الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الثالث: الطراز

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل الثالث

الطراز


١ – تأثير الطراز في عناصر الحياة الاجتماعية.

ينشأ عن تقلب الإحساس والشعور بتقلب البيئة والحاجات والتقاليد روح عامة تتبدل بتبدل الأجيال ، وكثيراً ما تتغير الروح المذكورة في غضون الجيل الواحد ، وهذه الروح التي تنتشر على عجل بفعل العدوى النفسية تسمى « طرازاً » .

فالطراز هو أحد العوامل القوية في شيوع أكثر عناصر الحياة الاجتماعية ومنها آراؤنا ومعتقداتنا ، ولم يمتد سلطانه الى اللباس وحده بل تناول فن التمثيل والآداب والسياسة والفنون الجميلة حتى الافكار العلمية ، وهذا هو العـلة في أن تشابه بعض الآثار أصدق لسان يعبر عن حال أحد الأدوار .

ولما كان الطراز يؤثر تأثيراً غير شعوري فاننا نعانيه من حيث لا ندرى ، ولا تقدر أكثر النفوس استقلالاً على التخلص من حكمه ، فالمتفننون والكتاب الذين يأتون بأثر ليس عليه مسحة من أفكار الوقت هم أندر من الكبريت الأحمر . وأحيانا يجعلنا الطراز بماله من النفوذ – نهيجب من أشياء لا تلبث أن نستبشيا بعد بضع سنوات ، وقلما يكون الأثر الفني ذاته ذا وقع في النفس ، وانما تشتق قيمته مما يحوم حوله من أفكار فيتحول بتحولها ، وفي الغالب يفرض الطراز أموراً بعد تصديقها كايجاد لغة أو إصلاح كتابة ، خذ لغة ( الفولابوك ) التي ظهرت سنة ١٨٨٠ مثالا تر أن الطراز قد يسر لها نجاحا باهراً لأنه تأسس في عشر سنوات ۲۸۰ نادیا و ٢٥ جريدة لنشرها ، ثم تبدل الطراز فصرنا اليوم لا نكاد نجد رجلا يعرف ( الفولابوك ) ، وقد قامت لغة ( الاسبرانتو ) مقام ( الفولابوك ) فلقيت مثلا لقيته هذه من النجاح ، إلا أنها أخذت في هذه الأيام تفسح المجال للغة أخرى تسمى (الايدو)، ولا ريب في أننا سنستمر على إيجاد لغات مصنوعة حتى نعلم أن تكوين اللغات هو أمر اجماعي لا يتم إلا ببطء أي لا يقع ابتداها يصنع أحد الناس . ولكون تقلبات الطراز تتناول جميع المواضيع واكبون ما فينا من شعور وإحساس يتغير بفعل كثير من المؤثرات يمكننا القول إن الشكل الذي نفكر حسبه ونعرب به عن مشاعرنا يتحول تحولا سيما . L والعاطفة التي هي مصدر الطراز لم تتخلص من عناصر العقل، وهذا يتضح البحث في زي النساء الذي هو أكثر مظاهر الطراز تقلبا في الظاهر ، إذ نرى حينئذ أن دائرة التقلب المذكور محدودة الى الغاية .

۲ – قواعد الطراز ، الطراز مزيج من عناصر عاطفية ومناصر عقلية .

