الإمام الثاني عشر/قول ابن طلحة الشافعي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
الإمام الثاني عشر المؤلف محمد سعيد الموسوي

قول ابن طلحة الشافعي


فمنهم الشيخ كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي، وقد عقد في كتابه (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول) فصلاً خاصاً لذكر الإمام الحجة المنتظر. وقد ذكر أنه ابن الحسن العسكري ، وبعد أن أفاض في البيان عن حليته، وشمائله، وكيفية حكمه، أخذ بسرد البراهين على وجوده، وإثبات أنه هو المهدي القائم بالسيف، بما يوجب طمأنينة القلوب، وإنقاع غللها، وما يدرأ شكوك المشككين وإليك نص بيانه، قال: «الباب الثاني عشر: في أبي القاسم محمد بن الحسن الخالص ابن علي المتوكل ابن محمد القانع ابن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المهدي الحجة الخلف الصالح المنتظر عليهم السلام.

فهذا الخلف الحجة قد أيده الله ** هداه منهج الحق وآتاه سجاياه

وأعلى في ذرى العلياء بالتأييد مرقاه ** وآتاه حلي فضل عظيم فتحلاه

وقد قال رسول الله قولاً قد رويناه ** وذو العلم بما قال إذا أدرك معناه

يرى الأخبار في المهدي جاءت بمسماه ** وقد أبداه بالنسبة والوصف وسماه

ويكفي قوله مني لإشراق محياه ** ومن بضعته الزهراء مرساه ومسراه

ولن يبلغ ما أدته أمثال وأشباه ** فمن قالوا هو المهدي فما مانوا بما فاهوا

قد رتع من النبوة في أكناف عناصرها، ورضع من الرسالة أخلاف أواصرها، وترع من القرابة بسجل معاصرها، وبرع في صفات الشرف فعقدت عليه بخناصرها، فاقتنى من الأنساب شرف نصابها، واعتلى عند الانتساب على شرف أحسابها، واجتنى جنا الهداية من معادنها وأسبابها، فهو من ولد الطهر البتول، والمجزوم بكونها بضعة من الرسول، فالرسالة أصلها وأنها لأشرف العناصر والأصول.

فأما مولده فبسر من رأى، في ثالث وعشرين رمضان، سنة ثمان وخمسين ومائتين للهجرة.

وأما نسبه أباً وأماً، فأبوه: محمد الحسن الخالص ابن علي المتوكل ابن محمد القانع ابن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين الزكي ابن علي المرتضى أمير المؤمنين ، وقد تقدم ذكر ذلك مفصلاً.

وأمه أم ولد تسمى: صقيل، وقيل: حكيمة، وقيل: غير ذلك.

وأما اسمه: فمحمد، وكنيته: أبو القاسم، ولقبه: الحجة، والخلف الصالح وقيل: المنتظر.

أما ما ورد عن النبي في المهدي من الأحاديث الصحيحة:

فمنها: ما نقله الإمامان أبو داود والترمذي كل واحد منهما بسنده في (صحيحه) يرفعه إلى أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله () يقول: ”المهدي مني، وأجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت جورا وظلما، ويملك سبع سنين“.

ومنها: ما أخرجه أبو داود بسنده في (صحيحه) يرفعه إلى علي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ”لو لم يبق من الدهر إلا يوم واحد لبعث الله رجلاً من أهل بيتي، يملأها عدلاً كما ملئت جوراً“.

ومنها: ما رواه أيضاً أبو داود في (صحيحه) يرفعه بسنده إلى أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ”المهدي من عترتي من ولد فاطمة“.

ومنها: ما رواه القاضي أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي في كتابه المسمى بـ(شرح السنة)، وأخرجه الإمامان البخاري ومسلم، كل واحد منهما بسنده في (صحيحه) يرفعه إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله: ”كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم“.

ومنها: ما أخرجه أبو داود والترمذي بسندهما في (صحيحهما) يرفعه كل واحد منهما بسنده إلى عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ”لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم، حتى يبعث الله رجلاً مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً“، وفي رواية أخرى ”لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجلٌ من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي“.

