اقتضاء الصراط المستقيم/7
فصل
ومما يشبه الأمر بمخالفة الكفار الأمر بمخالفة الشياطين كما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها وفي لفظ إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ورواه مسلم أيضا عن الليث عن أبي الزبير عن جابر عن النبي ﷺ قال لا تأكلوا بالشمال فإن الشيطان يأكل بالشمال
فإنه علل النهي بالأكل والشرب بالشمال بأن الشيطان يفعل ذلك فعلم أن مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به ونظائره كثيرة
وقريب من هذا مخالفة من لم يكمل دينه من الأعراب ونحوهم لأن كمال الدين بالهجرة فكان من آمن ولم يهاجر من الأعراب ونحوهم ناقصا قال الله سبحانه وتعالى الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم
ومثل ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال سمعت رسول الله ﷺ يقول لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم إلا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل
وفي لفظ أن النبي ﷺ قال لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنها في كتاب الله العشاء فإنها تعتم بحلاب الإبل
ورواه البخاري عن عبد الله بن مغفل عن النبي ﷺ قال لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب قال والأعراب تقول هي العشاء
فقد كره موافقة الأعراب في اسم المغرب والعشاء بالعشاء والعتمة
وهذه الكراهة عند بعض علمائنا تقتضي كراهة هذا الاسم مطلقا وعند بعضهم إنما تقتضي كراهة الإكثار منه حتى يغلب على الاسم الآخر وهو المشهور عندنا
وعلى التقديرين ففي الحديث النهي عن موافقة الأعراب في ذلك كما نهى عن موافقة الأعاجم
فصل
واعلم أن بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم فرقا يجب اعتباره وإجمالا يحتاج إلى تفسير
وذلك أن نفس الكفر والتشيطن مذموم في حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين ونفس الأعرابية والأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله تعالى وعند رسوله وعند عباده المؤمنين بل الأعراب منقسمون إلى أهل جفاء قال الله فيهم الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم وقال تعالى فيهم سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا وإلى أهل إيمان وبر قال الله فيهم ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربان عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم
وقد كان في أصحاب رسول الله ﷺ ممن وفد عليه ومن غيرهم من الأعراب من هو أفضل من كثير من القرويين
فهذا كتاب الله يحمد بعض الأعراب ويذم بعضهم وكذلك فعل بأهل الأمصار فقال سبحانه وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم
فبين سبحانه أن المنافقين في الأعراب وذوي القرى وعامة السورة فيها الذم للمنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب كما فيها الثناء على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وعلى الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول
وكذلك العجم وهم من سوى العرب من الفرس والروم والترك والبربر والحبشة وغيرهم ينقسمون إلى المؤمن والكافر والبر والفاجر كانقسام الأعراب
قال الله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير
وقال النبي ﷺ في الحديث الصحيح إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب
وفي حديث آخر رويناه بإسناد صحيح من حديث سعد الجريري عن أبي نضرة حدثني أو قال حدثنا من شهد خطبة النبي ﷺ بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال يا أيها الناس ألا إن ربكم عز و جل واحد ألا وإن أباكم واحد ألا لافضل لعربي على عجمي ألا لا فضل لأسود على أحمر إلا بالتقوى ألا قد بلغت قالوا نعم قال ليبلغ الشاهد الغائب وروى هذا الحديث عن أبي نضرة عن جابر
وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال إن بني فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالحو المؤمنين
فأخبر ﷺ عن بطن قريب النسب أنهم ليسوا بمجرد النسب أولياءه إنما وليه الله وصالحو المؤمنين من جميع الأصناف
