

وخرج الناس إلى الميادين يستغيثون وسقط غالب قلعة بعلبك مع وثاقه بنيانها، وانفرق البحر إلى قبرص وقد حذف بالمراكب منه إلى ساحله، وتعدى إلى ناحية الشرق فسقط بسبب ذلك دور كثيرة، ومات أمم لا يحصون ولا يعدون حتى قال صاحب (مرآة الزمان):

إنه مات في هذه السنة بسبب الزلزلة نحو ألف ألف ومائة ألف إنسان قتلا تحتها، وقيل إن أحدا لم يحص من مات فيها والله سبحانه أعلم.

وفيها توفي من الأعيان:

عبد الرحمن بن علي ابن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي

[عدل]

نسبة إلى فرضة نهر البصرة - ابن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.

الشيخ الحافظ الواعظ جمال الدين أبو الفرج المشهور بابن الجوزي، القرشي التيمي البغدادي الحنبلي، أحد أفراد العلماء، برز في علوم كثيرة، وانفرد بها عن غيره، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوا من ثلاثمائة مصنف.

وكتب بيده نحوا من مائتي مجلدة، وتفرد بفن الوعظ الذي لم يسبق إليه ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه ونفوذ وعظه وغوصه على المعاني البديعة، وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية، بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك، بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة.

هذا وله في العلوم كلها اليد الطولى، والمشاركات في سائر أنواعها من التفسير والحديث والتاريخ والحساب والنظر في النجوم والطب والفقه وغير ذلك من اللغة والنحو، وله من المصنفات في ذلك ما يضيق هذا المكان عن تعدادها، وحصر أفرادها.

منها: كتابه في التفسير المشهور (بزاد المسير)، وله تفسير أبسط منه ولكنه ليس بمشهور، وله (جامع المسانيد) استوعب به غالب (مسند أحمد) و (صحيحي البخاري ومسلم) و(جامع الترمذي)، وله كتاب (المنتظم في تواريخ الأمم من العرب والعجم) في عشرين مجلدا.

قد أوردنا في كتابنا هذا كثيرا منه من حوادثه وتراجمه، ولم يزل يؤرخ أخبار العالم حتى صار تاريخا وما أحقه بقول الشاعر:

ما زلت تدأب في التاريخ مجتهدا ** حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا

وله مقامات وخطب، وله الأحاديث الموضوعة، وله العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، وغير ذلك.

ولد سنة عشر وخمسمائة، ومات أبوه وعمره ثلاث سنين، وكان أهله تجارا في النحاس، فلما ترعرع جاءت به عمته إلى مسجد محمد بن ناصر الحافظ، فلزم الشيخ وقرأ عليه وسمع عليه الحديث وتفقه بابن الزاغوني، وحفظ الوعظ ووعظ وهو ابن عشرين سنة أو دونها.

وأخذ اللغة عن أبي منصور الجواليقي، وكان وهو صبي دينا مجموعا على نفسه لا يخالط أحدا ولا يأكل ما فيه شبهة، ولا يخرج من بيته إلا للجمعة، وكان لا يلعب مع الصبيان.

وقد حضر مجلس وعظه الخلفاء والوزراء والملوك والأمراء والعلماء والفقراء، ومن سائر صنوف بني آدم، وأقل ما كان يجتمع في مجلس وعظه عشرة آلاف، وربما اجتمع فيه مائة ألف أو يزيدون، وربما تكلم من خاطره على البديهة نظما ونثرا، وبالجملة كان أستاذا فردا في الوعظ وغيره.

وقد كان فيه بهاء وترفع في نفسه وإعجاب وسمو بنفسه أكثر من مقامه، وذلك ظاهر في كلامه في نثره ونظمه، فمن ذلك قوله:

ما زلت أدرك ما غلا بل ما علا ** وأكابد النهج العسير الأطولا

تجري بي الآمال في حلباته ** جري السعيد مدى ما أملا

أفضى بي التوفيق فيه إلى الذي ** أعيا سواي توصلا وتغلغلا

لو كان هذا العلم شخصا ناطقا ** وسألته هل زار مثلي؟ قال: لا

ومن شعره وقيل هو لغيره:

إذا قنعت بميسورٍ من القوت ** بقيت في الناس حرا غير ممقوت

ياقوت يومي إذا ما در حلقك لي ** فلست آسي على درٍ وياقوت

وله من النظم والنثر شيء كثيرا جدا، وله كتاب سماه (لقط الجمان في كان وكان)، ومن لطائف كلامه قوله في الحديث: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» إنما طالت أعمار من قبلنا لطول البادية، فلما شارف الركب بلد الإقامة قيل لهم حثوا المطي.

وقال له رجل أيما أفضل؟ أجلس أسبح أو أستغفر؟

فقال: الثوب الوسخ أحوج إلى البخور.

وسئل عمن أوصى وهو في السياق فقال:

هذا طين سطحه في كانون.

والتفت إلى ناحية الخليفة المستضيء وهو في الوعظ فقال:

يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، وإن قول القائل لك اتق الله خير لك من قوله لكم إنكم أهل بيت مغفور لكم، كان عمر بن الخطاب يقول:

إذا بلغني عن عامل لي أنه ظلم فلم أغيره فأنا الظالم، يا أمير المؤمنين.

وكان يوسف لا يشبع في زمن القحط حتى لا ينسى الجائع، وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول قرقرا ولا تقرقرا، والله لا ذاق عمر سمنا ولا سمينا حتى يخصب الناس.

قال: فبكى المستضيء وتصدق بمال كثير، وأطلق المحابيس وكسى خلقا من الفقراء.

ولد ابن الجوزي في حدود سنة عشر وخمسمائة كما تقدم، وكانت وفاته ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من رمضان من هذه السنة، وله من العمر سبع وثمانون سنة، وحملت جنازته على رؤوس الناس، وكان الجمع كثيرا جدا، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد.

وكان يوما مشهودا، حتى قيل: إنه أفطر جماعة من الناس من كثرة الزحام وشدة الحر، وقد أوصى أن يكتب على قبره هذه الأبيات:

يا كثير العفو يا من ** كثرت ذنبي لديه

جاءك المذنب يرجو الصـ ** ـفح عن جرم يديه

أنا ضيفٌ وجزاء الـ ** ـضيف إحسان إليه

وقد كان من الأولاد الذكور ثلاثة: عبد العزيز - وهو أكبرهم - مات شابا في حياة والده في سنة أربع وخمسين، ثم أبو القاسم علي، وقد كان عاقا لوالده إلبا عليه في زمن المحنة وغيرها، وقد تسلط على كتبه في غيبته بواسط فباعها بأبخس الثمن.

ثم محيي الدين يوسف، وكان أنجب أولاده وأصغرهم ولد سنة ثمانين وخمسمائة ووعظ بعد أبيه، واشتغل وحرر وأتقن وساد أقرانه، ثم باشر حسبة بغداد، ثم صار رسول الخلفاء إلى الملوك بأطراف البلاد، ولا سيما بني أيوب بالشام.

وقد حصل منهم من الأموال والكرامات ما ابتنى به المدرسة الجوزية بالنشابين بدمشق، وما أوقف عليها، ثم حصل له من سائر الملوك أموالا جزيلة، ثم صار أستاذ دار الخليفة المستعصم في سنة أربعين وستمائة، واستمر مباشرها إلى أن قتل مع الخليفة عام هارون تركي بن جنكيز خان.

وكان لأبي الفرج عدة بنات منهن رابعة أم سبطه أبي المظفر بن قزغلي صاحب (مرآة الزمان)، وهي من أجمع التواريخ وأكثرها فائدة، وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات فأثنى عليه وشكر تصانيفه وعلومه.

العماد الكاتب الأصبهاني

[عدل]

محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله بن أله - بتشديد اللام وضمها -، المعروف بالعماد الكاتب الأصبهاني، صاحب المصنفات والرسائل، وهو قرين القاضي الفاضل، واشتهر في زمنه، ومن اشتهر في زمن الفاضل فهو فاضل، ولد بأصبهان في سنة تسع عشرة وخمسمائة.

وقدم بغداد فاشتغل بها على الشيخ أبي منصور سعيد بن الرزاز مدرّس النظامية، وسمع الحديث ثم رحل إلى الشام فحظي عند الملك نور الدين محمود بن زنكي، وكتب بين يديه وولاه المدرسة التي أنشأها داخل باب الفرج التي يقال لها العمادية، نسبة إلى سكناه بها وإقامته فيها، وتدريسه بها، لا أنه أنشأها وإنما أنشأها نور الدين محمود.

ولم يكن هو أول من درّس بها، بل قد سبقه إلى تدريسها غير واحد، كما تقدم في ترجمة نور الدين، ثم صار العماد كاتبا في الدولة الصلاحية وكان الفاضل يثني عليه ويشكره.

قالوا: وكان منطوقه يعتريه جمود وفترة، وقريحته في غاية الجودة والحدة، وقد قال القاضي الفاضل لأصحابه يوما: قولوا فتكلموا وشبهوه في هذه الصفة بصفات فلم يقبلها القاضي.

وقال: هو كالزناد ظاهره بارد وداخله نار، وله من المصنفات الجريدة (جريدة النصر في شعراء العصر) و(الفتح القدسي)، و(البرق الشامي)، وغير ذلك من المصنفات المسجعة، والعبارات المتنوعة والقصائد المطولة.

توفي في مستهل رمضان من هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة، ودفن بمقابر الصوفية.

الأمير بهاء الدين قراقوش

[عدل]

الفحل الخصي، أحد كبار كتاب أمراء الدولة الصلاحية، كان شهما شجاعا فاتكا.

تسلم القصر لما مات العاضد وعمر سور القاهرة محيطا على مصر أيضا، وانتهى إلى المقسم وهو المكان الذي اقتسمت فيه الصحابة ما غنموا من الديار المصرية، وبنى قلعة الجبل، وكان صلاح الدين سلمه عكا ليعمر فيها أماكن كثيرة فوقع الحصار وهو بها.

فلما خرج البدل منها كان هو من جملة من خرج، ثم دخلها ابن المشطوب.

وقد ذكر أنه أسر فافتدى نفسه بعشرة آلاف دينار، وعاد إلى صلاح الدين ففرح به فرحا شديدا، ولما توفي في هذه السنة احتاط العادل على تركته وصارت أقطاعه وأملاكه للملك الكامل محمد بن العادل.

قال ابن خلكان: وقد نسب إليه أحكام عجيبة، حتى صنف بعضهم جزءا لطيفا سماه كتاب (الفاشوش في أحكام قراقوش)، فذكر أشياء كثيرة جدا، وأظنها موضوعة عليه، فإن الملك صلاح الدين كان يعتمد عليه، فكيف يعتمد على من بهذه المثابة والله أعلم.

مكلبة بن عبد الله المستنجدي

[عدل]

كان تركيا عابدا زاهدا، سمع المؤذن وقت السحر وهو ينشد على المنارة:

يا رجال الليل جدوا ** رب صوت لا يرد

ما يقوم الليل إلا ** من له عزمٌ و جد

فبكى مكلبة وقال للمؤذن: يا مؤذن زدني، فقال:

قد مضى الليل وولى ** وحبيبي قد تخلا

فصرخ مكلبة صرخة كان فيها حتفه، فأصبح أهل البلد قد اجتمعوا على بابه فالسعيد منهم من وصل إلى نعشه رحمه الله تعالى.

أبو منصور بن أبي بكر بن شجاع

[عدل]

المركلسي ببغداد، ويعرف بابن نقطة، كان يدور في أسواق بغداد بالنهار ينشد كان وكان والمواليا، ويسحر الناس في ليالي رمضان، وكان مطبوعا ظريفا خليعا، وكان أخوه الشيخ عبد الغني الزاهد من أكابر الصالحين، له زاوية ببغداد يزار فيها.

وكان له أتباع ومريدون، ولا يدخر شيئا يحصل له من الفتوح، تصدق في ليلة بألف دينار وأصحابه صيام لم يدخر منها شيئا لعشائهم، وزوجته أم الخليفة بجارية من خواصها وجهزتها بعشرة آلاف دينار إليه فما حال الحول وعندهم من ذلك شيء سوى هاون، فوقف سائل ببابه فألح في الطلب فأخرج إليه الهاون فقال: خذ هذا وكل به ثلاثين يوما، ولا تسأل الناس ولا تشنع على الله عز وجل.

هذا الرجل من خيار الصالحين، والمقصود أنه قال لأخيه أبي منصور: ويحك أنت تدور في الأسواق وتنشد الأشعار وأخوك من قد عرفت؟

فأنشأ يقول في جواب ذلك بيتين مواليا من شعره على البديهة:

قد خاب من شبه الجزعة إلى درةٍ ** وقاس قحبةً إلى مستحييةٍ حره

أنا مغني وأخي زاهد إلى مرةٍ ** في الدر ببرى ذي حلوة وذي مره

وقد جرى عنده مرة ذكر قتل عثمان وعلي حاضر فأنشأ يقول كان وكان، ومن قتل في جواره مثل ابن عفان فاعتذر، يجب عليه أن يقبل في الشام عذر يزيد، فأرادت الروافض قتله فاتفق أنه بعض الليالي يسحر الناس في رمضان إذ مر بدار الخليفة فعطس الخليفة في الطارقة فشمّته أبو منصور هذا من الطريق، فأرسل إليه مائة دينار، ورسم بحمايته من الروافض، إلى أن مات في هذه السنة رحمه الله.

وفيها توفي مسند الشام:

أبو طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر

[عدل]

الخشوعي، شارك ابن عساكر في كثير من مشيخته، وطالت حياته بعد وفاته بسبع وعشرين سنة فألحق فيها الأحفاد بالأجداد.

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة

[عدل]

فيها: شرع الشيخ أبو عمر محمد بن قدامة باني المدرسة بسفح قاسيون، في بناء المسجد الجامع بالسفح، فاتفق عليه رجل يقال له الشيخ أبو داود محاسن الغامي، حتى بلغ البناء مقدار قامة فنفد ما عنده، وما كان معه من المال.

فأرسل الملك المظفر كوكري بن زين الدين صاحب إربل مالا جزيلا ليتمه به، فكمل وأرسل ألف دينار ليساق بها إليه الماء من بردى، فلم يمكن من ذلك الملك المعظم صاحب دمشق، واعتذر بأن هذا فرش قبور كثيرة للمسلمين، فصنع له بئر وبغل يدور، ووقف عليه وقفا لذلك.

وفيها: كانت حروب كثيرة وخطوب طويلة بين الخوارزمية والغورية ببلاد المشرق بسطها ابن الأثير واختصرها ابن كثير.

وفيها: درس بالنظامية مجد الدين يحيى بن الربيع وخلع عليه خلعة سنية سوداء وطرحة كحلي، وحضر عنده العلماء والأعيان.

وفيها: تولى القضاء ببغداد أبو الحسن علي بن سليمان الجيلي وخلع عليه أيضا.

وفيها توفي من الأعيان:

القاضي ابن الزكي

[عدل]

محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن عبد العزيز أبو المعالي القرشي، محيي الدين قاضي قضاة دمشق وكل منهما كان قاضيا أبوه وجده وأبو جده يحيى بن علي، وهو أول من ولي الحكم بدمشق منهم، وكان هو جد الحافظ أبي القاسم بن عساكر لأمه، وقد ترجمه ابن عساكر في التاريخ ولم يزد على القرشي.

قال الشيخ أبو شامة: ولو كان أمويا عثمانيا كما يزعمون لذكر ذلك ابن عساكر، إذ كان فيه شرف لجده وخاليه محمد وسلطان، فلو كان ذلك صحيحا لما خفي على ابن عساكر، اشتغل ابن الزكي على القاضي شرف الدين أبي سعد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون، وناب عنه في الحكم، وهو أول من ترك النيابة، وهو أول من خطب بالقدس لما فتح كما تقدم.

ثم تولى قضاء دمشق وأضيف إليه قضاء حلب أيضا، وكان ناظر أوقاف الجامع، وعزل عنها قبل وفاته بشهور ووليها شمس الدين بن الليثي ضمانا، وقد كان ابن الزكي ينهى الطلبة عن الاشتغال بالمنطق وعلم الكلام، ويمزق كتب من كان عنده شيء من ذلك بالمدرسة النورية.

وكان يحفظ العقيدة المسماة (بالمصباح) للغزالي، ويحفظها أولاده أيضا، وكان له درس في التفسير يذكره بالكلاسة، تجاه تربة صلاح الدين، ووقع بينه وبين الإسماعيلية فأرادوا قتله فاتخذ له بابا من داره إلى الجامع ليخرج منه إلى الصلاة.

ثم إنه خولط في عقله، فكان يعتريه شبه الصرع إلى أن توفي في شعبان من هذه السنة، ودفن بتربته بسفح قاسيون ويقال إن الحافظ عبد الغني دعا عليه فحصل له هذا الداء العضال، ومات، وكذلك الخطيب الدولعي توفي فيها وهما اللذان قاما على الحافظ عبد الغنى فماتا في هذه السنة، فكانا عبرة لغيرهما.

الخطيب الدولعي

[عدل]

ضياء الدين أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين الثعلبي الدولعي، نسبة إلى قرية بالموصل، يقال لها الدولعية، ولد بها في سنة ثمان عشرة وخمسمائة، وتفقه ببغداد على مذهب الشافعي وسمع الحديث فسمع الترمذي على أبي الفتح الكروخي والنسائي على أبي الحسن علي بن أحمد البردي، ثم قدم دمشق فولى بها الخطابة وتدريس الغزالية.

وكان زاهدا متورعا حسن الطريقة مهيبا في الحق، توفي يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الأول، ودفن بمقبرة باب الصغير عند قبور الشهداء، وكان يوم جنازته يوما مشهودا.

وتولى بعده الخطابة ولد أخيه محمد بن أبي الفضل بن زيد سبعا وثلاثين سنة، وقيل ولده جمال الدين محمد.

وقد كان ابن الزكي ولى ولده الزكي فصلى صلاة واحدة فتشفع جمال الدين بالأمير علم الدين أخي العادل، فولاه إياها فبقي فيها إلى أن توفي سنة خمس وثلاثين وستمائة.

الشيخ علي بن علي بن عليش

[عدل]

اليمني العابد الزاهد، كان مقيما شرقي الكلاسة، وكانت له أحوال وكرامات، نقلها الشيخ علم الدين السخاوي عنه، ساقها أبو شامة عنه.

الصدر أبو الثناء حماد بن هبة الله

[عدل]

ابن حماد الحراني، التاجر، ولد سنة إحدى عشرة عام نور الدين الشهيد، وسمع الحديث ببغداد ومصر وغيرها من البلاد، وتوفي في ذي الحجة، ومن شعره قوله:

تنقُّل المرء في الآفاق يكسبه ** محاسنا لم يكن منها ببلدته

أما ترى البيدق الشطرنج أكسبه ** حسن التنقّل حسنا فوق زينته

الست الجليلة ينفشا بنت عبد الله

[عدل]

عتيقة المستضيء، كانت من أكبر حظاياه، ثم صارت بعده من أكثر الناس صدقة وبرا وإحسانا إلى العلماء والفقراء، لها عند تربتها ببغداد عند تربة معروف الكرخي صدقات وبر.

ابن المحتسب الشاعر أبو السكر

[عدل]

محمود بن سليمان بن سعيد الموصلي يعرف بابن المحتسب، تفقه ببغداد ثم سافر إلى البلاد وصحب ابن الشهرزوري وقدم معه، فلما ولي قضاء بغداد ولاه نظر أوقاف النظامية، وكان يقول الشعر، وله أشعار في الخمر لا خير فيها تركتها تنزها عن ذلك، وتقذرا لها.

ثم دخلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة

[عدل]

قال سبط ابن الجوزي في مرآته: في ليلة السبت سلخ المحرم هاجت النجوم في السماء وماجت شرقا وغربا، وتطايرت كالجراد المنتشر يمينا وشمالا، قال: ولم ير مثل هذا إلا في عام المبعث، وفي سنة إحدى وأربعين ومائتين..

وفيها: شرع بعمارة سور قلعة دمشق وابتدئ ببرج الزاوية الغربية القبلية المجاور لباب النصر.

وفيها: أرسل الخليفة الناصر الخلع وسراويلات الفتوة إلى الملك العادل وبنيه.

وفيها بعث العادل ولده موسى الأشرف لمحاصرة ماردين، وساعده جيش سنجار والموصل ثم وقع الصلح على يدي الظاهر، على أن يحمل صاحب ماردين في كل سنة مائة ألف وخمسين ألف دينار، وأن تكون السكة والخطبة للعادل، وأنه متى طلبه بجيشه يحضر إليه.

وفيها: كمل بناء رباط الموريانية، ووليه الشيخ شهاب الدين عمر بن محمد الشهرزوري، ومعه جماعة من الصوفية، ورتب لهم من المعلوم والجراية ما ينبغي لمثلهم. وفيها: احتجر الملك العادل على محمد بن الملك العزيز وإخوته وسيرهم إلى الرها خوفا من آفائهم بمصر.

وفيها: استحوذت الكرج على مدينة دوين فقتلوا أهلها ونهبوها، وهي من بلاد أذربيجان، لاشتغال ملكها بالفسق وشرب الخمر قبحه الله، فتحكمت الكفرة في رقاب المسلمين بسببه، وذلك كله غل في عنقه يوم القيامة.

وفيها توفي:

الملك غياث الدين الغوري أخو شهاب الدين

[عدل]

فقام بالملك بعده ولده محمود، وتلقب بلقب أبيه، وكان غياث الدين عاقلا حازما شجاعا، لم تكسر له راية مع كثرة حروبه، وكان شافعي المذهب، ابتنى مدرسة هائلة للشافعية، وكانت سيرته حسنة في غاية الجودة.

وفيها توفي من الأعيان:

الأمير علم الدين أبو منصور

[عدل]

سليمان بن شيروه بن جندر أخو الملك العادل لأبيه، في تاسع عشر من المحرم، ودفن بداره التي خطها مدرسة في داخل باب الفراديس في محلة الافتراس، ووقف عليها الحمام بكمالها تقبل الله منه.

القاضي الضياء الشهرزوري

[عدل]

أبو الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري الموصلي، قاضي قضاة بغداد، وهو ابن أخي قاضي قضاة دمشق كمال الدين الشهرزوري، أيام نور الدين. ولما توفي سنة ست وسبعين في أيام صلاح الدين أوصى لولد أخيه هذا بالقضاء فوليه، ثم عزل عنه بابن أبي عصرون، وعوض بالسفارة إلى الملوك، ثم تولى قضاء بلدة الموصل، ثم استدعى إلى بغداد فوليها سنتين وأربعة أشهر، ثم استقال الخليفة فلم يقله لحظوته عنده، فاستشفع في زوجته ست الملوك على أم الخليفة، وكان لها مكانة عندها، فأجيب إلى ذلك فصار إلى قضاء حماه لمحبته إياها، وكان يعاب عليه ذلك، وكانت لديه فضائل وله أشعار رائقة، توفي في حماه في نصف رجب منها.

عبد الله بن علي بن نصر بن حمزة

[عدل]

أبو بكر البغدادي المعروف بابن المرستانية، أحد الفضلاء المشهورين. سمع الحديث وجمعه، وكان طبيبا منجما يعرف علوم الأوائل وأيام الناس، وصنف ديوان الإسلام في تاريخ دار السلام، ورتبه على ثلاثمائة وستين كتابا إلا أنه لم يشتهر، وجمع سيرة ابن هبيرة، وقد كان يزعم أنه من سلالة الصديق فتكلموا فيه بسبب ذلك. وأنشد بعضهم:

دع الأنساب لا تعرض لتيم ** فإن الهجن من ولد الصميم

لقد أصبحت من تيم دعيا ** كدعوى حيص بيص إلى تميم

ابن النجا الواعظ

[عدل]

علي بن إبراهيم بن نجا زين الدين أبو الحسن الدمشقي، الواعظ الحنبلي، قدم بغداد فتفقه بها وسمع الحديث ثم رجع إلى بلده دمشق، ثم عاد إليها رسولا من جهة نور الدين في سنة أربع وستين، وحدث بها، ثم كانت له حظوة عند صلاح الدين، وهو الذي نم على عمارة اليمني وذويه فصلبوا، وكانت له مكانة بمصر، وقد تكلم يوم الجمعة التي خطب فيها بالقدس بعد الفراغ من الجمعة، وكان وقتا مشهودا، وكان يعيش عيشا أطيب من عيش الملوك في الأطعمة والملابس، وكان عنده أكثر من عشرين سرية من أحسن النساء، كل واحدة بألف دينار، فكان يطوف عليهن ويغشاهن وبعد هذا كله مات فقيرا لم يخلف كفنا، وقد أنشد وهو على منبره للوزير طلائع بن زريك:

مشيبك قد قضى شرخ الشباب ** وحل الباز في وكر الغراب

تنام ومقلة الحدثان يقظى ** وما ناب النوائب عنك ناب

فكيف بقاء عمرك وهو كنز ** وقد أنفقت منه بلا حساب؟

الشيخ أبو البركات محمد بن أحمد بن سعيد التكريتي

[عدل]

يعرف بالمؤيد، كان أديبا شاعرا. ومما نظمه في الوجيه النحوي حين كان حنبليا فانتقل حنفيا، ثم صار شافعيا، نظم ذلك في حلقة النحو بالنظامية فقال:

ألا مبلغا عني الوجيه رسالة ** وإن كان لا تجدي لديه الرسائل

تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ** وذلك لما أعوزتك المآكل

وما اخترت قول الشافعي ديانة ** ولكنما تهوى الذي هو حاصل

وعما قليل أنت لا شك صائر ** إلى مالك فانظر إلى ما أنت قائل؟

الست الجيلية زمرد خاتون

[عدل]

أم الخليفة الناصر لدين الله زوجة المستضيئ، كانت صالحة عابدة كثيرة البر والإحسان والصلات والأوقاف، وقد بنت لها تربة إلى جانب قبر معروف، وكانت جنازتها مشهورة جدا، واستمر العزاء بسببها شهرا، عاشت في خلافة ولدها أربعا وعشرين سنة نافذة الكلمة مطاعة الأوامر.

وفيها: كان مولد الشيخ شهاب الدين أبي شامة، وقد ترجم نفسه عند ذكر مولده في هذه السنة في الذيل ترجمة مطولة، فينقل إلى سنة وفاته، وذكر بدو أمره واشتغاله ومصنفاته وشيئا كثيرا من شعاره، وما رئي له من المنامات المبشرة.

وفيها: كان ابتداء ملك جنكيز خان ملك التتار، عليه من الله ما يستحقه، وهو صاحب الباسق وضعها ليتحاكموا إليها - يعني التتار ومن معهم من أمراء الترك - ممن يبتغي حكم الجاهلية - وهو والد تولى، وجد هولاكو بن تولى - الذي قتل الخليفة المستعصم وأهل بغداد في سنة ست وخمسين وستمائة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في موضعه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

سنة ستمائة من الهجرة

[عدل]

في هذه السنة كانت الفرنج قد جمعوا خلقا منهم ليستعيدوا بيت المقدس من أيدي المسلمين، فأشغلهم الله عن ذلك بقتال الروم، وذلك أنهم اجتازوا في طريقهم بالقسطنطينية فوجدوا ملوكها قد اختلفوا فيما بينهم، فحاصروها حتى فتحوها قسرا، وأباحوها ثلاثة أيام قتلا وأسرا، وأحرقوا أكثر من ربعها، وما أصبح أحد من الروم في هذه الأيام الثلاثة إلا قتيلا أو فقيرا أو مكبولا أو أسيرا، ولجأ عامة من بقي منها إلى كنيستها العظمى المسماة بأياصوفيا، فقصدهم الفرنج فخرج إليهم القسيسون بالأناجيل ليتوسلوا إليهم ويتلوا ما فيها عليهم، فما التفتوا إلى شيء من ذلك، بل قتلوهم أجمعين أكتعين أبصعين. وأخذوا ما كان في الكنيسة من الحلي والأذهاب والأموال التي لا تحصى ولا تعد، وأخذوا ما كان على الصلبان والحيطان، والحمد لله الرحيم الرحمن، الذي ما شاء كان، ثم اقترع ملوك الفرنج وكانوا ثلاثة وهم دوق البنادقة، وكان شيخا أعمى يقاد فرسه، ومركيس الإفرنسيس وكندا بلند، وكان أكثرهم عددا وعددا. فخرجت القرعة له ثلاث مرات فولوه ملك القسطنطينية وأخذ الملكان الآخران بعض البلاد، وتحول الملك من الروم إلى الفرنج بالقسطنطينية في هذه السنة ولم يبق بأيدي الروم هناك إلا ما وراء الخليج، استحوذ عليه رجل من الروم يقال له تسكرى، ولم يزل مالكا لتلك الناحية حتى توفي.