هذه الروايات عن أبي داود والترمذي. ومنها: ما نقله الإمام أبو إسحاق بن محمد الثعلبي في (تفسيره) يرفعه بإسناده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ”نحن بنو عبد المطلب سادة الجنة: أنا وحمزة وجعفر وعلي والحسن والحسين والمهدي“.

'فإن قال معترض: هذه الأحاديث النبوية الكثيرة بتعدادها، المصرحة بجملتها وأفرادها، متفق على صحة إسنادها، ومجمع على نقلها عن رسول الله () وإيرادها وهي صحيحة صريحة في إثبات كون المهدي من ولد فاطمة وأنه من رسول الله، وأنه من عترته، وأنه من أهل بيته، وأن اسمه يواطئ اسمه، فإنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأنه من ولد عبد المطلب، وأنه من سادات الجنة، وذلك مما لا نزاع فيه، غير أن ذلك لا يدل على أن المهدي الموصوف بما ذكره من الصفات والعلامات، هو: هذا أبو القاسم محمد بن الحسن الحجة الخلف الصالح، فإن ولد فاطمة كثيرون، وكل من يولد من ذريتها إلى يوم القيامة يصدق عليه أنه من ولد فاطمة، وأنه من العترة الطاهرة، وأنه من أهل البيت، فتحتاجون مع هذه الأحاديث المذكورة إلى زيادة دليل على أن المهدي المراد هو الحجة المذكور ليتم مرامكم.

فجوابه: إن رسول الله () لما وصف المهدي بصفات متعددة، من ذكر اسمه ونسبه ومرجعه إلى فاطمة وإلى عبد المطلب، وأنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف، وعدد الأوصاف الكثيرة التي جمعتها الأحاديث الصحيحة المذكورة آنفا، وجعلها علامة ودلالة على أن الشخص الذي يسمى بالمهدي، وتثبت له الأحكام المذكورة، هو الشخص الذي اجتمعت تلك الصفات فيه، ثم وجدنا تلك الصفات المجعولة علامة ودلالة مجتمعة في أبي القاسم محمد الخلف الصالح دون غيره، فيلزم القول بثبوت تلك الأحكام له، وأنه صاحبها، وإلا فلو جاز وجود ما هو علامة ودليل، ولا يثبت ما هو مدلوله، قدح ذلك في نصبها علامة ودلالة من رسول الله ().

فإن قال المعترض: لا يتم العمل بالعلامة والدلالة إلا بعد العلم باختصاص من وجدت فيه بها دون غيره، وتعينه لها، فأما إذا لم يعلم تخصيصه وانفراده بها فلا يحكم له بالدلالة. ونحن نسلم أنه من زمن رسول الله () إلى ولادة الخلف الصالح الحجة محمد ما وجد من ولد فاطمة شخص جمع تلك الصفات التي هي العلامة والدلالة غيره، لكن وقت بعثة المهدي وظهوره وولايته هو في آخر أوقات الدنيا عند ظهور الدجال، ونزول عيسى بن مريم، وذلك سيأتي بعد مدة مديدة، ومن الآن إلى ذلك الوقت المتراخي الممتد أزمان متجددة، وفي العترة الطاهرة من سلالة فاطمة كثيرة يتعاقبون ويتوالدون إلى تلك الأيام، فمجوز أن يولد من السلالة الطاهرة، والعترة النبوية، من يجمع تلك الصفات فيكون هو المهدي المشار إليه في الأحاديث المذكورة، ومع هذا الاحتمال والإمكان كيف يبقى دليلكم مختصاً بالحجة محمد المذكور؟

