الأدب الكبير/القسم الأول/صحبة السلطان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


بَابُ

إنْ ابتُليتَ بصحبة السلطان، فعليك بطول المواظبة١ في غير معاتبة، ولا يُحْدِثَنَّ لك الاستئناسُ به غفلةً ولا تهاونًا.

إذا رأيتَ السلطان يجعلك أخًا فاجعله أبًا، ثم إِن زادك فزِدْهُ.

بَابُ

إنْ استطعتَ ألَّا تصحَبَ مَن صَحِبْت مِنَ الولاة إلَّا على شُعْبة من قرابة أو مودَّة فافعل. فإن أخطأك ذلك، فاعلم أنك إنّما تعمل على السُّخْرة.

بَابُ

إنْ استطعت أنْ تجعل صُحْبَتَك لمن قد عَرَفَك بصالح مُرُوءَتك وصحَّة دِينك وسلامة أُمورك قبل ولايته فافعل.

فإنَّ الوالي لا عِلْمَ له بالناس إلَّا ما قد عَلِمَ قبل ولايته. أمَّا إذا وَلي، فكلُّ الناس يلقاه بالتزيُّن والتصنُّع، وكلهم يحتال لأنْ يُثنَى عليه عنده بما ليس فيه. غير أنَّ الأنذال والأرذال هم أشدُّ لذلك تصنُّعًا وأشدُّ عليه مثابرة وفيه تمحُّلًا.

فلا يمتنع الوالي — وإنْ كان بليغ الرأي والنظر — من أنْ يَنْزِل عنده كثيرٌ من الأشرار بمنزلة الأخيار، وكثيرٌ من الخانة٢ بمنزلة الأُمَنَاء، وكثيرٌ من الغَدَرَة٣ بمنزلة الأوفياء؛ ويغَطَّى عليه أمرُ كثير من أهل الفضل الذين يصونون أنفسهم عن التمحُّل والتصنُّع.

بَابُ

إذا عرَفتَ نفسَك من الوالي بمنزلة الثقة، فاعزل عنه كلام المَلَق، ولا تُكثرنَّ من الدعاء له في كل كلمة، فإنَّ ذلك شبيهٌ بالوَحْشة والغُربة، إلَّا أنْ تكلِّمه على رءوس الناس، فلا تَأْلُ٤ عمَّا عظَّمه ووقَّره.

لا يعرِفنَّك الوُلاةُ بالهوَى في بلدٍ من البُلدان ولا قبيلة من القبائل، فيُوشِكُ أنْ تحتاجَ فيهما إلى حكاية أو شهادة، فتُتَّهم في ذلك.

فإذا أردتَ أنْ يُقْبل قولُكَ فصحِّحْ رأيك ولا تَشُوبَنَّه بشيء من الهوى. فإنّ الرأي الصحيح يقبله منك العدوُّ، والهوى يردُّه عليك الولَد والصديق.

وأحقُّ مَن احترستَ منه من أنْ يظُنَّ بك خَلْطَ الرأي بالهوى الولاةُ. فإنَّها خديعة وخيانة وكُفر عندهم.

بَابُ

إنْ ابتُليتَ بصحبة والٍ لا يُريد صلاح رعيّته، فاعلم أنك قد خُيرتَ بين خَلَّتين ليس منهما خِيَارٌ:

إمَّا الميل مع الوالي على الرعيَّة، وهذا هلاك الدِّين؛

وإمَّا الميل مع الرعيَّة على الوالي، وهذا هلاك الدنيا.

ولا حيلةَ لك إلَّا الموتُ أو الهَرَب.

واعلم أنه لا ينبغي لك — وإنْ كان الوالي غير مرضيَّ السيرة، إذا عَلِقَتْ حبالُك بحباله — إلَّا المحافظة عليه، إلَّا أنْ تجدَ إلى الفِراق الجميل سبيلًا.

