الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الخامس: عناصر الذات، امتزاج المشاعر التي يتألف الخلق منها
الفصل الخامس
عناصر الذات، امتزاج المشاعر التى يتألف الخلق منها
١ – عناصر الخلق
يتألف الخلق من تكتل عناصر عاطفية ينضم اليها بضعة عناصر عملية تمتزج بالأولى قليلاً جداً، فمن العناصر العاطفية تشتق شخصية الإنسان الحقيقية، و بما أن هذه العناصر كثيرة الى الغاية فانه ينشأ اشتراکها اخـــلاق متنوعة أي أخلاق نشيطة وأخلاق متبصرة وأخلاق جامدة وأخلاق حساسة إلخ، وكل من هذه الأخلاق يعمل عمله المختلف بتأثير المحرّضات الواحدة.
وقد يكون الملاط بين عناصر الخلق وثيقاً وقد يكون واهناً، فمن العناصر ذات الملاط المتين تتألف شخصیات قوية تظل ثابتة على رغم تغير البيئة والأحوال، ومن العناصر ذات الملاط الضعيف تتألف شخصيات رخوة مذبذبة متقلية تتبدل بتأثير أخف المؤثرات إذا لم تعين مقتضيات الحياة اليومية وجهتها كما تعين ضفتا النهر مجراه، غير أن الخلق مهما يكن ثابتاً فإنه يبقى مربوطاً بأحوالنا العضوية، فالألم العصبي أو الرثّيَة أو المغص بحول الفرح الى غم والصلاح الى خبث والعزم إلى خنث، ولذلك لم يكن نابليونُ المريضُ في ( واترلو ) نابليون المعهود، ولو كان ( بولیوس قیصر ) ذا تخمة لما عبر نهر ( الروبیكون )، وكذلك العوامل الأدبية فانها تؤثر في الخلق أو تعين وجهته على الأقل، فمتى يعتنق المرء ايماناً فان حبه للدنيا ينقلب الى حب الله، وقد يصح الكاهن المتعصب العالم ملحداً ولكنه يصير مؤذياً متعصباً لالحاده.
لقد بينت أن الخلق والعقل ليسا متآزيين في نموهما، فعلى نسبة ميل الخالق الى الوهن ينمو العقل، فالذى أوجب تداعی مدنیات عظيمة هو شدة العزم في الشعوب ذات العقل الصغير، إذ إن أرباب النفوس ذات الحزم والاقدام لا تقف أمام ما ينصبه العقل من الموانع، ولا تلبث السلطة في المجتمعات الزاهرة النضرة التي ضعفت الارادة فيها أن تنتهي في الغالب الى أولى الجرأة من محدودی العقل والذكاء، وهذا ما يجعلني أشاطر مختاراً رأى ( فاكيه) القائل متى يسود السلم أوروبا فان «الشعب الذي يبقى مسلحاً يفتتحها» وسيستعبد هذا الشعب شعوب أوروبا و یرغم المسالمين أصحاب الذكاء العاطلين من النشاط والعزم على العمل الذي يستفيد منه
٢ – أخلاق الشعب الجامعة
لكل شعب اخلاق جامعة مشتركة بين أكثر أفراده، فتلك الأخلاق تحدث في الشعب آراء متشابهة في بضعة مواضيع جوهرية، ولا حاجة لاخلاق الشعب الأساسية أن تكون عديدة، إذ الاستقرار في أخلاق الشعب لا عددها هو الذي يهيمن على مصيره، فلو أخذنا الانكليز مثلاً لرأينا أن العوامل التي تقود تاريخهم هي من القلة بحيث يمكن تلخيصها في بضعة أسطر واليكها: عبادة المجهود الثابت المستمر الذي يمنع المرء من التقهقر أمام أي مانع والذي يجعله يعتبر كل كارثة أمراً لا يُرْتَق فتقه، احترام العادات وكلِّ ما أثبته الزمان احتراماً دیناً، الحاجة الى العمل وازدراء تأملات الفكر العقيمة، احتقار الضعف، حب الواجب، اعتبار ردع الرجل نفسه بنفسه صفة أصلية يجب على التربية أن تعتنى بها اعتناءً خاصاً.
وهنالك نقائص خلقية لا تطاق في الأفراد ولكنها تصبح فضائل عندما تخص المجتمع كالفخر مثلاً، فالفخر الشعبي يحرض الأمم على الحركة والعمل، وبفضله كان الجندي الروماني يجد ثواباً كافياً بانتسابه إلى أمة دوخت العالم: وما الشجاعة الخارقة التي أبداها اليابانيون في حربهم الأخيرة مع الروس الا صادرة عن مثل ذلك الفخر، ثم إن الفخر أساس الرقي، فمتى شعرت الأمة بأفضليتها على الأمم فانها تبذل جهدها للمحافظة على تلك الأفضلية.