ثم إن الفرنج قصدوا بلاد الشام وقد تقووا بملكهم القسطنطينية فنزلوا عكا وأغاروا على كثير من بلاد الإسلام من ناحية الغور وتلك الأراضي، فقتلوا وسبوا، فنهض إليهم العادل وكان بدمشق، واستدعى الجيوش المصرية والشرقية ونازلهم بالقرب من عكا، فكان بينهم قتال شديد وحصار عظيم، ثم وقع الصلح بينهم والهدنة وأطلق لهم شيئا من البلاد فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: جرت حروب كثيرة بين الخوارزمية والغورية بالمشرق يطول ذكرها.

وفيها: تحارب صاحب الموصل نور الدين وصاحب سنجار قطب الدين وساعد الأشرف بن العادل القطب، ثم اصطلحوا وتزوج الأشرف أخت نور الدين، وهي الأتابكية بنت عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واقفة الأتابكية التي بالسفح، وبها تربتها.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة بمصر والشام والجزيرة وقبرص وغيرها من البلاد. قاله ابن الأثير في (كامله).

وفيها: تغلب رجل من التجار يقال له محمود بن محمد الحميري على بعض بلاد حضرموت ظفار وغيرها، واستمرت أيامه إلى سنة تسع عشرة وستمائة وما بعدها.

وفي جمادى الأولى منها عقد مجلس لقاضي القضاة ببغداد وهو أبو الحسن علي بن عبد الله بن سليمان الجيلي بدار الوزير، وثبت عليه محضر بأنه يتناول الرشا فعزل في ذلك المجلس وفسق ونزعت الطرحة عن رأسه، وكانت مدة ولايته سنتين وثلاثة أشهر.

وفيها كانت وفاة الملك ركن الدين بن قلج أرسلان كان ينسب إلى اعتقاد الفلاسفة، وكان كهفا لمن ينسب إلى ذلك، وملجأ لهم، وظهر منه قبل موته تجهرم عظيم، وذلك أنه حاصر أخاه شقيقه - وكان صاحب أنكورية، وتسمى أيضا أنقرة - مدة سنين حتى ضيق عليه الأقوات بها فسلمها إليه قسرا، على أن يعطيه بعض البلاد.

فلما تمكن منه ومن أولاده أرسل إليهم من قتلهم غدرا وخديعة ومكرا فلم ينظر بعد ذلك إلا خمسة أيام فضربه الله تعالى بالقولنج سبعة أيام ومات { فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } 6

وقام بالملك من بعده ولده أفلح أرسلان، وكان صغيرا فبقي سنة واحدة، ثم نزع منه الملك وصار إلى عمه كنخسروا.

وفيها: قتل خلق كثير من الباطنية بواسط.

قال ابن الأثير: في رجب منها اجتمع جماعة من الصوفية برباط ببغداد في سماع فأنشدهم، وهو الجمال الحلي:

أعاذلتي أقصري ** كفى بمشيبي عذل

شباب كأن لم يكن ** وشيب كأن لم يزل

وبثي ليال الوصا ** ل أواخرها والأول

وصفرة لون المحبـ ** ـب عند استماع الغزل

لئن عاد عتبي لكم ** حلالي العيش واتصل

فلست أبالي بما نالني ** ولست أبالي بأهل ومل

قال فتحرك الصوفية على العادة فتواجد من بينهم رجل يقال له أحمد الرازي فخر مغشيا عليه، فحركوه فإذا هو ميت. قال: وكان رجلا صالحا، وقال ابن الساعي كان شيخا صالحا صحب الصدر عبد الرحيم شيخ الشيوخ فشهد الناس جنازته، ودفن بباب إبرز.

وفيها توفي من الأعيان:

أبو القاسم بهاء الدين الحافظ ابن الحافظ أبو القاسم علي بن هبة الله بن عساكر

[عدل]

كان مولده في سنة سبع وعشرين وخمسمائة، أسمعه أبوه الكثير، وشارك أباه في أكثر مشايخه، وكتب تاريخ أبيه مرتين بخطه، وكتب الكثير وأسمع وصنف كتبا عدة، وخلف أباه في إسماع الحديث بالجامع الأموي، ودار الحديث النورية.

مات يوم الخميس ثامن صفر ودفن بعد العصر على أبيه بمقابر باب الصغير شرقي قبور الصحابة خارج الحظيرة.

الحافظ عبد الغني المقدسي

[عدل]

ابن عبد الواحد بن علي بن سرور الحافظ أبو محمد المقدسي، صاحب التصانيف المشهورة، من ذلك الكمال في أسماء الرجال، والأحكام الكبرى والصغرى وغير ذلك، ولد بجماعيل في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وهو أسن من عميه الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، والشيخ أبي عمر، بأربعة أشهر،

وكان قدومهما مع أهلهما من بيت المقدس إلى مسجد أبي صالح، خارج باب شرقي أولا، ثم انتقلوا إلى السفح فعرفت محلة الصالحية بهم، فقيل لها الصالحية فسكنوا الدير، وقرأ الحافظ عبد الغني القرآن وسمع الحديث وارتحل هو والموفق إلى بغداد سنة ستين وخمسمائة، فأنزلهما الشيخ عبد القادر عنده في المدرسة، وكان لا يترك أحدا ينزل عنده، ولكن توسم فيهما الخير والنجابة والصلاح فأكرمهما وأسمعهما.

ثم توفي بعد مقدمهما بخمسين ليلة رحمه الله، وكان ميل عبد الغني إلى الحديث وأسماء الرجال، وميل الموفق إلى الفقه واشتغلا على الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وعلى الشيخ أبي الفتح ابن المنى، ثم قدما دمشق بعد أربع سنين فدخل عبد الغني إلى مصر وإسكندرية، ثم عاد إلى دمشق، ثم ارتحل إلى الجزيرة وبغداد، ثم رحل إلى أصبهان فسمع بها الكثير، ووقف على مصنف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة.

قلت: وهو عندي بخط أبي نعيم. فأخذ في مناقشته في أماكن من الكتاب في مائة وتسعين موضعا، فغضب بنو الخجندي من ذلك، فبغضوه وأخرجوه منها مختفيا في إزار. ولما دخل في طريقه إلى الموصل سمع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفية بسبب أبي حنيفة، فخرج منها أيضا خائفا يترقب، فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديث بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلة من جامع دمشق، فاجتمع الناس عليه وإليه، وكان رقيق القلب سريع الدمعة، فحصل له قبول من الناس جدا، فحسده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشقة من الشافعية وبعض الحنابلة، وجهزوا الناصح الحنبلي، فتكلم تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهر بصوته مهما أمكنه، حتى يشوش عليه فحول عبد الغني ميعاده إلى بعد العصر، فذكر يوما عقيدته على الكرسي فثار عليه القاضي ابن الزكي، وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلسا في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين.

وتكلموا معه في مسألة العلو ومسألة النزول، ومسألة ا لحرف والصوت، وطال الكلام وظهر عليهم بالحجة، فقال له برغش نائب القلعة: كل هؤلاء على الضلالة وأنت على الحق؟ قال: نعم، فغضب برغش من ذلك وأمره بالخروج من البلد.

فارتحل بعد ثلاث إلى بعلبك، ثم إلى القاهرة، فآواه الطحانيون فكان يقرأ الحديث بها فثار عليه الفقهاء بمصر أيضا، وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر فأقر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وله سبع وخمسون سنة، ودفن بالقرافة عند الشيخ أبي عمرو بن مرزوق رحمهما الله.

قال السبط: كان عبد الغني ورعا زاهدا عابدا، يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة كورد الإمام أحمد، ويقوم الليل ويصوم عامة السنة، وكان كريما جوادا لا يدخر شيئا، ويتصدق على الأرامل والأيتام حيث لا يراه أحد، وكان يرقع ثوبه ويؤثر بثمن الجديد، وكان قد ضعف بصره من كثرة المطالعة والبكاء وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ.

قلت: وقد هذب شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي كتابه الكمال في أسماء الرجال - رجال الكتب الستة - بتهذيبه الذي استدرك عليه فيه أماكن كثيرة، نحوا من ألف موضع، وذلك الإمام المزي الذي لا يمارى ولا يجارى، وكتابه التهذيب لم يسبق إلى مثله، ولا يلحق في شكله فرحمهما الله،

فلقد كانا نادرين في زمانهما في أسماء الرجال حفظا وإتقانا وسماعا وإسماعا وسردا للمتون وأسماء الرجال، والحاسد لا يفلح ولا ينال منالا طائلا.

قال ابن الأثير وفيها توفي:

أبو الفتوح أسعد بن محمود العجلي

[عدل]

صاحب تتمة التتمة أسعد بن أبي الفضل بن محمود بن خلف العجلي الفقيه الشافعي الأصبهاني الواعظ منتخب الدين، سمع الحديث وتفقه وبرع وصنف تتمة التتمة لأبي سعد الهروي، كان زاهدا عابدا، وله شرح مشكلات الوسيط والوجيز، توفي في صفر سنة ستمائة.

البناني الشاعر أبو عبد الله محمد بن المهنا الشاعر المعروف بالبناني

[عدل]

مدح الخلفاء والوزراء وغيرهم، ومدح وكبر وعلت سنه، وكان رقيق الشعر ظريفه قال:

ظلما ترى مغرما في الحب تزجره ** وغيره بالهوى أمسيت تنكره

يا عاذل الصب لو عانيت قاتله ** لو جنة وعذار كنت تعذره

أفدى الذي بسحر عينيه يعلمني ** إذا تصدى لقتلي كيف أسحره

يستمتع الليل في نوم وأسهره ** إلى الصباح وينساني وأذكره

أبو سعيد الحسن بن خلد

[عدل]

ابن المبارك النصراني المازداني الملقب بالوحيد، اشتغل في حداثته بعلم: الأوائل وأتقنه وكانت له يد طولى في الشعر الرائق، فمن ذلك قوله قاتله الله:

أتاني كتاب أنشأته أنامل ** حوت أبحرا من فيضها يغرق البحر

فوا عجبا أني التوت فوق طرسه ** وما عودت بالقبض أنمله العشر

وله أيضا:

لقد أثرت صدغاه في لون خده ** ولاحا كفئ من وراء جاج

ترى عسكرا للروم في الريح مذ بدت ** كطائفة تسعى ليوم هياج

أم الصبح بالليل البهيم موشح ** حكى آبنوسا في صحيفة عاج

لقد غار صدغاه على ورد خده ** فسيجه من شعره بسياج

الطاووسي صاحب الطريقة.

العراقي محمد بن العراقي

[عدل]

ركن الدين أبو الفضل القزويني، ثم الهمداني، المعروف بالطاووسي كان بارعا في علم الخلاف والجدل والمناظرة، أخذ علم ذلك عن رضي الدين النيسابوري الحنفي، وصنف في ذلك ثلاث تعاليق قال ابن خلكان: أحسنهن الوسطى، وكانت إليه الرحلة بهمدان، وقد بنى له بعض الحجبة بها مدرسة تعرف بالحاجبية، ويقال إنه منسوب إلى طاووس بن كيسان التابعي فالله أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى وستمائة

[عدل]

فيها عزل الخليفة ولده محمد الملقب بالظاهر عن ولاية العهد بعد ما خطب له سبعة عشر سنة، وولى العهد ولده الآخر عليا، فمات علي عن قريب فعاد الأمر إلى الظاهر، فبويع له بالخلافة بعد أبيه الناصر كما سيأتي في سنة ثلاث وعشرين وستمائة.

وفيها: وقع حريق عظيم بدار الخلافة في خزائن السلاح، فاحترق من ذلك شيء كثير من السلاح والمتعة والمساكن ما يقارب قيمته أربعة آلاف ألف دينار؛ وشاع خبر هذا الحريق في الناس، فأرسلت الملوك من سائر الأقطار هدايا أسلحة إلى الخليفة عوضا عن ذلك وفوقه من ذلك شيئا كثيرا.

وفيها: عاثت الكرج ببلاد المسلمين فقتلوا خلقا، وأسروا آخرين.

وفيها: وقعت الحرب بين أمير مكة قتادة الحسيني، وبين أمير المدينة سالم بن قاسم الحسيني، وكان قتادة قد قصد المدينة فحصر سالما، فيها فركب إليه سالم بعد ما صلى عندا لحجرة فاستنصر الله عليه، ثم برز إليه فكسره وساق وراءه إلى مكة فحصره بها، ثم إن قتادة أرسل إلى أمراء سالم فأفسدهم عليه فكر سالم راجعا إلى المدينة سالما.

وفيها: ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج بلاد الروم واستلبها من ابن أخيه واستقر هو بها وعظم شأنه وقويت شوكته، وكثرت عساكره وأطاعه الأمراء وأصحاب الأطراف، وخطب له الأفضل بن صلاح الدين بسميساط، وسار إلى خدمته.

واتفق في هذه السنة أن رجلا ببغداد نزل إلى دجلة يسبح فيها وأعطى ثيابه لغلامه فغرق في الماء فوجد في ورقة بعمامته هذه الأبيات:

يا أيها الناس كان لي أمل ** قصر بي عن بلوغه الأجل

فليتق الله ربه رجل ** أمكنه في حياته العمل

ما أنا وحدي بفناء بيت ** يرى كل إلى مثله سينتقل

وفيها توفي من الأعيان:

أبو الحسن علي بن عنتر بن ثابت الحلي

[عدل]

المعروف بشميم، كان شيخا أديبا لغويا شاعرا جمع من شعره حماسة كان يفضلها على حماسة أبي تمام، وله خمريات يزعم أنها أفحل من التي لأبي نواس. قال أبو شامة في الذيل: كان قليل الدين ذا حماقة ورقاعة وخلاعة، وله حماسة ورسائل. قال ابن الساعي: قدم بغداد فأخذ النحو عن ابن الخشاب، حصل منه طرفا صالحا، ومن اللغة وأشعار العرب، ثم أقام بالموصل حتى توفي بها. ومن شعره:

لا تسرحن الطرف في مقل المها ** فمصارع الآجال في الآمال

كم نظرة أردت وما أخرت ** وكم يد قبلت أوان قتال

سنحت وما سمحت بتسليمة ** وأغلال التحية فعلة المحتال

وله في التجنيس:

ليت من طول بالشـ ** ـأ م ثواه وثوابه

جعل العود إلى الزو **راء من بعض ثوابه

أترى يوطئني الده ** ر ثرى مسك ترابه

وأراني نور عيني ** موطئا لي وثرى به

وله أيضا في الخمر وغيره:

أبو نصر محمد بن سعد الله ابن نصر بن سعيد الأرتاحي

[عدل]

كان سخيا بهيا واعظا حنبليا فاضلا شاعرا مجيدا وله:

نفس الفتى إن أصلحت أحوالها ** كان إلى نيل المنى أحوى لها

وإن تراها سددت أقوالها ** كان على حمل العلى أوقى لها

فإن تبدت حال من لها لها ** في قبره عند البلى لها لها

أبو العباس أحمد بن مسعود ابن محمد القرطبي الخزرجي

[عدل]

كان إماما في التفسير والفقه والحساب والفرائض والنحو واللغة والعروض والطب، وله تصانيف حسان، وشعر رائق منه قوله:

وفي الوجنات ما في الروض لكن ** لرونق زهرها معنى عجيب

وأعجب ما التعجب منه ** أنى لتيار تحمله عصيب

أبو الفداء إسماعيل بن برتعس السنجاري

[عدل]

مولى صاحبها عمادا لدين زنكي بن مودود، وكان جنديا حسن الصورة مليح النظم كثير الأدب ومن شعره ما كتب به إلى الأشرف موسى بن العادل يعزيه في أخ له اسمه يوسف:

دموع المعالي والمكارم أذرفت ** وربع العلى قاع لفقدك صفصف

غدا الجود والمعروف في اللحد ثاويا ** غداة ثوى في ذلك اللحد يوسف

متى خطفت يد المنية روحه ** وقد كان للأرواح بالبيض يخطف

سقته ليالي الدهر كأس حمامها ** وكان بسقي الموت في الحرب يعرف

فوا حسرتا لو ينفع الموت حسرة ** ووا أسفا لو كان يجدي التأسف

وكان على الأرزاء نفسي قوية ** ولكنها عن حمل ذا الرزء تضعف

أبو الفضل بن إلياس بن جامع الأربلي

[عدل]

تفقه بالنظامية وسمع الحديث، وصنف التاريخ وغيره، وتفرد بحسن كتابة الشروط، وله فضل ونظم، فمن شعره:

أممرض قلبي، ما لهجرك آخر؟** ومسهر طرفي، هل خيالك زائر؟

ومستعذب التعذيب جورا بصده ** أما لك في شرع المحبة زاجر؟

هنيئا لك القلب الذي قد وقفته ** على ذكر أيامي وأنت مسافر

فلا فارق الحزن المبرح خاطري ** لبعدك حتى يجمع الشمل قادر

فإن مت فالتسليم مني عليكم ** يعاودكم ما كبر الله ذاكر

أبو السعادات الحلي

[عدل]

التاجر البغدادي الرافضي، كان في كل جمعة يلبس لأمة الحرب ويقف خلف باب داره،

والباب مجاف عليه، والناس في صلاة الجمعة، وهو ينتظر أن يخرج صاحب الزمان من سرداب سامرا -يعني محمد بن الحسن العسكري -ليميل بسيفه في الناس نصرة للمهدي.

أبو غالب بن كمنونة اليهودي

[عدل]

الكاتب، كان يزور على خط ابن مقلة من قوة خطه، توفي لعنه الله بمطمورة واسط، ذكره ابن الساعي: في تاريخه.

ثم دخلت سنة ثنتين وستمائة

[عدل]

فيها وقعت حرب عظيمة بين شهاب الدين محمد بن سام الغوري، صاحب غزنة، وبين بني بوكر أصحاب الجبل الجودي، وكانوا قد ارتدوا عن الإسلام فقاتلهم وكسرهم وغنم منهم شيئا كثيرا لا يعد ولا يوصف، فاتبعه بعضهم حتى قتله غيلة في ليلة مستهل شعبان منها بعد العشاء.

وكان رحمه الله من أجود الملوك سيرة وأعقلهم وأثبتهم في الحرب، ولما قتل كان في صحبته فخر الدين الرازي، وكان يجلس للوعظ بحضرة الملك ويعظه، وكان السلطان يبكي حين يقول في آخر مجلسه يا سلطان سلطانك لا يبقى، ولا يبقى الرازي أيضا وإن مردنا جميعا إلى الله.

وحين قتل السلطان اتهم الرازي بعض الخاصكية بقتله، فخاف من ذلك والتجأ إلى الوزير مؤيد الملك بن خواجا، فسيره إلى حيث يأمن وتملك غزنة بعده أحد مماليكه تاج الدر، وجرت بعد ذلك خطوب يطول ذكرها، قد استقصاها ابن الأثير وابن الساعي.

وفيها: أغارت الكرج على بلاد المسلمين فوصلوا إلى أخلاط فقتلوا وسبوا وقاتلهم المقاتلة والعامة.

وفيها: سار صاحب إربل مظفر الدين كوكري وصحبته صاحب مراغة لقتال ملك أذربيجان، وهو أبو بكر بن البهلول، وذلك لنكوله عن قتال الكرج وإقباله على السكر ليلا ونهارا فلم يقدروا عليه، ثم إنه تزوج في هذه السنة بنت ملك الكرج، فانكف شرهم عنه.

قال ابن الأثير: وكان كما يقال: أغمد سيفه وسل أيره.

وفيها: استوزر الخليفة نصير الدين ناصر بن مهدي ناصر العلوي الحسني وخلع عليه بالوزارة وضربت الطبول بين يديه وعلى بابه في أوقات الصلوات.

وفيها: أغار صاحب بلاد الأرمن وهو ابن لاون على بلاد حلب فقتل وسبى ونهب.

فخرج إليه الملك الظاهر غازي بن الناصر فهرب ابن لاون بين يديه، فهدم الظاهر قلعة كان قد بناها ودكها إلى الأرض.

وفي شعبان منها هدمت القنطرة الرومانية عند الباب الشرقي، ونشرت حجارتها ليبلط بها الجامع الأموي بسفارة الوزير صفي الدين بن شكر، وزير العادل، وكمل تبليطه في سنة أربع وستمائة.

وفيها توفي من الأعيان:

شرف الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي جمال الإسلام الشهرزوري

[عدل]

بمدينة حمص، وقد كان أخرج إليها من دمشق، وكان قبل ذلك مدرسا بالأمينية والحلقة بالجامع تجاه البرادة، وكان لديه علم جيد بالمذهب والخلاف.

التقي عيسى بن يوسف ابن أحمد العراقي الضرير

[عدل]

مدرس الأمينية أيضا، كان يسكن المنارة الغربية، وكان عنده شاب يخدمه ويقود به فعدم للشيخ دارهم فاتهم هذا الشاب بها فلم يثبت له عنده شيئا، واتهم الشيخ عيسى هذا بأنه يلوط به، ولم يكن يظن الناس أن عنده من المال شيء، فضاع المال واتهم عرضه.

فأصبح يوم الجمعة السابع من ذي القعدة مشنوقا ببيته بالمئذنة الغربية، فامتنع الناس من الصلاة عليه لكونه قتل نفسه، فتقدم الشيخ فخر الدين عبد الرحمن بن عساكر فصلى عليه، فائتم به بعض الناس قال أبو شامة: وإنما حمله على ما فعله ذهاب ماله والوقوع في عرضه.

قال وقد جرى لي أخت هذه القضية فعصمني الله سبحانه بفضله، قال وقد درس بعده في الأمينية الجمال المصري وكيل بيت المال.

أبو الغنائم المركيسهلار البغدادي

[عدل]

كان يخدم مع عز الدين نجاح السراي، وحصل أموالا جزيلة، كان كلما تهيأ له مال اشترى به ملكا وكتبه باسم صاحب له يعتمد عليه، فلما حضرته الوفاة أوصى ذلك الرجل أن يتولى أولاده وينفق عليهم من ميراثه مما تركه لهم.

فمرض الموصي إليه بعد قليل فاستدعى الشهود ليشهدهم على نفسه أن ما في يده لورثة أبي الغنائم، فتمادى ورثته بإحضار الشهود وطولوا عليه وأخذته سكتة فمات فاستولى ورثته على تلك الأموال والأملاك، ولم يقضوا أولاد أبي الغنائم منها شيئا مما ترك لهم.

أبو الحسن علي بن سعاد الفارسي

[عدل]

تفقه ببغداد وأعاد بالنظامية وناب في تدريسها واستقل بتدريس المدرسة التي أنشأتها أم الخليفة وأزيد على نيابة القضاء عن أبي طالب البخاري فامتنع فألزم به فباشره قليلا، ثم دخل يوما إلى مسجد فلبس على رأسه مئزر صوف، وأمر الوكلاء والجلاوذة أن ينصرفوا عنه، وأشهد على نفسه بعزلها عن نيابة القضاء، واستمر على الإعادة والتدريس رحمه الله. وفي يوم الجمعة العشرين من ربيع الأول توفيت:

الخاتون أم السلطان الملك المعظم عيسى بن العادل

[عدل]

فدفنت بالقبة بالمدرسة المعظمية بسفح قاسيون.

الأمير مجير الدين طاشتكين المستنجدي

[عدل]

أمير الحاج وزعيم بلاد خوزستان، كان شيخا خيرا حسن السيرة كثير العبادة، غاليا في التشيع، توفي بتستر ثاني جمادى الآخرة وحمل تابوته إلى الكوفة فدفن بمشهد علي لوصيته بذلك، هكذا ترجمه ابن الساعي في تاريخه.

وذكر أبو شامة في الذيل: أنه طاشتكين بن عبد الله المقتفوي أمير الحاج، حج بالناس ستا وعشرين سنة، كان يكون في الحجاز كأنه ملك، وقد رماه الوزير ابن يونس بأنه يكاتب صلاح الدين فحبسه الخليفة، ثم تبين له بطلان ما ذكر عنه فأطلقه وأعطاه خوزستان ثم أعاده إلى إمرة الحج.

وكانت الحلة الشيعية إقطاعه، وكان شجاعا جوادا سمحا قليل الكلام، يمضي عليه الأسبوع لا يتكلم فيه بكلمة، وكان فيه حلم واحتمال، استغاث به رجل على بعض نوابه فلم يرد عليه، فقال له الرجل المستغيث: أحمار أنت؟ فقال: لا. وفيه يقول ابن التعاويذي:

وأمير على البلاد مولى ** لا يجيب الشاكي بغير السكوت

وكلما زاد رفعة حطنا اللـ ** ـه بتفيله إلى البهموت

وقد سرق فراشه حياجبه له فأرادوا أن يستقروه عليها، وكان قد رآه الأمير طاشتكين حين أخذها فقال: لا تعاقبوا أحدا، قد أخذها من لا يردها، ورآه حين أخذها من لا ينم عليه، وقد كان بلغ من العمر تسعين سنة، واتفق أنه استأجر أرضا مدة ثلاثمائة سنة للوقف، فقال فيه بعض المضحكين: هذا لا يوقن بالموت، عمره تسعون سنة وأستأجر أرضا ثلاثمائة سنة، فاستضحك القوم والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وستمائة

[عدل]

فيها جرت أمور طويلة بالمشرق بين الغورية والخوارزمية، وملكهم خوارزم شاه بن تكش ببلاد الطالقان.

وفيها: ولى الخليفة القضاء ببغداد لعبد الله بن الدامغاني.

وفيها: قبض الخليفة على عبد السلام بن عبدا لوهاب بن الشيخ عبد القادر الجبلاني، بسبب فسقه وفجوره، وأحرقت كتبه وأمواله قبل ذلك لما فيها من كتب الفلاسفة، وعلوم الأوائل.

وأصبح يستعطي بين الناس، وهذا بخطيئة قيامه على أبي الفرج بن الجوزي، فإنه هو الذي كان وشى به إلى الوزير ابن القصاب حتى أحرقت بعض كتب ابن الجوزي، وختم على بقيتها، ونفي إلى واسط خمس سنين، والناس يقولون: في الله كفاية وفي القرآن، وجزاء سيئة سيئة مثلها.

والصوفية يقولون: الطريق يأخذ. والأطباء يقولون الطبيعة مكافئة.

وفيها: نازلت الفرنج حمص فقاتلهم ملكها أسدا لدين شيركوه، وأعانه بالمدد الملك الظاهر صاحب حلب فكف الله شرهم.

وفيها: اجتمع شابان ببغداد على الخمر فضرب أحدهما الآخر بسكين فقتله وهرب، فأخذ فقتل فوجد مع رقعة فيها بيتان من نظمه أمر أن تجعل بين أكفانه:

قدمت على الكريم بغير زاد ** من الأعمال بالقلب السليم

وسوء الظن أن تعتد زادا ** إذا كان القدوم على كريم

وفيها توفى من الأعيان:

الفقيه أبو منصور عبد الرحمن بن الحسين بن النعمان النبلي

[عدل]

الملقب بالقاضي شريح لذكائه وفضله وبرعاته وعقله وكمال أخلاقه، ولي قضاء بلده ثم قدم بغداد فندب إلى المناصب الكبار فأباها، فحلف عليه الأمير طاشتكين أن يعمل عنده في الكتابة فخدمه عشرين سنة، ثم وشى به الوزير ابن مهدي إلى المهدي فحبسه في دار طاشتكين إلى أن مات في هذه السنة، ثم إن الوزير الواشي عما قريب حبس بها أيضا، وهذا مما نحن فيه من قوله: كما تدين تدان.

عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر

[عدل]

كان ثقة عابدا زاهدا ورعا، لم يكن في أولاد الشيخ عبد القادر الجيلاني خير منه، لم يدخل فيما دخلوا فيه من المناصب والولايات، بل كان متقللا من الدنيا مقبلا على أمر الآخرة، وقد سمع الكثير وسمع عليه أيضا.

أبو الحزم مكي بن زيان

[عدل]

ابن شبة بن صالح الماكسيني، من أعمال سنجار، ثم الموصلي النحوي، قدم بغداد وأخذ على ابن الخشاب وابن القصار، والكمال الأنباري، وقدم الشام فانتفع به خلق كثير منهم الشيخ علم الدين السخاوي وغيره وكان ضريرا، وكان يتعصب لأبي العلاء المعري لما بينهما من القدر المشترك في الأدب والعمى، ومن شعره:

إذا احتاج النوال إلى شفيع ** فلا تقبله تصبح قرير عين

إذا عيف النوال لفرد من ** فأولى أن يعاف لمنتين

ومن شعره أيضا:

نفسي فداء لأغيد غنج ** قال لنا الحق حين ودعنا

من ود شيئا من حبه طمعا ** في قتله للوداع ودعنا

إقبال الخادم جمال الدين أحد خدام صلاح الدين

[عدل]

واقف الإقباليتين الشافعية والحنفية، وكانتا دارين فجعلهما مدرستين، ووقف عليهما وقفا الكبيرة للشافعية والصغيرة للحنفية، وعليها ثلث الوقف. توفي بالقدس رحمه الله.

ثم دخلت سنة أربع وستمائة

[عدل]

فيها رجع الحجاج إلى العراق وهم يدعون الله ويشكون إليه ما لقوا من صدر جهان البخاري الحنفي، الذي كان قدم بغداد في رسالة فاحتفل به الخليفة، وخرج إلى الحج في هذه السنة، فضيق على الناس في المياه والميرة،

فمات بسبب ذلك ستة آلاف من حجيج العراق، وكان فيما ذكروا يأمر غلمانه فتسبق إلى المناهل فيحجزون على المياه ويأخذون الماء فيرشونه حول خيمته في قيظ الحجاز ويسقونه للبقولات التي كانت تحمل معه في ترابها، ويمنعون منه الناس وابن السبيل، الأمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا.

فلما رجع مع الناس لعنته العامة ولم تحتفل به الخاصة ولا أكرمه الخليفة ولا أرسل إليه أحدا، وخرج من بغداد والعامة من ورائه يرجمونه ويلعنونه، وسماه الناس صدر جهنم، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله أن يزيدنا شفقة ورحمة لعباده، فإنه إنما يرحم من عباده الرحماء.

وفيها: قبض الخليفة على وزيره ابن مهدي العلوي، وذلك أنه نسب إليه أنه يروم الخلافة، وقيل غير ذلك من الأسباب، والمقصود أنه حبس بدار طاشتكين حتى مات، بها وكان جبارا عنيدا حتى قال بعضهم فيه:

خليلي قولا للخليفة وانصحا ** توق وقيت السوء ما أنت صانع

وزيرك هذا بين أمرين فيهما ** صنيعك يا خير البرية ضائع

فإن كان حقا من سلالة حيدر ** فهذا وزير في الخلافة طامع

وإن كان فيما يدعي غير صادق ** فأضيع ما كانت لديه الصنائع

وقيل: إنه كان عفيفا عن الأموال حسن السيرة جيد المباشرة فالله أعلم بحاله. وفي رمضان منها رتب الخليفة عشرين دارا للضيافة يفطر فيها الصائمون من الفقراء، يطبخ لهم في كل يوم فيها طعام كثير ويحمل إليها أيضا من الخبز النقي والحلواء شيء كثير، وهذا الصنيع يشبه ما كانت قريش تفعله من الرفادة في زمن الحج.

وكان يتولى ذلك عمه أبو طالب، كما كان العباس يتولى السقاية، وقد كانت فيهم السفارة واللواء والندوة له، كما تقدم بيان ذلك في مواضعه، وقد صارت هذه المناصب كلها على أتم الأحوال في الخلفاء العباسيين. وفيها: أرسل الخليفة الشيخ شهاب الدين الشهرزوري وفي صحبته سنقر السلحدار إلى الملك العادل بالخلعة السنية.

وفيها: الطوق والسواران، وإلى جميع أولاده بالخلع أيضا.

وفيها: ملك الأوحد بن العادل صاحب ميافارقين مدينة خلاط بعد قتل صاحبها شرف الدين بكتمر، وكان شابا جميل الصورة جدا، قتله بعض مماليكهم ثم قتل القاتل أيضا، فخلا البلد عن ملك فأخذها الأوحد بن العادل.

وفيها: ملك خوارزم شاه محمد بن تكش بلاد ما وراء النهر بعد حروب طويلة. اتفق له في بعض المواقف أمر عجيب، وهو أن المسلمين انهزموا عن خوارزم شاه وبقي معه عصابة قليلة من أصحابه.

فقتل منهم كفار الخطا من قتلوا، وأسروا خلقا منهم، وكان السلطان خوارزم شاه في جملة من أسروا، أسره رجل وهو لا يشعر به ولا يدري أنه الملك، وأسر معه أميرا يقال له مسعود، فلما وقع ذلك وتراجعت العساكر الإسلامية إلى مقرها فقدوا السلطان فاختبطوا فيما بينهم واختلفوا اختلافا كثيرا وانزعجت خراسان بكمالها.

ومن الناس من حلف أن السلطان قد قتل، وأما ما كان من أمر السلطان وذاك الأمير فقال الأمير للسلطان: من المصلحة أن تترك اسم الملك عنك في هذه الحالة، وتظهر أنك غلام لي، فقبل منه ما قال وأشار به، ثم جعل الملك يخدم ذلك الأمير يلبسه ثيابه ويسقيه الماء ويصنع له الطعام ويضعه بين يديه، ولا يألو جهدا في خدمته.

فقال الذي أسرهما: إني أرى هذا يخدمك فمن أنت؟فقال: أنا مسعود الأمير، وهذا غلامي، فقال: والله لو علم الأمراء أني قد أسرت أميرا وأطلقته لأطلقتك، فقال له: إني إنما أخشى على أهلي، فإنهم يظنون أني قد قتلت ويقيمون المأتم، فإن رأيت أن تفاديني على مال وترسل من يقبضه منهم فعلت خيرا.

فقال: نعم، فعين رجلا من أصحابه فقال له الأمير مسعود: إن أهلي لا يعرفون هذا ولكن إن رأيت أن أرسل معه غلامي هذا فعلت ليبشرهم بحياتي فإنهم يعرفونه، ثم يسعى في تحصيل المال، فقال: نعم، فجهز معهما من يحفظهما إلى مدينة خوارزم شاه.

فلما دنوا من مدينة خوارزم سبق الملك إليها. فلما رآه الناس فرحوا به فرحا شديدا، ودقت البشائر في سائر بلاده، وعاد الملك إلى نصابه، واستقر السرور بإيابه، وأصلح ما كان وهي من مملكته بسبب ما اشتهر من قتله، وحاصر هراه وأخذها عنوة.

وأما الذي كان قد أسره فإنه قال يوما للأمير مسعود الذي يتوجه لي وينوهون به أن خوارزم شاه قد قتل، فقال: لا، هو الذي كان في أسرك، فقال له: فهلا أعلمتني به حتى كنت أرده موقرا معظما؟ فقال: خفتك عليه، فقال: سر بنا إليه، فسارا إليه فأكرمهما إكراما زائدا، وأحسن إليهما.

وأما غدر صاحب سمرقند فإنه قتل كل من كان في أسره من الخوارزمية، حتى كان الرجل يقطع قطعتين ويعلق في السوق كما تعلق الأغنام، وعزم على قتل زوجته بنت خوارزم شاه ثم رجع عن قتلها وحبسها في قلعة وضيق عليها، فلما بلغ الخبر إلى خوارزم شاه سار إليه في الجنود فنازله وحاصر سمرقند فأخذها قهرا وقتل من أهلها نحوا من مائتي ألف.

وأنزل الملك من القلعة وقتله صبرا بين يديه، ولم يترك له نسلا ولا عقبا، واستحوذ خوارزم شاه على تلك الممالك التي هنالك، وتحارب الخطا وملك التتار كشلي خان المتاخم لمملكة الصين، فكتب ملك الخطا لخوارزم شاه يستنجده على التتار ويقول: متى غلبونا خلصوا إلى بلادك، وكذا وكذا.

وكتب التتار إليه أيضا يستنصرونه على الخطا ويقولون: هؤلاء أعداؤنا وأعداؤك، فكن معنا عليهم، فكتب إلى كل من الفريقين يطيب قلبه، وحضر الوقعة بينهم وهو متحيز عن الفريقين، وكانت الدائرة على الخطا، فهلكوا إلا القليل منهم، وغدر التتار ما كانوا عاهدوا عليه خوارزم شاه.

فوقعت بينهم الوحشة الأكيدة، وتواعدوا للقتال، وخاف منهم خوارزم شاه وخرب بلادا كثيرة متاخمة لبلاد كشلى خان خوفا عليها أن يملكها.

ثم إن جنكيز خان خرج على كشلى خان، فاشتغل بمحاربته عن محاربة خوارزم شاه، ثم إنه وقع من الأمور الغريبة ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وفيها: كثرت غارات الفرنج من طرابلس على نواحي حمص، فضعف صاحبها أسد الدين شيركوه عن مقاومتهم، فبعث إليه الظاهر صاحب حلب عسكرا قواه بهم على الفرنج، وخرج العادل من مصر في العساكر الإسلامية، وأرسل إلى جيوش الجزيرة فوافوه على عكا فحاصرها، لأن القبارصة أخذوا من أسطول المسلمين قطعا فيها جماعة من المسلمين.

فطلب صاحب عكا الأمان والصلح على أن يرد الأسارى، فأجابه إلى ذلك، وسار العادل فنزل على بحيرة قدس قريبا من حمص، ثم سار إلى بلاد طرابلس، فأقام اثني عشر يوما يقتل ويأسر ويغنم، حتى جنح الفرنج إلى المهادنة، ثم عاد إلى دمشق.

وفيها: ملك صاحب أذربيجان الأمير نصير الدين أبو بكر بن البهلول مدينة مراغة لخلوها عن ملك قاهر، لأن ملكها مات وقام بالملك بعده ولد له صغير، فدبر أمره خادم له. وفي غرة ذي القعدة شهد محيي الدين أبو محمد يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي عند قاضي القضاة أبي القاسم بن الدامغاني، فقبله وولاه حسبة جانبي بغداد.

وخلع عليه خلعة سنية سوداء بطرحة كحلية، وبعد عشرة أيام جلس للوعظ مكان أبيه أبي الفرج بباب درب الشريف، وحضر عنده خلق كثير. وبعد أربعة أيام من يومئذ درس بمشهد أبي حنيفة ضياء الدين أحمد بن مسعود الركساني الحنفي، وحضر عنده الأعيان والأكابر.

وفي رمضان منها وصلت الرسل من الخليفة إلى العادل بالخلع، فلبس هو وولداه المعظم والأشرف ووزيره صفي الدين بن شكر، وغير واحد من الأمراء، ودخلوا القلعة وقت صلاة الظهر من باب الحديد، وقرأ التقليد الوزير وهو قائم، وكان يوما مشهودا.

وفيها: درس شرف الدين عبد الله ابن زين القضاة عبد الرحمن بالمدرسة الرواحية بدمشق.

وفيها: انتقل الشيخ الخير بن البغدادي من الحنبلية إلى مذهب الشافعية، ودرس بمدرسة أم الخليفة، وحضر عنده الأكابر من سائر المذاهب.

وفيها توفي من الأعيان:

الأمير بنامين بن عبد الله

[عدل]

أحد أمراء الخليفة الناصر، كان من سادات الأمراء عقلا وعفة ونزاهة، سقاه بعض الكتاب من النصارى سما فمات. وكان اسم الذي سقاه ابن ساوا، فسلمه الخليفة إلى غلمان بنيامين فشفع فيه ابن مهدي الوزير وقال: إن النصارى قد بذلوا فيه خمسين ألف دينار، فكتب الخليفة على رأس الورقة:

إن الأسود أسود الغاب همتها ** يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

فتسلمه غلمان بنيامين فقتلوه وحرقوه، وقبض الخليفة بعد ذلك على الوزير ابن مهدي كما تقدم.

حنبل بن عبد الله ابن الفرج بن سعادة الرصافي الحنبلي

[عدل]

المكبر بجامع المهدي، راوي مسند أحمد عن ابن الحصين عن ابن المذهب عن أبي مالك عن عبد الله عن أبيه، عمر تسعين سنة وخرج من بغداد فأسمعه بإربل، واستقدمه ملوك دمشق إليها فسمع الناس بها عليه المسند، وكان المعظم يكرمه ويأكل عنده على السماط من الطيبات، فتصيبه التخمة كثيرا، لأنه كان فقيرا ضيق الأمعاء من قلة الأكل، خشن العيش ببغداد.

وكان الكندي إذا دخل على المعظم يسأل عن حنبل فيقول المعظم هو متخوم، فيقول أطعمه العدس فيضحك المعظم، ثم أعطاه المعظم مالا جزيلا ورده إلى بغداد فتوفي بها، وكان مولده سنة عشر وخمسمائة، وكان معه ابن طبرزد، فتأخرت وفاته عنه إلى سنة سبع وستمائة.

عبد الرحمن بن عيسى ابن أبي الحسن المروزي الواعظ البغدادي

[عدل]

سمع من ابن أبي الوقت وغيره، واشتغل علي ابن الجوزي بالوعظ، ثم حدثته نفسه بمضاهاته وشمخت نفسه، واجتمع عليه طائفة من أهل باب النصيرة ثم تزوج في آخر عمره وقد قارب السبعين، فاغتسل في يوم بارد فانتفخ ذكره فمات في هذه السنة.

الأمير زين الدين قراجا الصلاحي

[عدل]

صاحب صرخد، كانت له دار عند باب الصفير عند قناة الزلاقة، وتربته بالسفح في قبة على جادة الطريق عند تربة ابن تميرك، وأقر العادل ولده يعقوب على صرخد.

عبد العزيز الطبيب

[عدل]

توفي فجأة، وهو والد سعد الدين الطبيب الأشرفي، وفيه يقول ابن عنين:

فراري ولا خلف الخطيب جماعة ** وموت ولا عبد العزيز طبيب

وفيها توفي:

العفيف بن الدرحي

[عدل]

إمام مقصورة الحنفية الغربية بجامع بني أمية.

أبو محمد جعفر بن محمد ابن محمود بن هبة الله بن أحمد بن يوسف الإربلي

[عدل]

كان فاضلا في علوم كثيرة في الفقه على مذهب الشافعي، والحساب، والفرائض، والهندسة، والأدب، والنحو، وما يتعلق بعلوم القرآن العزيز، وغير ذلك ومن شعره:

لا يدفع المرء ما يأتي به القدر ** وفي الخطوب إذا فكرت معتبر

فليس ينجي من الأقدار إن نزلت ** رأى وحزم ولا خوف ولا حذر

فاستعمل الصبر في كل الأمور ولا ** تجزع لشيء فعقبى صبرك الظفر

كم مُسنا عسر فصرفه الإ ** له عنا وولى بعده سر

لا ييئس المرء من روح الإله فما ** ييأس منه إلا عصبة كفروا

إني لأعلم أن الدهر ذو دول ** وأن يوميه ذا أمن وذا خطر

ثم دخلت سنة خمس وستمائة

[عدل]

في محرمها كمل بناء دار الضيافة ببغداد التي أنشأها الناصر لدين الله بالجانب الغربي منها للحجاج والمارة لهم الضيافة ما داموا نازلين بها، فإذا أراد أحدهم السفر منها زود، وكسي، وأعطي بعد ذلك دينارا، جزاه الله خيرا.

وفيها: عاد أبو الخطاب ابن دحية الكلبي من رحلته العراقية، فاجتاز بالشام، فاجتمع في مجلس الوزير الصفي هو والشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي شيخ اللغة والحديث، فأورد ابن دحية في كلامه حديث الشفاعة حتى انتهى إلى قول إبراهيم عليه السلام: «إنما كنت خليلا من وراء وراء» بفتح اللفظتين.

فقال الكندي: من وراء وراء بضمهما، فقال ابن دحية للوزير ابن شكر: من هذا؟

فقال: هذا أبو اليمن الكندي، فنال منه ابن دحية، وكان جريئا.

فقال الكندي: هو من كلب ينبح كما ينبح الكلب.

قال أبو شامة: وكلتا اللفظتين محكية، وحكى فيهما الجر أيضا.

وفيها: عاد فخر الدين بن تيمية خطيب من حران من الحج إلى بغداد وجلس بباب بدر للوعظ، مكان محيي الدين يوسف بن الجوزي، فقال في كلامه ذلك:

وابن اللبون إذا ما لزَّ في قرن ** لم يستطع صولة البزل القناعيس

كأنه يعرض بابن الجوزي يوسف لكونه شابا ابن خمس وعشرين سنة والله أعلم.

وفي يوم الجمعة تاسع محرم دخل مملوك أفرنجي من باب مقصورة جامع دمشق وهو سكران وفي يده سيف مسلول، والناس جلوس ينتظرون صلاة الفجر، فمال على الناس يضربهم بسيفه، فقتل اثنتين أو ثلاثة، وضرب المنبر بسيفه فانكسر سيفه، فأخذوا أودع المارستان وشنق في يومه ذلك على جسر اللابادين.

وفيها: عاد الشيخ شهاب الدين السهروردي من دمشق بهدايا الملك العادل فتلقاه الجيش ومعه أموال كثيرة أيضا لنفسه، وكان قبل ذلك فقيرا زاهدا، فلما عاد منع من الوعظ وأخذت منه الربط التي يباشرها، ووكل إلى ما بيده من الأموال، فشرع في تفريقها على الفقراء والمساكين، فاستغنى منه خلق كثير.

فقال المحيي ابن الجوزي في مجلس وعظه: لا حاجة بالرجل يأخذ أموالا من غير حقها، ويصرفها إلى من يستحقها، ولو ترك على ما كان تركها أولى به من تناولها، وإنما أراد أن ترتفع منزلته ببذلها. ويعود على حاله كما كان مباشره لما بذلها، فليحذر العبد الدنيا فإنها خداعة غرارة تسترق فُحول العلماء والعباد.

وقد وقع ابن الجوزي فيما بعد فيما وقع فيه السهروردي وأعظم.

وفيها: قصدت الفرنج حمص وعبروا على العاصي يجسر عدوة، فلما عرف بهم العساكر ركبوا في آثارهم فهربوا منهم فقتلوا خلقا كثيرا منهم، وغنم المسلمون منهم غنيمة جيدة، ولله الحمد.

وفيها: قتل صاحب الجزيرة، وكان من أسوأ الناس سيرة وأخبثهم سريرة وهو الملك سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر الأتابكي، ابن عم نور الدين صاحب الموصل، وكان الذي تولى قتله ولده غازي، توصل إليه حتى دخل عليه وهو في الخلاء سكران، فضربه بسكين أربع عشرة ضربة، ثم ذبحه، وذلك كله ليأخذ الملك من بعده فحرمه الله إياه.

فبويع بالملك لأخيه محمود وأخذ غازي القاتل فقتله من يومه، فسلبه الله الملك والحياة، ولكن أراح الله المسلمين من ظلم أبيه وغشمه وفسقه.

وفيها توفي من الأعيان:

أبو الفتح محمد بن أحمد بن بخيتار

[عدل]

ابن علي الواسطي المعروف بابن السنداي، آخر من روى المسند عن أحمد بن حنبل عن بن الحصين، وكان من بيت فقه وقضاء وديانة، وكان ثقة عدلا متورعا في النقل، ومما أنشده من حفظه:

ولو أن ليلى مطلع الشمس دونها ** وكانت من وراء الشمس حين تغيب

لحدثت نفسي بانتظار نوالها ** وقال المنى لي: إنها لقريب

قاضي القضاة لمصر

[عدل]

صدر الدين عبد الملك بن درباس المارديني الكردي والله أعلم.

ثم دخلت سنة ست وستمائة

[عدل]

في المحرم وصل نجم الدين خليل شيخ الحنفية من دمشق إلى بغداد في الرسلية عن العادل ومعه هدايا كثيرة، وتناظر هو وشيخ النظامية مجد الدين يحيى بن الربيع في مسألة وجوب الزكاة في مال اليتيم والمجنون، وأخذ الحنفي يستدل على عدم وجوبها، فاعترض عليه الشافعي فأجاد كل منهما في الذي أورده، ثم خلع على الحنفي وأصحابه بسبب الرسالة، وكانت المناظرة بحضرة نائب الوزير ابن شكر.

وفي يوم السبت خامس جمادى الآخرة وصل الجمال يونس بن بدران المصري رئيس الشافعية بدمشق إلى بغداد في الرسلية عن العادل، فتلقاه الجيش مع حاجب الحجاب، ودخل معه ابن أخي صاحب إربل مظفر الدين كوكري، والرسالة تتضمن الاعتذار عن صاحب إربل والسؤال في الرضا عنه، فأجيب إلى ذلك.

وفيها: ملك العادل الخابور ونصيبين وحاصر مدينة سنجار مدة فلم يظفر بها ثم صالح صاحبها ورجع عنها.

وفيها توفي من الأعيان:

القاضي الأسعد ابن مماتي

[عدل]

أبو المكارم أسعد بن الخطير أبي سعيد مهذب بن مينا بن زكريا الأسعد بن مماتي بن أبي قدامة ابن أبي مليح المصري الكاتب الشاعر، أسلم في الدولة الصلاحية وتولى نظر الدواوين بمصر مدة قال ابن خلكان: وله فضائل عديدة، ومصنفات كثيرة، ونظم (سيرة صلاح الدين، و(كليلة ودمنة)، وله ديوان شعر.

ولما تولى الوزير ابن شكر هرب منه إلى حلب فمات بها وله ثنتان وستون سنة. فمن شعره في ثقيل زاره بدمشق:

حكى نهرين وما في الأر ** ض من يحكيهما أبدا

حكى في خلقه ثورا ** أراد وفي أخلاقه بردا

أبو يعقوب يوسف بن إسماعيل

[عدل]

ابن عبدا لرحمن بن عبدا لسلام اللمعاني، أحد الأعيان من الحنفية ببغداد، سمع الحديث ودرس بجامع السلطان، وكان معتزليا، في الأصول، بارعا في الفروع، اشتغل على أبيه وعمه، وأتقن الخلاف وعلم المناظرة، وقارب التسعين.

أبو عبد الله محمد بن الحسن المعروف بابن الخراساني

[عدل]

المحدث الناسخ، كتب كثيرا، من الحديث وجمع خطبا، له ولغيره وخطه جيد مشهور.

أبو الواهب معتوق بن منيع

[عدل]

ابن مواهب الخطيب البغدادي، قرأ النحو واللغة على ابن الخشاب، وجمع خطبا، كان يخطب منها، وكان شيخا فاضلا له ديوان شعر، فمنه قوله:

ولا ترجو الصداقة من عدوٍ ** يعادي نفسه سرا وجهرا

فلو أجدت مودته انتفاعا ** لكان النفع منه إليه أجرا

ابن خروف شارح سيبويه على بن محمد بن يوسف أبو الحسن بن خروف الأندلسي النحوي

[عدل]

شرح سيبويه، وقدمه إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار، وشرح جمل الزجاجي، وكان يتنقل في البلاد ولا يسكن إلا في الخانات، ولم يتزوج ولا تسرى، ولذلك علة تغلب على طباع الأراذل وقد تغير عقله في آخر عمره، فكان يمشي في الأسواق مكشوف الرأس، توفي عن خمس وثمانين سنة.

أبو علي يحيى بن الربيع ابن سلميان بن حرار الواسطي البغدادي

[عدل]

اشتغل بالنظامية على فضلان وأعاد عنه، وسافر إلى محمد بن يحيى فأخذ عنه طريقته في الخلاف، ثم عاد إلى بغداد ثم صار مدرسا بالنظامية وناظرا على أوقافها، وقد سمع الحديث وكان لديه علوم كثيرة، ومعرفة حسنة بالمذهب، وله تفسير في أربع مجلدات كان يدرس منه، واختصر تاريخ الخطيب والذيل عليه لابن السمعاني وقارب الثمانين.

ابن الأثير صاحب جامع الأصول والنهاية

[عدل]

المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد مجد الدين أبو السعادات الشيباني الجزري الشافعي، المعروف بابن الأثير، وهو أخو الوزير وزير الأفضل ضياء الدين نصر الله، وأخو الحافظ عز الدين أبي الحسن علي صاحب الكامل في التاريخ، ولد أبو السعادات هذا في إحدى الربيعين سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وسمع الحديث الكثير وقرأ القرآن وأتقن علومه وحررها، وكان مقامه بالموصل، وقد جمع في سائر العلوم كتبا مفيدة، منها جامع الأصول الستة الموطأ والصحيحين وسنن أبي داود والنسائي والترمذي، ولم يذكر ابن ماجه فيه، وله كتاب النهاية في غريب الحديث وله شرح مسند الشافعي والتفسير في أربع مجلدات، وغير ذلك في فنون شتى، وكان معظما عند ملوك الموصل، فلما آل الملك إلى نور الدين أرسلان شاه، أرسل إليه مملوكه لؤلؤ أن يستوزره فأبى فركب السلطان إليه فامتنع أيضا وقال له: قد كبرت سني واشتهرت بنشر العلم، ولا يصلح هذا الأمر إلا بشيء من العسف والظلم، ولا يليق بي ذلك، فأعفاه.

قال أبو السعادات: كنت أقرأ علم العربية على سعيد بن الدهان، وكان يأمرني بصنعة الشعر فكنت لا أقدر عليه، فلما توفي الشيخ رأيته في بعض الليالي، فأمرني بذلك، فقلت له: ضع لي مثالا أعمل عليه فقال:

حب العلا مدمنا إن فاتك الظفر** فقلت أنا: وخدّ خد الثرى والليل معتكر

فالعز في صهوات الليل مركزه ** والمجد ينتجه الإسراء والسهر

فقال:

أحسنت ثم استيقظت فأتممت عليها نحوا من عشرين بيتا.

كانت وفاته في سلخ ذي الحجة عن ثنتين وستين سنة، وقد ترجمه أخوه في الذيل فقال: كان عالما في عدة علوم منها الفقه وعلم الأصول والنحو والحديث واللغة، وتصانيفه مشهورة في التفسير والحديث والفقه والحساب وغريب الحديث، وله رسائل مدونة، وكان مغلقا يضرب به المثل ذا دين متين، ولزم طريقة مستقيمة رحمه الله، فلقد كان من محاسن الزمان.

قال ابن الأثير وفيها توفي:

المجلد المطرزي النحوي الخوارزمي

كان إماما في النحو له فيه تصانيف حسنة.