تَبَصَّرْ ما في الوالي من الأخلاق التي تُحِبُّ له والتي تَكْرَهُ، وما هو عليه من الرأي الذي تَرْضَى له والذي لا ترضى. ثم لا تُكابِرَنَّه بالتحويل له عما يُحبُّ ويَكرَه إلى ما تُحبُّ وتَكْرَه، فإنَّ هذه رياضة صَعبة تحمِلُ على التنائي٥ والقِلَى٦. فإنك قلَّما تقدِرُ على ردِّ رجلٍ عن طريقةٍ هو عليها بالمكابرة والمناقضة، وإنْ لم يكن ممن يجمحُ به عزُّ السلطان. ولكنَّك تقدر على أنْ تُعينه على أحسن رأيه، وتُسَدِّدَه فيه وتُزَيِّنَه، وتُقَوِّيه عليه. فإذا قَوِيتْ منه المحاسنُ، كانت هي التي تكفيك المساوئَ. وإذا استحكمتْ منه ناحية من الصواب، كان ذلك الصواب هو الذي يُبصِّره مواقع الخطأ بألطفَ من تبصيرك وأعدلَ من حُكمك في نفسه. فإنَّ الصوابَ يُؤيِّد بعضُه بعضا، ويدعو بعضه إلى بعض حتى تستحكمَ لصاحبه الأشياء، ويظهرَ عليها بتحكيم الرأي. فإذا كانت له مكانةٌ من الأصالة، اقتلع ذلك الخطأ كلَّه.

فاحفظ هذا البابَ وأحْكِمْه!

بَابُ

لا يكوننَّ طلبُك ما عند الوالي بالمسألة! ولا تستبطئه، وإنْ أبطأ عليك. ولكن اطلُبْ ما قِبَلهُ بالاستحقاق له، واسْتَأْنِ به وإنْ طالت الأناة منه. فإنك إذا استحققته، أتاك عن غير طلب وإنْ لم تستبطئه، كان أعْجَلَ له.

بَابُ

لا تُخبرنَّ الوالي أنَّ لك عليه حقًّا، وأنك تعتدُّ عليه ببلاءٍ. وإنْ استطعت ألَّا ينسى حقَّك وبلاءك فافعل. ولْيكُن ما يُذَكِّره به من ذلك تجديدُك له النصيحةَ والاجتهاد، وأن لا يزالَ ينظْرُ منك إلى آخر يُذَكِّره أوَّلَ بلائك.

واعلمْ أنَّ السلطان إذا انقطع عنه الآخِرُ، نسي الأوَّل، وأنَّ أرحامُهم مقطوعةٌ وحبالهم مصرومةٌ، إلَّا عمَّن رضوا عنه وأغنى عنهم في يومهم وساعتهم.

إياك أنْ يقعَ في قلبك تعتُّبٌ على الوالي أو استزراءٌ لهّ!

فإنه إيُّ أَثَرٍ وقع في قلبك، بَدَا في وجهك، إنْ كنت حليمًا؛ وبدا على لسانك إنْ كنت سفيهًا.

فإن لم يَزِدْ ذلك على أنْ يَظهرَ في وجهك لآمَنِ الناس عندك، فلا تأمننَّ أنْ يظهر ذلك للوالي.

فإنَّ الناس إلى السلطان بعَوْرات الإخوان سِرَاعٌ، فإذا ظهر ذلك للوالي كان قلبُه هو أسرعَ إلى النفور والتغيُّر من قلبك. فَمَحَق٧ ذلك حسناتِك الماضية، وأشرف بك على الهلاك، وصرت تعرف أمرَك مستدبرًا، وتلتمِس مرضاة سلطانك مستصعِبًا. ولو شئتَ، كنتَ تركتَه — بإذن الله — راضيًا. وازددتَ من رضاه دُنُوًّا.

بَابُ

اعلم أنَّ أكثر الناس عدوًّا جاهدًا٨ حاضرًا جريئًا واشيًا وزيرُ السلطان ذو المكانة عنده. لأنه منفوسٌ٩ عليه مكانُه بما يُنْفسُ١٠ على صاحب السلطان، ومحسودٌ كما يُحْسد. غير أنه يُجْتَرأ عليه، ولا يُجْتَرأ على السلطان؛ لأنَّ من حاسديه أحْيَاءَ١١ السلطان وأقاربَهُ الذين يشاركونه في المَداخل والمَنازل. وهم وغيرهم من عَدُوِّه حُضَّورٌ، وليسوا كعدوِّ السلطان النائي عنه والمُكْتَتِم منه، وهم لا ينقطع طمعهم من الظفر به. فلا يَغْفُلُون عن نَصْب الحبائل له.

