إعلام الموقعين/الجزء الثالث
في تحريم الإفتاء والحكم في دين الله بما يخالف النصوص وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص وذكر إجماع العلماء على ذلك
لا حكم بما يخالف النصوص
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقال تعالى {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} وقال تعالى {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال تعالى {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} وقال تعالى {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} وقال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فأكد هذا التأكيد وكرر هذا التقرير في موضع واحد لعظم مفسدة الحكم بغير ما أنزله وعموم مضرته وبلية الأمة به وقال {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وأنكر تعالى على من حاج في دينه بما ليس له به علم فقال {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ونهى أن يقول أحد {هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} لما لم يحرمه الله ورسوله نصا وأخبر أن فاعل ذلك مفتر على الله الكذب فقال {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والآيات في هذا المعنى كثيرة وأما السنة ففي الصحيحين من حديث ابن عباس: "أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء عند النبي ﷺ فذكر حديث اللعان وقول النبي ﷺ أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء وإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية فجاءت به النعت المكروه فقال النبي ﷺ: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" يريد والله ورسوله أعلم بكتاب الله قوله تعالى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ}" ويريد بالشأن والله أعلم أنه كان يحدها لمشابهة ولدها للرجل الذي رميت به ولكن كتاب الله فصل الحكومة وأسقط كل قول وراءه ولم يبق للاجتهاد بعده موقع.
أقوال العلماء في العمل بالنص
وقال الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال: "أرسل عمر بن الخطاب إلى شيخ من زهرة كان يسكن دارنا فذهبت معه إلى عمر رضي الله عنه فسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية فقال أما الفراش فلفلان وأما النطفة فلفلان فقال عمر: صدقت ولكن رسول الله ﷺ قضى بالفراش".
قال الشافعي: وأخبرني من لا أتهم عن ابن أبي ذئب قال: أخبرني مخلد ابن خفاف قال: ابتعت غلاما فاستغللته ثم ظهرت منه على عيب فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز فقضى لي برده وقضى علي برد غلته فأتيت عروة فأخبرته فقال: أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله ﷺ "قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان" فجعلت إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول الله ﷺ فقال عمر: فما أيسر هذا علي من قضاء قضيته اللهم إنك تعلم أني لم أرد فيه إلا الحق فبلغتني فيه سنة عن رسول الله ﷺ فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله ﷺ فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له.
قال الشافعي: وأخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال: قضى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن فأخبرته عن النبي ﷺ بخلاف ما قضى به فقال سعد لربيعة: هذا ابن أبي ذئب وهو عندي ثقة يخبرني عن النبي ﷺ بخلاف ما قضيت به فقال له ربيعة: قد اجتهدت ومضى حكمك فقال سعد واعجبا أنفذ قضاء سعد بن أم سعد وأرد قضاء رسول الله ﷺ بل أرد قضاء ابن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله ﷺ فدعا بكتاب القضية فشقه وقضى للمقضي عليه فليوحشنا المقلدون ثم أوحش الله منهم.
وقال أبو النضر هاشم بن القاسم: حدثنا محمد بن راشد عن عبدة بن أبي لبابة عن هشام بن يحيى المخزومي "أن رجلا من ثقيف أتى عمر بن الخطاب فسأله عن امرأة حاضت وقد كانت زارت البيت يوم النحر ألها أن تنفر؟ فقال عمر: لا فقال له الثقفي: إن رسول الله ﷺ أفتأتي في مثل هذه المرأة بغير ما أفتيت به فقام إليه عمر يضربه بالدرة ويقول له: لم تستفتيني في شيء قد أفتى فيه رسول الله ﷺ؟" ورواه أبو داود بنحوه.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا صالح بن عبد الله ثنا سفيان بن عامر عن عتاب بن منصور قال: قال عمر بن عبد العزيز: لا أرى لأحد مع سنة سنها رسول الله ﷺ.
وقال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس وتواتر عنه أنه قال: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط وصح عنه أنه قال: إذا رويت عن رسول الله ﷺ حديثا ولم آخذ به فاعلموا أن عقلي قد ذهب وصح عنه أنه قال: لا قول لأحد مع سنة رسول الله ﷺ.
وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعد بن إياس عن ابن مسعود: "أن رجلا سأله عن رجل تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته فطلق امرأته ليتزوج أمها فقال: لا بأس فتزوجها الرجل وكان عبد الله على بيت المال فكان يبيع نفاية بيت المال يعطي الكثير ويأخذ القليل حتى قدم المدينة فسأل أصحاب محمد ﷺ فقالوا: لا تحل لهذا الرجل هذه المرأة ولا تصلح الفضة إلا وزنا بوزن فلما قدم عبد الله انطلق إلى الرجل فلم يجده ووجد قومه فقال: إن الذي أفتيت به صاحبكم لا يحل وأتى الصيارفة فقال: يا معشر الصيارفة إن الذي كنت أبايعكم لا يحل لا تحل الفضة إلا وزنا بوزن.
وفي صحيح مسلم من حديث الليث عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن أبا هريرة وابن عباس وأبا سلمة بن عبد الرحمن تذاكروا في المتوفى عنها الحامل تضع عند وفاة زوجها فقال ابن عباس: تعتد آخر الأجلين فقال أبو سلمة: تحل حين تضع فقال أبو هريرة: وأنا مع ابن أخي فأرسلوا إلى أم سلمة فقالت: قد وضعت سبيعة بعد وفاة زوجها بيسير فأمرها رسول الله ﷺ أن تتزوج.
وقد تقدم من ذكر رجوع عمر رضي الله عنه وأبي موسى وابن عباس عن اجتهادهم إلى السنة ما فيه كفاية.
وقال شداد بن حكيم عن زفر بن الهذيل: إنما نأخذ بالرأي ما لم نجد الأثر فإذا جاء الأثر تركنا الرأي وأخذنا الأثر وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة: لا قول لأحد مع رسول الله ﷺ إذا صح الخبر عنه وقد كان إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله تعالى له أصحاب ينتحلون مذهبه ولم يكن مقلدا بل إماما مستقلا كما ذكر البهقي في مدخله عن يحيى بن محمد العنبري قال: طبقات أصحاب الحديث خمسة المالكية والشافعية والحنبلية والراهوية والخزيمية أصحاب ابن خزيمة.
وقال الشافعي: إذا حدث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله ﷺ فهو ثابت ولا يترك لرسول الله ﷺ حديث أبدا إلا حديث وجد عن رسول الله ﷺ آخر يخالفه وقال في كتاب اختلافه مع مالك ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر على من سمعهما مقطوع إلا بإتيانهما.
وقال الشافعي: قال لي قائل: دلني على أن عمر عمل شيئا ثم صار إلى غيره لخبر نبوي قلت له: حدثنا سفيان عن الزهري عن ابن المسيب أن عمر كان يقول: "الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها" حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله ﷺ كتب إليه أن يورث امرأة الضبابي من ديته فرجع إليه عمر وأخبرنا ابن عيينة عن عمرو وابن طاوس أن عمر قال: "أذكر الله امرأ سمع من النبي ﷺ في الجنين شيئا فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين جاريتين لي فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله ﷺ بعرة فقال عمر: لو لم نسمع فيه هذا لقضينا فيه بغير هذا أو قال: إن كدنا لنقضي فيه برأينا" فترك اجتهاده رضي الله عنه للنص.
وهذا هو الواجب على كل مسلم إذ اجتهاد الرأي إنما يباح للمضطر كما تباح له الميتة والدم عند الضرورة {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وكذلك القياس إنما يصار إليه عند الضرورة قال الإمام أحمد: سألت الشافعي عن القياس فقال: "عند الضرورة" ذكره البيهقي في مدخله.
وكان زيد بن ثابت لا يرى للحائض أن تنفر حتى تطوف طواف الوداع وتناظر في ذلك هو وعبد الله بن عباس فقال له ابن عباس: "إما لا فسل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك رسول الله ﷺ فرجع زيد يضحك ويقول: ما أراك إلا قد صدقت" ذكره البخاري في صحيحه بنحوه.
وقال ابن عمر: "كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع أن رسول الله ﷺ نهى عنها فتركناها من أجل ذلك".
وقال عمرو بن دينار: عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب نهى عن الطيب قبل زيارة البيت وبعد الجمرة فقالت عائشة: "طيبت رسول الله ﷺ بيدي لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت وسنة رسول الله ﷺ أحق" قال الشافعي: "فترك سالم قول جده لروايتها" قلت: لا كما تصنع فرقة التقليد.
وقال الأصم: أخبرنا الربيع بن سليمان لنعطينك جملة تغنيك إن شاء الله لا تدع لرسول الله ﷺ حديثا أبدا إلا أن يأتي عن رسول الله ﷺ خلافه فتعمل بما قلت لك في الأحاديث إذا اختلفت قال الأصم: وسمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله ﷺ فقولوا بسنة رسول الله ﷺ ودعوا ما قلت" وقال أبو محمد الجارودي: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: "إذا وجدتم سنة رسول الله ﷺ خلاف قولي فخذوا بالسنة ودعوا قولي فإني أقول بها" وقال أحمد بن علي بن ماهان الرازي: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: "كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن النبي ﷺ عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي".
وقال حرملة بن يحيى: قال الشافعي: "ما قلت وقد كان النبي ﷺ قد قال بخلاف قولي مما يصح فحديث النبي ﷺ أولى لا تقلدوني" وقال الحاكم: سمعت الأصم يقول: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: وروى حديثا فقال له رجل: تأخذ بها يا أبا عبد الله؟ فقال: متى رويت عن رسول الله ﷺ حديثا صحيحا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب وأشار بيده إلى رءوسهم وقال الحميدي: سأل رجل الشافعي عن مسألة فأفتاه وقال: قال النبي ﷺ كذا فقال الرجل: أتقول بهذا؟ قال: أرأيت في وسطي زنارا؟ أتراني خرجت من الكنيسة؟ أقول قال النبي ﷺ تقول لي أتقول بهذا وروي عن النبي ﷺ ولا أقول به؟ وقال الحاكم: أنبأني أبو عمرون السماك مشافهة أن أبا سعيد الجصاص حدثهم قال: سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول وسأله رجل عن مسألة فقال: روى عن النبي ﷺ أنه قال كذا وكذا فقال له السائل: يا أبا عبد الله أتقول بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال: ويحك أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله ﷺ شيئا فلم أقل به نعم على الرأس والعينين نعم على الرأس والعينين قال: وسمعت الشافعي يقول: "ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله ﷺ وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله ﷺ خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله ﷺ وهو قولي" وجعل يردد هذا الكلام.
وقال الربيع: قال الشافعي: لم أسمع أحد نسبته عامة أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله اتباع أمر رسول الله ﷺ والتسليم لحكمه فإن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه وإنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله وسنة رسوله وإن ما سواهما تبع لهما وإن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله ﷺ واحد لا يختلف فيه الفرض وواجب قبول الخبر عن رسول الله ﷺ إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله وقال الشافعي: ثم تفرق أهل الكلام في تثبيت خبر الواحد عن رسول الله ﷺ تفرقا متباينا وتفرق عنهم ممن نسبته العامة إلى الفقه تفرقا أتى بعضهم فيه أكثر من التقليد أو التحقيق من النظر والغفلة والاستعجال بالرياسة وقال عبد الله بن أحمد قال أبي: قال لنا الشافعي: إذا صح لكم الحديث عن النبي ﷺ فقولوا لي حتى أذهب إليه.
وقال الإمام أحمد: كان أحسن أمر الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وترك قوله وقال الربيع: قال الشافعي: لا نترك الحديث عن رسول الله ﷺ بأن لا يدخله القياس ولا موضع للقياس لموقع السنة وقال الربيع: وقد روى عن النبي ﷺ بأبي هو وأمي أنه قضى في بروع بنت واشق أنكحت بغير مهر فمات زوجها فقضى لها بمهر نسائها وقضى لها بالميراث فإن كان ثبت عن النبي ﷺ فهو أولى الأمور بنا ولا حجة في قول أحد دون النبي ﷺ ولا في قياس ولا في شيء إلا طاعة الله بالتسليم له وإن كان لا يثبت عن النبي ﷺ لم يكن لأحد أن يثبت عنه ما لم يثبت ولم أحفظه من وجه يثبت مثله هو مرة عن معقل بن يسار ومرة عن معقل بن سنان ومرة عن بعض أشجع لا يسمى.
وقال الربيع: سألت الشافعي عن رفع الأيدي في الصلاة فقال: يرفع المصلي يديه إذا افتتح الصلاة حذو منكبيه وإذا أراد أن يركع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ولا يفعل ذلك في السجود قلت له فما الحجة في ذلك فقال: أنبأنا ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي ﷺ مثل قولنا قال الربيع: فقلت له: فإنا نقول يرفع في الابتداء ثم لا يعود قال الشافعي: أنا مالك عن نافع أن ابن عمر كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك قال الشافعي: وهو يعني مالكا يروى عن النبي ﷺ أنه كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ثم خالفتم رسول الله ﷺ وابن عمر فقلتم لا يرفع يديه إلا في ابتداء الصلاة وقد رويتم عنهما أنهما رفعاهما في الابتداء وعند الرفع من الركوع أفيجوز لعالم أن يترك فعل النبي ﷺ وفعل ابن عمر لرأي نفسه أو فعل النبي ﷺ لرأي ابن عمر ثم القياس على قول ابن عمر ثم يأتي موضع آخر يصيب فيه فيترك علي ابن عمر ما روى عن النبي ﷺ فكيف لم ينهه بعض هذا عن بعض أرأيت إذا جاز له أن يروي عن النبي ﷺ أن يرفع يديه في مرتين أو ثلاث وعن ابن عمر فيه اثنتين أنأخذ بواحدة ونترك واحدة؟ أيجوز لغيره ترك الذي أخذ به وأخذ الذي ترك؟ أو يجوز لغيره ترك ما روى عن النبي ﷺ؟ فقلت له فإن صاحبنا قال: فما معنى الرفع؟ قال: معناه تعظيم لله واتباع لسنة النبي ﷺ ومعنى الرفع في الأولى معنى الرفع الذي خالفتم فيه النبي ﷺ عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع ثم خالفتم فيه روايتكم عن النبي ﷺ وابن عمر معا ويروي ذلك عن النبي ﷺ ثلاثة عشر رجلا أو أربعة عشر رجلا وروى عن أصحاب النبي ﷺ من غير وجه ومن تركه فقد ترك السنة.
قلت: وهذا تصريح من الشافعي بأن تارك رفع اليدين عند الركوع والرفع منه تارك للسنة، ونص أحمد على ذلك أيضا في إحدى الروايتين عنه.
وقال الربيع: سألت الشافعي عن الطيب قبل الإحرام بما يبقى ريحه بعد الإحرام وبعد رمي الجمرة والحلاق وقبل الإفاضة فقال جائز وأحبه ولا أكرهه لثبوت السنة فيه عن النبي ﷺ والأخبار عن غير واحد من الصحابة فقلت: وما حجتك فيه؟ فذكر الأخبار فيه والآثار ثم قال: أنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سالم قال: قال عمر: "من رمى الجمرة فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب" قال سالم: وقالت عائشة: طيبت رسول الله ﷺ بيدي وسنة رسول الله ﷺ أحق أن تتبع.
قال الشافعي: وهكذا ينبغي أن يكون الصالحون وأهل العلم فأما ما تذهبون إليه من ترك السنة وغيرها وترك ذلك لغير شيء بل لرأي أنفسكم فالعلم إذا إليكم تأتون منه ما شئتم وتدعون ما شئتم.
وقال في الكتاب القديم رواية الزعفراني في مسألة بيع المدبر في جواب من قال له إن بعض أصحابك قد قال خلاف هذا قال الشافعي: فقلت له: من تبع سنة رسول الله ﷺ وافقته ومن خلط فتركها خالفته حتى صاحبي الذي لا أفارق الملازم الثابت مع رسول الله ﷺ وإن بعد والذي أفارق من لم يقل بحديث رسول الله ﷺ وإن قرب.
وقال في خطبة كتابه إبطال الاستحسان: الحمد لله على جميع نعمه بما هو أهله وكما ينبغي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله بعثه بكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد فهدى بكتابه ثم على لسان رسوله ﷺ ثم أنعم عليه وأقام الحجة على خلقه { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقال {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وهى ورحمة وقال {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وفرض عليهم اتباع ما أنزل إليهم وسن رسول الله ﷺ لهم فقال {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} فأعلم أن معصيته في ترك أمر رسول الله ﷺ ولم يجعل لهم إلا اتباعه وكذلك قال لرسول الله ﷺ {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} مع ما علم الله نبيه ثم فرض اتباع كتابه فقال {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} وقال {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} وأعلمهم أنه أكمل لهم دينهم فقال عز وجل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} إلى أن قال: ثم علمهم بما آتاهم من العلم فأمرهم بالاقتصار عليه وأن لا يقولوا غيره إلا ما علمهم فقال لنبيه {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} وقال لنبيه {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} وقال لنبيه {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ثم أنزل على نبيه أن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يعني والله أعلم ما تقدم من ذنبه قبل الوحي وما تأخر قبل أن يعصمه فلا يذنب فعلم ما يفعل به من رضاه عنه وأنه أول شافع ومشفع يوم القيامة وسيد الخلائق وقال لنبيه {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وجاءه ﷺ رجل في امرأة رجل رماها بالزنا فقال له يرجع فأوحى الله إليه آية اللعان فلاعن بينهما وقال {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} وقال {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} الآية وقال لنبيه {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} فحجب عن نبيه علم الساعة وكان من عدا ملائكة الله المقربين وأنبياءه المصطفين من عباد الله أقصر علما من ملائكته وأنبيائه والله عز وجل فرض على خلقه طاعة نبيه ولم يجعل لهم من الأمر شيئا.
وقد صنف الإمام أحمد رضي الله عنه كتابا في طاعة الرسول ﷺ رد فيه على من احتج بظاهر القرآن في معارضة سنن رسول الله ﷺ وترك الاحتجاج بها فقال في أثناء خطبته: إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وأنزل عليه كتابه الهدى والنور لمن اتبعه وجعل رسوله الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه وخاصة وعامة وناسخة ومنسوخه وما قصد له الكتاب فكان رسول الله ﷺ هو المعبر عن كتاب الله الدال على معانيه شاهده في ذلك أصحاب الذين ارتضاهم الله لنبيه واصطفاهم له ونقلوا ذلك عنه فكانوا هم أعلم الناس برسول الله ﷺ وبما أراد الله من كتابه بمشاهدتهم وما قصد له الكتاب فكانوا هم المعبرين عن ذلك بعد رسول الله ﷺ قال جابر: "ورسول الله ﷺ بين أظهرنا عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به" ثم ساق الآيات الدالة على طاعة الرسول فقال جل ثناؤه في أول آل عمران {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وقال {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} وقال في النساء {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وقال {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} وقال {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} وقال {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقال {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} وقال في المائدة {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقال {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وقال {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وقال {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَن} وقال {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وقال {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقال {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} وقال {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} وقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فكان الحسن يقول لا تذبحوا قبل ذبحه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ إِنّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} وقال {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} وقال {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وقال {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقال {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} وقال {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} وقال {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} قال ابن عباس هو جبريل وقال مجاهد {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} قال سعيد بن جبير: "الأحزاب الملل" ثم ذكر حديث يعلي بن أمية: "طفت مع عمر فلما بلغنا الركن الغربي الذي يلي الأسود جررت بيده ليستلم فقال: ما شأنك فقلت: ألا تستلم" فقال: ألم تطف مع النبي ﷺ فقلت: بلى قال: أفرأيته يستلم هذين الركنين الغربيين قال لا قال أليس لك فيه أسوة حسنة قلت بلى قال فانفذ عنك قال وجعل معاوية يستلم الأركان كلها فقال له ابن عباس: لم تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله ﷺ يستلمهما فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورا فقال ابن عباس {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فقال معاوية: صدقت".
ثم ذكر أحمد الاحتجاج على إبطال قول من عارض السنن بظاهر القرآن وردها بذلك وهذا فعل الذين يستمسكون بالمتشابه في رد المحكم فإن لم يجدوا لفظا متشابها غير المحكم يردونه به استخرجوا من المحكم وصفا متشابها وردوه به فلهم طريقان في رد السنن أحدهما: ردها بالمتشابه من القرآن أو من السنن الثاني: جعلهم المحكم متشابها ليعطلوا دلالته وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق فعكس هذه الطريق وهي أنهم يردون المتشابه إلى المحكم ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم فتتفق دلالته مع دلالة المحكم وتوافق النصوص بعضها بعضا فإنها كلها من عند الله وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره.
ولنذكر لهذا الأصل أمثلة لشدة حاجة كل مسلم إليه أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب.
المثال الأول: رد الجهمية النصوص المحكمة غاية الإحكام المبينة بأقصى غاية البيان أن الله موصوف بصفات الكمال من العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر والوجه واليدين والغضب والرضا والفرح والضحك والرحمة والحكمة وبالأفعال كالمجيء والإتيان والنزول إلى السماء الدنيا ونحو ذلك والعلم بمجيء الرسول بذلك وإخباره به عن ربه إن لم يكن فوق العلم بوجوب الصلاة والصيام والحج والزكاة وتحريم الظلم والفواحش والكذب فليس يقصر عنه فالعلم الضروري حاصل بأن الرسول أخبر عن الله بذلك وفرض على الأمة تصديقه فيه فرضا لا يتم أصل الإيمان إلا به فرد الجهمية ذلك بالمتشابه من قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ومن قوله {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ومن قوله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم استخرجوا من هذه النصوص المحكمة المبينة احتمالات وتحريفات جعلوها به من قسم المتشابه.
المثال الثاني: ردهم المحكم المعلوم بالضرورة أن الرسل جاءوا به من إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه بمتشابه قول الله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وقوله {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وقوله {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ونحو ذلك ثم تحيلوا وتمحلوا حتى ردوا نصوص العلو والفوقية بمتشابهه.
المثال الثالث: رد القدرية النصوص الصريحة المحكمة في قدرة الله على خلقه وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن بالمتشابه من قوله {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ثم استخرجوا لتلك النصوص المحكمة وجوها أخر أخرجوها به من قسم المحكم وأدخلوها في المتشابه.
المثال الرابع: رد الجبرية النصوص المحكمة في إثبات كون العبد قادرا مختارا فاعلا بمشيئته بمتشابه قوله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقوله {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وأمثال ذلك ثم استخرجوا لتلك النصوص من الاحتمالات التي يقطع السامع أن المتكلم لم يردها ما صيروها به متشابهة.
المثال الخامس: رد الخوارج والمعتزلة النصوص الصريحة المحكمة غاية الإحكام في ثبوت الشفاعة للعصاة وخروجهم من النار بالمتشابه من قوله {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وقوله {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وقوله {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} ونحو ذلك وفعلوا فيها فعل من ذكرناه سواء.
المثال السادس: رد الجهمية النصوص المحكمة التي قد بلغت في صراحتها وصحتها إلى أعلى الدرجات في رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى في عرضات القيامة وفي الجنة بامتشابه من قوله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} وقوله لموسى {لَنْ تَرَانِي} وقوله {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} ونحوها ثم أحالوا المحكم متشابها وردوا الجميع.
المثال السابع: رد النصوص الصريحة الصحيحة التي تفوت العدد على ثبوت الأفعال الاختيارية للرب سبحانه وقيامها به كقوله {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقوله {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} وقوله {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقوله {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ} وقوله {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} وقوله {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} وقوله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} وقوله {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} وقوله: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا" وقوله {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} وقوله: "إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب الله قبله مثله ولم يغضب بعده مثله" وقوله: "إذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي" الحديث وأضعاف أضعاف ذلك من النصوص التي تزيد على الألف فردوا هذا كله مع إحكامه بمتشابه قوله {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}.
المثال الثامن: رد النصوص المحكمة الصريحة التي في غاية الصحة والكثرة على أن الرب سبحانه إنما يفعل ما يفعله لحكمة وغاية محمودة وجودها خير من عدمها ودخول لام التعليل في شرعه وقدره أكثر من أن يعد فردوها بالمتشابه من قوله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} ثم جعلوها كلها متشابهة.
المثال التاسع: رد النصوص الصحيحة الصريحة الكثيرة الدالة على ثبوت الأسباب شرعا وقدرا كقوله {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ} {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} وقوله {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} وقوله {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} وقوله {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وقوله {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} وقوله {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} وقوله في العسل {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} وقوله في القرآن {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} إلى أضعاف أضعاف ذلك من النصوص المثبتة للسببية فردوا ذلك كله بالمتشابه من قوله {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} وقوله {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وقول النبي ﷺ: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم" ونحو ذلك وقوله: "إني لا أعطي أحدا ولا أمنعه" وقوله: "للذي سأله عن العزل عن أمته اعزل عنها فسيأتيها ما قدر لها" وقوله: "لا عدوى ولا طيرة" وقوله: "فمن أعدى الأول" وقوله: "أرأيت إن منع الله الثمرة" ولم يقل منعها البرد والآفة التي تصيب الثمار ونحو ذلك من المتشابه الذي إنما يدل على أن مالك السبب وخالقه يتصرف فيه بأن يسلبه سببيته إن شاء ويبقيها عليه إن شاء كما سلب النار قوة الإحراق عن الخليل ويالله العجب أترى من أثبت الأسباب وقال إن الله خالقها أثبت خالقا غير الله؟
وأما قوله {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فغاب عنهم فقه الآية وفهمها والآية من أكبر معجزات النبي ﷺ والخطاب بها خاص لأهل بدر وكذلك القبضة التي رمى بها النبي ﷺ فأوصلها الله سبحانه إلى جميع وجوه المشركين وذلك خارج عن قدرته ﷺ وهو الرمي الذي نفاه عنه وأثبت له الرمي الذي هو في محل قدرته وهو الحذف وكذلك القتل الذي نفاه عنهم هو قتل لم تباشره أيديهم وإنما باشرته أيدي الملائكة فكان أحدهم يشتد في أثر الفارس وإذا برأسه قد وقع أمامه من ضربة الملك ولو كان المراد ما فهمه هؤلاء الذين لا فقه لهم في فهم النصوص لم يكن فرق بين ذلك وبين كل وقتل وكل فعل من شرب أو زنا أو سرقة أو ظلم فإن الله خالق الجميع وكلام الله ينزه عن هذا وكذلك قوله ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم لم يرد أن الله حملهم بالقدر وإنما كان النبي ﷺ متصرفا بأمر الله منفذا له فالله سبحانه أمره بحملهم فنفذ أوامره فكأن الله هو الذي حملهم وهذا معنى قوله: "والله إني لا أعطي أحدا شيئا ولا أمنعه" ولهذا قال: "وإنما أنا قاسم" فالله سبحانه هو المعطي على لسانه وهو يقسم ما قسمه بأمره وكذلك قوله في العزل: "فسيأتيها ما قدر لها" ليس فيه إسقاط الأسباب فإن الله سبحانه إذا قدر خلق الولد سبق من الماء ما يخلق منه الولد ولو كان أقل شيء فليس من كل الماء يكون الولد ولكن أين في السنة أن الوطء لا تأثير له في الولد البتة وليس سببا له وأن الزوج أو السيد إن وطىء أو لم يطأ فكلا الأمرين بالنسبة إلى حصول الولد وعدمه على حد سواء كما يقوله منكرو الأسباب وكذلك قوله: "لا عدوى ولا طيرة" ولو كان المراد به نفي السبب كما زعمتم لم يدل على نفي كل سبب وإنما غايته أن هذين الأمرين ليسا من أسباب الشر كيف والحديث لا يدل على ذلك وإنما ينفي ما كان المشركون يثبتونه من سببية مستمرة على طريقة واحدة لا يمكن إطالها ولا صرفها عن محلها ولا معارضتها بما هو أقوى منها لا كما يقوله من قصر علمه إنهم كانوا يرون ذلك فاعلا مستقلا بنفسه.
فالناس في الأسباب لهم ثلاث طرق: إبطالها بالكلية وإثباتها على وجه لا يتغير ولا يقبل سلب سببيتها ولا معارضتها بمثلها أو أقوى منها كما يقوله الطبائعية والمنجمون والدهرية والثالث ما جاءت به الرسل ودل عليه الحس والعقل والفطرة إثباتها أسبابا وجواز بل وقوع سلب سببيتها عنها إذا شاء الله ودفعها بأمور أخرى نظيرها أو أقوى منها مع بقاء مقتضى السببية فيها كما تصرف كثير من أسباب الشر بالتوكل والدعاء والصدقة والذكر والاستغفار والعتق والصلة وتصرف كثير من أسباب الخير بعد انعقادها بضد ذلك فلله كم من خير انعقد سببه ثم صرف عن العبد بأسباب أحدثها منعت حصوله وهو يشاهد السبب حتى كأنه أخذ باليد وكم من شر انعقد سببه ثم صرف عن العبد بأسباب أحدثها منعت حصوله ومن لا فقه له في هذه المسألة فلا انتفاع له بنفسه ولا بعلمه والله المستعان وعليه التكلان.
المثال العاشر: رد الجهمية النصوص المحكمة الصريحة التي تفوت العد على أن الله سبحانه تكلم ويتكلم وكلم ويكلم وقال ويقول وأخبر ويخبر ونبأ وأمر ويأمر ونهى وينهى ورضى ويرضى ويعطي ويبشر وينذر ويحذر ويوصل لعباده القول ويبين لهم ما يتقون ونادى وينادي وناجى ويناجي ووعد وأوعد ويسأل عباده يوم القيامة ويخاطبهم ويكلم كلا منهم ليس بينه وبينه ترجماه ولا حاجب ويراجعه عبده مراجعة وهذه كلها أنواع للكلام والتكليم وثبوتها بدون ثبوت صفة التكلم له ممتنع فردها الجهمية مع إحكامها وصراحتها وتعيينها للمراد منها بحيث لا تحتمل غيره بالمتشابه من قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
المثال الحادي عشر: ردوا محكم قوله ألا له الخلق والأمر وقوله {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} وقوله {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ} وقوله {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وقوله {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} وغيرها من النصوص المحكمة بالمتشابه من قوله {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} والآيتان حجة عليهم فإن صفات الله جل جلاله داخلة في مسمى اسمه فليس الله أسما لذات لا سمع لها ولا بصر لها ولا حياة لها ولا كلام لها ولا علم وليس هذا رب العالمين وكلامه تعالى وعلمه وحياته وقدرته ومشيئته ورحمته داخلة في مسمى اسمه فهو سبحانه بصفاته وكلامه الخالق وكل ما سواه مخلوق وأما إضافة القرآن إلى الرسول فإضافة تبليغ محض لا إنشاء والرسالة تستلزم تبيلغ كلام المرسل ولو لم يكن للمرسل كلام يبلغه الرسول لم يكن رسولا ولهذا قال غير واحد من السلف: "من أنكر أن يكون الله متكلما فقد أنكر رسالة رسله فإن حقيقة رسالتهم تبليغ كلام من أرسلهم" فالجهمية وإخوانهم ردوا تلك النصوص المحكمة بالمتشابه ثم صيروا الكل متشابها ثم ردوا الجميع فلم يثبتوا لله فعلا يقوم به يكون به فاعلا كما لم يثبتوا له كلاما يقوم به يكون به متكلما فلا كلام له عندهم ولا أفعال بل كلامه وفعله عندهم مخلوق منفصل عنه وذلك لا يكون صفة له لأنه سبحانه إنما يوصف بما قام به لا بما لم يقم به.
المثال الثاني عشر: وقد تقدم ذكره مجملا فنذكره ههنا مفصلا: رد الجهمية النصوص المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه وكونه فوق عباده من ثمانية عشر نوعا.
أحدها: التصريح بالفوقية مقرونة بأداة من المعينة لفوقية الذات نحو: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم}.
الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة كقوله {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}.
الثالث: التصريح بالعروج إليه نحو {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وقول النبي ﷺ: "فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم".
الرابع: التصريح بالصعود إليه كقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}.
الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه كقوله {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وقوله {عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}.
السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتا وقدرا وشرفا كقوله {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} وهو {الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}.
السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه كقوله {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} وهذا يدل على شيئين: على أن القرآن ظهر منه لا من غيره وأنه الذي تكلم به لا غيره الثاني: على علوه على خلقه وأن كلامه نزل به الروح الأمين من عنده من أعلى مكان إلى رسوله.
الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده وأن بعضها أقرب إليه من بعض كقوله {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} وقوله {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} ففرق بين من له عموما ومن عنده من مماليكه وعبيده خصوصا وقول النبي ﷺ في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: "إنه عنده على العرش".
التاسع: التصريح بأنه سبحانه في السماء وهذا عند أهل السنة على أحد وجهين إما أن تكون في بمعنى على وإما أن يراد بالسماء العلو لا يختلفون في ذلك ولا يجوز حمل النص على غيره.
العاشر: التصريح بالاستواء مقرونا بأداة على مختصا بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات مصاحبا في الأكثر لأداة "ثم" الدالة على الترتيب والمهلة وهو بهذا السياق صريح في معناه الذي لا يفهم المخاطبون غيره من العلو والارتفاع ولا يحتمل غيره البتة.
الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله سبحانه كقوله ﷺ: "إن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا".
الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى أسفل.
الثالث عشر: الإشارة إليه حسا إلى العلو كما أشار إليه من هو أعلم به وما يجب له ويمتنع عليه من أفراخ الجهمية والمعتزله والفلاسفة في أعظم مجمع على وجه الأرض يرفع أصبعه إلى السماء ويقول: اللهم اشهد ليشهد الجميع أن الرب الذي أرسله ودعا إليه واستشهده هو الذي فوق سماواته على عرشه.
الرابع عشر: التصريح بلفظ الأين الذي هو عند الجهمية بمنزلة متى في الاستحالة ولا فرق بين اللفظين عندهم البتة فالقائل: "أين الله" ومتى كان الله عندهم سواء كقول أعلم الخلق به وأنصحهم لأمته وأعظمهم بيانا عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلا بوجه "أين الله" في غير موضع.
الخامس عشر: شهادته التي هي أصدق شهادة عند الله وملائكته وجميع المؤمنين لمن قال: "إن ربه في السماء" بالإيمان وشهد عليه أفراخ جهم بالكفر وصرح الشافعي بأن هذا الذي وصفته من أن ربها في السماء إيمان فقال في كتابه في باب عتق الرقبة المؤمنة وذكر حديث الأمة السوداء التي سودت وجوه الجهمية وبيضت وجوه المحمدية فلما وصفت الإيمان قال: "أعتقها فإنها مؤمنة" وهي إنما وصفت كون ربها في السماء وأن محمدا عبده ورسوله فقرنت بينهما في الذكر فجعل الصادق المصدوق مجموعهما هو الإيمان.
السادس عشر: إخباره سبحانه عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطلع إلى إله موسى فيكذبه فيما أخبر به من أنه سبحانه فوق السموات فقال {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} فكذب فرعون موسى في إخباره إياه بأن ربه فوق السماء وعند الجهمية لا فرق بين الإخبار بذلك وبين الإخبار بأنه يأكل ويشرب وعلى زعمهم يكون فرعون قد نزه الرب عما لا يليق به وكذب موسى في إخباره بذلك إذ من قال عندهم إن ربه فوق السموات فهو كاذب فهم في هذا التكذيب موافقون لفرعون مخالفون لموسى ولجميع الأنبياء ولذلك سماهم أئمة السنة "فرعونية" قالوا: وهم شر من الجهمية فإن الجهمية يقولون: إن الله في كل مكان بذاته وهؤلاء عطلوه بالكلية وأوقعوا عليه الوصف المطابق للعدم المحض فأي طائفة من طوائف بني آدم أثبتت الصانع على أي وجه كان قولهم خيرا من قولهم.
السابع عشر: إخباره ﷺ أنه تردد بين موسى وبين الله ويقول له موسى: ارجع إلى ربك فسله التخفيف فيرجع إليه ثم ينزل إلى موسى فيأمره بالرجوع إليه سبحانه فيصعد إليه سبحانه ثم ينزل من عنده إلى موسى عدة مرات.
الثامن عشر: إخباره تعالى عن نفسه وإخبار رسوله عنه أن المؤمنين يرونه عيانا جهرة كرؤية الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر والذي تفهمه الأمم على اختلاف لغاتها وأوهامها من هذه الرؤية رؤية المقابلة والمواجهة التي تكون بين الرائي والمرئي فيها مسافة محدودة غير مفرطة في البعد فتمتنع الرؤية ولا في القرب فلا تمكن الرؤية لا تعقل الأمم غير هذا فإما أن يروه سبحانه من تحتهم تعالى الله أو من خلفهم أو من أمامهم أو عن أيمانهم أو عن شمائلهم أو من فوقهم ولابد من قسم من هذه الأقسام إن كانت الرؤية حقا وكلها باطل سوى رؤيتهم له من فوقهم كما في حديث جابر الذي في المسند وغيره: "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم" ثم قرأ قوله {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية ولهذا طرد الجهمية أصلهم وصرحوا بذلك وركبوا النفيين معا وصدق أهل السنة بالأمرين معا وأقروا بهما وصار من أثبت الرؤية ونفى علو الرب على خلقه واستواءه على عرشه مذبذبا بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
فهذه أنواع من الأدلة السمعية المحكمة إذا بسطت أفرادها كانت ألف دليل على علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه فترك الجهمية ذلك كله وردوه بالمتشابه من قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ورده زعيمهم المتأخر بقوله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وبقوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ثم ردوا تلك الأنواع كلها متشابهة فسلطوا المتشابه على المحكم وردوه به ثم ردوا المحكم متشابها فتارة يحتجون به على الباطل وتارة يدفعون به الحق ومن له أدنى بصيرة يعلم أنه لا شيء في النصوص أظهر ولا أبين دلالة من مضمون هذه النصوص فإذا كانت متشابهة فالشريعة كلها متشابهة وليس فيها شيء محكم البتة ولازم هذا القول لزوما لا محيد عنه أن ترك الناس بدونها خير لهم من إنزالها إليهم فإنها أوهمتهم وأفهمتهم غير المراد وأوقعتهم في اعتقاد الباطل ولم يتبين لهم ما هو الحق في نفسه بل أحيلوا فيه على ما يستخرجونه بعقولهم وأفكارهم ومقايسهم فنسأل الله مثبت القلوب تبارك وتعالى أن يثبت قلوبنا على دينه وما بعث به رسوله من الهدى ودين الحق وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا إنه قريب مجيب.
المثال الثالث عشر: رد الرافضة النصوص الصحيحة الصريحة المحكمة المعلومة عند خاص الأمة وعامتها بالضرورة في مدح الصحابة والثناء عليهم ورضاء الله عنهم ومغفرته لهم وتجاوزه عن سيئاتهم ووجوب محبة الأمة واتباعهم لهم واستغفارهم لهم واقتدائهم بهم بالمتشابه من قوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" ونحوه كما ردوا المحكم الصريح من أفعالهم وإيمانهم وطاعتهم بالمتشابه من أفعالهم كفعل إخوانهم من الخوارج حين ردوا النصوص الصحيحة المحكمة في موالاة المؤمنين ومحبتهم وإن ارتكبوا بعض الذنوب التي تقع المكفرة بالتوبة النصوح والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المفرة ودعاء المسلمين لهم في حياتهم وبعد موتهم وبالامتحان في البرزخ وفي موقف القيامة وبشفاعة من يأذن الله له في الشفاعة وبصدق التوحيد وبرحمة أرحم الرحمين فهذه عشرة أسباب تمحق أثر الذنوب فإن عجزت هذه الأسباب عنها فلابد من دخول النار ثم يخرجون منها فتركوا ذلك كله بالمتشابه من نصوص الوعيد وردوا المحكم من أفعالهم وإيمانهم وطاعتهم بالمتشابه من أفعالهم التي يحتمل أن يكونوا قصدوا بها طاعة الله افجتهدوا فأداهم إجتهادهم إلى ذلك فحصلوا فيه على الأجر المفرد وكان حظ أعدائهم منه تكفيرهم واستحلال دمائهم وأموالهم وإن لم يكونوا قصدوا ذلك كان غايتهم أن يكونوا قد أذنبوا ولهم من الحسنات والتوبة وغيرها ما يرفع موجب الذنب فاشتركوا هم والرافضة في رد المحكم من النصوص وأفعال المؤمنين بالمتشابه منها فكفروهم وخرجوا عليهم بالسيف يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان ففساد الدنيا والدين من تقديم المتشابه على المحكم وتقديم الرأي على الشرع والهوى على الهدى وبالله التوفيق.
المثال الرابع عشر: رد المحكم الصريح الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا من وجوب الطمأنينة وتوقف اجزاء الصلاة وصحتها عليه كقوله: "لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في ركوعه وسجوده" وقوله لمن تركها: "صل فإنك لم تصل" وقوله: "ثم اركع حتى تطمئن راكعا" فنفى إجزاءها بدون الطمأنينة ونفى مسماها الشرعي بدونها وأمر بالإتيان بها فرد هذا المحكم الصريح بالمتشابه من قوله {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}.
المثال الخامس عشر: رد المحكم الصريح من تعيين التكبير للدخول في الصلاة بقوله: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر" وقوله: "تحريمها التكبير" وقوله: "لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يستقبل القبلة ويقول الله أكبر" وهي نصوص في غاية الصحة فردت بالمتشابه من قوله: "وذكر اسم ربه فصلى".
المثال السادس عشر: رد النصوص المحكمة الصريحة الصحيحة في تعيين قراءة فاتحة الكتاب فرضا بالمتشابه من قوله {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وليس ذلك في الصلاة إنما هو بدل عن قيام الليل وبقوله للأعرابي: "ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن" وهذا يحتمل أن يكون قبل تعيين الفاتحة للصلاة وأن يكون الأعرابي لا يحسنها وأن يكون لم يسىء في قراءتها فأمره أن يقرأ معها ما تيسر من القرآن وأن يكون أمره بالاكتفاء بما تيسر عنها فهو متشابه يحتمل هذه الوجوه فلا يترك له المحكم الصريح.
المثال السابع عشر: رد المحكم الصريح من توقف الخروج من الصلاة على التسليم كما في قوله: "تحليلها التسليم" وقوله: "إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه من عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله" فأخبر أنه لا يكفي غير ذلك فرد المتشابه من قول ابن مسعود "فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك" وبالمتشابه من عدم أمره للأعرابي بالسلام.
المثال الثامن عشر: رد المحكم الصريح في اشتراط النية لعبادة الوضوء والغسل كما في قوله {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} وقوله: "وإنما لامرىء ما نوى" وهذا لم ينو رفع الحدث فلا يكون له بالنص فردوا هذا بالمتشابه من قوله {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ولم يأمر بالنية قالوا فلو أوجبناها بالسنة لكان زيادة على نص القرآن فيكون نسخا والسنة لا تنسخ القرآن فهذه ثلاث مقدمات: إحداها أن القرآن لم يوجب النية الثانية أن إيجاب السنة لها نسخ القرآن الثالثة: أن نسخ القرآن بالسنة لا يجوز وبنوا على هذه المقدمات إسقاط كثير مما صرحت السنة بإيجابه كقراءة الفاتحة والطمأنينة وتعيين التكبير للدخول في الصلاة والتسليم للخروج منها ولا يتصور صدق المقدمات الثلاث في موضع واحد أصلا بل إما أن تكون كلها كاذبة أو بعضها فأما آية الوضوء فالقرآن قد نبه على أنه لم يكتف من طاعات عبادة إلا بما أخلصوا له في الدين فلم ينو التقرب إليه جملة لم يكن ما أتى به طاعة البتة فلا يكون معتدا به مع أن قوله {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إنما يفهم المخاطب منه غسل الوجه وما بعده لأجل الصلاة كما يفهم من قوله: "إذا واجهت الأمير فترجل وإذا دخل الشتاء فاشتر الفرو" ونحو ذلك فإن لم يكن القرآن قد دل على النية ودلت عليها السنة لم يكن وجوبها ناسخا للقرآن وإن كان زائدا عليه ولو كان كل ما أوجبته السنة ولم يوجبه القرآن نسخا له لبطلت أكثر سنن رسول الله ﷺ ودفع في صدورها وأعجازها وقال القائل: هذه زيادة على ما في كتاب الله فلا تقبل ولا يعمل بها وهذا بعينه هو الذي أخبر به رسول الله ﷺ أنه سيقع وحذر منه كما في السنن من حديث المقدام بن معد يكرب عن النبي ﷺ أنه قال: "ألا إني أوتيت اللقرآن ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة مال المعاهد" وفي لفظ "يوشك أن يقعد الرجل على أريكته فيحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإن ما حرم رسول الله ﷺ كما حرم الله" قال الترمذي: حديث حسن وقال البيهقي: إسناده صحيح وقال صالح بن موسى: عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يفترقا حتى يردا على الحوض" فلا يجوز التفريق بين ما جمع الله بينهما ويرد أحدهما بالآخر بل سكوته عما نطق به ولا يمكن أحدا أن يطرد ذلك ولا الذين أصلوا هذا الأصل بل قد نقضوه في أكثر من ثلاثمائة موضع منها ما هو مجمع عليه ومنهاما هو مختلف فيه.
السنة لا تعارض القرآن
والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها الثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له الثالث: أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه ولا تخرج عن هذه الأقسام فلا تعارض القرآن بوجه ما فما كان منها زائدا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي ﷺ تجب طاعته فيه ولا تحل معصيته وليس هذا تقديما لها على كتاب الله بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله ولو كان رسول الله ﷺ لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى وسقطت طاعته المختصة به وإنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة خاصة تختص به وقد قال الله تعالى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وكيف يكمن أحدا من أهل العلم أن لا يقبل حديثا زائدا على كتاب الله فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يحرم من النسب ولا حديث خيار الشرط ولا أحدايث الشفعة ولا حديث الرهن في الحضر مع أنه زائد على ما في القرآن ولا حديث ميراث الجدة ولا حديث تخيير الأمة إذا أعتقت تحت زوجها ولا حديث منع الحائض من الصوم والصلاة ولا حديث وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان ولا أحاديث إحداد المتوفي عنها زوجها مع زيادتها على ما في القرآن من العدة فهلا قلتم: إنها نسخ للقرآن وهو لا ينسخ بالسنة وكيف أوجبتم الوتر مع أنه زيادة محضة على القرآن بخبر مختلف فيه وكيف زدتم على كتاب الله فجوزتم الوضوء بنبيذ التمر بخبر ضعيف وكيف زدتم على كتاب الله فشرطتم في الصداق أن يكون أقله عشرة دراهم بخبر لا يصح البتة وهو زيادة محضة عى القرآن وقد أخذ الناس بحديث لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم وهو زائد على القرآن وأخذوا كلهم بحديث توريثه ﷺ بنت الابن السدس مع البنت وهو زائد على ما في القرآن وأخذ الناس كلهم بحديث استبراء المسبية بحيضة وهو زائد على ما في كتاب الله وأخذوا بحديث: "من قتل قيلا فله سلبه" وهو زائد على ما في القرآن من قسمة الغنائم وأخذوا كلهم بقضائه ﷺ الزائد على ما في القرآن من أن أعيان بني الأبوين يتوارثون دون بني العلات الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه ولو تتبعنا هذا لطال جدا فسنن رسول الله ﷺ أجل في صدورنا وأعظم وأفرض علينا أن لا نقبلها إذا كانت زائد على ما في القرآن بل على الرأس والعينين وكذلك فرض على الأمة الأخذ بحديث القضاء بالشاهد واليمين وإن كان زائدا على ما في القرآن وقد أخذ به أصحاب رسول الله ﷺ وجمهور التابعين والأئمة والعجب ممن يرده لأنه زائد على ما في كتاب الله ثم يقضي بالنكول ومعاقد القمط ووجوه الآجر في الحائط وليست في كتاب الله ولا سنة رسوله وأخذتم أنتم وجمهور الأمة بحديث: "لا يقاد الوالد بالولد" مع ضعفه وهو زائد على ما في القرآن وأخذتم أنتم والناس بحديث أخذ الجزية من المجوس وهو زائد على ما في القرآن وأخذتم مع سائر الناس بقطع رجل السارق في المرة الثانية مع زيادته على ما في القرآن وأخذتم أنتم والناس بحديث النهي عن الاقتصاص من الجرح قبل الاندمال وهو زائد على ما في القرآن وأخذت الأمة بأحاديث الحضانة وليست في القرآن وأخذتم أنتم والجمهور باعتداد المتوفي عنها في منزلها وهو زائد على ما في القرآن وأخذتم أنتم مع الناس بأحاديث البلوغ بالسن والإنبات وهي زائدة على ما في القرآن إذ ليس فيه إلا الاحتلام وأخذتم مع الناس بحديث: "الخراج بالضمان" مع ضعفه وهو زائد على ما في القرآن وبحديث النهي عن بيع الكالىء وهو زائد على ما في القرآن وأضعاف أضعاف ما ذكرنا بل أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنقص عنها فلو ساغ لنا رد كل سنة زائدة كانت على نص القرآن لبطلت سنن رسول الله ﷺ كلها إلا سنة دل عليها القرآن وهذا هو الذي أخبر النبي ﷺ بأنه سيقع ولابد من وقوع خبره.
أنواع السنن الزائدة عن القرآن
فإن قيل: السنن الزائدة على ما دل عليه القرآن تارة تكون بيانا له وتارة نزاعنا منشئة لحكم لم يتعرض القرآن له وتارة تكون مغيرة لحكمه وليس نزاعنا في القسمين الأولين فإنهما حجة باتفاق ولكن النزاع في القسم الثالث وهو الذي ترجمته بمسألة الزيادة على النص وقد ذهب الشيخ أبو الحسن الكرخي وجماعة كثيرة من أصحاب أبي حنيفة إلى أنها نسخ ومن ههنا جعلوا إيجاب التغريب مع الجلد نسخا كما لو زاد عشرين صوتا على الثمانين في حد القذف.