ومثل ذلك كثير بين في الكتاب والسنة أن العبرة بالأسماء التي حمدها الله وذمها كالمؤمنين والكافرين والبر والفاجر والعالم والجاهل
ثم قد جاء الكتاب والسنة بمدح بعض الأعاجم قال تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم
وفي الصحيحين عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا جلوسا عند رسول الله ﷺ فأنزلت عليه سورة الجمعة وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال قائل من هم يا رسول الله فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا وفينا سلمان الفارسي فوضع رسول الله ﷺ يده على سلمان الفارسي ثم قال لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء
وفي صحيح مسلم عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس أو قال من أبناء فارس حتى يتناوله
وفي رواية لو كان العلم عند الثريا لتناوله رجال من أبناء فارس
وقد روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ في قوله تعالى وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم أنهم من أبناء فارس إلى غير ذلك من آثار رويت في فضل رجال من أبناء فارس
ومصداق ذلك ما وجد في التابعين ومن بعدهم من أبناء فارس الأحرار والموالي مثل الحسن وابن سيرين وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم إلى من وجد بعد ذلك فيهم من المبرزين في الإيمان والدين والعلم حتى صار هؤلاء المبرزون أفضل من أكثر العرب
وكذلك في سائر أصناف العجم من الحبشة والروم والترك وغيرهم سابقون في الإيمان والدين لا يحصون كثرة على ما هو معروف عند العلماء إذ الفضل الحقيقي هو اتباع ما بعث الله به محمدا ﷺ من الإيمان والعلم باطنا وظاهرا فكل من كان فيه أمكن كان أفضل والفضل إنما هو بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة مثل الإسلام والإيمان والبر والتقوى والعلم والعمل الصالح والإحسان ونحو ذلك لا بمجرد كون الإنسان عربيا أو عجميا أو أسود أو أبيض ولا بكونه قرويا أو بدويا
وإنما وجه النهي عن مشابهة الأعراب والأعاجم مع ما ذكرناه من الفضل فيهم وعدم العبرة بالنسب والمكان مبني على أصل
وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل سكنى القرى يقتضي من كمال الإنسان في العلم والدين ورقة القلوب مالا يقتضيه سكنى البادية كما أن البادية توجب من صلابة البدن والخلق ومتانة الكلام مالا يكون في القرى هذا هو الأصل وإن جاز تخلف هذا المقتضى لمانع وكانت البادية أحيانا أنفع من القرى ولذلك جعل الله الرسل من أهل القرى فقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وذلك لأن الرسل لهم الكمال في عامة الأمور حتى في النسب ولهذا قال الله سبحانه الأعراب اشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ذكر هذا بعد قوله إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم
فلما ذكر الله المنافقين الذين استأذنوا رسول الله ﷺ في التخلف عن الجهاد في غزوة تبوك وذمهم وهؤلاء كانوا من أهل المدينة قال سبحانه الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله فإن الخير كله أصله وفصله منحصر في العلم والإيمان كما قال سبحانه يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وقال تعالى وقال الذين أوتوا العلم والإيمان وضد الإيمان إما الكفر الظاهر أو النفاق الباطن ونقيض العلم عدمه
فقال سبحانه عن الأعراب إنهم أشد كفرا ونفاقا من أهل المدينة وأحرى منهم أن لا يعلموا حدود الكتاب والسنة والحدود هي حدود الأسماء المذكورة فيما أنزل الله من الكتاب والحكمة مثل حدود الصلاة والزكاة والصوم والحج والمؤمن والكافر والزاني والسارق والشارب وغير ذلك حتى يعرف من الذي يستحق ذلك الاسم الشرعي ممن لا يستحقه وما تستحقه مسميات تلك الأسماء من الأحكام
ولهذا روى أبو داود وغيره من حديث الثوري حدثني أبو موسى عن وهب بن منبه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال سفيان مرة ولا أعلمه إلا عن النبي ﷺ قال من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن
ورواه أبو داود أيضا من حديث الحسن بن الحكم النخعي عن عدي بن ثابت عن شيخ من الأنصار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ بمعناه وقال ومن لزم السلطان افتتن وزاد وما ازداد عبد من السلطان دنوا إلا ازداد من الله عز و جل بعدا
ولهذا كانوا يقولون لمن يستغلظونه إنك لأعرابي جاف إنك لجلف جاف يشيرون إلى غلظ عقله وخلقه
ثم لفظ الأعراب هو في الأصل اسم لبادية العرب فإن كل أمة لها حاضرة وبادية فبادية العرب الأعراب ويقال إن بادية الروم الأرمن ونحوهم وبادية الفرس الأكراد ونحوهم وبادية الترك التتار ونحوهم
وهذا والله أعلم هو الأصل وإن كان قد يقع فيه زيادة ونقصان
والتحقيق أن سكان البوادي لهم حكم الأعراب سواء دخلوا في لفظ الأعراب أم لم يدخلوا فهذا الأصل يوجب أن يكون جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية وإن كان بعض أعيان البادية أفضل من أكثر الحاضرة مثلا
ويقتضي أن ما انفرد به أهل البادية عن جميع جنس الحاضرة أعني في زمن السلف من الصحابة والتابعين فهو ناقص عن فضل الحاضرة أو مكروه
فإذا وقع التشبه بهم فيما ليس من فعل الحاضرة المهاجرين كان ذلك إما مكروها أو مفضيا إلى المكروه وعلى هذا القول في العرب والعجم
فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم عبرانيهم وسريانيهم رومهم وفرسهم وغيرهم وأن قريشا أفضل العرب وأن بني هاشم أفضل قريش وأن رسول الله ﷺ أفضل بني هاشم فهو أفضل الخلق نفسا وافضلهم نسبا
وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم بمجرد كون النبي ﷺ منهم وإن كان هذا من الفضل بل هم في أنفسهم أفضل وبذلك ثبت لرسول الله ﷺ أنه أفضل نفسا ونسبا وإلا لزم الدور
ولهذا ذكر أبو محمد حرب بن إسماعيل بن خلف الكرماني صاحب الإمام أحمد في وصفه للسنة التي قال فيها هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم
فكان من قولهم أن الإيمان قول وعمل ونية وساق كلاما طويلا إلى أن قال ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها ونحبهم لحديث رسول الله ﷺ حب العرب إيمان وبغضهم نفاق ولا نقول بقول الشعوبية وأراذل الموالي الذين لا يحبون العرب ولا يقرون بفضلهم فإن قولهم بدعة وخلاف
ويروون هذا الكلام عن أحمد نفسه في رسالة أحمد بن سعيد الأصطخري عنه إن صحت وهو قوله وقول عامة أهل العلم
وذهبت فرقة من الناس إلى أن لا فضل لجنس العرب على جنس العجم وهؤلاء يسمون الشعوبية لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل كما قيل القبائل للعرب والشعوب للعجم
ومن الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب
والغالب أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن نوع نفاق إما في الاعتقاد وإما في العمل المنبعث عن هوى النفس مع شبهات اقتضت ذلك ولهذا جاء في الحديث حب العرب إيمان وبغضهم نفاق مع أن الكلام في هذه المسائل لا يكاد يخلو عن هوى للنفس ونصيب للشيطان من الطرفين وهذا محرم في جميع المسائل
فإن الله قد أمر المؤمنين بالاعتصام بحبل الله جميعا ونهاهم عن التفرق والاختلاف وأمر بإصلاح ذات البين وقال النبي ﷺ مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر وقال ﷺ لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله وهذان حديثان صحيحان وفي الباب من نصوص الكتاب والسنة مالا يحصى
والدليل على فضل جنس العرب ثم جنس قريش ثم جنس بني هاشم ما رواه الترمذي من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض فقال النبي ﷺ إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم ثم خير القبائل فجعلني في خير قبيلة ثم خير البيوت فجعلني في خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا قال الترمذي هذا حديث حسن وعبد الله بن الحارث هو ابن نوفل
الكبا بالكسر والقصر والكبة الكناسة والتراب الذي يكنس من البيت وفي الحديث الكبوة وهي مثل الكبة
والمعنى أن النخلة طيبة في نفسها وإن كان أصلها ليس بذاك فأخبر ﷺ أنه خير الناس نفسا ونسبا