فاعرِفْ هذه الحال، والْبَس لهؤلاء القوم — الذين هم أعداؤُك — سلاحَ الصحة والاستقامة، ولُزُومَ المَحَجَّة١٢ فيما تُسرُّ وتُعلِنُ. ثم رَوِّحْ عن قلبك حتَّى كأنك لا عدوَّ لك ولا حاسد.

وإنْ ذكَرَك ذاكرٌ عند السلطان بسوءٍ في وجهك أو في غَيْبَتِك، فلا يَرَينَّ السلطان ولا غيرُهُ منك اختلاطًا لذلك ولا اغتياظًا ولا ضجرًا؛ ولا يَقَعَنَّ ذلك في نفسك موقع ما يُكْرِثك١٣. فإنه إنْ وقع منك ذلك الموْقِعَ، أدخل عليك أمورًا مشتبهة بالرِّيبة، مُذكِّرة لما قال فيك العائبُ. وإنْ اضطرَّك الأمرُ في ذلك إلى الجواب، فإيَّاك وجوابَ الغَضَب والانتقام! وعليك بجواب الحُجَّة في حِلمٍ ووقار!

ولا تَشُكَّنَّ في أنَّ الغَلَبَةَ والقوَّةَ للحليم أبدًا.

لا تتكلَّمَنَّ عند الوالي كلامًا أبدًا إلَّا لعناية، أو يكون جوابًا لشيء سُئِلتَ عنه. ولا تُحضِرنَّ عند الوالي كلامًا أبدًا لا تُعْنَى به، أو تُؤمر بحضوره.

ولا تَعُدَّنَّ شَتْم الوالي شتمًا، ولا إغْلاظه إغْلاظًا، فَإن ريح العِزَّة قد تَبْسُط اللسان بالغِلظة في غير سُخطٍ ولا بأس.

بَابُ

جانِبِ المسخوط عليه والظنِينَ١٤ به عند السلطان. ولا يجمعنَّك وإياه مجلسٌ ولا منزلٌ! ولا تُظهِرنَّ له عُذْرًا، ولا ولا تُثْنِيَنَّ عليه خيرًا عند أحد من الناس!

فإذا رأيته قد بَلَغَ من الإعْتاب١٥ مما سُخِط عليه فيه ما ترجُو أنْ تُلِينَ له به قلب الوالي، واستَيْقنت أنَّ الوالي قد استيقن بمباعدتك إياه وشدَّتِك عليه عند الناس، فضعْ عُذْره عند الوالي واعْمَل في إرضائه عنه، في رفقٍ ولطفٍ.

لِيَعْلم الوالي أنك لا تستنكِفُ عن شيء من خدمته. ولا تَدَعُ مع ذلك أنْ تُقدِّم إليه القولَ — على بعض حالات رضاهُ وطِيب نفْسِهِ — في الاستعفاء من الأعمال التي هي أهلٌ أنْ يَكْرَهَهَا ذو الدِّين وذو العقل وذو العِرْض وذو المروءة: من ولايةِ القتل والعذاب وأشباه ذلك.

إذا أصبتَ الجاهَ والخاصة عند السلطان، فلا يُحْدِثنَّ لك ذلك تغيُّرًا على أحد من أهله وأعوانه، ولا استغناء عنهم؛ فإنك لا تدري متى تَرى أدنَى جفوة أو تغيُّر فتذِلَّ لهم فيها.

وفي تلوُّن الحال عند ذلك من العار ما فيه.

لِيكنْ مما تُحْكِمُ من أمرك ألَّا تسارَّ أحدًا من الناس ولا تهمِسَ إليه بشيء تُخفيه على السلطان أو تُعلنُه. فإنَّ السِّرَار١٦ مما يُخيِّل إلى كل من رآه من ذي سلطان أو غيره أنه المرادُ به. فيكون ذلك في نفسه حَسِيكة١٧ ووغرًا١٨ وثُقْلًا.

بَابُ

لا تتهاوننَّ بإرسال الكَذْبَةِ١٩ عند الوالي أو غيره في الهزل، فإنها تُسرع في إبطال الحق وردِّ الصدق مما تأتي به.