قال أبو شامة. وفيها توفي:

الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل

[عدل]

ودفن في تربة أخيه المعظم بسفح قاسيون والملك المؤيد مسعود بن صلاح الدين

بمدرسة رأس العين فحمل إلى حلب فدفن بها. وفيها توفي:

الفخر الرازي

[عدل]

المتكلم صاحب التيسير والتصانيف، يعرف بابن خطيب الري، واسمه محمد بن عمر بن الحسين ابن علي القرشي التيمي البكري، أبو المعالي وأبو عبد الله المعروف بالفخر الرازي، ويقال له ابن خطيب الري، أحد الفقهاء الشافعية المشاهير بالتصانيف الكبار والصغار نحو من مائتي مصنف، منها التفسير الحافل والمطالب العالية، والمباحث الشرقية، والأربعين، وله أصول الفقه والمحصول وغيره، وصنف ترجمه الشافعي في مجلد مفيد، وفيه غرائب لا يوافق عليها، وينسب إليه أشياء عجيبة، وقد ترجمته في طبقات الشافعية، وقد كان معظما عند ملوك خوارزم وغيرهم، وبنيت له مدارس كثيرة في بلدان شتى، وملك من الذهب العين ثمانين ألف دينار، وغير ذلك من الأمتعة والمراكب والأثاث والملابس، وكان له خمسون مملوكا من الترك،

وكان يحضر في مجلس وعظه الملوك والوزراء والعلماء والأمراء والفقراء والعامة، وكانت له عبادات وأوراد، وقد وقع بينه وبين الكرامية في أوقات وكان يبغضهم ويبغضونه ويبالغون في الحط عليه، ويبالغ هو أيضا في ذمهم. وقد ذكرنا طرفا من ذلك فيما تقدم، وكان مع غزارة علمه في فن الكلام يقول: من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز، وقد ذكرت وصيته عند موته وأنه رجع عن مذهب الكلام فيها إلى طريقة السلف وتسليم ما ورد على وجه المراد اللائق بجلال الله سبحانه.

وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الذيل في ترجمته: كان يعظ وينال من الكرامية وينالون منه سبا وتكفيرا بالكبائر، وقيل إنهم وضعوا عليه من سقاه سما فمات ففرحوا بموته، وكانوا يرمونه بالمعاصي مع المماليك وغيرهم، قال: وكانت وفاته في ذي الحجة، ولا كلام في فضله ولا فيما كان يتعاطاه، وقد كان يصحب السلطان ويحب الدنيا ويتسع فيها اتساعا زائدا، وليس ذلك من صفة العلماء، ولهذا وأمثاله كثرت الشناعات عليه، وقامت عليه شناعات عظيمة بسبب كلمات كان يقولها مثل قوله: قال محمد البادي، يعني العربي يريد به النبي ، نسبة إلى البادية. وقال محمد الرازي يعني نفسه، ومنها أنه كان يقرر الشبهة من جهة الخصوم بعبارات كثيرة ويجيب عن ذلك بأدنى إشارة وغير ذلك، قال وبلغني أنه خلف من الذهب العين مائتي ألف دينار غير ما كان يملكه من الدواب والثياب والعقار والآلات، وخلف ولدين أخذ كل واحد منهما أربعين ألف دينار، وكان ابنه الأكبر قد تجند وخدم السلطان محمد بن تكش.

وقال ابن الأثير في (الكامل):

وفيها: توفي فخر الدين الرازي محمد بن عمر بن خطيب الري الفقيه الشافعي صاحب التصانيف المشهورة والفقه والأصول، كان إمام الدنيا في عصره، بلغني أن مولده سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ومن شعره قوله:

إليك إله الخلق وجهي ووجهتي ** وأنت الذي أدعوه في السر والجهر

وأنت غياثي عند كل ملمة ** وأنت ملاذي في حياتي وفي قبري

ذكره ابن الساعي عن ياقوت الحموي عن ابن الفخر الدين عنه وبه قال:

تتمة أبواب السعادة للخلق ** بذكر جلال الواحد الأحد الحق

مدبر كل الممكنات بأسرها ** ومبدعها بالعدل والقصد والصدق

أجل جلال الله عن شبه خلقه ** وأنصر هذا الدين في الغرب والشرف

إله عظيم الفضل والعدل والعلى ** هو المرشد المغوي هو المسعد المشقي

ومما كان ينشده:

وأرواحنا في وحشة من جسومنا ** وحاصل دنيانا أذىً ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

ثم يقول: لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلا ولا تشفى عليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } 7.

{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُب } 8.

وفي النفي: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } 9، { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا } 10.

ثم دخلت سنة سبع وستمائة

[عدل]

ذكر الشيخ أبو شامة أن في هذه السنة تمالأت ملوك الجزيرة: صاحب الموصل وصاحب سنجار وصاحب إربل والظاهر صاحب حلب وملك الروم، على مخالفة العادل ومنابذته ومقاتلته واصطلام الملك من يده، وأن تكون الخطبة للملك كنجر بن قلج أرسلان صاحب الروم، وأرسلوا إلى الكرج ليقدموا الحصار خلاط، وفيها الملك الأوحد بن العادل، ووعدهم النصر والمعاونة عليه.

قلت وهذا بغي وعدوان ينهى الله عنه، فأقبلت الكرج بملكهم إيواني فحاصروا خلاط فضاق بهم الأوحد ذرعا وقال: هذا يوم عصيب، فقدر الله تعالى أن في يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الآخر اشتد حصارهم للبلد وأقبل ملكهم إيواني وهو راكب على جواده وهو سكران فسقط به جواده في بعض الحفر التي قد أعدت مكيدة حول البلد، فبادر إليه رجال البلد فأخذوه أسيرا حقيرا، فأسقط في أيدي الكرج، فلما أوقف بين يدي الأوحد أطلقه ومن عليه وأحسن إليه، وفاداه على مائتي ألف دينار وألفي أسير من المسلمين، وتسليم إحدى وعشرين قلعة متاخمة لبلاد الأوحد وأن يزوج ابنته من أخيه الأشرف موسى، وأن يكون عونا له على من يحاربه، فأجابه إلى ذلك كله فأخذت منه الأيمان بذلك وبعث الأوحد إلى أبيه يستأذنه في ذلك كله وأبوه نازل بظاهر حراب في أشد حدة مما قد داهمه من هذا الأمر الفظيع، فبينما هو كذلك إذ أتاه هذا الخبر والأمر الهائل من الله العزيز الحكيم، لا من حولهم ولا من قوتهم، ولا كان في بالهم، فكاد يذهل من شدة الفرح والسرور، ثم أجاز جميع ما شرطه ولده، وطارت الأخبار بما وقع بين الملوك فخضعوا وذلوا عند ذلك، وأرسل كل منهم يعتذر مما نسب إليه ويحيل على غيره، فقبل منهم اعتذاراتهم وصالحهم صلحا أكيدا واستقبل الملك عصرا جديدا، وفي ملك الكرج الأوحد بجميع ما شرطه عليه، وتزوج الأشرف ابنته.

ومن غريب ما ذكره أبو شامة في هذه الكائنة أن قسيس الملك كان ينظر في النجوم فقال للملك قبل ذلك بيوم: أعلم أنك تدخل غدا إلى قلعة خلاط ولكن بزي غير ذلك أذان العصر، فوافق دخوله إليها أسيرا أذان العصر.

ذكر وفاة صاحب الموصل نور الدين

[عدل]

أرسل الملك نور الدين شاه بن عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل يخطب ابنة السلطان الملك العادل، وأرسل وكيله لقبول العقد على ثلاثين ألف دينار، فاتفق موت نور الدين ووكيله سائر في أثناء الطريق، فعقد العقد بعد وفاته، وقد أثنى عليه ابن الأثير في كامله كثيرا وشكر منه ومن عدله وشهامته وهو أعلم به من غيره، وذكر أن مدة ملكه سبع عشرة سنة وإحدى عشر شهرا، وأما أبو المظفر السبط فإنه قال: كان جبارا ظالما بخيلا سفاكا للدماء فالله أعلم به.

وقام بالملك ولده القاهر عز الدين مسعود، وجعل تدبير مملكته إلى غلامه بدر الدين لؤلؤ الذي صار الملك إليه فيما بعد.

قال أبو شامة: وفي سابع شوال شرع في عمارة المصلى، وبنى له أربع جدر مشرفة، وجعل له أبوابا صونا لمكانه من الميار ونزول القوافل، وجعل في قبلته محرابا من حجارة ومنبرا من حجارة وعقدت فوق ذلك قبة.

ثم في سنة ثلاث عشرة عمل في قبلته رواقان وعمل له منبر من خشب ورتب له خطيب وإمام راتبان، ومات العادل ولم يتم الرواق الثاني منه، وذلك كله على يد الوزير الصفي ابن شكر.

قال وفي ثاني شوال منها جددت أبواب الجامع الأموي من ناحية باب البريد بالنحاس الأصفر، وركبت في أماكنها. وفي شوال أيضا شرع في إصلاح الفوارة والشاذروان والبركة وعمل عندها مسجد، وجعل له إمام راتب، وأول من تولاه رجل يقال له النفيس المصري، وكان يقال له بوق الجامع لطيب صوته إذا قرأ على الشيخ أبي منصور الضرير المصدر فيجتمع عليه الناس الكثيرون.

وفي ذي الحجة منها توجهت مراكب من عكا إلى البحر إلى ثغر دمياط

وفيها: ملك قبرص المسمى إليان فدخل الثغر ليلا فأغار على بعض البلاد فقتل وسبى وكر راجعا فركب مراكبه ولم يدركه الطلب، وقد تقدمت له مثلها قبل هذه، وهذا شيء لم يتفق لغيره لعنه الله.

وفيه عاثت الفرنج بنواحي القدس فبرز إليهم الملك المعظم، وجلس الشيخ شمس الدين أبو المظفر ابن قر علي الحنفي وهو سبط ابن الجوزي ابن ابنته رابعة، وهو صاحب مرآة الزمان، وكان فاضلا في علوم كثيرة، حسن الشكل طيب الصوت وكان يتكلم في الوعظ جيدا وتحبه العامة على صيت جده، وقد رحل من بغداد فنزل دمشق وأكرمه ملوكها، وولى التدريس بها، وكان يجلس كل يوم سبت عند باب مشهد علي بن الحسين زين العابدين إلى السارية التي يجلس عندها الوعاظ في زماننا هذا،

فكان يكثر الجمع عنده حتى يكونوا من باب الناطفانيين إلى باب المشهد إلى باب الساعات، الجلوس غير الوقوف، فحزر جمعه في بعض الأيام ثلاثين ألفا من الرجال والنساء، وكان الناس يبيتون ليلة السبت في الجامع ويدعون البساتين، يبيتون في قراءة ختمات وأذكار ليحصل لهم أماكن من شدة الزحام، فإذا فرغ من وعظه خرجوا إلى أماكنهم وليس لهم كلام إلا فيما قال يومهم ذلك أجمع، يقولون قال الشيخ وسمعنا من الشيخ فيحثهم ذلك على العمل الصالح والكف عن المساوي، وكان يحضر عنده الأكابر، حتى الشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي، كان يجلس في القبة التي عند باب المشهد هو ووالي البلد المعتمد ووالي البر ابن تميرك وغيرهم.

والمقصود أنه لما جلس يوم السبت خامس ربيع الأول كما ذكرنا حث الناس على الجهاد وأمر بإحضار ما كان تحصل عنده من شعر التائبين، وقد عمل منه شكالات تحمل الرجال، فلما رآها الناس ضجوا ضجة واحدة وبكوا بكاء كثيرا وقطعوا من شعورهم نحوها، فلما انقضى المجلس ونزل عن المنبر فتلقاه الوالي مبادر الدين المعتمد بن إبراهيم.

وكان من خيار الناس، فمشى بين يديه إلى باب الناطفيين يعضده حتى ركب فرسه والناس من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فخرج من باب الفرج وبات بالمصلى ثم ركب من الغد في الناس إلى الكسوة ومعه خلائق كثيرون خرجوا بنية الجهاد إلى بلاد القدس، وكان من جملة من معه ثلاثمائة من جهة زملكا بالعدد الكثيرة التامة، قال:

فجئنا عقبة أفيق والطير لا يتجاسر أن يطير من خوف الفرنج، فلما وصلنا نابلس تلقانا المعظم، قال ولم أكن اجتمعت به قبل ذلك، فلما رأى الشكالات من شعور التائبين جعل يقبلها ويمرغها على عينيه ووجهه ويبكي، وعمل أبو المظفر ميعادا بنابلس وحث على الجهاد وكان يوما مشهودا، ثم سار هو ومن معه وصحبته المعظم نحو الفرنج فقتلوا خلقا وخربوا أماكن كثيرة، وغنموا وعادوا سالمين، وشرع المعظم في تحصين جبل الطور وبنى قلعة فيه ليكون إلبا على الفرنج، فغرم أموالا كثيرة في ذلك، فبعث الفرنج إلى العادل يطلبون منه الأمان والمصالحة، فهادنهم وبطلت تلك العمارة وضاع ما كان المعظم غرم عليها والله أعلم.

وفيها توفي من الأعيان:

الشيخ أبو عمر باني المدرسة بسفح قاسيون

[عدل]

للفقراء المشتغلين في القرآن رحمه الله، محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الشيخ الصالح أبو عمر المقدسي، باني المدرسة التي بالسفح يقرأ بها القرآن العزيز، وهو أخو الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، وكان أبو عمر أسن منه، لأنه ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بقرية الساويا، وقيل بجماعيل، والشيخ أبو عمر ربى الشيخ موفق الدين وأحسن إليه وزوجه، وكان يقوم بمصالحه، فلما قدموا من الأرض المقدسة نزلوا بمسجد أبي صالح خارج باب شرقي ثم انتقلوا منه إلى السفح، ليس به من العمارة شيء سوى دير الحوراني،

قال فقيل لنا الصالحيين نسبة إلى مسجد أبي صالح لا أنا صالحون، وسميت هذه البقعة من ذلك الحين بالصالحية نسبة إلينا، فقرأ الشيخ أبو عمر القرآن على رواية أبي عمرو، وحفظ مختصر الخرقي في الفقه، ثم إن أخاه الموفق شرحه فيما بعد فكتب شرحه بيده، وكتب تفسير البغوي والحلية لأبي نعيم والإبانة لابن بطة، وكتب مصاحف كثيرة بيده للناس ولأهله بلا أجرة، وكان كثير العبادة والزهادة والتهجد، ويصوم الدهر وكان لا يزال متبسما، وكان يقرأ كل يوم سبعا بين الظهر والعصر ويصلي الضحى ثماني ركعات يقرأ فيهن ألف مرة قل هو الله أحد، وكان يزور مغارة الدم في كل يوم اثنين وخميس، ويجمع في طريقه الشيح فيعطيه الأرامل والمساكين، ومهما تهيأ له من فتوح وغيره يؤثر به أهله والمساكين، وكان متقللا في الملبس وربما مضت عليه مدة لا يلبس فيها سراويل ولا قميصا، وكان يقطع من عمامته قطعا يتصدق بها أو في تكميل كفن ميت، وكان هو وأخوه وابن خالهم الحافظ عبد الغني وأخوه الشيخ العماد لا ينقطعون عن غزاة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الفرنج، وقد حضروا معه فتح القدس والسواحل وغيرها، وجاء الملك العادل يوما إلى ختمهم أي خصهم لزيارة أبي عمر وهو قائم يصلي، فما قطع صلاته ولا أوجز فيها، فجلس السلطان واستمر أبو عمر في صلاته ولم يلتفت إليه حتى قضى صلاته رحمه الله.

والشيخ أبو عمر هو الذي شرع في بناء المسجد الجامع أولا بمال رجل فامي، فنفد ما عنده وقد ارتفع البناء قامة فبعث صاحب إربل الملك المظفر كوكرى مالا فكمل به، وولى خطابته الشيخ أبو عمر، فكان يخطب به وعليه لباسه الضعيف وعليه أنوار الخشية والتقوى والخوف من الله عز وجل، والمسك كيف خبأته ظهر عليك وبان، وكان المنبر الذي فيه يومئذ ثلاث مراقي والرابعة للجلوس، كما كان المنبر النبوي.

وقد حكى أبو المظفر: أنه حضر يوما عنده الجمعة وكان الشيخ عبد الله البوتاني حاضرا الجمعة أيضا عنده، فلما انتهى في خطبته إلى الدعاء للسلطان قال:

اللهم اصلح عبدك الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيوب، فلما قال ذلك نهض الشيخ عبد الله البوتاني وأخذ نعليه وخرج من الجامع وترك صلاة الجمعة، فلما فرغنا ذهبت إلى البوتاني فقلت له: ماذا نقمت عليه في قوله؟ فقال يقول لهذا الظالم العادل؟ لا صليت معه، قال فبينما نحن في الحديث إذ أقبل الشيخ أبو عمر ومعه رغيف وخيارتان فكسر ذلك الرغيف وقال الصلاة، ثم قال:

قال النبي : «بعثت في زمن الملك العادل كسرى» فتبسم الشيخ عبد الله البوتاني ومد يده فأكل، فلما فرغوا قام الشيخ أبو عمر فذهب، فلما ذهب قال لي البوتاني: يا سيدنا ماذا إلا رجل صالح.

قال أبو شامة: كان البوتاني من الصالحين الكبار، وقد رأيته وكانت وفاته بعد أبي عمر بعشر سنين فلم يسامح الشيخ أبا عمر في تساهله مع ورعه، ولعله كان مسافرا والمسافر لا جمعة عليه، وعذر الشيخ أبي عمر أن هذا قد جرى مجرى الأعلام العادل الكامل الأشرف ونحوه،

كما يقال سالم وغانم ومسعود ومحمود، وقد يكون ذلك على الضد والعكس في هذه الأسماء، فلا يكون سالما ولا غانما ولا مسعودا ولا محمودا، وكذلك اسم العادل ونحوه من أسماء الملوك وألقابهم، والتجار وغيرهم، كما يقال شمس الدين وبدر الدين وعز الدين وتاج الدين ونحو ذلك قد يكون معكوسا على الضد والانقلاب ومثله الشافعي والحنبلي وغيرهم.

وقد تكون أعماله ضد ما كان عليه إمامه الأول من الزهد والعبادة ونحو ذلك، وكذلك العادل يدخل إطلاقه على المشترك والله اعلم.

قلت: هذا الحديث الذي احتج به الشيخ أبو عمر لا أصل له، وليس هو في شيء من الكتب المشهورة، وعجبا له ولأبي المظفر ثم لأبي شامة في قبول مثل هذا وأخذه منه مسلما إليه في والله أعلم.

ثم شرع أبو المظفر في ذكر فضائل أبي عمر ومناقبه وكراماته وما رآه هو وغيره من أحواله الصالحة.

قال وكان على مذهب السلف الصالح سمتا وهديا، وكان حسن العقيدة متمسكا بالكتاب والسنة والآثار المروية يمرها كما جاءت من غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين، وكان ينهى عن صحبة المتبدعين ويأمر بصحبة الصالحين الذين هم على سنة سيد المرسلين وخاتم النبيين، وربما أنشدني لنفسه في ذلك:

أوصيكم بالقول في القرآن ** بقول أهل الحق والإتقان

ليس بمخلوق ولا بفان ** لكن كلام الملك الديان

آياته مشرقة المعاني ** متلوة للـه باللسـان

محفوظةً في الصدر والجنان ** مكتوبةٌ في الصحف بالبنان

والقول في الصفات يا إخواني ** كالذات والعلم مع البيان

إمرارها من غير ما كفران ** من غير تشبيهٍ ولا عطلان

قال وأنشدني لنفسه:

ألم يك ملهاة عن اللهو أنني ** بدا لي شيب الرأس والضعف والألم

ألم بي الخطب الذي لو بكيته ** حياتي حتى يذهب الدمع لم ألم

قال ومرض أياما فلم يترك شيئا مما كان يعمله من الأوراد، حتى كانت وفاته وقت السحر في ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الأول فغسل في الدير وحمل إلى مقبرته في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ولم يبق أحد من الدولة والأمراء والعلماء والقضاة وغيرهم إلا حضر جنازته.

وكان يوما مشهودا وكان الحر شديدا فأظلت الناس سحابة من الحر، كان يسمع منها كدوي النحل، وكان الناس ينتهبون أكفانه وبيعت ثيابه بالغالي الغالي، ورثاه الشعراء بمراثي حسنة، ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله.

وترك من الأولاد ثلاثة ذكور: عمر، وبه كان يكنى، والشرف عبد الله وهو الذي ولي الخطابة بعد أبيه، وهو والد العز أحمد. وعبد الرحمن.

ولما توفي الشرف عبد الله صارت الخطابة لأخيه شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر، وكان من أولاد أبيه الذكور، فهؤلاء أولاده الذكور، وترك من الإناث بنات كما قال الله تعالى: { مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارا } 11 قال وقبره في طريق مغارة الجوع في الزقاق المقابل لدير الحوراني رحمه الله وإيانا.

ابن طبرزد شيخ الحديث

[عدل]

عمر بن محمد بن معمر بن يحيى المعروف بأبي حفص بن طبرزد البغدادي الدراقزي، ولد سنة خمس عشرة وخمسمائة، سمع الكثير وأسمع، وكان خليعا ظريفا ماجنا، وكان يؤدب الصبيان بدار القز قدم مع حنبل بن عبد الله المكبر إلى دمشق فسمع أهلها عليهما، وحصل لهما أموال وعادا إلى بغداد فمات حنبل سنة ثلاث وتأخر هو إلى هذه السنة في تاسع شهر رجب فمات وله سبع وتسعون سنة، وترك مالا جيدا ولم يكن له وارث إلا بيت المال، ودفن بباب حرب.

السلطان الملك العادل أرسلان شاه

[عدل]

نور الدين صاحب الموصل، وهو ابن أخي نور الدين الشهيد، وقد ذكرنا بعض سيرته في الحوادث، كان شافعي المذهب، ولم يكن بينهم شافعي سواه، وبنى للشافعية مدرسة كبيرة بالموصل وبها تربته، توفي في صفر ليلة الأحد من هذه السنة.

ابن سكينة عبد الوهاب بن علي

[عدل]

ضياء الدين المعروف بابن سكينة الصوفي، كان يعد من الأبدال، سمع الحديث الكثير وأسمعه ببلاد شتى، ولد في سنة تسع عشرة وخمسمائة، وكان صاحبا لأبي الفرج ابن الجوزي ملازما لمجلسه وكان يوم جنازته يوما مشهودا لكثرة الخلق ولكثرة ما كان فيه من الخاصة والعامة رحمه الله.

مظفر بن ساسير

[عدل]

الواعظ الصوفي البغدادي، ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وسمع الحديث،

وكان يعظ في الأعزية والمساجد والقرى، وكان ظريفا مطبوعا قام إليه إنسان فقال له فيما بينه وبينه: أنا مريض جائع، فقال أحمد ربك فقد عوفيت.

واجتاز مرة على قصاب يبيع لحما ضعيفا وهو يقول أين من حلف لا يغبن، فقال له حتى تحنثه. قال: وعملت مرة مجلسا بيعقوبا فجعل هذا يقول عندي للشيخ نصفية وهذا يقول عندي للشيخ نصفية، وهذا يقول مثله حتى عدوا نحوا من خمسين نصفية، فقلت في نفسي:

استغنيت الليلة فأرجع إلى البلد تاجرا، فلما أصبحت إذا صبرة من شعير في المسجد فقيل لي هذه النصافي التي ذكر الجماعة، وإذا هي بكيلة يسمونها نصفية مثل الزبدية، وعملت مرة مجلسا بباصرا فجمعوا لي شيئا لا أدري ما هو، فلما أصبحنا إذا شيء من صوف الجواميس وقرونها، فقام رجل ينادي عليكم عندكم في قرون الشيخ وصوفه، فقلت لا حاجة لي بهذا وأنتم في حل منه. ذكره أبو شامة.

ثم دخلت سنة ثمان وستمائة

[عدل]

استهلت والعادل مقيم على الطور لعمارة حصنه، وجاءت الأخبار من بلاد المغرب بأن عبد المؤمن قد كسر الفرنج بطليطلة كسرة عظيمة، وربما فتح البلد عنوة وقتل منهم خلقا كثيرا.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة شديدة بمصر والقاهرة، هدمت منها دورا كثيرة، وكذلك بالكرك والشوبك هدمت من قلعتها أبراجا، ومات خلق كثير من الصبيان والنسوان تحت الهدم، ورئي دخان نازل من السماء فيما بين المغرب والعشاء عند قبر عاتكة غربي دمشق.

وفيها: أظهرت الباطنية الإسلام وأقامت الحدود على من تعاطى الحرام، وبنوا الجوامع والمساجد، وكتبوا إلى إخوانهم بالشام بمضات وأمثالها بذلك، وكتب زعيمهم جلال الدين إلى الخليفة يعلمه بذلك، وقدمت أمة منهم إلى بغداد لأجل الحج فأكرموا وعظموا بسبب ذلك، ولكن لما كانوا بعرفات ظفر واحد منهم على قريب لأمير مكة قتادة الحسيني فقتله ظانا أنه قتادة فثارت فتنة بين سودان مكة وركب العراق، ونهب الركب وقتل منهم خلق كثير.

وفيها: اشترى الملك الأشرف جوسق الريس من النيرب من ابن عم الظاهر خضر بن صلاح الدين وبناه بناء حسنا، وهو المسمى بزماننا بالدهشة.

وفيها توفي من الأعيان:

الشيخ عماد الدين محمد بن يونس الفقيه الشافعي الموصلي

[عدل]

صاحب التصانيف والفنون الكثيرة، كان رئيس الشافعية بالموصل، وبعث رسولا إلى بغداد بعد موت نور الدين أرسلان، وكان عنده وسوسة كثيرة في الطهارة، وكان يعامل في الأموال بمسألة العينة كما قيل تصفون البعوض من شرابكم وتستربطون الجمال بأحمالها، ولو عكس الأمر لكان خيرا له،

فلقيه يوما قضيب البان الموكه فقال له: يا شيخ بلغني عنك أنك تغسل العضو من أعضائك بإبريق من الماء فلم لا تغسل اللقمة التي تأكلها لتستنظف قلبك وباطنك؟ ففهم الشيخ ما أراد فترك ذلك. توفي بالموصل في رجب عن ثلاث وسبعين سنة.

ابن حمدون تاج الدين

[عدل]

أبو سعد الحسن بن محمد بن حمدون، صاحب التذكرة الحمدونية، كان فاضلا بارعا، اعتنى بجمع الكتب المنسوبة وغيرها، وولاه الخليفة المارستان العضدي، توفي بالمدائن وحمل إلى مقابر قريش فدفن بها.

صاحب الروم خسروشاه

[عدل]

ابن قلج أرسلان، مات فيها وقام بالملك بعده ولده كيكايرس، فلما توفي في سنة خمس عشرة ملك أخوه كيقباذ صارم الدين برغش العادلي نائب القلعة بدمشق، مات في صفر ودفن بتربته غربي الجامع المظفري، وهذا الرجل هو الذي نفى الحافظ عبد الغني المقدسي إلى مصر وبين يديه كان عقد المجلس، وكان في جملة من قام عليه ابن الزكي والخطيب الدولعي، وقد توفوا أربعتهم وغيرهم ممن قام عليه واجتمعوا عند ربهم الحكم العدل سبحانه.

الأمير فخر الدين سركس

[عدل]

ويقال له جهاركس أحد أمراء الدولة الصلاحية وإليه تنسب قباب سركس بالسفح تجاه تربة خاتون وبها قبره.

قال ابن خلكان: هذا هو الذي بنى القيسارية الكبرى بالقاهرة المنسوبة إليه وبنى في أعلاها مسجدا معلقا وربعا، وقد ذكر جماعة من التجار أنهم لم يروا لها نظيرا في البلدان في حسنها وعظمها وإحكام بنائها.

قال: وجها ركس بمعنى أربعة أنفس.

قلت وقد كان نائبا للعادل على بانياس وتينين وهو بين، فلما توفي ترك ولدا صغيرا فأقره العادل على ما كان يليه أبوه وجعل له مدبرا وهو الأمير صارم الدين قطلبا التنيسي، ثم استقل بها بعد موت الصبي إلى سنة خمس عشرة.

الشيخ الكبير المعمر الرحلة أبو القاسم أبو بكر أبو الفتح

منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوي النيسابوري، سمع أباه وجد أبيه وغيرهما، وعنه ابن الصلاح وغيره، توفي بنيسابور في شعبان في هذه السنة عن خمس وثمانين سنة.

قاسم الدين التركماني

[عدل]

العقيبي والد والي البلد، كانت وفاته في شوال منها والله أعلم.