وروى الترمذي أيضا من حديث الثوري عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله ابن الحارث عن المطلب بن أبي وداعة قال جاء العباس إلى رسول الله ﷺ فكأنه سمع شيئا فقام النبي ﷺ على المنبر فقال من أنا فقالوا أنت رسول الله صلى الله عليك وسلم قال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ثم قال إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا قال الترمذي هذا حديث حسن كذا وجدته في الكتاب وصوابه فأنا خيرهم بيتا وخيرهم نفسا
وقد روى أحمد هذا الحديث في المسند من حديث الثوري عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن أبي وداعة قال قال العباس رضي الله عنه بلغه ﷺ بعض ما يقول الناس قال فصعد المنبر فقال من أنا قالوا أنت رسول الله فقال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني من خير خلقه وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا
أخبر ﷺ أنه ما انقسم الخلق فريقين إلا كان هو في خير الفريقين
وكذلك جاء حديث بهذا اللفظ
وقوله في الحديث خلق الخلق فجعلني في خيرهم ثم خيرهم فجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة يحتمل شيئين
أحدهما أن الخلق هم الثقلان أو هم جميع ما خلق في الأرض وبنو آدم خيرهم وإن قيل بعموم الخلق حتى يدخل فيه الملائكة فكان فيه تفضيل جنس بني آدم على جنس الملائكة وله وجه صحيح
ثم جعل بني آدم فرقتين والفرقتان العرب والعجم ثم جعل العرب قبائل فكانت قريش أفضل قبائل العرب ثم جعل قريشا بيوتا فكانت بنو هاشم أفضل البيوت
ويحتمل أنه أراد بالخلق بني آدم فكان في خيرهم أي ولد إبراهيم أو في العرب ثم جعل بني إبراهيم فرقتين بني إسماعيل وبني إسحاق أو جعل العرب عدنان وقحطان فجعلني في بني إسماعيل أو بني عدنان ثم جعل بني إسماعيل أو بني عدنان قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة وهم قريش
وعلى كل تقدير فالحديث صريح في تفضيل العرب على غيرهم
وقد بين ﷺ أن هذا التفضيل يوجب المحبة لبني هاشم ثم لقريش ثم للعرب
فروى الترمذي من حديث أبي عوانة عن يزيد بن أبي زياد أيضا عن عبد الله بن الحرث حدثني المطلب بن أبي ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب أن العباس بن عبد المطلب دخل على رسول الله ﷺ مغضبا وأنا عنده فقال ما أغضبك فقال يا رسول الله ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة وإذا لقونا لقونا بغير ذلك قال فغضب رسول الله ﷺ حتى احمر وجهه ثم قال والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله ثم قال أيها الناس من آذى عمي فقد آذاني فإنما عم الرجل صنو أبيه قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ورواه أحمد في المسند مثل هذا من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد هذا ورواه أيضا من حديث جرير عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحرث بن عبد المطلب بن ربيعة قال دخل العباس على رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله إنا لنخرج فنرى قريشا تتحدث فإذا رأونا سكتوا فغضب رسول الله ﷺ ودر عرق بين عينيه ثم قال والله لا يدخل قلب امرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي
فقد كان عند يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحرث هذان الحديثان
أحدهما في فضل القبيل الذي منه رسول الله ﷺ
والثاني في محبتهم وكلاهما رواه عنه إسماعيل بن أبي خالد
وما فيه من كون عبد الله بن الحرث يروي الأول تارة عن العباس وتارة عن المطلب بن أبي وداعة ويروي الثاني عن عبد المطلب بن ربيعة وهو ابن الحرث بن عبد المطلب وهو من الصحابة قد يظن أن هذا اضطراب في الأسماء من جهة يزيد وليس هذا موضع الكلام فيه فإن الحجة قائمة بالحديث على كل تقدير لا سيما وله شواهد تؤيد معناه
ومثله أيضا في المسألة ما رواه أحمد ومسلم والترمذي من حديث الأوزاعي عن شداد بن عمار عن واثلة بن الأسقع قال سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم هكذا رواه الوليد وأبو المغيرة عن الأوزاعي
ورواه أحمد والترمذي من حديث محمد بن مصعب عن الأوزاعي ولفظه إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة الحديث وقال الترمذي هذا حديث صحيح