وذهب أبو بكر الرازي إب أن الزيادة إن وردت بعد استقرار حكم النص منفرده عنه كانت ناسخة وإن وردة متصلة بالنص قبل إستقرار حكمه لم تكن ناسخة وإن وردت ولا يعلم تاريخها فإن وردت من جهة يثبت النص بمثلها فإن شهدت الأصول من عمل السلف أو النظر على ثبوتهما معا أثبتناهما وإن شهدت بالنص منفردا عنها أثبتناه دونها وإن لم يكن في الأصول دلالة على أحدهما فالواجب أن يحكم بورودهما معا ويكونان بمنزلة الخاص والعام إذا لم يعلم تاريخهما ولم يكن في الأصول دلالة على وجوب القضاء بأحدهما على الآخر فإنهما يستعملان معا وإن كان ورود النص من جهة توجب العلم كالكتاب والخبر المستفيض وورود الزيادة من جهة أخبار الآحاد لم يجزإلحاقها بالنص ولا العمل بها وذهب بعض أصحابنا إلى أن الزيادة إن غيرت حكم المزيد عليه تغييرا شرعيا بحيث إنه لو فعل على حد ما كان يفعل قبلها لم يكن معتدا به بل يجب استئنافه كان نسخا نحو ضم ركعة إلى ركعتي الفجر وإن لم يغير حكم المزيد عليه بحيث لو فعل على حد ما كان يفعل قبلها كان معتدا به ولا يجب استئنافه لم يكن نسخا ولم يجعلوا إيجاب الغريب مع الجلد نسخا وإيجاب عشرين جلدة مع الثمانين نسخا وكذلك إيجاب شرط منفصل عن العبادة لا يكون نسخا كإيجاب الوضوء بعد فرض الصلاة ولم يختلفوا أن إيجاب زيادة عبادة على عبادة كإيجاب الزكاة بعد إيجاب الصلاة لا يكون نسخا ولم يختلفوا أيضا أن إيجاب صلاة سادسة على الصلوات الخمس لا يكون نسخا.
فالكلام معكم في الزيادة المغيرة في ثلاثة مواضع: في المعنى والاسم والحكم.
أما المعنى فإنها تفيد النسخ لأنه الإزالة والزيادة تزيل حكم الاعتداد بالمزيد عليه وتوجب استئنافه بدونها وتخرجه عن كونه جميع الواجب وتجعله بعضه وتوجب التأثيم على المقتصر عليه بعد أن لم يكن إثما وهذا معنى النسخ وعليه يرتب الاسم فإنه تابع للمعنى فإن الكلام في زيادة شرعية مغيرة للحكم الشرعي بدليل شرعي متراخ عن المزيد عليه فإن اختل وصف من هذه الأوصاف لم يكن نسخا فإن لم تغير حكما شرعيا بل رفعت حكم البراءة الأصلية لم تكن نسخا كإيجاب عبادة بعد أخرى وإن كانت الزيادة مقارنة للمزيد عليه لم تكن نسخا وإن غيرته بل تكون تقييدا أو تخصيصا.
وأما الحكم فإن كان النص المزيد عليه ثابتا بالكتاب أو السنة المتواترة لم يقبل خبرالواحد بالزيادة عليه وإن كان ثابتا بخبر الواحد قبلت الزيادة فإن اتفقت الأمة على قبول خبر الواحد في القسم الأول علمنا أنه ورد مقارنا للمزيد عليه فيكون تخصيصا لا نسخا قالوا: وإنما لم يقبل خبر الواحد بالزيادة على النص لأن الزيادة لو كانت موجودة معه لنقلها إلينا من نقل النص إذ غير جائز أن يكون المراد إثبات النص معقودا بالزيادة فيقتصر النبي ﷺ على إبلاغ النص منفردا عنها فواجب إذا أن يذكرها معه ولو ذكرها لنقلها إلينا من نقل النص فإن كان النص مذكورا في القرآن والزيادة وإرادة من جهة السنة فغير جائز أن يقتصر النبي ﷺ على تلاوة الحكم المنزل في القرآن دون أن يعقبها بذكر الزيادة لأن حصول الفراغ من النص الذي يمكننا استعماله بنفسه يلزمنا اعتقاد مقتضاه من حكمه كقوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فإن كان الحد هو الجلد والتغريب فغير جائز أن يتلو النبي ﷺ الآية على الناس عارية من ذكر النفي عقبها لأن سكوته عن ذكر الزيادة معها يلزمنا اعتقاد موجبها وأن الجلد هو كمال الحد فلو كان معه تغريب لكان بعض الحد لا كماله فإذا أخلى التلاوة من ذكر النفي عقيبها فقد أراد منا اعتقاد ان الجلد المذكور في الآية هو تمام الحد وكماله فغير جائز إلحاق الزيادة معه إلا على وجه النسخ ولهذا كان قوله: "واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" ناسخا لحديث عبادة بن الصامت "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم" وكذلك لما رجم ماعزا ولم يجلده كذلك يجب أن يكون قوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ناسخا لحكم التغريب في قوله: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام".
والمقصود أن هذه الزيادة لو كانت ثابتة مع النص لذكرها النبي ﷺ عقيب التلاوة ولنقلها إلينا من نقل المزيد عليه إذ غير جائز عليهم أن يعلموا أن الحد مجموع الأمرين وينقلوا بعضه دون بعضه وقد سموا الرسول ﷺ يذكر الأمرين فامتنع حينئذ العمل بالزيادة إلا من الجهة التي ورد منها الأصل فإذا وردت من جهة الآحاد فإن كانت قبل النص فقد نسخها النص المطلق عاريا من ذكرها وإن كانت بعده فهذا يوجب نسخ الآية بخبر الواحد وهو ممتنع فإن كان المزيد عليه بخبر الواحد جاز إلحاق الزيادة بخبر الواحد على الوجه الذي يجوز نسخه به فإن كانت واردة مع النص في خطاب واحد لم تكن نسخا وكانت بيانا.
فالجواب من وجوه أحدها: أنكم أول من نقض هذا الأصل الذي أصلتموه فإنكم قبلتم خبر الوضوء بنبيذ التمر وهو زائد على ما في كتاب الله مغير لحكمه فإن الله سبحانه جعل حكم عادم الماء التيمم والخبر يقتضي أن يكون حكمه الوضوء بالنبيذ فهذه الزيادة بهذا الخبر الذي لا يثبت رافعة لحكم شرعي غير مقارنة له ولا مقاومة بوجه وقبلتم خبر الأمر بالوتر مع رفعه لحكم شرعي وهو اعتقاد كون الصلوات الخمس هي جميع الواجب ورفع التأثيم بالاقتصار عليها وإجزاء الإتيان في التعبد بفريضة الصلاة والذي قال هذه الزيادة هو الذي قال سائر الأحاديث الزائدة على ما في القرآن والذي نقلها إلينا هو الذي نقل تلك بعينه أو أوثق منه أو نظيره والذي فرض علينا طاعة رسوله وقبول قوله في تلك الزيادة هو الذي فرض علينا طاعته وقبول قوله في هذه والذي قال لنا {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} هو الذي شرع لنا هذه الزيادة على لسانه والله سبحانه ولاه منصب التشريع عنه ابتداء كما ولاه منصب البيان لما أراده بكلامه كله بل كلامه كله بيان عن الله والزيلدة بجميع وجوهها لا تخرج عن البيان بوجه من الوجوه بل كان السلف الصالح الطيب إذا سمعوا الحديث عنه وجدوا تصديه في القرآن ولم يقل أحد منهم قط في حديث واحد أبدا: إن هذا زيادة على القرآن فلا نقبله ولا نسمعه ولا نعمل به ورسول الله ﷺ أجل في صدورهم وسنته أعظم عندهم من ذلك وأكبر ولا فرق أصلا بين مجيء السنة بعدد الطواف وعدد ركعات الصلاة ومجيئها بفرض الطمأنينة وتعيين الفاتحة والنية فنينة وتعيين الفاتحة والنية فإن الجميع بيان لمراد الله أنه أوجب هذه العبادات على عباده على هذا الوجه فهذا الوجه هو المراد فجاءت السنة بيانا للمراد في جميع وجوهها حتى في التشريع المبتدأ فإنها بيان لمراد الله من عموم الأمر بطاعته وطاعة رسوله فلا فرق بين بيان هذا المراد وبين بيان المراد من الصلاة والزكاة والحج والطواف وغيرها بل هذا بيان المراد من شيء وذاك بيان المراد من أعم منه فالتغريب بيان محض للمراد من قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} وقد صرح النبي ﷺ بأن التغريب بيان لهذا السبيل المذكور في القرآن فكيف يجوز رده بأنه مخالف للقرآن معارض له ويقال لو قبلناه لأبطلنا به حكم القرآن وهل هذا إلا قلب للحقائق فإن حكم القرآن العام والخاص يوجب علينا قبوله فرضا لا يسعنا مخالفته فلو خالفنا القرآن ولخرجنا عن حكمه ولابد ولكان في ذلك مخالفة للقرآن والحديث معا.
يوضحه الوجه الثاني: ان الله سبحانه نصب رسول الله ﷺ منصب المبلغ المبين عنه فكل ما شرعه للأمة فهو بيان منه عن الله أن هذا شرعه ودينه ولا فرق بين ما يبلغه عنه من كلامه المتلو ومن وحيه الذي هو نظير كلامه في وجوب الاتباع ومخالفة هذا كمخالفة هذا.
يوضحه الوجه الثالث: أن الله سبحانه أمرنا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان وجاء البيان عن رسوله ﷺ بمقادير ذلك وصفاته وشروطه فوجب على الأمة قبوله إذ هو تفصيل لما أمر الله به كما يجب علينا قبول الأصل المفصل وهكذا أمر الله سبحانه بطاعته وطاعة رسوله فإذا أمر الرسول بأمر كان تفصيلا وبيانا للطاعة المأمور بها وكان فرض قبوله كفرض قبول الأصل المفصل ولا فرق بينهما.
بيان السنة على أنواع
يوضحه الوجه الرابع: أن البيان من النبي ﷺ أقسام أحدها: بيان نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أن كان خفيا الثاني: بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك كما بين أن الظلم المذكور في قوله {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} هو الشرك وأن الحساب اليسير هو العرض وأن الخيط الأبيض والأسود هما بياض النهار وسواد الليل وأن الذي {رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} هو جبريل كما فسر قوله {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} أنه طلوع الشمس من مغربها وكما فسر قوله {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} بأنها النخلة وكما فسر قوله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} أن ذلك في القبر حين يسأل من ربك وما دينك وكما فسر الرعد بأنه ملك من الملائكة موكل بالسحاب وكما فسر اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله بأن ذلك باستحلال ما أحلوه لهم من الحرام وتحريم ما حرموه من الحلال وكما فسر القوة التي أمر الله أن نعدها لأعدائه بالرمي وكما فسر قوله {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} بأنه ما يجزى به العبد في الدنيا من النصب والهم والخوف واللأواء وكما فسر الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم وكما فسر الدعاء في قوله {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} بأنه العبادة وكما فسر أدبار النجوم بأنه الركعتان قبل الفجر وأدبار السجود بالركعتين بعد المغرب ونظائر ذلك الثالث: بيانه بالفعل كما بين أوقات الصلاة للسائل بفعله الرابع: بيان ما سئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن فنزل القرآن ببيانها كما سئل عن قذف الزوجة فجاء القرآن باللعان ونظائره الخامس: بيان ما سئل عنه بالوحي وإن لم يكن قرآنا كما سئل عن رجل أحرم في جبة بعدما تمضخ بالخلوق فجاء الوحي بأن ينزع عنه الجبة ويغسل أثر الخلوق السادس: بيانه للأحكام بالسنة ايتداء من غير سؤال كما حرم عليهم لحوم الحمر والمتعة وصيد المدينة ونكاح المرأة على عمتها وخالتها وأمثال ذلك السابع: بيانه للأمة جواز الشيء بفعله هو له وعدم نهيهم عن التأسي به الثامن: بيانه جواز الشيء بإقراره لهم على فعله وهو يشاهده أو يعلمهم يفعلونه التاسع: بيانه إباحة الشيء عفوا بالسكوت عن تحريمه وإن لم يأذن فيه نطقا العاشر: أن يحكم القرآن بإيجاب شيء أو تحريمه أو إباحته ويكون لذلك الحكم شروط وموانع وقيود وأوقات مخصوصة وأحوال وأوصاف فيحيل الرب سبحانه وتعالى على رسوله في بيانها كقوله تعالى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} فالحل موقوف على شروط النكاح وانتفاء موانعه وحضور وقته وأهلية المحل فإذا جاءت السنة ببيان ذلك كله لم يكن الشيء منه زائدا على النص فيكون نسخا له وإن كان رفعا لظاهر إطلاقه.
فهكذا كل حكم منه ﷺ زائد على القرآن هذا سبيله سواء بسواء وقد قال تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ثم جاءت السنة بأن القاتل والكافر والرقيق لا يرث ولم يكن نسخا للقرآن مع أنه زائد عليه قطعا أعني في موجبات الميراث فإن القرآن أوجبه بالولادة وحدها فزادت السنة مع وصف الولادة اتحاد الدين وعدم الرق والقتل فهلا قلتم: إن هذه زيادة على النص فيكون نسخا والقرآن لا ينسخ بالسنة كما قلتم ذلك في كل موضع تركتم فيه الحديث لأنه زائد على القرآن.
الوجه الخامس: أن تسميتكم للزيادة المذكورة نسخا لا توجب بل لا يجوز مخالفتها فإن تسمية ذلك نسخا اصطلاح منكم والأسماء المتواضع عليها التابعة للاصطلاح لا توجب رفع أحكام النصوص فأين سمي الله ورسوله ذلك نسخا وأين قال رسول الله ﷺ إذا جاءكم حديثي زائدا على ما في كتاب الله فردوه ولا تقبلوه فإنه يكون نسخا لكتاب الله وأين قال الله إذا قال رسولي قولا زائدا على القرآن فلا تقبلوه ولا تعملوا به وردوه وكيف يسوغ رد سنن رسول الله ﷺ بقواعد قعدتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان.
المراد بالنسخ في السنة الزائدة على القرآن
الوجه السادس: أن يقال: ما تعنون بالنسخ الذي تضمنته الزيادة بزعمكم أتعنون أن حكم المزيد عليه من الإيجاب والتحريم والإباحة بطل بالكلية أم تعنون به تغير وصفه بزيادة شيء عليه من شرط أو قيد أو حال أو مانع أو ما هو أعم من ذلك فإن عنيتم الأول فلا ريب أن الزيادة لا تتضمن ذلك فلا تكون ناسخة وإن عنيتم الثاني فهو حق ولكن لا يلزم منها بطلان حكم المزيد عليه ولا رفعه ولا معارضته بل غايتها مع المزيد عليه كالشروط والموانع والقيود والمخصصات وشيء من ذلك لا يكون نسخا يوجب إبطال الأول ورفعه رأسا وإن كان نسخا بالمعنى العام الذي يسميه السلف نسخا وهو رفع الظاهر بتخصيص أو تقييد أو شرط أو مانع فهذا كثير من السلف يسميه نسخا حتى سمي الاستثناء نسخا فإن أردتم هذا المعنى فلا مشاحة في الاسم ولكن ذلك لا يسوغ رد السنن الناسخة للقرآن بهذا المعنى ولا ينكر أحد نسخ القرآن بالسنة بهذا المعنى بل هو متفق عليه بين الناس وإنما تنازعوا في جواز نسخه بالسنة النسخ الخاص الذي هو رفع أصل الحكم وجملته بحيث يبقى بمنزلة ما لم يشرع البتة وإن أردتم بالنسخ ما هو أعم من القسمين وهو رفع الحكم بجملته تارة وتقييد مطلقه وتخصيص عامه وزيادة شرط أو مانع تارة كنتم قد أدرجتم في كلامكم قسمين: مقبولا ومردودا كما تبين فليس الشأن في الألفاظ فسموا الزيادة ما شئتم فإبطال السنن بهذا الاسم مما لا سبيل إليه.
يوضحه الوجه السابع: أن الزيادة لو كانت ناسخة لما جاز اقترانها بالمزيد لأن الناسخ لا يقارن المنسوخ وقد جوزتم اقترانها به وقلتم: تكون بيانا أو تخصيصا فهلا كان حكمها مع التأخر كذلك والبيان لا يجب اقترانه بالمبين بل يجوز تأخيره إلى وقت حضور العمل وما ذكرتموه من إيهام اعتقاد خلاف الحق فهو منتقض بجواز تأخير الناسخ وعدم الإشعار بأنه سينسخه ولا محذور في اعتقاد موجب النص ما لم يأت ما يرفعه أو يرفع ظاهره فحينئذ يعتقد موجبه كذلك فكان كل من الاعتقادين في وقته هو المأمور به إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
يوضحه الوجه الثامن: أن المكلف إنما يعتقده على إطلاقه وعمومه مقيدا بعدم ورود ما يرفع ظاهره كما يعتقد المنسوخ مؤيدا اعتقادا مقيدا بعدم ورود ما يبطله وهذا هو الواجب عليه الذي لا يمكنه سواه.
الوجه التاسع: أن إيجاب الشرط الملحق بالعبادة بعدها لا يكون نسخا وإن تضمن رفع الإجزاء بدونه كما صرح بذلك بعض أصحابكم وهو الحق فكذلك إيجاب كل زيادة بل أولى أن لا تكون نسخا فإن إيجاب الشرط يرفع إجزاء المشروط عن نفسه وعن غيره وإيجاب الزيادة إنما يرفع إجزاء المزيد عن نفسه خاصة.
الوجه العاشر: ان الناس متفقون على أن إيجاب عبادة مستقلة بعد الثانية لا يكون نسخا وذلك أن الأحكام لم تشرع جملة واحدة وإنما شرعها أحكم الحاكمين شيئا بعد شيء وكل منها زائدة على ما قبله وكان ما قبله جميع الواجب والإثم محطوط عمن اقتصر عليه وبالزيادة تغير هذان الحكمان فلم يبق الأول جميع الواجب ولم يحط الإثم عمن اقتصر عليه ومع ذلك فليس الزائد ناسخا للمزيد عليه إذ حكمه من الوجوب وغيره باق فهذه الزيادة المتعلقة بالمزيد لا تكون ناسخا له حيث لم ترفع حكمه بل هو باق على حكمه وقد ضم إليه غيره.
يوضحه الوجه الحادي عشر: ان الزيادة إن رفعت حكما خطابيا كانت نسخا وزيادة التغريب وشروط الحكم وموانعه وحراحق لا ترفع حكم الخطاب وإن رفع حكم الاستصحاب.
يوضحه الوجه الثاني عشر: أن ما ذكروه من كون الأول جميع الواجب وكونه مجزئا وحده وكون الإثم محطوطا عمن اقتصر عليه إنما هو من أحكام البراءة الأصلية فهو حكم استصحابي لم نستفده من لفظ الأمر الأول ولا أريد به فإن معنى كون العبادة مجزئة أن الذمة بريئة بعد الإتيان بها وحط الذم عن فاعلها معناه أنه قد خرج من عهدة الأمر فلا يلحقه ذم والزيادة وإن رفعت هذه الأحكام لم ترفع حكما دل عليه لفظ المزيد.
تخصيص القرآن بالسنة
يوضحه الوجه الثالث عشر: أن تخصيص القرآن بالسنة جائز كما أجمعت الأمة على تخصيص قوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} بقوله ﷺ: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" وعموم قوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} بقوله ﷺ: "لا يرث المسلم الكافر" وعموم قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} بقوله ﷺ: "لا قطع في ثمر ولا كثر" ونظائر ذلك كثيرة فإذا جاز التخصيص وهو رفع ما تناوله اللفظ وهو نقصان من معناه فلأن تجوز الزيادة التي لا تتضمن رفع شيء من مدلوله ولا نقصانه بطريق الأولى والأحرى.
الوجه الرابع عشر: أن الزيادة لا توجب رفع المزيد لغة ولا شرعا ولا عرفا ولا عقلا ولا تقول العقلاء لمن ازداد خيره أو ماله أو جاهله أو علمه أو ولده إنه قد ارتفع شيء مما في الكيس بل تقول في.
الوجه الخامس عشر: أن الزيادة قررت حكم المزيد وزادته بيانا وتأكيدا فهي كزيادة العلم والهدى والإيمان قال تعالى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} وقال {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} وقال {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} وقال {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} فكذلك زيادة الواجب على الواجب إنما يزيده قوة وتأكيدا وثبوتا فإن كانت متصلة به اتصال الجزاء والشرط كان ذلك أقوى له وأثبت وآكد ولا ريب أن هذا أقرب إلى المعقول والمنقول والفطرة من جعل الزيادة مبطلة للمزيد عليه ناسخة له.
الوجه السادس عشر: أن الزيادة لم تتضمن النهي عن المزيد ولا المنع منه وذلك حقيقة النسخ وإذا انتفت حقيقة النسخ استحال ثبوته.
الوجه السابع عشر: أنه لابد في النسخ من تنافي الناسخ والمنسوخ وامتناع اجتماعهما والزيادة غير منافية للمزيد عليه ولا اجتماعهما ممتنع.
الوجه الثامن عشر: أن الزيادة لو كانت نسخا لكانت إما نسخا بانفرادها عن المزيد أو بانضمامها إليه والقسمان محال فلا يكون نسخا أما الأول فظاهر لأنها لا حكم لها بمفردها البتة فإنها تابعة للمزيد عليه في حكمه وأما الثاني فكذلك أيضا لأنها إذا كانت ناسخة بانضمامها إلى المزيد كان الشيء ناسخا لنفسه ومبطلا لحقيقته وهذا غير معقول وأجاب بعضهم عن هذا بأن النسخ يقع على حكم الفعل دون نفسه وصورته وهذا الجواب لا يجدي عليهم شيئا والإلزام قائم بعينه فإنه يوجب أن يكون المزيد عليه قد نسخ حكم نفسه وجعل نفسه إذا انفرد عن الزيادة غير مجزىء بعد أن كان مجزئا.
الوجه التاسع عشر: أن النقصان من العبادة لا يكون نسخا لما بقي منها فكذلك الزيادة عليها لا تكون نسخا لها بل أولى لما تقدم.
الوجه العشرون: ان نسخ الزيادة للمزيد عليه: إما أن يكون نسخا لوجوبه أو لإجزائه أو لعدم وجوب غيره أو لأم رابع وهذا كزيادة التغريب مثلا على المائة جلدة لا يجوز أن تكون ناسخة لوجوبها فإن الوجوب بحالة ولا لإجزائها لأنها مجزئة عن نفسها ولا لعدم وجوب الزائد لأنه رفع لحكم عقلي وهو البراءة الأصلية فلو كان رفعها نسخا كان كلما أوجب الله شيئا بعد الشهادتين قد نسخ به ما قبله والأمر الرابع غير متصور ولا معقول فلا يحكم عليه.
فإن قيل: بل ههنا أمر رابع معقول وهو الاقتصار على الأول فإنه نسخ بالزيادة وهذا غير الأقسام الثلاثة.
فالجواب أنه لا معنى للاقتصار غير عدم وجوب غيره وكونه جميع الواجب وهذا هو القسم الثالث بعينه غيرتم التعبير عنه وكسوتموه عبارة أخرى.
الوجه الحادي والعشرون: أن الناسخ والمنسوخ لابد أن يتواردا على محل واحد يقتضي المنسوخ ثبوته والناسخ رفعه أو بالعكس وهذا غير متحقق في الزيادة على النص.
الوجه الثالث والعشرون: ان كل واحد من الزائد والمزيد عليه دليل قائم بنفسه مستقل بإفادة حكمه وقد أمكن العمل بالدليلين فلا يجوز إلغاؤه أحدهما وإبطاله وإلقاء الحرب بينه وبين شقيقه وصاحبه فإن كل ما جاء من عند الله فهو حق يجب اتباعه والعمل به ولا يجوز إلغؤه وإبطاله إلا حيث أبطله الله ورسوله بنص آخر ناسخ له لا يمكن الجمع بينه وبين المنسوخ وهذا بحمد الله منتف في مسألتنا فإن العمل بالدليلين ممكن ولا تعارض بينهما ولا تناقض بوجه فلا يسوغ لنا إلغاء ما اعتبره الله ورسوله كما لا يسوغ لنا اعتبار ما ألغاه وبالله التوفيق.
الوجه الثالث والعشرون: أنه إن كان القضاء بالشاهد واليمين ناسخا للقرآن وإثبات التغريب ناسخا للقرآن فالوضوء بالنبيذ أيضا ناسخ للقرآن ولا فرق بينهما البتة بل القضاء بالنكول ومعاقد القمط يكون ناسخا للقرآن وحينئذ فنسخ كتاب الله بالسنة الصحيحة التي لا مطعن فيها أولى من نسخه بالرأي والقياس والحديث الذي لا يثبت وإن لم يكن ناسخا للقرآن لم يكن هذا نسخا له وأما أن يكون هذا نسخا وذاك ليس بنسخ فتحكم باطل وتفريق بين متماثلين.
الوجه الرابع والعشرون: أن ما خالفتموه من الأحاديث التي زعمتم أنها زيادة على نص القرآن إن كانت تستلزم نسخه فقطع رجل السارق في المرة الثانية نسخ لأنه زيادة على القرآن وإن لم يكن هذا نسخا فليس ذلك نسخا.
الوجه الخامس والعشرون: أنكم قلتم لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم وذلك زيادة على ما في القرآن فإن الله سبحانه أباح استحلال البضع بكل ما يسمى مالا وذلك يتناول القليل والكثير فزدتم على القرآن بقياس في غاية الضعف وبخبر في غاية البطلان فإن جاز نسخ القرآن بذلك فلم لا يجوز نسخه بالسنة الصحيحة الصريحة وإن كان هذا ليس بنسخ لم يكن الآخر نسخا.
الوجه السادس والعشرون: أنكم أوجبتم الطهارة للطواف بقوله: "الطواف بالبيت صلاة" وذلك زيادة على القرآن فإن الله إنما أمر بالطواف ولم يأمر بالطهارة فكيف لم تجعلوا ذلك نسخا للقرآن وجعلتم القضاء بالشاهد واليمين والتغريب في حد الزنا نسخا للقرآن؟
الوجه السابع والعشرون: أنكم مع الناس أوجبتم الاستبراء في جواز وطء المسبية بحديث ورد زائد على كتاب الله ولم تجعلوا ذلك نسخا له وهو الصواب بلا شك فهلا فعلتم ذلك في سائر الأحاديث الزائدة على القرآن.
الوجه الثامن والعشرون: أنكم وافقتم على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها بخبر الواحد وهو زائد على كتاب الله تعالى قطعا ولم يكن ذلك نسخا فهلا فعلتم ذلك في خبر القضاء بالشاهد واليمين والتغريب ولم تعدوه نسخا وكل ما تقولونه في محل الوفاق يقوله لكم منازعوكم في محل النزاع حرفا بحرف.
الوجه التاسع والعشرون: أنكم قلتم: لا يفطر المسافر ولا يقصر في أقل من ثلاثة أيام والله تعالى قال {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وهذ يتناول الثلاثة وما دونها فأخذتم بقياس ضعيف أو أثر لا يثبت في التحديد بالثلاث وهو زيادة على القرآن ولم تجعلوا ذلك نسخا فكذلك الباقي.
الوجه الثلاثون: أنكم منعتم قطع من سرق ما يسرع إليه الفساد من الأموال مع أنه سارق حقيقة ولغة وشرعا لقوله: "لا قطع في ثمر ولا كثر" ولم تجعلوا ذلك نسخا للقرآن وهو زائد عليه.
الوجه الحادي والثلاثون: أنكم رددتم السنن الثابتة عن رسول الله ﷺ في المسح على العمامة وقلتم: إنها زائدة على نص الكتاب فتكون ناسخة له فلا تقبل ثم ناقضتم فأخذتم بأحاديث المسح على الخفين وهي زائدة على القرآن ولا فرق بينهما واعتذرتم بالفرق بأن أحاديث المسح على الخفين متواترة بخلاف المسح على العمامة وهو اعتذار فاسد فإن من له اطلاع على الحديث لا يشك في شهرة كل منها وتعدد طرقها واختلاف مخارجها وثبوتها عن النبي ﷺ قولا وفعلا.
الوجه الثاني والثلاثون: أنكم قبلتم شهادة المرأة الواحدة على الرضاع والولادة وعيوب النساء مع أنه زائد على ما في القرآن ولم يصح الحديث به صحته بالشاهد واليمين ورددتم هذا ونحوه بأنه زائد على القرآن.
الوجه الثالث والثلاثون: أنكم رددتم السنة الثانيه عن رسول الله ﷺ في أنه لا يحرم أقل من خمس رضعات ولا تحرم الرضعة والرضعتان وقلتم: هي زائدة على القرآن ثم أخذتم بخبر لا يصح بوجه ما في أنه لا قطع في أقل من عشرة دراهم أو ما يساويها ولم تروه زيادة على القرآن وقلتم هذا بيان للفظ السارق فإنه مجمل والرسول بينة بقوله: "لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم" فيالله العجب كيف كان هذا بيانا ولم يكن حديث التحريم بخمس رضعات بيانا لمجمل قوله: "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم" ولا تأتون بعذر في آية القطع إلا كان مثله أو أولى منه في آية الرضاع سواء بسواء.
الوجه الرابع والثلاثون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ بالمسح على الجوربين وقلتم: هي زائدة على القرآن وجوزتم الوضوء بالخمر المحرمه من نبيذ التمر المسكر بخبر لا يثبت وهو خلاف القرآن.
الوجه الخامس والثلاثون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ في الصوم عن الميت والحج عنه وقلتم هو زائد على قوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} ثم جوزتم أن تعمل أعمال الحج كلها عن المغمى عليه ولم تروه زائدا على قوله {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} وأخذتم بالسنة الصحيحة وأصبتم في حمل العاقلة الدية عن القاتل خطأ ولم تقولوا هو زائد على قوله {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} واعتذاركم بأن الإجماع ألجأكم إلى ذلك لا يفيد لأن عثمان البتي وهو من فقهاء التابعين يرى أن الدية على القاتل وليس على العاقلة منها شيء ثم هذا حجة عليكم أن تجمع الأمة على الأخذ بالخبر وإن كان زائدا على القرآن.
الوجه السادس والثلاثون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ في اشتراط المحرم ان يحل حيث حبس وقلتم: هو زائد على القرآن فإن الله أمر بإتمام الحج والعمرة والإحلال خلاف الإتمام ثم أخذتم وأصبتم بحديث تحريم لبن الفحل وهو زائد على ما في القرآن قطعا.
الوجه السابع والثلاثون: ردكم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ بالوضوء من مس الفرج وأكل لحوم الإبل وقلتم: ذلك زيادة على القرآن لأن الله تعالى إنما ذكر الغائط ثم أخذتم بحديث ضعيف في إيجاب الوضوء من القهقهة وخبر ضعيف في إيجابه من القيء ولم يكن إذ ذاك زائدا على ما في القرآن إذ هو قول متبوعكم فمن العجب إذا قال من قلدتموه قولا زائدا على ما في القرآن قبلتموه وقلتم: ما قاله إلا بدليل ويهل عليكم مخالفة ظاهر القرآن حينئذ وإذا قال رسول الله ﷺ قولا زائدا على ما في القرآن قلتم: هذا زيادة على النص وهو نسخ والقرآن لا ينسخ بالسنة فلم تأخذوا به واستصعبتم خلاف ظاهر القرآن فهان خلافه إذا وافق قول من قلدتموه وصهب خلافه إذا وافق قول رسول الله ﷺ.
الوجه الثامن والثلاثون: أنكم أخذتم بخبر ضعيف لا يثبت في إيجاب المضمضة والاستنشاق في الغسل من الجنابة ولم تروه زائدا على القرآن ورددتم السنة الصحيحة الصريحة في أمر المتوضىء بالاستنشاق وقلتم: هو زائد على القرآن فهاتوا لنا الفرق بين ما يقبل من السنن الصحيحة وما يرد منها فإما أن تقبلوها كلها وإن زادت على القرآن وإما أن تردوها كلها إذا كانت زائدة على القرآن وأما التحكم في قبول ما شئتم منها ورد ماشئتم منها فما لم يأذن به الله ولا رسوله ونحن نشهد الله شهادة يسألنا عنها يوم نلقاه أنا لا نرد لرسول الله ﷺ سنة واحدة صحيحة أبدا إلا بسنة صحيحة مثلها نعلم أنها ناسخة لها.
الوجه التاسع والثلاثون: أنكم رددتم السنة الصحيحة عن رسول الله ﷺ في القسم للبكر سبعا يفضلها بها على من عنده من النساء وللثيب ثلاثا إذا أعرس بهما وقلتم: هذا زائد على العدل المأمور به في القرآن ومخالف له فلو قبلناه كنا نسخنا به القرآن ثم أخذتم بقياس فاسد واه لا يصح في جواز نكاح الأمة لواجد الطول غير خائف العنت إذا لم تكن تحته حرة وهو خلاف ظاهر القرآن وزائد عليه قطعا.
الوجه الأربعون: ردكم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ نفقة المبتوتة وسكناها وقلتم: هو مخالف للقرآن فلو قبلناه كان نسخا للقرآن به ثم أخذتم بخبر ضعيف لا يصح أن عدة الأمة قرءان وطلاقها طلقتان مع كونه زائد على ما في القرآن قطعا.
الوجه الحادي والأربعون: ردكم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ في تخيير ولي الدم بين الدية أو القود أو العفو بقولكم: إنها زائدة على ما في القرآن ثم أخذتم بقياس من أفسد القياس أنه لو ضربه بأعظم دبوس يوجد حتى ينثر دماغه على الأرض فلا قود عليه ولم تروا ذلك مخالفا لظاهر القرآن والله تعالى يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ويقول {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
الوجه الثاني والأربعون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ بقوله: "لا يقتل مسلم بكافر" وقوله: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" وقلتم: هذا خلاف ظاهر القرآن لأن الله تعالى يقول {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وأخذتم بخبر لا يصح عن رسول الله ﷺ بأنه "لا قود إلا بالسيف" وهو مخالف لظاهر القرآن فإنه سبحانه قال {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقال {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
الوجه الثالث والأربعون: أنكم أخذتم بخبر لا يصح عن رسول الله ﷺ في أنه "لا جمعة إلا في مصر جامع" وهو مخالف لظاهر القرآن قطعا وزائد عليه ورددتم الخبر الصحيح الذي لا شك في صحته عند أحد من أهل العلم في أن كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا وقلتم هو خلاف ظاهر القرآن في وجوب الوفاء بالعقد.
الوجه الرابع والأربعون: أنكم أخذتم بخبر ضعيف "لا تقطع الأيدي في الغزو" وهو زائد على القرآن وعديتموه إلى سقوط الحدود على من فعل أسبابها في دار الحرب وتركتم الخبر الصحيح الذي لا ريب في صحته في المصراة وقلتم هو خلاف ظاهر القرآن من عدة أوجه.
الوجه الخامس والأربعون: أنكم أخذتم بخبر ضعيف بل باطل في أنه لا يؤكل الطافي من السمك وهو خلاف ظاهر القرآن إذ يقول تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} فصيده ما صيد منه حيا وطعامه قال أصحاب رسول الله ﷺ هو ما مات فيه صح ذلك عن الصديق وابن عباس وغيرهما ثم تركتم الخبر الصحيح المصرح بأن ميتته حلال مع موافقته لظاهر القرآن.
الوجه السادس والأربعون: أنكم أخذتم وأصبتم بحديث تحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وهو زائد على ما في القرآن ولم تروه ناسخا ثم تركتم حديث حل لحوم الخيل الصحيح الصريح وقلتم هو مخالف لما في القرآن زائد عليه وليس كذلك.
الوجه السابع والأربعون: أنكم أخذتم بحديث المنع من توريث القاتل مع أنه زائد على القرآن وحديث عدم القود على قاتل ولده وهو زائد على ما في القرآن مع أن الحديثين ليسا في الصحة بذاك وتركتم الأخذ بحديث إعتاق النبي ﷺ لصفية وجعل عتقها صداقها فصارت بذلك زوجة وقلتم هذا خلاف ظاهر القرآن والحديث في غاية الصحة.
الوجه الثامن والأربعون: أنكم أخذتم بالحديث الضعيف الزائد على ما في القرآن وهو كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه فقلتم: هذا يدل على وقوع طلاق المكره والسكران وتركتم السنة الصحيحة التي لا ريب في صحتها فيمن وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن بقوله {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} ولاعجب أن ظاهر القرآن مع الحديث متوافقان متطابقان فإن منع البائع من الوصول إلى الثمن وإلى عين ماله إطعام له بالباطل الغرماء فخالفتم ظاهر القرآن مع السنة الصحيحة الصريحة.
الوجه التاسع والأربعون: أنكم أخذتم بالحديث الضعيف وهو "من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له" ولم تقولوا هو زائد على القرآن في قوله {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وتركتم الحديث الصحيح في بقاء الإحرام بعد الموت وأنه لا ينقطع به وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن في قوله {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وخلاف ظاهر قوله ﷺ "إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث".
الوجه الخمسون: رد السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ في وجوب الموالاة حيث أمر الذي ترك لمعة من قدمه بأن يعيد الوضوء والصلاة وقالوا: هو زائد على كتاب الله ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على كتاب الله في أن "أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة".
الوجه الحادي والخمسون: رد الحديث الثابت عن رسول الله ﷺ في أنه "لا نكاح إلا بولي" وأن من أنكحت نفسها فنكاحها باطل وقالوا: هو زائد على كتاب الله فإن الله تعالى يقول {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ} وقال {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على القرآن قطعا في اشتراط الشهادة في صحة النكاح والعجب أنهم استدلوا على ذلك بقوله: "لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل" ثم قالوا: لا يفتقر إلى حضور الولي ولا عدالة الشاهدين.
فهذا طرف من بيان تناقض من رد السنن بكونها زائدة على القرآن فتكون ناسخة فلا تقبل.
الوجه الثاني والخمسون: أنكم تجوزون الزيادة على القرآن بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون للأمة فيه قولان أحدهما: أنه باطل مناف للدين والثاني: أنه صحيح مؤخر عن الكتاب والسنة فهو في المرتبة الأخيرة ولا تختلفون في جواز إثبات حكم زائسد على القرآن به فهلا قلتم إن ذلك يتضمن نسخ الكتاب بالقياس.
فإن قيل: قد دل القرآن على صحة القياس واعتباره وإثبات الأحكام به فما خرجنا عن موجب القرآن ولا زدنا على ما في القرآن إلا بما دلنا عليه القرآن.
قيل: فهلا قلتم مثل هذا سواء في السنة الزائدة على القرآن وكان قولكم ذلك في السنة أسعد وأصلح من القياس الذي هو محل آراء المجتهدين وعرضة للخطأ بخلاف قول من ضمنت لنا العصمة في أقواله وفرض الله علينا اتباعه وطاعته.
فإن قيل: القياس بيان لمراد الله ورسوله من النصوص وأنه أريد بها إثبات الحكم في المذكور في نظيره وليس ذلك زائدا على القرآن بل تفسير له وتبيين.
قيل: فهلا قلتم إن السنة بيان لمراد الله من القرآن تفصيلا لما أجمله وتبيينا لما سكت عنه وتفسيرا لما أبهمه فإن الله سبحانه أمر بالعدل والإحسان والبر والتقوى ونهى عن الظلم والفواحش والعدوان والإثم وأباح لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث فكل ما جاءت به السنة فإنها تفصيل لهذا المأمور به والمنهى عنه والذي أحل لنا هو الذي حرم علينا.
وهذا يتبين بالمثال التاسع عشر: وهو أن النبي ﷺ أمر في حديث النعمان بن بشير أن يعدل بين الأولاد في العطية فقال: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" وفي الحديث: "إني لا أشهد على جور" فسماه جورا وقال: "إن هذا لا يصلح" وقال: "أشهد على هذا غيري" تهديدا له وإلا فمن الذي يطيب قلبه من المسلمين أن يشهد على ما حكم النبي ﷺ بأنه جور وأنه لا يصلح وأنه على خلاف تقوى الله وأنه خلاف العدل وهذا الحديث من تفاصيل العدل الذي أمر الله به في كتابه وقامت به السماوات والأرض وأسست عليه الشريعة فهو أشد موافقة للقرآن من كل قياس على وجه الأرض وهو محكم الدلالة غاية الإحكام فرد بالمتشابه من قوله: "كل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين" فكونه أحق به يقتضى جواز تصرفه فيه كما يشاء وبقياس متشابه على إعطاء الأجانب ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المتشابه من العموم والقياس لا يقاوم هذا المحكم المبين غاية البيان.
المثال العشرون: رد المحكم الصحيح الصريح في مسألة المصراة بالمتشابه من القياس وزعمهم أن هذا حديث يخالف الأصول فلا يقبل فيقال الأصول كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أمته والقياس الصحيح الموافق للكتاب والسنة فالحديث الصحيح أصل بنفسه فكيف يقال: الأصل يخالف نفسه هذا من أبطل الباطل والأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما: كلام الله وكلام رسوله وما عداهما فمردود إليهما فالسنة أصل قائم بنفسه والقياس فرع فكيف يرد الأصل بالفرع قال الإمام أحمد: "إنما القياس أن تقيس على أصل" فأما أن تجيء إلى الأصل فتهدمه ثم تقيس فعلى أي شيء تقيس وقد تقدم بيان موافقة حديث المصراة للقياس وإبطال قول من زعم أنه خلاف القياس وأنه في الشريعة حكم يخالف القياس الصحيح وأما القياس الباطل فالشريعة كلها مخالفة له ويالله العجب كيف وافق الوضوء بالنبيذ المشتد للأصول حتى قبل وخالف خبر المصراة للأصول حتى رد؟
المثال الحادي والعشرون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في العرايا بالمتشابه من قوله: "التمر بالتمر مثلا بمثل سواء بسواء" فإن هذا لا يتناول الرطب بالتمر.
فإن قيل: فأنتم رددتم خبر النهي عن بيع الرطب بالتمر مع أنه محكم صريح صحيح بحديث العرايا وهو متشابه.
قيل: فإذا كان عندكم محكما صحيحا فكيف رددتموه بالمتشابه من اشتراط المساواة بين التمر والتمر؟ فلا بحديث النهي أخذتم ولا بحديث العرايا بل خالفتم الحديثين معا وأما نحن فأخذنا بالسنن الثلاثة وتركنا كل سنة على وجهها ومقتضاها ولم نضرب بعضها ببعض ولم نخالف شيئا منها فأخذنا بحديث النهي عن بيع التمر بالتمر متفاضلا وأخذنا بحديث النهي عن بيع الرطب بالتمر مطلقا وأخذنا بحديث العرايا وخصصنا به عموم حديث النهي عن بيع الرطب بالتمر اتباعا لسنن رسول الله ﷺ كلها وإعمالا لأدلة الشرع جميعها فإنها كلها حق ولا يجوز ضرب الحق بعضه ببعض وإبطال بعضه ببعض والله الموفق.
المثال الثاني والعشرون: رد حديث القسامة الصحيح الصريح المحكم بالمتشابه من قوله: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" والذي شرع الحكم بالقسامة هو الذي شرع أن لا يعطى أحد بدعواه المجردة وكلا الأمرين حق من عند الله لا اختلاف فيه ولم يعط في القسامة بمجرد الدعوى وكيف يليق بمن بهرت حكمة شرعه العقول أن لا يعطى المدعي بمجرد دعواه عودا من أراك ثم يعطيه بدعوى مجردة دم أخيه المسلم؟ وإنما أعطاه ذلك بالدليل الظاهر الذي يغلب على الظن صدقه فوق تغليب الشاهدين وهو اللوث والعداوة والقرينة الظاهرة من وجود العدو مقتولا في بيت عدوه فقوى الشارع الحكيم هذا السبب باستحلاف خمسين من أولياء القتيل الذين يبعد أو يستحيل اتفاقهم كلهم على رمي البريء بدم ليس منه بسبيل ولا يكون فيهم رجل رشيد يراقب الله ولو عرض على جميع العقلاء هذا الحكم والحكم بتحليف العدو الذي وجد القتيل في داره بأنه ما قتله لرأوا أن مابينهما من العدل كما بين السماء والأرض ولو سئل كل سليم الحاسة عن قاتل هذا لقال من وجد في داره والذي يقضي منه العجب أن يرى قتيل يتشحط في دمه وعدوه هارب بسكين ملطخة بالدم ويقال القول قوله فيستحلفه بالله ما قتله ويخلي سبيله ويقدم ذلك على أحسن الأحكام وأعدلها وألصقها بالعقول والفطر الذي لو اتفقت العقلاء لم يهتدوا الأحسن منه بل ولا لمثله وأين ما تضمنه الحكم بالقسامة من حفظ الدماء إلى ما تضمنه تحليف من لا يشك مع القرائن التي تفيد القطع أنه الجاني؟
ونظير هذا إذا رأينا رجلا من أشراف الناس حاسر الرأس بغير عمامة وآخر أمامه يشتد عدوا وفي يده عمامة وعلى رأسه أخرى فإنا ندفع العمامة التي بيده إلى حاسر الرأس ونقبل قوله ولا نقول لصاحب اليد: القول قولك مع يمينك وقوله ﷺ: "لو يعطى الناس بدعواهم" لا يعارض القسامة بوجه فإنه إنما نفى الإعطاء بدعوى مجردة وقوله: "ولكن اليمين على المدعى عليه" هو في مثل هذه الصورة حيث لا تكون مع المدعي إلا مجرد الدعوى وقد دل القرآن على رجم المرأة بلعان الزوج إذا نكلت وليس ذلك إقامة للحد بمجرد أيمان الزوج بل بها وبنكولها وهكذا في القسامة إنما يقبل فيها باللوث الظاهر والأيمان المتعددة المغلظة وهاتان بينتا هذين الموضعين والبينات تختلف بحسب حال المشهود به كما تقدم: بأربعة شهود وثلاثة بالنص وإن خالفه من خالفه في بينة الإعسار واثنان وواحد ويمين ورجل وامرأتان ورجل واحد وامرأة واحدة وأربعة أيمان وخمسون يمينا ونكول وشهادة الحال ووصف المالك اللقطة وقيام القرائن والشبه الذي يخبر به القائف ومعاقد القمط ووجوه الآجر في الحائط وكونه معقودا ببناء أحدهما عند من يقول بذلك فالقسامة مع اللوث أقوى البينات.
المثال الثالث والعشرون: رد السنة الثابتة المحكمة في النهي عن بيع الرطب بالتمر بالمتشابه من قوله: "وأحل الله البيع" وبالمتشابه من قياس في غاية الفساد وهو قولهم: الرطب والتمر إما أن يكونا جنسين وإما أن يكونا جنسا واحدا وعلى التقديرين فلا يمنع بيع أحدهما بالآخر وأنت إذا نظرت إلى هذا القياس رأيته مصادما للسنة أعظم مصادمة ومع أنه فاسد في نفسه بل هما جنس واحد أحدهما أزيد من الآخر قطعا بلينته فهو أزيد أجزاء من الآخر بزيادة لا يمكن فصلها وتمييزها ولا يمكن أن يجعل في مقابلة تلك الأجزاء من الرطب ما يتساويان به عند الكمال إذ هو ظن وحسبان فكان المنع من بيع أحدهما بالآخر محض القياس لو لم تأت به سنة وحتى لو لم يكن ربا ولا القياس يقتضيه لكان أصلا قائما بنفسه يجب التسليم والانقياد له كما يجب التسليم لسائر نصوصه المحكمة ومن العجب رد هذه السنة بدعوى أنها مخالفة للقياس والأصول وتحريم بيع الكسب بالسمسم ودعوى أن ذلك موافق للأصول فكل أحد يعلم أن جريان الربا بين التمر والرطب أقوب إلى الربا نصا وقياسا ومعقولا من جريانه بين الكسب والسمسم.
المثال الرابع والعشرون: رد المحكم الصريح الصحيح من السنة بالإقراع يبن الأعبد الستة الموصى بعتقهم وقالوا: هذا خلاف الأصول بالمتشابه من رأي فاسد وقياس باطل بأنهم إما أن يكون كل واحد منهم قد استحق العتق فلا يجوز نقله عنه إلى غيره أو لم يستحقه فلا يجوز أن يعتق منهم أحد وهذا الرأي الباطل كما أنه في مصادمة السنة فهو فاسد في نفسه فإن العتق إنما استحق في ثلث ماله ليس إلا والقياس والأصول تقتضي جمع الثلث في محل واحد كما إذا أوصى بثلاثة دراهم وهي كل ماله فلم يجز الورثة فإنا ندفع إلى الموصى له درهما ولا نجعله شريكا بثلث كل درهم ونظائر كل ذلك فهذا المعتق لعبيده كأنه أوصى بعتق ثلثهم إذ هذا هو الذي يملكه وفيه صحت الوصية فالحكم بجمع الثلث في اثنين منهم أحسن عقلا وشرعا وفطرة من جعل الثلث شائعا في كل واحد منهم فحكم رسول الله ﷺ في هذه المسألة خير من حكم غيره بالرأي المحض.
المثال الخامس والعشرون: رد السنة الصريحة المحكمة في تحريم الرجوع في الهبة لكل أحد إلا للوالد برأي متشابه فاسد اقتضى عكس السنة وأنه يجوز الرجوع في الهبة لكل أحد إلا لوالد أو لذي رحم محرم أو لزوج أو زوجة أو يكون الواهب قد أثيب منها ففي هذه المواضع الأربعة يمتنع الرجوع وفرقوا بين الأجنبي والرحم بأن هبة القريب صلة ولا يجوز قطعها وهبة الأجنبي تبرع وله أن يمضيه وأن لا يمضيه وهذا مع كونه مصادما للسنة مصادمة محضة فهو فاسد لأن الموهوب له حين قبض العين الموهوبة دخلت في ملكة وجاز له التصرف فيها فرجوع الواهب فيها انتزاع لملكة منه بغير رضاه وهذا باطل شرعا وعقلا وأما الوالد فولده جزء منه وهو وماله لأبيه وبينهما من البعضية ما يوجب شدة الاتصال بخلاف الأجنبي.
