الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الأول: تكوين الآراء بتأثير الجموع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل الأول

تكوين الآراء بتأثير الجموع
« العرق ، البيئة ، العادة ، الزمر الاجتماعية »


١ - تأثير العرق في المعتقدات

الجموع لها شأن كبير في تكوين كثير من الآراء وهي الناظمة لها ، وليس عنـد أكثرية البشر الساحقة سوى آراء الجموع ، حتى أن أغلب الناس استقلالاً ما لزمرهم الاجتماعية من آراء ، وقد بينا ذلك سابقًا ، وسيظهر الآن على شكل اوضح عند ما نبحث عن المؤثرات الاجتماعية في تكوين آرائنا ومعتقداتنا ، وهذه المؤثرات هي : العرق والبيئة والعادة والزمرة .

فلتباشر في المبحث عن تأثير العرق : دلت التجربة والاختبار على أن للأم ذات الماضي الطويل آراء ومعتقدات واحدة في بعض المواضيع الأساسية ، وتظهر هذه الوحدة بعد تكوين روحها القومية ، ولاختلاف هذه الروح باختلاف الأمم فان الحوادث الواحدة توجب في الأمم المختلفة انعكاسات متباينة .

ليس اليوم ما يسمونه العروق الخالصة موجوداً بالمعنى العالمى الصحيح ، وإنما لما خضعت أمم تنتسب الى جنس واحد او الى اجناس كثيرة متقاربة قرونًا طويلة لمعتقدات واحدة وانظمة واحدة وقوانين واحدة ولغة واحدة تكون منها عرق تاريخي كما فصلت ذلك في كتاب آخر ، حينئذ صار لهذا العرق في كثير من المواضيع سياسية كانت أم أخلاقية أم دينية أفكار ومشاعر مشتركة أصبحت راسخة في النفوس بحيث يسلم بها جميع ابنائه غير مجادلين.

إذاً ليست روح الشعب عبارة عن تصور نظري بل هي حقيقة ذات حياة تكونت من تقاليد وأفكار وأساطير وخيالات .تكاثفة في النفس تكاثفا ارثيًا ، هذه الروح تكون قوة الشعب .

واذا كان اتحاد الناس ناشئًا عن فتوحات قسرية فانه يتكون منهم مجموع موقت سریع الانحلال ماداموا عاطلين من روح قومية ، واذ لم ينالوها يظلون برابرة ، لأن القضاء على مقومات الماضى النفسية يؤدي حتماً إلى وقوع الشعب في طور الهمجية

ويكون اختلاف الآراء عند الأمة ذات الروح القومية المتينة في المواضيع التي لا أهمية لها ، وأما في الأمور الكبيرة فانه يحدث عندها اجتماع في الرأي ، وقد أتى الانكليز بمثال بارز على ذلك في حرب الترنسفال ، فانهُ عندما توالى انكسار الجيوش البريطانية أمام فلاحي البوير سنحت لجرائد الحزب المعارض فرصة مهاجمة الوزارة ، ولكن ذلك لم يخطر على قلب كاتبٍ ، ولو خطر على باله لردعته روحه القومية عنه .

ولا تتجلى الروح القومية الا في ما يتعلق بالمنافع العامة العظيمة ، وهذه الروح لا تمنع الأفراد من ان يكونوا ذوى آراء شخصية ذات ثبات كما أن صفات النوع في التاريخ الطبيعي لا تمنع ذلك النوع من اتصافه بصفات الجنس الذي يشتق منه .

قد لاحظنا آنفا أن تكوين الروح المشتركة لا يتم الا في الأمم التي لا يختلف بعضها عن بعض الا قليلاً ، فاذا كانت على اختلاف كبير فانها لا تلتحم ، لأن أفرادها لما كانوا مختلفين روحًا فان تأثير الأشياء الخارجية فيهم يكون متباينًا ، وهذا ما يمنعهم من من أن يكونوا ذوى آراء مشتركة في أي موضوع ، فحال التشك والمجر في النمسا والايرلنديين في انكلترا يؤيد صحة هذا الناموس .

توالد الشعوب الكثيرة الاختلاف يغير المؤثرات الارثية ، ولكن الأفراد يفقدون بهذا التوالد كل ثبات نفسي ، ولذلك يتعذر حكم الأمة المولدة ، يثبت هذا ماهو واقع في جمهوريات اميركا اللاتينية من الفوضى . و يرسخ ميراث الماضي كلما شاخت الأمة ، وما كان سرقوة الأمة يصبح بفعل الزمان سبب ضعفها ، وكما صعب التتامها مع أي مبتكر حديث أصبحت أفكارها وآراؤها أكثر تقيداً منها في السابق .

