الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الثالث: لماذا تختلف الآراء؟ ولماذا لا يقدر العقل على تقويمها؟

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل الثالث

لماذا تختلف الآراء ولماذا لا يقدر العقل على تقويمها.


١ – اختلاف الأمزجة النفسية يورث اختلاف الآراء .

في جميع المواضيع التي يستحيل اثباتها إثباتا علميا يعظم الاختلاف فيما يدور حولها من الآراء، ولا كانت الآراء قائمة على عناصر عاطفية أو دينية فإنها تتبدل على الخصوص بتبدل البيئة والخلق والتربية والمنفعة الخ .

وعلى رغم هذه التبدلات توجد مناح عامة تسوق الأشخاص أنفسهم الى إبداء آراء من فصائل واحدة، فما هو مصدر هذه المناحي يا ترى ؟ نكتشف هذا المصدر عند ما تحقق أن الامة ليست عبارة عن أشخاص يختلقون بتربيتهم وأخلاقهم فقط، بل بصفات انتقلت اليهم بالوراثة على الخصوص .

والمجتمع في أول الأمر يتكون من أشخاص لا يختلف بعضهم عن البعض الآخر الا قليلا، إذ لا يكون عندهم وقتئذ نفسية أخرى غير نفسية قبيلتهم، ولكن عوامل التطور والانتخاب لا تلبث أن تجرى حكمها فيتفاوت الناس بالتدريج، حينئذ يترقى بعضهم مسرعاً والبعض الآخر متثاقلاً، وهكذا يتفاوتون في قطع مراحل الطريق الواحدة.

وينشأ عن ذلك ان المجتمع في دور من أدوار تطوره يحتوى على أناس يمثلون جميع الاطوار التي اجتازها ذلك المجتمع بالتتابع، ولما لم يقطع بعض هؤلاء الناس حدود نفسية دور سابق فإن هذا البعض لا يستطيع أن يلتئم مع دور لاحق، اذاً فالحضارة بإصلاحها الناس لا تقدر على تحويلهم بالتساوي، فالناس بدلاً من ان يسيروا

نحو المساواة التي تدعو اليها أوهامنا الديموقراطية في الوقت الحاضر فأنهم صائرون إلى تفاوت زائد، ولا يكون مبدأ المساواة الذي كان سنة الاجيال الغابرة ناموس الحال والمستقبل .

وعلى ما تقدم تكون الحضارة بترقيها التدريجي قد أتت بعمل كعمل الساحر فنشرت في وقت واحد على الأرض الواحدة رجال المغاور والكهوف وأمراء الاقطاعات ومتقننى دور النهضة وعمال الدور الحاضر وعلماءه .

وكيف تكون عناصر الشعب المختلفة ذات اشتراك ووحدة ؟ نعم قد تتكلم الأمة في الظاهر باغة واحدة ولكن الألفاظ لا تلبث أن توقظ في أبناء هذه مبادى، ومشاعر وآراء متباينة الى الغاية، وعمل الحكومات الشاق في الوقت الحاضر هو أن تحفظ النظام بين هؤلاء الوارثين لأمزجة نفسية كثيرة الاختلاف يتفاوتون بها في الالتئام مع بيئتهم، ومن العبث أن تسعى في جعلهم متساوين، فهذا أمر لا يتم بالأنظمة والقوانين ولا بالتربية .

ومن الاوهام الكبيرة السائدة في هذه الأيام هو الاعتقاد أن التربية تساوى بين الناس، والحقيقة هي أن التربية تظهر مواهب الرجال ولكنها لا تساوى بينهم أبداً فما أكثر حملة الشهادات من رجال السياسة وخريجي الجامعات الذين لهم مزاج الهمجي النفسي ودليل الهمج في الحياة .

٢ – عناصر تقويم الآراء

ليس للآراء ما للمعتقدات من ثبات، وقد تبلغ الآراء في تقلبها مبلغا يجعلنا نظن أننا قادرون على تقويمها بسهولة، والواقع خلاف ذلك .

ان الطريقتين اللتين تتبادران الى الذهن في اصلاح الآراء وتقويمها هما العقل والتجربة، وقد رأينا أنه لا تأثير للعقل في المعتقدات الراسخة، وسنرى الآن هل يؤثر احيانا في الآراء البسيطة بتأثيره الضعيف وسنرى انه لمـا دلت المعرفة على عدم كفاية العقل لاضاءة نور الحقيقة ظهر نظامان سياسيان صارت اليهما جميع الحكومات في الامم منذ بداءة التاريخ .

ولكن اذا كان العقل لا يكفى لاصلاح آرائنا فبأي شيء نبصر الحقيقة في عالم السياسة والاخلاق والاجتماع ؟ سأبين في الفصل الآتى أنه ليس عندنا لادراك ذلك سوى طريقة واحدة أعنى التجربة ، فلنبحث الآن عن الشأن الذي عُزى الى العقل ،

٣ – شأن العقل في تكوين الآراء والاحكام المهمة

تأثير العقل كبير في جميع الآراء العلمية والفنية . وأما خطأ علماء النفس والفلاسفة فمناشيء عن اعتقادهم أن للعقل مثل ذلك التأثير في الآراء العادية ، وقد زعم زعماء الأحزاب الخياليون أنهم يستندون إلى العقل في تكوين آرائهم ، حتى ان رجال المهد نصبوا له تمثالا و بأسمه يسن فرسان البيان في الوقت الحاضر النظم والقوانين .

