الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الثالث: فناء روح الفرد في روح الزمرة
الفصل الثالث
فناء روح الفرد في روح الزمرة
١ – انحلال الجموع الكبيرة وتحولها الى زمر صغيرة في الوقت الحاضر
بعد أن تخلصت روح الفرد بالتدريج من سلطان الجمع أخذت في الزمن الحاضر تميل الى الرجوع الى ما كانت عليه حسب. شكل غير منتظر لا على الشكل الذي يتخيله بعض رجال السياسة النظريين القائل بمساواة الناس في الممايش والأموال تحت ظل الحكومة، إذ ينمو بجانب نظريات الاشتراكيين زير صغيرة يختلف بعضها عن بعض رأيا ومتفعة، ويسمى انحلال المجمتع وتحوله الى تلك الزمر التي لا رابطــة بينها « الحركة النقابية »
فالنقابية بدلاً من أن تكون كالاشتراكية من أعمال النظر بين البعيدين منحقائق الأمورفانها بنت مقتضيات الاقتصاد المهيمنة ، يدل على ذلك شيوعها بأشكال مختلفة بين كثير من الأمم المتباينة بمزاجها النفسي ، والفرق بين تلك الاشكال هو أن النقابية تكون في بعض البلدان ثورية وفى البعض الآخر سلمية
وينشأ عن تطور الصناعة الذي أوجب تلك الحركة انقسام أوطان الوقت الحاضر الكبيرة الى أوطان صغيرة لا تحترم سوى قوانينها الخاصة مستخفة بقوانين المجتمع العام الذي يضمها ، وما بين هـذه الزمر الصغيرة المختلفة اتحاد موقت فانه يمنحهافى الغالب قوة كافية لتنفيذ رغباتها
وتسهل مشاهدة نتائج تلك القوة ، ولكن ليس من الهين تحقيق كون اتحاد الزمر المذكورة لا يبقى زمنا طويلا ، فمتى يتحل المجتمع القديم الحلالاً تاما ويتحول الى زمر صغيرة فان ما بين منافع هذه الزمر من تباين يقودها حتما إلى تنازع مستمر ، ذلك لأن كل زمرة متجانسة ذات منافع وآراء واحدة ترى حينئذ أنها مضطرة إلى الاصطدام مع زمر أخرى تباينها منفعة ورأيا .
و يمكننا أن نستدل منذ الآن على مابين المنافع المتباينة من التصادم المزمع ان يقع من تاريخ الجمهوريات الايطالية القديمة ولاسيا جمهورية (سيان ) وجمهورية (فلورنسا) . كانت نقابات العمال تدير هذه الجمهوريات فنشأ اختلافها في المصالح وقوعات ضرجت المدن بالدماء عصوراً كثيرة ، ولا تقل إن هذا أمر يخص الماضي البعيـد ، فنواميس الاجتماع العامة ليست عديدة وهى تجرى حكمها على الدوام .
واذا كان العراك بين الزمر في الوقت الحاضر لا يزال في دور البداءة فذلك لأن السلطة المركزية التي هي على شيء من القوة تردع مزاحمتها ، غير أن هذه السلطة أخذت تفقد نفوذها شيئا فشيئا ، ومتى يتم ضياعها لذلك النفوذ يقع العراك بينها وبين الزمر المذكورة كما حدث في (نار بون) ، ثم يقع بين تلك الزمر نفسها كما في ( شنبانيا ) حيث تقاتلت نقابات مديريتين ذات منافع متباينة قتالاً عنيفاً
وفى المستقبل سيعيد التاريخ نفسه فتقع غارات وحرائق وملاحم وغيرهامن الحوادث التي هي من مظاهر سخط الجموع عندما لا تجاب الى طلباتها ولا يكون أمامها رادع يزجرها . لم تبتعد من مسئلة تكوين الآراء والمعتقدات كما قد يتوهم البعض من مطالعة التفصيل السابق، وإلا فكيف ندرك ما في الزمرة من وحدة الآراء من غير أن نبحث عن المؤثرات التي أوجبت وجود تلك الزمرة ؟ لقد لقينا صعوبة في تعيين العوامل ذات التأثير الكبير وقتها درسناها في الفصول التي خصصناها للآراء الشخصية، فلا أسهل من تعيينها فيما يتعلق بالزمر المحدودة الكثيرة التجانس كالتي ذكرنا تكوينها أننا، فهذه الزمر تتألف بالحقيقة من أفراد ليس لهم سوى آراء بيئتهم الصغيرة أي زمرتهم المضطرة - كي تحافظ على قوتها - الى عدم الاعضاء عن أية مخالفة في الرأي تبدو من احد أفرادها .