وهذا يقتضي أن إسماعيل وذريته صفوة ولد إبراهيم فيقتضي أنهم أفضل من ولد إسحق ومعلوم أن ولد إسحق الذين هم بنو إسرائيل أفضل العجم لما فيهم من النبوة والكتاب فمتى ثبت الفضل على هؤلاء فعلى غيرهم بطريق الأولى وهذا جيد إلا أن يقال الحديث يقتضي أن إسماعيل هو المصطفى من ولد إبراهيم وأن بني كنانة هم المصطفون من ولد إسماعيل وليس فيه ما يقتضي أن ولد إسماعيل أيضا مصطفون على غيرهم إذ كان أبوهم مصطفى وبعضهم مصطفى على بعض
فيقال لو لم يكن هذا مقصودا في الحديث لم يكن لذكر اصطفاء إسماعيل فائدة إذ كان لم يدل على اصطفائه ذريته إذ يكون على هذا التقدير لا فرق بين ذكر إسماعيل وذكر إسحق
ثم هذا منضما إلى بقية الأحاديث دليل على أن المعنى في جميعها واحد
واعلم أن الأحاديث في فضل قريش ثم في فضل بني هاشم فيها كثرة وليس هذا موضعها وهي تدل أيضا على ذلك إذ نسبة قريش إلى العرب كنسبة العرب إلى الناس وهكذا جاءت الشريعة كما سنومئ إلى بعضه
فإن الله تعالى خص العرب ولسانهم بأحكام تميزوا بها ثم خص قريشا على سائر العرب بما جعل فيهم من خلافة النبوة وغير ذلك من الخصائص ثم خص بني هاشم بتحريم الصدقة واستحقاق قسط من الفيء إلى غير ذلك من الخصائص فأعطى الله سبحانه كل درجة من الفضل بحسبها والله عليم حكيم الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس و الله أعلم حيث يجعل رسالته
وقد قال الناس في قوله تعالى وإنه لذكر لك ولقومك وفي قوله لقد جاءكم رسول من أنفسكم أشياء ليس هذا موضعها
ومن الأحاديث التي تذكر في هذا المعنى ما رويناه من طرق معروفة إلى محمد بن إسحق الصنعاني حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا يزيد بن عوانة عن محمد بن ذكوان خال حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال إنا لقعود بفناء النبي ﷺ إذ مرت بنا امرأة فقال بعض القوم هذه ابنة رسول الله ﷺ فقال أبو سفيان مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن فانطلقت المرأة فأخبرت النبي ﷺ فجاء النبي ﷺ يعرف في وجهه الغضب فقال ما بال أقوال تبلغني عن أقوام إن الله خلق السموات سبعا فاختار العليا منها وأسكنها من شاء من خلقه ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم واختار من بني آدم العرب واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشا واختار من قريش بني هاشم واختارني من بني هاشم فأنا خيار من خيار من خيار فمن أحب العرب فبحبي أحبهم ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم
وأيضا في المسألة ما رواه الترمذي وغيره من حديث أبي بدر شجاع بن الوليد عن قابوس ابن أبي ظبيان عن أبيه عن سلمان رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله قال تبغض العرب فتبغضني قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا يعرف إلا من حديث أبي بدر شجاع بن الوليد
فقد جعل النبي ﷺ بغض العرب سببا لفراق الدين وجعل بغضهم مقتضيا لبغضه
ويشبه أن يكون النبي ﷺ خاطب بهذا سلمان وهو سابق الفرس ذو الفضائل المأثورة تنبيها لغيره من سائر الفرس لما أعلمه الله من أن الشيطان قد يدعو النفوس إلى شيء من هذا كما أنه ﷺ لما قال يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم كان في هذا تنبيه لمن انتسب لهؤلاء الثلاثة أن لا يغتروا بالنسب ويتركوا الكلم الطيب والعمل الصالح
وهذا دليل على أن بغض جنس العرب ومعاداتهم كفر أو سبب للكفر
ومقتضاه أنهم أفضل من غيرهم وأن محبتهم سبب قوة الإيمان لأنه لو كان تحريم بغضهم كتحريم بغض سائر الطوائف لم يكن سببا لفراق الدين ولا لبغض الرسول بل كان يكون نوع عدوان فلما جعله سببا لفراق الدين وبغض الرسول دل على أن بغضهم أعظم من بغض غيرهم وذلك دليل على أنهم أفضل لأن الحب والبغض يتبع الفضل فمن كان بغضه أعظم دل على أنه أفضل ودل حينئذ على أن محبته دين لأجل ما فيه من زيادة الفضل ولأن ذلك ضد البغض ومن كان بغضه سببا للعذاب لخصوصه كان حبه سببا للثواب وذلك دليل على الفضل
وقد جاء ذلك مصرحا به في حديث آخر رواه أبو طاهر السلفي في فضل العرب من حديث أبي بكر بن أبي داود حدثنا عيسى بن حماد زغبة حدثنا علي بن الحسن الشامي حدثنا خليد بن دعلج عن يونس بن عبيد عن الحسن عن جابر ابن عبد الله قال قال رسول الله ﷺ حب أبي بكر وعمر من الإيمان وبغضهما من الكفر وحب العرب من الإيمان وبغضهم من الكفر
