الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الخامس: جريان الآراء وثورانها

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل الخامس

جريان الآراء وثورانها


١ – سريان الآراء

يوجد عدا الآراء التي تخص كل زمرة على حدتها مناح عامة تستولى على أكثر الزمر حينا من الزمن ، وهـذه المناحي الناشئة عن تأثير الكتب والجرائد والخطب والتعليم الخ تسمى « جريان الآراء »

فالجريان المذكور الذي قلما تدعمه عناصر العقل يحدث بفعل العاطفة وخلق التدين وينتشر بالتلقين والعـدوى النفسية ، وكلما تداعت أركان الماضي أي دعائم الثبات النفسي الموروث يعظم شأن جريان الآراء ، فقد عانينا منذ قرن سلطان هذا الجريان كثيراً فنشيعنا لعائلة بونابارت ثم لبولانجيه ثم لدر يفوس ثم للمذهب القومى الخ

وحرب وفى الغالب يجب أن تقع حوادث هائلة ليصدر عنها جريان الآراء ، فقد كانت معركة ( ينا ) عند الألمان سنة ١٨٧٠ عند الافرنسيس ضروريتين لاحداث جریان آراء قادر على الزام الناس الخدمة العسكرية العامة ، ولولا النصر البحرى العظيم الذي ناله اليابانيون في حربهم مع الروس لما حدث في بلاد اليابان جريان آراء تستطيع بفضله حكومة تلك البلاد أن تنفق كل سنة أكثر من مليار فرنك على اسطولها . والقادة أولو العزم والفضل يقدرون على توليد جريان آراء ضرورية أو تعيين وجهة هذا الجريان على الأقل ، وأما القادة المتوسطون فانهم يكتفون باقتفائه وما استطاع اقسى الجبابرة أن يباطشوا جريان الآراء زمنا طويلا ، فقد ذكر ( جوفينال ) أن الامبراطور ( دوميسيان ) تمكن من قتل كثير من مشاهير الرجال ولكنه « هلك عند ما أخذ السكافون يخافونه » ، وكان نابليون نفسه بهاب جريان الآراء ، فقد قال وهو في جزيرة القديسة هيلانه : « ان للرأي العام قوة لا تقهر ولا يقدر أحد على مقاومتها ، وليس ماهو أكثر منه تقلبا وغموضا وسلطانا ، وهو على رغم سيره مع الأهواء ذو سداد اكثر مما يظن » ا و يبذل أقطاب السياسة كثيراً العناية في ايجاد جريان للآراء او تحويل هذا الجريان ، فقد سعى بسمارك سنين طويلة لتكوين حركة فكرية في الشعب يستطيع بهـا أن يجعل البلاد مستعدة لاستقبال حرب تؤدي الى مالا تقدر على فعله اللغة وحدها من اتحاد بين دول المانيا ، و بفضل مانشره ساسة المانيا في الصحف من رسائل ومقالات وخطب مؤثرة في الرأي العام جعلوا الأمة الألمانية ترضى بانفاق أموال وافرة على تقوية اسطولها الحربي ، وما تم أمر الاصلاحات التي وقعت في انكلترا منذ قرن الا بتحريك جريان الرأي العام فيها . ومن العوامل المولدة لجريان الآراء تذكر الجرائد اليومية والنشرات والخطب والمحاضرات والمؤتمرات ، فبمثل هذه الوسائل انتشرت الاشتراكية في فرنسا والمانيا ، وتؤثر تلك الوسائل على الخصوص اذا استندت الى احتياجات ومشاعر وآمال جديدة وليس جريان الآراء السياسية . الذي هو أهم جريان نظراً لتأثيره 1 (( في وقوع كثير من الحوادث - هو الذي يجب أن يلتفت اليه وحده ، بل يقتضى أن يلتفت الى حركات الرأي الأخرى ، لأنها تدل أيضا على الحالة الفكرية في أحـد الأدوار ، فهذه الحركات تطبع طابعها على الفنون