فإن قيل: لم نخالفه إلا بنص محكم صريح صحيح وهو حديث سالم عن أبيه عن النبي ﷺ "من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها" قال البيهقي: قال لنا أبو عبد الله يعني الحاكم هذا حديث صحيح إلا أن يكون الحمل فيه على شيخنا يريد أحمد بن إسحاق بن محمد بن خالد الهاشمي ورواه الحاكم من حديث عمرو بن دينار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "الواهب أحق بهبته ما لم يثب" وفي كتاب الدارقطي من حديث حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي ﷺ قال: "إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها" وفي الغيلانيات ثنا محمد بن إبراهيم بن يحيى عن محمد بن عبد الله عن عطاء عن ابن عباس عن النبي ﷺ "من وهب هبة فارتجع بها فهو أحق بها ما لم يثب منها ولكنه كالكلب يعود في قيئه".
فالجواب أن هذه الأحاديث لا تثبت ولو ثبتت لم تحل مخالفتها ووجب العمل بها وبحديث "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته" ولا يبطل أحدهما بالآخر ويكون الواهب الذي لا يحل له الرجوع من وهب تبرعا محضا لا لأجل العوض والواهب الذي له الرجوع من وهب ليتعوض من هبته ويثاب منها فلم يفعل المتهب وتستعمل سنن رسول الله ﷺ كلها ولا يضرب بعضها ببعض أما حديث ابن عمر فقال الدارقطني: لا يثبت مرفوعا والصواب عن ابن عمر عن عمر قوله وقال البيهقي: ورواه علي بن سهل بن المغيرة عن عبيد الله ابن موسى ثنا حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبد الله فذكره وهو غير محفوظ بهذا الإسناد وإنما يروى عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع وإبراهيم ضعيف انتهى وقال الدارقطني: غلط فيه علي بن سهل انتهى وإبراهيم ابن إسماعيل هذا قال أبو نعيم: لا يساوي حديثه فلسين وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به وقال يحيى بن معين: إبراهيم بن إسماعيل المكي ليس بشيء وقال البيهقي: والمحفوظ عن عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه عن عمر من وهب هبة فلم يثب منها فهو أحق بها إلا لذي رحم محرم قال البخاري: هذا أصح وأما حديث عبيد الله بن موسى عن حنظلة فلا أراه إلا وهما وأما حديث حماد ابن سلمة فمن رواية عبد الله بن جعفر الرقي عن ابن المبارك وعبد الله هذا ضعيف عندهم وأما حديث ابن عباس فمحمد بن عبد الله فيه هو العزرمي ولا تقوم به حجة قال الفلاس والنسائي: هو متروك الحديث وفيه إبراهيم بن يحيى قال مالك ويحيى بن سعيد وابن معين: هو كذاب وقال الدارقطني: متروك الحديث فإن لم تصح هذه الأحاديث لم يلتفت إليها وإن صحت وجب حملها على من وهب للعوض وبالله التوفيق.
المثال السادس والعشرون: رد السنة المحكمة في القضاء بالقافة وقالوا هو خلاف الأصول ثم قالوا: لو ادعاه اثنان ألحقناه بهما وكان هذا مقتضى الأصول.
ونظير هذا المثال السابع والعشرون: رد السنة المحكمة الثابتة في جعل الأمة فراشا وإلحاق الولد بالسيد لم يدعه وقالوا: هو خلاف الأصول والأمة لا تكون فراشا ثم قالوا: لو تزوجها وهو بأقصى بقعة من المشرق وهي بأقصى بقعة من المغرب وأتت بولد لستة أشهر لحقه وإن علمنا بأنهما لم يتلاقيا قط وهي في فراش بالعقد فأمته التي يطؤها ليلا ونهارا ليست بفراش وهذه فراش وهذا مقتضى الأصول وحكم رسول الله ﷺ خلاف الأصول على لازم قولهم!
ونظير هذا قياس الحدث على السلام في الخروج من الصلاة بكل واحد منهما ودعوى أن ذلك موجب الأصول مع بعد ما بين الحدث والسلام وترك قياس نبيذ التمر المسكر على عصير العنب المسكر في تحريم قليل كل منهما مع شدة الأخوة بينهما ودعوى أن ذلك خلاف الأصول.
ونظيره أن الذمي لو منع دينارا واحدا من الجزية انتقض عهده وحل ماله ودمه ولو حرق الكعبة البيت الحرام ومسجد رسول الله ﷺ وجاهر بسب الله ورسوله أقبح سب على رءوس المسلمين فعهده باق ودمه معصوم وعدم النقض بذلك مقتضى الأصول والنقض بمنع الدينار مقتضى الأصول.
ونظيره أيضا إباحة قراءة القرآن بالعجمية وأنه مقتضى الأصول ومنع رواية الحديث بالمعنى وهو خلاف الأصول.
ونظيره إسقاط الحد عمن استأجر امرأة ليزني بها أو تغسل ثيابه فزنى بها وأن هذا مقتضى الأصول وإيجاب الحد على الأعمى إذا وجد على فراشه امرأة فظنها زوجته فبانت أجنبية.
ونظيره أيضا منع المصلي من الصلاة بالوضوء من ماء يبلغ قناطير مقنطرة وقعت فيه قطرة دم أو بول وإباحتهم له أن يصلي في ثوب ربعه متلطخ بالبول وإن كان عذرة فقدر راحة الكف.
ونظيره دعواهم أن الإيمان واحد والناس فيه سواء وهو مجرد التصديق وليست الأعمال داخلة في ماهيته وأن من مات ولم يصل صلاة قط في عمره مع قدرته وصحة جسمه وفراغه فهو مؤمن وتكفيرهم من يقول مسيجد أو فقيه بالتصغير أو يقول للخمر أو للسماع المحرم: ما أطيبه وألذه.
ونظير ذلك أنه لو شهد عليه أربعة بالزنا فقال: "صدقوا" سقط عنه الحد بتصديقهم ولو قال "كذبوا عليّ" حد.
ونظيره أنه لا يصح استئجار دار تجعل مسجدا يصلي فيه المسلمون وتصح إجارتها كنيسة يعبد فيها الصليب والنار.
ونظيره أنه لو قهقه في صلاته بطل وضوءه ولو غنى في صلاته أو قذف المحصنات أو شهد بالزور فوضوء بحاله.
ونظيره أنه لو وقع في البئر فأرة تنجست البئر فإذا نزع منها دلو فالدلو والماء نجسان ثم هكذا إلى تمام كذا وكذا دلوا فإذا نزع الدلو الذي قبل الأخير فرشرش على حيطان البئر نجسها كلها فإذا جاءت النوبة إلى الدلو الأخير قشقش النجاسة كلها من البئر وحيطانها وطينها بعد أن كانت نجسة.
ونظيره إنكار كون القرعة التي ثبت فيها ستة أحاديث عن رسول الله ﷺ وفيها آيتان من كتاب الله طريقا للأحكامم الشرعية وإثبات حل الوطء بشهادة الزور التي يعلم المقدوح أنها شهادة زور وبها فرق الشاهدان بين الرجل والمرأة.
ونظير هذا إيجاب الاستبراء على السيد إذا ملك امرأة بكرا لا يوطأ مثلها مع القطع ببراءة رحمها وإسقاطه عمن أراد وطء الأمة التي وطئها سيدها البارحة ثم اشتراها هو فملكها لغيره ثم وكله في تزويجها منه فقالوا: يحل له وطؤها وليس بين وطء بائعها ووطئه هو إلا ساعة من نهار.
ونظير هذا التناقض إباحة نكاح المخلوقة من ماء الزاني مع كونها بعضه مع تحريم المرضعة من لبن امرأته لكون اللبن ثاب بوطئه فقد صار فيه جزء منه فيالله العجب كيف انتهض هذا الجزء اليسير سببا للتحريم ثم يباح له وطؤها وهي جزؤه الحقيقي وسلالته وأين تشنيعكم وإنكاركم لاستمناء الرجل بيده عند الحاجة خوفا من العنت ثم تجوزون له وطء بنته المخلوقة من مائه حقيقة؟
ونظير هذا لو ادعى على ذمي حقا وأقام به شاهدين عبدين عالمين صالحين مقبولة شهادتهما على رسول الله ﷺ لم تقبل شهادتهما عليه فإن أقام به شاهدين كافرين حرين قبلت شهادتهما عليه مع كونهما من أكذب الخلق على الله وأنبيائه ودينه.
نظير هذا لو تداعيا حائطا لأحدهما عليه خشبتان وللآخر عليه ثلاث خشبات ولا بينة فهو كله لصاحب الخشبات الثلاث فلو كان لأحدهما ثلاث خشبات وللآخر مائة خشبة بينهما نصفين.
ونظير هذا لو اغتصب نصراني رجلا على ابنته أو امرأته أو حرمته وزنى بها ثم شدخ رأسها بحجر أو رمى بها من أعلى شاهق حتى ماتت فلا حد عليه ولا قصاص فلو قتله المسلم صاحب الحرمة بقصبة محددة قتل به.
ونظير هذا أنه لو أكره على قتل ألف مسلم أو أكثر بسجن شهر وأخذ شيء من ماله فقتلهم فلا قود عليه ولا دية حتى إذا أكره بالقتل على عتق أمته أو طلاق زوجته لزمه حكم العتق والطلاق ولم يكن الإكراه مانعا من نفوذ حكمنا عليه مع أن الله سبحانه أباح التكلم بكلمة الكفر مع الإكراه ولم يبح قتل المسلم بالإكراه أبدا.
ونظير هذا إبطال الصلاة بتسبيح من نابه شيء في صلاته وقد أمر به النبي ﷺ وتصحيح صلاة من ركع ثم خر ساجدا من غير أن يقيم صلبه وقد أبطلها النبي ﷺ بقوله: "لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في ركوعه وسجوده" ودعوى أن ذلك مقتضى الأصول.
نظيره أيضا إبطال الصلاة بالإشارة لرد السلام أو غيره وقد أشار النبي ﷺ في صلاته برد السلام وأشار الصحابة برءوسهم تارة وبأكفهم تارة وتصحيحها مع ترك الطمأنينة وقد أمر بها النبي ﷺ ونفى الصلاة بدونها وأخبر أن صلاة النقر صلاة المنافقين وأخبر حذيفة أن من صلى كذلك لقي الله على غير الفطرة التي فطر الله عليها رسوله ﷺ وأخبر النبي ﷺ أن من لا يتم ركوعه ولا سجوده أسوأ الناس سرقة وهذا يدل على أنه أسوأ حالا عند الله من سراق الأموال.
ونظير هذا قولهم: لو أن رجلا مسلما طاهر البدن عليه جنابة غمس يده في بئر بنية رفع الحدث صارت البئر كلها نجسة يحرم شرب مائها والوضوء منه والطبخ به فلو اغتسل فيها مائة نصراني قلف عابدو صليب أو مائة يهودي فماؤها باق على حاله طاهر مطهر يجوز الوضوء منه وشربه والطبخ به.
نظيره لو ماتت فأرة في ماء فصب ذلك الماء في بئر لم ينزح منها إلا عشرون دلوا فقط وتطهر بذلك ولو توضأ رجل مسلم طاهر الأعضاء بماء فسقط ذلك الماء في البئر فلابد أن تنزح كلها.
ونظير هذا قولهم: لو عقد على أمه أو أخته أو بنته ووطئها وهو يعلم أن الله حرم ذلك فلا حد عليه لأن صورة العقد شبهة ولو رأى امرأة في الظلمة ظنها امرأته فوطئها فعليه الحد ولم يكن ذلك شبهة.
ونظيره قولهم: لو أنه رشا شاهدين فشهدا بالزور المحض أن فلانا طلق امرأته ففرق الحاكم بينهما جاز له أن يتزوجها ويطأها حلالا بل ويجوز لأحد الشاهدين ذلك فلو حكم حاكم بصحة هذا العقد لم يجز نقض حكمه ولو حكم حاكم بالشاهد واليمين لنقض حكمه وقد حكم به النبي ﷺ.
ونظير ذلك قولهم: لو تزوج امرأة فخرجت مجنونة برصاء من قرنها إلى قدمها مجذومة عمياء مقطوعة الأطراف فلا خيار له وكذلك إذا وجدت هي الزوج كذلك فلا خيار لها وإن خرج الزوج من خيار عباد الله وأغناهم وأجملهم وأعلمهم وليس له أبوان في الإسلام وللزوجة أبوان في الإسلام فلها الفسخ بذلك.
ونظيره قولهم: يصح نكاح الشغار ويجب فيه مهر المثل وقد صح نهي رسول الله ﷺ عنه وتحريمه إياه ولا يصح نكاح من أعتق أمة وجعل عنقها صداقها وقد فعله رسول الله ﷺ.
ونظيره قولهم: يصح نكاح التحليل وقد صح لعنة رسول الله ﷺ لمن فعله من رواية عبد الله بن مسعود وأبي هريرة وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة ولا يصح نكاح الأمة لمضطر خائف العنت عادم الطول إذا كانت تحته حرة ولو كانت عجوزا شا لا تعفه.
ونظيره قولهم: يجوز بيع الكلب وقد منع منه النبي ﷺ وتحريم بيع المدبر وقد باعه رسول الله ﷺ.
ونظيره قولهم: للجار أن يمنع جاره أن يغرز خشبة هو محتاج إلى غرزها في حائطه وقد نهاه رسول الله ﷺ عن منمعه وتسليطهم إياه على انتزاع دراه كلها منه بالشفعة بعد وقوع الحدود وتصريف الطرق وقد أبطلها النبي ﷺ.
ونظيره قولهم لا يحكم بالقسامة لأنها خلاف الأصول ثم قالوا يحلف الذين وجدوا القتيل في محلتهم ودارهم خمسين يمينا ثم يقتضى عليهم بالدية فيالله العجب كيف كيف هذا وفق الأصول وحكم رسول الله ﷺ خلاف الأصول.
ونظيره قولهم: لو تزوج امرأة فقالت له امرأة أخرى أنا أرضعتك وزوجتك أو قال له رجل هذه أختك من الرضاعة جاز له تكذيبها ووطء الزوجة مع أن هذه هي الوقعة التي أمر رسول الله ﷺ عقبة ابن الحارث بفراق امرأته لأجل قول الأمة السوداء إنها أرضعتهما ولو اشترى طعاما أو ماء فقال له رجل هذا ذبيحة مجوسي أو نجس لم يسعه أن يتناوله مع أن الأصل في الطعام والماء الحل والأصل في الأبضاع التحريم ثم قالوا: لو قال المخبر: "هذا الطعام والشراب لفلان سرقه أو غصبه منه فلان" وسعه أن يتناوله.
ونظير هذا قولهم: لو أسلم وتحته أختان وخيرناه فطلق إحداهما كانت هي المختارة والتي أمسكها هي المفارقة قالوا: لأن الطلاق لا يكون إلا في زوجة وأصحاب أبي حنيفة تخلصوا من هذا بأنه إن عقد على الأختين في عقد واحد فسد نكاحهما واستأنف نكاح من شاء منهما وإن تزوج واحدة بعد واحدة فنكاح الأولى هو الصحيح ونكاح الثانية فاسد ولكن لزمهم نظيره في مسألة العبد إذا تزوج بدون إذن سيده كان موقوفا على إجازته فلو قال له طلقها طلاقا رجعيا كان ذلك إجازة منه للناكح فلو قال له: "طلقها" ولم يقل "رجعيا" لم يكن إجازة للنكاح مع ان الطلاق في هذا النكاح لا يكون رجعيا إلا بعد الإجازة وقبل الدخول وأما قبل الإجازة والدخول فلا ينقسم إلى بائن ورجعي.
المثال الثامن والعشرون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في أن من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح بكونها خلاف الأصول وبالمتشابه من نهيه ﷺ عن الصلاة وقت طلوع الشمس قالوا والعام عندنا يعارض الخاص فقد تعارض حاظر ومبيح فقدمنا الحاظر احتياطا فإنه يوجب عليه الصلاة وحديث الإتمام يجوز له المضي فيها وإذا تعارضا صبرنا إلى النص الذي يوجب الإعادة لتتيقن براءة الذمة فيقال لا ريب أن قوله ﷺ من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته حديث واحد قاله ﷺ في وقت واحد وقد وجبت طاعته في شطره فتجب طاعته في الشطر الآخر وهو محكم خاص لا يحتمل إلا وجها واحدا لا يحتمل غيره البتة وحديث النهي عن الصلاة في أوقات النهي عام مجمل قد خص منه عصر يومه بالإجماع وخص منه قضاء الفائتة والمنسية بالنص وخص منه ذوات الأسباب بالسنة كما قضى النبي ﷺ سنة الظهر بعد العصر وأقر من قضى سنة الفجر بعد صلاة الفجر وقد أعلمه أنها سنة الفجر وأمر من صلى في رحله ثم جاء مسجد جماعة ان يصلي معهم وتكون له نافلة وقاله في صلاة الفجر وهي سبب الحديث وأمر الداخل والإمام يخطب أن يصلي تحية المسجد قبل أن يجلس وأيضا فإن الأمر بإتمام الصلاة وقد طلعت الشمس فيها أمر بإتمام لا بابتداء والنهي عن الصلاة في ذلك الوقت نهي عن ابتدائها لا عن استدامتها فإنه لم يقل لا تتموا الصلاة في ذلك الوقت وإنما قال لا تصلوا وأين أحكام الابتداء من الدوام وقد فرق النص والإجماع والقياس بينهما فلا تؤخذ أحكام الدوام من أحكام الابتداء ولا أحكام اللابتداء من أحكام الدوام في عامة مسائل الشريعة فالإحرام ينافي ابتداء النكاح والطيب دون استدامتهما والنكاح ينافي قيام العدة والردة دون استدامتهما والحدث ينافي ابتداء المسح على الخفين دون استدامته وزوال خوف العنت ينافي ابتداء النكاح على الأمة دون استدامته عند الجمهور والزنا من المرأة ينافي ابتداء عقد النكاح دون استدامته عند الإمام أحمد ومن وافقه والذهول عن نية العبادة ينافي ابتداءها دون استدامتها وفقد الكفاءة ينافي لزوم النكاح في الابتداء دون الدوام وحصول الغنى ينافي جواز الأخذ من الزكاة ابتداء ولا ينافيه دواما وحصول الحجر بالسفه والجنون ينافي ابتداء العقد من المحجور عليه ولا ينافي دوامه وطريان ما يمنع الشهادة من الفسق والكفر والعداوة بعد الحكم بها لا يمنع العمل بها على الدوام ويمنعه في الابتداء والقدرة على التكفير بالمال تمنع التكفير بالصوم ابتداء لا دواما والقدرة على هدي التمتع تمنع الانتقال إلى الصوم ابتداء لا دواما والقدرة على الماء تمنع ابتداء التيمم اتفاقا وفي منعه لاستدامة الصلاة بالتيمم خلاف بين أهل العلم ولا يجوز إجارة العين المغصوبة ممن لا يقدر على تخليصها ولو غصبها بعد العقد من لا يقدر المستأجر على تخليصها منه لم تنفسخ الإجارة وخير المستأجر بين فسخ العقد وإمضائه ويمنع أهل الذمة من ابتداء إحداث كنيسة في دار الإسلام ولا يمنعون من استدامتها ولو حلف لا يتزوج ولا يتطيب أولا يتطهر فاستدام ذلك لم يحنث وإن ابتدأه حنث وأضعاف اضعاف ذلك من الأحكام التي يفرق فيها بين الابتداء والدوام فيحتاج في ابتدائها إلى ما لا يحتاج إليه في دوامها وذلك لقوة الدوام وثبوته واستقرار حكمه وأيضا فهو مستصحب بالأصل وأيضا فالدافع أسهل من الرافع وأيضا فأحكام التبع يثبت فيها مالا يثبت في المتبوعات والمستدام تابع لأصله الثابت فلو لم يكن في المسألة نص لكان القياس يقتضي صحة ما ورد به النص فكيف وقد توارد عليه النص والقياس.
فقد تبين أنه لم يتعارض في هذه المسألة عام وخاص ولا نص وقياس بل النص فيها والقياس متفقان والنص للعام لا يتناول مورد الخاص ولا هو داخل تحت لفظه ولو قدر صلاحية لفظه له فالخاص بيان لعدم إرادته فلا يجوز تعطيل حكمه وإبطاله بل تيعين إعماله واعتباره ولا تضرب أحاديث رسول الله ﷺ بعضها ببعض وهذه القاعدة أولى من القاعدة التي تتضمن إبطال إحدى السنتين وإلغاء أحد الدليلين والله الموفق.
ثم نقول: الصورة التي أبطلتم فيها الصلاة وهي حالة طلوع الشمس وخالفتم السنة أولى بالصحة من الصورة التي وافقتم فيها السنة فإنه إذا ابتدأ العصر قبل الغروب فقد ابتدأها في وقت نهي وهو وقت ناقص بل هو أولى الأوقات بالنقصان كما جعله النبي ﷺ وقت صلاة المنافقين حين تصير الشمس بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار وإنما كان النهي عن الصلاة قبل ذلك الوقت حريما له وسدا للذريعة وهو بخلاف من ابتدأ الصلاة قبل طلوع الشمس فإن الكفار حينئذ لا يسجدون لها بل ينتظرون بسجودهم طلوعها فكيف يقال تبطل صلاة من ابتدأها في وقت تام لا يسجد فيه الكفار للشمس وتصح صلاة من ابتدأها وقت سجود الكفار للشمس سواء وهو الوقت الذي تكون فيه بين قرني الشيطان فإنه حينئذ يقارنها ليقع السجود له كما يقارنها وقت الطلوع ليقع السجود له فإذا كان ابتداؤها وقت مقارنة الشيطان لها غير مانع من صحتها فلأن تكون استدامتها وقت مقارنة الشيطان غير مانع من الصحة بطريق الأولى والأخرى فإن كان في الدنيا قياس صحيح فهذا من أصحه فقد تبين ان الصورة التي خالفتم فيها النص أولى بالجواز قياسا من الصورة التي وافقتموه فيها.
وهذا مما حصلته عن شيخ الإسلام قدس الله روحه وقت القراءة عليه وهذه كانت طريقته وإنما يقرر أن القياس الصحيح هو ما دل عليه النص وأن من خالف النص للقياس فقد وقع في مخالفة القياس والنص معا وبالله التوفيق.
ومن العجب أنهم قالوا: لو صلى ركعة من العصر ثم غربت الشمس صحت صلاته وكان مدركا لها لقول رسول الله ﷺ: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" وهذا شطر الحديث وشطره الثاني "ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر".
المثال التاسع والعشرون: رد السنة الثابتة المحكمة الصريحة في دفع اللقطة إلى من وصف عفاصها ووعاءها ووكاءها وقالوا: هو مخالف للأصول فكيف يعطي المدعي بدعواه من غير بينة ثم لم ينشبوا أن قالوا: من ادعى لقيطا عند غيره ثم وصف علامات في بدنه فإنه يقضى له به بغير بينة ولم يروا ذلك خلاف الأصول وقالوا: من ادعى خصيا ومعاقد قمطة من جهته قضى له به ولم يكن ذلك خلاف الأصول ومن ادعى حائطا ووجوه الآجر من جهته قضي له به ولم يكن ذلك خلاف الأصول ومن ادعى مالا على غيره فأنكر ونكل عن اليمين قضي له بدعواه ولم يكن ذلك خلاف الأصول وإذا ادعى الزوجان ما في البيت قضي لكل واحد منهما بما يناسبه ولم يكن ذلك خلاف الأصول.
ونحن نقول: ليس في الأصول ما يبطل الحكم بدفع اللقطة إلى واصفها البتة بل هو مقتضى الأصول فإن الظن المستفاد بوصفه أعظم من الظن المستفاد بمجرد النكول بل وبالشاهدين فوصفه بينة ظاهرة على صحة دعواه لا سيما ولم يعارضه معارض فلا يجوز إلغاء دليل صدقه مع عدم معارض أقوى منه فهذا خلاف الأصول حقا لا موجب السنة.
المثال الثلاثون: رد السنة الثابتة المحكمة الصريحة في صحة صلاة من تكلم فيها جاهلا أو ناسيا بأنها خلاف الأصول ثم قالوا: من أكل في رمضان أو شرب ناسيا صح صومه مع اعترافهم بأن ذلك على خلاف الأصول والقياس لكن تبعنا فيه السنة فما الذي منعكم من تقديم السنة الأخرى على القياس والأصول كما قدمتم خبر القهقهة في الصلاة والوضوء بنبيذ التمر وآثار الآبار على القياس والأصول.
المثال الحادي والثلاثون: رد السنة الثابتة المحكمة في اشتراط البائع منفعة المبيع مدة معلومة بأنها خلاف الأصول ثم قالوا: يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع في الحال مع العلم بأنها لو قطعت لم تكن مالا ينتفع به ولا يساوي شيئا البتة ثم لهما أن يتفقا على بقائها إلى حين الكمال ودعوى أن ذلك موافق للأصول وهو عين ما نهى عنه النبي ﷺ.
المثال الثاني والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تخيير النبي ﷺ الولد بين أبويه وقالوا: هو خلاف الأصول ثم قالوا: إذا زوج الولي غير الأب الصغيرة صح وكان النكاح لازما فإذا بلغت انقلب جائزا وثبت لها الخيار بين الفسخ والإمضاء وهذا وفق الأصول فياللعجب أين في الأصول التي هي كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة المستند إلى الكتاب والسنة موافقة هذا الحكم للأصول ومخالفة حكم رسول الله ﷺ بالتخيير بين الأبوين للأصول.
المثال الثالث والثلاثون: رد السنة الثابتة الصحيحة الصريحة المحكمة في رجم الزانيين الكتابيين بأنها خلاف الأصول وسقوط الحد عمن عقد على أمه ووطئها وأن هذا هو مقتضى الأصول فياعجبا لهذه الأصول التي منعت إقامة الحد على من أقامه عليه رسول الله ﷺ وأسقتطه عمن لم يسقطه عنه فإنه ثبت عنه أنه أرسل البراء بن عازب إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن يضرب عنقه ويأخذ ماله فوالله ما رضي له بحد الزاني حتى حكم عليه بضرب العنق وأخذ المال وهذا هو الحق المحض فإن جريمته أعظم من جريمة من زنى بامرأة أبيه من غير عقد فإن هذا ارتكب محظورا واحدا والعاقد عليها ضم إلى جريمة الوطء جريمة العقد الذي حرمه الله فانتهك حرمة شرعه بالعقد وحرمة أمه بالوطء ثم يقال الأصول تقتضي سقوط الحد عنه وكذلك حكم رسول الله ﷺ برجم اليهوديين هو من أعظم الأصول فكيف رد هذا الأصل العظيم بالرأي الفاسد ويقال: أنه مقتضى الأصول.
فإن قيل: إنما حكم رسول الله ﷺ بالرجم بما في التوراة إلزاما لهما بما اعتقدا صحته.
قيل: هب أن الأمر كذلك أفحكم بحق يجب اتباعه وموافقته وتحرم مخالفته أم بغير ذلك فاختاروا أحد الجوابين ثم اذهبوا إلى ما شئتم.
المثال الرابع والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وجوب الوفاء بالشروط في النكاح وإنها أحق الشروط بالوفاء على الإطلاق بأنها خلاف الأصول والأخذ بحديث النهي عن بيع وشرط الذي لا يعلم له إسناد يصح مع مخالفته للسنة الصحيحة والقياس ولانعقاد الإجماع على خلافه ودعوى أنه موافق للأصول.
أما مخالفته للسنة الصحيحة فإن جابرا باع بعيره وشرط ركوبه إلى المدينة والنبي ﷺ قال: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع" فجعله للمشتري بالشرط الزائد على عقد البيع وقال: "من باع ثمرة قد أبرت فهي للبائع إلا أن يشترطها المبتاع" فهذا بيع وشرط ثابت بالسنة الصحيحة الصريحة.
وأما مخالفته للإجماع فالأمة مجمعة على جواز اشتراط الرهن والكفيل والضمين والتأجيل والخيار ثلاثة أيام ونقد غير نقد البلد فهذا بيع وشرط متفق عليه فكيف يجعل النهي عن بيع وشرط موافقا للأصول وشروط النكاح التي هي أحق الشروط بالوفاء مخالفة للأصول.
المثال الخامس والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في دفع الأرض بالثلث والربع مزارعة بأنها خلاف الأصول والأخذ بالحديث الذي لا يثبت بوجه أنه "نهى عن قفيز الطحان" وهو: أن يدفع حنطته إلى من يطحنها بقفيز منها أو غزلة إلى من ينسجه ثوبا بجزء منه أو زيتونة إلى من يعصره بجزء منه ونحو ذلك مما لا غرر فيه ولا خطر ولا قمار ولا جهالة ولا أكل مال بالباطل بل هو نظير دفع ماله إلى من يتجر فيه بجزء من الربح بل أولى فإنه قد لا يربح المال فيذهب عمله مجانا وهذا لا يذهب عمله مجانا فإنه يطحن الحب ويعصر الزيتون ويحصل على جزء منه يكون به شريكا لمالكه فهو أولى بالجواز من المضاربة فكيف يكون المنع منه موافقا للأصول والمزارعة التي فعلها رسول الله ﷺ وخلفاؤه الراشدون خلاف الأصول.
المثال السادس والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة التي رواها بضعة وعشرون صحابيا في أن المدينة حرم يحرم صيدها ودعوى أن ذلك خلاف الأصول ومعارضتها بالمتشابه من قوله ﷺ: "يا أبا عمير ما فعل النغير" ويالله العجب أي الأصول التي خالفتها هذه السنن وهي من أعظم الأصول فهلا رد حديث أبي عمير لمخالفته هذه الأصول ونحن نقول: معاذ الله أن نرد لرسول الله ﷺ سنة صحيحة غير معلومة النسخ أبدا وحديث أبي عمير يحتمل أربعة أوجه قد ذهب إلى كل منها طائفة أحدها: أن يكون متقدما على أحاديث تحريم المدينة فيكون منسوخا الثاني: أن يكون متأخرا عنها معارضا لها فيكون ناسخا الثالث: أن يكون النغير مما صيد خارج المدينة ثم أدخل المدينة كما هو الغالب من الصيود الرابع: أن يكون رخصة لذلك الصغير دون غيره كما زحف لأبي بردة في التضحية بالعناق دون غيره فهو متشابه كما ترى فكيف يجعل أصلا يقدم على تلك النصوص الكثيرة المحكمة الصريحة التي لا تحتمل إلا وجها واحدا.
المثال السابع والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تقدير نصاب المعشرات بخمسة أوسق بالمتشابه من قوله: "فيما سقت السماء العشر وما سقي بنضح أو غرب فنصف العشر" قالوا: وهذا يعم القليل والكثير وقد عارضه الخاص ودلالة العام قطعية كالخاص وإذا تعارضا قدم الأحوط وهو الوجوب فيقال: يجب العمل بكلا الحديثين ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر وإلغاء أحدهما بالكلية فإن طاعة الرسول فرض في هذا وفي هذا ولا تعارض بينهما بحمد الله بوجه من الوجوه فإن قوله: "فيما سقت السماء العشر" إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وما يجب فيه نصفه فذكر النوعين مفرقا بينهما في مقدار الواجب وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث وبينه نصا في الحديث الآخر فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير ما دل عليه البتة إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يتعلق فيه بعموم لم يقصد وبيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصها من النصوص ويالله العجب كيف يخصون عموم القرآن والسنة بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون مختلفا في الاحتجاج به وهو محل اشتباه واضطراب؟
إذ ما من قياس إلا وتمكن معارضته بقياس مثله أو دونه أو أقوى منه بخلاف السنة الصحيحة الصريحة فإنها لا يعارضها إلا سنة ناسخة معلومة التأخر والمخالفة ثم يقال: إذا خصصتم عموم قوله: "فيما سقت السماء العشر" بالقصب والحشيش ولا ذكر لهما في النص فهلا خصصتموه بقوله: "لا زكاة في حب ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق" وإذا كنتم تخصون العموم بالقياس فهلا خصصتم هذا العام بالقياس الجلي الذي هو من أجلى القياس وأصحه على سائر أنواع المال الذي تجب فيه الزكاة فإن الزكاة الخاصة لم يشرعها الله ورسوله في مال إلا وجعل له نصابا كالمواشي والذهب والفضة ويقال أيضا: فهلا أوجبتم الزكاة في قليل كل مال وكثيره عملا بقوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وبقوله ﷺ: "ما من صاحب إبل ولا بقر لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر" وبقوله: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له يوم القيامة صفائح من نار" وهلا كان هذا العموم عندكم مقدما على أحاديث النصب الخاصة وهلا قلتم: هناك تعارض مسقط وموجب فقدمنا الموجب احتياطا وهذا في غاية الوضوح وبالله التوفيق.
المثال الثامن والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز النكاح بما قل من المهر ولو خاتما من حديد مع موافقتها لعموم القرآن في قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم} وللقياس في جواز التراضي بالمعاوضة على القليل والكثير بأثر لا يثبت وقياس من أفسد القياس على قطع يد السارق وأين النكاح من اللصوصية وأين استباحة الفرج به من قطع اليد في السرقة وقد تقدم مرارا أن أصح الناس قياسا أهل الحديث وكلما كان الرجل إلى الحديث أقرب كان قياسه أصح وكلما كان عن الحديث أبعد كان قياسه أفسد.
المثال التاسع والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة فيمن أسلم وتحته أختان أنه يخير في إمساك من شاء منهما وترك الأخرى بأنه خلاف الأصول وقالوا قياس الأصول يقتضتي أنه إن نكح واحدة بعد واحدة فنكاح الثانية هو المردود ونكاح الأولى هو الصحيح من غير تخيير وإن نكحهما معا فنكاحهما باطل ولا تخيير وكذلك حديث من أسلم على عشر نسوة وربما أولوا التخيير بتخييره في ابتداء العقد على من شاء من المنكوحات ولفظ الحديث يأتي هذا التأويل أشد الإباء فإنه قال: "أمسك أربعا وفارق سائرهن" رواه معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن غيلان أسلم فذكره قال مسلم: هكذا روى معمر هذا الحديث بالبصرة فإن رواه عنه ثقة خارج البصريين حكمنا له بالصحة أو قال: صار الحديث صحيحا وإلا فالإرسال أولى قال البيهقي: فوجدنا سفيان بن سعيد الثوري وعبد الرحمن بن محمد المحاربي وعيسى بن يونس وثلاثتهم كوفيون حدثوا به عن معمر متصلا وهكذا عن يحيى بن أبي كثير وهو يماني وعن الفضل ابن موسى وهو خراساني عن معمر متصلا عن النبي ﷺ فصح الحديث بذلك وقد روى عن أيوب السختياني عن نافع وسالم عن ابن عمر متصلا قال أبو علي الحافظ: تفرد به سوار بن محيشر عن أيوب وسوار بصري ثقة قال الحاكم: رواة هذا الحديث كلهم ثقات تقوم الحجة بروايتهم وقد روى أبو داود عن فيروز الديلمي قال: قلت: يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان قال: "طلق أيتهما شئت".
فهذان الحديثان هما الأصول التي نرد ما خالفها من القياس أما أن نقعد قاعدة ونقول هذا هو الأصل ثم نرد السنة لأجل مخالفة تلك القاعدة فلعمر الله لهدم ألف قاعدة لم يؤصلها الله ورسوله أفرض علينا من رد حديث واحد وهذه القاعدة معلومة البطلان من الدين فإن أنكحه الكفار لم يتعارض لها ﷺ كيف وقعت وهل صادفت الشروط المعتبرة في لإسلام فتصح أم لم تصادفها فتبطل وإنما اعتبر حالها وقت إسلام الزوج فإن كان ممن يجوز له المقام مع امرأته أقرهما ولو كان في الجاهلية قد وقع على غير شرطه من الولي والشهود وغير ذلك وإن لم يكن الآن ممن يجوز له الاستمرار لم يقر عليه كما لو أسلم وتحته ذات رحم محرم أو أختان أو أكثر من أربع فهذا هو الأصل الذي أصلته سنة رسول الله ﷺ وما خالفه فلا يلتفت إليه والله الموفق.
المثال الأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة أن رسول الله ﷺ "لم يكن يفرق بين من أسلم وبين امرأته إذا لم تسلم معه بل متى أسلم الآخر فالنكاح بحاله ما لم تتزوج" هذه سنته المعلومة قال الشافعي: أسلم أبو سفيان بن حرب بمر الظهران وهي دار خزاعة وخزاعة مسلمون قبل الفتح وفي دار الإسلام ورجع إلى مكة وهند بنت عتبة مقيمة على غير الإسلام فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال ثم أسلمت هند بعد إسلام أبي سفيان بأيام كثيرة وقد كانت كافرة مقيمة بدار الإسلام وأبو سفيان بها مسلم وهند كافرة ثم أسلمت قبل انقضاء العدة واستقرا على النكاح لأن عدتها لم تنقض حتى أسلمت وكان كذلك حكيم بن حزام وإسلامه وأسلمت امرأة صفوان بن أمية وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة وصارت دارهما دار الإسلام وظهر حكم رسول الله ﷺ بمكة وهرب عكرمة إلى اليمن وهي دار حرب وصفوان يريد اليمن وهي دار حرب ثم رجع صفوان إلى مكة وهي دار الإسلام وشهد حنينا وهو كافر ثم أسلم فاستقرت عنده امرأته بالنكاح الأول وذلك أنه لم تنقض عدتها.
وقد حفظ أهل العلم بالمغازي أن امرأة من الأنصار كانت عند رجل بمكة فأسلمت وهاجرت إلى المدينة فقدم زوجها وهي في العدة فاستقرا على النكاح قال الزهري لم يبلغني أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها وإنه لم يبلغنا أن امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: "كان المشركون على منزلتين من النبي ﷺ: أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه وأهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر فإذا طهرت حل لها النكاح فإن هاجرت قبل أن تنكح ردت إليه".
وفي سنن أبي داود عن ابن عباس قال: "رد رسول الله ﷺ زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا بعد ست سنين" وفي لفظ الأحمد "ولم يحدث شهادة ولا صداقا" وعند الترمذي "ولم يحدث نكاحا" قال الترمذي هذا حديث حسن ليس بإسناده بأس وقد روى بإسناد ضعيف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ "ردها على أبي العاص بنكاح جديد" قال الترمذي: في إسناده مقال وقال الإمام أحمد: وهذا حديث ضعيف والصحيح أنه أقرهما على النكاح الأول وقال الدارقطني: هذا حديث لا يثبت والصواب حديث أبي عباس أن النبي ﷺ ردا بالنكاح الأول وقال الترمذي في كتاب العلل له: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: حديث ابن عباس في هذا الباب أصح من حديث عمرو بن شعيب فكيف تجعل هذا الحديث الضعيف أصلا ترد به السنة الصحيحة المعلومة ويجعل خلاف الأصول.
فإن قيل: إنما جعلناها خلاف الأصول لقوله تعالى {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وقوله {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} وقوله {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ولأن اختلاف الدين مانع من ابتداء النكاح فكان مانعا من دوامه كالرضاع.
قيل: لا تخالف السنة شيئا من هذه الأصول إلا هذا القياس الفاسد فإن هذه الأصول إنما دلت على تحريم نكاح الكافر ابتداء والكافرة غير الكتابيين وهذا حق لا خلاف فيه بين الأمة ولكن أين في هذه الأصول ما يوجب تعجل الفرقة بالإسلام وأن لا تتوقف على انقضاء العدة ومعلوم أن افتراقهما في الدين سبب لافتراقهما في النكاح ولكن توقف السبب على وجود شرطه وانتفاء مانعه لا يخرجه عن السببية فإذا وجد الشرط وانتفى المانع عمل عمله واقتضى أثره والقرآن إنما دل على السببية والسنة دلت على شرط السبب ومانعه كسائر الأسباب التي فصلت السنة شروطها وموانعها كقوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وقوله {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقوله {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وقوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} ونظائر ذلك فلا يجوز أن يجعل بيان الشروط والموانع معارضة لبيان الأسباب والموجبات فتعود السنة كلها أو أكثرها معارضة للقرآن وهذا محال.
المثال الحادي والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة بأن ذكاة الجنين ذكاة أمه بأنها خلاف الأصول وهو تحريم الميتة فيقال: الذي جاء على لسانه تحريم الميتة هو الذي أباح الأجنة المذكورة فلو قدر أنها ميتة لكان استثناؤها بمنزلة استثناء السمك والجراد من الميتة فكيف وليست بميتة فإنها جزء منأجزاء الم والذكاة قد أتت على جميع أجزائها فلا يحتاج أن يفرد كل جزء منها بذكاة والجنين تابع للأم جزء منها فهذا هو مقتضى الأصول الصحيحة ولو لم ترد السنة بالإباحة فكيف وقد وردت بالإباحة الموافقة للقياس والأصول؟
فإن قيل: فالحديث عليكم فإنه قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" والمراد التشبيه أي ذكاته كذكاة أمه وهذا يدل على أنه لا يباح إلا بذكاة تشبه ذكاة الأم.
قيل: هذا السؤال شقيق قول القائل كلمة تكفي العاقل فلو تأملتم الحديث لمتستحسنوا إيراد هذا السؤال: فإن لفظ الحديث هكذا: عن أبي سعيد قال: قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة وفي بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله قال: "كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه" فأباح لهم أكله معللا بأن ذكاة الأم له فقد اتفق النص والأصل والقياس ولله الحمد.
المثال الثاني والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في إشعار الهدي بأنها خلاف الأصول إذ الإشعار مثله ولعمر الله أن هذه السنة خلاف الأصول الباطلة وما ضرها ذلك شيئا والمثلة المحرمة هي العدوان الذي لا يكون عقوبة ولا تعظيما لشعائر الله فأما شق صفحة سنام البعير المستحب أو الواجب ذبحه ليسيل دمه قليلا فيظهر شعار الإسلام وإقامة هذه السنة التي هي من أحب الأشياء إلى الله فعلى وفق الأصول وأي كتاب أو سنة حرم ذلك حتى يكون خلافا للأصول.
وقياس الإشعار على المثلة المحرمة من أفسد قياس على وجه الأرض فإنه قياس ما يحبه الله ويرضاه على ما يبغضه ويسخطه وينهى عنه ولو لم يكن في حكمة الإشعار إلا تعظيم شعائر الله وإظهارها وعلم الناس بأن هذه قرابين الله عز وجل تساق إلى بيته تذبح له ويتقرب بها إليه عند بيته كما يتقرب إليه بالصلاة إلى بيته عكس ما عليه أعداؤه المشركون الذين يذبحون لأربابهم ويصلون لها فشرع لأوليائه وأهل توحيده أن يكون نسكهم وصلاتهم لله وحده وأن يظهروا شعائر توحيده غاية الإظهار ليعلوا دينه على كل دين فهذه هي الأصول الصحيحة التي جاءت السنة بالإشعار على وفقها ولله الحمد.
المثال الثالث والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة أن النبي ﷺ قال: "لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح" متفق عليه وفي أفراد مسلم "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه" وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد "اطلع رجل من جحر في حجرة رسول الله ﷺ ومعه مدرى يحك بها رأسه فقال: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الاستئذان من أجل النظر" وفي صحيح مسلم عن أنس "أن رجلا اطلع من بعض حجر رسول الله ﷺ فقام إليه بمشقص أو بمشاقص قال: وكأني أنظر إلى رسول الله ﷺ يختله ليطعنه" وفي سنن البيهقي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "من اطلع على قوم بغير إذنهم فرموه فأصابوا عينه فلا دية له ولا قصاص".
فردت هذه السنن بأنها خلاف الأصول فإن الله إنما أباح قلع العين بالعين لا بجناية النظر ولهذا لو جنى عليه بلسانه لم يقطع ولو استمع عليه بأذنه لم يجز أن يقطع أذنه.
فيقال: بل هذه السنن من أعظم الأصول فما خالفها فهو خلاف الأصول وقولكم: "إنما شرع الله سبحانه أخذ العين بالعين" فهذا حق في القصاص وأما العضو الجاني المتعدي الذي لا يمكن دفع ضرره وعدوانه إلا برميه فإن الآية تتناوله نفيا ولا إثباتا والسنة جاءت ببيان حكمه بيانا ابتدائيا لما سكت عنه القرآن لا مخالفا لما حكم به القرآن وهذا اسم آخر غير فقء العين قصاصا وغير دفع الصائل الذي يدفع بالأسهل فالأسهل إذ المقصود دفع ضرر صياله فإذا اندفع بالعصا لم يدفع بالسيف وأما هذا المتعدي بالنظر المحرم الذي لا يمكن الاحتراز منه فإنه إنما يقع على وجه الاختفاء والختل فهو قسم آخر غير الجاني وغير الصائل الذي لم يتحقق عدوانه ولا يقع هذا غالبا إلا على وجه الاختفاء وعدم مشاهدة غير الناظر إليه فلو كلف المنظور إليه إقامة البينة على جنايته لتعذرت عليه ولو أمر بدفعه بالأسهل فالأسهل ذهبت جناية عدوانه بالنظر إليه وإلى حريمه هدرا والشريعة الكاملة تأبى هذا وهذا فكان أحسن ما يمكن وأصلحه وأكفه لنا وللجاني ما جاءت به السنة التي لا معارض لها ولا دافع لصحتها من خذف ما هنالك وإن لم يكن هناك بصر عاد لم يضر خذف الحصاة وإن كان هنالك بصر عاد لا يلومن إلا نفسه فهو الذي عرضه صاحبه للتلف فأدناه إلى الهلاك والخاذف ليس بظالم له والناظر خائن ظالم والشريعة أكمل وأجل من أن تضيع حق هذا الذي قد هتكت حرمته وتحيله في الانتصار على التعزير بعد إقامة البينة فحكم الله فيه بما شرعه على لسان رسوله ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟
المثال الرابع والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وضع الجوائح بأنها خلاف الأصول كما في صحيح مسلم عن جابر يرفعه "لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق" وروى سفيان بن عيينة عن حميد عن سليمان عن جابر أن رسول الله ﷺ "نهى عن بيع السنين وأمر بوضع الجوائح" فقالوا: هذه خلاف الأصول فإن المشتري قد ملك الثمرة وملك التصرف فيها وتم نقل الملك إليه ولو ربح فيها كان الربح له فكيف تكون من ضمان البائع.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: أصيب رجل في عهد رسول الله ﷺ في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله ﷺ: "تصدقوا عليه فتصدقوا عليه" فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله ﷺ: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" وروى مالك عن أبي الرجال عن أمه عمرة أنه سمعها تقول: ابتاع رجل ثمر حائط في زمن رسول الله ﷺ فعالجه وأقام عليه حتى تبين له النقصان فسأل رب الحائط أن يضع عنه فحلف لا يفعل فذهبت أم المشتري إلى رسول الله ﷺ فذكرت له ذلك فقال رسول الله ﷺ: "تألى أن لا يفعل خيرا" فسمع بذلك رب المال فأتى إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله هو له.
والجواب أن وضع الجوائح لا يخالف شيئا من الأصول الصحيحة بل هو مقتضى أصول الشريعة ونحن بحمد الله نبين هذا بمقامين أما الأول: فحديث وضع الجوائح لا يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا وهو أصل بنفسه فيجب قبوله وأما ما ذكرتم من القياس فيكفي في فساده شهادة النص له بالإهدار كيف وهو فاسد في نفسه وهذا يتبين بالمقام الثاني وهو أن وضع الجوائح كما هو موافق للسنة الصحيحة الصريحة فهو مقتضى القياس الصحيح فإن المشتري لم يتسلم الثمرة ولم يقبضها القبض التام الذي يوجب نقل الضمان إليه فإن قبض كل شيء بحسبه وقبض الثمار إنما يكون عند كمال إدراكها شيئا فشيئا فهو كقبض المنافع في الإجارة وتسليم الشجرة إليه كتسليم العين المؤجرة من الأرض والعقار والحيوان وعلق البائع لم تنقطع عن المبيع فإن له سقي الأصل وتعاهده كما لم تنقطع علق المؤجر عن العين المستأجرة والمشتري لم يتسلم التسليم التام كما لم يتسلم المستأجر التسليم التام فإذا جاء أمر غالب اجتاح الثمرة من غير تفريط من المشتري لم يحل للبائع إلزامه بثمن ما أتلفه الله سبحانه منها قبل تمكنه من قبضها القبض المعتاد وهذا معنى قول النبي ﷺ: "أرأيت إن منع الله الثمرة؟ فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟" فذكرالحكم وهو قوله: "فلا يحل له أن يأخذ منه شيئا" وعلة الحكم وهو قوله أرأيت إن منع الله الثمرة إلى آخره وهذا الحكم نص لا يحتمل التأويل والتعليل وصف مناسب لا يقبل الإلغاء ولا المعارضة وقياس الأصول لا يقتضي غير ذلك ولهذا لو تمكن من القبض المعتاد في وقته ثم أخره لتفريط منه أو لانتظار غلاء السعر كان التلف من ضمانه ولم توضع عنه الجائحة.