فالجواب: أنكم إذا عرفتم أنه إلى وقت ولادة الخلف الصالح، وإلى زماننا هذا لم يوجد من يجمع تلك الصفات والعلامات بأسرها سواه، فيكفي ذلك في ثبوت تلك الأحكام له عملا بالدلالة الموجودة في حقه، وما ذكرتموه من احتمال أن يتجدد مستقبلا في العترة الطاهرة، من يكون بتلك الصفات، لا يكون قادحا في إعمال الدلالة، ولا مانعا من ترتيب حكمها عليها،، فإن دلالة الدليل راجعة لظهورها، واحتمال تجدد ما يعارضها مرجوح، ولا يحوز ترك الراجح بالمرجوح، فإنه لو جوزنا ذلك لامتنع العمل بأكثر الأدلة المثبتة للأحكام، إذ ما من دليل إلا واحتمال تجدد ما يعارضه متطرق إليه، ولم يمنع ذلك من العمل به وفاقا، والذي يوضح ذلك ويؤكده أن رسول الله - فيما أورده الإمام مسلم بن الحجاج في (صحيحه) يرفعه بسنده - قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ”يأتي عليك مع أمداد أهل اليمن أويس بن عامر من مراد، ثم من قرن كان به رص، فبرأ منه إلا موضع درهم له والدة، هو بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل“، فالنبي () ذكر اسمه ونسبه وصفته وجعل ذلك علامة دلالة على أن المسمى بذلك الاسم، المتصف بتلك الصفات: لو أقسم على الله لأبره، وأنه أهل لطلب الاستغفار منه، وهذه منزلة عالية، ومقام عند الله تعالى عظيم، فلم يزل عمر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه يسأل أمداد اليمن من الموصوف بذلك، حتى قدم وفد من اليمن، فسألهم فأخبر بشخص متصف بذلك، فلم يتوقف عمر رضي الله عنه في العمل بتلك العلامة والدلالة التي ذكرها رسول الله ()، بل بادر إلى العمل بها واجتمع به وسأله الاستغفار، وجزم أنه المشار إليه في الحديث النبوي لما علم تلك الصفات فيه مع وجود احتمال أن يتجدد في وفود اليمن مستقبلا من يكون بتلك الصفات. فإن قبيلة مراد كثيرة، والتوالد فيها كثير، وعين ما ذكرتموه من الاحتمال موجود، وكذلك قضية الخوارج لما وصفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بصفات ورتب عليها حكمهم، ثم بعد ذلك لما وجدها علي (ع) موجودة في أولئك في واقعة حروراء والنهروان، جزم بأنهم هم المرادون بالحديث النبوي وقاتلهم وقتلهم، فعمل بالدلالة عند وجود الصفة، مع احتمال أن يكون المرادون غيرهم، وأمثال هذه الدلالة، والعمل بها مع قيام الاحتمال كثيرة، فعلم أن الدلالة الراجحة لا تترك لاحتمال المرجوح.

ونزيده بياناً وتقريراً، فنقول: لزوم ثبوت الحكم عند وجود العلامة والدلالة لمن وجدت فيه أمر يتعين العمل فيه، والمصير إليه، فمن تركه، وقال: بأن صاحب الصفات المراد بإثبات الحكم له، ليس هو هذا بل شخص غيره سيأتي، فقد عدل عن النهج القويم، ووقف نفسه موقف المليم، ويدل على ذلك أن الله عز وجل وعلا لما أنزل في التوراة على موسى أنه يبعث النبي العربي في آخر الزمان خاتم الأنبياء، ونعته بأوصافه وجعلها علامة ودلالة على إثبات حكم النبوة له، وصار قوم موسى يذكرونه بصفاته ويعلمون أنه يبعث، فلما قرب زمان ظهوره وبعثه صاروا يهددون المشركين به، ويقولون سيظهر الآن نبي نعته كذا وصفته وكذا، ونستعين به على قتالكم، فلما بعث ووجدوا العلامات والصفات بأسرها التي جعلت دلالة على نبوته أنكروه، وقالوا ليس هو هذا، بل هو غيره وسيأتي، فلما جنحوا إلى الاحتمال، وأعرضوا عن العمل بالدلالة الموجودة في الحال، أنكر الله تعالى عليهم كونهم تركوا العمل بالدلالة الموجودة في الحال، أنكر الله تعالى عليهم كونهم تركوا العمل بالدلالة التي ذكرها لهم في التوراة، وجنحوا إلى الاحتمال وهذه القصة من أكبر الأدلة وأقوى الحجج على أنه يتعين العمل بالدلالة عند وجودها، وإثبات الحكم لمن وجدت تلك الدلالة فيه، فإذا كانت الصفات التي هي علامة ودلالة لثبوت الأحكام المذكورة موجودة في الحجة الخلف الصالح محمد، تعين إثبات كون المهدي المشار إليه من غير جنوح إلى الاحتمال بتجدد غيره في الاستقبال.

