الأدب الكبير/مقدمة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


بسم الله الرحمن الرحيم

قال عبد الله بن المقفع:

إنَّا وَجَدْنا الناسَ قَبلَنا كانوا أعظمَ أجسامًا، وأوفرَ مع أجسامهم أحلامًا١، وأشدَّ قوةً، وأحسنَ بقوَّتهم للأُمور إِتقانًا؛ وأطوَلَ أعمارًا، وأفضلَ بأعْمارهم للأشياء اختيارًا٢. فكان صاحبُ الدِّين منهم أبلغَ في أمر الدِّين علمًا وعملًا من صاحب الدِّين منَّا، وكان صاحب الدنيا على مثل ذلك من البلاغة والفضل.

ووَجَدْناهم لم يرضَوْا بما فازُوا به من الفضْل الذي قُسِم لهم لأنفسهم حتى أشركونا معهم فيما أدركوا من علم الأولى والآخرة، فكتبوا به الكُتب الباقية، وضربوا الأمثال الشافية، وكفَوْنَا به مؤونة٣ التجارب والفِطَن.

وبَلَغَ من اهتمامهم بذلك أنَّ الرجل منهم كان يُفتَحُ له البابُ من العلم، أو الكلمةُ من الصواب — وهو في البلد غير المأهول٤— فيكتُبُه على الصخور مبادرةً للأَجَل، وكراهِيةً منه أنْ يَسْقُط٥ ذلك عمَّن بعدَه.

فكان صَنِيعهم في ذلك صنيعَ الوالد الشفيق على وَلدِه، الرحيم البَرِّ بهم، الَّذِي يجمع لهم الأموال والعُقَد٦: إِرادةَ أن لا تكون عليهم مؤُونةٌ في الطلبِ، وخَشْيَةَ عَجْزهِم، إنْ هم طلبوا.

فمُنتهى عِلْمِ عالِمنا في هذا الزمان أنْ يأخذ من عِلمهم، وغاية إحسانِ مُحسننا أنْ يقتديَ بسِيرتهم، وأحسنُ ما يُصيبُ من الحديثِ مُحَدِّثنا أنْ ينظر في كتبهم. فيكون كأنهُ إياهم يُحاوِرُ، ومنهم يستمع، وآثارَهم يتَّبع، وعلى أفعالهم يحتذي، وبهم يقتدي. غير أنَّ الذي نجِدُ في كُتُبِهم هو المنتخَلُ٧ من آرائهم، والمُنتقى من أحاديثهم.

ولم نجدْهم غادروا شيئًا يجدُ واصفٌ بليغ في صفةٍ لهُ غايةً لم يسبقوه إليها: لا في تعظيم لله ( عزَّ وجلَّ ) وترغيبٍ فيما عنده؛ ولا في تصغيرٍ للدنيا وتزهيدٍ فيها؛ ولا في تحرير صنوف العلم وتقسيم قِسَمِها٨ وتجزئة أجزائها وتوضيح سُبُلِها وتبيين مآخذها؛ ولا في وجهٍ من وجهٍ الأدب وضُروب الأخلاق.

فلم يَبقَ في جليل الأمر ولا صغيره لقائل بعدهم مقال.

وقد بَقِيَتْ أشياءُ من لطائف الأمور فيها مواضعُ لغوامض٩ الفِطَن، مُشْتقَةٌ من جسامِ حِكَمِ الأوَّلين وقَوْلِهم. فمن ذلك بعضُ ما أنا كاتبٌ في كتابي هذا من أبواب الأدب التي قد يَحتاجُ إليها الناسُ.

يا طالب العلم والأدب!

إنْ كنتَ نوعَ العلْم تريدُ، فاعرف الأصول والفصول. فإِنَّ كثيرًا من الناس يطلُبُون الفُصُول مع إضاعة الأُصول. فلا يكون دَرَكهم١٠ دَرَكًا. ومَن أحرز الأُصول، اكتفى بها عن الفصول. وإنْ أصاب الفصل بعد إحراز الأصل فهو أفضل.

فأصلُ الأمر في الدين أنْ تعتقِدَ الإيمانَ على الصواب، وتجتنب الكبائر وتؤدِّي الفريضة. فالزم ذلك لزوم مَن لا غِنَی له عنه طَرْفَةَ عيْنِ، ومَنْ يعلَمُ أنه إِن حُرِمَه هَلكَ. ثم إنْ قَدَرْتَ على أنْ تُجاوزَ ذلك إلى التفقُّه في الدين والعبادة، فهو أفضلُ وأكملُ.