والآداب حتى على العلوم ، وتشتق الحركات المذكورة ما لبعض النظريات او لبعض الرجال من نفوذ ويعم أمرها بفعل العدوى النفسية التي هي العنصر الأساسي في انتشار المعتقدات . وكل من الكتاب والمفكرين والفلاسفة والساسة يعمل ضمن دائرته في ايجاد مجار الآراء تسير بها حضارة أحد الأزمنة ، وعلى أقطاب السياسة وحدهم يعود أمر تكوين رأى عام في المسائل التي تمس حياة البلاد الخارجية ، وعمل مثل هذا هو غاية في الصعوبة ، إذ يجب على أولئك الاقطاب أن يكونوا ذوى نفسية ناميـة يقدرون بها على السير حسب المنطق العقلى وعلى التأثير في مشاعر الرجال المستقلة عن كل عقل . ا L والمؤثرات غير العقلية التي هي سبب حركات الآراء تتبدل بحسب الأحوال تبدلاً متصلاً ، فعلى من يود أن يقبض على زمام هذه المؤثرات أن يعرف كيف يتفرس فيهـا وأن لا ينسى أن الرأي بعد أن تؤمن به الجماعة يصبح في نظرها حقيقة واحدة . ثوران الاراء ثوران الآراء كناية عن اتجاه انفعالات الناس الفجائية نحو غرض واحد ، وقاما ينشأ عن حوادث وقعت في غضون أحد الأدوار الطويلة مثل هذا الثوران وهو يظهر بتأثير حوادث عاطفية تقع بغتة أو بفعل بضعة الفاظ ينطق بها رجال نافذون ( قادرون على تحريك المشاعر . ولم يكن أعاظم الأبطال في التاريخ كبطرس الراهب وجان دارك ومحمد( صلعم ) ولوثر ونابليون هم الذين سببوا وحدهم ثورانا في الآراء ، بل نشاهد كل حدوث ثوران فيهـا وان كان على مقياس ضيق ، مثال ذلك ما نشأ عن اعدام الفوضوي ( فيرير) من ثوران أقام باريس وأقعدها وما أوجبه اجتياز طيار بحر المانش أول مرة من الوقع العظيم في أرجاء أوروبا . ، وتكون المجالس السياسية عرضة لثوران الآراء بوجه عام ، قال ( اميل أو ليثيه) « لا يدرك من لم يكن له كرسي في المجالس أمر تلك الحركات الفجائية التي تزحزح الأكثرية في أيام الأزمة عن طريقها فتجعلها تنبذ الرأي الذي استحسنته قبلاً لتقترع لرأي آخر يناقض الأول مناقضة تامة » لقـد بينت آنفا كيف استطاع بسمارك بحذفه بضع كلمات من برقية ( إمس ) أن يحدث في فرنسا انفجاراً فكريا أدى الى نشوب حرب السبعين كما أننى ذكرت أن فورانًا فجائيا في الرأي أوجب سقوط وزارة (كاليانسو ) ، والآن أقول ان ثوران الآراء قد لا يتعدى حد أحدى الزمر الاجتماعية ، ولكنه لا يكون حينئذ مؤثرا الا إذا كانت هذه الزمرة على شيء من القوة والسلطان ، فكل يعلم أن الفتنة الحديثة التي أوقدها أحـد أحزاب مقاطعة الشنبانيا اوجبت حرق كثير من معاصر الحجر الكبيرة التي آخذ الكرامون اصحابها على اشترائهم المنتجات من مناطق أخرى ، وماكان أمر تلك الفتنة إيت ليتم لو لم يشهر العصاة بقوة عددهم و بضعف الحكومة إزاءها . وأكثر الثورات الحديثة اشتملت على أثر انفجار في الرأي ، واذا لم نبحث عن ثورة 4 أيلول التي حدثت عند ما علم الناس خبر انكسارنا فاننا نرى أن حادثات كسقوط الملكية في البرتغال وفتن برلين وعصيان برشلونه والانقلاب التركي الخ لم تقع الا بغتة بفعل مؤثرات خفيفة ، وفى وقوع الثورات الشعبية فجأة ما يوجب العجب و يستوقف النظر ،اذ يرى أن أكثر الجموع تشترك فيها بتأثير العدوى النفسية من غير