وأما معارضة هذه السنة بحديث الذي أصيب في ثمار ابتاعها فمن باب رد المحكم بالمتشابه فإنه ليس فيه أنه أصيب فيها بجائحة فليس في الحديث أنها كانت جائحة عامة بل لعله أصيب فيها بانحطاط سعرها وإن قدر أن المصيبة كانت جائحة فليس في الحديث أنها كانت جائحة عامة بل لعلها جائحة خاصة كسرقة اللصوص التي يمكن الاحتراز منها ومثل هذا لا يكون جائحة تسقط الثمن عن المشتري بخلاف نهب الجيوش والتلف بآفة سماوية وإن قدر أن الجائحة عامة فليس في الحديث ما يبين أن التلف لم يكن بتفريطه في التأخير ولو قدر أن التلف لم يكن بتفريطه فليس فيه أنه طلب الفسخ وأن توضع عنه الجائحة بل لعله رضي بالمبيع ولم يطلب الوضع والحق في ذلك له: إن شاء طلبه وإن شاء تركه فأين في الحديث أنه طلب ذلك وأن النبي ﷺ منع منه ولا يتم الدليل إلا بثبوت المقدمتين فكيف يعارض نص قوله الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل عيد معنى واحد وهو نص فيه بهذا الحديث المتشابه ثم قوله فيه: "ليس لكم فيه إلا ذلك" دليل على أنه لم يبق لبائعي الثمار في ذمة المشتري غير ما أخذه وعندكم المال كله في ذمته فالحديث حجة عليكم.
وأما المعارضة بخبر مالك فمن أبطل المعارضات وأفسدها فأين فيه أنه أصابته جائحة بوجه ما وإنما فيه أنه عالجه وأقام عليه حتى تبين له النقصانومثل هذا لا يكون سببا لوضع الثمن وبالله التوفيق.
المثال الخامس والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وجوب الإعادة على من صلى خلف الصف وحده كما في المسند بإسناد صحيح وصحيحي ابن حبان وابن خزيمة عن علي بن شيبان "أن رسول الله ﷺ رأى رجلا يصلي خلف الصف فوقف حتى انصرف الرجل فقال له: استقبل صلاتك فلا صلاة لفرد خلف الصف" وفي السنن وصحيحي ابن حبان وابن خزيمة عن وابصة بن معبد أن رسول الله ﷺ رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد صلاته وفي مسند الإمام أحمد سئل رسول الله ﷺ عن رجل صلى وحده خلف الصف قال: "يعيد صلاته" فردت هذه السنن المحكمة بأنها خلاف الأصول ولعمر الله إنها هي محض الأصول وما خالفها فهو خلاف الأصول وردت بالمتشابه من حديث ابن عباس حيث أحرم عن يسار النبي ﷺ فأداره إلى يمينه ولم يأمره باستقبال الصلاة وهذا من أفسد الرد فإنه لا يشترط أن تكون تكبيرة الإحرام من المأمومين في حال واحد بل لو كبر أحدهم وحده ثم كبر الآخر بعده صحت القدوة ولم يكن السابق فذا وإن أحرم وحده فالاعتبار بالمصافة فيما تدرك به الركعة وهو الركوع وأفسد من هذا الرد رد الحديث بأن الإمام يقف فذا وسنة رسول الله ﷺ أجل وأعظم في صدور أهلها أن تعارض بهذا وأمثاله وأقبح من هذه المعارضة معارضتها بأن المرأة تقف خلف الصف وحدها فإن هذا هو موقفها المشروع بل الواجب كما أن موقف الإمام المشروع أن يكون وحده أمام الصف وأما موقف الفذ خلف الصف فلم يشرعه رسول الله ﷺ البتة بل شرع الأمر بإعادة الصلاة لمن وقف فيه وأخبر أنه لا صلاة له.
فإن قيل: فهب أن هذه المعارضات لم يسلم منها شيء فما تصنعون بحديث أبي بكرة حين ركع دون الصف ثم مشى راكعا حتى دخل في الصف فقال له النبي ﷺ: "زادك الله حرصا ولا تعد" ولم يأمره بإعادة الصلاة وقد وقعت منه تلك الركعة فذا؟
قيل: نقبله على الرأس والعينين وتمسك قوله ﷺ: "لا تعمد" فلو فعل أحد ذلك غير عالم بالنهي لقلنا له كما قال رسول الله ﷺ سواء فإن عاد بعد علمه بالنهي فإما أن يجتمع مع الإمام في الركوع وهو في الصف أو لا فإن جامعه في الركوع وهو في الصف صحت صلاته لأنه أدرك الركعة وهو غير فذ كما لو أدركها قائما وإن رفع الإمام رأسه من الركوع قبل أن يدخل في الصف فقد قيل تصح صلاته وقيل لا تصح له تلك الركعة ويكون فذا فيها والطائفتان احتجوا بحديث أبي بكرة والتحقيق أنه قضية عين يحتمل دخوله في الصف قبل رفع الإمام ويحتمل أنه لم يدخل فيه حتى رفع الإمام وحكاية الفعل لا عموم لها فلا يمكن أن يحتج بها على الصورتين فهي إذا مجملة متشابهة فلا يترك لها النص المحكم الصريح فهذا مقتضى الأصول نصا وقياسا وبالله التوفيق.
المثال السادس والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز الأذان للفجر قبل دخول وقتها كما في الصحيحين من حديث سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي ﷺ أنه قال: "إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم" وفي صحيح مسلم عن سمرة عن النبي ﷺ "لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى ينفجر الفجر" وهو في الصحيحين من حديث ابن مسعود ولفظه "لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو قال ينادي بليل ليرجع قائمكم وينتبه نائمكم" قال مالك: لم تزل الصبح ينادى لها قبل الفجر فردت هذه السنة لمخالفتها الأصول والقياس على سائر الصلوات وبحديث حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر "أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي ﷺ أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام ألا إن العبد نام" فرجع فنادى "ألا إن العبد نام" ولا ترد السنة الصحيحة بمثل ذلك فإنها أصل بنفسها وقياس وقت الفجر على غيره من الأوقات لو لم يكن فيه إلا مصادمته للسنة لكفى في رده فكيف والفرق قد أشار إليه ﷺ وهو ما في النداء قبل الوقت من المصلحة والحكمة التي لا تكون في غير الفجر وإذا اختص وقتها بأمر لا يكون في سائر الصلوات امتنع الإلحاق.
وأما حديث حماد عن أيوب فحديث معلول عند أئمة الحديث لا تقوم به حجة قال أبو داود: لم يروه عن أيوب إلا حماد بن سلمة وقال إسحاق ابن إبراهيم بن حبيب: سألت عليا وهو ابن المديني عن حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر أن بلالا أذن بليل فقال له النبي ﷺ: "ارجع فناد إن العبد نام" فقال: هو عندي خطأ لم يتابع حماد بن سلمة على هذا إنما روى أن بلالا كان ينادي بليل قال البيهقي: قد تابعه سعيد بن رزين وهو ضعيف وأما حماد بن سلمة فإنه أحد أئمة المسلمين حتى قال الإمام أحمد: إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتهمه فإنه كان شديدا على أهل البدع قال البيهقي: إلا أنه لما طعن في السن ساء حفظه فلذلك ترك البخاري الاحتجاج بحديثه وأما مسلم فاجتهد في أمره وأخرج من حديثه عن ثابت ما سمع منه قبل تغيره وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ أكثر من اثني عشر حديثا أخرجها في الشواهد دون الاحتجاج به وإذا كان الأمر كذلك فالاحتياط لمن راقب الله عز وجل أن لا يحتج بما يجد من حديثه مخالفا لأحاديث الثقات الأثبات وهذا الحديث من جملتها.
ثم ذكر من طريق الدارقطني عن معمر عن أيوب قال: أذن بلال مرة بليل قال الدارقطني: هذا مرسل ثم ذكر من طريق إبراهيم وعبد العزيز ابن عبد الملك بن أبي محذورة عن عبد العزيز بن أبي رواد عن ابن عمر أن بلالا قال له النبي ﷺ: "ما حملك على ذلك؟ قال: استيقظت وأنا وسنان فظننت أن الفجر قد طلع فأمره النبي ﷺ أن ينادي في المدينة: ألا إن العبد قد نام وأقعده إلى جانبه حتى طلع الفجر" ثم قال: هكذا رواه إبراهيم عن عبد العزيز وخالفه شعيب بن حرب فقال: عن عبد العزيز عن نافع عن مؤذن لعمر يقال له مسروح أنه أذن قبل الصبح فأمره عمر أن ينادي: ألا إن العبد قد نام أبو داود: ورواه حماد بن زيد عن عبيد الله بن عمر عن نافع أو غيره أن مؤذنا لعمر يقال له مسروح أو غيره ورواه الدراوردي عن عبيد الله بن عمر: عن نافع عن ابن عمر: كان لعمر مؤذن يقال له مسعود فذكر نحوه قال أبو داود: وهذا أصح من ذلك يعني حديث عمر أصح قال البيهقي: وروى من وجه آخر عن عبد العزيز موصولا ولا يصح رواه عامر بن مدرك عنه عن نافع عن ابن عمر: أن بلالا أذن قبل الفجر فغضب النبي ﷺ وأمره أن ينادي: إن العبد نام فوجد بلال وجدا شديدا.
قال الدارقطني: وهم فيه عامر بن مدرك والصواب عن شعيب بن حرب عن عبد العزيز عن نافع عن مؤذن عمر عن عمر من قوله وروى عن أنس ابن مالك ولا يصح وروى عن أبي يوسف القاضي عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس: أن بلالا أذن قبل الفجر فأمره رسول الله ﷺ أن يصعد فينادي: ألا إن العبد نام ففعل وقال: ليت بلالا لم تلده أمه وابتل من نضح جبينه قال الدارقطني: تفرد به أبو يوسف عن سعيد يعني موصولا وغيره يرسله عن سعيد عن قتادة عن النبي ﷺ والمرسل أصح ورواه الدارقطني من طريق محمد بن القاسم الأسدي: ثنا الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس ثم قال: محمد بن القاسم الأسدي ضعيف جدا وقال البخاري: كذبه الإمام أحمد وروى عن حميد بن هلال أن بلالا أذن ليلة بسواد فأمره النبي ﷺ أن يرجع إلى مقامه فينادي: إن العبد نام ورواه إسماعيل بن مسلم عن حميد عن أبي قتادة وحميد لم يلق أبا قتادة فهو مرسل بكل حال وروى عن شداد مولى عياض قال جاء بلال إلى النبي ﷺ وهو يتسحر فقال: لا تؤذن حتى يطلع الفجر وهذا مرسل قال أبو داود: شداد مولى عياض لم يدرك بلالا.
وروى الحسن بن عمارة عن طلحة بن مصرف عن سويد بن غفلة عن بلال قال: "أمرني رسول الله ﷺ ألا أؤذن حتى يطلع الفجر" وعن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال مثله ولم يروه هكذا غير الحسن بن عمارة وهو متروك ورواه الحجاج بن أرطاة عن طلحة وزبيد عن سويد بن غفلة أن بلالا لم يؤذن حتى ينشق الفجر هكذا رواه لم يذكر فيه أمر النبي ﷺ وكلاهما ضعيفان.
وروى عن سفيان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان أن النبي ﷺ قال لبلال: "لا تؤذن" وجمع سفيان أصابعه الثلاث لا تؤذن حتى يقول الفجر هكذا وصف سفيان بين السبابتين ثم فرق بينهما قال وروينا عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود ما دل على أذان بلال بليل وأن رسول الله ﷺ ذكر معاني تأذينه بالليل وذلك أولى بالقبول لأنه موصول وهذا مرسل.
وروى عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق عن الأسود قال قالت لي عائشة: "كان رسول الله ﷺ إذا أوتر من الليل رجع إلى فراشه فإذا أذن بلال قام فكان بلال يؤذن إذا طلع الفجر فإن كان جنبا اغتسل وإن لم يكن توضأ ثم صلى ركعتين" وروى الثوري عن أبي إسحاق في هذا الحديث قال: ما كان المؤذن يؤذن حتى يطلع الفجر.
وروى شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود: سألت عائشة عن صلاة رسول الله ﷺ بالليل قالت: "كان ينام أول الليل فإذا كان السحر أوى ثم يأتي فراشه فإن كانت له حاجة إلى أهله ألم بهم ثم ينام فإذا سمع النداء وربما قالت: الأذان وثب وربما قالت: قام فإذا كان جنبا أفاض عليه الماء وربما قالت: اغتسل وإن لم يكن جنبا توضأ ثم خرج للصلاة" وقال زهير ابن معاوية عن أبي إسحاق في هذا الحديث فإذا كان عند النداء الأول وثب.
قال البيهقي: وفي روايته رواية شعبة كالدليل على أن هذا النداء كان قبل طلوع الفجر وهي موافقة لرواية القاسم عن عائشة وذلك أولى من رواية من خالفها.
وروى عن عبد الكريم عن نافع عن ابن عمر عن حفصة قالت: "كان رسول الله ﷺ إذا أذن المؤذن صلى الركعتين ثم خرج إلى المسجد وحرم الطعام وكان لا يؤذن إلا بعد الفجر" قال البيهقي: هكذا في هذه الرواية وهو محمول إن صح على الأذان الثاني والصحيح عن نافع بغير هذا اللفظ ورواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن حفصة زوج النبي ﷺ أنها أخبرته أن رسول الله ﷺ "كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة" والحديث في الصحيحين.
فإن قبل عمدتكم في هذا إنما هو على حديث بلال ولا يمكن الاحتجاج به فإنه قد اضطرب الرواة فيه هل كان المؤذن بلالا أو ابن أم مكتوم وليست إحدى الروايتين أولى من الأخرى فتتساقطان فروى شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال سمعت عمتي أنيسة أن رسول الله ﷺ قال: "إن ابن مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال" رواة البيهقي وابن حبان في صحيحه.
فالجواب أن هذا الحديث قد رواه ابن عمر وعائشة وابن مسعود وسمرة بن جندب عن النبي ﷺ "أن بلالا يؤذن بليل" وهذا الذي رواه صاحبا الصحيح ولم يخلف عليهم في ذلك وأما حديث أنيسة فاختلف عليها في ثلاثة أوجه أحدها: كذلك رواه محمد بن أيوب عن أبي الوليد وابن عمر عن شعبة الثاني: كحديث عائشة وابن عمر "إن بلالا يؤذن بليل" هكذا رواه محمد بن يونس الكديمي عن أبي الوليد عن شعبة وكذلك رواه أبو داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق عن شعبة الثالث: روى على الشك إن بلالا يؤذن بليل فكلوا اشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم أو قال: "ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال" كذلك رواه سليمان بن حرب وجماعة والصواب رواية أبي داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق لموافقتها لحديث ابن عمر وعائشة وأما رواية أبي الوليد وابن عمر فيمما انقلب فيها لفظ الحديث وقد عارضها رواية الشك ورواية الجزم بأن المؤذن بليل هو بلال وهو الصواب بلا شك فإن ابن أم مكتوم كان ضرير البصر ولم يكن له علم بالفجر فكان إذا قيل له طلع الفجر أذن وأما ما ادعاه بعض الناس أن النبي ﷺ جعل الأذان نوبا بين بلال وابن أم مكتوم وكان كل منهما في نوبته يؤذن بليل فأمر النبي ﷺ الناس أن يأكلواويشربوا حتى يؤذن الآخر فهذا كلام باطل على رسول الله ﷺ ولم يجىء في ذلك أثر قط لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مرسل ولا متصل ولكن هذه طريقة من يجعل غلط الرواة شريعة ويحملها على السنة وخبر ابن مسعود وابن عمر وعائشة وسمرة الذي لم يخنلف عليهم فيه أولى بالصحة والله أعلم.
المثال السابع والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المستفيظة عن النبي ﷺ في الصلاة على القبر كما في الصحيحين من حديث ابن عباس: "أن النبي صلى على قبر منبوذ فصفهم وتقدم فكبر عليه أربعا" وفيهما من حديث أبي هريرة: "أنه صلى على قبر امرأة سوداء كانت تقم المسجد" وفي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي ﷺ "صلى على قبر امرأة بعدما دفنت" وفي سنن البيهقي والدارقطني عن ابن عباس أن النبي ﷺ "صلى على قبر بعد شهر" وفيهما عنه "أن النبي صلى على ميت بعد ثلاث" وفي جامع الترمذي "أن النبي ﷺ صلى على أم سعد بعد شهر" فردت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" وهذا حديث صحيح والذي قاله هو النبي ﷺ الذي صلى على قبر فهذا قوله وهذا فعله ولا يناقض أحدهما الآخر فإن الصلاة المنهي عنها إلى القبر غير الصلاة التي على القبر فهذه صلاة الجنازة على الميت التي لا تختص بمكان بل فعلها في غير المسجد أفضل من فعلها فيه فالصلاة عليه على قبره من جنس الصلاة عليه على نعشه فإنه المقصود بالصلاة في الموضعين ولا فرق بين كونه على النعش وعلى الأرض وبين كونه في بطنها بخلاف سائر الصلوات فإنها لم تشرع في القبور ولا إليها لأنها ذريعة إلى اتخاذها مساجد وقد لعن رسول الله ﷺ من فعل ذلك فأين ما لعن فاعله وحذر منه وأخبر أن أهله شرار الخلق كما قال: "إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهو احياء والذين يتخذون القبور مساجد" إلى ما فعله ﷺ مرارا متكرارا وبالله التوفيق.
المثال الثامن والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في النهي عن الجلوس على فراش الحرير كما في صحيح البخاري من حديث حذيفة "نهانا رسول الله ﷺ أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن الحرير والديباج وأن نجلس عليه وقال: هو لهم في الدنيا ولنا في الآخرة" ولو لم يأت هذا النص لكان النهي عن لبسه متناولا لافتراشه كما هو متناول للالتحاف به وذلك لبس لغة وشرعا منا قال أنس: قمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس ولو لم يأت اللفظ العام المتناول لافتراشه بالنهي لكان القياس المحض موجبا لتحريمه إما قياس المثل الأولى فقد دل على تحريم الافتراش النص الخاص اللفظ العام والقياس الصحيح ولا يجوز رد ذلك كله بالمتشابه من قوله {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ومن القياس على ما إذا كان الحرير بطانة الفراش دون ظهارته فإن الحكم في ذلك التحريم على أصح القولين والفرق على القول الآخر مباشرة الحرير وعدمها كحشو الفراش به فإن صح الفرق بطل القياس وإن بطل الفرق منع الحكم.
وقد تمسك بعموم النهي عن افتراش الحرير طائفة من الفقهاء فحرموه على الرجال والنساء وهذه طريقة الخراسانيين من أصحاب الشافعي وقابلهم من أباحه للنوعين والصواب التفصيل وأن من أبيح له لبسه أبيح له افتراشه ومن حرم عليه حرم عليع وهذا قول الأكثرين وهي طريقة العراقيين من الشافعية.
المثال التاسع والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في خرص الثمار في الزكاة والعرايا وغيرها إذا بدا صلاحها كما رواه الشافعي عن عبد الله بن نافع عن محمد بن صالح التمار عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أن رسول الله ﷺ قال في زكاة الكرم: "يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمرا" وبهذا الإسناد بعينه أن رسول الله ﷺ "كان يبعث من يخرص على الناس فدعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ورواه أبو داود كرومهم وثمارهم" وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال: سمعت عبد الرحمن بن مسعود بن نيار يقول: أتانا سهل بن أبي حثمة إلى مجلسنا فحدثنا أن رسول الله ﷺ قال: "إذا خرصتم في السنن وروى فيها أيضا عن عائشة:: كان النبي ﷺ يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه ثم يخير يهود فيأخذونه بذلك الخرص أم يدفعونه إليهم بذلك الخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق" وروى الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله ﷺ قال ليهود خيبر: "أقركم على ما أقركم الله على أن التمر بيننا وبينكم" قال: وكان رسول الله ﷺ يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص عليهم ثم يقول: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي وكانوا يأخذونه وفي الصحيحين أن رسول الله ﷺ "خرص حديقة المرأة وهو ذاهب إلى تبوك" وقال لأصحابه: اخرصوها فخرصوها بعشرة أوسق فلما قفل رسول الله ﷺ سألوا المرأة عن الحديقة فقالت: بلغ عشرة أوسق وفي الصحيحين من حديث زيد بن ثابت: "رخص رسول الله ﷺ لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها تمرا" رصح عن عمر بن الخطاب أنه بعث سهل بن أبي حثمة على خرص التمر وقال: "إذا أتيت أرضا فأخرصها ودع لهم قدر ما يأكلون" فردت هذه السنن كلها بقوله تعالى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوه} قالوا: والخرص من باب القمار والميسر فيكون تحريمه ناسخا لهذه الآثار وهذا من أبطل الباطل فإن الفرق بين القمار والميسر والخرص المشروع كالفرق بين البيع والربا والميتة والمذكى وقد نزه الله رسوله وأصحابه عن تعاطي القمار وعن شرعه وعن إدخاله في الدين: ويالله العجب أكان المسلمون يقامرون إلى زمن خيبر ثم استمروا على ذلك إلى عهد الخلفاء الراشدين ثم انقضى عصر الصحابة وعصر التابعين على القمار ولا يعرفون أن الخرص قمار حتى بينه بعض فقهاء الكوفة وهذا والله الباطل حقا والله الموفق.
المثال الخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في صفة صلاة الكسوف وتكرار الركوع في كل ركعة كحديث عائشة وابن عباس وجابر وأبي بن كعب وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري كلهم روى عن النبي ﷺ تكرار الركوع في الركعة الواحدة فردت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: "كنت يوما أرمي بأسهم وأنا بالمدينة فانكسفت الشمس فجمعت أسهمي وقلت: لأنظرن ماذا أحدث رسول الله ﷺ في كسوف الشمس فكنت خلف ظهره فجعل يسبح ويكبر ويدعو حتى حسر عنها فصلى ركعتين وقرأ بسورتين" رواه مسلم في صحيحه وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ فصلى ركعتين وهذا لا يناقض رواية من روى أنه ركع في كل ركعة ركوعين فهي ركعتان وتعدد ركوعهما كما يسميان سجدتين مع تعدد سجودهما كما قال ابن عمر: حفظت عن رسول الله ﷺ سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعدها وكثيرا ما يجيء في السنن إطلاق السجدتين على الركعتين فسنة رسول الله ﷺ يصدق بعضها بعضا لا سيما والذين رووا تكرار الركوع أكثر عددا وأجل وأخص برسول الله ﷺ من الذين لم يذكروه.
فإن قيل: ففي حديث أبي بكرة "فصلى ركعتين نحوا مما تصلون" وهذا صريح في إفراد الركوع.
قيل: هذا الحديث رواه شعبة عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أبي بكرة دون الزيادة المذكورة وهو الذي رواه البخاري في صحيحه وزاد إسماعيل بن علية هذه الزيادة فإن رحجنا بالحفظ والإتقان فشعبة شعبة وإن قبلنا الزيادة فرواية من زاد في كل ركعة ركوعا آخر زائدة على رواية من روى ركوعا واحدا فتكون أولى.
فإن قيل: فما تصنعون بالسنة المحكمة الصريحة من رواية سمرة بن جندب والنعمان بن بشير وعبد الله بن عمرو أنه صلاها ركعتين كل ركعة بركوع واحد وبحديث قبيصة الهلالي عنه ﷺ "وإذا رأيتم ذلك فصلوها كإحدى صلاة صليتموها من الكتوبة" وهذه الأحاديث في المسند وسنن النسائي وغيرهما.
قيل الجواب من ثلاثة أوجه أحدها: أن أحاديث تكرار الركوع أصح إسنادا وأسلم من العلة والاضطراب لا سيما حديث عبد الله بن عمرو فإن الذي في الصحيحين عنه أنه قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ فنودي أن الصلاة جامعة فركع النبي ﷺ ركعتين في سجدة ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جلس حتى جلي عن الشمس" فهذا أصح وأصرح من حديث كل ركعة بركوع فلم يبق إلا حديث سمرة بن جندب والنعمان بن بشير وليس منهما شيء في الصحيح الثاني: أن رواتها من الصحابة أكبر وأكثر وأحفظ وأجل من سمرة والنعمان بن بشير فلا ترد روايتهم بها الثالث: أنها متضمنة لزيادة فيجب الأخذ بها وبالله التوفيق.
المثال الحادي والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الجهر في صلاة الكسوف كما في صحيح البخاري من حديث الأوزاعي عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة ان رسول الله ﷺ "قرأ قراءة طويلة يجهر بها في صلاة الكسوف" قال البخاري: تابعه سليمان بن كثير وسفيان ابن حسين عن الزهري.
قلت: أما حديث سليمان بن كثير ففي مسند أبي داود الطيالسي حدثنا سليمان بن كثير عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي ﷺ جهر بالقراءة في صلاة الكسوف وقد تابعه عبد الرحمن بن نمر عن الزهري وهو في الصحيحين أنه سمع ابن شهاب يحدث عن عروة عن عائشة "كسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ فبعث رسول الله ﷺ مناديا ان الصلاة جامعة فاجتمع الناس فتقدم رسول الله ﷺ فكبر وافتتح القرآن وقرأ قراءة طويلة يجهر بها" فذكر الحديث. قال البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة. قلت يريد قول سمرة: "صلى بنا رسول الله ﷺ في كسوف لم نسمع له صوتا" وهو أصرح منه بلا شك وقد تضمن زيادة الجهر فهذه ثلاث ترجيحات.
والذي ردت به هذه السنة المحكمة هو المتشابه من قول ابن عباس: "إنه صلى الكسوف فقرأ نحوا من سورة البقرة" قالوا: فلو سمع ما قرأ لم يقدره بسورة البقرة وهذا يحتمل وجوها أحدها: أنه لم يجهر الثاني: أنه جهر ولم يسمعه ابن عباس الثالث: أنه سمع ولم يحفظ ما قرأ به فقدره بسورة البقرة فإن ابن عباس لم يجمع القرآن في حياة النبي ﷺ وإنما جمعه بعده الرابع: أن يكون نسي ما قرأ به وحفظ قدر قراءته فقدرها بالبقرة ونحن نرى الرجل ينسى ما قرأ به الإمام في صلاة يومه فكيف يقدم هذا اللفظ المجمل على الصريح المحكم الذي يحتمل إلا وجها واحدا؟
ومن العجب أن أنسا روى ترك جهر النبي ﷺ ببسم الله الرحمن الرحيم ولم يصح عن صحابي خلافه فقلتم كان صغيرا يصلي خلف الصفوف فلم يسمع البسملة وابن عباس أصغر سنا منه بلا شك وقدمتم عدم سماعه للجهر على من سمعه صريحا فهلا قلتم كان صغيرا فلعله صلى خلف الصف فلم يسمعه جهر.
وأعجب من هذا قولكم: إن أنسا كان صغيرا لم يسمع تلبية رسول الله ﷺ "لبيك حجا وعمرة" وقدمتم قول ابن عمر عليه أنه أفرد الحج وأنس إذ ذاك له عشرون سنة وابن عمر لم يستكملها وهو بسن أنس وقوله: "أفرد الحج" مجمل وقول أنس سمعته يقول لبيك عمرة وحجا محكم مبين صريح لا يحتمل غير ما يدل عليه وقد قال ابن عمر: تمتع رسول الله ﷺ بالعمرة إلى الحج وبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فقدمتم على حديث أنس الصحيح الصريح المحكم الذي لم يختلف عليه فيه حديثا ليس مثله في الصراحة والبيان ولم يذكر رواية لفظ النبي ﷺ وقد اختلف عليه فيه.
المثال الثاني والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الاكتفاء في بول الغلام الذي لم يطعم بالنضج دون الغسل كما في الصحيحين عن أم قيس "أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام فأجلسه رسول الله ﷺ في حجره فبال عليه فدعا رسول الله ﷺ بماء فنضحه ولم يغسله".
وفي الصحيحين أيضا عن عائشة أن رسول الله ﷺ "كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم فأتى بصبي فبال عليه فدعا بماء فأتبعه ولم يغسله" وفي سنن أبي داود عن أمامة بنت الحارث قالت: كان الحسين بن علي عليهما السلام في حجر النبي ﷺ فبال عليه فقالت البس ثوبا وأعطني إزارك حتى أغسله فقال: "إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر" وفي المسند غيره عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله ﷺ "بول الغلام الرضيع ينضح وبول الجارية يغسل" قال قتادة: هذا ما لم يطعما فإذا طعما غسلا جميعا قال الحاكم أبو عبد الله: هذا حديث صحيح الإسناد فإن أبا الأسود الدؤلي صح سماعه عن علي عليه السلام وقال الترمذي: حديث حسن وفي سنن أبي داود من حديث أبو السمح خادم النبي ﷺ قال قال رسول الله ﷺ: "يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام" وفي المسند من حديث أم كرز الخزاعية قالت: أتى النبي ﷺ بغلام فبال عليه فأمر به فنضح وأتى بجارية فبالت عليه فأمر به فغسل وعند ابن ماجه عن أم كرز الخزاعية أن النبي ﷺ قال: "بول الغلام ينضح وبول الجارية يغسل" وصح الإفتاء عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة وأم سلمة ولم يأت عن صحابي خلافهما فردت هذه السنن بقياس متشابه على بول الشيخ وبعموم لم يرد به هذا الخاص وهو قوله: "إنما يغسل الثوب من أربع من البول والغائط والمني والدم والقيء" والحديث لا يثبت فإنه من رواية علي بن زيد بن جدعان عن ثابت بن حماد قال ابن عدي: لا أعلم رواه عن علي بن زيد غير ثابت ابن حماد وأحاديثه مناكير معلومات ولو صح وجب العمل بالحديثين ولا يضرب أحدهما بالآخر ويكون البول فيه مخصوصا ببول الصبي كما خص منه بول ما يؤكل لحمه دون بأحديث هذه في الصحة والشهرة.
المثال الثالث والخمسون: رد السنة الثابته الصحيحة الصريحة المحكمة في الوتر بواحدة مفصولة كما في الصحيحين عن ابن عمر أنه سأل رسول الله ﷺ عن صلاة الليل فقال: "مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى" وفي الصحيحين أيضا من حديث عائشة: "كان رسول الله ﷺ يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة" وفي صحيح مسلم عن أبي مجلز قال: سألت ابن عباس عن الوتر فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ركعة من آخر الليل" وقد قال النبي ﷺ "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم" فإذا صلى القاعد ركعتين وجب بهذا النص أن تعدل صلاة القائم ركعة فلو لم تصح لكانت صلاة القاعد أتم من صلاة القائم والاعتماد على الأحاديث المتقدمة وصح الوتر بواحدة مفصولة عن عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأبي أيوب ومعاوية بن أبي سفيان.
وقال الحاكم أبو عبد الله: ثنا عبد الله بن سليمان ثنا أحمد بن صالح ثنا عبد الله ابن وهب عن سليمان بن بلال عن صالح بن كيسان عن عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب أوتروا بخمس أو سبع" رواه ابن حبان والحاكم في صحيحهيما وقال الحاكم: رواته كلهم ثقات وله شاهد آخر بإسناد صحيح: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا طاهر بن عمرو بن الربيع بن طارق ثنا ابن أبي الليث ثنا يزيد بن أبي حبيب عن عراك بن مالك عن أبي هريرة فذكر مثله سواء وزاد "أوتروا بخمس أو سبع أو تسع أو بإحدى عشرة ركعة أو أكثر من ذلك".
فردت هذه السنن بحديثين باطلين وقياس فاسد أحدهما نهي عن البتراء وهذا لا يعرف له إسناد لا صحيح ولا ضعيف وليس في شيء من كتب الحديث المعتمد عليها ولو صح فالبتراء صفة للصلاة التي قد بتر ركوعها وسجودها فلم يطمئن فيها. الثاني: حديث يروى عن ابن مسعود مرفوعا "وتر الليل ثلاث كوتر النهار صلاة المغرب" وهذا الحديث وإن كان أصح من الأول فإنه في سنن الدارقطني فهو من رواية يحيى بن زكريا قال الدارقطني: يقال له ابن أبي الحواجب ضعيف ولم يروه عن الأعمش مرفوعا غيره ورواه الثوري في الجامع وغيره عن الأعمش موقوفا على ابن مسعود وهو الصواب.
وأما القياس الفاسد فهو أن قالوا: رأينا المغرب وتر النهار وصلاة الوتر وتر الليل وقد شرع الله سبحانه وتر النهار موصولا فهكذا وتر الليل وقد صحت السنة بالفرق بين الوترين من وجوه كثيرة أحدها: الجمع بين الجهر والسر في وتر النهار دون وتر الليل الثاني: وجوب الجماعة أو مشروعيتها فيه دون وتر الليل الثالث: أنه ﷺ فعل وتر اليل على الراحلة دون وتر النهار الرابع: أنه قال في وتر الليل إنه ركعة واحدة دون وتر النهار الخامس: أنه أوتر بتسع وخمس موصولة دون وتر النهار السادس: أنه نهى عن تشبيه وتر الليل بوتر النهار كما تقدم السابع أن وتر الليل اسم للركعة وحدها ووتر النهار اسم لمجموع صلاة المغرب كما في صحيح مسلم من حديث ابن عمر وابن عباس أنهما سمعا رسول الله ﷺ يقول: "الوتر ركعة من آخر الليل" الثامن: أن وتر النهار فرض ووتر الليل ليس بفرض باتفاق الناس التاسع: أن وتر النهار يقضى بالاتفاق وأما وتر الليل فلم يقم على قضائه دليل فإن المقصود منه قد فات فهو كتحية المسجد ورفع اليدين في محل الرفع والقنوت إذا فات وقد توقف الإمام أحمد في قضاء الوتر وقال شيخنا: لا يقضى لفوات المقصود منه بفوات وقته قال: وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان إذا منعه من قيام الليل نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ولم يذكر الوتر العاشر: أن المقصود من وتر الليل جعل ما تقدمه من الأشفاع كلها وترا وليس المقصود منه إيتار الشفع الذي يليه خاصة وكان الأقيس ما جاءت به السنة أن يكون ركعة مفردة توتر جميع ما قبلها وبالله التوفيق.
المثال الرابع والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة أنه لا يجوز التنقل إذا أقيمت صلاة الفرض كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" وقال الإمام أحمد في روايته: "إلا التي أقيمت" وفي الصحيحين عن عبد الله بن مالك بن بحينة أن رسول الله ﷺ رأى رجلا وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين فلما انصرف رسول الله ﷺ لاث به الناس وقال له رسول الله ﷺ "الصبح أربعا؟ الصبح أربعا؟" وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن سرجس قال: دخل رجل المسجد ورسول الله ﷺ في صلاة الصبح فصلى ركعتين قبل أن يصل إلى الصف فلما انصرف رسول الله ﷺ قال له: "يا فلان بأي صلاتيك اعتددت؟ بالتي صليت وحدك أو بالتي صليت معنا" وفي الصحيحين أن رسول الله مر برجل فكلمه بشيء لا ندري ما هو فلما انصرف أحطنا به نقول ماذا قال لك رسول الله ﷺ قال: قال لي: "يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعا" وعند مسلم: أقيمت صلاة الصبح فرأى رسول الله ﷺ رجلا يصلي والمؤذن يقيم الصلاة فقال: "أتصلي الصبح أربعا؟" وقال أبو داود الطيالسي في مسنده ثنا أبو عامر الخراز عن ابن مليكة عن ابن عباس قال كنت أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة فجذبني النبي ﷺ فقال: "أتصلي الصبح أربعا" وكان عمر بن الخطاب إذا رأى رجلا يصلي وهو يسمع الإقامة ضربه وقال حماد ابن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه أبصر رجلا يصلي الركعتين والمؤذن يقيم فحصبه وقال: أتصلي الصبح أربعا؟
فردت هذه السنن كلها بما رواه حجاج بن نصر المتروك عن عباد بن كثير الهالك عن ليث عن عاطاء عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" وزاد إلا ركعتي الصبح فهذه الزيادة كاسمها زيادة في الحديث لا أصل لها.
فإن قيل: فقد كان أبو الدرداء يدخل المسجد والناس صفوف في صلاة الفجر فيصلي الركعتين في ناحية المسجد ثم يدخل مع القوم في الصلاة وكان ابن مسعود يخرج من داره لصلاة الفجر ثم يأتي فيصلي ركعتين في ناحية المسجد ثم يدخل معهم في الصلاة.
قيل: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله في مقابلة أبي الدرداء وابن مسعود والسنة سالمة لا معارض لها ومعها أصح قياس يكون فإن وقتها يضيق بالإقامة فلم يقبل غيرها بحيث لا يجوز لمن حضر أن يؤخرها ويصليها بعد ذلك والله الموفق.
المثال الخامس والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في استحباب صلاة النساء جماعة لا منفردات كما في المسند والسنن من حديث عبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث "أن رسول الله ﷺ كان يزورها في بيتها وجعل لها مؤذنا كان يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها" قال عبد الرحمن: فأنا رأيت مؤذنها شيخا كبيرا وقال الوليد بن جميل: حدثتني جدتي عن أم ورقة أن النبي ﷺ "أمرها أو أذن لها ان تؤم أهل دارها وكانت قد قرأت القرآن على عهد رسول الله ﷺ" وقال الإمام أحمد: ثنا وكيع ثنا سفيان عن ميسرة أبي حازم عن رائطة الحنفية ان عائشة امت نسوة في المكتوبة فأمتهن بينهن وسطا تابعه ليث عن عطاء عن عائشة وروى الشافعي عن أم سلمة أنها أمت نساء فقامت وسطهن ولو لم يكن في المسألة إلا عموم قوله ﷺ: "تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" لكفى وروى البيهقي من حديث يحيى بن يحيى أنا ابن لهيعة عن الوليد ابن أبي الوليد عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال: "لا خير في جماعة النساء إلا في صلاة أو جنازة" والاعتماد على ما تقدم فردت هذه السنن بالمتشابه من قوله ﷺ: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".
وهذا إنما هو في الولاية والإمامة العظمى والقضاء وأما الرواية والشهادة والفتيا والإمامة فلا تدخل في هذا ومن العجب أن من خالف هذه السنة جوز للمرأة أن تكون قاضية تلي أمور المسلمين فكيف أفلحوا وهي حاكمة عليهم ولم يفلح أخواتها من النساء إذا أمتهن؟
المثال السادس والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة عن النبي ﷺ التي رواها عنه خمسة عشر نفسا من الصحابة "أنه كان يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله" منهم عبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وجابر بن سمرة وأبو موسى الأشعري وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمر البراء بن عازب ووائل بن حجر وأبو مالك الأشعري وعدي بن عميرة الضمري وطلق بن علي وأوس بن أوس وأبو رمثة والأحاديث بذلك ما بين صحيح وحسن فرد ذلك بخمسة أحاديث مختلف في صحتها.
أحدها: حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان يسلم تسليمه واحدة رواه الترمذي.
والثاني: حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد عن سعد أن رسول الله ﷺ "كان يسلم في آخر الصلاة تسليمة واحدة السلام عليكم".
الثالث: حديث عبد المهيمن بن عباس عن أبيه عن جده "أنه سمع رسول الله ﷺ يسلم تسلمية واحدة لا يزيد عليها" رواه الدارقطني.
الرابع: حديث عطاء بن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن عن سمرة بن جندب "كان رسول الله ﷺ يسلم مرة واحدة في الصلاة قبل وجهه فإذا سلم عن يمينه سلم عن يساره" رواه الدارقطني.
الخامس: حديث يحيى بن راشد عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع قال رأيت رسول الله ﷺ يسشلم مرة واحدة وهذه الأحاديث لا تقاوم تلك ولا تقاربها حتى تعارض بها.
أما حديث عائشة فحديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث قال البخاري: زهير بن محمد من أهل الشام يروي مناكير وقال يحيى: ضعيف والحديث من رواية عمرو بن أبي سلمة عنه قال الطحاوي: هو وإن كان ثقة فإن رواية عمرو ابن أبي سلمة عنه تضعف جدا وهكذا قال يحيى بن معين فيما حكي لي عنه غير واحد من أصحابنا منهم على بن عبد الرحمن بن المغيرة وزعم أن فيها تخليطا كثيرا قال والحديث أصله موقوف على عائشة هكذا رواه الحفاظ.
فإن قيل: فإذا ثبت ذلك عن عائشة فبمن نعارضها في ذلك من أصحاب النبي ﷺ.
قيل له: بأبي بكر وعمر وعلي بن أبي طالب عليهم السلام وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسهل بن سعد الساعدي وذكر الأسانيد عنهم بذلك ثم قال: فهؤلاء أصحاب رسول الله ﷺ أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعمار ومن ذكرنا معهم يسلمون عن أيمانهم وعن شمائلهم ولا ينكر ذلك عليهم غيرهم على قرب عهدهم برؤية رسول الله ﷺ وحفظهم لأفعاله فما ينبغي لأحد خلافه لو لم يكن روى في ذلك عن النبي ﷺ فكيف وقد روى عنه ما يوافق فعلهم.
وأما حديث سعد بن أبي وقاص فحديث معلول بل باطل والدليل على بطلانه أن الذي رواه هكذا الراوردي خاصة وقد خالف في ذلك جميع من رواه عن مصعب بن ثابت كعبد الله بن المبارك ومحمد بن عمرو ثم قد رواه إسماعيل ابن محمد عن عامر بن سعد عن سعد كما رواه الناس "كان رسول الله ﷺ يسلم عن يمينه حتى يرى بياض خذه وعن يساره حتى يرى بياض خده" رواه مسلم في صحيحه فقد صح رواية سعد أن رسول الله ﷺ "سلم تسليمتين" ومعه من ذكرنا من الصحابة وبان بذلك بطلان رواية الدراوردي.
وأما حديث عبد المهيمن بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده فقال الدارقطني: عبد المهيمن ليس بالقوي وقال ابن حبان: بطل الاحتجاج به.
وأما حديث عطاء بن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن فمن رواية روح ابنه عنه قال الإمام أحمد: منكر الحديث وتركه يحيى.
وأما حديث يحيى بن راشد عن يزيد مولى سلمة فقال يحيى بن معين: يحيى ابن راشد ليس بشيء وقال النسائي: ضعيف وقال أبو عمر بن عبد البر: روى عن النبي ﷺ أنه "كان يسلم تسليمة واحدة" من حديث سعد بن أبي وقاص ومن حديث عائشة ومن حديث أنس إلا أنها معلولة لا يصححها أهل العلم بالحديث لأن حديث سعد أخطأ فيه الدراوردي فرواه على غير ما رواه الناس بتسليمة واحدة وغيره يروي فيه بتسليمتين ثم ذكر حديثه عن مصعب بن ثابت أن رسول الله ﷺ "كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة" ثم قال: وهذا وهم عندهم وغلط وإنما الحديث كما رواه ابن المبارك وغيره عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعيد بن أبي وقاص عن أبيه "كان يسلم عن يمينه وعن يساره" وقد روى هذا الحديث بالتسليمتين من طريق مصعب ثم ساق طرقه بالتسليمتين عن سعد ثم ساق من طريق ابن المبارك عن مصعب عن إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد عن أبيه قال: "رأيت رسول الله ﷺ يسلم عن يمينه وعن شماله وكأني أنظر إلى صفحة خده" فقال الزهري: ما سمعنا هذا من حديث رسول الله ﷺ فقال له إسماعيل بن محمد: أكل حديث رسول الله ﷺ سمعت قال: لا قال: فنصفه قال: لا قال: فاجعل هذا النصف الذي لم تسمع.
قال: وأما حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ "كان يسلم تسليمة واحدة" فلم يرفعه أحد إلا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة رواه عنه عمرو بن أبي سلمة وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع كثير الخطأ لا يحتج به وذكر يحيى بن معين هذا الحديث فقال: عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان لا حجة فيهما.
وأما حديث أنس فلم يأت إلا من طريق أيوب السختياني عن أنس ولم يسمع أيوب من أنس عندهم شيئا.
قال: وقد روى عن الحسن مرسلا أن النبي ﷺ وأبا بكر وعمر "كانوا يسلمون تسليمة واحدة" ذكره وكيع عن الربيع عنه قال: والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابرا عن كابر ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مرارا.
قلت: وهذا أصل قد نازعهم فيه الجمهور وقالوا: عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار ولا فرق بين عملهم وعمل أهل الحجاز والعراق والشام فمن كانت السنة معهم فهم أهل العمل المتبع وإذا اختلف علماء المسلمين لم يكن عمل بعضهم حجة على بعض وإنما الحجة اتباع السنة ولا تترك السنة لكون عمل بعض المسلمين على خلافها أو عمل بها غيرهم ولو ساغ ترك السنة لعمل بعض الأمة على خلافها لتركت السنن وصارت تبعا لغيرها فإن عمل بها ذلك الغير عمل بها وإلا فلا والسنة هي العيار على العمل وليس العمل عيارا على السنة ولم تضمن لنا العصمة قط في عمل مصر من الأمصار دون سائرها والجدران والمساكن والبقاع لا تأثير لها في ترجيح الأقوال وإنما التأثير لأهلها وسكانها ومعلوم أن أصحاب رسول الله ﷺ شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل وظفروا من العلم بما لم يظفر به من بعدهم فهم المقدمون في العلم على من سواهم كما هم المقدمون في الفضل والدين وعملهم هو العمل الذي لا يخالف وقد انتقل أكثرهم عن المدينة وتفرقوا في الأمصار بل أكثر علمائهم صاروا إلى الكوفة والبصرة والشام مثل علي بن أبي طالب كرم الله وأبي موسى وعبد الله بن مسعود وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وعمرو ابن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ومعاذ بن جبل وانتقل إلى الكوفة والبصرة نحو ثلاثمائة صحابي ونيف وإلى الشام ومصر نحوهم فكيف يكون عمل هؤلاء معتبرا ما داموا في المدينة فإذا خالفوا غيرهم لم يكن عمل من خالفوه معتبرا فإذا فارقوا جدران المدينة كان عمل من بقي فيها هو المعتبر ولم يكن خلاف ما انتقل عنها معتبرا هذا من الممتنع وليس جعل عمل الباقين معتبرا أولى من جعل عمل المفارقين معتبرا فإن الوحي قد انقطع بعد رسول الله ﷺ ولم يبق إلا كتاب الله وسنة رسوله فمن كانت السنة معه فعمله هو العمل المعتبر حقا فكيف تترك السنة المعصومة لعمل غير معصوم.
ثم يقال: أرأيتم لو استمر عمل أهل مصر منالأمصار التي انتقل إليها الصحابة على ما أداه إليهم من صار إليهم من الصحابة ما الفرق بينه وبين عمل أهل المدينة المستمر على ما أداه إليهم من بها من الصحابة والعمل إنما استند إلى قول رسول الله ﷺ وفعله فكيف يكون قوله وفعله الذي أداه من بالمدينة موجبا للعمل دون قوله وفعله الذي أداه غيرهم هذا إذا كان النص مع عمل أهل المدينة فكيف إذا كان مع غيرهم النص وليس معهم نص يعارضه وليس معهم إلا مجرد العمل ومن المعلوم أن العمل لا يقابل النص بل يقابل العمل بالعمل ويسلم النص عن المعارض.
وأيضا فنقول: هل يجوز أن يخفى على أهل المدينة بعد مفارقة جمهور الصحابة لها سنة من سنن رسول الله ﷺ ويكون علمها عند من فارقها أم لا فإن قلتم: "لا يجوز" أبطلتم أكثر السنن التي لم يروها أهل المدينة وإن كانت من رواية إبراهيم عن علمقة عن عبد الله ومن رواية أهل بيت علي عنه ومن رواية أصحاب معاذ عنه ومن رواية أصحاب أبي موسى عنه ومن رواية أصحاب عمرو بن العاص وابنه عبد الله وأبي الدرداء ومعاوية وأنس بن مالك وعمار بن ياسر وأضعاف هؤلاء وهذا مما لا سبيل إليه وإن قلتم: "يجوز أن يخفى على من بقي في المدينة بعض السنن ويكون علمها عند غيرهم" فكيف تترك السنن لعمل من قد اعترفتم بأن السنة قد تخفى عليهم.
وأيضا فإن عمر بن الخطاب كان إذا كتب إليه بعض الأعراب بسنة عن رسول الله ﷺ عمل بها ولو لم يكن معمولا بها بالمدينة كما كتب إليه الضحاك بن سفيان الكلابي "أن رسول الله ﷺ ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها" فقضى به عمر.
وأيضا فإن هذه السنة التي يعمل بها أهل المدينة لو جاء من رواها إلى المدينة وعمل بها لم يكن عمل من خالفه حجة عليه فكيف يكون حجة عليه إذا خرج من المدينة.
وأيضا فإن هذا يوجب أن يكون جميع أهل الأمصار تبعا للمدينة فيما يعملون به وأنه لا يجوز لهم مخالفتهم في شيء فإن عملهم إذا قدم على السنة فلأن يقدم على عمل غيرهم أولى وإن قيل إن عملهم نفسه سنة لم يحل لأحد مخالفتهم ولكن عمر بن الخطاب ومن بعده من الخلفاء لم يأمر أحد منهم أهل الأمصار أن لا يعملوا بما عرفوه من السنة وعلمهم إياه الصحابة إذا خالف عمل أهل المدينة وأنهم لا يعملون إلا بعمل أهل المدينة بل مالك نفسه منع الرشيد من ذلك وقد عزم عليه وقال له: قد تفرق أصحاب رسول الله ﷺ في البلاد وصار عند كل طائفة منهم علم ليس عند غيرهم وهذا يدل على أن عمل أهل المدينة ليس عنده حجة لازمة لجميع الأمة وإنما هو اختيار منه لما رأى عليه العمل ولم يقل قط في موطئه ولا غيره لا يجوز العمل بغيره بل يخبر إخبارا مجردا أن هذا عمل أهل بلده فإنه رضي الله عنه وجزاه عن الإسلام خيرا ادعى إجماع أهل المدينة في نيف وأربعين مسألة ثم هي ثلاثة أنواع أحدها لا يعلم أن أهل المدينة خالفهم فيه غيرهم والثاني ما خالف فيه أهل المدينة غيرهم وإن لم يعلم اختلافهم فيه والثالث ما فيه الخلاف بين أهل المدينة أنفسهم ومن ورعه رضي الله عنه لم يقل إن هذا إجماع الأمة الذي لا يحل خلافه.