تنكَّبْ فيما بينك وبين السلطان، وفيما بينك وبين الإخوان، خُلُقًا قد عَرَفناه في بعض الوزراء والأعوان وأصحاب الأبَّهات٢٠ في ادعاء الرجُلِ — عندما يَظْهَرُ من صاحبه حُسْن أثر أو صوابِ رأي — أنه عَمِل في ذلك وأشار به، وإقرارِه بذلك إذا مدحه به مادحٌ. بل٢١ وإنْ استطعتَ أن تُعرِّف صاحبك أنك تَنْحَلُهُ صوابَ رأيك — فضلًا عن أنْ تدَّعِيَ صوابه — وتسنِدَ ذلك إليه وتزيِّنه به فافعل.

فإن الذي أنت آخذ بذلك أكثرُ مما أنت مُعطٍ بأضعاف.

بَابُ

إذا سأل الوالي غيرَك فلا تكوننَّ أنت المُجيبَ عنه. فإن اسْتِلابَك الكلامَ خِفَّةٌ بك، واستخفاف منك بالمسؤول وبالسائل.

وما أنت قائلٌ إنْ قال لك السائل: ما إياك سألتُ! أو قال لك المسؤُول عند المسألة يُعادُ٢٢ له بها: دونك فأجب!

وإذا لم يقصد السائل في المسألة لرجل واحد وعَمَّ بها جماعة مَن عنده، فلا تُبادرنَّ بالجواب، ولا تُسابق الجُلَساء، ولا تُواثِبْ بالكلام مواثبةً. فإن ذلك يجمع مع الشَّيْنِ التكلُّفَ والخِفَّةَ.

فإنّك إذا سبَقْتََ القومَ إلى الكلام، صاروا لكلامِكَ خُصَمَاء٢٣ فتعقبوه بالعيب والطعن. وإذا أنت لم تعجَل بالجواب وخليته للقوم، اعْتَرَضتَ أقاويلهم على عينك، ثم تَدَبَّرتها وفكَّرْتَ فيما عندَك، ثم هيَّأت من تفكيرك ومحاسنِ ما سمعتَ جوابًا رضيًّا، ثم استدبرتَ به أقاويلهم حين تُصِيخُ إليك الأسماعُ ويهدأ عنك الخصومُ٢٤.

وإنْ لم يَبْلُغْكَ الكلام حتى يُكْتَفَى بغيرك، أو ينقطعَ الحديث قبلَ ذلك، فلا يكونُ من العَيْبِ عنِدَك ولا من الغَبْنِ في نفسك فَوْتُ ما فاتك من الجواب.

فإنَّ صيانَة القول خيرٌ من سوء وضعه، وإنَّ كلمةً واحدةً من الصَّواب تُصيبُ موضِعَها خيرٌ من مائة كلمة تقولُها في غير فُرَصِها ومواضعها. مع أنَّ كلام العَجَلة والبدارِ٢٥ مُوَكَّلٌ به الزَّلل وسوءُ التقدير، وإنْ ظنَّ صاحبُه أنَّه قد أتقنَ وأحكم.

واعلم أنَّ هذه الأُمور لا تُدْرَك ولا تُمْلَك إلَّا برُحْبِ الذَّرْع عند ما قيل وما لم يُقَل، وقلَّةِ الإعظام لما ظهر من المُرُوءَة أو لم يَظْهَر، وسَخاوَةِ النفس عن كثيرٍ من الصَّواب، مخافة الخلاف ومَخَافَة العَجَلَة ومخافة الحَسَد ومَخَافَة المِرَاءِ.

بَابُ

إذا كلَّمك الوالي فأصغِ إلى كلامه. ولا تَشْغَل طَرْفَك٢٦ عنه بنظرٍ إلى غيره، ولا أطرافك٢٧ بعملٍ، ولا قلبك بحديث نفس.

واحذر هذه الخصلة من نفسك، وتعاهدْها بجهدك.

بَابُ

ارْفُقْ بنُظَرائك من وزراء السلطان وأَخِلَّائِهِ ودُخلائه. واتَّخذهم إخوانًا ولا تتَّخذهم أعداءً. ولا تنافِسْهم في الكلمة يتقربون بها أو العمل يُؤمَرون به دُونك.

فإنِّما أنت في ذلك أحدُ رجلين:

إمَّا أنْ يكونَ عندك فَضْلٌ على ما عندَ غيْرِك، فسَوْف يبدو ذلك ويُحتاج إليه ويُلتمسُ منك، وأنت مُجْمِلٌ٢٨.

وإمَّا أن لا يكون ذلك عندك، فما أَنْتَ مُصيبٌ من حاجتك عند وزراء السلطان بمُقارَبتك وملائمتك إيَّاهم ومُلاينتِك.