أن تعلم السبب الذي من أجله نشبت ، ولا بين تاريخ أغلب الثورات من شبه فانتا نعد هذا التاريخ يتجلى في عبارات الموسيو ( جورج كمين ) الموجزة التي لخص فيها ثورة سنة 1830 واليكها : « لقد وقع الانفجار الذي هيج با ج باريس . فجأة ، فلم تمض بضع . ساعات حتى سدت الأزقة بالمتاريس وتنظمت كتائب مساحة وضربت الطبول اشارة لجمع الحرس الوطني وتجمهر العمال والطلبة في الأسواق وتسلم طلاب مدرسة (البوليتكنيك) قيادة العصاة وأصبح كل باريسي شاكيا سلاحا ، ونادي الجميع : فليسقط شارل العاشر ! فليسقط بولينياك ! فتسقط مراسيم الملك ! فليحيى الدستور ! مع أن العصاة كانهم كانوا يجهلون معنى الدستور وما في المراسيم من أحكام ، فتأمل ! » وما يلاحظ أن الحركات الثورية تنتشر سريعا بتأثير العـدوى النفسية بين الناس حتى بين الذين لا يهمهم أمر حدوثها ، فجنود البارجات الروسية الذين تمردوا أيام الثورة لم يرفعوا راية العصيان الا بفعل العدوى ، والا فماذا يهمهم كون روسيا نالت مجلس نيابيا ام لم تنل وكون الفلاحين أصبحوا ذوي حق في اشتراء اراض ام لم يصبحوا ؟ « من أوصاف الثورة البارزة أنها تذيع بين أناس لا ينفعهم أمر نشوبها ، بل قد يخسرون كل شيء عند وقوعها ، فسوف يلحق أبناء الطبقة الوسطى هلاك كبير حينما يتم النصر لما يؤيدونه من المبادىء الاشتراكية الثورية . الحظ كون ثوران الآراء الشعبية الخطر – لعدم تأثير العقل فيه – ومن حسن ا ا لا يدوم طويلا ، ولا تفعل مقاومته مباشرة غير تحريكه ، فقد كان اصرار أركان الحرب أيام قضية (در يفوس) على نقض بضع وثائق سببا في تهيج الرأي العام وفورانه . وبجانب الحوادث المشهورة التي أشرت اليها آنفا نشاهد ضروبا صغيرة لثوران الرأي ، فيكفى لايقاظها استعمال بضعة الفاظ تؤثر في المشاعر ، وقد جربت ذلك في أمر بارز بسيط اليك بيانه : من حديقة كانت إدارة الاملاك الأميرية قررت لأسباب اقصادية : قطعة ( سان كلو ) مقيدة في سجلات الادارة المذكورة باسم غابة ( فيلنوف ليتان ) ، وبما أن امضاء هذا البيع نكبة على سكان تلك الضاحية الذين تعودوا النزهة في الحديقة المذكورة فكيف يحال دون انعقاده ؟ لقد علقت اعلانات البيع الرسمية على الجدران ، وحيث ان الجمهور لا يعرف مدلول ذلك الاسم الاداري لم يحرك ساكنا ، غير انني وجهت نظر مقرري لجنة الميزانية الى هذا الامر ذي العلاقة بالمنفعة العامة فوعدوني خيراً ، ثم مرت الأيام تلو الأيام ولم يبق ليوم عقد البيع البات القاطع سوى اسبوع واحد ، وفي تلك ا الأثناء علمت أن البيع سوف ينعقد مع أحد يهود ألمانيا فنشرت في احدى الصحف الكبيرة مقالة موجزة عنوانها « حديقة ( سان كلو ) الى الالمان » ، وما كاد الخبر يعم حتى حدث ثوران في الرأي العام فتهافت فوج من مراسلى الصحف على بلدية ( سان كاو ) لاستقصاء حقيقة الأمر وملأت الجرائد أعمدتها بمقالات طنانة - الموضوع ، ثم استُجوب الوزير في مجلس النواب فصرح بالعدول عن البيع في الحال والمستقبل .

وهكذا كفى لنيل النتيجة المذكورة نشر ثلاث كلمات ، فكلمات مثل هذه هي من الصيغ المؤثرة القادرة على تحويل المشاعر الفردية الى عزم جامع شامل .