ثم دخلت سنة تسع وستمائة

[عدل]

فيها اجتمع العادل وأولاده الكامل والمعظم والفائز بدمياط من بلاد مصر في مقاتلة الفرنج فاغتنم غيبتهم سامة الجبلي أحد أكابر الأمراء، وكانت بيده قلعة عجلون وكوكب فسار مسرعا إلى دمشق ليستلم البلدين، فأرسل العادل في إثره ولده المعظم فسبقه إلى القدس وحمل عليه فرسم عليه في كنيسة صهيون، وكان شيخا كبيرا قد أصابه النقرس، فشرع يرده إلى الطاعة بالملاطفة فلم ينفع فيه فاستولى على حواصله وأملاكه وأمواله وأرسله إلى قلعة الكرك فاعتقله بها.

وكان قيمة ما أخذه منه قريبا من ألف ألف دينار، من ذلك داره وحمامه داخل باب السلامة، وداره هي التي جعلها البادرائي مدرسة للشافعية، وخرب حصن كوكب ونقلت حواصله إلى حصن الطور الذي استجده العادل وولده المعظم.

وفيها: عزل الوزير ابن شكر واحتيط على أمواله ونفي إلى الشرق، وهو الذي كان قد كتب إلى الديار المصرية بنفي الحافظ عبد الغني منها بعد نفيه من الشام، فكتب أن ينفى إلى المغرب، فتوفي الحافظ عبد الغني رحمه الله قبل أن يصل الكتاب، وكتب الله عز وجل بنفي الوزير إلى الشرق محل الزلازل والفتن والشر، ونفاه عن الأرض المقدسة جزاء وفاقا.

ولما استولى صاحب قبرص على مدينة إنطاكية حصل بسببه شر عظيم وتمكن من الغارات على بلاد المسلمين، لا سيما على التراكمين الذين حول إنطاكية، قتل منهم خلقا كثيرا وغنم من أغنامهم شيئا كثيرا، فقدر الله عز وجل أن أمكنهم منه في بعض الأودية فقتلوه وطافوا برأسه في تلك البلاد، ثم أرسلوا رأسه إلى الملك العادل إلى مصر فطيف به هنالك، وهو الذي أغار على بلاد مصر من ثغر دمياط مرتين فقتل وسبى وعجز عنه الملوك.

وفي ربيع الأول منها توفي الملك الأوحد نجم الدين أيوب

[عدل]

ابن العادل صاحب خلاط، يقال إنه كان قد سفك الدماء وأساء السيرة فقصف الله عمره، ووليها بعده أخوه الملك الأشرف موسى، وكان محمود السيرة جيد السريرة فأحسن إلى أهلها فأحبوه كثيرا.

وفيها توفي من الأعيان:

فقيه الحرم الشريف بمكة محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني

[عدل]

وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي بكر القفصي المقري المحدث، كتب كثيرا وسمع الكثير ودفن بمقابر الصوفية.

أبو الفتح محمد بن سعد بن محمد الديباجي

[عدل]

من أهل مرو، له كتاب المحصل في شرح المفصل للزمخشري في النحو. كان ثقة عالما سمع الحديث توفي فيها عن ثنتين وتسعين سنة.

الشيخ الصالح الزاهد العابد

[عدل]

أبو البقاء محمود بن عثمان بن مكارم النعالي الحنبلي كان له عبادات ومجاهدات وسياحات، وبنى رباطا بباب الأزج يأوي إليه أهل العلم من المقادسة وغيرهم، وكان يؤثرهم ويحسن إليهم، وقد سمع الحديث وقرأ القرآن، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. توفي وقد جاوز الثمانين.

ثم دخلت سنة عشر وستمائة

[عدل]

فيها أمر العادل أيام الجمع بوضع سلاسل على أفواه الطرق إلى الجامع لئلا تصل الخيول إلى قريب الجامع صيانة للمسلمين عن الأذى بهم، ولئلا يضيقوا على المارين إلى الصلاة.

وفيها: ولد الملك العزيز للظاهر غازي صاحب حلب، وهو والد الملك الناصر صاحب دمشق واقف الناصريتين داخل دمشق، إحداهما داخل باب الفراديس، والأخرى بالسفح ذات الحائط الهائل والعمارة المتينة، التي قيل إنه لا يوجد مثلها إلا قليلا، وهو الذي أسره التتار الذين مع هولاكو ملك التتار.

وفيها: قدم بالفيل من مصر فحمل هدية إلى صاحب الكرج فتعجب الناس منه جدا، ومن بديع خلقه.

وفيها: قدم الملك الظافر خضر بن السلطان صلاح الدين من حلب قاصدا الحج، فتلقاه الناس وأكرمه ابن عمه المعظم،

فلما لم يبق بينه وبين مكة إلا مراحل يسيرة تلقته حاشية الكامل صاحب مصر وصدوه عن دخول مكة، وقالوا إنما جئت لأخذ اليمن، فقال لهم قيدوني وذروني أقضي المناسك، فقالوا: ليس معنا مرسوم وإنما أمرنا بردك وصدك، فهمّ طائفة من الناس بقتالهم فخاف من وقوع فتنة فتحلل من حجه ورجع إلى الشام، وتأسف الناس على ما فعل به وتباكوا لما ودعهم، تقبل الله منه.

وفيها: وصل كتاب من بعض فقهاء الحنفية بخراسان إلى الشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي يخبر به أن السلطان خوارزم شاه محمد بن تاج تنكر في ثلاثة نفر من أصحابه، ودخل بلاد التتر ليكشف أخبارهم بنفسه، فأنكروهم فقبضوا عليهم فضربوا منهم اثنين حتى ماتا ولم يقرأ بما جاؤا فيه واستوثقوا من الملك وصاحبه الآخر أسرا، فلما كان في بعض الليالي هربا ورجع السلطان إلى ملكه وهذه المرة غير نوبة أسره في المعركة مع مسعود الأمير.

وفيها: ظهرت بلاطة وهم يحفرون في خندق حلب فوجد تحتها من الذهب خمسة وسبعون رطلا، ومن الفضة خمسة وعشرون بالرطل الحلبي.

وفيها توفي من الأعيان:

شيخ الحنفية مدرس مشهد أبي حنيفة ببغداد الشيخ أبو الفضل أحمد بن مسعود بن علي الرساني

[عدل]

وكان إليه المظالم، ودفن بالمشهد المذكور.

والشيخ أبو الفضل بن إسماعيل

[عدل]

ابن علي بن الحسين فخر الدين الحنبلي، يعرف بابن الماشطة، ويقال له الفخر غلام ابن المنى، له تعليقة في الخلاف وله حلقة بجامع الخليفة، وكان يلي النظر في قرايا الخليفة، ثم عزله فلزم بيته فقيرا لا شيء له إلى أن مات رحمه الله، وكان ولده محمد مدبرا شيطانا مريدا كثير الهجاء والسعاية بالناس إلى أولياء الأمر بالباطل، فقطع لسانه وحبس إلى أن مات.

والوزير معز الدين أبو المعالي

[عدل]

سعيد بن علي بن أحمد بن حديدة، من سلالة الصحابي قطبة بن عامر بن حديدة الأنصاري، ولي الوزارة للناصر في سنة أربع وثمانين ثم عزله عن سفارة ابن مهدي فهرب إلى مراغة، ثم عاد بعد موت ابن مهدي فأقام ببغداد معظما محترما، وكان كثير الصدقات والإحسان إلى الناس إلى أن مات رحمه الله.

وسنجر بن عبد الله الناصري

[عدل]

الخليفتي، كانت له أموال كثيرة وأملاك وإقطاعات متسعة، وكان مع ذلك بخيلا ذليلا ساقط النفس، اتفق أنه خرج أمير الحاج في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فاعترضه بعض الأعراب في نفر يسير، ومع سنجر خمسمائة فارس، فدخله الذل من الأعرابي، فطلب منه الأعرابي خمسين ألف دينار فجباها سنجر من الحجيج ودفعها إليه، فلما عاد إلى بغداد أخذ الخليفة منه خمسين ألف دينار ودفعها إلى أصحابها وعزله وولى طاشتكين مكانه.

قاضي السلامية ظهير الدين أبو إسحاق إبراهيم بن نصر بن عسكر

[عدل]

الفقيه الشافعي الأديب، ذكره العماد في الجريدة وابن خلكان في الوفيات، وأثنى عليه وأنشد من شعره، في شيخ له زاوية وفي أصحابه يقال له مكي:

ألا قل لمكي قول النصوح ** وحق النصيحة أن تستمع

متى سمع الناس في دينهم ** بأن الغنـا سنَّـة تتبـع؟

وأن يأكل المرء أكل البعير ** ويرقص في الجمع حتى يقع

ولو كان طاوى الحشا جائعا ** لما دار من طرب واستمع

وقالوا: سكرنا بحب الإله ** وما أسكر القوم إلا القصع

كذاك الحمير إذا أخصبت ** يهـيّجها ريّـها والشبـع

تراهم يهـزّوا لحاهم إذا ** تـرنّـم حاديهم بالبـدع

فيصرخ هذا وهذا يئـن ** ويبس لو تلـيّن ما انصدع

وتاج الأمناء

[عدل]

أبو الفضل أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عساكر من بيت الحديث والرواية، وهو أكبر من إخوته زين الفخر والأمناء، سمع عميه الحافظ أبي القاسم والصائن، وكان صديقا للكندي توفي يوم الأحد ثاني رجب ودفن قبلي محراب مسجد القدم.

والنسابة الكلبي

[عدل]

كان يقال له تاج العلى الحسيني، اجتمع بآمد بابن دحية، وكان ينسب إلى دحية الكلبي، ودحية الكلبي لم يعقب، فرماه ابن دحية بالكذب في مسائله الموصلية.

قال ابن الأثير:

وفي المحرم منها توفي:

المهذب الطبيب المشهور

[عدل]

وهو علي بن أحمد بن مقبل الموصلي سمع الحديث وكان أعلم أهل زمانه بالطب، وله فيه تصنيف حسن، وكان كثير الصدقة حسن الأخلاق.

الجزولي صاحب المقدمة المسماة بالقانون

[عدل]

وهو أبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي- بطن من البربر- ثم البردكيني النحوي المصري، مصنف المقدمة المشهورة البديعة، شرحها هو وتلامذته، وكلهم يعترفون بتقصيرهم عن فهم مراده في أماكن كثيرة منها، قدم مصر وأخذ عن ابن بري، ثم عاد إلى بلاده وولي خطابة مراكش، توفي في هذه السنة وقيل قبلها فالله أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى عشرة وستمائة

[عدل]

فيها أرسل الملك خوارزم شاه أميرا من أخصاء أمرائه عنده، وكان قبل ذلك سيروانيا فصار أميرا خاصا، فبعثه في جيش ففتح له كرمان ومكران وإلى حدود بلاد السند، وخطب له بتلك البلاد، وكان خورازم شاه لا يصيف إلا بنواحي سمرقند خوفا من التتار وكشلى خان أن يثبوا على أطراف تلك البلاد التي تتاخمهم.

قال أبو شامة: وفيها: شرع في تبليط داخل الجامع الأموي وبدأوا من ناحية السبع الكبير، وكانت أرض الجامع قبل ذلك حفرا وجورا فاستراح الناس في تبليطه.

وفيها: وسع الخندق مما يلي القيمازية فأخربت دور كثيرة وحمام قايماز وفرن كان هناك وقفا على دار الحديث النورية.

وفيها: بنى المعظم الفندق المنسوب إليه بناحية قبر عاتكة ظاهر باب الجابية.

وفيها: أخذ المعظم قلعة صرخد من ابن قراجا وعوضه عنها وسلمها إلى مملوكه عز الدين أيبك المعظمي، فثبتت في يده إلى أن انتزعها منه نجم الدين أيوب سنة أربع وأربعين.

وفيها: حج الملك المعظم ابن العادل ركب من الكرك على الهجن في حادي عشر ذي القعدة ومعه ابن موسك ومملوك أبيه وعز الدين أستاذ داره وخلق، فسار على طريق تبوك والعلا. وبنى البركة المنسوبة إليه، ومصانع أخر.

فلما قدم المدينة النبوية تلقاه صاحبها سالم وسلم إليه مفاتيحها وخدمه خدمة تامة، وأما صاحب مكة قتادة فلم يرفع به رأسا، ولهذا لما قضى نسكه، وكان قارنا، وأنفق في المجاورين ما حمله إليهم من الصدقات وكر راجعا استصحب معه سالما صاحب المدينة وتشكى إلى أبيه عند رأس الماء ما لقيه من صاحب مكة، فأرسل العادل، مع سالم جيشا يطردون صاحب مكة، فلما انتهوا إليها هرب منهم في الأدوية والجبال والبراري، وقد أثر المعظم في حجته هذه آثارا حسنة بطريق الحجاز أثابه الله.

وفيها: تعامل أهل دمشق في القراطيس السود العادلية ثم بطلت بعد ذلك ودفنت.

وفيها: مات صاحب اليمن وتولاها سليمان بن شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب باتفاق الأمراء عليه، فأرسل العادل إلى ولده الكامل أن يرسل إليها ولده أضسيس، فأرسله فتملكها فظلم بها وفتك وغشم، وقتل من الأشراف نحوا من ثمانمائة، وأما من عداهم فكثير، وكان من أفجر الملوك وأكثرهم فسقا وأقلهم حياء ودينا، وقد ذكروا عنه ما تقشعر منه الأبدان وتنكره القلوب، نسأل الله العافية

وفيها توفي من الأعيان:

إبراهيم بن علي ابن محمد بن بكروس الفقيه الحنبلي

[عدل]

أفتى وناظر وعدل عند الحكام، ثم انسلخ من هذا كله وصار شرطيا بباب النوى يضرب الناس ويؤذيهم غاية الأذى، ثم بعد ذلك ضرب إلى أن مات وألقي في دجلة وفرح الناس بموته، وقد كان أبوه رجلا صالحا.

الركن عبد السلام بن عبد الوهاب

[عدل]

ابن الشيخ عبد القادر، كان أبوه صالحا وكان هو متهما بالفلسفة ومخاطبة النجوم، ووجد عنده كتب في ذلك، وقد ولي عدة ولايات، وفيه وفي أمثاله يقال: نعم الجدود ولكن بئس ما نسلوا.

رأى عليه أبوه يوما ثوبا بخاريا فقال: سمعنا بالبخاري ومسلم، وأما بخاري وكافر فهذا شيء عجيب، وقد كان مصاحبا لأبي القاسم بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وكان الآخر مدبرا فاسقا، وكانا يجتمعان على الشراب والمردان قبحهما الله.

أبو محمد عبد العزيز بن محمود بن المبارك

[عدل]

البزار المعروف بابن الأخضر البغدادي المحدث المكثر الحافظ المصنف المحرر، له كتب مفيدة متقنة، وكان من الصالحين، وكان يوم جنازته يوما مشهودا رحمه الله.

الحافظ أبو الحسن علي بن الأنجب

[عدل]

أبي المكارم المفضل بن أبي الحسن علي بن أبي الغيث مفرج بن حاتم بن الحسن بن جعفر بن إبراهيم بن الحسن اللخمي المقدسي، ثم الإسكندراني المالكي، سمع السلفي وعبد الرحيم المنذري وكان مدرسا للمالكية بالإسكندرية، ونائب الحكم بها. ومن شعره قوله:

أيا نفس بالمأثور عن خير مرسل ** وأصحابه والتابعين تمسكي

عساكي إذا بالغت في نشر دينه ** بما طاب من عرف له أن تمسكي

وخافي غدا يوم الحساب جهنما ** إذا لفحت نيرانها أن تمسكي

توفي بالقاهرة في هذه السنة قاله ابن خلكان.

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وستمائة

[عدل]

فيها شرع في بناء المدرسة العادلية الكبيرة بدمشق، وفيها: عزل القاضي ابن الزكي وفوض الحكم إلى القاضي جمال الدين بن الحرستاني، وهو ابن ثمانين أو تسعين سنة، فحكم بالعدل وقضى بالحق، ويقال إنه كان يحكم بالمدرسة المجاهدية قريبا من النورية عند باب القواسين.

وفيها: أبطل العادل ضمان الخمر والقيان جزاه الله خيرا، فزال بزوال ذلك عن الناس ومنهم شر كثير.

وفيها: حاصر الأمير قتادة أمير مكة المدينة ومن بها وقطع نخلا كثيرا، فقاتله أهلها فكر خائبا خاسرا حسيرا، وكان صاحب المدينة بالشام فطلب من العادل نجدة على أمير مكة، فأرسل معه جيشا فأسرع في الأوبة فمات في أثناء الطريق، فاجتمع الجيش على ابن أخيه جماز فقصد مكة فالتقاه أميرها بالصفراء فاقتتلوا قتالا شديدا، فهرب المكيون وغنم منهم جماز شيئا كثيرا، وهرب قتادة إلى الينبع فساروا إليه فحاصروه بها وضيقوا عليه.

وفيها: أغارت الفرنج على بلاد الإسماعيلية فقتلوا ونهبوا.

وفيها: أخذ ملك الروم كيكاوس مدينة إنطاكية من أيدي الفرنج ثم أخذها منه ابن لاون ملك الأرمن، ثم منه إبريس طرابلس.

وفيها: ملك خوارزم شاه محمد بن تكش مدينة غزنة بغير قتال.

وفيها: كانت وفاة ولي العهد أبي الحسن علي بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، ولما توفي حزن الخليفة عليه حزنا عظيما.

وكذلك الخاصة والعامة لكثرة صدقاته وإحسانه إلى الناس، حتى قيل إنه لم يبق بيت ببغداد إلا حزنوا عليه، وكان يوم جنازته يوما مشهودا وناح أهل البلد عليه ليلا ونهارا ودفن عند جدته بالقرب من قبر معروف، توفي يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة وصلى عليه بعد صلاة العصر، وفي هذا اليوم قدم بغداد برأس منكلي الذي كان قد عصي على الخليفة وعلى أستاذه، فطيف به ولم يتم فرحه ذلك اليوم لموت ولده وولي عهده، والدنيا لا تسر بقدر ما تضر، وترك ولدين أحدهما المؤيد أبو عبد الله الحسين، والموفق أبو الفضل يحيى.

وفيها توفي من الأعيان:

الحافظ عبد القادر الرهاوي

[عدل]

ابن عبد القادر بن عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد الحافظ المحدث المخرج المفيد المحرر المتقن البارع المصنف، كان مولى لبعض المواصلة، وقيل لبعض الجوابين، اشتغل بدار الحديث بالموصل، ثم انتقل إلى حران، وقد رحل إلى بلدان شتى، وسمع الكثير من المشايخ، وأقام بحرّان، إلى أن توفي بها، وكان مولده في سنة ست وثلاثين وخمسمائة، كان دينا صالحا رحمه الله.

الوجيه الأعمى

[عدل]

أبو بكر المبارك بن سعيد بن الدهان النحوي الواسطي الملقب بالوجيه، ولد بواسط وقدم بغداد فاشتغل بعلم العربية فأتقن ذلك وحفظ شيئا من أشعار العرب، وسمع الحديث وكان حنبليا ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة، ثم صار شافعيا وولي تدريس النحو بالنظامية، وفيه يقول الشاعر:

فمن مبلغ عني الوجيه رسالةً ** وإن كان لا تجدي إليه الرسائل

تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ** وذلك لما أعوزتك المآكل

وما أخذت برأي الشافعي ديانة ** ولكنما تهوى الذي هو حاصل

وعما قليل أنت لا شك صائر ** إلى مالك فانظر إلى ما أنت قائل

وكان يحفظ شيئا كثيرا من الحكايات والأمثال والملح، ويعرف العربية والتركية والعجمية والرومية والحبشية والزنجية، وكانت له يد طولى في نظم الشعر. فمن ذلك قوله:

ولو وقفت في لجة البحر قطرةٌ ** من المزن يوما ثم شاء لما زها

ولو ملك الدنيا فأضحى ملوكها ** عبيدا له في الشرق والغرب مازها

وله في التجنيس:

أطلت ملامي في اجتنابي لمعشر ** طغام لئام جودهم غير مرتجى

حموا ما لهم والدين والعرض منهم ** مباح فما يخشون من عاب أو هجا

إذا شرع الأجواد في الجود منهجا ** لهم شرعوا في البخل سبعين منهجا

وله مدائح حسنة وأشعار رائقة ومعاني فائقة، وربما عارض شعر البحتري بما يقاربه ويدانيه، قالوا وكان الوجيه لا يغضب قط، فتراهن جماعة مع واحد أنه إن أغضبه كان له كذا وكذا، فجاء إليه فسأله عن مسألة في العربية فأجابه فيها بالجواب، فقال له السائل:

أخطأت أيها الشيخ، فأعاد عليه الجواب بعبارة أخرى، فقال: كذبت وما أراك إلا قد نسيت النحو، فقال الوجيه: أيها الرجل فلعلك لم تفهم ما أقول لك، فقال بلى ولكنك تخطيء في الجواب، فقال له:

فقل أنت ما عندك لنستفيد منك، فأغلظ له السائل في القول فتبسم ضاحكا وقال له: إن كنت راهنت فقد غلبت، وإنما مثلك مثل البعوضة - يعني الناموسة - سقطت على ظهر الفيل، فلما أرادت أن تطير قالت له استمسك فإني أحب أن أطير، فقال لها الفيل: ما أحسست بك حين سقطت، فما أحتاج أن أستمسك إذا طرت، كانت وفاته رحمه الله في شعبان منها ودفن بالوردية.

أبو محمد عبد العزيز بن أبي المعالي

[عدل]

ابن غنيمة المعروف بابن منينا، ولد سنة خمس عشرة وخمسمائة وسمع الكثير وأسمعه، توفي في ذي الحجة منها عن سبع وتسعين سنة.

الشيخ الفقه كمال الدين مودود

[عدل]

ابن الشاغوري الشافعي كان يقرئ بالجامع الأموي الفقه وشرح التنبيه للطلبة،

ويتأنى عليهم حتى يفهموا احتسابا تجاه المقصورة. ودفن بمقابر باب الصغير شمالي قبور الشهداء وعلى قبره شعر ذكره أبو شامة والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة

[عدل]

قال أبو شامة: فيها أحضرت الأوتاد الخشب الأربعة لأجل قبة النسر، طول كل واحد اثنان وثلاثون ذراعا بالنجار.

وفيها: شرع في تجديد خندق باب السر المقابل لدار الطعم العتيقة إلى جانب بانياس.

قلت: هي التي يقال لها اليوم اصطبل السلطان، وقد نقل السلطان بنفسه التراب ومماليكه تحمل بين يديه على قربوس السروج القفاف من التراب فيفرغونها في الميدان الأخضر، وكذلك أخوه الصالح ومماليكه يعمل هذا يوما وهذا يوما.

وفيها: وقعت فتنة بين أهل الشاغور وأهل العقيبة فاقتتلوا بالرحبة والصيارف، فركب الجيش إليهم ملبسين وجاء المعظم بنفسه فمسك رؤوسهم وحبسهم.

وفيها: رتب بالمصلى خطيب مستقل، وأول من باشره الصدر معيد الفلكية، ثم خطب به بعد بهاء الدين بن أبي اليسر، ثم بنو حسان وإلى الآن.

وفيها توفي من الأعيان:

الملك الظاهر أبو منصور

[عدل]

غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان من خيار الملوك وأسدَّهم سيرة، ولكن كان فيه عسف ويعاقب على الذنب اليسير كثيرا، وكان يكرم العلماء والشعراء والفقراء، أقام في الملك ثلاثين سنة وحضر كثيرا من الغزوات مع أبيه، وكان ذكيا له رأي جيد وعبارة سديدة وفطنة حسنة، بلغ أربعا وأربعين سنة، وجعل الملك من بعده لولده العزيز غياث الدين محمد، وكان حينئذ ابن ثلاث سنين، وكان له أولاد كبار ولكن ابنه هذا الصغير الذي عهد إليه كان من بنت عمه العادل وأخواله الأشرف والمعظم والكامل، وجده وأخواله لا ينازعونه، ولو عهد لغيره من أولاده لأخذوا الملك منه، وهكذا وقع سواء، بايع له جده العادل وأخواله، وهمَّ المعظم بنقض ذلك وبأخذ الملك منه فلم يتفق له ذلك، وقام بتدبير ملكه الطواشي شهاب الدين طغرلبك الرومي الأبيض، وكان دينا عاقلا.

وفيها توفي من الأعيان:

زيد بن الحسن ابن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة الشيخ الإمام وحيد عصره تاج الدين أبو اليمن الكندي

[عدل]

ولد ببغداد ونشأ بها واشتغل وحصل، ثم قدم دمشق فأقام بها وفاق أهل زمانه شرقا وغربا في اللغة والنحو وغير ذلك من فنون العلم، وعلو الإسناد وحسن الطريقة والسيرة وحسن العقيدة، وانتفع به علماء زمانه وأثنوا عليه وخضعوا له.

وكان حنبليا ثم صار حنفيا. ولد في الخامس والعشرين من شعبان سنة عشرين وخمسمائة، فقرأ القرآن بالروايات وعمره عشر سنين، وسمع الكثير من الحديث العالي على الشيوخ الثقات، وعنى به وتعلم العربية واللغة واشتهر بذلك، ثم دخل الشام في سنة ثلاث وستين وخمسمائة، ثم سكن مصر واجتمع بالقاضي الفاضل، ثم انتقل إلى دمشق فسكن بدار العجم منها وحظي عند الملوك والوزراء والأمراء، وتردد إليه العلماء والملوك وأنباؤهم.

كان الأفضل ابن صلاح الدين وهو صاحب دمشق يتردد إليه إلى منزله، وكذلك أخوه المحسن والمعظم ملك دمشق، كان ينزل إليه إلى درب العجم يقرأ عليه في المفصل للزمخشري، وكان المعظم يعطى لمن حفظ المفصل ثلاثين دينارا جائزة، وكان يحضر مجلسه بدرب العجم جميع المصدرين بالجامع، كالشيخ علم الدين السخاوي ويحيى بن معطى الوجيه اللغوي، والفخر التركي وغيرهم، وكان القاضي الفاضل يثنى عليه.

قال السخاوي: كان عنده من العلوم ما لا يوجد عند غيره. ومن العجب أن سيبويه قد شرح عليه كتابه وكان اسمه عمرو، واسمه زيد. فقلت في ذلك:

لم يكن في عهد عمرو مثله ** وكذا الكندي في آخر عصر

فهما زيد وعمرو إنمـا ** بنى النحو على زيد وعمرو

قال أبو شامة: وهذا كما قال فيه ابن الدهان المذكور في سنة ثنتين وتستعين وخمسمائة:

يا زيد زادك ربي من مواهبه ** نعما يقصر عن إدراكها الأمل

النحو أنت أحق العالمين به ** أليس باسمك فيه يضرب المثل

وقد مدحه السخاوي بقصيدة حسنة وأثنى عليه أبو المظفر سبط ابن الجوزي، فقال قرأت عليه وكان حسن العقيدة ظريف الخلق لا يسأم الإنسان من مجالسته، وله النوادر العجيبة والخط المليح والشعر الرائق، وله ديوان شعر كبير، وكانت وفاته يوم الاثنين سادس شوال منها وله ثلاث وتسعون سنة وشهر وسبعة عشر يوما وصلّي عليه بجامع دمشق ثم حمل إلى الصالحية فدفن بها.

وكان قد وقف كتبه - وكانت نفيسة - وهي سبعمائة وإحدى وستون مجلدا، على معتقه نجيب الدين ياقوت، ثم على العلماء في الحديث والفقه واللغة وغير ذلك، وجعلت في خزانة كبيرة في مقصورة ابن سنان الحلبية المجاورة لمشهد علي بن زين العابدين، ثم إن هذه الكتب تفرقت وبيع كثير منها ولم يبق بالخزانة المشار إليها إلا القليل الرث، وهي بمقصورة الحلبية، وكانت قديما يقال لها مقصورة ابن سنان.