وستصبح مسئلة تكوين الآراء والمعتقدات اقل سهولة عند ما لا تسمح الجماعة التي ينتسب اليها المرء بأن يكون عنده رأى غير رأيها، وعندئذ تضيق حرية الفكر حتى تصير أمراً مستحيلاً، فلتقع مجتمعات المستقبل تحت حكم الاشتراكية أو النقابية أو في ريقة المستبدين الذين يؤدي هذان المذهبان الى ظهورهم حتما لترى كيف يستولى عليها استعباد نفسي عظيم .
۲ – كیف تخلصت روح الفرد من روح الزمرة وكيف تعود اليها
يؤدى التطور الحديث -كما بينا - الى تحويل المجتمعات الى زمر صغيرة مختلفة لكل منهـا مشاعر وأفكار وآراء مشتركة أي روح واحدة، ولا فائدة من البحث عن قيمة هذا التطور، لأن العقل لا يبدل سير الأمور، ولكن اذا لم ندرس قيمة الحوادث فانه لا بأس في شرحها .
يسهل علينا أن نثبت أن اندغام روح الأفراد في روح الجمع هو كناية عن عودة إلى صفحات التاريخ الأولى التي لا نزال نشاهد مثلها عند الشعوب الفطرية المتأخرة، فهذه الشعوب تتألف من جماعات صغيرة تدعى قبائل تتقاتل في الغالب، وشأن الفرد في القبائل المذكورة ضعيف جدا لأن روح الفرد لم تتحرر فيها من روح المجموع، وهذا هو السبب في كون أفراد القبيلة جميعهم مسؤولين عن عمل أحدهم .
إن معرفة هذا الأمر ضرورية لإدراك حقوق من هم على الفطرة أو الشعوب . المتأخرة كالشعب الأمامي مثلاً ، فقد لاحظ الموسيو ( پول جيران ) حاكم الهند الصينية أن القضاة الأوربيين لا يفقهون حقوق تلك البلاد على ما يظهر لاعتبارهم فاعل الجرم وحده هو المسؤول وهم يعدون المبدأ القائل بعقاب رجل على فعل لم يقترفه أمراً همجيا مخالفا للادب والذوق . والواقع أن المبدأ المذكور لم يكن مضاداً للطبيعة عند الاناميين الذين كثيراً ما يعدمون رجالاً ينتسبون الى قبيلة القاتل وان لم يشترك هؤلاء الرجال في جريمة القتل ، ولماذا يقع ذلك ؟ يحدث ذلك للسبب النفسي المذكور آنفا والقائل إنه لما كان أفراد أحد الزمر الاجتماعية غير مختلفين فانه ليس عندهم سوى روح زمرتهم الجامعة ، وهذا مبدأ عام لتطبيقه على الشعوب كلها في أوائل أدوارها . الحقوق الأولى لا تفرق بين شخصية الفردوبين زيرته ، ولذلك تعاقب لا بل الزمرة جميعها أو أي قسم منها ، وكيف تقرر القوانين خلاف ذلك وهى بنت العادة ؟ إن المحكوم عليه لا يحتج على مثل تلك الحقوق التي وإن كانت ظالمة جائرة في نظر المتمدن إلا أنها عادلة منصفة عند رجل يشعر بارتباطه باحدى الزمر ارتباطا وثيقاً لا يعتقد به إمكان فصله عنها ، والأوروبيون أنفسهم يرجعون أيام الحرب الى تلك الحقوق الفطرية حينها يرمون الرجال المرهونين بالرصاص مستندين الى مبدأ المسؤولية المشتركة . ، ويلوح لمنا أنهم من أن يعودوا الى المبدا المذكور على وجه أعم اذا استمرت المجتمعات الحاضرة على