وما أنت واجدٌ في موافقتك إيَّاهم ولِينك لهم من مُوافقتهم إياك ولِينهم لك أفضل ممَّا أنت مُدْرِكٌ بالمنافسة والمنافرة لهم.

لا تَجْتَرِئَنَّ على خِلاف أصحابك عند الوالي، ثِقةً باعترافهم لك ومعرفتهم بفضل رأيك.

فإنَّا قد رأَيْنَا الناسَ يَعْتَرِفون بفضل الرجل وينقادون له ويتعلَّمون منه، وهم أخْلِيَاءٌ. فإذا حَضَرُوا السلطان، لم يَرْضَ أحدٌ منهم أنْ يُقِرَّ له ولا أنْ يكون له عليه في الرأي والعِلْم فضلٌ، فاجتَرَأوا عليه بالخلاف والنَّقْض.

فإِنْ ناقضهم، صار كأحدهم. وليس بواجدٍ في كل حين سامعًا فَهِمًا أو قاضيًا عَدْلًا.

وإنْ تَرَكَ مناقضتهم، كان مغلوبَ الرَّأي مردودَ القول.

إذا أَصبْتَ عند السلطان لُطْفَ منزلة — لغَناء٢٩ يَجِده عندك أو هوًى يكون له فيك — فلا تَطْمحنَّ كلَّ الطِّماح ولا تُزيِّننَّ لك نفسُك المزايلة له عن أليفه وموضع ثقته وسرِّه قَبْلَك، تُريدُ أنْ تقْلَعه وتَدْخُل دونه. فإنَّ هذه خَلَّة من خلال السَّفَهِ قد يُبْتلَى بها الحُلماءُ عند الدُّنُوِّ من السلطان حتى يُحدِّثَ الرجل منهم نفسَهُ أنْ يكونَ دُونَ الأَهْلِ والولد: لفضلٍ يظُنُّه بنفسه أو نقصٍ يَظُنُّه بغيره.

ولكلِّ رجلٍ من الملوك أو ذوي هيئةٍ من السُّوقة أليفٌ وأنيسٌ، قد عَرَفَ رُوحه رُوحه واطَّلع قلبه على قلبه، فليستْ عليه مَؤونة في تبذُّل يتبذَّلُه عنده، أو رأيٍ يسْتَبِين٣٠ منه، أو سرٍّ يفشيه إليه. غير أنَّ تلك الأنَسَة وذلك الإلْف يَسْتخرج من كل واحد منهما ما لم يكن ليظهرَ منه عند الانقباض والتشدُّد. ولو التمس مُلتمسٌ مثل ذلك عند مَن يستأنِف٣١ ملاطفته ومؤانسته ومناسمته٣٢ — وإنْ كان ذا فضل في الرّأي وبَسْطةٍ في العلم — لم يجِدْ عنده مِثْلَ ما هو مُنتفِعٌ به ممَّن هو دون ذلك في الرأي ممن قد كُفي مؤانستَهُ ووقع على طباعه.

لأنَّ الأنَسَةَ رَوْحٌ٣٣ للقلوب، وأنَّ الوَحْشَةَ رَوْعٌ٣٤ عليها. ولا يَلْتَاطُ٣٥ بالقلوب إلَّا ما لانَ عليها. ومَنِ استقبل الأُنس بالوحشة استقبلَ أمرًا ذا مؤونة٣٦.

فإذا كلَّفتْك نفسُك السُّمُوَّ إلى منزلة من وصفتُ لك، فاقْدَعْها٣٧ عن ذلك بمعرفة فضل الأليف والأنيس. وإذا حدَّثْتك نفسك أو غيرُك — ممن لعلَّهُ أنْ يكون عنده فضل في مُرُوءة — أنك أولى بالمنزلة عند السلطان من بعض دُخلائه وثقاته، فاذكر الذي على السلطان من حقِّ أليفه وثقته وأنيسه في التكرِمة والمكانة والرأي، والذي يُعينه على ذلك من الرأي الذي يَجِدُه عند من الأليف والأنيس مما ليس واجدًا عند غيره.

فليكنْ هذا مما تتحفَّظُ فيه على نفسك وتعرِفُ فيه عذر السلطان ورأيه.