وأصلُ الأمر في صلاح الجسد أن لا تحملَ عليه من المآكل والمشرب والباه إلَّا خِفًّا١١. ثم إنْ قَدَرْتَ على أنْ تعلَمَ جميعَ منافعِ الجسد ومضارِّهِ والانتفاعَ بذلك كلِّه فهو أفضَلُ.

وأصلُ الأمر في البأس والشجاعة أن لا تُحدِّث نفسَك بالإدبار، وأصحابُك مقبلون على عدوِّهم، ثم إنْ قدرتَ على أنْ تكون أوَّلَ حامل وآخرَ مُنْصَرِفٍ، من غير تضييع للحذر١٢، فهو أفضلُ.

وأصلُ الأمرِ في الجُودِ أن لا تضِنَّ بالحقوق على أهلها. ثم إنْ قدرتَ أنْ تزيدَ ذا الحقِّ على حقِّه وتَطَوَّلَ على مَن لا حقَّ لهُ فافعلْ، فهو أفضَلُ. وأصلُ الأمرِ في الكلامِ أنْ تَسْلَم من السَّقَطِ١٣ بالتحفُّظِ. ثم إنْ قدَرْتَ على بارع الصواب، فهو أفضل.

وأصلُ الأمر في المعيشة ألَّا تَنِيَ١٤ عن طلب الحلال، وأنْ تُحْسِنَ التقدير لما تُفيدُ وما تُنْفِقُ. ولا يَغُرَّنْكَ من ذلك سَعَةٌ تكونُ فيها. فإِنَّ أعظم الناس في الدنيا خَطَرًا١٥ أحوجُهُم إلى التقدير؛ والملوكُ أحوجُ إليهِ من السُّوقةِ١٦ لأن السُّوقة قد تعيشُ بغيرِ مالٍ، والملوك لا قِوَام لهم إلَّا بالمالِ. ثم إنْ قَدَرْتَ على الرفق واللُّطْفِ في الطلب، والعلم بوجوه المطالب فهو أفضلُ.

وأنا واعظُكَ في أشياءَ من الأخلاق اللطيفة والأمور الغامضة التي لو حَنَّكَتْكَ سِنٌّ كنتَ خليقًا أنْ تعلمها، وإنْ لم تُخْبَر عنها. ولكنَّني قد أحببتُ أنْ أُقدِّم إليك فيها قولًا لترُوض١٧ نفسك على محاسنها قبل أنْ تجْرِيَ على عادة مساويها. فإنّ الإنسان قد تَبْتَدرُ إليه في شبيبته المساوئُ، وقد يغلب عليه ما بَدَر إليه منها للعادة. فإنَّ لِترك العادة مؤونةً شديدة ورياضةً صعبة.


  1. أي عقولًا وألبابًا.
  2. وفي ش: اختبارًا.
  3. أي تحملوا عنا الكلفة والتعب والعناء.
  4. أي غير المسكون.
  5. أي يضيع.
  6. العقد جمع عقدة. وهی العقار ونحوه يقال اعتقد فلان عقدة إذا اشترى بيعة أو اتخذ مالاً من عقار وغيره. وعلى هامش نسخة الشنقيطي وبخطه ما نصه: العقد "النفائس من الأموال".
  7. أي المصفى المختار.
  8. أي أقسام صنوف العلم.
  9. في ش: الصغار.
  10. تحصيلهم للعلم.
  11. خف يخف خفا "يفتح الخاء في الأخيرة" أي صار خفيفًا. والخف "يكسر الخاء" كل شيء خف محمله. فصار المعنى وجوب التخفيف في تحميل الجسد من المأكل والمشرب والباه. وذلك هو عين الاقتصاد المطلوب في كل شيء. ووردت هذه الكلمة في ش: "خفافا". وأظن المعنى بها لا يستقيم.
  12. والحذر بفتحتين أيضًا. ومعناهما التحرز.
  13. السقط بفتحتين الخطأ من القول.
  14. أي لا تتوانى ولا تتكاسل لا تفتر.
  15. أي وجاهة وطهورًا وقدرًا.
  16. السُّوقةَ بالضم الرعية، للواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
  17. راض نفسه يروضها أي أكثر من مزاولتها الأمر من الأمور ليسلس قيادها.