وعند هذا فنقول: ما عليه العمل إما أن يراد به القسم الأول أو هو والثاني أو هما والثالث فإن أريد الأول فلا ريب أنه حجة يجب اتباعه وإن أريد الثاني والثالث فأين دليله وأيضا فأحق عمل أهل المدينة أن يكون حجة العمل القديم الذي كان في زمن رسول الله ﷺ وأصحابه وزمن خلفائه الراشدين وهذا كعملهم الذي كأنه مشاهد بالحس ورأى عين من إعطائهم أموالهم التي قسمها رسول الله ﷺ على من شهد معه خبير فأعطوها اليهود على أن يعلموها بأنفسهم وأموالهم والثمرة بينهم وبين المسلمين يقرونهم ما أقرهم الله ويخرجونهم متى شاءوا واستمر هذا العمل كذلك بلا ريب إلى أن استأثر الله بنبيه ﷺ مدة أربعة أعوام ثم استمر مدة خلافة الصديق وكلهم على ذلك ثم استمر مدة خلافة عمر رضي الله عنهم إلى أن أجلاهم قبل أن يستشهد بعام فهذا هو العمل حقا فكيف ساغ خلافه وتركه لعمل حادث.
ومن ذلك عمل الصحابة مع نبيهم ﷺ على الاشتراك في الهدي البدنة عن عشرة والبقرة عن سبعة فياله من عمل ما ألحقه وأولاه بالاتباع فكيف يخالف إلى عمل حادث بعده مخالف له؟
ومن ذلك عمل أهل المدينة الذي كأنه رأى عين في سجودهم في "إذا السماء انشقت" مع نبيهم ﷺ ومعهم أبو هريرة وإنما صحب النبي ﷺ ثلاثة أعوام وبعض الرابع وقد أخبر عن عمل الصحابة مع نبيهم في آخر أمره فهذا والله هو العمل فكيف يقدم عليه عمل من بعدهم بما شاء الله من السنين ويقال: العمل على ترك السجود؟
ومن ذلك عمل الصحابة مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقد قرأ السجدة على المنبر في خطبته يوم الجمعة ثم نزل عن المنبر فسجد وسجد معه أهل المسجد ثم صعد فهذا العمل حق فكيف يقال العمل على خلافه ويقدم العمل الذي يخالف ذلك عليه.
ومن ذلك عمل الصحابة مع النبي ﷺ في اقتدائهم به وهو جالس وهذا كأنه رأي عين سواء كانت صلاتهم خلفه قعودا أو قياما فهذا عمل في غاية الظهور والصحة فمن العجب ان يقدم عليه رواية جابر الجعفي عن الشعبي وهما كوفيان أن رسول الله ﷺ قال: "لا يؤمن أحد بعدي جالسا" وهذه من أسقط روايات أهل الكوفة.
ومن ذلك أن سليمان بن عبد الملك عام حج جمع ناسا من أهل العلم فيهم عمر بن عبد العزيز وخارجة بن زيد بن ثابت والقاسم بن محمد وسالم وعبيد الله ابنا عبد الله بن عمر ومحمد بن شهاب الزهري وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة فكلهم أمره بالطيب وقال القاسم: أخبرتني عائشة أنها طيبت رسول الله ﷺ لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت ولم يختلف عليه أحد منهم إلا أن عبد الله بن عبيد الله قال: كان عبد الله رجلا جادا مجدا كان يرمي الجمرة ثم يذبح ثم يحلق ثم يركب فيفيض قبل أن يأتي منزله قال سالم صدق ذكره النسائي فهذا عمل أهل المدينة وفتياهم فأي عمل بعد ذلك يخالفه يستحق التقديم عليه؟
ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن قاسم بن مسلم عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع وزارع علي وسعد ابن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين وعامل عمر بن الخطاب الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وكذا فهذا والله هو العمل الذي يستحق تقديمه على كل عمل خالفه والذي من جعله بينه وبين الله فقد استوثق.
فيالله العجب أي عمل بعد هذا يقدم عليه وهل يكون عمل يمكن أن يقال إنه إجماع أظهر من هذا وأصح منه؟
وأيضا فالعمل نوعان: نوع لم يعارضه نص ولا عمل قبله ولا عمل مصر آخر غيره وعمل عارضه واحد من هذه الثلاثة فإن سويتم بين أقسام هذا العمل كلها فهي تسوية بين المختلفات التي فرق النص والعقل بينها وإن فرقتم بينها فلابد من دليل فارق بين ما هو معتبر منها وما هو غير معتبر ولا تذكرون دليلا قط إلا كان دليل من قدم النص أقوى وكان به أسعد.
وأيضا فإنا نقسم عليكم هذا العمل من وجه آخر ليتبين به المقبول من المردود فنقول عمل أهل المدينة وإجماعهم نوعان أحدهما: ما كان من طريق النقل والحكاية والثاني: ما كان من طريق الاجتهاد والاستدلال فالأول على ثلاثة أضرب أحدها: نقل الشرع مبتدأ من جهة النبي ﷺ وهو أربعة أنواع أحدها نقل قوله والثاني: نقل فعله والثالث: نقل تقريره لهم على أمر شاهدهم عليه أو أخبرهم به الرابع: نقلهم لترك شيء قام سبب وجوده ولم يفعله الثاني: نقل العمل المتصل زمنا بعد زمن من عهده ﷺ والثالث: نقل لأماكن وأعيان ومقادير لم تتغير عن حالها.
نقل قوله صلى الله عليه وسلم
ونحن نذكر أمثلة هذه الأنواع فأما نقل قوله فظاهر وهو الأحاديث المدنية التي هي أم الأحاديث النبوية وهي أشرف أحاديث أهل الأمصار ومن تأمل أبواب البخاري وجده أول ما يبدأ في الباب بها ما وجدها ثم يتبعها بأحاديث أهل الأمصار وهذه كمالك عن نافع عن ابن عمر وابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وأبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وابن شهاب عن سالم عن أبيه وابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ويحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة وابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس ومالك عن موسى بن عقبة عن كريب عن أسامة بن زيد والزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب وأمثال ذلك.
نقل فعله صلى الله عليه وسلم
أما نقل فعله فكنقلهم أنه توضأ من بئر بضاعة وأنه كان يخرج كل عيد إلى المصلى فيصلي به العيد هو والناس وأنه كان يخطبهم قائما على المنبر وظهره إلى القبلة ووجهه إليهم وأنه كان يزور قباء كل سبت ما شيا وراكبا وأنه كان يزورهم في دورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم ونحو ذلك.
نقل تقريره صلى الله عليه وسلم
وأما نقل التقرير فكنقلهم إقراره لهم على تلقيح النخل وعلى تجاراتهم التي كانوا يتجرونها وهي على ثلاثة أنواع تجارة الضرب في الأرض وتجارة الإدارة وتجارة السلم فلم ينكر عليهم منها تجارة واحدة وإنما حرم عليهم فيها الربا الصريح ووسائله المفضية إليه أو التوسل بتلك المتاجر إلى الحرام كبيع السلاح لمن يقاتل به المسلم وبيع العصير لمن يعصره خمرا وبيع الحرير لمن يلبسه من الرجال ونحو ذلك مما هو معاونة على الإثم والعدوان وكإرارهم على صنائعهم المختلفة من تجارة وخياطة وصياغة وفلاحة وإنما حرم عليهم فيها الغش والتوسل بها إلى المحرمات وكإقرارهم على إنشاد الأشعار المباحة وذكر أيام الجاهلية والمسابقة على الأقدام وكإقرارهم علىالمهادنة في السفر وكإقرارهم على الخيلاء في الحرب ولبس الحرير فيه وإعلام الشجاع منهم بعينه بعلامة من ريشة أو غيرها وكإقرارهم على لبس ما نسجه الكفار من الثياب وعلى إنفاق ما ضربوه من الدراهم وربما كان عليها صور ملوكهم ولم يضرب رسول الله ﷺ ولا خلفاؤه مدة حياتهم دينارا ولا درهما وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار وكإقراره لهم بحضرته على المزاح المباح وعلى الشبع في الأكل وعلى النوم في المسجد وعلى شركة الأبدان وهذا كثير من أنواع السنن احتج به الصحابة وأئمة الإسلام كلهم وقد احتج به جابر في تقرير الرب في زمن الوحي كقوله: "كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيء ينهى عنه لنهي عنه القرآن" وهذا من كمال فقه الصحابة وعلمهم واستيلائهم على معرفة طرق الأحكام ومداركها وهو يدل على أمرين أحدهما: أن أصل الأفعال الإباحة ولا يحرم منها إلا ما حرمه الله على لسان رسوله الثاني: أن علم الرب تعالى بما يفعلون في زمن شرع الشرائع ونزل الوحي وإقراره لهم عليه دليل على عفوه عنه والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أنه في الوجه الأول يكون معفوا عنه استصحابا وفي الثاني يكون العفو عنه تقريرا لحكم الاستصحاب ومن هذا النوع تقريره لهم على أكل الزروع التي تداس بالبقر من غير أمر لهم بغسلها وقد علم ﷺ أنها لابد أن تبول وقت الدياس ومن ذلك تقريره لهم على الوقود في بيوتهم وعلى أطعمتهم بأرواث الإبل وأخثاء البقر وأنعار الغنم وقد علم أن دخانها ورمادها يصيب ثيابهم وأوانيهم ولم يأمرهم باجتناب ذلك وهو دليل على أحد أمرين ولابد طهارة ذلك أو أن دخان النجاسة ورمادها ليس بنجس ومن ذلك تقريرهم على سجود أحدهم على ثوبه إذا اشتد الحر ولا يقال في ذلك إنه ربما لم يعلمه لأن الله قد علمه وأقرهم عليه ولم يأمر رسوله بإنكاره عليهم فتأمل هذا الموضع ومن ذلك تقريرهم على الأنكحة التي غقدوها في حال الشرك ولم يتعرض لكيفية وقوعها وإنما أنكر منها ما لا مساغ له في الإسلام حين الدخول فيه ومن ذلك تقريرهم على ما بأيديهم من الأموال التي اكتسبوها قبل الإسلام بربا أو غيره ولم يأمر بردها بل جعل لهم بالتوبة ما سلف من ذلك ومنه تقرير الحبشة باللعب في المسجد بالحراب وتقريره عائشة على النظر إليهم وهو كتقريره النساء على الخروج والمشي في الطرقات وحضور المساجد وسماع الخطب التي كان ينادى بالاجتماع لها وتقريره الرجال على استخدامهن في الطحن والغسل والطبخ والعجن وعلف الفرس والقيام بمصالح البيت ولم يقل للرجال قط لا يحل لكم ذلك إلا بمعاوضتهن أو استرضائهن حتى يتركن الأجرة وتقريره لهم على الإنفاق عليهن بالمعروف من غير تقدير فرض ولا حب ولا خبز ولم يقل لهم لا تبرأ ذممكم من الأنفاق الواجب إلا بمعاوضة الزوجات من ذلك على الحب الواجب لهن مع فساد المعاوضة من وجوه عديدة أو بإسقاط الزوجات حقهن من الحب بل أقرهم على ما كانوا يعتادون نفقته قبل الإسلام وبعده وقرر وجوبه بالمعروف وجعله نظير نفقة الرقيق في ذلك ومنه تقريرهم على التطوع بين أذان المغرب والصلاة وهو يراهم ولا ينهاهم ومنه تقريرهم على بقاء الوضوء وقد خفقت رؤوسهم من النوم في انتظار الصلاة ولم يأمرهم بإعادته وتطرق احتمال كونه لم يعلم ذلك مردود بعلم الله به وبأن القوم أجل وأعرف بالله ورسوله أن لا يخبروه بذلك وبأن خفاء مثل ذلك على رسول الله ﷺ وهو يراهم ويشاهدهم خارجا إلى الصلاة ممتنع ومنه تقريرهم على جلوسهم في المسجد وهو مجنبون إذا توضئوا ومنه تقريرهم على مبايعة عميانهم على مبايعتهم وشرائهم بأنقسهم من غير نهي لهم عن ذلك يوما ما وهو يعلم أن حاجة الأعمى إلى ذلك كحاجة البصير ومنه تقريرهم على قبول الهدية التي يخبرهم بها الصبي والعبد والأمة وتقريرهم على الدخول بالمرأة التي يخبرهم بها النساء أنها امرأته بل الاكتفاء بمجرد الإهداء من غير إخبار ومنه تقريرهم على قول الشعر وإن تغزل أحدهم فيه بمحبوته وإن قال فيه ما لو أقر به في غيره لأخذ به كتغزل كعب بن زهير بسعاد وتغزل حسان في شعره وقوله فيه:
كأن خبيئة من بيت رأس ** يكون مزاجها عسل وماء.
ثم ذكر وصف الشراب إلى أن قال:
ونشربها فتتركنا ملوكا ** وأسدا لا ينهنهنا اللقاء.
فأقرهم على قول ذلك وسماعه لعلمه ببر قلوبهم ونزاهتهم وبعدهم عن كل دنس وعيب وأن هذا إذا وقد مقدمة بين يدي ما يحبه الله ورسوله من مدح الإسلام وأهله وذم الشرك وأهله والتحريض على الجهاد والكرم والشجاعة فمفسدته مغمورة جدا في جنب هذه المصلحة مه ما فيه من مصلحة هز النفوس واستمالة إصغائها وإقبالها على المقصود بعده وعلى هذا جرت عادة الشعراء بالتغزل بين يدي الأغراض التي يريدونها بالقصيد ومنه تقريرهم على رفع الصوت بالذكر بعد السلام بحيث كان من هو خارج المسجد يعرف انقضاء الصلاة بذلك ولا ينكره عليهم.
فصل نقل الصحابة ما تركه صلى الله عليه وسلم
وأما نقلهم لتركه ﷺ فهو نوعان وكلاهما سنة أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله كقوله في شهداء أحد: "ولم يغسلهم ولم يصل عليهم" وقوله في صلاة العيد: "لم يكن أذان ولا إقامة ولا نداء" وقوله في جمعه بين الصلاتين: "ولم يسبح بينهما ولا على أثر واحدة منهما" ونظائره والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله فحيث لم ينقله واحد منهم البتة ولا حدث به في مجمع أبدا علم أنه لم يكن وهذا كتركه التلفظ بالبته عند دخوله في الصلاة وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمنون على دعائه دائما بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات وتركه رفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من ركوع الثانية وقوله: "اللهم اهدينا فيمن هديت" يجهر بها ويقول المأمومين كلهم: "آمين" ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغير ولا كبير ولا رجل ولا امرأة البتة وهو مواظب عليه هذه المواظبة لا يخل به يوما واحدا وتركه الاغتسال للمبيت بمزدلفة ولرمي الجمار ولطواف الزيارة ولصلاة الاستسقاء والكسوف ومن ههنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة فإن تركه ﷺ سنة كما أن فعله سنة فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق.
فإن قيل: من أين لكم أنه لم يفعله وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟
فهذا سؤال بعيد جدا عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه ولو صح هذا السؤال وقبل لاستحب لنا مستحب الأذان للتراويح وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا مستحب آخر الغسل لكل صلاة وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا مستحب آخر النداء بعد الأذان للصلاة يرحمكم الله ورفع بها صوته وقال من أين لكم أنه لم ينقل واستحب لنا آخر لبس السواد والطرحة للخطيب وخروجه بالشاويش يصيح بين يديه ورفع المؤذنين أصواتهم كلما ذكر الله واسم رسوله جماعة وفرادى وقال: من أين لكم أن هذا لم ينقل واستحب لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب وقال من أين لكم أن إحياءهما لم ينقل وانفتح باب البدعة وقال كل من دعا إلى بدعة من أين لكم أن هذا لم ينقل ومن هذا تركه أخذ الزكاة من الخضروات والمباطخ وهم يزرعونها بجواره بالمدينة كل سنة فلا يطالبهم بزكاة ولا هم يؤدونها إليه.
فصل نقل الصحابة الأعيان وتعيين الأماكن
وأما نقل الأعيان وتعيين الأماكن فكنقلهم الصاع والمد وتعيين موضع المنبر وموقفه للصلاة والقبر والحجرة ومسجد قباء وتعيين الروضة والبقيع والمصلى ونحو ذلك ونقل هذا جار مجرى نقل مواضع المناسك كالصفا والمروة ومنى ومواضع الجمرات ومزدلفة وعرفة ومواضع الإحرام كذي الحليفة والجحفة وغيرهما.
فصل نقل الصحابة العمل المستمر
وأما نقل العمل المستمر فكنقل الوقوف والمزارعة والأذان على المكان المرتفع والأذان للصبح قبل الفجر وتثنية الأذان وإفراد الإقامة والخطبة بالقرآن وبالسنن دون الخطبة الصناعية بالتسجيع والترجيع التي لا تسمن ولا تغني من جوع فهذا النقل وهذا العمل حجة يجب اتباعها وسنة متلقاة بالقبول على الرأس والعينين وإذا ظفر العالم بذلك قرت به عينه واطمأنت إليه نفسه.
فصل الاختلاف في العمل الذي طريقه الاجتهاد
وأما العمل الذي طريقه الاجتهاد والاستدلال فهو معترك النزال ومحل الجدال قال القاضي عبد الوهاب وقد اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ليس بحجة أصلا وأن الحجة هي إجماع أهل المدينة من طريق النقل ولا يرجح به أيضا أحد الاجتهادين على الآخر وهذا قول أبي بكر وأبي يعقوب الرازي والقاضي أبي بكر بن منتاب والطيالسي والقاضي أبي الفرج والشيخ أبي بكر الأبهري وأنكروا أن يكون هذا مذهبا لمالك أو لأحد من معتمدي أصحابه.
والوجه الثاني: أنه وإن لم يكن حجة فإنه يرجح به اجتهادهم على اجتهاد غيرهم وبه قال بعض أصحاب الشافعي.
والثالث: أن إجماعهم من طريق الاجتهاد حجة وإن لم يحرم خلافه كإجماعهم من طريق النقل وهذا مذهب قوم من أصحابنا وهو الذي عليه كلام أحمد بن المعدل وأبي بكر وغيرهما وذكر الشيخ أن في رسالة مالك إلى الليث بن سعيد ما يدل عليه وقد ذكر أبو مصعب في مختصره مثل ذلك والذي صرح به القاضي أبو الحسين بن أبي عمر في مسألته التي صنفها على أبي بكر الصيرفي نقضا لكلامه على أصحابنا في إجماع أهل المدينة وإلى هذا يذهب جل أصحابنا المغاربة أو جميعهم.
فأما حال الأخبار من طريق الآحاد فلا تخلو من ثلاثة أمور: إما أن يكون صحبها عمل أهل المدينة مطابقا لها أو أن يكون عملهم بخلافها أو أن لا يكون منهم عمل أصلا لا بخلاف ولا بوفاق فإن كان عملهم موافقا لها كان ذلك آكد في صحتها ووجوب العمل بها إذا كان العمل من طريق النقل وإن كان من طريق الاجتهاد كان مرجحا للخبر على ما ذكرنا من الخلاف وإن كان عملهم بخلافه نظر فإن كان العمل المذكور على الصفة التي ذكرناها فإن الخبر يترك للعمل عندنا لا خلاف بين أصحابنا في ذلك وهذا أكبر الغرض بالكلام في هذه المسألة وهذا كما نقوله في الصاع والمد وزكاة الخضروات وغير ذلك وإن كان العمل منهم اجتهادا فالخبر أولى منه عند جمهور أصحابنا إلا من قال منهم: إن الإجماع من طريق الاجتهاد حجة وإن لم يكن بالمدينة عمل يوافق موجب الخبر أو يخالفه فالواجب المصير إلى الخبر فإنه دليل مفرد عن مسقط أو معارض.
هذا جملة قول أصحابنا في هذه المسألة وقد تضمن ما حكاه أن عملهم الجاري مجرى النقل حجة فإذا أجمعوا عليه فهو مقدم على غيره من أخبار الآحاد وعلى هذا الحرف بنى المسألة وقررها وقال: والذي يدل على ما قلناه أنهم إذا أجمعوا على شيء نقلا أو عملا متصلا فإن ذلك الأمر معلوم بالنقل المتواتر الذي يحصل العلم به وينقطع العذر فيه ويجب ترك أخبار الآحاد له لأن المدينة بلدة جمعت من الصحابة من يقع العلم بخبرهم فيما أجمعوا على نقله فما هذا سبيله إذا ورد خبر واحد بخلافه كان حجة على ذلك الخبر وترك له كما لو روى لنا خبر واحد فيما تواتر به نقل جميع الأمة لوجب ترك الخبر للنقل المتواتر من جميعهم فيقال: من المحال عادة أن يجمعوا على شيء نقلا أو عملا متصلا من عندهم إلى زمن رسول الله ﷺ وأصحابه وتكون السنة الصحيحة الثابتة قد خالفته هذا من أبين الباطل وإن وقع ذلك فيما أجمعوا عليه من طريق الاجتهاد فإن العصمة لم تضمن لاجتهادهم فلم يجمعوا من طريق النقل ولا العمل المستمر على هذه الشريطة على بطلان خيار المجلس ولا على التسليمة الواحدة ولا على القنوت في الفجر قبل الركوع ولا على ترك الرفع عند الركوع والرفع منه ولا على ترك السجود في المفصل ولا على ترك الاستفتاح والاستعاذة قبل الفاتحة ونظائر ذلك كيف وقدماؤهم الذين نقلوا العلم الصحيح الثابت الذي كأنه رأي عين عن النبي ﷺ وأصحابه بخلاف ذلك فكيف يقال إن تركه عمل مستمر من عهد رسول الله ﷺ إلى الآن هذا من المحال بل نقلهم للصاع والمد الوقوف والأخاير وترك زكاة الخضروات حق ولم يأت عن رسول الله ﷺ سنة تخالفه البتة ولهذا رجع أبو يوسف إلى ذلك كله بحضرة الرشيد لما ناظره مالك وتبين له الحق فلا يلحق بهذا عملهم من طريق الاجتهاد ويجعل ذلك نقلا متصلا عن رسول الله ﷺ وتترك له السنن الثابتة فهذا لون وذلك لون وبهذا التمييز والتفصيل يزول الاشتباه ويظهر الصواب.
ومن المعلوم أن العمل بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين والصحابة بالمدينة كان بحسب من فيها من المفتين والأمراء والمحتسبين على الأسواق ولم تكن الرعية تخالف هؤلاء فإذا أفتى المفتون نفذه الوالي وعمل به المحتسب وصار عملا فهذا هو الذي لا يلتفت إليه في مخالفة السنن لا عمل رسول الله ﷺ وخلفائه والصحابة فذاك هو السنة فلا يخلط أحدهما بالآخر فنحن لهذا العمل أشد تحكيما وللعمل الآخر إذا خالف السنة أشد تركا وبالله التوفيق.
وقد كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يفتي وسليمان بن بلال المحتسب ينفذ فتواه فتعمل الرعية بفتوى هذا وتنفيذ هذا كما يطرد العمل في بلد أو إقليم ليس فيه إلا قول مالك على قوله وفتواه ولا يجوزن العمل هناك بقول غيره من أئمة الإسلام فلو عمل به أحد لاشتد نكيرهم عليه وكذلك كل بلد أو إقليم لم يظهر فيه إلا مذهب أبي حنيفة فإن العمل المستمر عندهم على قوله وكل طائفة اطرد عندهم عمل من وصل إليهم قوله ومذهبه ولم يألفوا غيره ولا فرق في هذا العمل بين بلد وبلد العمل الصحيح ما وافق السنة وإذا أردت وضوح ذلك فانظر العمل في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جهره بالاستفتاح في الفرض في مصلى النبي ﷺ وعمل الصحابة به ثم العمل في زمن مالك بوصل التكبير بالقراءة من غير استفتاح ولا تعوذ وانظر العمل في زمن الصحابة كعبد الله بن عمر في اعتبار خيار المجلس ومفارقته لمكان التبايع ليلزم العقد ولا يخالفه في ذلك صحابي ثم العمل به في زمن التابعين وإمامهم وعالمهم سعيد بن المسيب يعمل به ويفتي به ولا ينكره عليه منكر ثم صار العمل في زمن ربيعة وسليمان بن بلال بخلاف ذلك وانظر إلى العمل في زمن رسول الله ﷺ والصحابة خلفه وهم يرفعون أيديهم في الصلاة في الركوع والرفع منه ثم العمل في زمن الصحابة بعده حتى كان عبد الله بن عمر إذا رأى من لا يرفع يديه حصبه وهو عمل كان رأي عين وجمهور التابعين يعمل به بالمدينة وغيرها من الأمصار كما حكاه البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما عنهم ثم صار العمل بخلافه وانظر إلى العمل الذي كأنه رأي عين من صلاة رسول الله ﷺ على ابني بيضاء سهيل وأخيه في المسجد والصحابة معه وصلت عائشة على سعد بن أبي وقاص في المسجد وصلى على عمر بن الخطاب في المسجد ذكره مالك عن نافع عن عبد الله قال الشافعي: ولا نرى أحدا من الصحابة حضر موته فتخلف عن جنازته فهذا عمل مجمع عليه عندكم قاله لبعض المالكية وروى هشام عن أبيه أن أبا بكر صلى عليه في المسجد فهذا العمل حق ولو تركت السنن للعمل لتعطلت سنن رسول الله ﷺ ودرست رسومها وعفت آثارها وكم من عمل قد اطرد بخلاف السنة الصريحة على تقادم الزمان وإلى الآن وكل وقت تترك سنة ويعمل بخلافها ويستمر عليها العمل فتجد يسيرا من السنة معمولا به على نوع تقصير وخذ بلا حساب ما شاء الله من سنن قد أهملت وعطل العمل بها جملة فلو عمل بها من يعرفها لقال الناس: تركت السنة فقد تقرر أن كل عمل خالف السنة الصحيحة لم يقع من طريق النقل البتة وإنما يقع من طريق الاجتهاد إذا خالف السنة كان مردودا وكل عمل طريقه النقل فإنه لا يخالف سنة صحيحة البتة.
فلنرجع إلى الأمثلة التي ترك فيها المحكم للمتشابه فنقول:
المثال السابع والخمسون: ترك السنة المحكمة الصحيحة في الجهر بآمين في الصلاة كقوله في الصحيحين: "إذا أمن الأمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" ولولا جهره بالتأمين لما أمكن المأموم أن يؤمن معه ويوافقه في التأمين وأصرح من هذا حديث سفيان الثوري عن سلمة ابن كهيل عن حجر عن عنبس عن وائل بن حجر قال: "كان رسول الله ﷺ إذا قال {وَلا الضَّالِّينَ} قال آمين ورفع بها صوته" وفي لفظ وطول بها رواه الترمذي وغيره وإسناده صحيح وقد خالف شعبة سفيان في هذا الحديث فقال: "وخفض بها صوته" وحكم أئمة الحديث وحفاظه في هذا لسفيان فقال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث سفيان الثوري عن سلمة ابن كهيل في هذا الباب أصح من حديث شعبة أخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع فقال: عن حجر أبي العنبس وإنما كنيته أبو السكن وزاد فيه علقمة بن وائل وإنما هو حجر بن عنبس عن وائل بن حجر ليس فيه علقمة وقال وخفض بها صوته والصحيح أنه جهر بها قال الترمذي: وسألت أبا زرعة عن حديث سفيان وشعبة هذا فقال: حديث سفيان أصح من حديث شعبة وقد روى العلاء بن صالح عن سلمة بن كهيل نحو رواية سفيان وقال الدارقطني: كذا قال شعبة "وأخفى بها صوته" ويقال: إنه وهم فيه لأن سفيان الثوري ومحمد بن سلمة كهيل وغيرهما رووه عن سلمة فقالوا: "ورفع صوته بآمين" وهو الصواب وقال البيهقي: لا أعلم اختلافا بين أهل العلم بالحديث أن سفيان وشعبة إذا اختلفا فالقول قول سفيان وقال يحيى بن سعيد: ليس أحد أحب إلي من شعبة ولا يعدله عندي أحد وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان وقال شعبة: سفيان أحفظ مني فهذا ترجيح لرواية سفيان وترجيح ثان وهو متابعة العلاء ابن صالح ومحمد بن سلمة بن كهيل له وترجيح ثالث وهو أن أبا الوليد الطيالسي وحسبك به رواه عن شعبة بوفاق الثوري في متنه فقد اختلف على شعبة كما ترى قال البيهقي: فيحتمل أن يكون تنبه لذلك فعاد إلى الصواب في متنه وترك ذكر ذلك علقمة في إسناده وترجيح رابع وهو أن الروايتين لو تقاومتا لكانت رواية الرفع متضمنه لزيادة وكانت أولى بالقبول وترجيح خامس وهو موافقتها وتفسيرها لحديث أبي هريرة "وإذا أمن الإمام فأمنوا فإن الإمام يقول آمين والملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له" وترجيح سادس وهو ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله ﷺ إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته بآمين" ولأبي داود بمعناه وزاد بيانا فقال: "قال آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول" وفي رواية عنه "كان النبي ﷺ إذا قال {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال آمين يرفع بها صوته ويأمر بذلك" وذكر البيهقي عن علي كرم الله وجهه قال: "سمعت رسول الله ﷺ يقول آمين إذا قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}" وعنه أيضا رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان إذا قرأ {وَلا الضَّالِّينَ} رفع صوته بآمين وعند أبي داود عن بلال أنه قال للنبي ﷺ "لا تسبقني بآمين" قال الربيع: سئل الشافعي عن الإمام: هل يرفع صوته بآمين؟ قال: نعم ويرفع بها من خلفه أصواتهم فقلت: وما الحجة؟ فقال: أنبأنا مالك وذكر حديث أبي هريرة المتفق على صحته ثم قال: ففي قول رسول الله ﷺ: "إذا أمن الإمام فأمنوا" دلالة على أنه أمر الإمام أن يجهر بآمين لأن من خلفه لا يعرفون وقت تأمينه إلا بأن يسمع تأمينه ثم بينه ابن شهاب فقال: كان رسول الله ﷺ يقول آمين فقلت للشافعي: فإنا نكره الإمام أن يرفع صوته بآمين فقال: هذا خلاف ما روى صاحبنا وصاحبكم عن رسول الله ﷺ ولو لم يكن عندنا وعندهم علم إلا هذا الحديث الذي ذكرناه عن مالك فينبغي أن يستدل بأن النبي ﷺ كان يجهر بآمين وأنه أمر الإمام أن يجهر بها فكيف ولم يزل أهل العلم عليه وروى وائل بن حجر أن النبي ﷺ "كان يقول آمين يرفع بها صوته" ويحكي مدة إياها وكان أبو هريرة يقول للإمام: "لا تسبقني بآمين" وكان يؤذن له أنبأنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن عطاء: كنت أسمع الأئمة ابن الزبير ومن بعده يقولون آمين ومن خلفهم آمين حتى إن للمسجد للجة وقوله: "كان أبو هريرة يقول للإمام لا تسبقني بآمين" يريد ما ذكره البيهقي بإسناده عن أبي رافع أن أبا هريرة كان يؤذن لمروان بن الحكم فاشترط عليه أن لايسبقه بالضالين حتى يعلم أنه قد وصل إلى الصف فكان مروان إذا قال {وَلا الضَّالِّينَ} قال أبو هريرة: "آمين "يمد بها صوته وقال: إذا وافق تأمين أهل الأرض تأمين أهل السماء غفر لهم وقال عطاء: أدركت مائتين من أصحاب رسول الله ﷺ في هذا المسجد إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} سمعت لهم رجة بآمين.
فرد هذا كله بقوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} والذي أنزلت عليه هذه الآية هو الذي رفع صوته بالتأمين والذين أمروا بها رفعوا به أصواتهم ولا معارضة بين الآية والسنة بوجه ما.
المثال الثامن والخمسون: ترك القول بالسنة الصحيحة الصريحة المحكمة في أن الصلاة الوسطى صلاة العصر بالمتشابه من قوله {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وهذا عجب من العجب وأعجب منه تركها بأن في مصحف عائشة: "وصلاة العصر".
وأعجب منهما تركها بأن صلاة الظهر تقام في شدة الحر وهي في وسط النهار فأكدها الله تعالى بقوله {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وأعجب من ذلك تركها بأن المغرب الوسطى بين الثنائية والرباعية فهي أحق بهذا الاسم من غيرها وأعجب منه تركها بأن صلاة العشاء قبلها صلاة آخر النهار وبعدها صلاة أول النهار وهي وسطى بينهما فهي أحق بهذا الاسم من غيرها وقول رسول الله ﷺ ونصه الصريح المحكم الذي لا يحتمل إلا ما دل عليه أولى بالاتباع والله الموفق.
المثال التاسع والخمسون: ترك السنة الصحيحة الصريحة في قول الإمام ربنا ولك الحمد كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "كان رسول الله ﷺ إذا قال سمع الله لمن حمده قال اللهم ربنا ولك الحمد" وفيهما أيضا عنه "كان رسول الله ﷺ يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد" وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن النبي ﷺ "كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض ملء ما شئت من شيء بعد" وعن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ "كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ملءالسماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" فردت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله: "إذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد".
المثال الستون: رد السنة الصحيحة المحكمة في إشارة المصلى في التشهد بأصبعه كقول ابن عمر "كان رسول الله ﷺ إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام" رواه مسلم وعنده أيضا عنه "أن رسول الله ﷺ كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ووضع أصبعه التي تلي الإبهام فدعا بها" وعنده أيضا عن عبد الله بن الزبير "أن رسول الله ﷺ كان إذا قعد في الصلاة وضع يديه على ركبتيه وأشار بأصبعه" ورواه خفاف ابن إيماء بن رحضة ووائل بن حجر وعبادة بن الصامت ومالك بن بهز الخزاعي عن أبيه كلهم عن النبي ﷺ أنه فعل ذلك وسئل ابن عباس عنه فقال: هو الإخلاص فردوا ذلك كله بحديث لا يصح وهو ما رواه محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن أبي غطفان المري عن أبي هريرة مرفوعا "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء ومن أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعدها" قال الدارقطني: قال لنا ابن أبي داود: أبو غطفان هذا مجهول وآخر الحديث زيادة في الحديث ولعله من قول ابن إسحاق والصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يشير في الصلاة.
المثال الحادي والستون: رد السنة الصحيحة الصلريحة في ضفر رأس المرأة الميتة ثلاث ضفائر كقوله في الصحيحين في غسل ابنته: "اجعلن رأسها ثلاثة قرون" قالت أم عطية: ضفرنا رأسها وناصيتها وقرنيها ثلاثة قرون وألقيناه من خلفها فدر ذلك بأنه يشبه زينة الدنيا وإنما يرسل شعرها شقين على ثدييها وسنة رسول الله ﷺ أحق بالاتباع.
المثال الثاني والستون: ترك السنة الصحيحة الصريحة التي رواها الجماعة عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال: "صليت مع رسول الله ﷺ فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره" ولم يقل على صدره غير مؤمل بن إسماعيل وفي صحيح مسلم عنه أنه "رأى النبي ﷺ رفع يديه حين دخل في الصلاة ثم كبر ثم التحف بثوبه ثم وضع يده اليمنى على اليسرى فلما أراد أن يركع أخرج يديه ثم رفعهما وكبر فرفع فلما قال سمع الله لمن حمده رفع يديه فلما سجد سجد بين كفيه" وزاد أحمد وأبو داود: "ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد" وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة" قال أبو حازم: ولا أعلمه إلا ينهي ذلك إلى النبي ﷺ وفي السنن عن ابن مسعود أنه كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي ﷺ فوضع يده اليمنى على اليسرى وقال علي: "من السنة في الصلاة وضع الكف على الكف تحت السرة" رواه أحمد وقال مالك في موطئه وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة ثم ذكر حديث سهل بن سعد وذكر عن عبد الكريم ابن أبي المخارق البصري أنه قال من كلام النبوة "إذا لم تستح فافعل ما شئت" ووضع إحدى اليدين على الأخرى في الصلاة يضع اليمنى على اليسرى ةتعجيل الفطر والاستيناء بالسحور.
وذكر أبو عمر في كتابه من حديث الحارث بن غطيف أو غطيف بن الحارث قال: مهما رأيت شيئا فنسيته فإني لم أنس أني رأيت رسول الله ﷺ واضعا يده اليمنى على اليسرى في الصلاة وعن قبيصة بن ثابت عن أبيه قال: رأيت رسول الله ﷺ واضعا يمينه على شماله في الصلاة وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من السنة وضع اليمين على الشمال في الصلاة وعنه أيضا أنه كان إذا قام إلى الصلاة وضع يمينه على رسغه فلا يزال كذلك حتى يركع إلا أن يصلح ثوبه أو يحك جسده وقال علي عليه السلام في قوله تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أنه وضع اليمين على الشمال في الصلاة تحت صدره وذكر ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصديق أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال هكذا ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة. وقال أبو الدرداء: من أخلاق النبيين وضع اليمين على الشمال في الصلاة وقال ابن الزبير: صف القدمين ووضع اليد على اليد من السنة ذكر هذه الآثار أبوعمر بأسانيدها وقال: هي آثار ثابتة وقال وهب بن بقية: ثنا محمد بن المطلب عن أبان بن بشير المعلم ثنا يحيى بن أبي كثير ثنا أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "ثلاث من النبوة: تعجيل الفطر وتأخير السحور ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة" وقال سعيد بن منصور: ثنا هشيم أنا منصور بن زاذان عن محمد بن أبان الأنصاري عن عائشة قالت: "ثلاث من النبوة تعجيل الإفطار وتأخير السحور ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة" فردت هذه الآثار برواية ابن القاسم عن مالك قال تركه أحب إلى ولا أعلم شيئا قط ردت به سواه.
المثال الثالث والستون: رد السنة المحكمة الصريحة في تعجيل الفجر وأن النبي ﷺ "كان يقرأ فيها بالستين إلى المائة ثم ينصرف منها والنساء لا يعرفن من الغلس وإن صلاته كانت التغليس حتى توفاه الله وإنه إنما أسفر بها مرة واحدة وكان بين سحوره وصلاته قدر خمسين آية" فرد ذلك بمجمل حديث رافع بن خديج "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" وهذا بعد ثبوته إنما المراد به الإسفار بها دواما لا ابتداء فيدخل فيها مغلسا ويخرج منها مسفرا كما كان يفعله ﷺ فقوله موافق لفعله لا مناقض له وكيف يظن به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه.
المثال الرابع والستون: رد السنة الثابتة المحكمة الصريحة في امتداد وقت المغرب إلى سقوط الشفق كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ قال: "وقت صلاة الظهر ما لم تحضر صلاة العصر ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط نور الشفق ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس".
وفي صحيحه أيضا عن أبي موسى أن سائلا سأل رسول الله ﷺ عن المواقيت فذكر الحديث وفيه "ثم أمره فأقام المغرب حين وجبت الشمس فلما كان في اليوم الثاني قال: ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق وفي لفظ: فصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق ثم قال: الوقت ما بين هذين" وهذا متأخر عن حديث جبريل لأنه كان بمكة وهذا قول وذلك فعل وهذا يدل على الجواز وذلك يدل على الاستحباب وهذا في الصحيح وذلك في السنن وهذا يوافق قوله ﷺ "وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي بعدها" وإنما خص منه الفجر بالإجماع فما عداها من الصلوات داخل في عمومه والفعل إنما يدل على الاستحباب فلا يعارض العام ولا الخاص.
المثال الخامس والستون: رد السنة الصريحة المحكمة الثابتة في وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله وأنهم كانوا يصلونها مع النبي ﷺ ثم يذهب أحدهم إلى العوالي قدر أربعة أميال والشمس مرتفعة وقال أنس: صلى بنا رسول الله ﷺ العصر فأتاه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله إنا نريد أن ننحر جزورا لنا وإنا نحب أن تحضرها قال: نعم فانطلق وانطلقنا معه فوجد الجزور لم تنحر فنحرت ثم قطعت ثم طبخ منها ثم أكلنا منها قبل أن تغيب الشمس ومحال أن كون هذا بعد المثلين وفي صحيح مسلم عنه "وقت صلاة الظهر ما لم تحضر العصر" ولا معارض لهذه السنن لا في الصحة ولا في الصراحة والبيان فردت هذه السنن بالمجمل من قوله ﷺ "مثلكم ومثل أهل الكتاب قبلكم كمثل رجل استأجر أجراء فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط فعملت اليهود ثم قال: من يعمل لي إلى صلاة العصر على قيراط فعملت النصارى ثم قال: من يعمل لي إلى أن تغيب الشمس على قيراطين فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل أجرا فقال: هل ظلمتم من أجركم شيئا قالوا: لا قال: فذلكم فضلي أوتيه من أشاء" ويالله العجب أي دلالة في هذا على أنه لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل مثلين بنوع من أنواع الدلالة وإنما يدل على أن صلاة العصر إلى غروب الشمس أقصر من نصف النهار إلى وقت العصر وهذا لا ريب فيه.
المثال السادس والستون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في المنع من تخليل الخمر كما في صحيح مسلم عن أنس "سئل رسول الله ﷺ عن الخمر تتخذ خلا قال: لا" وفي المسند وغيره من حديث أنس قال: "جاء رجل إلى النبي ﷺ وفي حجره يتيم وكان عنده خمر حين حرمت الخمر فقال: يا رسول الله أصنعها خلا؟ قال: لا فصبها حتى سال الوادي" وقال أحمد: ثنا وكيع ثنا سفيان عن السدي عن أبي هريرة عن انس "أن أبا طلحة سأل النبي ﷺ عن أيتام ورثوا خمرا فقال: أهرقها فقال: أفلا نجعلها خلا؟ قال: لا" وروى الحاكم والبيهقي من حديث أنس أيضا قال: "كان في حجر أبي طلحة يتامى فاشترى لهم خمرا فلما أنزل الله تحريم الخمر أتى النبي ﷺ فذكر ذلك له فقال: أأجعله خلا؟ قال: لا قال: فأهرقه" وفي الباب عن أبي الزبير عن جابر وصح ذلك عن عمر ابن الخطاب ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف فردت بحديث مجمل لا يثبت وهو ما رواه الفرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن أم سلمة أنها كانت لها شاة تحلبها ففقدها النبي ﷺ فقال؛: ما فعلت بشاتك فقلت: ماتت قال: أفلا انتفعتم بإهابها قلت: إنها ميتة قال: فإن دباغها يحل كما يحل الخل الخمر قال: الحاكم تفرد به الفرج بن فضالة عن يحيى والفرج ممن لا يحتج بحديثه ولم يصح تحليل خل الخمر من وجه وقد فسر رواية الفرج فقال: يعني أن الخمر إذا تغيرت فصارت خلا حلت فعلى هذا التفسير الذي فسره راوي الحديث يرتفع الخلاف وقد قال الدارقطني: كان عبد الرحمن ابن مهدي لا يحدث عن فرج بن فضالة ويقول: حدث عن يحيى بن سعد الأنصاري أحاديث مقلوبة منكرة وقال البخاري: الفرج بن فضالة منكر الحديث.
وردت بحديث واه من رواية مغيرة بن زياد عن أبي الزبير عن جابر يرفعه "خير خلكم خل خمركم" ومغيرة هذا يقال له أبو هشام المكفوف صاحب مناكير عندهم ويقال: إنه حدث عن عطاء بن أبي رباح وأبي الزبير بجملة من المناكير وقد حدث عن عبادة بن نسي بحديث غريب موضوع فكيف يعارض بمثل هذه الرواية الأحاديث الصحيحة المحفوظة عن رسول الله ﷺ في النهي عن تخليل الخمر ولم يزل أهل مدينة رسول الله ﷺ ينكرون ذلك قال الحاكم: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى الحيري يقول: سمعت محمد بن إسحاق يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول قدمت المدينة أيام مالك فتقدمت إلى قاض فقلت: عندك خل خمر فقال سبحان الله في حرم رسول الله ﷺ قال ثم قدمت بعد موت مالك فذكرت ذلك لهم فلم ينكر علي وأما ما روى عن علي من اصطباغه بخل الخمر وعن عائشة أنه لا بأس به فهو خل الخمر الذي تخللت بنفسها لا باتخاذها.
المثال السابع والستون: رد السنة الصحيحة الصريحة في تسبيح المصلى إذا نابه شيء في صلاته كما في الصحيحين من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "التسبيح في الصلاة للرجال والتصفيق للنساء" وفي الصحيحين أيضا عن سهل بن سعد الساعدي "أن النبي ﷺ ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم" فذكر الحديث وقال في آخره: فقال النبي ﷺ: "مالي أراكم أكثرتم التصفيق؟ من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه وإنما التصفيق للنساء" وذكر البيهقي من حديث إبراهيم بن طهمان عن الأعمش عن ذكوان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "إذا استؤذن على الرجل وهو يصلي فإذنه التسبيح وإذا استؤذن على المرأة وهي تصلي فإذنها التصفيق" قال البيهقي: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات فردت هذه السنن بأنها معارضة لأحاديث تحريم الكلام في الصلاة وقد تعارض مبيح وحاظر فيقدم الحاظر والصواب أنه لا تعارض بين سنن رسول الله ﷺ بوجه وكل منها له وجه والذي حرم الكلام في الصلاة ومنع منه هو الذي شرع التسبيح المذكور وتحريم الكلام كان قبل الهجرة وأحاديث التسبيح بعد ذلك فدعوى نسخها بأحاديث تحريم الكلام محال ولا تعارض بينهما بوجه ما فإن "سبحان الله" ليس من الكلام الذي منع منه المصلي بل هو مما أمر به أمر إيجاب أو استحباب فكيف يسوى بين المأمور والمحظور وهل هذا إلا من أفسد قياس واعتبار.
المثال الثامن والستون: رد السنة في إثبات سجدات المفصل والسجدة الأخيرة من سورة الحج كما روى أبو داود في السنن: حدثنا محمد بن عبد الرحيم البرقي ثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا نافع بن يزيدعن الحارث بن سعيد العتقي عن عبج الله بن منير عن عمرو بن العاص "أن النبي ﷺ أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان" تابعه محمد بن إسماعيل السلمي عن سعيد بن أبي مريم وقال ابن وهب: أنا ابن لهيعة عن مشرح بن عاهان عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ "فضلت سورة الحج بسجدتين فمن لم يسجد فيهما فلا يقرأهما" وحديث ابن لهيعة يحتج منه بما رواه عنه العبأدلة كعبد الله بن وهب وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرى قال أبو زرعة: ابن لهيعة كان ابن المبارك وابن وهب يتبعان أصوله وقال عمرو بن علي: من كتب عنه قبل احتراق كتبه مثل ابن المبارك وابن المقرى أصح ممن كتب عنه بعد احتراقها وقال ابن وهب: كان ابن لهيعة صادقا وقد انتقى النسائي هذا الحديث من جملة حديثه وأخرجه واعتمده وقال: ما أخرجت من حديث ابن لهيعة قط إلا حديثا واحدا أخبرناه هلال ابن العلاء ثنا معافي بن سليمان عن موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث عن ابن لهيعة فذكره.
وقال ابن وهب: حدثني الصادق البار والله عبد الله بن لهيعة وقال الإمام حمد من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه وقال ابن عيينة: كان عند ابن لهيعة الأصول وعندنا الفروع وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: "ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة" وقال أحمد بن صالح الحافظ: "كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طالبا للعلم".
وقال ابن حبان: كان صالحا لكنه يدلس عن الضعفاء ثم احترقت كتبه وكان أصحابنا يقولون: سماع من سمع منه قبل احتراق كتبه مثل العبأدلة ابن وهب وابن المبارك والمقرى والقعنبي فسماعهم صحيح وقد صح عن أبي هريرة أنه سجد مع النبي ﷺ في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وصح عنه ﷺ أنه سجد في النجم ذكره البخاري.
فردت هذه السنن برأي فاسد وحديث ضعيف: أما الرأي فهو أن آخر الحج السجود فيها سجود الصلاة لاقتدانه بالركوع بخلاف الأولى فإن السجود فيها مجرد عن ذكر الركوع ولهذا لم يكن قوله تعالى يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين من مواضع السجدات بالاتفاق وأما الحديث الضعيف فما رواه أبو داود: ثنا محمد بن رافع ثنا أزهر بن القاسم ثنا أبو قدامة عن مطر الوراق عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي ﷺ "لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة".
فأما الرأي فيدل على فساده وجوه: منها أنه مردود بالنص ومنها أن اقتران الركوع بالسجود في هذا الموضع لا يخرجه عن كونه موضع سجدة كما أن اقترانه بالعبادة التي هي أعم من الركوع لا يخرجه عن كونه سجدة وقد صح سجوده ﷺ في النجم وقد قرن السجود فيها بالعبادة كما قرنه بالعبادة في سورة الحج والركوع لم يزده إلا تأكيدا ومنها أكثر السجدات المذكورة في القرآن متناولة لسجود الصلاة فإن قوله تعالى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} يدخل فيه سجود المصلين قطعا وكيف لا وهو أجل السجود وأفرضه وكيف لا يدخل هو في قوله {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} وفي قوله {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وقد قال قبل {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى} ثم قال {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} فأمره بأن يفعل هذا الذي نهاه عنه عدو الله فإرادة سجود الصلاة بآية السجدة لا تمنع كونها سجدة بل تؤكدها وتقويها يوضحه أن مواضع السجدات في القرآن نوعان إخبار وأمر فالإخبار خبر من الله تعالى عن سجود مخلوقاته له عموما أو خصوصا فسن للتالي والسامع وجوبا أو استحبابا أن يتشبه بهم عند تلاوة آية السجدة أو سماعها وآيات الأوامر بطريق الأولى وهذا لا فرق فيه بين أمر وأمر فكيف يكون الأمر بقوله {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} مقتضيا للسجود دون الأمر بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} فالساجد إما متشبه بمن أخبر عنه أو ممتثل لما أمر به وعلى التقديرين يسن له السجود في آخر الحج كما يسن له السجود في أولها فلما سوت السنة بينهما سوى القياسالصحيح والاعتبار الحق بينهما وهذا السجود شرعه الله ورسوله عبودية عند تلاوة هذه الآيات واستماعها وقربة إليه وخضوعا لعظمته وتذللا بين يديه واقتران الركوع ببعض آياته مما يؤكد ذلك ويقويه لا يضعفه ويوهيه والله المستعان.