والرأي لنفسك مِثْلُ ذلك، إنْ أرادك مُريدٌ على الدخول دون أليفك وأنيسك وموضع ثقتك وسِرِّك وجِدِّك وهزلك.

واعلم أنه يكاد يكون لكل رجل غالبة٣٨ حديث لا يزال يُحدِّث به: إمَّا عن بلد من البُلدان أو ضَرْبٍ من ضروب العلم أو صِنف من صنوف الناس أو وجه من وجوه الرأي. وعندما يُغرَمُ به٣٩ الرجل من ذلك، يبدُو منه السُّخْف ويُعرَف منه الهوىَ.

فاجتنبْ ذلك في كل موطن، ثُمَّ عند السلطان خاصَّةً.

بَابُ

لا تَشْكُوَنَّ إلى وزراء السلطان ودُخَلائِهِ ما اطَّلَعتَ عليه من رأْي تكْرهُهُ له. فإنَّك لا تَزِيد على أنْ تفطِّنَهم لهواه أو تُقرِّبَهم منه وتُغرِيهم بِتَزيين ذلك له والميل عليك معه.

بَابُ

واعلم أنَّ الرجلَ ذا الجاه عند السلطان والخاصة لا مَحَالَةَ أنْ يَرى من الوالي ما يخالفه من الرأي في الناس والأمور. فإذا آثر أنْ يَكْرَهَ كلَّ ما خالفه، أوشك أنْ يمتعِض٤٠ من الجفوة يراها في المجلس، أو النَّبْوَة في الحاجة، أو الرَّد للرأي، أو الإدناء لمن لا يهوَى إدناءَه، أو الإقصاءِ لمن يكْرَهُ إقصاءَه.

فإذا وقعتْ في قلبه الكراهية، تغيَّر لذلك وجهه ورأيه وكلامه حتى يبدُو ذلك للسلطان وغيره. فيكون ذلك لفساد منزلته ومُرُوءَته سببًا وداعيًا.

فَذلِّلْ نفسَك باحتمال ما خالفك من رأي السلطان، وقرِّرْها على أنَّ السلطان إنما كان سلطانًا لتتَّبِعه في رأيه وهواه وأمرِهِ، ولا تكلِّفه اتِّباعَك وتغضَبَ من خلافهِ إياك.

بَابُ

اعلم أنَّ السلطان يقبل من الوزراء التبخيل٤١ ويَعُدُّه منهم شفقةً ونظرًا له، ويحمَدهم عليه.

فإن كان جوادًا وكنتَ مُبَخِّلًا٤٢، شِنْتَ صاحبك بفساد مُرُوءَته؛ وإنْ كنتَ مُسَخِّيًا، لم تأْمَنْ إضرار ذلك بمنزلتك عنده.

فالرأي لك تصحيح النصيحة على وجهها، والتماسُ المخلَص من العيْب واللائمة فيما تترك من تبخيل صاحبك بأَنْ لا يعرف منك فيما تدعوه إليه ميلًا إلى شيء من هواك ولا طلبًا لغير ما ترجو أنْ يَزِينَهُ وينفَعَهُ.

بَابُ

لا تكوننَّ صحبتك للملوك إلَّا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندَك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك، وعلى ألَّا تكتُمَهم سرَّك ولا تستطلِع ما كتموك، وتُخفي ما أطلعوك عليه على الناس كلِّهم حتى تحميَ٤٣ نفسك الحديث به، وعلى الاجتهاد في رضاهم، والتلطُّف لحاجتهم، والتثبيت لحُجَّتهم، والتصديق لمقالتهم، والتزيين لرأيهم، وعلى قلة الامتعاض لما فعلوا إذا أساءُوا، وترك الانتحال لما فعلوا إذا أحسنوا، وكثرة النشْر لمحاسنهم، وحُسْن السَّتر لمساويهم، والمقاربة لمن قاربوا وإنْ كانوا بُعَدَاءَ، والمباعدة لمن باعدوا وإنْ كانوا أَقرباء، والاهتمام بأمرهم وإنْ لم يهتمُّوا به، والحفظ لهم وإنْ ضيَّعوا، والذكر لهم وإنْ نَسُوا، والتخفيف عنهم من مئونتك، والاحتمال لهم كلَّ مَؤُونةٍ، والرضى منهم بالعفو، وقلةِ الرضى من نفسك لهم إلَّا بالاجتهاد.