إذا كان الطراز عنوان العاطفة فإن العقل الذي يعين وجهته ، ومن هذين هو المصدرين يشتق طراز الآداب والفنون والعمارة والأثاث واللباس وغيره من الأشياء ، هذا الاشتقاق عند البحث في الأزياء النسائية ذات التقلب الكبير : ويتضيع . ۹۱ ) - الآراء إن ما في زي النساء من عناصر عقلية ناشئ عن مقتضيات الاقتصاد والمخترعات والحاجات الحديثة وحكم الوقت الخ ، وتلاحظ هذه المؤثرات في تبدل الأزياء الذي أوجبه استعمال السيارات ، فقد اضطرت المرأة في دورنا القائم على مبدأ السرعة الى مجاراة الرجل في غدوه ورواحه في الشوارع الكبيرة ، فعم لذلك الزي المشذب – الذي كان يخص بعض الألعاب الرياضية – مع قليل من التعديل ، وأما الاثواب الأخرى فقد ضيقت فيها أكمام الدرع لتنساب في الجرز بسهولة ، غير أن ذلك جمل نصف المرأة الفوقاني الذي خرج على هذا الوجه غير مستظرف ، ومن اجله نقص اتساع البذلة التحتاني وألفي الجيبان كي تبدو مكيفة ، ثم إن المرأة طمعا في إيقاظ شهوة الناظرين لم تأل جهداً في جعل بذلتها تلاصق جسمها ملاصقة تامة مبدية من وجودها ما يمكن الرجل أن يستدل به على ما بقى

ولا اعتراض على النساء اللواتي يقطن المدن اذا لبسن البسة حريرية خفيفة أيام الشتاء بعد أن تم تدفئة البيوت بالبخار ذي الحرارة المرتفعة ، والمرأة المتسربلة بالحرير تنال في ذلك الفصل ما تحتاج اليه من الحرارة من عباءة الفرو حينما لا تكون في بيتها.

تلك هي العناصر العقلية التي تؤثر في تكوين الزي ، فلتتكلم الآن عن العناصر العاطفية ذات الشأن في ذلك التكوين : نقول قبل كل شيء إن الذي هو كاللغات والأديان من عمل المجموع لا من عمل الفرد ، ولذلك يتعذر على أي رجل أن يوجبه على الآخرين ، والناس يظنون خطأ أن الخياطين والممثلين وعارضي الألبسة هم الذين يوجدون الزي بوجه عام ، نعم إنهم مخطئون في ظنهم لأن الواقع يدل على أن هؤلاء لا يفعلون بالحقيقة سوى التعبير عن مناحي الناس وميولهم التي هي نتيجة بعض الحاجات والأفكار والأحوال .

والأزياء وان كانت تختلف من فصل الى آخر لا يتحقق الأمل في تبديلها إلا ضمن دائرة محدودة ، أجل ، إن الذي لا يروق النفس إلا إذا استوقف النظر ولكن لا يتم نجاحه إلا إذا لم يبتعد من الزي الذي تقدمه ، وهـذا ما يوضح لنا السبب في كون الزي المبتكر من كل وجـه لا يدوم طويلاً ، ولا يستقيم أمر الذي إلا بالتدريج ، فالجلابيب الواسعة التي كان النساء يستعملنها منذ ثلاثين سنة لم تتحول الى حلل ضيقة ملاصقة للجسم إلا شيئا فشيئا .

والزي ذو سلطان كبير ، فهو الذي يجعل المرأة تصطبر على أشد التكلف كأن تمسك ثوبها بيدها خوفا من أن تجرر ذيله وأن تحمل بيدها الثانية كيسا يشتمل على محتويات جيبها في الماضي ، وكأن تكابد ما ينشأ عن لبس الأثواب المسماة « الحلل المشكولة » من ألم في المشي ، والمتمدنات من هذه الجهة يشبهن نساء الهمج اللواتى يحتمان أوجاع الخرصان التي يزينون بها أوفين إذعانا لحكم الزي .

والخضوع للزى كما وصفنا يثبت لنا ما للعدوى النفسية من التأثير والقوة ، فأكثر النساء استقلالاً وهمة وسعيا في نبل جميع الحقوق لا تجرؤ على لبس بذلة قصيرة في وقت يلزم الزي الناس لبس بدلات طويلة ولا تجسر على صنع جيب في البذلة في زمن يحرم الزي استعمال الجيوب ولا تقدم على زر درعها من أمام في آن تزر بقيـة النساء دروعها خلف ، فليس من يقدر منهن على مخالفة الزي ، ولم يعلمن في الماضي أوامر الآلهة إطاعتهن لأحكام الذي في جميع العصور والاجيال .