وأما قوله تعالى {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} فإنما لم يكن موضع سجدة لأنه خبر خاص عن قول الملائكة لامرأة بعينها أن تديم العبادة لربها بالقنوت وتصلي له بالركوع والسجود فهو خبر عن قول الملائكة لها ذلك وإعلام من الله تعالى لنا أن الملائكة قالت ذلك لمريم فسياق ذلك غير سياق آيات السجدات.
وأما الحديث الضعيف فإنه من رواية أبي قدامة واسمه الحارث بن عبيد قال الإمام أحمد رضي الله عنه: هو مضطرب الحديث وقال يحيى: ليس بشيء وقال النسائي: ليس بالقوي وقال الأزدي: ضعيف وقال ابن حبان: لا يحتج به إذا انفرد قلت: وقد أنكر عليه هذا الحديث وهو موضع الإنكار فإن أبا هريرة رضي الله عنه شهد سجوده ﷺ في المفصل في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ذكره مسلم في صحيحه وسجد معه حتى لو صح خبر أبي قدامة هذا لوجب تقديم خبر أبي هريرة عليه لأنه مثبت فمعه زيادة علم والله أعلم.
المثال التاسع والستون: رد السنة الثابتة الصحيحة في سجود الشكر كحديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ "خرج نحو أحد فخر ساجدا فأطال السجود ثم قال: إن جبريل أتاني وبشرني فقال: إن الله تعالى يقول لك: من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت لله تعالى شاكرا" وكحديث سعد بن أبي وقاص في سجوده ﷺ شاكرا لربه لما أعطاه ثلث أمته ثم سجد ثانية فأعطاه الثلث الآخر ثم سجد ثالثة فأعطاه الثلث الباقي وكحديث أبي بكر أن رسول الله ﷺ "كان إذا جاءه أمر يسر به خر ساجدا شكرا لله تعالى وأتاه بشير يبشره بظفر جند لهم على عدوهم فقام وخر ساجدا" وسجد كعب بن مالك لما بشر بتوبة الله عليه وسجد أبو بكر حين جاءه قتل مسيلمة الكذاب وسجد علي كرم الله وجهه حين وجد ذا الثدية في الخوارج الذين قتلهم ولا أعلم شيئا يدفع هذه السنن والآثار مع صحتها وكثرتها غير رأي فاسد وهو أن نعم الله سبحانه وتعالى لا تزال واصلة إلى عبده فلا معنى لتخصيص بعضها بالسجود وهذا من أفسد رأي وأبطله فإن النعم نوعان: مستمرة ومتجددة فالمستمرة شكرها بالعبادات والطاعات والمتجددة شرع شرع لها سجود الشكر شكرا لله عليها وخضوعا له وذلا في مقابلة فرحة النعم وانبساط النفس لها وذلك من أكبر أدوائها فإن الله سبحانه لا يحب الفرحين ولا الأشرين فكان دواء هذا الداء الخضوع والذل والانكسار لرب العالمين وكان سجود الشكر من تحصيل هذا المقصود ما ليس في غيره ونظير هذا السجود عند الآيات التي يخوف الله بها عباده كما في الحديث "إذا رأيتم آية فاسجدوا" وقد فزع النبي ﷺ عند رؤية انكساف الشمس إلى الصلاة وأمر بالفزع إلى ذكره ومعلوم أن آياته تعالى لم تزل مشاهدة معلومة بالحس والعقل ولكن تجددها يحدث للنفس من الرهبة والفزع إلى الله ما لا تحدثه الآيات المستمرة فتجدد هذه النعم في اقتضائها لسجود كتجدد تلك الآيات في اقتضائها للفزع إلى السجود والصلوات ولهذا لما بلغ فقيه الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس موت ميمونة زوج النبي ﷺ خر ساجدا فقيل له أتسجد لذلك فقال: قال رسول الله ﷺ "إذا رأيتم آية فاسجدوا" وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي ﷺ من بين أظهرنا فلو لم تأت النصوص بالسجود عند تجدد النعم لكان هو محض القياس ومقتضى عبودية الرغبة كما أن السجود عند الآيات مقتضى عبودية الرهبة وقد أثنى الله سبحانه على الذين يسارعون في الخيرات ويدعونه رغبا ورهبا ولهذا فرق الفقهاء بين صلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء بأن هذه الصلاة رهبة وهذه صلاة رغبة فصلوات الله وسلامه على من جاءت سنته وشريعته بأكمل ما جاءت به شرائع الرسل وسننهم وعلى آله.
المثال السبعون: رد السنة الثابتة الصحيحة بجواز ركوب المرتهن للدابة المرهونة وشربه لبنها بنفقته عليها كما روى البخاري في صحيحه: ثنا محمد بن مقاتل أنا عبد الله أنا زكريا عن الشعبي عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته" إذا كان مرهونا وعن الذي يركب ويشرب النفقة وهذا الحكم من أحسن الأحاكم وأعدلها ولا أصلح للراهن منه وما عداه ففساده ظاهر فإن الراهن قد يغيب ويتعذر على المرتهن مطالبته بالنفقة التي تحفظ الرهن ويشق عليه أو يتعذر رفعه إلى الحاكم وإثبات غيبة الراهن وإثبات أن قدر نفقته عليه هي قدر حلبه وركوبه وطلبه منه الحكم له بذلك وفي هذا من العسر والحرج والمشقة ما ينافي الحنيفية السمحة فشرع الشارع الحكيم القيم بمصالح العبادللمرتهن أن يشرب لبن الرهن ويركب ظهره وعليه نفقته وهذا محض القياس لو لم تأت به السنة الصحيحة وهو يخرج على أصلين أحدهما: أنه إذا أنفق على الرهن صارت النفقة دينا على الراهن لأنه واجب أداه عنه ويتعسر عليه الإشهاد على ذلك كل وقت واستئذان الحاكم فجوز له الشارع استيفاء دينه من ظهر الرهن ودره وهذا مصلحة محضة لهما وهي بلا شك أولى من تعطيل منفعة ظهره وإراقة لبنه أو تركه يفسد في الحيوان أو يفسده حيث يتعذر الرفع إلى الحاكم لا سيما ورهن الشاة ونحوها إنما يقع غالبا بين أهل البوادي حيث لا حاكم ولو كان فلم يول الله ولا رسوله الحاكم هذا الأمر الأصل الثاني: أن ذلك معاوضة في غيبة أحد المعاوضين للحاجة المصلحة الراجحة وذلك أولى من الأخذ بالشفعة بغير رضا المشتري لأن الضرر في ترك هذه المعاوضة أعظم من الضرر في ترك الأخذ بالشفعة وأيضا فإن المرتهن يريد حفظ الوثيقة لئلا يذهب ماله وذلك إنما يحصل ببقاء الحيوان والطريق إلى ذلك إما النفقة عليها وذلك مأذون فيه عرفا كما هو مأذون فيه شرعا.
وقد أجرى العرف مجرى النطق في أكثر من مائة موضع منها نقد البلد في المعاملات وتقديم الطعام إلى الضيف وجواز تناول اليسير مما يسقط من الناس من مأكول وغيره والشرب من خوابي السيل ومصانعه في الطرق ودخول الحمام وإن لم يعقد عقد الإجارة مع المحامي لفظا وضرب الدابة المستأجرة إذا حرنت في السير وإيداعها في الخان إذا قدم بلدة أو ذهب في حاجة ودفع الوديعة إلى من جرت العادة بدفعها إليه من امرأة أو خادم أو ولد وتوكيل الوكيل لما لا يباشره مثله بنفسه وجواز التخلي في دار من أذن له بالدخول إلى داره والشرب من مائه والاتكاء على الوسادة المنصوبة وأكل الثمرة الساقطة من الغصن الذي على الطريق وإذن المستأجر للدار لمن شاء من أصحابه أو أضيافه في الدخول والمبيت والثوى عنده والانتفاع بالدار وإن لم يتضمنهم عقد الإجارة لفظا اعتمادا على الإذن العرفي وغسل القميص الذي استأجره للبس مدة يحتاج فيها إلى الغسل ولو وكل غائبا أو حاضرا في بيع شيء والعرف قبض ثمنه ملك ذلك ولو اجتاز بحرث غيره في الطريق ودعته الحاجة إلى التخلي فيه فله ذلك إن لم يجد موضعا سواه إما لضيق الطريق أو لتتابع المارين فيها فكيف بالصلاة فيه والتيمم بترابه ومنها لو رأى شاة غيره تموت فذبحها حفظا لماليتها عليه كان ذلك أولى من تركها تذهب ضياعا وإن كان من جامدي الفقهاء من يمنع من ذلك ويقول هذا تصرف في ملك الغير ولم يعلم هذا اليابس أن التصرف في ملك الغير إنما حرمه الله لما فيه من الإضرار به وترك التصرف ههنا هو الإضرار.
ومنها لو استأجر غلاما فوقعت الأكلة في طرفه فتيقن أنه إن لم يقطعه سرت إلى نفسه فمات جاز له قطعه ولا ضمان عليه ومنها لو رأى السيل يمر بدار جاره فبادر ونقب حائطه وأخرج متاعه فحفظه عليه جاز ذلك ولم يضمن نقب الحائط ومنها لو قصد العدو مال جاره فصالحه ببعضه دفعا عن بقيته جاز له ولم يضمن ما دفعه إليه ومنها لو وقعت في النار في دار جاره فهدم جانبا منها على النار لئلا تسري إلى بقيتها لم يضمن ومنها لو باعه صبرة عظيمة أو حطبا أو حجارة ونحو ذلك جاز له أن يدخل ملكه من الدواب والرجال ما ينقلها به وإن لم يأذن له في ذلك لفظا ومنها لو جذ ثماره أو حصد زرعه ثم بقي من ذلك ما يرغب عنه عادة جاز لغيره التقاطه وأخذه وإن لم يأذن فيه لفظا ومنها لو وجد هديا مشعرا منحورا ليس عنده أحد جاز له أن يقتطع منه ويأكل منه ومنها لو أتى إلى دار رجل جاز له طرق حلقه الباب عليه وإن كان تصرفا في بابه لم يأذن فيه لفظا ومنها الاستناد إلى جداره والاستظلال به ومنها الاستمداد من محبرته وقد أنكر الإمام أحمد على من استأذنه في ذلك.
وهذا أكثر من أن يحصر وعليه يخرج حديث عروة بن الجعد البارقي حيث أعطاه النبي ﷺ دينارا يشتري له به شاة فاشترى شاتين بدينار فباع إحداهما بدينار وجاءه بالدينار والشاة الأخرى فباع وأقبض وقبض بغير إذن لفظي اعتماد امنه على الإذن العرفي الذي هو أقوى من اللفظي في أكثر المواضع ولا إشكال بحمد الله في هذا الحديث بوجه ما وإنما الإشكال في استشكاله فإنه جاز على محض القواعد كما عرفته.
فصل الشرط العرفي كاللفظي
ومن هذا الشرط العرفي كاللفظي وذلك كوجوب نقد البلد عند الإطلاق ووجوب الحلول حتى كأنه مشترط لفظا فانرف العقد بإطلاقه إليه وإن لم يقتضه لفظه ومنها السلامة من العيوب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب تنزيلا لاشتراط سلامة المبيع عرفا منزلة اشتراطها لفظا ومنها وجوب وفاء المسلم في مكان العقد وإن لم يشترطه لفظا بناء على الشرط العرفي ومنها لو دفع ثوبه إلى من يعرف أنه يغسل أو يخيط بالأجرة أو عجينة لمن يخبزه أو لحما لمن يطبخه أو حبا لمن يطحنه أو متاعا لمن يحمله ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك وجب له أجرة مثله وإن لم يشترط معه ذلك لفظا عند جمهور أهل العلم حتى عند المنكرين لذلك فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به بل ليس يقف الإذن فيما يفعله الواحد من هؤلاء وغيرهم على صاحب المال خاصة لأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض في الشفقة والنصيحة والحفظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولهذا جاز لأحدهم ضم اللقطة ورد الآبق وحفظ الضالة حتى إنه يحسب ما ينفقه على الضالة والآبق واللقطة وينزل إنفاقهعليها فنزله إنفاقه لحاجة نفسه لما كان حفظا لمال أخيه وإحسانا إليه فلو علم المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع وأن إحسانه يذهب باطلا في حكم الشرع لما أقدم على ذلك ولضاعت مصالح الناس ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضا وتعطلت حقوق كثيرة وفسدت أموال عظيمة ومعلوم أن شريعة من بهرت شريعته العقول وفاقت كل شريعة واشتملت على كل مصلحة وعطلت كل مفسدة تأبى ذلك كل الإباء وأين هذا من إجازة أبي حنيفة تصرف الفضولي ووقف العقود تحصيلا لمصلحة المالك ومنع المرتهن من الركوب والحلب بنفقته فيالله العجب يكون هذا الإحسان للراهن وللحيوان ولنفسه بحفظ الرهن حراما لا اعتبار به شرعا مع إذن الشارع فيه لفظا وإذن المالك عرفا وتصرف الفضولي معتبرا مرتبا عليه حكمه.
هذا ومن المعلوم أنا في إبراء الذمم أحوج منا إلى العقود على أولاد الناس وبناتهم وإمائهم وعبيدهم ودورهم وأموالهم فالمرتهن محسن بإبراء ذمة المالك من الإنفاق على الحيوان مؤد لحق الله فيه ولحق مالكه ولحق الحيوان ولحق نفسه متناول ما أذن له فيه الشارع من العوض بالدر والظهر وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على الآباء إيتاء المراضع أجرهن بمجرد الإرضاع وإن لم يعقدوا معهن عقد إجارة فقال تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}.
فإن قيل: فهذا ينتقص عليكم بما لو كان الرهن دارا فخرب بعضها فعمرها ليحفظ الرهن فإنه لا يستحق السكنى عندكم بهذه العمارة ولا يرجع بها.
قيل: ليس كذلك بل يحتسب له بما أنفقه لأن فيه إصلاح الرهن ذكره القاضي وابنه وغيرهما وقد نص الإمام أحمد في رواية أبي حرب الجرجاني في رجل عمل في قناة رجل بغير إذنه فاستخرج الماء لهذا الذي عمل أجر في نفقته إذا عمل ما يكون منفعة لصاحب القناة هذا مع أن الفرق بين الحيوان والدار ظاهر لحاجة الحيوان إلى الإنفاق ووجوبه على مالكه بخلاف عمارة الدار فإن صح الفرق بطل السؤال وإن بطل الفرق ثبت الاستواء في الحكم.
فإن قيل: في هذا مخالفة للأصول من وجهين أحدهما: أنه إذا أدى عن غيره واجبا بغير إذنه كان متبرعا ولم يلزمه القيام له بما أداه عنه الثاني: أنه لو لزمه عوضه فإنما يلزمه نظير ما أداه فأما ان يعاوض عليه بغير جنس ما أداه بغير اختياره فأصول الشرع تأبى ذلك.
قيل: هذا هو الذي ردت به هذه السنة ولأجله تأولها من تأولها على أن المراد بها أن النفقة على المالك فإنه الذي يركب ويشرب وجعل الحديث دليلا على جواز تصرف الراهن في الرهن بالركوب والحلب وغيره ونحن نبين ما في هذين الأصلين من حق وباطل.
فأما الأصل الأول فقد دل على فساده القرآن والسنة وآثار الصحابة والقياس الصحيح ومصالح العباد أما القرآن فقوله تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقد تقدم تقرير الدلالة منه وقد اعترض بعضهم على هذا الاستدلال بأن المراد به أجورهن المستماه فإنه أمر لهم بوفائها لا أمر لهم بإيتاء ما لم يسموه من الأجرة ويدل عليه قوله تعالى {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} وهذا التعاسر إنما يكون حال العقد بسبب طلبها الشطط من الأجر أو حطها عن أجر المثل وهذا اعتراض فاسد فإنه ليس في الآية ذكر التسمية ولا يدل عليها بدلالة من الدلالات الثلاث أما اللفظيتان فظاهر وأما اللزومية فلانفكاك التلازم بين الأمر بإيتاء الأجر وبين تقدم تسميته وقد سمى الله سبحانه وتعالى ما يؤتيه العامل على عمله أجرا وإن لم يتقدم له تسمية كما قال تعالى عن خليله عليه السلام {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} وقال تعالى {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} ومعلوم أن الأجر ما يعود إلى العامل عوضا عن عمله فهو كالثواب الذي يثوب إليه أي يرجع من عمله وهذا ثابت سواء سمي أو لم يسم وقد نص الإمام أحمد رضي الله عنه على أنه إذا افتدى الأسير رجع عليه بما غرمه عليه ولم يختلف قوله فيه واختلف قوله فيمن أدى دين غيره عنه بغير إذنه فنص في موضع على أنه يرجع عليه فقيل له هو متبرع بالضمان فقال وإن كان متبرعا بالضمان ونص في موضع آخر على أنه لا يرجع فإنه قال: إذا لم يقل اقض عني ديني كان متبرعا ونص على أنه يرجع على السيد بنفقة عبده الآبق إذا رده وقد كتب عمر بن الخطاب إلى عامله في سبي العرب ورقيقهم وقد كان التجار اشتروه فكتب إليه أيما حر اشتراه التجار فاردد عليهم رءوس أموالهم وقد قيل إن جميع الفرق تقول بهذه المسألة وإن تناقضوا ولم يطردوها.
فأبو حنيفة يقول: إذا قضي بعض الورثة دين الميت ليتوصل بذلك إلى أخذ حقه من التركة بالقسمة فإنه يرجع على التركة بما قضاه وهذا واجب قد أداه عن غيره بغير إذنه وقد رجع به ويقول إذا بنى صاحب العلو السفل بغير إذن المالك لزم الآخر غرامة ما يخصه وإذا أنفق المرتهن على الرهن في غيبة الراهن رجع بما أنفق وإذا اشترى اثنان من واحد عبدا بألف فغاب أحدهما فأدى الحاضر جميع الثمن ليستلم العبد كان له الرجوع.
والشافعي يقول: إذا أعار عبد الرجل ليرهنه فرهنه ثم إن صاحب الرهن قضى الدين بغير إذن المستعير وافتك الرهن رجع الحق وإذا استاجر جمالا ليركبها فهرب الجمال فأنفق المستأجر على الجمال رجع بما أنفق وإذا ساقى رجلا على نخله فهرب العامل فاستأجر صاحب النخل من يقوم مقامه رجع عليه به واللقيط إذا أنفق عليه أهل المحلة ثم استفاد مالا رجعوا عليه وإن أذن له في الضمان فضمن ثم أدى الحق بغير إذنه رجع عليه.
وأما المالكية والحنابلة فهم أعظم الناس قولا بهذا الأصل والمالكية أشد قولا به ومما يوضح ذلك أن الحنفية قالوا في هذه المسائل: إن هذه الصور كلها أحوجته إل استيفاء حقه أو حفظ ماله فلولا عمارة السفل لم يثبت العلو ولو لم يقض الوارث الغرماء لم يتمكن من أخذ حقه من التركة بالقسمة ولو لم يحفظ الرهن بالعلف لتلف محل الوثيقة ولو لم يستأجر على الشجر من يقوم مقام العامل لتعطلت الثمرة وحقه متعلق بذلك كله فإذا أنفق كانت نفقته ليتوصل إلى حقه بخلاف من أدى دين غيره فإنه لا حق له هناك يتوصل إلى استيفائه بالأداء فافترقا وتبين أن هذه القاعدة لا تلزمنا وأن من أدى عن غيره واجبا من دين أو نفقة على قريب أو زوجة فهو إما فضولي وهو جدير بأن يفوت عليه ما فوته على نفسه أو متفضل فحوالته على الله دون من تفضل عليه فلا يستحق مطالبته وزادت الشافعية وقالت: لما ضمن له المؤجر تحصيل منافع الجمال ومعلوم أنه لا يمكنه استيفاء تلك المنافع إلا بالعلف دخل في ضمانه لتلك المنافع إذنه له في تحصيلها بالإنفاق عليها ضمنا وتبعا فصار ذلك مستحقا عليه بحكم ضمانه عن نفسه لا بحكم ضمان الغير عنه.
يوضحه أن المؤجر والمساقي قد علما أنه لا بد للحي من قوام ولا بد للنخيل من سقي وعمل عليها فكأنه قد حصل الإذن فيها في الإنفاق عرفا والإذن العرفي يجري مجرى الإذن اللفظي وشاهده ما ذكرتم من المسائل فيقال هذا من أقوى الحجج عليكم في مسألة علف المرتهن للرهن واستحقاقه للرجوع بما غرمه وهذا نصف المسافة وبقي نصفها الثاني وهو المعاوضة عليها بركوبه وشربه وهي أسهل المسافتين وأقربهما إذ غايتها تسليط الشارع له على هذه المعاوضة التي هي من مصلحة الراهن والمرتهن والحيوان وهي أولى من تسليط الشفيع على المعاوضة عن الشقص المشفوع لتكميل ملكه وانفراده به وهي أولى من المعاوضة في مسألة الظفر بغير اختيار من عليه الحق فإن سبب الحق فيها ليس ثابتا والآخذ ظالم في الظاهر ولهذا منعه النبي ﷺ من الأخذ وسماه خائنا بقوله "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" وأما ههنا فسبب الحق ظاهر وقد أذن في المعاوضة للمصلحة التي فيها فكيف تمنع هذه المعاوضة التي سبب الحق فيها ظاهر وقد أذن فيها الشارع وتجوز تلك المعاوضة التي سبب الحق فيها غير ظاهر وقد منع منها الشارع فلا نص ولا قياس.
ومما يدل على أن من أدى عن غيره واجبا أنه يرجع عليه به قوله تعالى {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} وليس من جزاء هذا المحسن بتخليص من أحسن إليه بأداء دينه وفك أسره منه وحل وثاقه أن يضيع عليه معروفه وإحسانه وأن يكون جزاؤه منه بإضاعة ماله ومكافأته وقد قال النبي ﷺ: "من أسدى إليكم معروفا فكافئوه" وأي معروف فوق معروف هذا الذي افتك أخاه من أسر الدين وأي مكافأة أقبح من إضاعة ماله عليه وذهابه وإذا كانت الهدية التي هي تبرع محض قد شرعت المكافأة عليها وهي من أخلاق المؤمنين فكيف يشرع جواز ترك المكافآت على ما هو من أعظم المعروف وقد عقد الله سبحانه وتعالى الموالاة بين المؤمنين وجعل بعضهم أولياء بعض فمن أدى عن وليه واجبا كان نائبه فيه بمنزلة وكيله وولي من أقامه الشرع للنظر في مصالحه لضعفه أو عجزه.
ومما يوضح ذلك أن الأجنبي لو أقرض رب الدين قدر دينه وأحاله به على المدين ملك ذلك وأي فرق شرعي أو معنوي بين أن يوفيه ويرجع به على المدين أو يقرضه ويحتال على المدين وهل تفرق الشريعة المشتملة على مصالح العباد بين الأمرين ولو تعين عليه ذبح هدي أو ضحية فذبحها عنه أجنبي بغير إذنه أجزأت وتأدي الواجب بذلك لم تكن ذبيحة غاصب وما ذاك إلا لكون الذبح قد وجب عليه هذا الواجب غيره وقام مقام تاديته هو بحكم النيابة عنه شرعا وليس الشأن في هذه المسألة لوضوحها واقتضاء أصول الشرع وفروعه لها وإنما الشأن فيمن عمل في مال غيره عملا بغير إذنه ليتوصل بذلك العمل إلى حقه أو فعله حفظا لمال المالك واحترازا له من الضياع فالصواب أنه يرجع عليه بأجرة عمله وقد نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه في عدة مواضع منها أنه إذا حصد زرعه في غيبته فإنه نص على أنه يرجع عليه بالأجرة وهذا من أحسن الفقه فإنه إذا مرض أو حبس أو غاب فلو ترك زرعه بلا حصاد لهلك وضاع فإذا علم من يحصده له أنه يذهب عليه عمله ونفقته ضياعا لم يقدم على ذلك وفي ذلك من إضاعة المال وإلحاق الضرر بالمالك ما تأباه الشريعة الكاملة فكان من أعظم محاسنها أن أذنت للأجنبي في حصاده والرجوع على مالكه بما أنفق عليه حفظا لما له ومال المحسن إليه وفي خلاف ذلك إضاعة لماليهما أو مال أحدهما ومنا ما نص عليه فيمن عمل في قناة رجل بغير إذنه فاستخرج الماء قال هذا الذي عمل نفقته ومنها لو انكسرت سفينته فوقع متاعه في البحر فخلصه رجل فإنه لصاحبه وله عليه أجرة مثله وهذا أحسن من أن يقال: لا أجرة له فلا تطيب نفسه بالتعرض للتلف والمشقة الشديدة ويذهب عمله باطلا أو يذهب مال الآخر ضائعا وكل منهما فساد محض والمصلحة في خلافه ظاهرة والمؤمنون يرون قبيحا أن يذهب عمل مثل هذا ضائعا ومال هذا ضائعا ويرون من أحسن الحسن أن يسلم مال هذا وينجح سعي هذا والله الموفق.
المثال الحادي والسبعون: رد السنة الثابتة الصريحة المحكمة في صحة ضمان دين الميت الذي لم يخلف وفاء كما في الصحيحين عن أبي قتادة قال: "أتى رسول الله ﷺ بجنازة ليصلى عليها فقال: أعليه دين فقالوا: نعم ديناران فقال: أترك لهما وفاء؟ قالوا: لا قال: صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله فصلى عليه" فردت هذه السنة برأي لا يقاومها وهو أن الميت قد خربت ذمته فلا يصح ضمان شيء خراب في محل خراب بخلاف الحي القادر فإن ذمته بصدد العمارة فيصح ضمان دينه وإن لم يكن له وفاء في الحال وأما إذا خلف وفاء فإنه يصح الضمان في الحال تنزيلا لذمته بما خلفه من الوفاء منزلة الحي القادر قالوا: وأما الحديث فإنما هو إخبار عن ضمان متقدم على الموت فهو إخبار منه بالتزام سابق لا إنشاء للالتزام حينئذ وليس في ذلك ما ترد به السنة الصريحة ولا يصح حملها على الإخبار لوجوه أحدها أن في بعض ألفاظ الحديث "فقال أبو قتادة: أنا الكفيل به يا رسول الله فصلى عليه رسول الله ﷺ" رواه النسائي بإسناد صحيح. الثاني: أن في بعض طرق البخاري "فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلي دينه" فقوله: "وعلي دينه" كالصريح في الالتزام أو صريح فيه فإن هذه الواو للاستئناف وليس قبلها ما يصح أن يعطف ما بعدها عليه كما لو قال صل عليه وأنا ألتزم ما عليه أو وأنا ملتزم ما عليه الثالث: أن الحكم لو اختلف لقال له النبي ﷺ هل ضمنت ذلك في حياته أو بعد موته ولا سيما فإن الظاهر منه الإنشاء وأدنى الأحوال أن يحتملهما على السواء فإن كان أحدهما باطلا في الشرع والآخر صحيحا فكيف يقره على قول محتمل لحق وباطل ولم يستفصله عن مراده به الرابع: أن القياس يقتضي صحة الضمان وإن لم يخلف وفاء فإن من صح ضمان دينه إذا خلف وفاء صح ضمانه وإن لم يكن له مال كالحي وأيضا فمن صح ضمان دينه حيا صح ضمان دينه ميتا وأيضا فإن الضمان لا يوجب الرجوع وإنما يوجب مطالبة رب الدين للضامن فلا فرق بين أن يخلف الميت وفاء أو لم يخلفه وأيضا فالميت أحوج إلى ضمان دينه من الحي لحاجته إلى تبريد جلده ببراءة ذمته وتخليصه من ارتهانه بالدين وأيضا فإن ذمة الميت وإن خربت من وجه وهو تعذر مطالبته لم تخرب من جهة بقاء الحق فيها وقد قال النبي ﷺ ليس من ميت يموت إلا وهو مرتهن بدينه ولا يكون مرتهنا وقد خربت ذمته وأيضا فإنه لو خربت ذمته لبطل الضمان بموته فإن الضامن فرعه وقد خربت ذمة الأصل فلما استديم الضمان ولم يبطل بالموت علم أن الضمان لا ينافي الموت فإنه لو نافاه ابتداء لنافاه استدامة فإن هذا من الأحاكم التي لا يفرق فيها بين الدوام والابتداء لا تحاد سبب الابتداء والدوام فيها فظهر أن القياس المحض مع السنة الصحيحة والله الموفق.
المثال الثاني والسبعون: ترك السنة الثابتة الصحيحة الصريحة المحكمة في جمع التقديم والتأخير بين الصلاتين للعذر كحديث أنس كان رسول الله ﷺ إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما" وفي لفظ له "كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل وقت العصر ثم يجمع بينهما" وهو في الصحيحين وكقول معاذ بن جبل: "كان رسول الله ﷺ في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها مع العصر فيصليهما جميعا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب" وهو في السنن والمسند وإسناده صحيح وعلته واهية وكقول ابن عباس: "كان النبي ﷺ إذا زاغت الشمس وهو في منزلة جمع بين الظهر والعصر قبل ان يركب وإذا لم تزغ في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينه وبين العشاء وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كان العشاء نزل فجمع بينهما" وهذا متابع لحديث معاذ وفي بعض طرق هذا الحديث "وإذا سافر قبل أن تزول الشمس أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر" وكقول ابن عمر وقد أخر المغرب حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما ثم أخبر أن رسول الله ﷺ "كان يفعل ذلك إذ جد به السير".
كل هذه سنن في غاية الصحة والصراحة ولا معارض لها فردت بأنها أخبار آحاد وأوقات الصلاة ثابتة بالتواتر كحديث إمامة جبريل للنبي ﷺ وصلاته به كل صلاة في وقتها ثم قال: "الوقت ما بين هذين" فهذا في أول الأمر بمكة وهكذا فعل النبي ﷺ بالسائل في المدينة سواء صلى به كل صلاة في أول وقتها وآخره وقال: "الوقت ما بين هذين" وقال في حديث عبد الله بن عمرو "وقت صلاة الظهر ما لم تحضر العصر ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط نور الشفق ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل" وقال "وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي تليها" ويكفي للسائل وقد سأله عن المواقيت ثم بينها له بفعله "الوقت فيما بين هذين" فهذا بيان بالقول والفعل وهذه أحاديث محكمة صحيحة صريحة في تفصيل الأوقات مجمع عليها بين الأمة وجميعهم احتجوا بها في أوقات الصلاة فقدمتم عليها أحاديث مجملة محتملة في الجمع غير صريحة فيه لجواز أن يكون المراد بها الجمع في الفعل وأن يراد بها الجمع في الوقت فكيف يترك الصريح المبين للمجمل المحتمل وهل هذا إلا ترك للمحكم وأخذ بالمتشابه وهو عين ما أنكرتموه في هذه الأمثلة.
فالجواب أن يقال: الجميع حق فإنه من عند الله وما كان من عند الله فإنه لا يختلف فالذي وقت هذه المواقيت وبينها بقوله وفعله هو الذي شرع الجمع بقوله وفعله فلا يؤخذ ببعض السنة ويترك بعضها والأوقات التي بينها النبي ﷺ بقوله وفعله نوعان بحسب حال أربابها أوقات السعة والرفاهية وأوقات العذر والضرورة ولكل منها أحكام تخصها وكما أن واجبات الصلاة وشروطها تختلف باختلاف القدرة والعجز فهكذا أوقاتها وقد جعل النبي ﷺ وقت النائم والذاكر حين يستيقظ ويذكر أي وقت كان وهذا غير الأوقات الخمسة وكذلك جعل أوقات المعذورين ثلاثة وقتين مشتركين ووقتا مختصا فالوقتان المشتركان لأرباب الأعذار هما أربعة لأرباب الرفاهية ولهذا جاءت الأوقات في كتاب الله نوعين خمسة وثلاثة في نحو عشر آيات من القرآن فالخمسة لأهل الرفاهية والسعة والثلاثة لأرباب الأعذار وجاءت السنة بتفصيل ذلك وبيانه وبيان أسبابه فتوافقت دلالة القرآن والسنة والاعتبار الصحيح الذي هو مقتضى حكمة الشريعة وما اشتملت عليه من المصالح فأحاديث الجمع مع أحاديث الإفراد بمنزلة أحاديث الأعذار والضرورات مع أحاديث الشروط والواجبات فالسنة يبين بعضها بعضا لا يرد بعضها ببعض ومن تأمل أحاديث الجمع وجدها كلها صريحة في جمع الوقت لا في جمع الفعل وعلم أن جمع الفعل اشق وأصعب من الإفراد بكثير فإنه ينتظر بالرخصة أن يبقى من وقت الأولى قدر فعلها فقط بحيث إذا سلم منها دخل وقت الثانية فأوقع كل واحدة منهما في وقتها وهذا أمر في غاية العسر والحرج والمشقة وهو مناف لمقصود الجمع وألفاظ السنة الصحيحة الصريحة ترده كما تقدم وبالله التوفيق.
المثال الثالث والسبعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الوتر بخمس متصلة وسبع متصلة محديث أم سلمة "كان رسول الله ﷺ يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام" رواه الإمام أحمد وكقول عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله ﷺ يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس إلا في آخرهن" متفق عليه وكحديث عائشة رضي الله عنها أنه ﷺ "كان يصلي من الليل تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعناه ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة فلما أسن رسول الله ﷺ وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنعه في الأولى" وفي لفظ عنها "فلما أسن رسول الله ﷺ وأخذه اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة" وفي لفظ صلى "سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن" وكلها أحاديث صحاح صريحة لا معارض لها فردت هذه بقوله ﷺ "صلاة الليل مثنى مثنى" وهو حديث صحيح ولكن الذي قاله هو الذي أوتر بالتسع والسبع والخمس وسننه كلها حق يصدق بعضها بعضا فالنبي ﷺ أجاب السائل له عن صلاة الليل بأنها مثنى مثنى ولم يسأله عن الوتر وأما السبع والخمس والتسع والواحدة فهي صلاة الوتر والوتر اسم للواحدة المنفصلة مما قبلها وللخمس والسبع والتسع والتسع المتصلة كالمغرب اسم للثلاث المتصلة فإن انفصلت الخمس والسبع بسلامين كالإحدى عشرة كان الوتر اسما للركعة المفصولة وحدها كما قال النبي ﷺ "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشى الصبح أوتر بواحدة توتر له ما صلى" فاتفق فعله ﷺ وقوله وصدق بعضه بعضا وكذلك يكون ليس إلا وإن حصل تناقض فلابد من أحد أمرين: إما أن يكون أحد الحديثين ناسخا للآخر أو ليس من كلام رسول الله ﷺ فإن كان الحديثان من كلامه وليس أحدهما منسوخا فلا تناقض ولا تضاد هناك البتة وإنما يؤتى من يؤتى هناك من قبل فهمه وتحكيمه آراء الرجال وقواعد المذهب على السنة فيقع الاضطراب والتناقض والاختلاف والله المستعان.
في تغير الفتوى واختلافها يحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد
بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد
هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله ص أتم دلالة وأصدقها وهي نوره الذي به أبصر المبصرون وهداه الذي به اهتدى المهتدون وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل فهي قرة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم وهي العصمة للناس وقوام العالم وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقى من رسومها فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة.
الإنكار له شروط
المثال الأول أن النبي ﷺ شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وان كان الله يبغضه ويمقت أهله وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر وقد استأذن الصحابة رسول الله ﷺ في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا أفلا نقاتلهم فقال: "لا ما أقاموا الصلاة" وقال: "من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدا من طاعته" ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو اكبر منه فقد كان رسول الله ﷺ يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء.
أربع درجات للإنكار
فإنكار المنكر أربع درجات الأولى أن يزول ويخلفه ضده الثانية أن يقل وإن لم يزل بجملته الثالثة أن يخلفه ما هو مثله الرابعة أن يخلفه ما هو شر منه فالدرجتان الأوليان مشروعتان والثالثة موضع اجتهاد والرابعة محرمة.
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد وإلا كان تركهم على ذلك خيرا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ما هم فيه شاغلا لهم عن ذلك وكما إذا كان الرجل مشتغلا بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى وهذا باب واسع.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه وقلت له إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم.
فصل النهي عن قطع الأيدي في الغزو
المثال الثاني أن النبي ﷺ: "نهى أن تقطع الأيدي في الغزو" رواه أبو داود فهذا حد من حدود الله تعالى وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عله ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبا كما قاله عمرو أبو الدرداء وحذيفة وغيرهم وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام على ارض العدو وذكرها أبو القاسم الخرقي في مختصره فقال لا يقام الحد على مسلم في أرض العدو وقد أتى بشر بن أرطاة برجل من الغزاة قد سرق مجنة فقال لولا أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لا تقطع الأيدي في الغزو لقطعت يدك"رواه أبو داود وقال أبو محمد المقدسي وهو إجماع الصحابة.
روى سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار وعن أبي الدرداء مثل ذلك.
وقال علقمة: كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان وعلينا الوليد بن عقبة فشرب الخمر فأردنا أن نحده فقال حذيفة أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم.
وأتى سعد بن أبي وقاص بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر فأمر به إلى القيد فلما التقى الناس قال أبو محجن.
كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنا ** وأترك مشدودا علي وثاقيا.
فقال لابنة حفصة امرأة سعد أطلقيني ولك والله على إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد فإن قتلت استرحتم مني قال فحلته حتى التقى الناس وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس قال وصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء ثم أخذ رمحا ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم وجعل الناس يقولون هذا ملك لما يرونه يصنع وجعل سعد يقول الصبر صبر البلقاء والظفر ظفر أبي محجن وأبو محجن في القيد فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد فأخبرت ابنة حفصة سعدا بما كان من أمره فقال سعد لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلاهم فخلى سبيله فقال أبو محجن قد كنت أشربها إذ يقام على الحد وأطهر منها فأما إذ بهرجتني فوالله لا أشربها أبدا وقوله إذ بهرجتني أي أهدرتني بإسقاط الحد عني ومنه بهرج دم ابن الحارث أي أبطله وليس في هذا ما يخالف نصا ولا قياسا ولا قاعدة من قواعد الشرع ولا إجماعا بل لو ادعى انه إجماع الصحابة كان أصوب.
قال الشيخ في المغني: وهذا اتفاق لم يظهر خلافه.
قلت وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة إما من حاجة المسلمين إليه أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة كما يؤخر عن الحامل والمرضع وعن وقت الحر والبرد والمرض فهذا تأخير لمصلحة المحدود فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى.
فإن قيل فما تصنعون بقول سعد والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلاهم فأسقط عنه الحد؟ قيل قد يتمسك بهذا من يقول لا حد على مسلم في دار الحرب كما يقوله أبو حنيفة ولا حجة فيه والظاهر أن سعدا رضي الله عنه اتبع في ذلك سنة الله تعالى فإنه لما رأى من تأثير أبي محجن في الدين وجهاده وبذله نفسه لله ما رأى درأ عنه الحد لأن ما أتى به من الحسنات غمرت هذه السيئة الواحدة وجعلتها كقطرة نجاسة وقعت في بحر ولا سيما وقد شام منه مخايل التوبة النصوح وقت القتال إذ لا يظن مسلم إصراره في ذلك الوقت الذي هو مظنة القدوم على الله وهو يرى الموت وأيضا فإنه بتسليمه نفسه ووضع رجله في القيد اختيارا قد استحق أن يوهب له حده كما قال النبي ﷺ للرجل الذي قال له يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي فقال هل صليت معنا هذه الصلاة قال نعم قال اذهب فإن الله قد غفر لك حدك وظهرت بركة هذا العفو.
والإسقاط في صدق توبته فقال والله لا أشربها أبدا وفي رواية أبد الأبد وفي رواية قد كنت آنف أن اتركها من أجل جلداتكم فأما إذا تركتموني فوالله لا أشربها أبدا وقد يريء النبي ﷺ مما صنع خالد ببني جذيمة وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" ولم يؤاخذه به لحسن بلائه ونصره للإسلام.
التائب يسقط عنه الحد
ومن تأمل المطابقة بين الأمر والنهي والثواب والعقاب وارتباط أحدهما بالآخر علم فقه هذا الباب وإذا كان الله لا يعذب تائبا فهكذا الحدود لا تقام على تائب وقد نص الله على سقوط الحد عن المحاربين بالتوبة التي وقعت قبل القدرة عليهم مع عظيم جرمهم وذلك تنبيه على سقوط ما دون الحراب بالتوبة الصحيحة بطريق الأولى وقد روينا في سنن النسائي من حديث سماك عن علقمة ابن وائل عن أبيه أن امرأة وقع عليها في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها ثم مر عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه وسبقهم الآخر فجاءوا به يقودونه إليها فقال: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر قال: فأتوا به نبي الله ﷺ فأخبرته انه الذي وقع عليها وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني فقالت: كذب هو الذي وقع علي قال النبي صلى اله عليه وآله وسلم: "نطلقوا به فارجموه" فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل فاعترف فاجتمع ثلاثة عند رسول الله ﷺ الذي وقع عليها والذي أغاثها والمرأة فقال: "أما أنت فقد غفر لك وقال للذي أغاثها قولا حسنا" فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنى فأبى رسول الله ﷺ فقال: "لأنه قد تاب إلى الله" رواه عن محمد ابن يحيى بن كثير الحراني ثنا عمر بن حماد بن طلحة حدثنا أسباط بن نصر عن سماك وليس فيه بحمد الله إشكال.
الأخذ بالقرائن وشواهد الأحوال
فإن قيل فكيف أمر رسول الله ﷺ برجم المغيث من غير بينة ولا إقرار؟
قيل هذا من أدل الدلائل على اعتبار القرائن والأخد بشواهد الأحوال في التهم وهذا يشبه إقامة الحدود بالرائحة والقيء كما اتفق عليه الصحابة وإقامة حد الزنا بالحبل كما نص عليه عمر وذهب إليه فقهاء أهل المدينة وأحمد في ظاهر مذهبه وكذلك الصحيح أنه يقام الحد على المتهم بالسرقة إذا وجد المسروق عنده فهذا الرجل لما أدرك وهو يشتد هربا وقالت المرأة هذا هو الذي فعل بي وقد اعترف بأنه دنا منها وأتى إليها وادعى أنه كان مغيثا لأمريبا ولم ير أولئك الجماعة غيره كان في هذا أظهر الأدلة على أنه صاحبها وكان الظن المستفاد من ذلك لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة واحتمال الغلط وعداوة الشهود كاحتمال الغلط أو عداوة المرأة ههنا بل ظن عداوة المرأة في هذا الوضع في غاية الاستبعاد فنهاية الأمر أن هذا لوث ظاهر لا يستبعد ثبوت الحد بمثله شرعا كما يقتل في القسامة باللوث الذي لعله دون هذا في كثير من المواضع فهذا الحكم من أحسن الأحكام وأجراها على قواعد الشرع والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينات والاقارير وشواهد الأحوال وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة ولا تنضبط أمر لا يقدح في كونها طرقا وأسبابا للأحكام والبينة لم تكن موجبة بذاتها للحد وإنما ارتباط الحد بها ارتباط المدلول بدليله فإن كان هناك دليل يقاومها أو أقوى منها لم يلغه الشارع وظهور الأمر بخلافه لا يقدح في كونه دليلا كالبينة والإقرار وأما سقوط الحد عن المعترف فإذا لم يتسع له نطاق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأحرى أن لا يتسع له نطاق كثير من الفقهاء ولكن اتسع له نطاق الرءوف الرحيم فقال إنه قد تاب إلى الله وأبى أن يحده ولا ريب أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعا واختيارا خشية من الله وحده وإنقاذا لرجل مسلم من الهلاك وتقديم حياة أخيه على حياته واستسلامه للقتل اكبر من السيئة التي فعلها فقاوم هذا الدواء لذلك الداء وكانت القوة صالحة فزال المرض وعاد القلب إلى حال الصحة فقيل لا حاجة لنا بحدك وإنما جعلناه طهرة ودواء فإذا تطهرت بغيره فعفونا يسعك فأي حكم أحسن من هذا الحكم وأشد مطابقة للرحمة والحكمة والمصلحة وبالله التوفيق.
وقد روينا في سنن النسائي من حديث الأوزاعي ثنا أبو عمار شداد قال حدثني أبو أمامة أن رجلا أتى النبي ﷺ فقال يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي فأعرض عنه ثم قال إني أصبت حدا فأقمه علي فأعرض عنه ثم قال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي فأعرض عنه فأقيمت الصلاة فلما سلم رسول الله ﷺ قال يا رسول الله إنى أصبت حدا فأقمه علي قال: "هل توضأت حين أقبلت" قال: نعم قال: "هل صليت معنا حين صلينا" قال: نعم قال: "اذهب فإن الله قد عفا عنك" وفي لفظ إن الله قد غفر لك ذنبك أو حدك ومن تراجم النسائي على هذا الحديث من اعترف بحد ولم يسمه وللناس فيه ثلاث مسالك هذا أحدها والثاني أنه خاص بذلك الرجل والثالث سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة عليه وهذا أصح المسالك.
فصل سقوط حد السرقة أيام المجاعة
المثال الثالث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسقط القطع عن السارق في عام المجاعة قال السعدي حدثنا هارون بن إسماعيل الخراز ثنا علي بن المبارك ثنا يحيى بن أبي كثير حدثني حسان بن زاهر أن ابن حدير حدثه عن عمر قال لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة قال السعدي سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال العذق النخلة وعام سنة المجاعة فقلت لأحمد تقول به فقال إي لعمري قلت إن سرق في مجاعة لا تقطعه فقال لا إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة.
قال السعدي وهذا على نحو قضية عمر في غلمان حاطب ثنا أبو النعمان عارم ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن حاطب أن غلمة لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة فأتى بهم عمر فأقروا فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة وأقروا على أنفسهم فقال عمر يا كثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم فلما ولي بهم ردهم عمر ثم قال أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم وايم الله إذ لم أفعل لاغرمنك غرامة توجعك ثم قال يا مزني بكم أريدت منك ناقتك قال بأربعمائة قال عمر اذهب فأعطه ثمانمائة.
وذهب أحمد إلى موافقة عمر في الفصلين جميعا ففي مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها السعدي بكتاب سماه المترجم قال سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يحمل الثمر من أكمامه فقال فيه الثمن مرتين وضرب نكال وقال وكل من درأنا عنه الحد والقود أضعفنا عليه الغرم وقد وافق أحمد على سقوط القطع في المجاعة الأوزاعي وهذا محض القياس ومقتضي قواعد الشرع فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه ويجب على صاحب المال بذل ذلك له إما بالثمن أو مجانا على الخلاف في ذلك والصحيح وجوب بذله مجانا لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء بل إذا وازنت بين هذه الشبهة وبين ما يذكرونه ظهر لك التفاوت فأين شبهة كون المسروق مما يسرع إليه الفساد وكون أصله على الإباحة كالماء وشبهة القطع به مرة وشبهة دعوى ملكه بلا بينة وشبهة إتلافه في الحرز بأكل أو احتلاب من الضرع وشبهة نقصان ماليته في الحرز بذبح أو تحريق ثم إخراجه وغير ذلك من الشبه الضعيفة جدا إلى هذه الشبهة القوية لاسيما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون ولا يتميز المستغنى منهم والسارق لغير حاجة من غيره فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه فدرئ نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغن عن السرقة قطع.
فصل صدقة الفطر حسب قوت المخرجين
المثال الرابع أن النبي ﷺ فرض صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك فإنما عليهم صاع من قوتهم كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك من الحبوب فإن كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن واللحم والسمك أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنا ما كان هذا قول جمهور العلماء وهو الصواب الذي لا يقال بغيره إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد ومواساتهم من جنس ما يقتاته أهل بلدهم وعلى هذا فيجزئ إخراج الدقيق وان لم يصح فيه الحديث وأما إخراج الخبز والطعام فإنه وإن كان أنفع للمساكين لقلة المؤنة والكلفة فيه فقد يكون الحب أنفع لهم لطول بقائه وأنه يتأتى منه مالا يتأتى من الخبز والطعام ولا سيما إذا كثر الخبز والطعام عند المسكين فإن يفسد ولا يمكنه حفظه وقد يقال لا اعتبار بهذا فإن المقصود إغناؤهم في ذلك اليوم العظيم عن التعرض للسؤال كما قال النبي ﷺ: "أغنوهم في هذا اليوم عن المسألة" وإنما نص على الأنواع المخرجة لأن القوم لم يكونوا يعتادون اتخاذ الأطعمة يوم العيد بل كان قوتهم يوم العيد كقوتهم سائر السنة ولهذا لما كان قوتهم يوم عيد النحر من لحوم الأضاحي أمروا أن يطعموا منها القانع والمعتر فإذا كان أهل بلد أو محلة عادتهم اتخاذ الأطعمة يوم العيد جاز لهم بل يشرع لهم أن يواسوا المساكين من أطعمتهم فهذا محتمل يسوغ القول به والله أعلم.