غير ان الاختبار يثبت ان تأثير العقل قليل لا في حياة الشعوب وحدها بل في سيرنا اليومي وقد أشار ( تاين ) الى ذلك فقال : « لو احتجنا الى الاعتقاد أن الآلهة هي التماسيح لأقمنا للتماسيح معبداً في ميدان كاروسيل»

وعندى أنه يظهر إقامة هذا المعبد كتيبة من الأساتذة والمحامين الماهرين لتبرر بناءه بأدلة وبراهين عقلية ، فالعقل يذعن على الدوام لأكثر اندفاعاتنا العاطفية والدينية المخالفة للصواب كي يزكيها .

والواقع هو أن الآراء اليومية تتكون مستقلة عن كل عقل وقد لا تكون ضد العقل ، وبما أننا نسترسل في اندفاعاتنا العاطفية والدينية التي توجب تلك الآراء فإننا نتخيل أن الآراء المذكورة صحيحة ولا نسمح لأحد بأن يسفهها ، ثم لو كان العقل سبب آرائنا الحقيقي لما بدا من جميع الناس سوى رأى واحد في كل موضوع ولكان الأمر كما في القضايا العلمية المسلم بها لا كما في النظريات العالمية التي ليست سوى تفاسير بمليها المنطق العقلي أحيانا بتأثير المنطق الديني أو المنطق العاطفي .

وكلما ابتعدنا منطقة العلم الخالص أي كلما مررنا من دائرة المعرفة لندخل في دائرة المعتقد يزيد الاختلاف بين الآراء في جميع المواضيع ، وقد يبدو هـذا الاختلاف في المسائل التي يلوح أن العقل هو المسيطر عليها كالأحكام القضائية مثلاً وسنستعين بهذه الأحوال البارزة لتثبت كيف يصعب على المنطق العقلي أن يتخلص من تأثير العاطفة والدين .

فلنقسم الرجال الذين فُوِّض اليهم أمر القضاء بين الناس كي نصل الى هـذا الغرض ، حينئذ نرى على أسفل درجة في السلم أولى النفوس الذين يتكون رأيهـم بتأثير المنطق العاطفي دون غيره ، ثم نرى على أعلى درجة في ذلك السلم رجالاً ذوى أمزجة نفسية لا تؤثر فيهم سوى براهين المنطق العقلي .

والى الصنف الأول ينتسب المحلفون في محاكم الجنايات ، فالمحلفون لكثرة عددهم تتألف منهم جموع ويكتسبون ما للجموع من صفات أي لا تؤثر الأدلة العقلية فيهم الا قليلا ، فيمكن تحويل قناعتهم بالتأثير في مشاعرهم ، وعلى ذلك فان المرأة التي تقترف جناية كبيرة ويكون لها ذرية صغار يجدون في طلبها باكين لا تلبث أن تصير محطا لتوجع المحلفين ورحمتهم ، وإذا كانت المجرمة امرأة حسناء قتلت عاشقها بتأثير الحسد والغيرة فإن المحلفين في فرنسا يرحمونها أكثر مما يرحمون الأولى فيبرئونهـا وأما في إنكلترا فيحكمون عليها بالإعدام ، وبهذه الحالة يتحلى انا تأثير العرق في تكوين الآراء .

وفوق الصنف المذكور الذي تستحوذ عليه المشاعر يجيء قضاة المحاكم الابتدائية فهؤلاء هم من الحداثة بحيث يمكن أن تؤثر أدلة المشاعر فيهم ، واذا كان المحامي مشهوراً فانه يخلبهم ، ومع هذا فقد يتأثرون الأدلة العقلية ، اللهم اذا لم تعترضها منافعهم الشخصية ، واحيانا يكون لرغبتهم في الرقى والعوامل السياسية تأثير عظيم في آرائهم ، ولذلك تكون أحكامهم متقلبة مشتبها فيها ، يحدث عندي هـذا الاعتقاد كون محاكم الاستئناف تنقض ثلث احكامهم على وجه التقريب .

ودرجة قضاة محاكم الاستئناف هي فوق درجة أولئك ، إذ لما كان هؤلاء القضاة اكبر سنًا واعظم تجربة فانهم يخضعون لتأثير المنطق العقلي أكثر مما لتأثير المنطق العاطفي .