وقد ترك نعمة وافرة وأموالا جزيلة، ومماليك متعددة من الترك الحسان، وقد كان رقيق الحاشية حسن الأخلاق يعامل الطلبة معاملة حسنة من القيام والتعظيم، فلما كبر ترك القيام لهم وأنشأ يقول:

تركت قيامي للصديق يزورني ** لا ذنب لي إلا الإطالة في عمري

فإن بلغوا من عش تسعين نصفها ** تبين في ترك القيام لهم عذري

ومما مدح فيه الملك المظفر شاهنشاه ما ذكره ابن الساعي في تاريخه:

وصال الغواني كان أورى وأرجا ** وعصر التداني كان أبهى وأبهجا

ليالي كان العمر أحسن شافعٍ ** تولى وكان اللهو أوضح منهـجا

بدا الشيب فانجابت طماعية الصبا ** وقبح لي ما كان يستحسن الحجا

بلهنيةٌ ولت كان لم أكن بها ** أجلى بها وجه النعيم مسرجا

ولا ختلت في برد الشباب مجررا ** ذيولي إعجابا به وتبرجا

أعارك غيداء المعاطف طفلةً ** وأغيد معسول المراشف أدعجا

نقضت لياليها بطيب كأنه ** لتقصيره منها مختطف الدجـا

فإن أمس مكروب الفؤاد حزينه ** أعاقر من در الصابة منهجا

وحيدا على أني بفضلي متيم ** مروعا بأعداء الفضائل مزعجا

فيا رب ديني قد سررت وسرني ** وأبهجته بالصالحات وأبهجا

ويا رب ناد قد شهدت وماجد ** شهدت دعوته فتلجلـجا

صدعت بفضلي نقصه فتركته ** وفي قلبه شجو وفي حلقه شجا

كأن ثنائي في مسامع حسدي ** وقد ضم أبكار المعاني وأدرجا

حسام تقي الدين في كل مارق ** يقد إلى الأرض الكمي المدججا

وقال يمدح أخاه معز الدين فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب

هل أنت راحم عبرة ومدله ** ومجير صب عند ما منه وهي

هيهات يرحم قاتل مقتوله ** وسنانه في القلب غير منهنـه

مذ بلّ من ذاك الغرام فإنني ** مذ حل بي مرض الهوى لم أنقه

إني بليت بحب أغيد ساحر ** بلحاظه رخص البنان بزهـوه

أبغي شفاء تدلهي من واله ** ومتى يرق مدلل لمـدله

كم آهة لي في هواه وأنة ** لو كان ينفعني عليه تأوهي

ومآرب في وصله لو أنها ** تقضي لكانت عند مبسمه الشهي

يا مفردا بالحسن إنك منته ** فيه كما أنا في الصبابة منتهي

قد لام فيك معاشر كي أنتهي ** باللوم عن حب الحياة وأنت هي

أبكي لديه فإن أحس بلوعة ** وتشهق أرمي بطرف مقهقـه

يا من محاسنه وحالي عنده ** حيران بين تفكر وتكفـه

ضدان قد جمعا بلفظ واحد ** لي في هواه بمعنيين موجّـه

أو لست رب فضائل لو حاز أد ** ناها وما أزهى بها غيري زهي

والذي أنشده تاج الدين الكندي في قتل عمارة اليمني حين كان مالأ الكفرة والملحدين على قتل الملك صلاح الدين، وأرادوا عودة دولة الفاطميين فظهر على أمره فصلب مع من صلب في سنة تسع وتسعين وخمسمائة:

عمارة في الإسلام أبدى خيانةً ** وحالف فيها بيعةً وصليبـا

فأمسى شريك الشرك في بعض أحمد ** وأصبح في حب الصليب صليبا

وكان طبيب الملتقي إن عجمته ** تجد منه عودا في النفاق صليبا

وله:

صحبنا الدهر أياما حسانا ** نعوم بهن في اللذات عوما

وكانت بعد ما ولت كأني ** لدى نقصانها حلما ونوما

أناخ بي المشيب فلا براح ** وإن أوسعته عتبا ولومـا

نزيل لا يزال على التآني ** يسوق إلى الردى يوما فيوما

وكنت أعد لي عاما فعاما ** فصرت أعد لي يوما فيوما

العز محمد بن الحافظ عبد الغني المقدسي

[عدل]

ولد سنة ست وستين وخمسمائة وأسمعه والده الكثير ورحل بنفسه إلى بغداد وقرأ بها مسند أحمد وكانت له حلقة بجامع دمشق، وكان من أصحاب المعظم، وكان صالحا دينا ورعا حافظا رحمه الله ورحم أباه.

أبو الفتوح محمد بن علي بن المبارك

[عدل]

الخلاخلي البغدادي، سمع الكثير، وكان يتردد في الرسلية بين الخليفة والملك الأشرف ابن العادل وكان عاقلا دينا ثقة صدوقا.

الشريف أبو جعفر يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن علي العلوي الحسيني

[عدل]

نقيب الطالبيين بالبصرة بعد أبيه، كان شيخا أديبا فاضلا عالما بفنون كثيرة لا سيما علم الأنساب وأيام العرب وأشعارها، يحفظ كثيرا منها، وكان من جلساء الخليفة الناصر، ومن لطيف شعره قوله:

ليهنك سمع لا يلائمه العذل ** وقلب قريح لا يمل ولا يسلو

كأن عليّ الحب أضحى فريضة ** فليس لقلبي غيره أبدا شغل

وإني لأهوى الهجر ما كان أصله ** دلالا ولولا الهجر ما عذب الوصل

وأما إذا كان الصدود ملالةً ** فأيسر ما هم الحبيب به القتل

أبو علي مزيد بن علي ابن مزيد المعروف بابن الخشكري الشاعر المشهور

[عدل]

من أهل النعمانية جمع لنفسه ديوانا أورد له ابن الساعي قطعةً من شعره فمن ذلك قوله:

سألتك يوم النوى نظرةً ** فلم تسمحي فعزالا سلم

فأعجب كيف تقولين لا ** ووجهك قد خط فيه نعم

أما النون يا هذه حاجب ** أما العين عين أما الميم فم

أبو الفضل رشوان بن منصور ابن رشوان الكردي

[عدل]

المعروف بالنقف ولد بأربل وخدم جنديا وكان أديبا شاعرا خدم مع الملك العادل ومن شعره قوله:

سلي عني الصوارم والرماحا ** وخيلا تسبق الهوج الرياحا

وأسدا حبيسها سمر العوالي ** إذا ما الأسد حاولت الكفاحا

فإني ثابت عقـلا ولبـا ** إذا ما صائح في الحرب صاحا

وأورد مهجتي لجج المنايا ** إذا ماجت ولم أخف الجراحا

وكم ليل سهرت وبت فيه ** أراعي النجم أرتقب الصباحا

وكم في فدفد فرسي ونضوى ** بقائلة الهجير غدا وراحـا

لعينك في العجاجة ما ألاقي ** وأثبت في الكريهة لا براحـا

محمد بن يحيى ابن هبة الله أبو نصر النحاس الوساطي

[عدل]

كتب إلى السبط من شعره:

وقائلة لما عمرت وصار لي ** ثمانون عاما: عش كذا وابق واسلم

ودم وانتشق روح الحياة فإنه ** لا طيب من بيت بصعدة مظلم

فقلت لها: عذري لديك ممهد ** ببيت زهير فاعملي وتعلمـي

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ** ثمانين حولا لا محالة يسأم

ثم دخلت سنة أربع عشرة وستمائة

[عدل]

في ثالث المحرم منها كمل تبليط داخل الجامع الأموي وجاء المعتمد مبارز الدين إبراهيم المتولى بدمشق، فوضع آخر بلاطة منه بيده عند باب الزيارة فرحا بذلك. وفيها: زادت دجلة ببغداد زيادة عظيمة وارتفع الماء حتى ساوى القبور إلا مقدار أصبعين، ثم طفح الماء من فوقه وأيقن الناس بالهلكة واستمر ذلك سبع ليال وثمانية أيام حسوما، ثم منَّ الله فتناقص الماء وذهبت الزيادة، وقد بقيت بغداد تلولا وتهدمت أكثر البنايات.

وفيها: درس بالنظامية محمد بن يحيى بن فضلان وحضر عنده القضاة والأعيان.

وفيها: صدر الصدر بن حمويه رسولا من العادل إلى الخليفة.

وفيها: قدم ولده الفخر ابن الكامل إلى المعظم يخطب منه ابنته على ابنه أقسيس صاحب اليمن، فعقد العقد بدمشق على صداق هائل.

وفيها: قدم السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش من همدان قاصدا إلى بغداد في أربعمائة ألف مقاتل، وقيل في ستمائة ألف، فاستعد له الخليفة واستخدم الجيوش وأرسل إلى الخليفة يطلب منه أن يكون بين يديه على قاعدة من تقدمه من الملوك السلاجقة، وأن يخطب له ببغداد، فلم يجبه الخليفة إلى ذلك، وأرسل إليه الشيخ شهاب الدين السهروردي، فلما وصل شاهد عنده من العظمة وكثرة الملوك بين يديه وهو جالس في حركاة من ذهب على سرير ساج، وعليه قباء بخاري ما يساوي خمسة دراهم، وعلى رأسه جلدة ما تساوي درهما، فسلم عليه فلم يرد عليه من الكبر ولم يأذن له في الجلوس، فقام إلى جانب السرير وأخذ في خطبة هائلة فذكر فيها فضل بني العباس وشرفهم.

وأورد حديثا في النهي عن أذاهم والترجمان يعيد على الملك، فقال الملك أما ما ذكرت من فضل الخليفة فإنه ليس كذلك، ولكني إذا قدمت بغداد أقمت من يكون بهذه الصفة، وأما ما ذكرت من النهي عن أذاهم فإني لم أوذ منهم أحدا ولكن الخليفة في سجونه منهم طائفة كثيرة يتناسلون في السجون، فهو الذي آذى بني العباس، ثم تركه ولم يرد عليه جوابا بعد ذلك.

وانصرف السهروردي راجعا، وأرسل الله تعالى على الملك وجنده ثلجا عظيما ثلاثة أيام حتى طم الحزاكي والخيام، ووصل إلى قريب رؤوس الأعلام، وتقطعت أيدي رجال وأرجلهم، وعمهم من البلاء ما لا يحد ولا يوصف، فردهم الله خائبين والحمد لله رب العالمين.

وفيها: انقضت الهدنة التي كانت بين العادل والفرنج واتفق قدوم العادل من مصر فاجتمع هو وابنه المعظم ببيسان، فركبت الفرنج من عكا وصحبتهم ملوك السواحل كلهم وساقوا كلهم قاصدين معافصة العادل فلما أحس بهم فر منهم لكثرة جيوشهم وقلة من معه، فقال ابنه المعظم إلى أين يا أبة؟ فشتمه بالعجمية وقال له: أقطعت الشام مماليكك وتركت أبناء الناس.

ثم توجه العادل إلى دمشق وكتب إلى واليها المعتمد ليحصنها من الفرنج وينقل إليها من الغلات من داريا إلى القلعة، ويرسل الماء على أراضي داريا وقصر حجاج والشاغور، ففزع الناس من ذلك وابتهلوا إلى الله بالدعاء وكثر الضجيج بالجامع، وأقبل السلطان فنزل مرج الصفر وأرسل إلى ملوك الشرق ليقدموا لقتال الفرنج، فكان أول من قدم صاحب حمص أسد الدين، فتلقاه الناس فدخل من باب الفرج وجاء فسلم على ست الشام بدارها عند المارستان.

ثم عاد إلى داره، ولما قدم أسد الدين سرى عن الناس فلما أصبح توجه نحو العادل إلى مرج الصفر. وأما الفرنج فإنهم قدموا بيسان فنهبوا ما كان بها من الغلات والدواب، وقتلوا وسبوا شيئا كثيرا، ثم عاثوا في الأرض فسادا يقتلون وينهبون ويأسرون ما بين بيسان إلى بانياس.

وخرجوا إلى أراضي الجولان إلى نوى وغيرها، وسار الملك المعظم فنزل على عقبة اللبن بين القدس ونابلس خوفا على القدس منهم، فإنه هو الأهم الأكبر، ثم حاصر الفرنج حصن الطور حصارا هائلا ومانع عنه الذين به من الأبطال ممانعة هائلة، ثم كر الفرنج راجعين إلى عكا ومعهم الأسارى من المسلمين، وجاء الملك المعظم إلى الطور فخلع على الأمراء الذين به وطيب نفوسهم، ثم اتفق هو وأبوه على هدمه كما سيأتي.

وفيها توفي من الأعيان:

الشيخ الإمام العلامة الشيخ العماد أخو الحافظ عبد الغني

[عدل]

أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، الشيخ العمادي أصغر من أخيه الحافظ عبد الغني بسنتين، وقدم مع الجماعة إلى دمشق سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ودخل بغداد مرتين وسمع الحديث وكان عابدا زاهدا ورعا كثير الصيام، يصوم يوما ويفطر يوما، وكان فقيها مفتيا، وله كتاب الفروع وصنف أحكاما ولم يتمه، وكان يؤم بمحراب الحنابلة مع الشيخ الموفق، وإنما كانوا يصلون بغير محراب، ثم وضع المحراب في سنة سبع عشرة وستمائة، وكان أيضا يؤم بالناس لقضاء الفوائت، وهو أول من فعل ذلك.

صلى المغرب ذات ليلة وكان صائما ثم رجع إلى منزله بدمشق فأفطر ثم مات فجأة، فصلي عليه بالجامع الأموي، صلى عليه الشيخ الموفق عند مصلاهم، ثم صعدوا به إلى السفح، وكان يوم موته يوما مشهودا من كثرة الناس.

قال سبط ابن الجوزي كان الخلق من الكهف إلى مغارة الدم إلى المنطور لو بذر السمسم ما وقع إلا على رؤوس الناس، قال فلما رجعت تلك الليلة فكرت فيه وفي جنازته وكثرة من شهدها وقلت: هذا كان رجلا صالحا ولعله أن يكون نظر إلى ربه حين وضع في قبره، ومر بذهني أبيات الثوري التي أنشدها بعد موته في المنام:

نظرت إلى ربي كفاحا فقال لي ** هنيئا رضائي عنك يا ابن سعيد

لقد كنت قواما إذا أظلم الدجى ** بعبرة مشتاق وقلب عميـد

فدونك فاختر أي قصر أردته ** وزرني فإني عنك غير بعيـد

ثم قلت أرجو أن يكون العماد رأى ربه كما رآه الثوري، فنمت فرأيت الشيخ العماد في المنام وعليه حلة خضراء وعمامة خضراء، وهو في مكان متسع كأنه روضة، وهو يرقى في درج متسعة، فقلت: يا عماد الدين كيف بت فإني والله مفكر فيك؟ فنظر إلى وتبسم على عادته التي كنت أعرفه فيها في الدنيا ثم قال:

رأيت إلهي حين أنزلت حفرتي ** وفارقت أصحابي وأهلي وجيرتي

وقال:

جزيت الخير عني فإنني ** رضيت فها عفوي لديك ورحمتي

دأبت زمانا تأمل العفو والرضا ** فوقيت نيراني ولقيت جنتي

قال فانتبهت وأنا مذعور وكتبت الأبيات والله أعلم.

القاضي جمال الدين ابن الحرستاني

[عدل]

عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل أبو القاسم الأنصاري ابن الحرستاني قاضي القضاة بدمشق ولد سنة عشرين وخمسمائة، وكان أبوه من أهل حرستان، فنزل داخل باب توما وأمَّ بمسجد الزينبي ونشأ ولده هذا نشأة حسنة سمع الحديث الكثير وشارك الحافظ ابن عساكر في كثير من شيوخه، وكان يجلس للإسماع بمقصورة الخضر، وعندها كان يصلي دائما لا تفوته الجماعة بالجامع.

وكان منزله بالحورية ودرس بالمجاهدية وعمر دهرا طويلا على هذا القدم الصالح والله أعلم. وناب في الحكم عن ابن أبي عصرون، ثم ترك ذلك ولزم بيته وصلاته بالجامع، ثم عزل العادل القاضي ابن الزكي والزم هذا بالقضاء وله ثنتان وتسعون سنة وأعطاه تدريس العزيزية.

وأخذ التقوية أيضا من ابن الزكي وولاها فخر الدين ابن عساكر. قال ابن عبد السلام: ما رأيت أحدا أفقه من ابن الحرستاني، كان يحفظ الوسيط للغزالي.

وذكر غير واحد أنه كان من أعدل القضاة وأقومهم بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان ابنه عماد الدين يخطب بجامع دمشق، وولي مشيخة الأشرفية ينوب عنه، وكان القاضي جمال الدين يجلس للحكم بمدرسته المجاهدية، وأرسل إليه السلطان طراحة ومسندة لأجل أنه شيخ كبير.

وكان ابنه يجلس بين يديه، فإذا قام أبوه جلس في مكانه، ثم إنه عزل ابنه عن نيابته لشيء بلغه عنه، واستناب شمس الدين بن الشيرازي، وكان يجلس تجاهه في شرقي الإيوان، واستناب معه شمس الدين ابن سنا الدولة، واستناب شرف الدين ابن الموصلي الحنفي، فكان يجلس في محراب المدرسة، واستمر حاكما سنتين وأربعة أشهر، ثم مات يوم السبت رابع ذي الحجة وله من العمر خمس وتسعون سنة، وصلي عليه بجامع دمشق ثم دفن بسفح قاسيون.

الأمير بدر الدين محمد بن أبي القاسم

[عدل]

الهكاري باني المدرسة التي بالقدس، كان من خيار الأمراء، وكان يتمنى الشهادة دائما فقتله الفرنج بحصن الطور، ودفن بالقدس بتربة عاملها وهو يزار إلى الآن رحمه الله.

الشجاع محمود المعروف بابن الدماغ

[عدل]

كان من أصدقاء العادل يضحكه، فحصل أموالا جزيلة منهم، كانت داره داخل باب الفرنج فجعلتها زوجته عائشة مدرسة للشافعية والحنفية، ووقفت عليها أوقافا دارّة.

الشيخة الصالحة العابدة الزاهدة

[عدل]

شيخة العالمات بدمشق، تلقب بدهن اللوز، بنت نورنجان، وهي آخر بناته وفاة وجعلت أموالها وقفا على تربة أختها بنت العصبة المشهورة.

ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة

[عدل]

استهلت والعادل بمرج الصفر لمناجزة الفرنج وأمر ولده المعظم بتخريب حصن الطور فأخربه ونقل ما فيه من آلات الحرب وغيرها إلى البلدان خوفا من الفرنج.

وفي ربيع الأول نزلت الفرنج على دمياط وأخذوا برج السلسلة في جمادى الأولى، وكان حصنا منيعا، وهو قفل بلاد مصر.

وفيها: التقى المعظم والفرنج على القيمون فكسرهم وقتل منهم خلقا وأسر من الداوية مائة فأدخلهم إلى القدس منكسة أعلامهم.

وفيها: جرت خطوب كثيرة ببلد الموصل بسبب موت ملوكها أولاد قرا أرسلان واحدا بعد واحد، وتغلب مملوك أبيهم بدر الدين لؤلؤ على الأمور والله أعلم.

وفيها: أقبل ملك الروم كيكاريس سنجر يريد أخذ مملكة حلب، وساعده على ذلك الأفضل بن صلاح الدين صاحب سميساط، فصده عن ذلك الملك الأشرف موسى بن العادل وقهر ملك الروم وكسر جيشه ورده خائبا.

وفيها: تملك الأشرف مدينة سنجار مضافا إلى ما بيده من الممالك.

وفيها: توفي السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب، فأخذت الفرنج دمياط ثم ركبوا وقصدوا بلاد مصر من ثغر دمياط فحاصروه مدة أربعة شهور، والملك الكامل يقاتلهم ويمانعهم، فتملكوا برج السلسلة وهو كالقفل على ديار مصر، وصفته في وسط جزيرة في النيل عند انتهائه إلى البحر، ومنه إلى دمياط، وهو على شاطئ البحر وحافة سلسلة منه إلى الجانب الآخر، وعليه الجسر وسلسلة أخرى لتمنع دخول المراكب من البحر إلى النيل، فلا يمكن الدخول، فلما ملكت الفرنج هذا البرج شق ذلك على المسلمين، وحين وصل الخبر إلى الملك العادل وهو بمرج الصفر تأوه لذلك تأوها شديدا ودق بيده على صدره أسفا وحزنا على المسلمين وبلادها، ومرض من ساعته مرض الموت لأمر يريده الله عز وجل.

فلما كان يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة توفي بقرية غالقين، فجاءه ولده المعظم مسرعا فجمع حواصله وأرسله في محفة ومعه خادم بصفة أن السلطان مريض، وكلما جاء أحد من الأمراء ليسلم عليه بلغهم الطواشي عنه، أي أنه ضعيف، عن الرد عليهم، فلما انتهى به إلى القلعة دفن بها مدة ثم حول إلى تربته بالعادلية الكبيرة، وقد كان الملك سيف الدين أبو بكر بن أيوب بن شادي من خيار الملوك وأجودهم سيرة، دينا عاقلا صبورا وقورا، أبطل المحرمات والخمور والمعازف من مملكته كلها وقد كانت ممتدة من أقصى بلاد مصر واليمن والشام والجزيرة إلى همدان كلها، أخذها بعد أخيه صلاح الدين سوى حلب فإنه أقرها بيد ابن أخيه الظاهر غازي لأنه زوج ابنته صفية الست خاتون.

وكان العادل حليما صفوحا صبورا على الأذى كثير الجهاد بنفسه ومع أخيه حضر معه مواقفه كلها أو أكثرها في مقاتلة الفرنج، وكانت له في ذلك اليد البيضاء، وكان ماسك اليد وقد أنفق في عام الغلاء بمصر أموالا كثيرة على الفقراء وتصدق على أهل الحاجة من أبناء الناس وغيرهم شيئا كثيرا جدا، ثم إنه كفن في العام الثاني من بعد عام الغلاء في الفناء مائة ألف إنسان من الغرباء والفقراء.

وكان كثير الصدقة في أيام مرضه حتى كان يخلع جميع ما عليه ويتصدق به وبمركوبه، وكان كثير الأكل ممتعا بصحة وعافية مع كثرة صيامه، كان يأكل في اليوم الواحد أكلات جيدة، ثم بعد هذا يأكل عند النوم رطلا بالدمشقي من الحلوى السكرية اليابسة، وكان يعتريه مرض في أنفه في زمن الورد وكان لا يقدر على الإقامة بدمشق حتى يفرغ زمن الورد، فكان يضرب له الوطاق بمرج الصفر ثم يدخل البلد بعد ذلك.

توفي عن خمس وسبعين سنة، وكان له من الأولاد جماعة:

محمد الكامل صاحب مصر، وعيسى المعظم صاحب دمشق، وموسى الأشرف صاحب الجزيرة، وخلاط وحران وغير ذلك، والأوحد أيوب مات قبله، والفائز إبراهيم، والمظفر غازي صاحب الرها، والعزيز عثمان والأمجد حسن وهما شقيقا المعظم، والمقيت محمود، والحافظ أرسلان صاحب جعبر والصالح إسماعيل، والقاهر إسحاق، ومجير الدين يعقوب، وقطب الدين أحمد وخليل، وكان أصغرهم وتقي الدين عباس، وكان آخرهم وفاة، بقي إلى سنة ستين وستمائة.

وكان له بنات أشهرهن الست صفية خاتون زوجة الظاهر غازي صاحب حلب وأم الملك العزيز والد الناصر يوسف الذي ملك دمشق، وإليه تنسب الناصريتان إحداهما بدمشق والأخرى بالسفح وهو الذي قتله هولاكو كما سيأتي.

صفة أخذ الفرنج دمياط

[عدل]

لما اشتهر الخبر بموت العادل ووصل إلى ابنه الكامل وهو بثغر دمياط مرابط الفرنج، أضعف ذلك أعضاء المسلمين وفشلوا، ثم بلغ الكامل خبر آخر أن الأمير ابن المشطوب وكان أكبر أمير بمصر، قد أراد أن يبايع للفائز عوضا عن الكامل، فسلق وحده جريدة فدخل مصر ليستدرك هذا الخطب الجسيم، فلما فقده الجيش من بينهم انحل نظامهم واعتقدوا أنه قد حدث أمر أكبر من موت العادل، فركبوا وراءه فدخلت الفرنج بأمان إلى الديار المصرية، واستحوذوا على معسكر الكامل وأثقاله، فوقع خبط عظيم جدا، وذلك تقدير العزيز العليم، فلما دخل الكامل مصر لم يقع مما ظنه شيء، وإنما هي خديعة من الفرنج وهرب منه ابن المشطوب إلى الشام.

ثم ركب من فوره في الجيش إلى الفرنج فإذا الأمر قد تزايد، وتمكنوا من البلدان وقتلوا خلقا وغنموا كثيرا، وعاثت الأعراب التي هنالك على أموال الناس، فكانوا أضر عليهم من الفرنج، فنزل الكامل تجاه الفرنج يمانعهم عن دخولهم إلى القاهرة بعد أن كان يمانعهم عن دخول الثغر، وكتب إلى إخوانه يستحثهم ويستنجدهم ويقول: الوحا الوحا العجل العجل، أدركوا المسلمين قبل تملك الفرنج جميع أرض مصر.

فأقبلت العساكر الإسلامية إليه من كل مكان، وكان أول من قدم عليه أخوه الأشرف بيض الله وجهه، ثم المعظم وكان من أمرهم مع الفرنج ما سنذكره بعد هذه السنة.

وفيها: ولي حسبة بغداد الصاحب محيي الدين يوسف بن أبي الفرج ابن الجوزي، وهو مع ذلك يعمل ميعاد الوعظ على قاعدة أبيه، وشكر في مباشرته للحسبة.

وفيها: فوض إلى المعظم النظر في التربة البدرية تجاه الشبلية عند الجسر الذي على ثور، ويقال له: جسر كحيل، وهي منسوبة إلى حسن بن الداية، كان هو وإخوته من أكابر أمراء نور الدين محمود بن زنكي، وقد جعلت في حدود الأربعين وستمائة جامعا يخطب فيه يوم الجمعة.

وفيها: أرسل السلطان علاء الدين محمد بن تكش إلى الملك العادل وهو مخيم بمرج الصفر رسولا، فرد إليه مع الرسول خطيب دمشق جمال الدين محمد بن عبد الملك الدولعي، واستنيب عنه في الخطابة الشيخ الموفق عمر بن يوسف خطيب بيت الآبار، فأقام بالعزيزية يباشر عنه، حتى قدم وقد مات العادل.

وفيها: توفي الملك القاهر صاحب الموصل.

فأقيم ابنه الصغير مكانه، ثم قتل وتشتت شمل البيت الأتابكي، وتغلب على الأمور بدر الدين لؤلؤ غلام أبيه.

وفيها: كان عود الوزير صفي الدين عبد الله ابن علي بن شكر من بلاد الشرق بعد موت العادل، فعمل فيه علم الدين مقامة بالغ في مدحه فيها، وقد ذكروا أنه كان متواضعا يحب الفقراء والفقهاء، ويسلم على الناس إذا اجتاز بهم وهو راكب في أبهة وزارته، ثم إنه نكب في هذه السنة، وذلك أن الكامل هو الذي كان سبب طرده وإبعاده كتب إلى أخيه المعظم فيه، فاحتاط على أمواله وحواصله وعزل ابنه عن النظر من الدواوين، وقد كان ينوب عن أبيه، في مدة غيبته.

وفي رجب منها أعاد المعظم ضمان القيان والخمور والمغنيات وغير ذلك، من الفواحش والمنكرات التي كان أبوه قد أبطلها، بحيث إنه لم يكن أحد يتجاسر أن ينقل ملء كف خمر إلى دمشق إلا بالحيلة الخفية، فجزى الله العادل خيرا، ولا جزى المعظم خيرا على ما فعل، واعتذر المعظم في ذلك بأنه إنما صنع هذا المنكر لقلة الأموال على الجند، واحتياجهم إلى النفقات في قتال الفرنج.

وهذا من جهله وقلة دينه وعدم معرفته بالأمور، فإن هذا الصنيع يديل عليهم الأعداء وينصرهم عليهم، ويتمكن منهم الداء ويثبط الجند عن القتال، فيولون بسببه الأدبار.

وهذا مما يدمر ويخرب الديار ويديل الدول، كما في الأثر: «إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني».

وهذا ظاهر لا يخفى على فطن.