ويقع كل يوم تصادم بين الشعور الذي يهيمن عليـه العقل وبين المحرضات الارثية التي لا تأثير للعمل فيها ، وما تأتى به الأمم من ثورات عنيفة لتتخلص بها من نير الماضي الثقيل فذو تأثير غير دائم ، لأن الثورات و إن أمكنها أن تهدم الأشياء وتخر بها فانها لا تبدل النفوس الا قليلا ، وعلى هـذا نرى أن آراء فرنسا القديمة ومعتقداتها ذات تأثير عظيم في فرنسا الحديثة ، وما وقع فيها من تغيير ففى الظواهر فقط .

١ – تأثير البيئة في الزمر الاجتماعية

تؤثر البيئة الاجتماعية في آرائنا وسيرنا تأثيراً شديداً ، فهي تولد فينا أدلة غير شعورية تقودنا من حيث لا ندري ، ويتألف من كتب أحد الأدوار وجرائده ومناقشاته وحوادثه وسط هو مع خفائه يعين وجهة سيرنا ، وفى هـذا الوسط بذور لمبادىء فنية أو أدبية أو علمية أو فلسفية يكسوها اولو العبقرية أحيانا شكلاً ساطعا زاهراً .

وما في البيئة من آراء متين ، حتى أن الرجل الذي يغير بيئته يضطر الى الاذعان لآراء بيئته الجديدة ، ولهذا السبب يسهل على اشتراكي فوضوى أن يصبح محافظًا عند ما يقبض على ناصية الحكم ، فكلٌ يعلم كيف استطاع نابليون أن يحول بسهولة غيلان العهد الذين لم يتسع لهم المجال ليتمادوا في قصل الرقاب الى دوكات وحُجَّاب و بارونات .

تأثير البيئـة الاجتماعية عامٌ ، وأما الزمرة التي تنتسب اليها فهي التي تؤثر تأثيراً خاصا ، وما في المرء من معتقدات أو آراء شخصية مصدرها اختباراته وتأملاته فقليل الى الغاية ، فأكثر الناس لهم رأى زمرتهم أي طائفتهم أو طبقتهم وأهل مذهبهم أو حزبهم أو أرباب مهنتهم . اذاً فلكل طبقة من طبقات الشعب - عمالا كانوا أم قضاة أم ساسة - آراء خاصة ، وهذه الآراء هي مقياس لما يأتى به أفراد تلك الطبقة من الأحكام ، فالأمور في نظر هؤلاء الأفراد تكون صوابا أو خطأ حسبما تكون ملائمة أو غير ملائمة لآراء الزمرة التي ينتمون اليها ، واذا قبل أحد رأى زمرته فبلا جدال ، وإن لم يقبله لا يستطيع أن يعيش فيها .

ويؤدي التطور الحديث نحو الاشتراكية والنقابية الى زيادة عدد الزمر ولا سيما التي تدير بها الدولة احتكاراتها ، وما بين هذه الزمر من تحاسد فذوجةوة ، ولتلك الجفوة لا يبدو من الزمر المذكورة سوى العداوة والإهانة ، ولما لم تكن ذات تضامن يربط بعضها ببعض فإن الحلال مصالح الحكومة يزيد يوما فيوما ، وهذا هو الاسباب العميقة العويصة في تقهقر احتكارات الحكومة ، وقد ذكرت ذلك في کتاب سابق فأثبت أن في احتكار الدولة لأى مشروع بلية على ماليتها .

وتباين الآراء بين زمر الموظفين التي هي بالحقيقة سيدة البلاد لفائها يبدو للجمهور قليلا ، وأما آراء زير العمال فهي بالعكس ذات ضجيج يجعلها ظاهرة منظورة، وقد أخذت احتمادها على الطبقات الأخرى تصبح عاملا قويا في التطور السياسي الحديث .

وتتصور زمر العمال بتلقين زعمائها أنها وحدها هي التي أوجدت الثروة منكرة شأن رأس المال والذكاء ، وقد أصبحت أممية قائلة بمبدإ نزع السلاح ، فَعَدَّ العمالُ لذلك زمر الحرف وطنهم الحقيقي غير ناظرين الى الأمم الموجودة فيها تلك الزمر .

١ – تأثير العادة .

تشتق قوة المجتمعات والأفراد من العادة ، فالمادة تُغنى عن التأمل في أي حال يبدو لينظر فيه ، والبيئة والعدوى والتربية تُثًبِّت العادة في الانسان والقوانين تؤيدها ، ولا تكون القوانين قوة إلَّا إذا دعت عادةٌ موجودةٌ قبل سنها .

واذ قد بحثت عن العادة آنفاً فانني اكتفى الآن بالعبارة السابقة ، وسندرس في الفصل الآتى صفات آراء الجموع وقيمتها وتأثيرها .