ثم نشاهد على ذروة السلم قضاة محكمة النقض والابرام ، فبما أن القضاة المذكورين طعنوا في السن فأصبحوا من الشيوخ وصارت علائم الهرم بادية عليهم، وبما أنهم اضحوا لا يبالون بالمنافع الشخصية ولا يعلمون للرحمة والعاطفة معنى فانهم يتمسكون بدائرة القانون نفسها غير ناظرين الى الأحوال الخصوصية، ولذلك لا يذكر المحامون أمامهم أدلة مصدرها العاطفة بل يحاولون أن يؤثروا فيهم ببراهين العقل، فدقائق القانون هي التي تستولى عليهم من كل الوجوه، ولا يخلو ذلك من خطر، لأن قاعدة الحقوق التي تكون عند وضعها صائبة لا تلبث أن تصبح غير صائبة بفعل تطور الأمور الاجتماعي، ووقتئذ يجب تأويلها على وجه موافق لمقتضى الحال كما يفعل بعض القضاة في أحكامهم التي هي فاتحة التشريع، على هذه الطريقة صارت المبارزة جنحة بعد أن كانت جناية، وكذلك زناء الأزواج الذي كان جناية يعاقب فاعلها بالسجن سنين طويلة أصبح جنحة خفيفة.

ظهر مما تقدم أن آراء بعض الرجال المتعلمين المتصفين بمزية الانصاف والمتجردين عن الهوى تكون في الغالب مختلة، وهذا ما يؤيد بياننا القائل إن العقل وحده لم يكف لتنوير بصائرهم وتثقيف أذهانهم.

وإذا لم تنظر الى تلك الصفوة بل الى الاجتماعات كالمجالس النيابية التي يكون أعضاؤها في الغالب سائرين وراء مصالحهم الشخصية وحرصهم السياسي نرى أنه لا شأن للعقل في مقرراتهم، حتى إنهم لا يستمعون أحيانا الى ما يمليه العقل من براهين وهم لا يقترعون الا على ما توحيه اليهم منافع احزابهم أو مآرب منتخبيهم.

أجل، إنه يستشهد بالعقل في المجالس النيابية، غير أن العقل هو أقل العوامل تأثيراً فيها، ويعلم نوادر الزعماء الذين يستطيعون أحيانا أن يغيروا اقتراع احـد الاجتماعات السياسية أنهم لا يؤثرون بالمعقول في السامعين بل بتحريكهم مشاعر هؤلاء ويستعينون على ذلك ببضع صيغ لها ما لآيات الدين من التأثير.

٤ – شأن العقل في تكوين الآراء اليومية

تبين لنـا ما للعقل من الشأن الضئيل في مقررات صفوة الرجال وأحكامهم ، وشأن العقل يكون أقل من ذلك في تكوين الآراء اليومية، إذ إننا بالحقيقة نرى آراء مختلفة في مواضيع او تناولها العقل لم يصدر فيها سوى أحكام متجانسة ، ويتجلى هذا الاختلاف عند الوقوف على شأن العناصر الدينية والعناصر العاطفية في تكوين الآراء.

ولا ينشأ اختلاف الرأي - كما يزعمون أحيانا - عن تفاوت في تعلم الذين يبدونه ، لأننا نشاهد صدور هـذا الاختلاف عن أناس تقاربوا علما وذكاء ، وقد يثبت لدينا ذلك عند اطلاعنا على الأجوبة التي جمعت في أثناء استقراء بعض المسائل المعينة.

ومن بين الأمثلة الكثيرة اورد مثالاً بارزاً نشره الموسيو ( بينيه ) في احدى المجلات واليكه : لما أراد الموسيو ( بينيه ) أن يطلع على نتائج حذف تاريخ الفلسفة من برامج المدارس الثانوية أرسل سؤالاً إلى جميع الاساتذة الذين كانوا يدرسونه عن رأيهم في الحذف المذكور ، إلا أن الأجوبة التي أخذها ذلك كانت متناقضة ، إذ غد بعض الاساتذة حسنا ما عده البعض الآخر مضراً ، ثم سأل الموسيو ( بينيه ) مستنتجا : «كيف يستحسن أستاذ اصلاحا بمقته زميله ؟ فياله من أمر مفيد أثبت للأساتذة أن آراء البشر تكون نسبية حتى آراء اصحاب الكفاءة من الرجال ! »

وقد حدث مثل التناقض المذكور في جميع المواضيع وفى كل زمان ، مع ذلك فان الانسان مضطر الى اختيار أحد الآراء كي يسير في الحياة ، فكيف يقع هذا الاختيار ؟ اكتشف الناس حتى الآن طريقتين فقط : إما قبول رأى الأكثرية وإما قبول رأى رجل واحـد نصيب ملكاً ، ومن هاتين الطريقتين تشتق جميع النظم السياسية.

لاشك في أن الرأي اذا دعمته الأكثرية لا يكون لهذا السبب أرقى من الرأي المخالف ، كما أن رأى الفرد الذي ألزم الناس به قد لا يكون اسمي من غيره ، و إنما ضرورة السير هي التي توجب اختيار أحـدى الطريقتين ، فلولا الاختيار لوقع تذبذب في الأمور وبطل السير والحركة.

ورأى الفرد الذي هو على جانب كبير من الفضل والعبقرية يكون على العموم أرقى من رأى المجموع، ولكن إذا كان الفرد قليل الفضل فإن آراءه قد تكون كثيرة الخطر، ومن يتصفح تاريخ المانيا وفرنسا منذ خمسين سنة يشاهد أدلة عديدة على فوائد تينك الطريقتين ومحاذيرهما أي استبداد الفرد واستبداد المجموع .