فإن قال المعترض: نسلم لكم أن الصفات المجعولة علامة ودلالة إذا وجدت تعين العمل بها، ولزم إثبات مدلولها لمن وجدت فيه، لكن نمنع وجود تلك العلامة والدلالة في الخلف الصالح محمد، فإن من جملة الصفات المجعولة علامة ودلالة أن يكون اسم أبيه مواطيا لاسم أب النبي ()، هكذا صرح به الحديث النبوي على ما أوردوه وهذه الصفة لم توجد فيه، فإن اسم أبيه الحسن واسم أب النبي () عبد الله وأين الحسن من عبد الله؟ فلم توجد هذه الصفة التي هي جزء من العلامة والدلالة وإذا لم يوجد جزء العلة لا يثبت حكمها، فإن الصفات الباقية لا تكفي في إثبات تلك الأحكام، إذ النبي () لم يجعل تلك الأحكام ثابتة إلا لمن اجتمعت تلك الصفات فيه كلها التي جزؤها مواطاة اسمي الأبوين في حقه، وهذه لم تجتمع في الحجة الخلف، فلا يثبت تلك الأحكام له. وهذا إشكال قوي.

فالجواب: لا بد قبل الشروع في تفصيل الجواب من بيان أمرين يبنى عليهما الغرض:

الأول: أنه شائع في لسان العرب إطلاق لفظة الأب على الجد الأعلى، وقد نطق القرآن الكريم بذلك فقال تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}، وقال تعالى حكاية عن يوسف : {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}، ونطق بذلك النبي () في حديث الإسراء، أنه قال: (قلت: من هذا؟ قال: أبوك إبراهيم). فعلم أن لفظة الأب تطلق على الجد وإن علا. فهذا أحد الأمرين.

الأمر الثاني: أن لفظة الاسم تطلق على الكنية وعلى الصفة، وقد استعملها الفصحاء، ودارت بها ألسنتهم ووردت في الأحاديث، حتى ذكرها الإمامان - البخاري ومسلم كل منهما يرفعه إلى سهل بن سعد الساعدي، أنه قال عن علي أن رسول الله () سماه بأبي تراب، لم يكن له اسم أحب إليه منه، فأطلق لفظة الاسم على الكنية، ومثل ذلك قال الشاعر:

أجل قدرك أن تسمى مؤنته * ومن كناك فقد سماك للعرب

ويُروى: ومن يصفك فأطلق التسمية على الكناية أو الصفة، وهذا شايع ذايع في لسان العرب فإذا وضح ما ذكرناه من الأمرين، فاعلم أيدك الله بتوفيقه أن النبي () كان له سبطان: أبو محمد الحسن، وأبو عبد الله الحسين، ولما كان الحجة الخلف الصالح.

محمد، من ولد أبي عبد الله الحسين، ولم يكن من ولد أبي محمد الحسن، وكانت كنية الحسين أبا عبد الله فأطلق النبي () على الكنية لفظ الاسم لأجل المقابلة بالاسم في حق أبيه، وأطلق على الجد لفظة الأب، فكأنه قال: يواطي اسمه اسمي فهو محمد وأنا محمد، وكنية جدة اسم أبي إذ هو عبد الله، وأبي عبد الله، لتكون تلك الألفاظ المختصرة جامعة لتعريف صفاته وإعلام أنه من ولد أبي عبد الله الحسين بطريق جامع موجز، وحينئذ تنتظم الصفات، وتوجد بأسرها مجتمعة للحجة الخلف الصالح محمد وهذا بيان كاف شاف في إزالة ذلك الإشكال فافهم». انتهى كلام محمد بن طلحة الشافعي.