فصل لا يتعين في المصراة رد صاع من تمر
المثال الخامس: أن النبي ﷺ نص في المصراة على رد صاع من تمر بدل اللبن فقيل هذا حكم عام في جميع الأمصار حتى في المصر الذي لم يسمع أهله بالتمر قط ولا رأوه فيجب إخراج قيمة الصاع في موضع التمر ولا يجزئهم إخراج صاع من قوتهم وهذا قول أكثر الشافعية والحنابلة وجعل هؤلاء التمر في المصراة كالتمر في زكاة التمر لا يجزى سواه فجعلوه تعبدا فعينوه اتباعا للفظ النص وخالفهم آخرون فقالوا بل يخرج في كل موضع صاعا من قوت ذلك البلد الغالب فيخرج في البلاد التي قوتهم البر صاعا من بر وإن كان قوتهم الأرز فصاعا من أرز وإن كان الزبيب والتين عندهم كالتمر في موضعه أجزأ صاع منه وهذا هو الصحيح وهو اختيار أبي المحاسن الروياني وبعض أصحاب أحمد وهو الذي ذكره أصحاب مالك قال القاضي أبو الوليد روى ابن القاسم أن الصاع يكون من غالب قوت البلد قال صاحب الجواهر بعد حكاية ذلك ووجهه انه ورد في ألفاظ هذا الحديث صاعا من طعام فيحمل تعيين صاع التمر في الروايه المشهورة على أنه غالب قوت ذلك البلد انتهى.
ولا ريب أن هذا أقرب إلى مقصود الشارع ومصلحة المتعاقدين من إيجاب قيمة صاع من التمر في موضعه والله أعلم.
وكذلك حكم ما نص عليه الشارع من الأعيان التي يقوم غيرها مقامها من كل وجه أو يكون أولى منها كنصه على الأحجار في الاستجمار ومن المعلوم أن الخرق والقطن والصوف أولى منها بالجواز وكذلك نصه على التراب في الغسل من ولوغ الكلب والاشنان أولى منه.
هذا فيما علم مقصود الشارع منه وحصول ذلك المقصود على أتم الوجوه بنظيره وما هو أولى منه
فصل طواف الحائض بالبيت
المثال السادس أن النبي ﷺ منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر وقال اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت فظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان ولم يفرق بين حال القدرة والعجز ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك وتمسك بظاهر النص ورأى منافاة الحيض للطواف كمنافاته للصلاة والصيام إذ نهى الحائض عن الجميع سواء ومنافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاته لعبادة الصلاة ونازعهم في ذلك فريقان أحدهما صحح الطواف مع الحيض ولم يجعلوا الحيض مانعا من صحته بل جعلوا الطهارة واجبة تجبر بالدم ويصح الطواف بدونها كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أنصهما عنه وهؤلاء لم يجعلوا ارتباط الطهارة بالطواف كارتباطها بالصلاة ارتباط الشرط بالمشروط بل جعلوها واجبة من واجباته وارتباطها به كارتباط واجبات الحج به يصح فعله مع الإخلال بها ويجبرها الدم والفريق الثاني جعلوا وجوب الطهارة للطواف واشتراطها بمنزلة وجوب السترة واشتراطها بل بمنزلة سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز قالوا وليس اشتراط الطهارة للطواف أو وجوبها له بأعظم من اشتراطها للصلاة فإذا سقطت بالعجز عنها فسقوطها في الطواف بالعجز عنها أولى وأحرى.
قالوا: وقد كان في زمن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين تحتبس أمراء الحج للحيض حتى يطهرن ويطفن ولهذا قال الني ﷺ في شأن صفية وقد حاضت أحابستنا هي قالوا إنها قد أفاضت قال فلتنفر إذا وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها يمكنها الطواف بها فأما في هذه الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لآجل الحيض فلا تخلو من ثمانية أقسام أحدها أن يقال لها أقيمي بمكة وإن رحل الركب حتى تطهري وتطوفي وفي هذا من الفساد وتعريضها للمقام وحدها في بلد الغربة مع لحوق غاية الضرر لها ما فيه الثاني أن يقال يسقط طواف الإفاضة للعجز عن شرطه الثالث أن يقال إذا علمت أو خشيت مجئ الحيض في وقته جاز لها تقديمه على وقته الرابع أن يقال إذا كانت تعلم بالعادة أن حيضها يأتي في أيام الحج وأنها إذا حجت أصابها الحيض هناك سقط عنها فرضه حتى تصير آيسة وينقطع حيضها بالكلية الخامس أن يقال بل تحج فإذا حاضت ولم يمكنها الطواف ولا المقام رجعت وهي على إحرامها تمتنع من النكاح ووطء الزوج حتى تعود إلى البيت فتطوف وهي طاهرة ولو كان بينها وبينه مسافة سنين ثم إذا أصابها الحيض في سنة العود رجعت كما هي ولا تزال كذلك كل عام حتى يصادفها عام تطهر فيه السادس أن يقال بل تتحلل إذا عجزت عن المقام حتى تطهر كما يتحلل المحصر مع بقاء الحج في ذمتها فمتى قدرت على الحج لزمها ثم إذا أصابها ذلك أيضا تحللت وهكذا أبدا حتى يمكنها الطواف طاهرا السابع أن يقال يجب عليها أن تستنيب من يحج عنها كالمعضوب وقد أجزأ عنها الحج وإن انقطع بعد ذلك الثامن أن يقال بل تفعل ما تقدر عليه من مناسك الحج ويسقط عنها ما تعجز عنه من الشروط والواجبات كما يسقط عنها طواف الوداع بالنص وكما يسقط عنها فرض السترة إذا شلحتها العبيد أو غيرهم وكما يسقط عنها فرض طهارة الجنب إذا عجزت عنها لعدم الماء أو مرض بها وكما يسقط فرض اشتراط طهارة مكان الطواف والسعي إذا عرض فيه نجاسة تتعذر إزالتها وكما يسقط شرط استقبال القبلة في الصلاة إذا عجز عنه وكما يسقط فرض القيام والقراءة والركوع والسجود إذا عجز عنه المصلي وكما يسقط فرض الصوم عن العاجز عنه إلى بدله وهو الإطعام ونظائر ذلك من الواجبات والشروط التي تسقط بالعجز عنها إما إلى بدل أو مطلقا فهذه ثمانية أقسام لا مزيد عليها ومن المعلوم أن الشريعة لا تأتي بسوى هذا القسم الثامن.
التقدير الأول فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة فإن القسم الأول وإن قاله من قال من الفقهاء فلا يتوجه ههنا لأن هذا الذي قالوه متوجه فيمن أمكنها الطواف ولم تطف والكلام في امرأة لا يمكنها الطواف ولا المقام لأجله وكلام الأئمة والفقهاء هو مطلق كما يتكلمون في نظائره ولم يتعرضوا لمثل هذه الصور التي عمت بها البلوى ولم يكن ذلك في زمن الأئمة بل قد ذكروا أن المكرى يلزمه المقام والاحتباس عليها لتطهر ثم تطوف فإنه كان ممكنا بل واقعا في زمنهم فأفتوا بأنها لا تطوف حتى تطهر لتمكنها من ذلك وهذا لا نزاع فيه ولا إشكال فأما في هذه الأزمان فغير ممكن وإيجاب سفرين كاملين في الحج من غير تفريط من الحاج ولا سبب صدر منه يتضمن إيجاب حجتين إلى البيت والله تعالى إنما أوجب حجة واحدة بخلاف من أفسد الحج فإنه قد فرط بفعل المحظور وبخلاف من ترك طواف الزيارة أو الوقوف بعرفة فإنه لم يفعل ما يتم حجته وأما هذه فلم تفرط ولم تترك ما أمرت به فإنها لم تؤمر بما لا تقدر عليه وقد فعلت ما تقدر عليه فهي بمنزلة الجنب إذا عجز عن الطهارة الأصلية والبدلية وصلى حسب حاله فإنه لا اعادة عليه في أصح الأقوال وأيضا فهذه قد لا يمكنها السفر مرة ثانية فإذا قيل إنها تبقي محرمة إلى أن تموت فهذا ضرر لا يكون مثله في دين الإسلام بل يعلم بالضرورة أن الشريعة لا تأتي به.
فصل التقدير الثاني فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة
وأما التقدير الثاني وهو سقوط طواف الإفاضة فهذا مع أنه لا قائل به فلا يمكن القول به فإنه ركن الحج الأعظم وهو الركن المقصود لذاته والوقوف بعرفة وتوابعه مقدمات له.
فصل التقدير الثالث فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة
وأما التقدير الثالث وهو أن تقدم طواف الإفاضة على وقته إذا خشيت لحيض في وقته فهذا لا يعلم به قائل والقول به كالقول بتقديم الوقوف بعرفة على يوم عرفة وكلاهما مما لا سبيل إليه.
فصل التقدير الرابع فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة
وأما التقدير الرابع وهو أن يقال يسقط عنها فرض الحج إذا خشيت ذلك فهذا وإن كان أفقه مما قبله من التقديرات فإن الحج يسقط لما هو دون هذا من الضرر كما لو كان بالطريق أو بمكة خوف أو أخذ خفارة مجحفة أو غير مجحفة على أحد القولين أو لم يكن لها محرم ولكنه ممتنع لوجهين أحدهما أن لازمه سقوط الحج عن كثير من النساء أو أكثرهن فإنهن يخفن من الحيض وخروج الركب قبل الطهر وهذا باطل فإن العبادات لا تسقط بالعجز عن بعض شرائطها ولا عن بعض أركانها وغاية هذه أن تكون عجزت عن شرط أو ركن وهذا لا يسقط المقدور عليه قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال ﷺ: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ولهذا وجبت الصلاة بحسب الإمكان وما عجز عنه من فروضها أو شروطها سقط عنه والطواف والسعي إذا عجز عنه ماشيا فعله راكبا اتفاقا والصبي يفعل عنه وليه ما يعجز عنه الوجه الثاني أن يقال في الكلام فيمن تكلفت وحجت وأصابها هذا العذر فما يقول صاحب هذا التقدير حينئذ فإما أن يقول تبقى محرمة حتى تعود إلى البيت أو يقول تتحلل كالمحصر وبالجملة فالقول بعدم وجوب الحج على من تخاف الحيض لا يعلم به قائل ولا تقتضيه الشريعة فإنها لا تسقط مصلحة الحج التي هي من أعظم المصالح لأجل العجز عن أمر غايته أن يكون واجبا في الحج أو شرطا فيه فأصول الشريعة تبطل هذا القول.
فصل التقدير الخامس فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة
وأما التقدير الخامس وهي أن ترجع وهي على إحرامها ممتنعة من النكاح والوطء إلى أن تعود في العام المقبل ثم إذا أصابها الحيض رجعت كذلك وهكذا كل عام فمما ترده أصول الشريعة وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة والإحسان فإن الله لم يجعل على الأمة مثل هذا الحرج ولا ما هو قريب منه.
فصل التقدير السادس فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة
وأما التقدير السادس وهو أنها تتحلل كما يتحلل المحصر فهذا أفقه من التقدير الذي قبله فإن هذه منعها خوف المقام من إتمام النسك فهى كمن منعها عدو عن الطواف بالبيت بعد التعريف ولكن هذا التقدير ضعيف فإن الإحصار أمر عارض للحاج يمنعه من الوصول إلى البيت في وقت الحج وهذه متمكنة من البيت ومن الحج من غير عدو ولا مرض ولا ذهاب نفقة وإذا جعلت هذه كالمحصر أوجبنا عليها الحج مرة ثانية مع خوف وقوع الحيض منها والعذر الموجب للتحلل بالإحصار إذا كان قائما به منع من فرض الحج ابتداء كإحاطة العدو بالبيت وتعذر النفقة وهذه عذرها لا يسقط فرض الحج عليها ابتداء فلا يكون عروضه موجبا للتحلل كالإحصار فلازم هذا التقدير أنها إذا علمت أن هذا العذر يصيبها أو غلب على ظنها أن يسقط عنها فرض الحج فهو رجوع إلى التقدير الرابع.
فصل التقدير السابع فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة
وأما التقدير السابع وهو أن يقال يجب عليها أن تستنيب من يحج عنها إذا خافت الحيض وتكون كالمعضوب العاجز عن الحج بنفسه فما أحسنه من تقدير لو عرف به قائل فإن هذه عاجزة عن إتمام نسكها ولكن هو باطل أيضا فإن المعضوب الذي يجب عليه الاستنابة هو الذي يكون آيسا من زوال عذره فلو كان يرجو زوال عذره كالمرض العارض والحبس لم يكن له أن يستنيب وهذه لا تيأس من زوال عذرها لجواز أن تبقى إلى زمن اليأس وانقطاع الدم أو أن دمها ينقطع قبل سن اليأس لعارض بفعلها أو بغير فعلها فليست كالمعضوب حقيقة ولا حكما.
فصل أصح التقديرات فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة
فإذا بطلت هذه التقديرات تعين التقدير الثامن وهو أن يقال تطوف بالبيت والحالة هذه وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة بل يوافقها كما تقدم إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه ولا واجب في الشريعة مع عجز ولا حرام مع ضرورة.
فإن قيل في ذلك محذوران.
المحذور الأول
أحدهما: دخول الحائض المسجد وقد قال النبي ﷺ: "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" فكيف بأفضل المساجد الثاني طوافها في حال الحيض وقد منعها الشارع منه كما منعها من الصلاة فقال اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت فالذي منعها من الصلاة مع الحيض هو الذي منعها من الطواف معه.
فالجواب عن الأول من أربعة أوجه:
أحدها أن الضرورة تبيح دخول المسجد للحائض والجنب فإنها لو خافت العدو أو من يستكرهها على الفاحشة أو أخذ مالها ولم تجد ملجأ إلا دخول المسجد جاز لها دخوله مع الحيض وهذه تخاف ما هو قريب من ذلك فإنها تخاف إن أقامت بمكة أن يؤخذ مالها إن كان لها مال وإلا أقامت بغربة ضرورة وقد تخاف في إقامتها ممن يتعرض لها وليس لها من يدفع عنها.
الجواب الثاني: أن طوافها بمنزلة مرورها في المسجد ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث وهي في دورانها حول البيت بمنزله مرورها ودخولها من باب وخروجها من آخر فإذا جاز مرورها للحاجة فطوافها للحاجة التي هي أعظم من حاجة المرور أولى بالجواز.
يوضحه الوجه الثالث: أن دم الحيض في تلويثه المسجد كدم الاستحاضة والمستحاضة يجوز لها دخول المسجد للطواف إذا تلجمت اتفاقا وذلك لأجل الحاجة وحاجة هذه أولى.
يوضحه الوجه الرابع: أن منعها من دخول المسجد للطواف كمنع الجنب فإن النبي ﷺ بينهما في تحريم المسجد عليهما وكلاهما يجوز له الدخول عند الحاجة وسر المسألة أن قول النبي ﷺ لا تطوفي بالبيت هل ذلك لأن الحائض ممنوعة من المسجد والطواف لا يكون إلا في المسجد أو أن عبادة الطواف لا تصح مع الحيض كالصلاة أو لمجموع الأمرين أو لكل واحد من الأمرين فهذه أربعة تقادير فإن قيل بالمعنى الأول لم يمنع صحة الطواف مع الحيض كما قاله أو حنيفة ومن وافقه وكما هو إحدى الروايتين عن أحمد وعلى هذا فلا يمتنع الإذن لها في دخول المسجد لهذه الحاجة التي تلتحق بالضرورة ويقيد بها مطلق نهى النبي ﷺ وليس بأول مطلق قيد بأصول الشريعة وقواعدها وإن قيل بالمعنى الثاني فغايته أن تكون الطهارة شرطا من شروط الطواف فإذا عجزت عنها سقط اشتراطها كما لو انقطع دمها وتعذر عليها الاغتسال والتيمم فإنها تطوف على حسب حالها كما تصلي بغير طهور.
فصل المحذور الثاني
وأما المحذور الثاني وهو طوافها مع الحيض والطواف كالصلاة فجوابه من وجوه أحدها أن يقال لا ريب أن الطواف تجب فيه الطهارة وستر العورة كما ثبت عن النبي ﷺ انه قال: "لا يطوف بالبيت عريان" وقال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وفي السنن مرفوعا وموقوفا: الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير ولا ريب أن وجوب الطهارة وستر العورة في الصلاة آكد من وجوبها في الطواف فإن الصلاة بلا طهارة مع القدرة باطلة بالاتفاق وكذلك صلاة العريان وأما طواف الجنب والحائض والمحدث والعريان بغير عذر ففي صحته قولان مشهوران وإن حصل الاتفاق على أنه منهى عنه في هذا الحال بل وكذلك أركان الصلاة وواجباتها آكد من أركان الحج وواجباته فإن واجبات الحج إذا تركها عمدا لم يبطل حجه وواجبات الصلاة إذا تركها عمدا بطلت صلاته وإذا نقص من الصلاة ركعة عمدا لم تصح ولو طاف ستة أشواط صح ووجب عليه دم عند أبي حنيفة وغيره ولو نكس الصلاة لم تصح ولو نكس الطواف ففيه خلاف ولو صلى محدثا لم تصح صلاته ولو طاف محدثا أو جنبا صح في أحد القولين وغاية الطواف أن يشبه بالصلاة وإذا تبين هذا فغاية هذه إذا طافت مع الحيض للضرورة أن تكون بمنزلة من طافت عريانة للضرورة فإن نهى الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله عن الأمرين واحد بل الستارة في الطواف آكد من وجوه أحدها أن طواف العريان منهى عنه بالقرآن والسنة وطواف الحائض منهى عنه بالسنة وحدها الثاني أن كشف العورة حرام في الطواف وخارجه الثالث أن طواف العريان أقبح شرعا وعقلا وفطرة من طواف الحائض والجنب فإذا صح طوافها مع العري للحاجة فصحة طوافها مع الحيض للحاجة أولى وأحرى ولا يقال فيلزمكم على هذا أن تصح صلاتها وصومها مع الحيض للحاجة لأنا نقول هذا سؤال فاسد فإن الحاجة لا تدعوها إلى ذلك بوجه من الوجوه وقد جعل الله سبحانه صلاتها زمن الطهر مغنية لها عن صلاتها في الحيض وكذلك صيامها وهذه لا يمكنها التعويض في حال طهرها بغير البيت وهذا يبين سر المسألة وفقهها وهو أن الشارع قسم العبادات بالنسبة إلى الحائض إلى قسمين قسم يمكنها التعوض عنه في زمن الطهر فلم يوجبه عليها في الحيض بل أسقطه إما مطلقا كالصلاة وإما إلى بدله زمن الطهر كالصوم وقسم لا يمكنها التعوض عنه ولا تأخيره إلى زمن الطهر فشرعه لها مع الحيض أيضا كالإحرام والوقوف بعرفة وتوابعه ومن هذا جواز قراءة القرآن لها وهي حائض إذ لا يمكنها التعوض عنها زمن الطهر لأن الحيض قد يمتد بها غالبه أو أكثره فلو منعت من القراءة لفاتت عليها مصلحتها وربما نسيت ما حفظته زمن طهرها وهذا مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد وأحد قولى الشافعي والنبي ﷺ لم يمنع الحائض من قراءة القرآن وحديث لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن لم يصح فإنه حديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث فإنه من رواية إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة وسمعت محمد بن إسماعيل يقول إن إسماعيل بن عياش يروى عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديث مناكير كأنه يضعف روايته عنهم فيما ينفرد به وقال إنما هو حديث إسماعيل بن عياش عن أهل الشام انتهى وقال البخاري أيضا إذا حدث عن أهل بلده فصحيح وإذا حدث عن غيرهم ففيه نظر وقال على بن المديني ما كان أحد أعلم بحديث أهل الشام من إسماعيل بن عياش لو ثبت في حديث أهل الشام ولكنه خلط في حديث أهل العراق وحدثنا عنه عبد الرحمن ثم ضرب على حديثه فإسماعيل عندي ضعيف وقال عبد الله بن أحمد عرضت على أبي حديثا حدثناه الفضل بن زياد الضبى حدثنا ابن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر مرفوعا لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن فقال أبي هذا باطل يعنى أن إسماعيل وهم وإذا لم يصح الحديث لم يبق مع المانعين حجة إلا القياس على الجنب والفرق الصحيح بينها وبين الجنب مانع من الإلحاق وذلك من وجوه أحدها أن الجنب يمكنه التطهر متى شاء بالماء أو بالتراب فليس له عذر في القراءة مع الجنابة بخلاف الحائض والثاني أن الحائض يشرع لها الإحرام والوقوف بعرفة وتوابعه مع الحيض بخلاف الجنب الثالث أن الحائض يشرع لها أن تشهد العيد مع المسلمين وتعتزل المصلي بخلاف الجنب وقد تنازع من حرم عليها القراءة هل يباح لها أن تقرأ بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال على ثلاثة أقوال أحدها المنع مطلقا وهو المشهور من مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد لأنها بعد انقطاع الدم تصير كالجنب الثاني الجواز مطلقا وهو اختيار القاضي أبي يعلى قال وهو ظاهر كلام أحمد والثالث إباحته للنفساء وتحريمه على الحائض وهو اختيار الخلال فالأقوال الثلاثة في مذهب أحمد فإذا لم تمنع الحائض من قراءة القرآن لحاجتها إليه فعدم منعها في هذه الصورة عن الطواف الذي هي أشد حاجة إليه بطريق الأولى والأحرى.
فصل مناقشة أدلة المانعين
هذا إذا كان المنع من طوافها لأجل المنع من دخول المسجد أو لأجل الحيض ومنافاته للطواف فإن قيل بالتقدير الثالث وهو أنه لمجموع الأمرين بحيث إذا انفرد أحدهما لم يستقل بالتحريم أو بالتقدير الرابع وهو أن كلا منهما علة مستقلة كان الكلام على هذين التقديرين كالكلام على التقديرين الأولين وبالجملة فلا يمتنع تخصيص العلة لفوات شرط أو لقيام مانع وسواء قيل إن وجود الشرط وعدم المانع من أجزاء العلة أو هو أمر خارج عنها فالنزاع لفظي فإن أريد بالعلة التامة فهما من أجزائها وإن أريد بها المقتضية كانا خارجين عنها.
فإن قيل الطواف كالصلاة ولهذا تشترط له الطهارة من الحدث وقد أشار إلى هذا بقوله في الحديث الطواف بالبيت صلاة والصلاة لا تشرع ولا تصح مع الحيض فهكذا شقيقها ومشبهها ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فلم تصح مع الحيض كالصلاة وعكسه الوقوف بعرفة وتوابعه.
فالجواب: أن القول باشتراط طهارة الحدث للطواف لم يدل عليه نص ولا إجماع بل فيه النزاع قديما وحديثا فأبو حنيفة وأصحابه لا يشترطون ذلك وكذلك أحمد في إحدى الروايتين عنه قال أبو بكر في الشافي باب في الطواف بالبيت غير طاهر قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب لا يطوف أحد بالبيت إلا طاهرا والتطوع أيسر ولا يقف مشاهد الحج إلا طاهرا وقال في رواية محمد بن الحكم إذا طاف طواف الزيارة وهو ناس لطهارته حتى رجع فإنه لا شيء عليه واختار له أن يطوف وهو طاهر وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه على أن الرجل إذا طاف جنبا ناسيا صح طوافه ولا دم عليه وعنه رواية أخرى عليه دم وثالثه أنه لا يجزيه الطواف وقد ظن بعض أصحابه أن هذا الخلاف عنه إنما هو في المحدث والجنب فأما الحائض فلا يصح طوافها قولا واحدا قال شيخنا وليس كذلك بل صرح غير واحد من أصحابنا بأن الخلاف عنه في الحيض والجنابة وقال وكلام أحمد يدل على ذلك ويبين انه كان متوقفا في طواف الحائض وفي طواف الجنب قال عبد الملك الميموني في مسائله قلت لأحمد من طاف طواف الواجب على غير وضوء وهو ناس ثم واقع أهله قال أخبرك مسألة فيها وهم مختلفون وذكر قول عطاء والحسن قلت ما تقول أنت قال دعها أو كلمة تشبهها وقال الميموني في مسائله أيضا قلت له من سعى وطاف على غير طهارة ثم واقع أهله فقال لي مسألة الناس فيها مختلفون وذكر قول ابن عمر وما يقول عطاء مما يسهل فيها وما يقول الحسن وان عائشة قال لها النبي ﷺ حين حاضت: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" ثم قال لي ألا إن هذا أمر بليت به نزل عليها ليس من قبلها قلت فمن الناس من يقول عليها الحج من قابل فقال لي نعم كذا اكبر علمي قلت ومنهم من يذهب إلى أن عليها دما فذكر تسهيل عطاء فيها خاصة قال لي أبو عبد الله أولا وآخرا هي مسألة مشتبهة فيها موضع نظر فدعني حتى انظر فيها قال ذلك غير مرة ومن الناس من يقول وان رجع إلى بلده يرجع حتى يطوف قلت والنسيان قال والنسيان أهون حكما بكثير يريد أهون ممن يطوف على غير طهارة متعمدا هذا لفظ الميموني قلت وأشار أحمد إلى تسهيل عطاء إلى فتواه أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها وهذا تصريح منه أن الطهارة ليست شرطا في صحة الطواف وقد قال إسماعيل بن منصور ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن عطاء قال حاضت امرأة وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين فحاضت في الطواف فأتمت بها عائشة بقية طوافها هذا والناس إنما تلقوا منع الحائض من الطواف من حديث عائشة وقد دلت أحكام الشريعة على أن الحائض أولى بالعذر وتحصيل مصلحة العبادة التي تفوتها إذا تركتها مع الحيض من الجنب وهكذا إذا حاضت في صوم شهري التتابع لم ينقطع تتابعها بالاتفاق وكذلك تقضي المناسك كلها من أولها إلى آخرها مع الحيض بلا كراهة بالاتفاق سوى الطواف وكذلك تشهد العيد مع المسلمين بلا كراهة بالنص وكذلك تقرأ القرآن إما مطلقا وإما عند خوف النسيان وإذا حاضت وهي معتكفة لم يبطل اعتكافها بل تتمه في رحبة المسجد.
وسر المسألة ما أشار إليه صاحب الشرع بقوله إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم وكذلك قال الإمام أحمد: هذا أمر بليت به نزل عليها ليس من قبلها والشريعة قد فرقت بينها وبين الجنب كما ذكرناه فهي أحق بأن تعذر من الجنب الذي طاف مع الجنابة ناسيا أو ذاكرا فإذا كان فيه النزاع المذكور فهى أحق بالجواز منه فإن الجنب يمكنه الطهارة وهي لا يمكنها فعذرها بالعجز والضرورة أولى من عذره بالنسيان فإن الناسي لما أمر به من الطهارة والصلاة يؤمر بفعله إذا ذكره بخلاف العاجز عن الشرط أو الركن فإنه لا يؤمر بإعادة العبادة معه إذا قدر عليه فهذه إذا لم يمكنها إلا الطواف على غير طهارة وجب عليها ما تقدر عليه وسقط عنها ما تعجز عنه كما قال تعالى فاتقوا الله ما استطعتم وقال النبي ﷺ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وهذه لا تستطيع إلا هذا وقد أتقت الله ما استطاعت فليس عليها غير ذلك بالنص وقواعد الشريعة والمطلق يقيد بدون هذا بكثير ونصوص أحمد وغيره من العلماء صريحة في أن الطواف ليس كالصلاة في اشتراط الطهارة وقد ذكرنا نصه في رواية محمد بن الحكم إذا طاف طواف الزيارة وهو ناس لطهارته حتى رجع فلا شيء عليه واختار له أن يطوف وهو طاهر وإن وطئ فحجه ماض ولا شيء عليه وقد تقدم قول عطاء ومذهب أبي حنيفة صحية الطواف بلا طهارة.
وأيضا فإن الفوارق بين الطواف والصلاة أكثر من الجوامع فإنه يباح فيه الكلام والأكل والشرب والعمل الكثير وليس فيه تحريم ولا تحليل ولا ركوع ولا سجود ولا قراءة ولا تشهد ولا تجب له جماعة وإنما اجتمع هو والصلاة في عموم كونه طاعة وقربة وخصوص كونه متعلقا بالبيت وهذا لا يعطيه شروط الصلاة كما لا يعطيه واجباتها وأركانها.
وأيضا فيقال لا نسلم أن العلة في الأصل كونها عبادة متعلقة بالبيت ولم يذكروا على ذلك حجة واحدة والقياس الصحيح ما تبين فيه أن الوصف المشترك بين الأصل والفرع وهو علة الحكم في الأصل أو دليل العلة فالأول قياس العلة والثاني قياس الدلالة.
وأيضا فالطهارة إنما وجبت لكونها صلاة سواء تعلقت بالبيت أو لم تتعلق ولهذا وجبت النافلة في السفر إلى غير القبلة ووجبت حين كانت مشروعة إلى بيت المقدس ووجبت لصلاة الخوف إذا لم يمكن الاستقبال.
وأيضا فهذا القياس ينتقض بالنظر إلى البيت فإنه عبادة متعلقة بالبيت وأيضا فهذا قياس معارض بمثله وهو أن يقال عبادة من شرطها المسجد فلم تكن الطهارة شرطا فيها كالاعتكاف وقد قال الله تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وليس إلحاق الطائفين بالركع السجود أولى من إلحاقهم بالعاكفين بل إلحاقهم بالعاكفين أشبه فإن المسجد شرط في كل منهما بخلاف الركع السجود.
فإن قيل الطائف لا بد أن يصلي ركعتي الطواف والصلاة لا تكون إلا بطهارة قيل وجوب ركعتى الطواف فيه نزاع وإذا قيل بوجوبهما لم تجب الموالاة بينهما وبين الطواف وليس اتصالهما بأعظم من اتصال الصلاة بالخطبة يوم الجمعة ولو خطب محدثا ثم توضأ وصلى الجمعة جاز فجواز طوافه محدثا ثم يتوضأ ويصلى ركعتي الطواف أولى بالجواز وقد نص أحمد على أنه إذا خطب جنبا جاز.
فصل الواجب على من طاف غير طاهر
وإذا ظهر أن الطهارة ليست شرطا في الطواف فإما أن تكون واجبة وإما أن تكون سنة وهما قولان للسلف والخلف ولكن من يقول هي سنة من أصحاب أبي حنيفة يقول عليها دم وأحمد يقول: ليس عليها دم ولا غيره كما صرح به فيمن طاف جنبا هو ناس قال شيخنا فإذا طافت حائضا مع عدم العذر توجه القول بوجوب الدم عليها وأما مع العجز فهنا غاية ما يقال عليها دم والأشبه انه لا يجب الدم لأن الطهارة واجب يؤمر به مع القدرة لا مع العجز فإن لزوم الدم إنما يكون مع ترك المأمور أو مع فعل المحظور وهذه لم تترك مأمورا في هذه الحال ولا فعلت محظورا فإنها إذا رمت الجمرة وقصرت حل لها ما كان محظورا عليها بالإحرام عير النكاح فلم يبق بعد التحلل الأول محظور يجب بفعله دم وليست الطهارة مأمورا بها مع العجز فيجب بتركها دم.
فإن قيل لو كان طوافها مع الحيض ممكنا أمرت بطواف القدوم وطواف الوداع فلما سقط عنها طواف القدوم والوداع علم أن طوافها مع الحيض غير ممكن.
قيل: لا ريب أن النبي ﷺ أسقط طواف القدوم عن الحائض وأمر عائشة لما قدمت وهي متمتعة فحاضت أن تدع أفعال العمرة وتحرم بالحج فعلم أن الطواف مع الحيض محظور لحرمة المسجد أو للطواف أو لها والمحظورات لا تباح إلا في حالة الضرورة ولا ضرورة بها إلى طواف القدوم لأنه سنة بمنزلة تحية المسجد ولا إلى طواف الوادع فإنه ليس من تمام الحج ولهذا لا يودع المقيم بمكة وإنما يودع المسافر عنها فيكون آخر عهده في البيت فهذان الطوافان أمر بهما القادر عليهما إما أمر إيجاب فيهما أو في إحداهما أو استحباب كما هي أقوال معروفة وليس واحد منهما ركنا يقف صحة الحج عليه بخلاف طواف الفرض فإنها مضطرة إليه وهذا كما يباح لها الدخول إلى المسجد واللبث فيه للضرورة ولا يباح لها الصلاة ولا الاعتكاف فيه وان كان منذورا ولو حاضت المعتكفة خرجت من المسجد إلى فنائه فأتمت اعتكافها ولم يبطل وهذا يدل على أن منع الحائض من الطواف كمنعها من الاعتكاف وإنما هو لحرمة المسجد لا لمنافاة الحيض لعبادة الطواف والاعتكاف ولما كان الاعتكاف يمكن أن يفعل في رحبة المسجد وفنائه جوز لها إتمامه فيها لحاجتها.
والطواف لا يمكن إلا في المسجد وحاجتها في هذه الصورة إليه أعظم من حاجتها إلى الاعتكاف بل لعل حاجتها لي ذلك اعظم من حاجتها إلى دخول المسجد واللبث فيه لبرد أو مطر أو نحوه.
وبالجملة فالكلام في هذه الحادثة في فصلين أحدهما في اقتضاء قواعد الشريعة لها لا لمنافاتها وقد تبين ذلك بما فيه كفاية والثاني في أن كلام الأئمة وفتاويهم في الاشتراط والوجوب إنما هو في حال القدرة والسعة لا في حال الضرورة والعجز فالإفتاء بها لا ينافي نص الشارع ولا قول الأئمة وغاية المفتى بها انه يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد شريعته وأصولها ومطلق كلام الأئمة بقواعدهم وأصولهم فالمفتى بها موافق لأصول الشرع وقواعده ولقواعد الأئمة وبالله التوفيق.
فصل حكم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد
المثال السابع أن المطلق في زمن النبي ﷺ وزمن خليفته أبي بكر وصدرا من خلافة عمر كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة كما ثبت ذلك في الصحيح عن ابن عباس فروى مسلم في صحيحه عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: "كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضناه عليهم" وفي صحيحه أيضا عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: "ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله ﷺ وأبى بكر وثلاثا من إمارة عمر فقال ابن عباس نعم" وفي صحيحه أيضا عنه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر واحدة فقال: "قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم" وفي سنن أبي داود عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس فقال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنه قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأة ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله ﷺ وأبى بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال أجيزوهن عليهم وفي مستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن المؤمل عن ابن أبى ملكية أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال أتعلم أن الثلاث كن يرددن على عهد رسول الله ﷺ إلى واحدة قال نعم قال الحاكم هذا حديث صحيح وهذه غير طريق طاوس عن أبي الصهباء وقال الإمام أحمد في مسنده ثنا سعد بن إبراهيم ثنا أبي محمد بن إسحاق قال حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا قال: فسأله رسول الله ﷺ: "كيف طلقتها" قال: طلقتها ثلاثا قال: فقال: "في مجلس واحد" قال: نعم قالك "فإنما تملك واحدة فأرجعها إن شئت" قال فراجعها فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه فقال في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن النبي ﷺ رد ابنته على ابن أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد هذا" حديث ضعيف أو قال واه لم يسمعه الحجاج من عمر بن شعيب وإنما سمعه من محمد بن عبد الله العزرمي والعزرمي لا يساوي حديثه شيئا والحديث الذي رواه أن النبي ﷺ أقرهما على النكاح الأول وإسناده عنده هو إسناد حديث ركانة بن عبد يزيد هذا وقد قال الترمذي فيه ليس بإسناده بأس فهذا إسناد صحيح عند أحمد وليس به بأس عند الترمذي فهو حجة ما لم يعارضه ما هو أقوى منه فكيف إذا عضده ما هو نظيره أو أقوى منه وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح ثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي ﷺ عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت إلى النبي ﷺ فقالت: ما يغنى عني إلا كما تغنى هذ الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي ﷺ حمية: فدعا بركانة وإخوته ثم قال لجلسائه: "أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا منه كذا وكذا" قالوا: نعم فقال النبي ﷺ لعبد يزيد: "طلقها" ففعل فقال: "راجع امرأتك أم ركانة وإخوته" فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله قال: "قد علمت راجعها وتلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ}" وقال أبو داود حديث نافع بن جبير وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده: أن ركانة طلق امرأته فردها إليه النبي ﷺ أصح لأنهم ولد الرجل وأهله أعلم به وأن ركانة إنما طلق امرأته البتة فجعلها النبي ﷺ واحدة قال شيخنا رضي الله عنه: وأبو داود لما لم يرو في سننه الحديث الذي في مسند أحمد يعني الذي ذكرناه آنفا فقال حديث ألبتة أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا لأنهم أهل بيته ولكن الأئمة الأكابر العارفون بعلل الحديث والفقه كالإمام أحمد وأبي عبيد والبخاري ضعفوا حديث البتة وبينوا أنه رواية قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم وأحمد أثبت حديث الثلاث وبين انه الصواب وقال حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة وفي رواية عنه حديث ركانه في البتة ليس بشيء لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وأهل المدينة يسمون الثلاث ألبتة قال الأثرم قلت لأحمد حديث ركانة في ألبتة فضعفه.
والمقصود أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يخف عليه أن هذا هو السنة وأنه توسعة من الله لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاع امرأته كلها جملة واحدة كاللعان فإنه لو قال أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين كان مرة واحدة ولو حلف في القسامة وقال أقسم بالله خمسين يمينا أن هذا قاتله كان ذلك يمينا واحدة ولو قال المقر بالزنا أنا أقر أربع مرات أني زنيت كان مرة واحدة فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إلا إقرارا واحدا وقال النبي ﷺ: "من قال في يومه سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر" فلو قال سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة وكذلك قوله: "من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمده ثلاثا وثلاثين وكبره ثلاثا وثلاثين" الحديث لا يكون عاملا به حتى يقول ذلك مرة بعد مرة ولا يجمع الكل بلفظ واحد وكذلك قوله: "من قال في يومه لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد هو على كل شيء قدير مائة مرة كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسى" لا يحصل هذا إلا بقولها مرة بعد مرة وهكذا قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} وهكذا قوله في الحديث: "الاستئذان ثلاث مرات فإن أذن ذلك وإلا فارجع" لو قال الرجل ثلاث مرات هكذا كانت مرة واحدة حتى يستأذن مرة بعد مرة وهذا كما أنه في الأقوال والألفاظ فكذلك هو في الأفعال سواء كقوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} إنما هو مرة بعد مرة وكذلك قول ابن عباس رأى محمد ربه بفؤاده مرتين إنما هو مرة بعد مرة وكذلك قول النبي ﷺ لا يلدغ المؤمن من ججر مرتين فهذا المعقول من اللغة والعرف في الأحاديث المذكورة وهذه النصوص المذكورة وقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} كلها من باب واحد ومشكاة واحدة والأحاديث المذكورة تفسر المراد من قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} كما أن حديث اللعان تفسير لقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ}.
فهذا كتاب الله وهذه سنة رسول الله ﷺ وهذه لغة العرب وهذا عرف التخاطب وهذا خليفة رسول الله ﷺ والصحابة كلهم معه في عصره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب فلو عدهم العاد بأسمائهم واحدا واحدا لوجد أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة إما بفتوى وإما بإقرار عليها ولو فرض فيهم من لم يكن يرى ذلك فإنه لم يكن منكرا للفتوى به بل كانوا ما بين مفت ومقر بفتيا وساكت غير منكر وهذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر وهم يزيدون على الألف قطعا كما ذكره يونس بن بكير عن أبى إسحاق قال حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير قال استشهد من المسلمين في وقعة اليمامة ألف ومائتا رجل منهم سبعون من القراء كلهم قد قرءوا القرآن وتوفي في خلافة الصديق فاطمة بنت رسول الله ﷺ وعبد الله بن أبي بكر قال محمد بن إسحاق فلما أصيب المسلمون من المهاجرين والأنصار باليمامة وأصيب فيهم عامة فقهاء المسلمين وقرائهم فزع أبو بكر إلى القرآن وخاف أن يهلك منه طائفة وكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة فتوى أو إقرارا أو سكوتا ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه بل لم يزل فيهم من يفتى به قرنا بعد قرن والى يومنا هذا فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة وأفتى أيضا بالثلاث أفتى بهذا وهذا وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام وعبد الرحمن ابن عوف حكاه عنهما ابن وضاح وعن علي كرم الله وجهه وابن مسعود روايتان كما عن ابن عباس وأما التابعون فأفتى به عكرمة رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه وأفتى به طاوس وأما تابعو التابعين فأفتى به محمد ابن إسحاق حكاه الإمام أحمد وغيره عنه وأفتى به خلاس بن عمرو والحارث العكلي وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه حكاه عنهم أبو المفلس وابن حزم وغيرهما وأفتى به بعض أصحاب مالك حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الجلاب قولا لبعض الماليكة وأفتى به بعض الحنفية حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل وأفتى به بعض أصحاب أحمد حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه قال قال وكان الجد يفتى به أحيانا وأما الإمام أحمد نفسه فقد قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر واحدة بأي شيء تدفعه قال براوية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث فقد صرح بأنه إنما ترك القول به لمخالفة رواية له وأصل مذهبه وقاعدته التي بنى عليها أن الحديث إذا صح لم يرده لمخالفة رواية له بل الأخذ عنده بما رواه كما فعل في رواية ابن عباس وفتواه في بيع الأمة فأخذ بروايته أنه لا يكون طلاقا وترك رأيه وعلى أصله يخرج له قول إن الثلاث واحدة فإنه إذا صرح بأنه إنما ترك الحديث لمخالفة الراوي وصرح في عدة مواضع أن مخالفة الراوي لا توجب ترك الحديث خرج له في المسألة قولان وأصحابه يخرجون على مذهبه أقوالا دون ذلك بكثير.
والمقصود أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم ولم يأت بعده إجماع يبطله ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل فإنه كان من أشد الناس فيه فإذا علموا ذلك كفوا عن الطرق المحرم فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي ﷺ وعهد الصديق وصدرا من خلافته كان الأليق بهم لأنهم لم يتتابعوا فيه وكانوا يتقون الله في الطلاق وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم فإن الله تعالى إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة ولم يشرعه كله مرة واحدة فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله وظلم نفسه ولعب بكتاب الله فهو حقيق أن يعاقب ويلزم بما التزمه ولا يقر على رخصة الله وسعته وقد صعبها على نفسه ولم يتق الله ولم يطلق كما أمره الله وشرعه له بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه رحمة منه وإحسانا ولبس على نفسه واختار الأغلظ والأشد فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان وعلم الصحابة رضي الله عنهم حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به وصرحوا لمن استفتاهم بذلك فقال عبد الله بن مسعود من أتى الأمر على وجهه فقد بين له ومن لبس على نفسه جعلنا عليه لبسه والله لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله منكم هو كما تقولون فلو كان وقوع الثلاث ثلاثا في كتاب الله وسنة رسوله لكان المطلق قد أتى الأمر على وجهه ولما كان قد لبس على نفسه ولما قال النبي ﷺ لمن فعل ذلك تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ولما توقف عبد الله بن الزبير في الإيقاع وقال للسائل إن هذا الأمر مالنا فيه قول فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة فلما جاء إليهما قال ابن عباس لأبي هريرة أفته فقد جدءتك معضلة ثم أفتياه بالوقوع فالصحابة رضي الله عنهم ومقدمهم عمر بن الخطاب لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وأرسلوا ما بأيديهم منه ولبسوا على أنفسهم ولم يتقوا الله في التطليق الذي شرعه لهم وأخذوا بالتشديد على أنفسهم ولم يقفوا على ما حد لهم ألزموهم بما التزموه وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسهم من التشديد الذي وسع الله عليهم ما شرعه لهم بخلافه ولا ريب أن من فعل هذا حقيق بالعقوبة بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه إذ لم يقبل رخصة الله وتيسيره ومهلته ولهذا قال ابن عباس لمن طلق مائة عصيت ربك وبانت منك امرأتك إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا ومن يتق الله يجعل له مخرجا وأتاه رجل فقال إن عمي طلق ثلاثا فقال إن عمك عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا فقال أفلا تحللها له فقال من يخادع الله يخدعه.
فليتدبر العالم الذي قصده معرفة الحق واتباعه من الشرع والقدر في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله ﷺ وتقواهم ربهم تبارك وتعالى في التطليق فجرت عليهم رخصة الله وتيسيره شرعا وقدرا فلما ركب الناس الأحموقة وتركوا تقوى الله ولبسوا على أنفسهم وطلقوا على غير ما شرعه الله لهم أجرى الله على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه شرعا وقدرا إلزامهم بذلك وإنفاذه عليهم وإبقاء الإصر الذي جعلوه هم في أعناقهم كما جعلوه وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمن فجاء أئمة الإسلام فمضوا على آثار الصحابة سالكين مسلكهم قاصدين رضاء الله ورسوله وإنفاذ دينه.
فمنهم من ترك القول بحديث ابن عباس لظنه أنه منسوخ وهذه طريقة الشافعي قال فإن كان معنى قول ابن عباس إن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله ﷺ واحدة بمعنى أنه أمر النبي ﷺ فالذي يشبه أن يكون ابن عباس قد علم شيئا فنسخ.
فإن قيل فما دل على ما وصفت؟
قيل لا يشبه أن يكون ابن عباس قد يروي عن النبي ﷺ شيئا ثم يخالفه بشيء ولم يعلمه كان من النبي ﷺ فيه خلاف.
فإن قيل هذا شيء روى عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر قيل قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة وبيع الدينار بالدينار وبيع أمهات الأولاد فكيف يوافقه في شيء روى عن النبي ﷺ خلافه الأخذ برواية الراوي دون رأيه قال المانعون من لزوم الثلاث النسخ لا يثبت بالاحتمال ولا ترك الحديث الصحيح المعصوم لمخالفة رواية له فإن مخالفته ليست معصومة وقد قدم الشافعي رواية ابن عباس في شأن بريرة على فتواه التي تخالفها في كون بيع الأمة طلاقها وأخذ هو وأحمد وغيرهما بحديث أبي هريرة من استقاء فعليه القضاء وقد خالفة أبو هريرة وأفتى بأنه لا قضاء عليه وأخذوا برواية ابن عباس: "أن النبي ﷺ أمر أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا بين الركنين" وصح عنه أنه قال ليس الرمل بسنة وأخذوا برواية عائشة في منع الحائض من الطواف وقد صح عنها أن امرأة حاضت وهي تطوف معها فأتمت بها عائشة بقية طوافها رواه سعيد بن منصور ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن عطاء فذكره وأخذوا برواية ابن عباس في تقديم الرمي والحلق والنحر بعضها البعض وأنه لا حرج في ذلك وقد أفتى أبن عباس أن فيه وما فلم يلتفتوا إلى قوله وأخذوا بروايته وأخذت الحنفية بحديث أبن عباس كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه قالوا وهذا صريح في طلاق المكره وقد صح عن ابن عباس ليس لمكره ولا لمضطهد طلاق وأخذوا هم والناس بحديث ابن عمر أنه أشترى جملا شاردا بأصح سند يكون وأخذ الحنفية والحنابلة بحديث علي كرم الله وجهه وابن عباس صلاة الوسطى صلاة العصر وقد ثبت عن علي كرم الله وجهه وابن عباس صلاة الصبح واخذ الأئمة الأربعة وغيرهم بخبر عائشة في التحريم بلبن الفحل وقد صح عنها خلافه وأنه كان يدخل عليها من أرضعته بنات إخوتها ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها وأخذ الحنفية برواية عائشة فرضت الصلاة ركعتين ركعتين وصح عنها أنها أتمت الصلاة في السفر فلم يدعوا روايتها لرأيها واحتجوا بحديث جابر وأبي موسى في الأمر بالوضوء من الضحك في الصلاة وقد صح عنهما أنهما قالا لا وضوء من ذلك وأخذ الناس بحديث عائشة في ترك إيجاب الوضوء مما مست النار وقد صح عن عائشة بأصح إسناد إيجاب الوضوء للصلاة من أكل كل ما مست النار وأخذ الناس بأحاديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة في المسح على الخفين وقد صح عن ثلاثتهم المنع من المسح جملة فأخذوا بروايتهم وتركوا رأيهم واحتجوا في إسقاط القصاص عن الأب بحديث عمر لا يقتص لولد من والده وقد قال عمر: لأقصن للولد من الوالد" فلم يأخذوا برأيه بل بروايته واحتجت الحنفية والمالكية في أن الخلع طلاق بحديثين لا يصحان عن ابن عباس وقد صح عن ابن عباس بأصح إسناد يكون أن الخلع فسخ لا طلاق وأخذت الحنفية بحديث لا يصح بل هو وضع حزام بن عثمان ومبشر بن عبيد الحلبي وهو حديث جابر لا يكون صداق أقل من عشرة دراهم وقد صح عن جابر جواز النكاح بما قل أو كثر واحتجوا هم وغيرهم على المنع من بيع أمهات الأولاد بحديث ابن عباس المرفوع وقد صح عنه جواز بيعهن فقدموا روايته التي لم تثبت على فتواه الصحيحة عنه وأخذت الحنابلة وغيرهم بخبر سعيد بن المسيب عن عمر أنه الحق الولد بأبوين وقد خالفه سعيد بن المسيب فلم يعتدوا بخلافه وقد صح عن عمر وعثمان ومعاوية أن رسول الله ﷺ تمتع بالعمرة إلى الحج وصح عنهم النهي عن التمتع فأخذ الناس بروايتهم وتركوا رأيهم وأخذ الناس بحديث أبي هريرة في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وقد روى سعيد بن منصور في سننه عن أبي هريرة أنه قال: ماءان لا يجزئان في غسل الجنابة ماء البحر وماء الحمام وأخذت الحنابلة والشافعية بحديث أبي هريرة في الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب وقد صح عن أبي هريرة ما رواه سعيد بن منصور في سننه أن أبا هريرة سئل عن الحوض يلغ فيه الكلب ويشرب منه الحمار فقال لا يحرم الماء شيء وأخذت الحنفية بحديث علي كرم الله وجهه لا زكاة فيما زاد على المائتي درهم حتى يبلغ أربعين درهما مع ضعف الحديث بالحسن بن عمارة وقد صح عن علي كرم الله وجهه أن ما زاد على المائتين ففيه الزكاة بحسابه رواه عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عنه.