بالخلق لا بالذكاء تفترق الشعوب وتتحاب وتتباغض، وما بينها من تباین فبالأخلاق لا بالذكاء الذي هو من نوع واحد عند جميعها، ولما كان تأثير الشيء الواحد في الشعوب يختلف باختلافها فان سير هذه الشعوب يتباين بحكم الطبيعة حتى في الأحوال التي يظهر أنها واحدة، وسواء أنظرنا الى الشعوب أم نظرنا إلى الأفراد فان الاختلاف بين البشر يكون باختلاف الاخلاق اكثر منه بالمنافع والذكاء.
٣ – تطور عناصر الخلق
بما أن لحمة الخلق تتألف مشاعر من مشاعر أساسية فإن تطور المشاعر المذكورة يقع ببطء على مر القرون كما يؤيد ذلك ثبات الأخلاق القومية، فالعناصر النفسية التي هي مصدر هذه المشاعر راسخة رسوخ العناصر التشريحية، ولكن يوجد حول الأخلاق الأصلية أخلاق ثانوية تستطيع أن تتغير حسب الزمان والبيئة.
والذي يتبدل على الخصوص هو الموضوع الذي تطبق عليه المشاعر، فما حب الأسرة ثم القبيلة ثم المدينة ثم الوطن الا تطبيق مشاعر واحدة على مجموع مختلفة، ونعد المذهب الأممى والمذهب السلمى عبارة عن انتشار جديد لتلك المشاعر، كانت الحمية الوطنية قبل قرن مجهولة في ألمانيا على وجه التقريب، فقد كانت المانيا منقسمة الى دويلات متنافسة، وإذا عُدَّ حب الاتحاد بعدئذ في المانيا فضيلة فان هذه الفضيلة ليست سوى ذيوع مشاعر قديمة بين طبقات جديدة.
الأحوال العاطفية هي من الثبات بحيث يتطلب تطبيقها على مواضيع جديدة جهوداً عظيمة، فقد أوجب نيل شيء من التسامح قتل ألوف من الشهداء وسيل الدماء كالنهر في حومة الوغى كما قال الموسيو ( لاقيس ).
ومن الأمور الخطرة في حياة الشعب هو أن يسعى هذا الشعب مستعيناً بالعقل في إيجاد مشاعر مناقضة للمشاعر التي رسخت فيه بفعل الطبيعة، فها نحن نعاني نتائج ثورتنا الكبرى حتى الآن، إذ أفضت هذه الثورة إلى انتشار الاشتراكية التي تزعم أن الممكنات تغيير مجرى الأشياء الطبيعي وتجديد روح الأمم.
ولا يعترض على المبدإ القائل بثبات المشاعر كوننا نشاهد في بعض الأحيان تقلبات فجائية في شخصية الانسان کانقلاب الاسراف الى بخل والحب الى حقد والتعصب الدينى الى تعصب للالحاد الخ، فهذه التقلبات لم تكن الا تطبيقاُ للمشاعر الواحدة على مواضيع مختلفة.
ويوجد عوامل متنوعة - كمقتضيات الاقتصاد مثلاً - قادرة على نقل مكانمشاعرنا دون أن تبدل شيئا فيها، ونذكر من بين مقتضيات الاقتصاد كون انتشار الملكية بين كثير من الناس يؤدى الى تناقص عدد المواليد، فلو أصبح جميع أبناء البلاد مُلَّاكاً لقل عدد السكان اكثر من ذي قبل على ما يحتمل.
لا تبدل المشاعر التي هي أساس الخلق وجهتها من غير أن تنقلب حياة المجتمع رأساً على عقب، فما مصدر الحروب الدينية والحروب الصليبية والثورات إلا ذلك التبدل، والذي يجعلنا في الوقت الحاضر نرى جو المستقبل مكفهراً هو أن مشاعر طبقات الشعب اخذت تحول وجهتها، فقد أصبح كل واحد - بفعل أوهام المذهب الاشتراكي - ساخطاً على نصيبه معتقداً أنه يستحق نصيباً آخر اطيب منه، وقد صار العامل يظن أن الطبقات القائدة مستغلة، ولذا صار يحلم بالاستيلاء على أموالها عنوة.