وقد احتج حرب الكرماني وغيره بهذا الحديث وذكروا لفظه حب العرب إيمان وبغضهم نفاق وكفر
وهذا الإسناد وحده فيه نظر لكن لعله روي من وجه آخر وإنما كتبته لموافقته معنى حديث سلمان فإنه قد صرح في حديث سلمان بأن بغضهم نوع كفر ومقتضى ذلك أن حبهم نوع من إيمان فكان هذا موافقا له
ولذلك قد رويت أحاديث النكرة ظاهرة عليها مثل ما رواه الترمذي من حديث حصين بن عمر عن مخارق بن عبد الله عن طارق بن شهاب عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حصين بن عمر الأحمسي عن مخارق وليس حصين عند أهل الحديث بذاك القوي
قلت هذا الحديث معناه قريب من معنى حديث سلمان فان الغش للنوع لا يكون مع محبتهم بل لا يكون إلا مع استخفاف بهم أو مع بغض لهم فليس معناه بعيدا
لكن حصين هذا الذي رواه قد أنكر أكثر الحفاظ أحاديثه قال يحيى بن معين ليس بشيء وقال ابن المديني ليس بالقوي روى عن مخارق عن طارق أحاديث منكرة وقال البخاري وأبو زرعة منكر الحديث وقال يعقوب بن شيبة ضعيف جدا ومنهم من يجاوز به الضعف إلى الكذب وقال ابن عدي عامة أحاديثه معاضيل ينفرد عن كل من روى عنه
قلت ولذلك لم يحدث أحمد ابنه عبد الله بهذا الحديث في الحديث المسند فانه قد كان كتبه عن محمد بن بشر عن عبد الله بن عبد الله بن الأسود عن حصين كما رواه الترمذي فلم يحدثه به وإنما رواه عبد الله عنه في المسند وجادة قال وجدت في كتاب أبي حدثنا محمد بن بشر وذكره
وكان أحمد رحمه الله على ما تدل عليه طريقته في المسند إذا رأى أن الحديث موضوع أو قريب من الموضوع لم يحدث به ولذلك ضرب على أحاديث الرجال فلم يحدث بها في المسند لأن النبي ﷺ قال من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين
وكذلك روى عبد الله بن أحمد في مسند أبيه حدثنا إسماعيل أبو معمر حدثنا إسماعيل بن عياش عن زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين عن عبيد الله ابن أبي نافع عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ لا يبغض العرب إلا منافق وزيد بن جبيرة عندهم منكر الحديث وهو مدني ورواية إسماعيل بن عياش عن غير الشاميين مضطربة
وكذلك روى أبو جعفر محمد بن عبد الله الحافظ الكوفي المعروف بمطين حدثنا العلاء بن عمرو الحنفي حدثنا يحيى بن زيد الأشعري حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ أحب العرب لثلاث لأنه عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربي قال الحافظ السلفي هذا حديث حسن
فما أدري أراد حسن إسناده على طريقة المحدثين أو حسن متنه على الاصطلاح العام وأبو الفرج بن الجوزي ذكر هذا الحديث في الموضوعات وقال قال الثعلبي لا أصل له وقال ابن حبان يحيى بن زيد يروي المقلوبات عن الاثبات فبطل الاحتجاج به والله أعلم
وأيضا في المسألة ما روى أبو بكر البزار حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو أحمد حدثنا عبد الجبار بن العباس وكان رجلا من أهل الكوفة يميل إلى الشيعة وهو صحيح الحديث مستقيمه وهذا والله أعلم كلام البزار عن أبي إسحاق عن أوس بن ضمعج قال قال سلمان نفضلكم يا معاشر العرب لتفضيل رسول الله ﷺ إياكم لا ننكح نساءكم ولا نؤمكم في الصلاة
وهذا إسناد جيد وأبو أحمد هو والله أعلم محمد بن عبد الله الزبيري من أعيان العلماء الثقات وقد أثنى على شيخه والجوهري وأبو إسحاق السبيعي أشهر من أن يثنى عليهما وأوس بن ضمعج ثقة روى له مسلم
وقد أخبر سلمان أن رسول الله ﷺ فضل العرب فإما إنشاء وإما إخبار فإنشاؤه ﷺ حكم لازم وخبره حديث صادق وتمام الحديث قد روي عن سلمان من غير هذا الوجه رواه الثوري عن أبي إسحاق عن أبي ليلى الكندي عن سلمان الفارسي أنه قال فضلتمونا يا معاشر العرب باثنتين لا نؤمكم في الصلاة ولا ننكح نساءكم رواه محمد بن أبي عمر العدني وسعيد بن منصور في سننه وغيرهما
وهذا مما احتج به أكثر الفقهاء الذين جعلوا العربية من الكفاءة بالنسبة إلى العجمي واحتج به أحمد في إحدى الروايتين على أن الكفاءة ليست حقا لواحد معين بل هي من الحقوق المطلقة في النكاح حتى إنه يفرق بينهما عند عدمها