من الأعيان:

القاضي شرف الدين أبو طالب عبد الله بن زين القضاة عبد الرحمن بن سلطان بن يحيى اللخمي الضرير البغدادي

[عدل]

كان ينسب إلى علم الأوائل، ولكنه كان يتستر بمذهب الظاهرية، قال فيه ابن الساعي: الداودي المذهب المعري أدبا واعتقادا، ومن شعره:

إلى الرحمن أشكو ما ألاقي ** غداة عدوا على هوج النياقِ؟

سألتكم بمن زم المطايـا ** أمَّـر بكم أمـُّر من الفـراقِ؟

وهل ذل أشد من التنائـي ** وهل عيش ألذ من التـلاقِ؟

قاضي قضاة بغداد عماد الدين أبو القاسم

[عدل]

عبد الله بن الحسين بن الدمغاني الحنفي، سمع الحديث وتفقه على مذهب أبي حنيفة، وولي القضاء ببغداد مرتين نحوا من أربع عشرة سنة، وكان مشكور السيرة عارفا بالحساب والفرائض وقسمة التركات.

أبو اليمن نجاح بن عبد الله الحبشي

[عدل]

السوداني نجم الدين مولى الخليفة الناصر، كان يسمى سلمان دار الخلافة، وكان لا يفارق الخليفة، فلما مات وجد عليه الخليفة وجدا كثيرا، وكان يوم جنازته يوما مشهودا، كان بين يدي نعشه مائة بقرة وألف شاة وأحمال من التمر والخبز والماورد، وقد صلى عليه الخليفة بنفسه تحت التاج، وتصدق عنه بعشرة آلاف دينار على المشاهد، ومثلها على المجاورين بالحرمين، وأعتق مماليكه ووقف عنه خمسمائة مجلد.

أبو المظفر محمد بن علوان

[عدل]

ابن مهاجر بن علي بن مهاجر الموصلي، تفقه بالنظامية وسمع الحديث، ثم عاد إلى الموصل فساد أهل زمانه بها، وتقدم في الفتوى والتدريس بمدرسة بدر الدين لؤلؤ وغيرها، وكان صالحا دينا.

أبو الطيب رزق الله بن يحيى

[عدل]

ابن رزق الله بن يحيى بن خليفة بن سليمان بن رزق الله بن غانم بن غنام التأخدري المحدث الجوال الرحال الثقة الحافظ الأديب الشاعر، أبو العباس أحمد بن برتكش بن عبد الله العمادي، كان من أمراء سنجار، وكان أبوه من موالي الملك عماد الدين زنكي صاحبها، وكان أحمد هذا دينا شاعرا ذا مال جزيل، وأملاك كثيرة، وقد احتاط على أمواله قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي وأودعه سجنا فنسي فيه ومات كمدا، ومن شعره:

تقول وقد ودعتها ودموعها ** على خدها من خشية البين تلتقي

مضى أكثر العمر الذي كان نافعا ** رويدك فاعمل صالحا في الذي بقي

ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة

[عدل]

فيها: أمر الشيخ محيي الدين بن الجوزي محتسب بغداد بإزالة المنكر وكسر الملاهي عكس ما أمر به المعظم، وكان أمره في ذلك في أول هذه السنة ولله الحمد والمنة.

ظهور جنكيز خان وعبور التتار نهر جيحون

[عدل]

وفيها: عبرت التتار نهر جيحون صحبة ملكهم جنكيز خان من بلادهم، وكانوا يسكنون جبال طمغاج من أرض الصين ولغتهم مخالفة للغة سائر التتار، وهم من أشجعهم وأصبرهم على القتال، وسبب دخولهم نهر جيحون أن جنكزخان بعث تجارا له ومعهم أموال كثيرة إلى بلاد خوارزم شاه يبتضعون له ثيابا للكسوة فكتب نائبها إلى خوارزم شاه يذكر له ما معهم من كثرة الأموال.

فأرسل إليه بأن يقتلهم ويأخذ ما معهم، ففعل ذلك، فلما بلغ جنكزخان خبرهم أرسل يتهدد خوارزم شاه، ولم يكن ما فعله خوارزم شاه فعلا جيدا.

فلما تهدده أشار من أشار على خوارزم شاه بالمسير إليهم، فسار إليهم وهم في شغل شاغل بقتال كشلي خان، فنهب خوارزم شاه أموالهم وسبى ذراريهم وأطفالهم، فأقبلوا إليه محروبين فاقتتلوا مع أربعة أيام قتالا لم يسمع بمثله، أولئك يقاتلون عن حريمهم والمسلمون عن أنفسهم، يعملون أنهم متى ولوا استأصلوهم، فقتل من الفريقين خلق كثير، حتى أن الخيول كانت تزلق في الدماء، وكان من جملة من قتل من المسلمين نحوا من عشرين ألفا، ومن التتار أضعاف ذلك.

ثم تحاجز الفريقان وولى كل منهم إلى بلاده ولجأ خوارزم شاه وأصحابه إلى بخارى وسمرقند فحصنها وبالغ في كثرة من ترك بها من المقاتلة، ورجع إلى بلاده ليجهز الجيوش الكثيرة فقصدت، التتار بخارى وبها عشرون ألف مقاتل فحاصرها جنكزخان ثلاثة أيام، فطلب منه أهلها الأمان فأمنهم ودخلها فأحسن السيرة فيهم مكرا وخديعة، وامتنعت عليه القلعة فحاصرها واستعمل أهل البلد في طم خندقها.

وكان التتار يأتون بالمنابر والربعات فيطرحونها في الخندق يطمونه بها ففتحوها قسرا في عشرة أيام، فقتل من كان بها.

ثم عاد إلى البلد فاصطفى أموال تجارها وأحلها لجنده فقتلوا من أهلها خلقا لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا معهن الفواحش بحضرة أهليهن، فمن الناس من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم ألقت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها فاحترقت حتى صارت بلاقع خاوية على عروشها.

ثم كروا راجعين عنها قاصدين سمرقند، وكان من أمرهم ما سنذكره في السنة الآتية.

وفي مستهل هذه السنة خرب سور بيت المقدس عمره الله بذكره، أمر بذلك المعظم خوفا من استيلاء الفرنج عليه بعد مشورة من أشار بذلك، فإن الفرنج إذا تمكنوا من ذلك جعلوه وسيلة إلى أخذ الشام جميعه، فشرع في تخريب السور في أول يوم المحرم فهرب منه أهله خوفا من الفرنج أن يهجموا عليهم ليلا أو نهارا، وتركوا أموالهم وأثاثهم وتمزقوا في البلاد كل ممزق، حتى قيل إنه بيع القنطار الزيت بعشرة دراهم والرطل النحاس بنصف درهم.

وضج الناس وابتهلوا إلى الله عند الصخرة، وفي الأقصى وهي أيضا فعلة شنعاء من المعظم مع ما أظهر من الفواحش في العام الماضي، فقال بعضهم يهجو المعظم بذلك.

في رجب حلل الحميّـا ** وأخرب القدس في المحـرمُ

وفيها: استحوذت الفرنج على مدينة دمياط ودخولها بالأمان فغدروا بأهلها، وقتلوا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها، وفجروا بالنساء وبعثوا بمنبر الجامع والربعات ورؤوس القتلى إلى الجزائر، وجعلوا الجامع كنيسة.

وفيها: غضب المعظم على القاضي زكي الدين بن الزكي، وسببه أن عمته ست الشام بنت أيوب مرضت في دارها التي جعلتها بعدها مدرسة فأرسلت إلى القاضي لتوصي إليه، فذهب إليها بشهود معه فكتب الوصية كما قالت، فقال: المعظم يذهب إلى عمتي بدون إذني، ويسمع هو والشهود كلامها؟

واتفق أن القاضي طلب من جابي العزيزية حسابها وضربه بين يديه بالمقارع، وكان المعظم يبغض هذا القاضي من أيام أبيه، فعند ذلك أرسل المعظم إلى القاضي ببقجة فيها قباء وكلوتة، القباء أبيض والكاوتة صفراء.

وقيل بل كانا حمراوين مدرنين، وحلف الرسول عن السلطان ليلبسنهما ويحكم بين الخصوم فيهما، وكان من لطف الله أن جاءته الرسالة بهذا وهو في دهليز داره التي باب البريد، وهو منتصب للحكم، فلم يستطع إلا أن يلبسهما وحكم فيهما، ثم دخل داره واستقبل مرض موته.

وكانت وفاته في صفر من السنة الآتية بعدها، وكان الشرف بن عنين الزرعي الشاعر قد أظهر النسك والتعبد، ويقال: إنه اعتكف بالجامع أيضا فأرسل إليه المعظم بخمر ونرد ليشتغل بهما. فكتب إليه ابن عنين:

يا أيهـا الملك المعظم سنـةً ** أحدثتـها تبقى على الآبـادِ

تجري الملوك على طريقك بعدها ** خلع القضاة وتحفة الزهـادِ

وهذا من أقبح ما يكون أيضا، وقد كان نواب ابن الزكي أربعة:

شمس الدين بن الشيرازي إمام مشهد علي، كان يحكم بالمشهد بالشباك، وربما برز إلى طرف الرواق تجاه البلاطة السوداء.

وشمس الدين ابن سني الدولة، كان يحكم في الشباك الذي في الكلاسة تجاه تربة صلاح الدين عند الغزالية.

وكمال الدين المصري وكيل بيت المال كان يحكم في الشباك الكمالي بمشهد عثمان.

وشرف الدين الموصلي الحنفي كان يحكم بالمدرسة الطرخانية بجبرون، والله تعالى أعلم.

وفيها توفي من الأعيان:

ست الشام

[عدل]

واقفة المدرستين البرانية والجوانية الست الجليلة المصونة خاتون ست الشام بنت أيوب بن شادي، أخت الملوك وعمة أولادهم، وأم الملوك، كان لها من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكا، منهم شقيقها المعظم توران شاه بن أيوب صاحب اليمن، وهو مدفون عندها في القبر القبلي من الثلاثة، وفي الأوسط منها زوجها وابن عمها ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي صاحب حمص.

وكانت قد تزوجته بعد أبي ابنها حسام الدين عمر بن لاجين، وهي وابنها حسام الدين عمر في القبر الثالث، وهو الذي يلي مكان الدرس.

ويقال للتربة والمدرسة الحسامية نسبة إلى ابنها هذا حسام الدين عمر بن لاجين، وكان من أكابر العلماء عند خاله صلاح الدين.

وكانت ست الشام من أكثر النساء صدقة وإحسانا إلى الفقراء والمحاويج، وكانت تعمل في كل سنة في دارها بألوف من الذهب أشربة وأدوية وعقاقير وغير ذلك وتفرقه على الناس، وكانت وفاتها يوم الجمعة آخر النهار السادس عشر من ذي القعدة من هذه السنة في دارها التي جعلتها مدرسة، وهي عند المارستان وهي الشامية الجوانية، ونقلت منها إلى تربتها بالشامية البرانية، وكانت جنازتها حافلة رحمها الله.

أبو البقاء صاحب الأعراب واللباب

[عدل]

عبد الله بن الحسين بن عبد الله، الشيخ أبو البقاء العكبري الضرير النحوي الحنبلي صاحب: (إعراب القرآن العزيز) وكتاب (اللباب في النحو)، وله حواش على المقامات ومفصل الزمخشري وديوان المتنبي وغير ذلك، وله في الحساب وغيره، وكان صالحا دينا، مات وقد قارب الثمانين رحمه الله.

وكان إماما في اللغة فقيها مناظرا عارفا بالأصلين والفقه.

وحكى القاضي بن خلكان عنه: أنه ذكر في شرح المقامات أن عنقاء مغرب كانت تأتي إلى جبل شاهق عند أصحاب الرس، فربما اختطفت بعض أولادهم فشكوها إلى نبيهم حنظلة بن صفوان فدعا عليها فهلكت.

قال: وكان وجهها كوجه الإنسان وفيها شبه من كل طائر.

وذكر الزمخشري في كتابه: (ربيع الأبرار) أنها كانت في زمن موسى لها أربعة أجنحة من كل جانب، ووجه كوجه الإنسان، وفيها شبه كثير من سائر الحيوان، وأنها تأخرت إلى زمن خالد بن سنان العبسي الذي كان في الفترة فدعا عليها فهلكت، والله أعلم.

وذكر ابن خلكان: أن المعز الفاطمي جيء إليه بطائر غريب الشكل من الصعيد يقال له عنقاء مغرب.

قلت: وكل واحد من خالد بن سنان وحنظلة بن صفوان كان في زمن الفترة، وكان صالحا ولم يكن نبيا لقول رسول الله : «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي» وقد تقدم ذلك.

الحافظ عماد الدين أبو القاسم

[عدل]

علي ابن الحافظ بهاء الدين أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، سمع الكثير ورحل فمات ببغداد في هذه السنة، ومن لطيف شعره قوله في المروحة:

ومروحة تـروح كل هـمٍ ** ثلاثة أشهرٍ لا بـد منـها

حـزيران وتمـوز وآبٍ ** وفي أيلول يغـني الله عنـها

ابن الدواي الشاعر وقد أورد له ابن الساعي جملة صالحة من شعره.

وأبو سعيد بن الوزان الداوي وكان أحد المعدلين ببغداد وسمع البخاري من أبي الوقت.

وأبو سعيد محمد بن محمود بن عبد الرحمن المروزي الأصل الهمداني المولد البغدادي المنشأ والوفاة، كان حسن الشكل كامل الأوصاف له خط حسن ويعرف فنونا كثيرة من العلوم، شافعي المذهب، يتكلم في مسائل الخلاف حسن الأخلاق ومن شعره قوله:

أرى قسم الأرزاق أعجب قسمةٍ ** لذي دعةٍ ومكديةٍ لذي كدِ

وأحمـق ذو مال وأحمـق معدمٌ ** وعقل بلا حظٍ وعقلٍ له حدُ

يعم الغنى والفقر ذا الجهل والحجا ** ولله من قبل الأمور ومن بعدُ

أبو زكريا يحيى بن القاسم

[عدل]

ابن الفرج بن درع بن الخضر الشافعي شيخ تاج الدين التكريتي قاضيها، ثم درس بنظامية بغداد، وكان متقنا لعلوم كثيرة منها التفسير والفقه والأدب والنحو واللغة، وله المصنفات في ذلك كله وجمع لنفسه تاريخا حسنا. ومن شعره قوله:

لا بد للمرء من ضيق ومن سعة ** ومن سرور يوافيه ومن حزنِ

والله يطلب منه شكر نعمتـهِ ** ما دام فيها ويبغي الصبر في المحنِ

فكن مع الله في الحالين معتنقـا ** فرضيك هذين في سر وفي علنِ

فما على شدةٍ يبقى الزمان يكن ** ولا على نعمةٍ تبقى على الزمنِ

وله أيضا:

إن كان قاضي الهوى علي ولي ** ما جار في الحكم من علي ولي

يا يوسفي الجمال عندك لم ** تبق لي حيلةٌ من الحيـلِ

إن كان قد القميص من دبرٍ ** ففيك قد الفؤاد من قبـلِ

صاحب الجواهر

[عدل]

الشيخ الإمام جمال الدين أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار بن عشائر بن عبد الله بن محمد بن شاس الجذامي المالكي الفقيه، مصنف كتاب: (الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة) وهو من أكثر الكتب فوائد في الفروع رتبه على طريقة الوجيز للغزالي.

قال ابن خلكان: وفيه دلالة على غزارة علمه وفضله والطائفة المالكية بمصر عاكفة عليه لحسنه وكثرة فوائده، وكان مدرسا بمصر، ومات بدمياط رحمه والله. الله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة

[عدل]

في هذه السنة عم البلاء وعظم العزاء بجنكزخان المسمى بتموجين لعنه الله تعالى، ومن معه من التتار قبحهم الله أجمعين، واستفحل أمرهم واشتد إفسادهم من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا بلاد العراق وما حولها حتى انتهوا إلى إربل وأعمالها.

فملكوا في سنة واحدة، وهي هذه السنة سائر الممالك إلا العراق والجزيرة والشام ومصر، وقهروا جميع الطوائف التي بتلك النواحي الخوارزمية والقفجاق والكرج واللان والخزر وغيرهم.

وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين وغيرهم في بلدان متعددة كبار ما لا يحد ولا يوصف، وبالجملة فلم يدخلوا بلدا إلا قتلوا جميع من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيرا من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنهب إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى أنهم كانوا يجمعون الحرير الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار، وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل وما عجزوا عن تخريبه يحرقوه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع.

وكانوا يأخذون الأسارى من المسلمين فيقاتلون بهم ويحاصرون بهم، وإن لم ينصحوا في القتال قتلوهم.

وقد بسط ابن الأثير في كامله خبرهم في هذه السنة بسطا حسنا مفصلا، وقدم على ذلك كلاما هائلا في تعظيم هذا الخطب العجيب.

قال فنقول: هذا فصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الليالي والأيام عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله آدم والى الآن، لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعل بخت نصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب بيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة لما قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل.

ولعل الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقى على من أتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة.

فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح.

فإن قوما خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما رواء النهر، مثل سمرقند وبخارا وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكا، وتخريبا وقتلا ونهبا، ثم يجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق.

ثم يقصدون بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونه ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج منهم إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله، ثم ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه، ولم يسلم غير قلعته التي بها ملكهم، وعبروا عندها إلى بلد اللان، واللكز ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة، فأوسعوهم قتلا ونهبا وتخريبا.

ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عددا، فقتلوا كل من وقف لهم وهرب الباقون إلى الغياض وملكوا عليهم بلادهم.

وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل أفعال هؤلاء وأشد، هذا ما لم يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في سنة واحدة، إنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدا بل رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض، وأطيبه وأحسنه عمارة، وأكثره أهلا وأعد لهم أخلاقا وسيرة في نحو سنة.

ولم يتفق لأحد من أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف مترقب وصولهم، وهم مع ذلك يسجدون للشمس إذا طلعت، ولا يحرمون شيئا، ويأكلون ما وجدوه من الحيوانات والميتات لعنهم الله تعالى.

قال: وإنما استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع لأن السلطان خوارزم شاه محمدا كان قد قتل الملوك من سائر الممالك واستقر في الأمور، فلما انهزم منهم في العام الماضي وضعف عنهم وساقوا وراءه فهرب فلا يدري أين ذهب، وهلك في بعض جزائر البحر، خلت البلاد ولم يبق لها من يحميها { لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرا كَانَ مَفْعُولا } 12، وإلى الله ترجع الأمور.

ثم شرع في تفصيل ما ذكره مجملا، فذكر أولا ما قدمنا ذكره في العام الماضي من بعث جنكزخان أولئك التجار بمال له ليأتونه بثمنه كسوة ولباسا، وأخذ خوارزم شاه تلك الأموال فحنق عليه جنكزخان وأرسل يهدده فسار إليه خوارزم شاه بنفسه وجنوده فوجد التتار مشغولين بقتال كشلى خان، فنهب أثقالهم ونساءهم وأطفالهم فرجعوا وقد انتصروا على عدوهم، وازدادوا حنقا وغيظا، فتواقعواهم وإياه وابن جنكزخان ثلاثة أيام فقتل من الفريقين خلق كثير.

ثم تحاجزوا ورجع خوارزم شاه إلى أطراف بلاده فحصنها ثم كر راجعا إلى مقره ومملكته بمدينة خوارزم شاه، فأقبل جنكزخان فحصر بخارا كما ذكرنا فافتتحها صلحا وغدر بأهلها حتى افتتح قلعتها قهرا وقتل الجميع، وأخذ الأموال وسبى النساء والأطفال وخرب الدور والمحال، وقد كان بها عشرون ألف مقاتل، فلم يغن عنهم شيئا، ثم سار إلى سمرقند فحاصرها في أول المحرم من هذه السنة وبها خمسون ألف مقاتل من الجند، فنكلوا وبرز إليهم سبعون ألفا من العامة فقتل الجميع في ساعة واحدة، وألقى إليه الخمسون ألف السلم فسلبهم سلاحهم وما يمتنعون به، وقتلهم في ذلك اليوم، واستباح البلد فقتل الجميع، وأخذ الأموال وسبى الذرية وحرقه وتركه بلاقع فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وأقام لعنه الله هنالك وأرسل السرايا إلى البلدان فأرسل سرية إلى بلاد خراسان وتسميها التتار المغربة، وأرسل أخرى وراء خوارزم شاه، وكانوا عشرين ألفا قال: اطلبوه فأدركوه ولو تعلق بالسماء، فساروا وراءه فأدركوه وبينهم وبينه نهر جيحون وهو آمن بسببه، فلم يجدوا سفنا فعملوا لهم أحواضا يحملون عليها الأسلحة ويرسل أحدهم فرسه ويأخذ بذنبها فتجره الفرس بالماء، وهو يجر الحوض الذي فيه سلاحه، حتى صاروا كلهم في الجانب الآخر، فلم يشعر بهم خوارزم شاه إلا وقد خالطوه، فهرب منهم إلى نيسابور، ثم منها إلى غيرها، وهم في أثره لا يمهلونه يجمع لهم فصار كلما أتى بلدا ليجتمع فيه عساكره له يدركونه فيهرب منهم.

حتى ركب في بحر طبرستان وسار إلى قلعة في جزيرة فيه فكانت فيها وفاته.

وقيل: إنه لا يعرف بعد ركوبه في البحر ما كان من أمره بل ذهب فلا يدرى أين ذهب ولا إلى أي مفر هرب، وملكت التتار حواصله فوجدوا في خزانته عشرة آلاف ألف دينار، وألف حمل من الأطلس وغيره وعشرون ألف فرس وبغل، ومن الغلمان والجواري والخيام شيئا كثيرا، وكان له عشرة آلاف مملوك كل واحد مثل ملك فتمزق ذلك كله.

وقد كان خوارزم شاه فقيها حنفيا فاضلا، له مشاركات في فنون من العلم، يفهم جيدا، وملك بلادا متسعة وممالك متعددة إحدى وعشرين سنة وشهورا.

ولم يكن بعد ملوك بني سلجوق أكثر حرمة منه، ولا أعظم ملكا منه، لأنه إنما كانت همته في الملك لا في اللذات والشهوات، ولذلك قهر الملوك بتلك الأراضي وأحل بالخطا بأسا شديدا، حتى لم يبق ببلاد خراسان وما رواء النهر وعراق العجم وغيرها من الممالك سلطان سواه، وجميع البلاد تحت أيدي نوابه.

ثم ساروا إلى مازندران وقلاعها من أمنع القلاع، بحيث إن المسلمين لم يفتحوها إلا في سنة تسعين من أيام سليمان بن عبد الملك، ففتحها هؤلاء في أيسر مدة، ونهبوا ما فيها وقتلوا أهاليها كلهم وسبوا وأحرقوا، ثم ترحلوا عنها نحو الري فوجدوا في الطريق أم خوارزم شاه، ومعها أموال عظيمة جدا، فأخذوها وفيها كل غريب ونفيس مما لم يشاهد مثله من الجواهر وغيرها.

ثم قصدوا الري فدخلوها على حين غفلة من أهلها فقتلوهم وسبوا وأسروا.

ثم ساروا إلى همذان فملكوها ثم إلى زنجان فقتلوا وسبوا.

ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقتلوا من أهلها نحوا من أربعين ألفا.

ثم تيمموا بلاد أذربيجان فصالحهم ملكها أزبك بن البهلوان على مال حمله إليهم لشغله بما هو فيه من السكر وارتكاب السيئات والانهماك على الشهوات، فتركوه وساروا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة آلاف مقاتل فلم يقفوا بين أيديهم طرفة عين حتى انهزمت الكرج فأقبلوا إليهم بحدهم وحديدهم، فكسرتهم التتار وقعة ثانية أقبح هزيمة وأشنعها.

وههنا قال ابن الأثير: ولقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه:

طائفة تخرج من حدود الصين، لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى حدود بلاد أرمينية من هذه الناحية، ويجاوزون العراق من ناحية همذان، وتالله لا أشك أن من يجيء بعدنا إذا بعد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، قد استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها.

يسر الله للمسلمين والإسلام من يحفظهم ويحوطهم، فلقد دفعوا من العدو إلى أمر عظيم، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه، وقد عدم سلطان المسلمين خوارزم شاه.

قال: وانقضت هذه السنة وهم في بلاد الكرج، فلما رأوا منهم ممانعة و مقاتلة يطول عليهم بها المطال عدلوا إلى غيرهم، وكذلك كانت عادتهم فساروا إلى تبريز فصالحهم أهلها بمال.

ثم ساروا إلى مراغة فحصروها ونصبوا عليها المجانيق وتترسوا بالأسارى من المسلمين، وعلى البلد امرأة - ولو يفلح قوم ولو أمرهم امرأة - ففتحوا البلد بعد أيام وقتلوا من أهله خلقا لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل، وغنموا منه شيئا كثيرا، وسبوا وأسروا على عادتهم لعنهم الله لعنة تدخلهم نار جهنم، وقد كان الناس يخافون منهم خوفا عظيما جدا حتى إنه دخل رجل منهم إلى درب من هذه البلد وبه مائة رجل لم يستطع واحد منهم أن يتقدم إليه، وما زال يقتلهم واحدا بعد واحد حتى قتل الجميع ولم يرفع منهم أحد يده إليه، ونهب ذلك الدرب وحده.

ودخلت امرأة منهم في زي رجل دارا فقتلت كل من في ذلك البيت وحدها ثم استشعر أسير معها أنها امرأة فقتلها لعنها الله.

ثم قصدوا مدينة إربل فضاق المسلمون لذلك ذرعا، وقال أهل تلك النواحي: هذا أمر عصيب، وكتب الخليفة إلى أهل الموصل والملك الأشرف صاحب الجزيرة يقول:

إني قد جهزت عسكرا فكونوا معه لقتال هؤلاء التتار، فأرسل الأشرف يعتذر إلى الخليفة بأنه متوجه نحو أخيه الكامل إلى الديار المصرية بسبب ما قد دهم المسلمين هناك من الفرنج، وأخذهم دمياط الذي قد أشرفوا بأخذهم لها على أخذ الديار المصرية قاطبة.

وكان أخوه المعظم قد قدم على والي حران يستنجده لأضيهما الكامل ليتحاجزوا الفرنج بدمياط وهو على أهبة المسير إلى الديار المصرية، فكتب الخليفة إلى مظفر الدين صاحب إربل ليكون هو المقدم على العساكر التي يبعثها الخليفة وهي: عشرة آلاف مقاتل، فلم يقدم عليه منهم ثمانمائة فارس، ثم تفرقوا قبل أن يجتمعوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن الله سلم بأن صرف همة التتار إلى ناحية همذان فصالحهم أهلها وترك عندهم التتار شحنة، ثم اتفقوا على قتل شحنتهم فرجعوا إليهم فحاصروهم حتى فتحوها قسرا وقتلوا أهلها عن آخرهم.

ثم ساروا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل ثم تبريز، ثم إلى بيلقان فقتلوا من أهلها خلقا كثيرا وجما غفيرا، وحرقوها وكانوا يفجرون بالنساء ثم يقتلونهن ويشقون بطونهم عن الأجنة.

ثم عادوا إلى بلاد الكرج وقد استعدت لهم الكرج فاقتتلوا معهم فكسروهم أيضا كسرة فظيعة.

ثم فتحوا بلدانا كثيرة يقتلون أهلها، ويسبون نساءها ويأسرون من الرجال ما يقاتلون بهم الحصون، يجعلونهم بين أيديهم ترسا يتقون بهم الرمي وغيره، ومن سلم منهم قتلوه بعد انقضاء الحرب، ثم ساروا إلى بلاد اللان والقبجاق فاقتتلوا معهم قتالا عظيما فكسروهم وقصدوا أكبر مدائن القبجاق، وهي: مدينة سوداق وفيها من الأمتعة والثياب والتجائر من البرطاسي والقندر والسنجاب شيء كثير جدا.

ولجأت القبجاق إلى بلاد الروس، وكانوا نصارى فاتفقوا معهم على قتال التتار فالتقوا معهم فكسرتهم التتار كسرة فظيعة جدا.