وإِنْ وجدتَ وعن صحبتهم غنًى، فأغْنِ عنهما نفسك، واعتزلْهما جَهْدَك.

فإنَّ من يأخذُ عملهم بحقه، يُحَلْ بينه وبين لذة الدنيا وعمل الآخرة، ومَنْ لا يأخذُ بحقه يحتمل الفضيحةَ في الدنيا والوِزْرَ في الآخرة.

بَابُ

إنك لا تأمن أنَفَة٤٤ السلاطين إنْ علمتهم، ولا تأمن عقوبتهم إنْ كتمتهم، ولا تأمن سَلْوَتهم٤٥ إنْ حدَّثتهم. وإنَّك إنْ لزمتهم لم تأمن تبرُّمهم٤٦ بك، وإنْ زايلتهم لم تأمن تفقدهم إياك، وإنْ تستأمرهم حملتَ المَؤُونة عليهم، وإنْ قطعت الأمر دونهم لم تأمن فيه مخالفتَهم.

إنك لا تأْمَنُ إن صدقتهم غَضَبَهم، وإِنْ كَذَبتهم سُخطهم. وإنْ سخطوا عليك نسيتَ سُخْطَ الله تعالى، وإنْ رَضُوا عنك تكلَّفت لرضاهم ما لا تُطيق.

إن٤٧ كنتَ حافظًا إنْ بَلَوْك٤٨. حَذِرًا٤٩ إنْ قرَّبوك، أمينًا إن ائتمنوك، تُعَلِّمُهُم وأنت تريهم أنك تتعلَّم منهم، وتُؤدِّبُهم وكأنهم يؤدّبونك، تشكرهم ولا تكلِّفُهم الشكرَ، بصيرًا بأهوائهم، مُؤثرًا لمنافعهم، ذليلًا إنْ ظاموك٥٠، راضيًا إنْ أسخطوك: وإلَّا فالبُعْد منهم كل البُعْدِ! والحذر منهم كل الحذر!