واحتج أصحاب الشافعي وأحمد بهذا على أن الشرف مما يستحق به التقديم في الصلاة
ومثل ذلك ما رواه محمد بن أبي عمر العدني قال حدثنا سعيد بن عبيد أنبأنا علي بن ربيعة عن ربيع بن نضلة أنه خرج في اثني عشر راكبا كلهم قد صحب محمدا ﷺ وفيهم سلمان الفارسي وهم في سفر فحضرت الصلاة فتدافع القوم أيهم يصلي بهم فصلى بهم رجل منهم أربعا فلما انصرف قال سلمان ما هذا ما هذا مرارا نصف المربوعة قال مروان يعني نصف الأربع نحن إلى التخفيف أفقر فقال له القوم صل بنا يا ابا عبد الله أنت أحقنا بذلك فقال لا أنتم بنو إسماعيل الأئمة ونحن الوزراء
وفي المسألة آثار غير ما ذكرته في بعضها نظر وبعضها موضوع
وأيضا فان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وضع ديوان العطاء كتب الناس على قدر أنسابهم فبدأ بأقربهم نسبا إلى رسول الله ﷺ فلما انقضت العرب ذكر العجم هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين
وسائر الخلفاء من بني أمية وولد العباس إلى أن تغير الأمر بعد ذلك
وسبب هذا الفضل والله أعلم ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم
وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع وإما بالعمل الصالح والعلم له مبدأ وهو قوة العقل الذي هو الحفظ والفهم وتمام وهو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة والعرب هم أفهم من غيرهم وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة ولسانهم أتم الألسنة بيانا وتمييزا للمعاني جمعا وفرقا يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل إذا شاء المتكلم الجمع جمع ثم يميز بين كل شيئين مشتبهين بلفظ آخر مميز مختصر كما نجده في لغتهم من جنس الحيوان فإنهم مثل يعبرون عن القدر المشترك بين الحيوان بعبارات جامعة ثم يميزون بين أنواعه في اسماء كل أمر من أموره من الأصوات والأولاد والمساكن والأظفار إلى غير ذلك من خصائص اللسان العربي التي لا يستراب فيها
وأما العمل فان مبناه على الأخلاق وهي الغرائز المخلوقة في النفس وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم فهم اقرب للسخاء والحلم والشجاعة والوفاء وغير ذلك من الأخلاف المحمودة لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير معطلة عن فعله ليس عندهم علم منزل من السماء ولا شريعة موروثة عن نبي ولا هم أيضا مشتغلون ببعض العلوم العقلية المحضة كالطب والحساب ونحوهما إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب وما حفظوه من أنسابهم وأيامهم وما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم أو من الحروب فلما بعث الله محمدا ﷺ بالهدى الذي ما جعل الله في الأرض ولا يجعل منه أعظم قدرا وتلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة لهم ومعالجتهم على نقلهم عن تلك العادات الجاهلية والظلمات الكفرية التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتهم فلما تلقوا عنه ذلك الهدى العظيم زالت تلك الريون عن قلوبهم واستنارت بهدى الله الذي أنزل على عبده ورسوله فأخذوا هذا الهدى العظيم بتلك الفطرة الجيدة فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم والكمال الذي أنزل الله إليهم بمنزلة أرض جيدة في نفسها لكن هي معطلة عن الحرث أو قد نبت فيها شجر العضاه والعوسج وصارت مأوى الخنازير والسباع فإذا طهرت عن المؤذي من الشجر والدواب وازدرع فيها أفضل الحبوب والثمار جاء فيها من الحرث مالا يوصف مثله فصار السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل خلق الله بعد الأنبياء وصار أفضل الناس بعدهم من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة من العرب والعجم
وكان الناس إذ ذاك الخارجون عن هذا الكمال قسمين إما كافر من اليهود والنصارى لم يقبل هدى الله وإما غيرهم من العجم الذين لم يشركوهم فيما فطروا عليه وكان عامة العجم حينئذ كفارا من الفرس والروم فجاءت الشريعة باتباع أولئك السابقين على الهدى الذي رضيه الله لهم وبمخالفة من سواهم إما لمعصيته وإما لنقيصته وإما لأنه مظنة النقيصة
فإذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار قديما وحديثا ودخل في ذلك ما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها ومن تشبه من العرب بالعجم لحق بهم ومن تشبه من العجم بالعرب لحق بهم ولهذا كان الذين تناولوا العلم والإيمان من أبناء فارس إنما حصل ذلك بمتابعتهم للدين الحنيف بلوازمه من العربية وغيرها ومن نقص من العرب إنما نقص بتخليهم عن هذا وإما بموافقتهم للعجم فيما جاءت السنة أن يخالفوا فيه فهذا أوجه
وأيضا فإن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي وجعل رسوله مبلغا عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان وصارت معرفته من الدين وصار اعتياد التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله وأقرب إلى إقامة شعائر الدين وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في جميع أمورهم
وسنذكر إن شاء الله بعض ما قاله العلماء من الأمر بالخطاب العربي وكراهة مداومة غيره لغير حاجة
واللسان تقارنه أمور أخرى من العلوم والأخلاق فإن العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله وفيما يكرهه فلهذا أيضا جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين في أقوالهم وأعمالهم وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجة
فحاصله أن النهي عن التشبه بهم إنما كان لما يفضي إليه من فوت الفضائل التي جعلها الله للسابقين الأولين أو حصول النقائض التي كانت في غيرهم
ولهذا لما علم المؤمنون من أبناء فارس وغيرهم هذا الأمر أخذ من وفقه الله منهم نفسه بالاجتهاد في تحقيق المشابهة بالسابقين فصار أولئك من أفضل التابعين بإحسان إلى يوم القيامة وصار كثير منهم أئمة لكثير من غيرهم ولهذا كانوا يفضلون من الفرس من رأوه أقرب إلى متابعة السابقين حتى قال الأصمعي فيما رواه عنه أبو طاهر السلفي في كتاب فضل الفرس عجم أصبهان قريش العجم
وروى أيضا السلفي بإسناد معروف عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عن أسامة بن زيد عن سعيد بن المسيب قال لو أني لم أكن من قريش لأحببت أن أكون من فارس ثم أحببت أن أكون من أصبهان
وروي بإسناد آخر عن سعيد بن المسيب قال لولا أني رجل من قريش لتمنيت أن أكون من أصبهان لقول النبي ﷺ لو كان الدين معلقا بالثريا لتناوله ناس من فارس من أبناء العجم أسعد الناس بها فارس وأصبهان
قالوا وكان سلمان الفارسي من أهل أصبهان وكذلك عكرمة مولى ابن عباس وغيرهما فإن آثار الإسلام كانت بأصبهان أظهر منها بغيرها حتى قال الحافظ عبد القادر الرهاوي رحمه الله ما رأيت بلدا بعد بغداد أكثر حديثا من أصبهان وكان أئمة السنة علما وفقها والعارفون بالحديث وسائر الإسلام المحض فيهم أكثر من غيرهم حتى إنه قيل إن قضاتهم كانوا من فقهاء الحديث مثل صالح بن أحمد بن حنبل ومثل أبي بكر بن أبي عاصم ومن بعدهم وأنا لا أعلم حالهم بأخرة
وكذلك كل مكان أو شخص من أهل فارس يمدح المدح الحقيقي إنما يمدح لمشابهة السابقين حتى قد يختلف في فضل شخص على شخص أو قول على قول أو فعل على فعل لأجل اعتقاد كل من المختلفين أن هذا أقرب إلى طريق السابقين الأولين فإن الأمة مجمعة على هذه القاعدة وهي فضل طريقة العرب السابقين وأن الفاضل من تبعهم وهو المطلوب هنا
وإنما يتم الكلام بأمرين
أحدهما أن الذي يجب على المسلم إذا نظر في الفضائل أو تكلم فيها أن يسلك سبيل العاقل الذي غرضه أن يعرف الخير ويتحراه جهده وليس غرضه الفخر على أحد ولا الغمط من أحد فقد روى مسلم في صحيحه عن عياض ابن حمار المجاشعي قال قال رسول الله ﷺ إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد
فنهى سبحانه على لسان رسوله ﷺ عن نوعي الاستطالة على الخلق وهي الفخر والبغي لأن المستطيل إن استطال بحق فقد افتخر وإن كان بغير حق فقد بغى فلا يحل لا هذا ولا هذا
فإن كان الرجل من الطائفة الفاضلة مثل أن يذكر فضل بني هاشم أو قريش أو العرب أو الفرس أو بعضهم فلا يكون حظه استشعار فضل نفسه والنظر إلى ذلك فإنه مخطئ في هذا لأن فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص كما قدمناه فرب حبشي أفضل عند الله من جمهور قريش