ثم ساروا نحو بلقار في حدود العشرين وستمائة ففرغوا من ذلك كله، ورجعوا نحو ملكهم جنكزخان لعنه الله وإياهم.

هذا ما فعلته هذه السرية المغرّبة، وكان جنكزخان قد أرسل سرية في هذه السنة إلى كلانة وأخرى إلى فرغانة فملكوها، وجهز جيشا آخر نحو خراسان فحاصروا بلخ فصالحهم أهلها، وكذلك صالحوا مدنا كثيرة أخرى.

حتى انتهوا إلى الطالقان فأعجزتهم قلعتها، وكانت حصينة فحاصروها ستة أشهر حتى عجزوا فكتبوا إلى جنكزخان فقدم بنفسه فحاصرها أربعة أشهر أخرى حتى فتحها قهرا، ثم قتل كل من فيها وكل من في البلد بكماله خاصة وعامة.

ثم قصدوا مدينة مرو مع جنكزخان فقد عسكر بظاهرها نحو من مائتي ألف مقاتل من العرب وغيرهم، فاقتتلوا معه قتالا عظيما حتى انكسر المسلمون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم حصروا البلد خمسة أيام واستنزلوا نائبها خديعة، ثم غدروا به وبأهل البلد، فقتلوهم وغنموهم وسلبوهم وعاقبوهم بأنواع العذاب، حتى إنهم قتلوا في يوم واحد سبعمائة ألف إنسان.

ثم ساروا إلى نيسابور ففعلوا فيها ما فعلوا بأهل مرو.

ثم إلى طوس فقتلوا وخربوا مشهد علي بن موسى الرضي سلام الله عليه وعلى آبائه، وخربوا تربة الرشيد الخليفة فتركوه خرابا.

ثم ساروا إلى غزنة فقاتلهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم، ثم عادوا إلى ملكهم جنكزخان لعنه الله وإياهم.

وأرسل جنكزخان طائفة أخرى إلى مدينة خوارزم فحاصروها حتى فتحو البلد قهرا، فقتلوا من فيها قتلا ذريعا، ونهبوها وسبوا أهلها وأرسلوا الجسر الذي يمنع ماء جيحون منها فغرقت دورها وهلك جميع أهلها.

ثم عادوا إلى جنكزخان وهو مخيم على الطالقان فجهز منهم طائفة إلى غزنة فاقتتل معهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم جلال الدين كسرة عظيمة، واستنقذ منهم خلقا من أسارى المسلمين.

ثم كتب إلى جنكزخان يطلب منه أن يبرز بنفسه لقتاله، فقصده جنكزخان فتواجها وقد تفرق على جلال الدين بعض جيشه ولم يبق بد من القتال، فاقتتلوا ثلاثة أيام لم يعهد قبلها مثلها من قتالهم، ثم ضعفت أصحاب جلال الدين فذهبوا فركبوا بحر الهند فسارت التتار إلى غزنة فأخذوها بلا كلفة ولا ممانعة، كل هذا أو أكثره وقع في هذه السنة.

وفيها: أيضا ترك الأشرف، موسى بن العادل لأخيه شهاب الدين غازي ملك خلاط وميافارقين وبلاد أرمينية واعتاض عن ذلك، بالرها وسروج، وذلك لاشتغاله عن حفظ تلك النواحي بمساعدة أخيه الكامل ونصرته على الفرنج لعنهم الله تعالى.

وفي المحرم منها: هبت رياح ببغداد، وجاءت بروق، وسمعت رعود شديدة، وسقطت صاعقة بالجانب الغربي على المنارة المجاورة لعون ومعين فثلمتها، ثم أصلحت، وغارت الصاعقة في الأرض.

وفي هذه السنة نصب محراب الحنابلة في الرواق الثالث الغربي من جامع دمشق بعد ممانعة من بعض الناس لهم، ولكن ساعدهم بعض الأمراء في نصبه لهم، وهو الأمير ركن الدين المعظمي، وصلى فيه الشيخ موفق الدين بن قدامة.

قلت: ثم رفع في حدود سنة ثلاثين وسبعمائة وعوضوا عنه بالمحراب الغربي عند باب الزيارة، كما عوض الحنفية عن محرابهم الذي كان في الجانب الغربي من الجامع بالمحراب المجدد لهم شرقي باب الزيارة، حين جدد الحائط الذي هو فيه في الأيام التنكزية، على يدي ناظر الجامع تقي الدين بن مراجل أثابه الله تعالى كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

وفيها: قتل صاحب سنجار أخاه، فملكها مستقلا بها الملك الأشرف بن العادل.

وفيها: نافق الأمير عماد الدين بن المشطوب على الملك الأشرف، وكان قد آواه وحفظه من أذى أخيه الكامل حين أراد أن يبايع للفائز، ثم إنه سعى في الأرض فسادا في بلاد الجزيرة فسجنه الأشرف حتى مات كمدا وذلا وعذابا.

وفيها: أوقع الكامل بالفرنج الذين على دمياط بأسا شديدا، فقتل منهم عشرة آلاف، وأخذ منهم خيولهم وأموالهم ولله الحمد.

وفيها: عزل المعظم المعتمد مفاخر الدين إبراهيم عن ولاية دمشق وولاها للعزيز خليل، ولما خرج الحاج إلى مكة شرفها الله تعالى كان أميرهم المعتمد فحصل به خير كثير، وذلك أنه كف عبيد مكة عن نهب الحجاج بعد قتلهم أمير حاج العراقيين أقباش الناصري، وكان من أكبر الأمراء عند الخليفة الناصر وأخصهم عنده، وذلك لأنه قدم معه بخلع للأمير حسين بن أبي عزيز قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم العلوي الحسني الزيدي بولايته لأمرة مكة بعد أبيه.

وكانت وفاته في جمادى الأولى من هذه السنة، فنازع في ذلك راجح وهو أكبر أولاد قتادة.

وقال لا يتأمر عليها غيري، فوقعت فتنة أفضى الحال إلى قتل أقباش غلطا.

وقد كان قتادة من أكابر الأشراف الحسنيين الزيديين، وكان عادلا منصفا منعما، نقمة على عبيد مكة والمفسدين بها.

ثم عكس هذا السير فظلم وجدد المكوس، ونهب الحاج غير مرة فسلط الله عليه ولده حسنا فقتله وقتل عمه وأخاه أيضا، فلهذا لم يمهل الله حسنا أيضا، بل سلبه الملك وشرده في البلاد، وقيل: بل قتل كما ذكرنا، وكان قتادة شيخا طويلا مهيبا لا يخاف من أحد من الخلفاء والملوك، ويرى أنه أحق بالأمر من كل أحد.

وكان الخليفة يود لو حضر عنده فيكرمه، وكان يأبى من ذلك ويمتنع عنه أشد الامتناع، ولم يفد إلى أحد قط ولا ذل الخليفة ولا ملك، وكتب إليه الخليفة مرة يستدعيه فكتب إليه:

ولي كف ضرغامٍ أذل ببطشها ** وأشرى بها بين الورى وأبيعُ

تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها ** وفي بطنها للمجد بين ربيـعُ

أأجعلها تحت الرحى ثم أبتغي ** خلاصا لها؟ إني إذا لرقيـعُ

ما أنا إلا المسك في كل بقعـة ** يضوع وأما عندكم فيضيعُ

وقد بلغ من السنين سبعين سنة.

وقد ذكر ابن الأثير وفاته في سنة ثماني عشرة فالله أعلم.

وفيها توفي من الأعيان:

الملك الفائز غياث الدين إبراهيم بن العادل

[عدل]

كان قد انتظم له الأمر في الملك بعد أبيه على الديار المصرية على يدي الأمير عماد الدين بن المشطوب، لولا أن الكامل تدارك ذلك سريعا ثم، أرسله أخوه في هذه السنة إلى أخيهما الأشرف موسى يستحثه في سرعة المسير إليهم بسبب الفرنج، فمات بين سنجاب والموصل، وقد ذكر أنه سم فرد إلى سنجاب فدفن بها رحمه الله تعالى.

شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن محمد بن شيخ الشيوخ عماد الدين محمود بن حمويه الجويني

[عدل]

من بيت رياسة وإمرة عند بني أيوب، وقد كان صدر الدين هذا فقيها فاضلا، درس بتربة الشافعي بمصر وبمشهد الحسين وولى مشيخة سعيد السعداء والنظر فيها، وكانت له حرمة وافرة عند الملوك أرسله الكامل إلى الخليفة يستنصره على الفرنج، فمات بالموصل بالإسهال، ودفن بها عند قضيب البان عن ثلاث وسبعين سنة.

صاحب حماه الملك المنصور

[عدل]

محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وكان فاضلا له تاريخ في عشر مجلدات سماه المضمار، وكان شجاعا فارسا، فقام بالملك بعده ولده الناصر قليج أرسلان، ثم عزله عنها الكامل وحبسه حتى مات رحمه الله تعالى وولى أخاه المظفر بن المنصور.

صاحب آمد الملك الصالح ناصر الدين

[عدل]

محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن أرتق، وكان شجاعا محبا للعلماء، وكان مصاحبا للأشرف موسى بن العادل يجيء إلى خدمته مرارا، وملك بعده ولده المسعود، وكان بخيلا فاسقا، فأخذه معه الكامل وحبسه بمصر، ثم أطلقه فأخذ أمواله وسار إلى التتار، فأخذته منه.

الشيخ عبد الله الوينني

[عدل]

الملقب: أسد الشام رحمه الله ورضى عنه من قرية بعلبك يقال لها: يونين، وكانت له زاوية يقصد فيها للزيارة، وكان من الصالحين الكبار المشهورين بالعبادة والرياضة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، له همة عالية في الزهد والورع، بحيث إنه كان لا يقتني شيئا ولا يملك مالا ولا ثيابا، بل يلبس عارية ولا يتجاوز قميصا في الصيف وفروة فوقه في الشتاء، وعلى رأسه قبعا من جلود المعز، شعره إلى ظاهر.

وكان لا ينقطع عن غزاة من الغزوات، ويرمي عن قوس زنته ثمانون رطلا، وكان يجاور في بعض الأحيان بجبل لبنان، ويأتي في الشتاء إلى عيون العاسريا في سفح الجبل المطل على قرية دومة شرقي دمشق، لأجل سخونة الماء، فيقصده الناس للزيارة هناك ويجيء تارة إلى دمشق فينزل بسفح قاسيون عند القادسية.

وكانت له أحوال ومكاشفات صالحة، وكان يقال له: أسد الشام.

حكى الشيخ أبو المظفر سبط ابن الجوزي عن القاضي جمال الدين يعقوب الحاكم بكرك البقاع: أنه شاهد مرة الشيخ عبد الله وهو يتوضأ من ثور عند الجسر الأبيض، إذ مر نصراني ومعه حمل بغل خمرا فعثرت الدابة عند الجسر فسقط الحمل، فرأى الشيخ وقد فرغ من وضوئه ولا يعرفه، واستعان به على رفع الحمل فاستدعاني الشيخ فقال:

تعال يا فقيه، فتساعدنا على تحميل ذلك الحمل على الدابة وذهب النصراني فتعجبت من ذلك، وتبعت الحمل وأنا ذاهب إلى المدينة، فانتهى به إلى العقبة فأورده إلى الخمار بها فإذا خل فقال له الخمار: ويحك هذا خل.

فقال النصراني: أنا أعرف من أين أتيت، ثم ربط الدابة في خان ورجع إلى الصالحية فسأل عن الشيخ فعرفه فجاء إليه فأسلم على يديه.

وله أحوال وكرامات كثيرة جدا، وكان لا يقوم لأحد دخل عليه ويقول: إنما يقوم الناس لرب العالمين.

وكان الأمجد إذا دخل عليه جلس بين يديه فيقول له: يا أمجد فعلت كذا وكذا ويأمره، بما يأمره وينهاه عما ينهاه عنه، وهو يمتثل جميع ما يقوله له، وما ذاك إلا لصدقه في زهده وورعه وطريقه.

وكان يقبل الفتوح، وكان لا يدخر منه شيئا لغد، وإذا اشتد جوعه أخذ من ورق اللوز ففركه واستفه، ويشرب فوقه الماء البارد رحمه الله تعالى وأكرم مثواه.

وذكروا: أنه كان يحج في بعض السنين في الهواء، وقد وقع هذا لطائفة كبيرة من الزهاد وصالحي العباد.

ولم يبلغنا هذا عن أحد من أكابر العلماء، وأول من يذكر عنه هذا حبيب العجمي، وكان من أصحاب الحسن البصري، ثم من بعده من الصالحين رحمهم الله أجمعين.

فلما كان يوم جمعة من عشر ذي الحجة من هذه السنة صلى الصبح عبد الله اليونيني وصلاة الجمعة بجامع بعلبك، وكان قد دخل الحمام يومئذ قبل الصلاة وهو صحيح، فلما انصرف من الصلاة قال للشيخ داود المؤذن، وكان يغسل الموتى: انظر كيف تكون غدا.

ثم صعد الشيخ إلى زاويته فبات يذكر الله تعالى تلك الليلة، ويتذكر أصحابه، ومن أحسن إليه ولو بأدنى شيء ويدعو لهم، فلما دخل وقت الصبح صلى بأصحابه ثم استند يذكر الله وفي يده سبحة، فمات وهو كذلك جالس، لم يسقط، ولم تسقط السبحة من يده، فلما انتهى الخبر إلى الملك الأمجد صاحب بعلبك فجاء إليه فعاينه كذلك، فقال:

لو بنينا عليه بنيانا هكذا يشاهد الناس منه آية.

فقيل له: ليس هذا من السنة، فنحي وكفن وصلي عليه ودفن تحت اللوزة التي كان يجلس تحتها يذكر الله تعالى، رحمه الله ونور ضريحه.

وكانت وفاته يوم السبت وقد جاوز ثمانين عاما أكرمه الله تعالى، وكان الشيخ محمد الفقيه اليونيني من جملة تلاميذه، وممن يلوذ به وهو جد هؤلاء المشايخ بمدينة بعلبك.

أبو عبد الله الحسين بن محمد بن أبي بكر

[عدل]

المجلي الموصلي ويعرف بابن الجهني، شاب فاضل ولي كتابة الإنشاء لبدر الدين لؤلؤ زعيم الموصل ومن شعره:

نفسي فـداء الذي فكرت فيه وقـد ** غدوت أغرق في بحر من العجبِ

يبدو بليل على صبح على قمرٍ ** على قضيبٍ على وهم على كثبِ

ثم دخلت سنة ثمان عشرة وستمائة

[عدل]

فيها: استولت التتر على كثير من البلدان بكلادة وهمذان وأردبيل وتبريز وكنجة، وقتلوا أهاليها ونهبوا ما فيها، واستأسروا ذراريها واقتربوا من بغداد فانزعج الخليفة لذلك، وحصن بغداد واستخدم الأجناد، وقنت الناس في الصلوات والأوراد.

وفيها: قهروا الكرج واللان، ثم قاتلوا القبجاق فكسروهم، وكذلك الروس، وينهبون ما قدروا عليه، ثم قاتلوهم سبوا نساءهم وذراريهم.

وفيها: سار المعظم إلى أخيه الأشرف فاستعطفه على أخيه الكامل، وكان في نفسه موجدة عليه فأزالها وسارا جميعا نحو الديار المصرية لمعاونة الكامل على الفرنج الذين قد أخذوا ثغر دمياط واستحكم أمرهم هنالك من سنة أربع عشرة؛ وعرض عليهم في بعض الأوقات أن يرد إليهم بيت المقدس وجميع ما كان صلاح الدين فتحه من بلاد الساحل ويتركوا دمياط، فامتنعوا من ذلك ولم يفعلوا.

فقدر الله تعالى أنهم ضاقت عليهم الأقوات فقدم عليهم مراكب فيها ميرة لهم فأخذها الأسطول البحري، وأرسلت المياه على أراضي دمياط من كل ناحية فلم يمكنهم بعد ذلك أن يتصرفوا في نفسهم، وحصرهم المسلمون من الجهة الأخرى حتى اضطروهم إلى أضيق الأماكن.

فعند ذلك أنابوا إلى المصالحة بلا معاوضة، فجاء مقدموهم إليه وعنده أخواه المعظم عيسى وموسى الأشرف، وكانا قائمين بين يديه، وكان يوما مشهودا، فوقع الصلح على ما أراد الكامل محمد بيض الله وجهه، وملوك الفرنج والعساكر كلها واقفة بين يديه، ومد سماطا عظيما، فاجتمع عليه المؤمن والكافر والبر والفاجر، وقام راجح الحلي الشاعر فأنشد:

هنيئا فإن السعد راح مخلدا ** وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا

حبانا إله الخلق فتحا بدا لنا ** مبينا وإنعاما وعـزا مؤبـدا

تهلل وجه الدهر بعد قطوبه ** وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا

ولما طغى البحر الخضم بأهله الط**ـغـاة وأضحى بالمراكب مزبدا

أقام لهذا الدين من سل عزمه ** صقيلا كما سل الحسام مجـردا

فلم ينج إلا كل شلو مجدلٍ ** ثوى منهم أو من تراه مقيـدا

ونادى لسان الكون في الأرض رافعا ** عقيرته في الخافقين ومنشدا

أعباد عيسى إن عيسى وحزبه ** وموسى جميعا يخدمون محمدا

قال أبو شامة: وبلغني أنه أشار عند ذلك إلى المعظم عيسى، والأشرف موسى، والكامل محمد.

قال: وهذا من أحسن شيء اتفق، وكان ذلك يوم الأربعاء التاسع عشر رجب من هذه السنة، وتراجعت الفرنج إلى عكا وغيرها، ورجع المعظم إلى الشام واصطلح الأشرف والكامل على أخيهما المعظم.

وفيها: ولى الملك المعظم قضاء دمشق كمال الدين المصري الذي كان وكيل بيت المال بها، وكان فاضلا بارعا يجلس في كل يوم جمعة قبل الصلاة بالعادلية بعد فراغها لإثبات المحاضر، ويحضر عنده في المدرسة جميع الشهود من كل المراكز حتى يتيسر على الناس إثبات كتبهم في الساعة الواحدة، جزاه الله خيرا.

من الأعيان:

ياقوت الكاتب الموصلي رحمه الله

[عدل]

أمين الدين المشهور بطريقة ابن البواب.

قال ابن الأثير:لم يكن في زمانه من يقاربه، وكانت لديه فضائل جمة والناس متفقون على الثناء عليه، وكان نعم الرجل.

وقد قال فيه نجيب الدين الواسطي قصيدة يمدحه بها:

جامع شارد العـلوم ولولا ** ه لكانت أم الفضائـلِ ثكـلى

ذو يراع تخاف ريقتـه الأسـ ** د، وتعنو له الكتائـب ذلا

وإذا افتر ثغره عن بياض ** في سوادٍ فالسمر والبيـض خجلا

أنت بدر والكاتب ابن هلال ** كأبيـه لا فخر فيمن تـولى

إن يكن أولى فإنك بالتفـضـ ** يل أولى فقد سبقت وصلـى

جلال الدين الحسن من أولاد الحسن بن الصباح مقدم الإسماعيلية

[عدل]

وكان قد أظهر في قومه شعائر الإسلام، وحفظ الحدود والمحرمات والقيام فيها بالزواجر الشرعية.

الشيخ الصالح شهاب الدين محمد بن خلف بن راجح المقدسي الحنبلي

[عدل]

الزاهد العابد الناسك، كان يقرأ على الناس يوم الجمعة الحديث النبوي وهو جالس على أسفل منبر الخطابة بالجامع المظفري، وقد سمع الحديث الكثير، ورحل وحفظ مقامات الحريري في خمسين ليلة، وكانت له فنون كثيرة، وكان ظريفا مطبوعا رحمه الله.

والخطيب موفق الدين أبو عبد الله عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل المقدسي

[عدل]

خطيب بيت الأبار، وقد تاب في دمشق عن الخطيب جمال الدين الدولعي حين سار في الرسلية إلى خوارزم شاه، حتى عاد.

المحدث تقي الدين أبو طاهر

[عدل]

إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن بن الأنماطي، قرأ الحديث ورحل وكتبه.

وكان حسن الخط متقنا في علوم الحديث، حافظا له، وكان الشيخ تقي الدين ابن الصلاح يثني عليه ويمدحه، وكانت له كتب بالبيت الغربي من الكلاسة الذي كان للملك المحسن بن صلاح الدين.

ثم أخذ من ابن الأنماطي وسلم إلى الشيخ عبد الصمد الدكائي، واستمر بيد أصحابه بعد ذلك، وكانت وفاته بدمشق ودفن بمقابر الصوفية، وصلى عليه بالجامع الشيخ موفق الدين، وبباب النصر الشيخ فخر الدين بن عساكر، وبالمقبرة قاضي القضاة جمال الدين المصري رحمه الله تعالى.

أبو الغيث شعيب بن أبي طاهر بن كليب

[عدل]

ابن مقبل الضرير الفقيه الشافعي، أقام ببغداد إلى أن توفي، وكانت لديه فضائل وله رسائل، ومن شعره قوله:

إذا كنتم للناس أهل سياسةٍ ** فسوسوا كرام الناس بالجود والبذلِ

وسوسوا لئام الناس بالذل يصلحوا ** عليه، فإن الذل أصلح للنذلِ

أبو العز شرف بن علي ابن أبي جعفر بن كامل الخالصي

[عدل]

المقري الضرير الفقيه الشافعي، تفقه بالنظامية وسمع الحديث ورواه، وأنشد عن الحسن بن عمرو الحلبي:

تمثلتم لي والديار بعيدةٌ ** فخيل لي أن الفـؤاد لكـم معنى

وناجاكم قلبي على البعد بيننا ** فأوحشتم لفظا وآنستم معنى

أبو سليمان داوود بن إبراهيم

[عدل]

ابن مندار الجيلي، أحد المعيدين بالمدرسة النظامية، ومما أنشده:

أيا جامعا أمسك عنانك مقصرا ** فإن مطايا الدهر تكبو وتقصرُ

ستقرع سنا أو تعض ندامـةً ** إذا خـان الزمان واقصـرُ

ويلقاك رشد بعد غيك واعـٌظ ** ولكنه يلقاك والأمر مدبرُ

أبو المظفر عبد الودود بن محمود بن المبارك

[عدل]

ابن علي بن المبارك بن الحسن الواسطي الأصل، البغدادي الدار والمولد، كمال الدين المعروف والده بالمجيد، تفقه على أبيه وقرأ عليه علم الكلام، ودرس بمدرسته عند باب الأزج، ووكله الخليفة الناصر.

واشتهر بالديانة والأمانة، وباشر مناصب كبارا، وحج مرارا عديدة، وكان متواضعا حسن الأخلاق، وكان يقول:

وما تركت ست وستون حجةً ** لنا حجة أن نركب اللهو مركبا

وكان ينشده:

العلم يأتي كل ذي خفـ **ض ويأبى على كل آبي

كالماء ينزل في الوها ** د وليس يصعد في الروابي

ثم دخلت سنة تسع عشرة وستمائة

[عدل]

فيها: نقل تابوت العادل من القلعة إلى تربته العادلية الكبيرة فصلى عليه أولا تحت النسر بالجامع الأموي، ثم جاؤا به إلى التربة المذكورة فدفن فيها، ولم تكن المدرسة كملت بعد، وقد تكامل بناؤها في هذه السنة أيضا.

وذكر الدرس بها القاضي جمال الدين المصري، وحضر عنده السلطان المعظم، فجلس في الصدر، وعن شماله القاضي، وعن يمينه صدر الدين الحصيري شيخ الحنفية، وكان في المجلس الشيخ تقي الدين بن الصلاح إمام السلطان، والشيخ سيف الدين الآمدي إلى جانب المدرس، وإلى جانبه شمس الدين بن سناء الدولة، ويليه النجم خليل قاضي العسكر، وتحت الحصيري شمس الدين بن الشيرازي، وتحته محيي الدين التركي، وفيه خلق من الأعيان والأكابر، وفيهم فخر الدين بن عساكر.

وفيها: أرسل الملك المعظم الصدر الكشهني محتسب دمشق إلى جلال الدين بن خوارزم شاه يستعينه على أخويه الكامل والأشرف اللذين قد تمالآ عليه، فأجابه إلى ذلك بالسمع والطاعة، ولما عاد الصدر المذكور أضاف إليه مشيخة الشيوخ.

وحج في هذه السنة الملك مسعود بن أقسيس بن الكامل صاحب اليمن، فبدت منه أفعال ناقصة بالحرم من سكر ورشق حمام المسجد بالبندق من أعلا قبة زمزم، وكان إذا نام في دار الإمارة، يضرب الطائفون بالمسعى بأطراف السيوف لئلا يشوشوا عليه، وهو نوم سكر قبحه الله، ولكن كان مع هذا كله مهيبا محترما والبلاد به آمنة مطمئنة.

وقد كاد يرفع سنجق أبيه يوم عرفة على سنجق الخليفة فيجري بسبب ذلك فتنة عظيمة، وما مكن من طلوعه وصعوده إلى الجبل إلا في آخر النهار بعد جهد جهيد.

وفيها: كان بالشام جراد كثيرا أكل الزرع والثمار والأشجار.

وفيها: وقعت حروب كثيرة بين القبجاق والكرج وقتال كثير بسبب ضيق بلاد القبجاق عليهم.

وفيها: ولي قضاء القضاة ببغداد، أبو عبد الله محمد بن فلان.

ولبس الخلعة في باب دار الوزارة مؤيد الدين محمد بن محمد القيمق بحضرة الأعيان والكبراء، وقرئ تقليده بحضرتهم وساقه ابن الساعي بحروفه.

من الأعيان:

عبد القادر بن داود أبو محمد الواسطي الفقيه الشافعي

[عدل]

الملقب: بالمحب، استقل بالنظامية دهرا واشتغل بها، وكان فاضلا دينا صالحا، ومما أنشده من الشعر:

الفرقدان كلاهما شَهدا له ** والبدر ليلة تمه بسهاده

دنف إذا اعتبق الظلام تضرمت ** نار الجوى في صدره وفؤاده

فجرت مدامع جفنه في خده ** مثل المسيل يسيل من أطواره

شوقا إلى مضنيه لم أر هكذا ** مشتاق مضني جسمه ببعاده

ليت الذي أضناه سحر جفونه ** قبل الممات يكون من عواده

أبو طالب يحيى بن علي اليعقوبي الفقيه الشافعي

[عدل]

أحد المعيدين ببغداد، كان شيخا مليح الشيبة جميل الوجه، كان يلي بعض الأوقاف، ومما أنشده لبعض الفضلاء:

لحمل تهامة وجبال أحد ** وماء البحر ينقل بالزبيل

ونقل الصخر فوق الظهر عريا ** لاهون من مجالسة الثقيل

ولبعضهم أيضا، وهو مما أنشده المذكور:

وإذا مضى للمرء من أعوامه ** خمسون وهو إلى التقى لا يجنح

عكفت عليه المخزيات فقولها: ** حالفتنا، فأقم كذا لا تبرح

وإذا رأى الشيطان غرة وجهه ** حيا، وقال: فديت من لا يفلح

اتفق أنه طولب بشيء من المال فلم يقدر عليه، فاستعمل شيئا من الأفيون المصري فمات من يومه ودفن بالوردية.

وفيها: توفي قطب الدين العادل بالفيوم، ونقل إلى القاهرة.

وفيها توفي إمام الحنابلة بمكة الشيخ نصر بن أبي الفرج المعروف بابن الحصري

[عدل]

جاور بمكة مدة لم يسافر ثم ساقته المنية إلى اليمن، فمات بها في هذه السنة، وقد سمع الحديث من جماعة من المشايخ.

وفيها: في ربيع الأول توفي بدمشق الشهاب عبد الكريم بن نجم النيلي، أخو البهاء والناصح، وكان فقيها مناظرا بصيرا بالمحاكمات، وهو الذي أخرج مسجد الوزير من يد الشيخ علم الدين السخاوي رحمه الله تعالى بمنه وكرمه.