  1. ش: المرابطة. الأمير شكيب: الرابطة. وإهمال الميم سهو من المطبعة.
  2. جمع خائن. مثل الخونة والخائنين.
  3. أي الغادرين.
  4. أي لا تقصر تقصيرًا.
  5. أي التباعد.
  6. غاية البعض والكراهة.
  7. أي أبطل الحسنات الماضية ومحاها وفي ش : محا.
  8. أي مجدا ومجتهدا في العداوة. ومنه من باب المبالغة قولهم "جهد جاهد".
  9. أي يتنافسون للحصول على مكانته. والشيء المنفوس هو الذي تكثر الرغبة فيه.
  10. أي لا يراه المنافسون آهلا له وجديراً به.
  11. أي افراد أسرته وبنو حيه الذين واياه من بطن واحد. وقد اردف المؤلف هذه الكلمة بقوله "وأقاربه" تفسيرًا لمراده. والا فان الأحباب لا يتقدمون في الذكر على الأقارب. ولذلك عدلت عن متابعة النسخة السلطانية والعثمانية وطبعة الأمير شكيب، فلم أعتمد لفظة أحباء بتشديد الباء بمعنى أحباب، خصوصًا وقد رأيت الشيخ الشنقيطي ضبط هذه الكلمة بالياء المثناة التحتية بعد وضع علامة السكون على الحاء.
  12. وردت هذه اللفظة بغير الميم في ش: وفي ع: أي الحجة. ولكن الرواية التي اعتمدناها عن النسخة السلطانية هي أفضل وأكثر دلالة على المقصود. والسياق يعينها.
  13. کرثه الغم يكرثه "بكسر الراء وبضمها" اشتد عليه كا كرثه.
  14. الظنه بالكسر وتشديد النون المفتوحة التهمة، والظنين المتهم.
  15. الإعتاب الرجوع عن الاساءة.
  16. أي المسارة بتشديد الراء وهي أن يكلم الرجل صاحبه في أذنه.
  17. الحسيفة العداوة. وفي ش: وع: "الحيكة" وفسرها الأمير شكيب بالحقد والعداوة وهي جيدة أيضًا.
  18. الوغر: الحقد والضغن والعداوة والضغن والعداوة والتوقد من الغيظ ومنه قولهم: وغر صدره وأوغر صدره.
  19. أي المرة الواحدة من قول الكذب.
  20. الابهة: العظمة. ومن معانيها ايضاً البهجة والكبر والنخوة.
  21. لم يرد لفظ "بل" في النسخة السلطانية. وهو وارد في ش:
  22. أي في حالة اعادة السائل بمسألته على المسؤول الاول، دون التفات إلى جوابك.
  23. الخصماء جمع خصيم. وفيه دليل على التشدد في الخصومة والمعارضة والمجادلة واللدد.
  24. الخصوم مفرده خصم بمعنى المحاجج والمجادل والمعارض.
  25. البدار المعاجلة والاستباق.
  26. أي عينك التى تنظر بها
  27. أي جوارحك من الأيدي والأرجل.
  28. أي محسن فاعل للجميل.
  29. الغناء بالفتح النفع.
  30. وردت هذه الكلمة في جميع النسخ هكذا "يستزله" بمعنى يطلب زلته وسقطه. فيكون المعنى انه لا بأس ولا غبار على الرجل اذا اقضى إليه صاحبه برأي وكان في ذلك الرأي سقطة وخطأ فاحش لارتفاع الكلفة بينهما. وفي ذلك مبالغة في الدلالة على الاختصاص والالتصاق اللذين يمتنع منهما خوف الملامة أو الانتقاد. وقد اشار العلامة المرحوم الشيخ ابراهيم اليازجي بتصحيحها هكذا. "يستنزله" ووافقه على ذلك الأمير شكيب. على أن التعبير "باستنزال الرأي" ليس من المألوف فضلًا عن كونه ليس من الأمور التى تدل على التبسط والتبذل وامتناع الكلفه وارتفاع المؤونة. وأما النسخ السلطانية فقد وردت فيها الرواية التي اعتمدناها في المتن "يستبين له" وبها يستقيم المعنى وينتظم السياق.
  31. الاستئناف والائتناف معناها الابتداء. ومن ذلك الروضة الأنف والكلأ الانف "يضم الألف والنون فيهما" بمعنى الذي لم يرعه أحد. ومن ذلك أيضًا كأس انف للتي لم يشرب بها قبل ذلك، كانه استؤنف شربها أي ابتدىء بشربها لأول مرة. وأما في عصرنا هذا فقد جرت لغة القضاء والمحاكم على أن الاستشاف يكون مراجعة الحكم مرة ثانية لنسخه أو تأييده.
  32. المناسمة مثل المناسمة بمعنى المساررة.
  33. راحة.
  34. فزع.
  35. التاط الشيء بقلبه إلتقاط التياطًا لصق به من فرط الحب.
  36. المؤونة على وزن مقولة من الاين وهو التعب والشدة والثقل على الإنسان: واللفظة مشتقة من الأون بمعنى الاعياء كالتعب. هذا واعلم أن الأين معناه التعب والاعياء أيضًا.
  37. أي فازجرها وامنعها.
  38. هي اللازمة، في اصطلاح العامة.
  39. أي يتعلق به غرامًا وولوعًا.
  40. يتكدر ويتنغص.
  41. أي مطالبته بالبخل.
  42. أي تريده على أن يكون بخيلًا.
  43. أي تمنع.
  44. الأنف والأنفة "يفتح الألف والنون فيهما": الاستنكاف.
  45. السلوة هنا بمعنى الملل والسآمة من الحديث.
  46. أي تضجرهم منك.
  47. ربما كان الأفضل وضع فاء الفصيحة على هذا الحرف. فيقال: فإن كنت حافظاً إلخ. ليكون ذلك بمثابة أفصاح عما اجمله المؤلف في الفقرات الثلاث المتقدمة التي يحذر فيها الناس من مضار صحبة السلطان. هذا وقد وردت تلك الفقرات في النسخة السلطانية كل واحدة في باب على حدته ومنفصلة عن الأخرى. وأما بقية النسخ فليس فيها تبويب على الاطلاق.
  48. اختبروا ما عندك. وفي ع:"ولوك" اي قلدوك الولاية.
  49. وفي ش: "جَلْدًا" بفتح الجيم وبسكون اللام أي صبورًا حمولًا. وهي رواية لا بأس بها. ولكننا نفضل الرواية التي اعتمدناها في المتن، عن النسخة السلطانية. لأن التقرب من الملوك يستلزم الحذر أكثر من التجلد.
  50. وفي ش: وع: "وظلموك". وهي روايه لا بأس بها.