الانقسام الى زمر كما بينا سابقا . وما في أفراد القبيلة الواحدة من عدم اختلاف في الروح يشاهد مثله في الجسم وقد أثبت بمباحثى الكثيرة في ألوف من الجماجم أن تجانس الأمة من الوجهـة التشريحية يكون عظياً بنسبة تقهقرنا الى أصلها وأن الأمة كلا تقدمت اختلفت جماجم أبنائها أكثر منها في الماضي ، وهذا ما يقارب اخبار السياح الذين يبينون أن أفراد القبيلة المتوحشة يتشابهون تشابها موجبا للحيرة حتى إنه يصعب التفريق بين الجنسين فيهم . وعند الأمم المتمدنة ما عند الفطر بين من روح جامعة ، غير أن الأرواح الفردية تجمل تأثيرها محدوداً ، فالروح الأولى هي التي سميناها روح العرق ، وتظهر هـذه والتراصف الروح على الخصوص في الأحوال العظيمة ذات العلاقة تبصير الشعب كله ، وأما الروح الثانية فتتجلى بالعكس في أدق أحوال الحياة اليومية المعتادة المذكور للروح الفردية على الروح الجامعة هو كما بينت سابقا عبارة عن حادثة نشاهد مثلها في جميع ذوات الحياة التي يشتمل كل نوع منها على صفات خاصة غير الصفات العامة للجنس الذي تنتمي اليه . ولا نبحث هنا عن المساعي العظيمة التي بذلت على مر الأجيال لتحرير روح الفرد بالتدريج من روح المجموع التي لا مناص للمصلحة الاجتماعية من أن تحافظ عليها بفعل المعتقدات الدينية والبيئة والعادات والتقاليد والقوانين ، فايضاح سلسلة تلك الجهود هو تدوين صحائف التاريخ جميعها ، و يعلمنا مثل ذلك البحث أن عدد الرجال الذين استطاعوا بتعاقب الأزمنة ان يتخلصوا من نير روح المجموع قليل الى الغاية ، وأن البشر مدين لهؤلاء الرجال بما في المجتمع من مبتكرات هي - ر ارتقائه ، وأن المجتمعات التي كانوا سر حياتهـا قامت ضدهم على الدوام ، وأنه إذا نظر اليهم أحيانا بعين التسامح فذلك لوقت معلوم ، ويمكننا أن نعد مناحي الاشتراكية والنقابية في الزمن الحاضر عناوين جديدة لمجهودات المجتمعات في سبيل توحيد الرجال وجعلهم ذوى آراء ومعتقدات وحركات واحدة . وأهم الحادثات التي أشرنا اليها في هذا الفصل هي شروع المجتمعات الحاضرة في التحول إلى زمر صغيرة مستقلة متشاكسة متشاحنة تسعى كل منها في الانفراد حتى تخسر الأمم وحدتها ، وأن روح الفرد التي عملت قرونا كثيرة لتتفات قليلاً من روح المجموع تعود اليها في أيامنا . L C إذا نشاهد الآن ميـل الشعوب المتمدنة الى التقهقر نحو مزاج نفسى منحط كالذي كان سائدا للأجيال الأولى ، وسوف تكون منازعات المستقبل الكبيرة بين زمر الأمة الواحدة أكثر منها بين أمم مختلفة ، نعم أن فناء روح الفرد في روح الزمرة يمنح هـذه الزمرة قوة لا ريب فيها ، ولكن ذلك لا يؤدي الى رقي في المجتمع أو الأفراد ، فالرجل لا يكون قديراً ذا نفوذ إلا اذا تحرر من ربقة روح المجموع ا