وهذا باب يطول تتبعه وترى كثيرا من الناس إذا جاء الحديث يوافق قول من قلده وقد خالفه راويه يقول الحجة فيما روى لا في قوله فإذا جاء قول الراوي موافقا لقول من قلده والحديث بخلافه قال لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا وقد صح عنده نسخه وإلا كان قدحا في عدالته فيجمعون في كلامهم بين هذا وهذا بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد وهذا من أقبح التناقض والذي ندين الله به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول الله ﷺ ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان لا راوية ولا غيره إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث أو لا يحضره وقت الفتيا أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه ولو قدر انتفاء ذلك كله ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه لم يكن الراوي معصوما ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك.
الحكمة في تغير الفتوى بتغير الأحوال
إذا عرف هذا فهذه المسألة مما تغيرت الفتوى بها بحسب الأزمنة كما عرفت لما رأته الصحابة من المصلحة لأنهم رأوا مفسدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلا بإمضائها عليهم فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع ولم يكن باب التحليل الذي لعن رسول الله ﷺ فاعله مفتوحا بوجه ما بل كانوا أشد خلق الله في المنع منه وتوعد عمر فاعله بالرجم وكانوا عالمين بالطلاق المأذون فيه وغيره وأما في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد بل عمى في عين الدين وشجى في حلوق المؤمنين من قبائح تشمت أعداء الدين به وتمنع كثيرا ممن يريد الدخول فيه بسببه بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب ولا يحصرها كتاب يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح ويعدونها من أعظم الفضائح قد قلبت من الدين رسمه وغيرت منه اسمه وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل وقد زعم أنه قد طيبها للحليل فيا لله العجب أي طيب اعارها هذا التيس الملعون وأي مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدون اترى وقوف الزوج المطلق أو الولي على الباب والتيس الملعون قد حل إزارها وكشف النقاب واخذ في ذلك المرتع والزوج أو الولي يناديه لم يقدم إليك هذا الطعام لتشبع فقد علمت أنت والزوجة ونحن والشهود والحاضرون والملائكة الكاتبون ورب العالمين أنك لست معدودا من الأزواج ولا للمرأة أو أوليائها بك رضا ولا فرح ولا ابتهاج وإنما أنت بمنزلة التيس المستعار للضراب الذي لولا هذه البلوي لما رضينا وقوفك على الباب فالناس يظهرون النكاح ويعلنونه فرحا وسرورا ونحن نتواصى بكتمان هذا الداء العضال ونجعله أمرا مستورا بلا نثار ولا دف ولا خوان ولا إعلان بل التواصي بهس ومس والإخفاء والكتمان فالمرأة تنكح لدينها وحسبها ومالها وجمالها والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك فإنه لا يمسك بعصمتها بل قد دخل على زوالها والله تعالى قد جعل كل واحد من الزوجين سكنا لصاحبه وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصود هذا العقد العظيم وتتم بذلك المصلحة التي شرعه لأجلها العزيز الحكيم فسل التيس المستعار هل له من ذلك نصيب أو من حكمة هذا العقد ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب وسله هل اتخذ هذه المصابة حليلة وفراشا يأوى إليه ثم سلها هل رضيت به قط زوجا وبعلا تعول في نوائبها عليه وسل أولى التمييز والعقول هل تزوجت فلانة بفلان وهل يعد هذا نكاحا في شرع أو عقل أو فطرة إنسان وكيف يلعن رسول الله ﷺ رجلا من أمته نكح نكاحا شرعيا صحيحا ولم يرتكب في عقده محرما ولا قبيحا وكيف يشبهه بالتيس المستعار وهو من جملة المحسنين الأبرار وكيف تعير به المرأة طول دهرها بين أهلها والجيران وتظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك التيس بين النسوان وسل التيس المستعار هل حدث نفسه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق بنفقة أو كسوة أو وزن صداق وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك أو حدثت نفسها به هنالك وهل طلب منها ولدا نجيبا واتخذته عشيرا وحبيبا وسل عقول العالمين وفطرهم هل كان خير هذه الامه أكثرهم تحليلا وكان المحلل الذي لعنه الله ورسوله أهداهم سبيلا وسل التيس المستعار ومن بتليت به هل تجمل أحد منهما بصاحبه كما يتجمل الرجال بالنساء والنساء بالرجال أو كان لأحدهما رغبه في صاحبه بحسب أو مال أو جمال وسل المرأة هل تكره أن يتزوج عليها هذا التيس المستعار أو يتسرى أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أخرى أو تسأله عن ماله وصنعته أو حسن عشرته وسعة نفقته وسل التيس المستعار هل سأل قط عما يسأله عنه من قصد حقيقة النكاح أو يتوسل إلى بيت أحمائه بالهدية والحمولة والنقد الذي يتوسل به خاطب الملاح وسله هل أبو يأخذ أو أبو يعطى وهل قوله عند قراءة أبي جاد هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطي وسله هل تحمل من كلفة هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطى وسله عن وليمة عرسه هل أولم ولو بشاة وهل دعا إليها أحدا من أصحابه فقضى حقه وأتاه وسله هل تحمل من كلفة هذا العقد ما يتحمله المتزوجون أم جاءه كما جرت به عادة الناس الأصحاب والمهنئون وهل قيل له بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية أم لعن الله المحلل والمحلل له لعنة تامة وافية.
فصل مساوئ التحليل والتشنيع على فاعله
ثم سل من له أدنى اطلاع على أحوال الناس كم من حرة مصونة أنشب فيها المحلل مخالب إرادته فصارت له بعد الطلاق من الأخدان وكان بعلها منفردا بوطئها فإذا هو والمحلل فيها ببركه التحليل شريكان فلعمر الله كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء وألقاها بين براثن العشراء والحرفاء ولولا التحليل لكان منال الثريا دون منالها والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها وعناق القنا دون عناقها والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها وسل أهل الخبرة كم عقد المحلل على أم وابنتها وكم جمع ماءه في أرحام ما زاد على الأربع وفي رحم الأختين وذلك محرم باطل في المذهبين وهذه المفسدة في كتب مفاسد التحليل لا ينبغي أن تفرد بالذكر وهي كموجة واحدة من الأمواج ومن يستطيع عد أمواج البحر وكم من امرأة كانت قاصرة الطرف على بعلها فلما ذاقت عسيلة المحلل خرجت على وجهها فلم يجتمع شمل الإحصان والعفة بعد ذلك بشملها وما كان هذا سبيله فكيف يحتمل أكمل الشرائع واحكمها تحليله فصلوات الله وسلاما على من صرح بلعنته وسماه بالتيس المستعار من بين فساق أمته كما شهد به علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعبد الله بن مسعود وأبو هريرة وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وعبد الله بن عباس وأخبر عبد الله بن عمر أنهم كانوا يعدونه على عهد رسول الله ﷺ سفاحا أما ابن مسعود ففي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وجامع الترمذي عنه قال لعن رسول الله ﷺ المحلل والمحلل له قال الترمذي حديث حسن صحيح وقال سفيان الثوري حدثني أبو قيس الاودي عن هزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال: "لعن رسول الله ﷺ الواشمة والمستوشمة والواصلة والموصولة والمحلل والمحلل له وآكل الربا وموكله" ورواه النسائي والإمام أحمد وروى الترمذي عنه لعن المحلل وصححه ثم قال والعمل عليه عنه أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وهو قول الفقهاء من التابعين ورواة الإمام أحمد من حديث أبي الواصل عن ابن مسعود عن النبي ﷺ: "لعن المحلل والمحلل له" وفي مسند الإمام أحمد والنسائي من حديث الأعمش عن عبد الله بن مرة عن الحارث عن ابن مسعود قال: "آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا به والواصلة والمستوصلة ولاوي الصدقة والمعتدى فيها والمرتد على عقبيه أعرابيا بعد هجرته ملعونون على لسان محمد ﷺ يوم القيامة" وأما حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ففي المسند وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجة من حديث الشعبي عن الحارث عن علي عن النبي ﷺ أنه لعن المحلل والمحلل له وأما حديث أبي هريرة ففي المسند للإمام أحمد ومسند أبي بكر بن أبي شيبة من حديث عثمان بن الأخنس عن المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "لعن الله المحلل والمحلل له" قال يحيى بن معين عثمان بن الأخنس ثقة والذي رواه عنه عبد الله بن جعفر المخرمي ثقة من رجال مسلم وثقه أحمد ويحيى وعلى غيرهم فالإسناد جيد وفي كتاب ألعلل للترمذي ثنا محمد بن يحيى ثنا معلى بن منصور عن عبد الله بن جعفر المخرمي عن عثمان بن محمد الأخنس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة: "أن رسول الله ﷺ لعن المحلل والمحلل له" قال الترمذي سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقا هو حديث حسن وعبد الله بن جعفر الخرمي صدوق وعثمان بن محمد الأخنس ثقة وكنت أظن أن عثمان لم يسمع من سعيد المقبري وقال شيخ الإسلام ابن تيمية هذا إسناد جيد وأما حديث جابر بن عبد الله ففي جامع الترمذي من حديث مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ: "لعن المحلل والمحلل له" ومجالد وإن كان غيره أقوى منه فحديثه شاهد ومقو وأما حديث عقبة بن عامر ففي سنن ابن ماجة عنه قال قال رسول الله ﷺ: "ألا أخبركم بالتيس المستعار" قالوا: بلى يا رسول الله قال: "هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له" رواه الحاكم في صحيحه من حديث الليث بن سعد عن مشرح بن عاهان عن عقبة بن عامر فذكره وقد أعل هذا الحديث بثلاث علل إحداها ان أبا حاتم البستي ضعف مشرح بن عاهان والعلة الثانية ما حكاه الترمذي في كتاب العلل عن البخاري فقال سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن حديث عبد الله بن صالح حدثني الليث عن مشرح بن عاهان عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله ﷺ: "ألا أخبركم بالتيس المستعار هو المحلل والمحلل له ولعن الله المحلل والمحلل له" فقال عبد الله بن صالح لم يكن أخرجه في أيامنا ما أرى الليث سمعه من مشرح بن عاهان لأن حيوة يروى عن بكر بن عمرو عن مشرح والعلة الثالثة ما ذكرها الجوزجاني في ترجمته فقال كانوا ينكرون على عثمان هذا الحديث إنكارا شديدا فأما العلة الأولى فقال محمد بن عبد الواحد المقدسي مشرح قد وثقه يحيى بن معين في رواية عثمان بن سعيد وابن معين أعلم بالرجال من ابن حبان قلت وهو صدوق عند الحفاظ لم يتهمه أحد ألبتة ولا أطلق عليه أحد من أهل الحديث قط أنه ضعيف ولا ضعفه ابن حبان وإنما يقال يروى عن عقبة بن عامر مناكير لا يتابع عليها فالصواب ترك ما انفرد به وانفرد ابن حبان من بين أهل الحديث بهذا القول فيه وأما العلة الثانية فعبد الله ابن صالح قد صرح بأنه سمعه من الليث وكونه لم يخرجه وقت اجتماع البخاري به لا يضره شيئا وأما قوله إن حيوة يروى عن بكر بن عمرو بن شريح المصري عن مشرح فإنه يريد به أن حيوة من أقران الليث أو اكبر منه وإنما روى عن بكر بن عمرو عن مشرح وهذا تعليل قوى ويؤكده أن الليث قال قال مشرح ولم يقل حدثنا وليس بلازم فإن الليث كان معاصرا لمشرح في بلده وطلب الليث العلم وجمعه لم يمنعه أن لا يسمع من مشرح حديثه عن عقبة بن عامر وهو معه في البلد وأما التعليل الثالث فقال شيخ الإسلام إنكار من أنكر هذا الحديث على عثمان غير جيد وإنما هو لتوهم انفراده به عن الليث وظنهم أنه لعله أخطأ فيه حيث لم يبلغهم عن غيره من أصحاب الليث كما قد يتوهم بعض من يكتب الحديث أن الحديث إذا انفرد به عن الرجل من ليس بالمشهور من أصحابه كان ذلك شذوذا فيه وعلة قادحة وهذا لا يتوجه ههنا لوجهين أحدهما أنه قد تابعه عليه أبو صالح كاتب الليث عنه رويناه من حديث أبي بكر القطيعي ثنا جعفر بن محمد الفريابي حدثني العباس المعروف بأبي فريق ثنا أبو صالح حدثني الليث به فذكره ورواه أيضا الدارقطني في سننه ثنا أبو بكر الشافعي ثنا إبراهيم بن الهيثم أخبرنا أبو صالح فذكره الثاني أن عثمان بن صالح هذا المصري نفسه روى عنه البخاري في صحيحه وروى عنه ابن معين وأبو حاتم الرازي وقال هو شيح صالح سليم التأدية قيل له كان يلقن قال لا ومن كان بهذه المثابة كان ما ينفرد به حجة وإنما الشاذ ما خالف به الثقاب لا ما انفرد به عنهم فكيف إذا تابعة مثل أبي صالح وهو كاتب الليث وأكثر الناس حديثا عنه وهو ثقة أيضا وان كان قد وقع في بعض حديثه غلط ومشرح بن عاهان قال فيه ابن معين ثقة وقال فيه الإمام أحمد هو معروف فثبت أن هذا الحديث حديث جيد وإسناده حسن انتهى وقال الشافعي ليس الشاذ أن ينفرد الثقة عن الناس بحديث إنما الشاذ أن يخالف ما رواه الثقات وأما حديث عبد الله بن عباس فرواه ابن ماجة في سننه عنه قال: "لعن رسول الله ﷺ المحلل والمحلل له" وفي إسناده زمعة بن صالح وقد ضعفه قوم ووثقة آخرون وأخرج له مسلم في صحيحه مقرونا بآخر وعن ابن معين فيه روايتان وأما حديث عبد الله بن عمر ففي صحيح الحاكم من حديث ابن أبي مريم حدثنا أبو غسان عن عمرو بن نافع عن أبيه قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة بينه ليحلها لأخيه هل تحل للأول قال لا إلا نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله ﷺ قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال سعيد في سننه ثنا محمد بن نشيط البصري قال قال بكر بن عبد الله المزني لعن المحلل والمحلل له وكان يسمى في الجاهلية التيس المستعار وعن الحسن البصري قال كان المسلمون يقولون هذا التيس المستعار.
فصل رأي الإسلام في التحليل
فسل هذا التيس هل دخل في قوله تعالى ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة وهل دخل في قوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله وهل دخل في قوله ﷺ من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج وهل دخل في قوله ﷺ تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة وهل دخل في قوله ﷺ: "أربع من سنن المرسلين النكاح والتعطر والختان" وذكر الرابعة وهل دخل في قوله ﷺ النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني وهل دخل في قول ابن عباس خير هذه الأمة أكثرها نساء وهل له نصيب من قوله ﷺ: "ثلاثة حق على الله عونهم الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء وذكر الثالث أم حق على الله لعنته تصديقا لرسوله فيما أخبر عنه وسله هل يلعن الله ورسوله من يفعل مستحبا أو جائزا أو مكروها أو صغيرة أم لعنته مختصة بمن ارتكب كبيرة أو ما هو أعظم منها كما قال ابن عباس كل ذنب ختم بلعنة أو غضب أو عذاب أو نار فهو كبيرة وسله هل كان في الصحابة محلل واحد أو أقر رجل منهم على التحليل وسله لأي شيء قال عمر بن الخطاب لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وسله كيف تكون المتعة حراما نصا مع أن المستمتع له غرض في نكاح الزوجة إلى وقت لكن لما كان غير داخل على النكاح المؤبد كان مرتكبا للحرم فكيف يكون نكاح المحلل الذي إنما قصده أن يمسكها ساعة من زمان أو دونها ولاغرض له في النكاح ألبتة بل قد شرط انقطاعه وزواله إذا أخبثها بالتحليل فكيف يجتمع في عقل أو شرع تحليل هذا وتحريم المتعة هذا مع أن المتعة أبيحت في أول الإسلام وفعلها الصحابة وأفتى بها بعضهم بعد موت النبي ﷺ ونكاح المحلل لم يبح في ملة من الملل قط ولم يفعله أحد من الصحابة ولا أفتى به واحد منهم.
الحكمة في جعل الطلقات الثلاث المجموعة طلقة واحدة
وليس الغرض بيان تحريم هذا العقد وبطلانه وذكر مفاسده وشره فإنه يستدعي سفرا ضخما نختصر فيه الكلام وإنما المقصود أن هذا شأن التحليل عند الله ورسوله وأصحاب رسوله فألزمهم عمر بالطلاق الثلاث إذا جمعوها ليكفوا عنه إذا علموا أن المرأة تحرم به وأنه لا سبيل إلى عودها بالتحليل فلما تغير الزمان وبعد العهد بالسنة وآثار القوم وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس فالواجب أن يرد الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي ﷺ وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل أو يقللها ويخفف شرها وإذا عرض على من وفقه الله وبصره بالهدى وفقهه في دينه مسألة كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل ووازن بينهما تبين له التفاوت وعلم أي المسألتين أولى بالدين وأصلح للمسلمين فهذه حجج المسألتين قد عرضت عليك وقد أهديت إن قبلتها إليك وما أظن عمى التقليد إلا يزيد الأمر على ما هو عليه ولا يدع التوفيق يقودك اختيارا إليه وإنما اشرنا إلى المسألتين إشارة تطلع العالم على ما وراءها وبالله التوفيق.
فصل منع التحليل بما هو أخف منه ضررا
فقد تبين لك أمر مسألة من المسائل التي تمنع التحليل أفتى بها المفتي وقد قال بها بعض أهل العلم فهي خير من التحليل حتى لو أفتى المفتي بحلها بمجرد العقد من غير وطء لكان أعذر عند الله من أصحاب التحليل وإن اشترك كل منهما في مخالفة النص فإن النصوص المانعة من التحليل المصرحة بلعن فاعله كثيرة جدا والصحابة والسلف مجمعون عليها والنصوص المشترطة للدخول لا تبلغ مبلغها وقد اختلف فيها التابعون فمخالفتها أسهل من مخالفة أحاديث التحليل والحق موافقة جميع النصوص وأن لا يترك منها شيء وتأمل كيف كان الأمر على عهد رسول الله ﷺ وعهد أبي بكر الصديق من كون الثلاث واحدة والتحليل ممنوع منه ثم صار في بقية خلافة عمر الثلاث ثلاث والتحليل ممنوع منه وعمر من أشد الصحابة فيه وكلهم على مثل قوله فيه ثم صار في هذه الأزمنة التحليل كثيرا مشهورا والثلاث ثلاثا وعلى هذا فيمتنع في هذه الأزمنة معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر من وجهين أحدهما أن أكثرهم لا يعلم أن جمع الثلاث حرام لا سيما وكثير من الفقهاء لا يرى تحريمه فكيف يعاقب من لم يرتكب محرما عند نفسه.
الثاني أن عقوبتهم بذلك تفتح عليهم باب التحليل الذي كان مسدودا على عهد الصحابة والعقوبة إذا تضمنت مفسدة أكثر من الفعل المعاقب عليه كان تركها أحب إلى الله ورسوله ولو فرضنا أن التحليل مما أباحته الشريعة ومعاذ الله لكان المنع منه إذا وصل إلى هذا الحد الذي قد تفاحش قبحه من باب سد الذرائع وتعين على المفتين والقضاة المنع منه جملة وإن فرض أن بعض أفراده جائز إذ لا يستريب أحد في أن الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة في عهد النبي ﷺ وأبي بكر الصديق وصدر من خلافه عمر أولى من الرجوع إلى التحليل والله الموفق.
فصل موجبات الأيمان والأقارير والنذور
المثال الثامن مما تتغير به الفتوى لتغير العرف والعادة موجبات الأيمان والإقرار والنذور وغيرها فمن ذلك أن الحالف إذا حلف لا ركبت دابة وكان في بلد عرفهم في لفظ الدابة الحمار خاصة اختصت يمينه به ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل وإن كان عرفهم في لفظ الدابة الفرس خاصة حملت يمينه عليها دون الحمار وكذلك إن كان الحالف ممن عادته ركوب نوع خاص من الدواب كالأمراء ومن جرى مجراهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب فيفتي في كل بلد بحسب عرف أهله ويفتي كل أحد بحسب عادته وكذلك إذا حلف لا أكلت رأسا في بلد عادتهم أكل رؤوس الضأن خاصة لم يحنث بأكل رؤوس الطير والسمك ونحوها وإن كان عادتهم أكل رؤوس السمك حنث بأكل رؤوسها وكذلك إذا حلف لا اشتريت كذا ولا بعته ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها ونحو ذلك وعادته أن لا يباشر ذلك بنفسه كالملوك حنث قطعا بالإذن والتوكيل فيه فإنه نفس ما حلف عليه وإن كان عادته مباشرة ذلك بنفسه كآحاد الناس فان قصد منع نفسه من المباشرة لم يحنث بالتوكيل وان قصد عدم الفعل والمنع منه جملة حنث بالتوكيل وإن أطلق اعتبر سبب اليمين وبساطها وماهيجها وعلى هذا إذا أقر الملك أو أغنى أهل البلد لرجل بمال كثير لم يقبل تفسيره بالدرهم والرغيف ونحوه مما يتمول فإن أقر به فقير يعد عنده الدرهم والرغيف كثيرا قبل منه وعلى هذا إذا قيل له جاريتك أو عبدك يرتكبان الفاحشة فقال ليس كذلك بل هما حران لا أعلم عليهما فاحشة فالحق المقطوع به أنهما لا يعتقان بذلك لا في الحكم ولا فيما بينه وبين الله تعالى فإنه لم يرد ذلك قطعا واللفظ مع القرائن المذكورة ليس صريحا في العتق ولا ظاهرا فيه ولا محتملا له فإخراج عبده أو أمته عن ملكه بذلك غير جائز ومن ذلك ما أخبرني به بعض أصحابنا انه قال لامرأته إن أذنت لك في الخروج إلى الحمام فأنت طالق فتهيأت للخروج إلى الحمام فقال لها أخرجي وابصري فاستفتى بعض الناس فأفتوه بأنها قد طلقت منه فقال للمفتي بأي شيء أوقعت على الطلاق قال بقولك لها أخرجي فقال إني لم أقل لها ذلك إذنا وإنما قلته تهديدا أي إنك لا يمكنك الخروج وهذا كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فهل هذا إذن لهم أن يعملوا ما شاءوا فقال لا أدري أنت لفظت بالإذن فقال له ما أردت الإذن فلم يفقه المفتي هذا وغلظ حجابه عن إدراكه وفرق بينه وبين امرأته بما لم يأذن به الله ورسوله ولا أحد من أئمة الإسلام وليت شعري هل يقول هذا المفتى إن قوله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إذن له في الكفر وهؤلاء أبعد الناس عن الفهم عن الله ورسوله وعن المطلقين مقاصدهم ومن هذا إذا قال العبد لسيده وقد استعمله في عمل يشق عليه أعتقني من هذا العمل فقال أعتقتك ولم ينو إزالة ملكه عنه لم يعتق بذلك وكذلك إذا قال عن امرأته هذه أختي ونوى أختى في الدين لم تحرم بذلك ولم يكن مظاهرا والصريح لم يكن موجبا لحكمه لذاته وإنما أوجبه لأنا نستدل على قصد المتكلم به لمعناه لجريان اللفظ على لسانه اختيارا فإذا ظهر قصده بخلاف معناه لم يجز ان يلزم بما لم يرده ولا التزمه ولا خطر بباله بل إلزامه بذلك جناية على الشرع وعلى المكلف والله سبحانه وتعالى رفع المؤاخذة عن المتكلم بكلمة الكفر مكرها لما لم يقصد معناها ولا نواها فكذلك المتكلم بالطلاق والعتاق والوقف واليمين والنذر مكرها لا يلزمه شيء من ذلك لعدم نيته وقصده وقد أتى باللفظ الصريح فعلم أن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به والله تعالى رفع المؤاخذة عمن حدث نفسه بأمر بغير تلفظ أو عمل كما دفعها عمن تلفظ باللفظ من غير قصد لمعناه ولا إرادة ولهذا لا يكفر من جرى على لسانه لفظ الكفر سبقا من غير قصد لفرح أو دهش وغير ذلك كما في حديث الفرح الإلهي بتوبة العبد وضرب مثل ذلك بمن فقد راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة فأيس منها ثم وجدها فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ولم يؤاخذ بذلك وكذلك إذا أخطأ من شدة الغضب لم يؤاخذ بذلك ومن هذا قوله تعالى ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم قال السلف هو دعاء الإنسان على نفسه وولده وأهله في حال الغضب ولو استجابه الله تعالى لأهلكه وأهلك من يدعو عليه ولكنه لا يستجيبه لعلمه بأن الداعي لم يقصده لا طلاق لغضبان ومن هذا رفعه ﷺ حكم الطلاق عمن طلق في إغلاق وقال الإمام أحمد في رواية حنبل هو الغضب وكذلك فسره أبو داود وهو قول القاضي إسماعيل بن إسحاق أحد أئمة الماليكة ومقدم فقهاء أهل العراق منهم وهي عنده من لغو اليمين أيضا فأدخل يمين الغضبان في لغو اليمين وفي يمين الإغلاق وحكاه شارح أحكام عبد الحق عنه وهو ابن بزيزة الأندلسي قال وهذا قول على وابن عباس وغيرهما من الصحابة إن الأيمان المنعقدة كلها في حال الغضب لا تلزم وفي سنن الدارقطني بإسناد فيه لين من حديث ابن عباس يرفعه لا يمين في غضب ولا عتاق فيما لا يملك وهو وإن لم يثبت رفعه فهو قول ابن عباس وقد فسر الشافعي لاطلاق في اغلاق بالغضب وفسره به مسروق فهذا مسروق والشافعي وأحمد وأبو داود والقاضي إسماعيل كلهم فسروا الإغلاق بالغضب وهو من أحسن التفسير لأن الغضبان غلق عليه باب القصد بشدة غضبه وهو كالمكره بل الغضبان أولى بالإغلاق من المكره لأن المكره قد قصد رفع الشر الكثير بالشر القليل الذي هو دونه فهو قاصد حقيقة ومن هنا أوقع عليه الطلاق من أوقعه وأما الغضبان فإن انغلاق باب القصد والعلم عنه كانغلاقه عن السكران والمجنون فإن الغضب غول العقل يغتاله كما يغتال الخمر بل أشد وهو شعبة من الجنون ولا يشك فقيه النفس في أن هذا لا يقع طلاقه ولهذا قال حبر الأمة الذي دعا له رسول الله ﷺ بالفقه في الدين إنما الطلاق عن وطر ذكره البخاري في صحيحه أي عن غرض من المطلق في وقوعه وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه وإجابة الله دعاء رسوله له إذا الألفاظ إنما يترتب عليها موجباتها لقصد اللافظ بها ولهذا لم يؤاخذنا الله باللغو في أيماننا ومن اللغو ما قالته أم المؤمنين عائشة وجمهور السلف انه قول الحالف لا والله وبلى والله في عرض كلامه من غير عقد اليمين وكذلك لا يؤاخذ الله باللغو في أيمان الطلاق كقول الحالف في عرض كلامه على الطلاق لا أفعل والطلاق يلزمني لا أفعل من غير قصد لعقد اليمين بل إذا كان اسم الرب جل جلاله لا ينعقد به يمين اللغو فيمين الطلاق أولى ألا ينعقد ولا يكون أعظم حرمة من الحلف بالله وهذا أحد القولين من مذهب أحمد وهو الصواب وتخريجه على نص أحمد صحيح فإنه نص على اعتبار الاستثناء في يمين الطلاق لأنها عنده يمين ونص على أن اللغو ان يقول لا والله وبلى والله من غير قصد لعقد اليمين وقد قال النبي ﷺ: "إن الله ينهاكم ان تحلفوا بآبائكم" وصح عنه أنه قال: "أفلح وأبيه إن صدق" ولا تعارض بينهما ولم يعقد النبي ﷺ اليمين بغير الله قط وقد قال حمزة للنبي ﷺ هل أنتم إلا عبيد لأبي وكان نشوانا من الخمر فلم يكفره بذلك وكذلك الصحابي الذي قرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون وكان ذلك قبل تحريم الخمر ولم يعد بذلك كافرا لعدم القصد وجريان اللفظ على اللسان من غير إرادة لمعناه فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه فتجنى عليه وعلى الشريعة وتنسب إليها ما هي بريئة منه وتلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد ما لم يلزمه الله ورسوله به ففقيه النفس يقول ما أردت ونصف الفقيه يقول ما قلت فاللغو في الأقوال نظير الخطأ والنسيان في الأفعال وقد رفع الله المؤاخذة بهذا وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فقال ربهم تبارك وتعالى: قد فعلت.
فصل كيف يقع الطلاق
ومن هذا الباب اليمين بالطلاق والعتاق فإن إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبدا وإنما المحفوظ إلزام الطلاق بصيغة الشرط والجزاء الذي قصد به الطلاق عند وجود الشرط كما في صحيح البخاري عن نافع قال طلق رجل امرأته ألبتة إن خرجت فقال ابن عمر إن خرجت فقد بانت منه وإن لم تخرج فليس بشيء فهذا لا ينازع فيه إلا من يمنع وقوع الطلاق المعلق بالشرط مطلقا وأما من يفصل بين القسم المحض والتعليق الذي يقصد به الوقوع فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب فإنهم صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور وصح عنهم عدم الوقوع في صور والصواب ما أفتوا به في النوعين ولا يؤخذ ببعض فتاويهم ويترك بعضها فأما الوقوع فالمحفوظ عنهم ما ذكره البخاري عن ابن عمر وما رواه الثوري عن الزبير بن عربي عن إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل قال لامرأته إن فعلت كذا وكذا فهى طالق ففعلته قال هي واحدة وهو أحق بها على أنه منقطع وكذلك ما ذكره البيهقي وغيره عن ابن عباس في رجل قال لامرأته هي طالق إلى سنة قال يستمتع بها إلى سنة ومن هذا قول أبي ذر لامرأته وقد ألحت عليه في سؤاله عن ليلة القدر فقال إن عدت سألتني فأنت طالق.
وههنا نكتة لطيفة يحسن التنبيه عليها وهى أن أبا ذر سأل النبي ﷺ عن ليلة القدر وألح عليه حتى قال له النبي ﷺ: في آخر مسألته: "التمسوها في العشر الأواخر ولا تسألني عن شيء بعد هذا" ثم حدث النبي ﷺ وحدث قال فاهتبلت غفلته فقلت أقسمت عليك يا رسول الله بحقي عليك لتحدثني في أي العشر هي قال فغضب علي غضبا ما غضب على من قبل ولا من بعد ثم قال: "التمسوها في السبع الأواخر ولا تسألني عن شيء بعد" ذكره النسائي والبيهقي فأصاب أبا ذر من امرأته وإلحاحها عليه ما أوجب غضبه وقال إن عدت سألتني فأنت طالق فهذه جميع الآثار المحفوظة عن الصحابة في وقوع الطلاق المعلق.
وأما الآثار عنهم في خلافه فصح عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة فيمن حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته أنها تكفر عن يمينها ولا تفرق بينهما قال الأثرم في سننه ثنا عارم بن الفضل ثنا معمر بن سليمان قال قال أبي ثنا بكر بن عبد الله قال أخبرني أبو رافع قال قالت مولاتي ليلى بنت العجماء كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدى وهي يهودية وهي نصرانية إن لم تطلق امرأتك أو تفرق بينك وبين امرأتك قال فأتيت زينب بنت أم سلمة كانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب قال فأتيتها فجاءت معي إليها فقالت في البيت هاروت وماروت فقالت يا زينب جعلني الله فداك إنها قالت إن كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدى وهي يهودية وهي نصرانية فقالت يهودية ونصرانية خل بين الرجل وامرأته فأتيت حفصة أم المؤمنين فارسلت إليها فأتتها فقالت يا أم المؤمنين جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدى وهي يهودية ونصرانية فقالت يهودية ونصرانية خل بين الرجل وامرأته قالت فأتيت عبد الله بن عمر فجاء معي إليها فقام معي على الباب فسلم فقالت بيبى أنت وبيبى أبوك فقال أمن حجارة أنت أم من حديد أنت أم أي شيء أنت أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي فتياهما فقالت يا أبا عبد الرحمن جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهي يهودية وهي نصرانية فقال يهودية ونصرانية كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وامرأته وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في المترجم له ثنا صفوان بن صالح ثنا عمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي قال حدثنى حسن بن الحسن قال حدثني بكر بن عبد الله المزني قال حدثني رفيع قال كنت أنا وامرأتي مملوكين لامرأة من الانصار فحلفت بالهدى والعتاقة أن تفرق بيننا فأتيت امرأة من أزواج النبي ﷺ فذكرت لها ذلك فأرسلت إليها أن كفري عن يمينك فأبت ثم أتيت زينب وأم سلمة فذكرت ذلك لهما فأرسلتا إليها أن كفري عن يمينك فأبت فأتيت ابن عمر فذكرت له فأرسل إليها ابن عمر أن كفري عن يمينك فأبت فقام ابن عمر فأتاها فقال أرسلت إليك فلانة زوجة النبي ﷺ وزينب أن تكفري عن يمينك فأبيت قالت يا أبا عبد الرحمن إني حلفت بالهدى والعتاقة قال وإن كنت قد حلفت بهما وقال الدارقطني ثنا أبو بكر النيسابوري ثنا محمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري ثنا أشعث ثنا بكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع أن مولاة له أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت هي يوما يهودية ويوما نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تفرق بينهما فسألت عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة رضي الله عنهم فكلهم قالوا لها أتريدين ان تكفري مثل هاروت وماروت فأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلى بينهما.
وقد رواه البيهقي من طريق الانصاري ثنا أشعث ثنا بكر عن أبي رافع ان مولاته أرادت ان تفرق بينه وبين امرأته فقالت هي يوما يهودية ويوما نصرانية وكل مملوك لها حر وكل مال لها في سبيل الله وعليها المشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما فسألت عائشة وابن عمر وابن عباس وحفصة وام سلمة فكلهم قالوا لها أتريدين تكفري مثل هاروت وماروت وامروها ان تكفر عن يمينها وتخلى بينهما رواه روح والأنصاري واللفظ له وحديث روح مختصر وقال النضر بن شميل ثنا أشعث عن بكر بن عبد الله عن أبي رافع عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة في هذه القصة قالوا تكفر يمينها وقال يحيى بن سعيد القطان عن سليمان التيمي ثنا بكر بن عبد الله عن أبي رافع: أن ليلى بنت العجماء مولاته قالت هي يهودية وهي نصرانية وكل مملوك لها حر وكل مال لها هدى إن لم يطلق امرأته إن لم تفرق بينهما فذكر القصة وقال فأتيت ابن عمر فجاء معي فقام بالباب فلما سلم قالت بأبي أنت وابوك فقال أمن حجارة أنت أم من حديد أتتك زينب وأرسلت إليك حفصة قالت وقد حلفت بكذا وكذا قال كفري عن يمينك وخلى بين الرجل وامرأته.
فقد تبين بسياق هذه الطرق انتفاء العلة التي أعل بها حديث ليلى هذا وهي تفرد التيمي فيه بذكر العتق كذا قال الإمام أحمد: لم يقل وكل مملوك لها حر الا التيمى وبريء التيمي من عهدة التفرد وقاعدة الإمام أحمد أن ما أفتى به الصحابة لا يخرج عنه إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه فعلى أصله الذي بني مذهبه عليه يلزمه القول بهذا الأثر لصحته وانتفاء علته.
فإن قيل للحديث علة أخرى وهي التي منعت الإمام أحمد من القول به وقد أشار اليها في رواية الأثرم فقال الاثرم سمعت أبا عبد الله يقول في حديث ليلى بنت العجماء حين حلفت بكذا وكذا وكل مملوك لها حر فأفتيت بكفارة يمين فاحتج بحديث ابن عمر وابن عباس حين افتيا فيمن حلف بعتق جاريته وأيمان فقال أما الجارية فتعتق.
قلت: يريد بهما ما رواه معمر عن إسماعيل بن امية عن عثمان بن أبي حاضر قال حلفت امرأة من آل ذي أصبح فقالت مالها في سبيل الله وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا لشيء يكرهه زوجها فحلف زوجها أن لا تفعله فسأل عن ذلك ابن عباس وابن عمر فقالا أما الجارية فتعتق وأما قولها مالي في سبيل الله فتتصدق بزكاة مالها فقيل لا ريب أنه قد روى عن ابن عمر وابن عباس ذلك ولكنه أثر معلول تفرد به عثمان هذا وحديث ليلى بنت العجماء أشهر إسنادا وأصح من حديث عثمان فإن رواته حفاظ أئمة وقد خالفوا عثمان وأما ابن عباس فقد روى عنه خلاف ما رواه عثمان فيمن حلف بصدقة ماله قال يكفر يمينه وغاية هذا الأثر إن صح أن يكون عن ابن عمر روايتان ولم يختلف على عائشة وزينب وحفصة وأم سلمة قال أبو محمد بن حزم وصح عن ابن عمر وعائشة وام سلمة امي المؤمنين وعن ابن عمر أنهم جعلوا في قول ليلى بنت العجماء كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امرأتك كفارة يمين واحدة فإذا صح هذا عن الصحابة ولم يعلم لهم مخالف سوى هذا الأثر المعلول أثر عثمان بن أبي حاضر في قول الحالف عبده حر إن فعل انه يجزيه كفارة يمين وإن لم يلزموه بالعتق المحبوب إلى الله تعالى فإن لا يلزموه بالطلاق البغيض إلى الله أولى وأحرى كيف وقد أفتى أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام الحالف بالطلاق أنه لا شيء عليه ولم يعرف له في الصحابة مخالف قاله عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التيمي المعروف بابن بزيزة في شرحه لأحكام عبد الحق.
الباب الثالث: في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه
وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي وغير ذلك هل يلزم أم لا فقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه وشريح وطاوس لا يلزم من ذلك شيء ولا يقضى بالطلاق على من حلف به بحنث ولا يعرف لعلى في ذلك مخالف من الصحابة هذا لفظه بعينه فهذه فتوى أصحاب رسول الله ﷺ في الحلف بالعتق والطلاق وقد قدمنا فتاويهم في وقوع الطلاق المعلق بالشرط ولا تعارض بين ذلك فإن الحالف لم يقصد وقوع الطلاق وإنما قصد منع نفسه بالحلف مما لا يريد وقوعه فهو كما لو خص منع نفسه بالتزام التطليق والاعتاق والحج والصوم وصدقة المال وكما لو قصد منع نفسه بالتزام ما يكرهه من الكفر فإن كراهته لذلك كله وإخراجه مخرج اليمين بما لا يريد وقوعه منع من ثبوت حكمة وهذه علة صحيحة فيجب طردها في الحلف بالعتق والطلاق إذ لا فرق ألبتة والعلة متى تخصصت بدون فوات شرط أو وجود مانع دل ذلك على فسادها كيف والمعنى الذي منع لزوم الحج والصدقة والصوم بل لزوم الإعتاق والتطليق بل لزوم اليهودية والنصرانية هو في الحلف بالطلاق أولى أما العبادات المالية والبدنية فإذا منع لزومها قصد اليمين وعدم قصد وقوعها فالطلاق أولى وكل ما يقال في الطلاق فهو بعينه في صور الإلزام سواء بسواء وأما الحلف بالتزام التطليق والاعتاق فإذا كان قصد اليمين قد منع ثلاثة أشياء وهي وجوب التطليق وفعله وحصول أثره وهو الطلاق فلأن يقوى على منع واحد من الثلاثة وهو وقوع الطلاق وحده أولى وأحرى وأما الحلف بالتزام الكفر الذي يحصل بالنية تارة وبالفعل تارة وبالقول تارة وبالشك تارة ومع هذا فقصد اليمين منع من وقوعه فلأن يمنع من وقوع الطلاق أولى وأحرى وإذا كان العتق الذي هو أحب الأشياء إلى الله ويسرى في ملك الغير وله من القوة وسرعة النفوذ ما ليس لغيره ويحصل بالملك والفعل قد منع قصد اليمين من وقوعه كما فتى به الصحابة فالطلاق أولى وأحرى بعدم الوقوع وإذا كانت اليمين بالطلاق قد دخلت في قول الملكف أيمان المسلمين تلزمني عند من ألزمه بالطلاق فدخولها في قول رب العالمين قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم أولى وأحرى وإذا دخلت في قول الحالف إن حلفت يمينا فعبدي حر فدخولها في قول النبي ﷺ: "من حلف علي يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" أولى وأحرى وإذا دخلت في قول النبي ﷺ: "من حلف فقال إن شاء الله فأن شاء فعل وإن شاء ترك" فدخولها في قوله من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه أولى وأحرى فإن الحديث أصح وأصرح وإذا دخلت في قوله من حلف على يمين فأجره يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان.
فدخولها في قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} أولى وأحرى بالدخول أو مثله وإذا دخلت في قوله تعالى للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فلو حلف بالطلاق كان موليا فدخولها في نصوص الأيمان أولى وأحرى لأن الإيلاء نوع من اليمين فإذا دخل الحلف بالطلاق في النوع فدخوله في الجنس سابق عليه فإن النوع مستلزم الجنس ولا ينعكس وإذا دخلت في قوله يمينك على ما يصدقك به صاحبك فكيف لا يدخل في بقية نصوص الأيمان وما الذي أوجب هذا التخصيص من غير مخصص وإذا دخلت في قوله إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق فهلا دخلت في غيره من نصوص اليمين وما الفرق المؤثر شرعا أو عقلا أو لغة وإذا دخلت في قوله واحفظوا أيمانكم فهلا دخلت في قوله ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وإذا دخلت في قول الحالف أيمان البيعة تلزمني وهي الأيمان التي رتبها الحجاج فلم لا تكون أولى بالدخول في لفظ الايمان في كلام الله تعالى ورسوله فإن كانت يمين الطلاق يمينا شرعية بمعنى ان الشرع اعتبرها وجب أن تعطى حكم الايمان وان لم تكن يمينا شرعية كانت باطلة في الشرع فلا يلزم الحالف بها شيء كما صح عن طاوس من رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عنه ليس الحلف بالطلاق شيئا وصح عن عكرمة من رواية سنيد بن داود بن علي في تفسيره عنه أنها من خطوات الشيطان لا يلزم بها شيء وصح عن شريح قاضي أمير المؤمنين علي وابن مسعود أنها لا يلزم بها طلاق وهو مذهب داود ابن علي وجميع أصحابه وهو قول بعض أصحاب مالك في بعض الصور فيما إذا حلف عليها بالطلاق على شيء لا تفعله هي كقوله إن كلمت فلانا فأنت طالق فقال لا تطلق إن كلمته لأن الطلاق لا يكون بيدها إن شاءت طلقت وإن شاءت أمسكت وهو قول بعض الشافعية في بعض الصور كقوله الطلاق يلزمني أو لازم لي لا أفعل كذا وكذا فإن لهم فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه إن نوى وقوع الطلاق بذلك لزمه وإلا فلا يلزمه وجعله هؤلاء كناية والطلاق يقع بالكناية مع النية الوجه الثاني أنه صريح فلا يحتاج إلى نيته وهذا اختيار الروياني ووجهه أن هذا اللفظ قد غلب في إرادة الطلاق فلا يحتاج إلى نية الوجه الثالث أنه ليس بصريح ولا كناية ولا يقع به طلاق وإن نواه وهذا اختيار القفال في فتاويه ووجهه ان الطلاق لا بد فيه من إضافته إلى المرأة كقوله أنت طالق أو طلقتك أو قد طلقتك أو يقول امرأتي طالق أو فلانه طالق ونحو هذا ولم توجد هذه الإضافة في قوله الطلاق يلزمني ولهذا قال ابن عباس فيمن قال لامرأته طلقي نفسك فقالت أنت طالق فإنه لا يقع بذلك طلاق وقال خطأ الله نوأها وتبعه على ذلك الأئمة فإذا قال الطلاق يلزمني لم يكن لازما له إلا أن يضيفه إلى محله ولم يضفه فلا يقع والموقعون يقولون إذا التزمه فقد لزمه ومن ضرورة لزومه إضافته إلى المحل فجاءت الإضافة من ضرورة اللزوم ولمن نصر قول القفال ان يقول إما أن يكون قائل هذا اللفظ قد التزم التطليق أو وقوع الطلاق الذي هو أثره فإن كان الأول لم يلزمه لأنه نذر ان يطلق ولا تطلق المرأة بذلك وان كان قد التزم الوقوع فالتزامه بدون سبب الوقوع ممتنع وقوله الطلاق يلزمني التزام لحكمه عند وقوع سببه وهذا حق فأين في هذا اللفظ وجود سبب الطلاق وقوله الطلاق يلزمني لا يصلح أن يكون سببا إذ لم يضف فيه الطلاق إلى محله فهو كما لو قال العتق يلزمني ولم يضف فيه العتق إلى محله بوجه ونظير هذا ان يقول له بعنى أو آجرني فيقول البيع يلزمني أو الإجارة تلزمني فإنه لا يكون بذلك موجبا لعقد البيع أو الاجارة حتى يضيفهما إلى محلهما وكذلك لو قال الظهار يلزمني لم يكن بذلك مظاهرا حتى يضيفه إلى محله وهذا بخلاف ما لو قال الصوم يلزمني أو الحج أو الصدقة فإن محله الذمة وقد أضافه إليها.
فإن قيل وههنا محل الطلاق والعتاق الذمة.
محل الطلاق الزوجة ومحل العتاق العبد
قيل هذا غلط بل محل الطلاق والعتاق نفس الزوجة والعبد وإنما الذمة محل وجوب ذلك وهو التطليق والاعتاق وحيئذ فيعود الالتزام إلى التطليق والإعتاق وذلك لا يوجب الوقوع والذي يوضح هذا أنه لو قال أنا منك طالق لم تطلق بذلك لإضافة الطلاق إلى غير محله وقيل تطلق إذا نوى طلاقها هي بذلك تنزيلا لهذا اللفظ منزلة الكنايات فهذا كشف سر هذه المسألة وممن ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو القاسم بن يونس في شرح التنبيه وأكثر أيمان الطلاق بهذه الصيغة فكيف يحل لمن يؤمن بأنه موقوف بين يدى الله ومسئول أن يكفر أو يجهل من يفتى بهذه المسألة ويسعى في قتله وحبسه ويلبس على الملوك والأمراء والعامة أن المسألة مسألة إجماع ولم يخالف فيها أحد من المسلمين وهذه أقوال أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وقد علم الله ورسوله وملائكته وعباده أن هذه المسألة لم ترد بغير الشكاوي إلى الملوك ودعوى الإجماع الكاذب والله المستعان وهو عند كل لسان قائل وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون.
اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ
وهذا الذي قلناه من اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ وانها لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصدا لها مريدا لموجباتها كما أنه لا بد أن يكون قاصدا للتكلم باللفظ مريدا له فلا بد من إرادتين إرادة التكلم باللفظ اختيارا وإرادة موجبه ومقتضاه بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ فإنه المقصود واللفظ وسيلة هو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام وقال مالك وأحمد فيمن قال أنت طالق ألبتة وهو يريد أن يحلف على شيء ثم بدا له فترك اليمين لا يلزمه شيء لأنه لم يرد ان يطلقها وكذلك قال أصحاب أحمد وقال أبو حنيفة من أراد أن يقول كلاما فسبق لسانه فقال أنت حرة لم تكن بذلك حرة وقال أصحاب أحمد لو قال الأعجمي لامرأته أنت طالق وهو لا يفهم معنى هذه اللفظة لم تطلق لأنه ليس مختارا للطلاق فلم يقع طلاقه كالمكره قالوا فلو نوى موجبه عند أهل العربية لم يقع أيضا لأنه لا يصح منه اختيار مالا يعلمه وكذلك لو نطق بكلمة الكفر من لا يعلم معناها لم يكفر وفي مصنف وكيع ان عمر بن الخطاب قضى في امرأة قالت لزوجها سمني فسماها الطيبة فقالت لا فقال لها ما تريدين ان اسميك قالت سمني خلية طالق فقال لها فأنت خلية طالق فأتت عمر بن الخطاب فقالت إن زوجي طلقني فجاء زوجها فقص عليه القصة فأوجع عمر رأسها وقال لزوجها خذ بيدها وأوجع رأسها وهذا هو الفقه الحي الذي يدخل على القلوب بغير استئذان وإن تلفظ بصريح الطلاق وقد تقدم أن الذي قال لما وجد راحلته اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر لكونه لم يرده والمكره على كلمة الكفر أتى بصريح كلمته ولم يكفر لعدم إرادته بخلاف المستهزئ والهازل فإنه يلزمه الطلاق والكفر وإن كان هازلا لأنه قاصد للتكلم باللفظ وهزله لا يكون عذرا له بخلاف المكره والمخطئ والناسي فإنه معذور مأمور بما يقوله أو مأذون له فيه والهازل غير مأذون له في الهزل بكلمة الكفر والعقود فهو متكلم باللفظ مريد له ولم يصرفه عن معناه إكراه ولا خطأ ولا نسيان ولا جهل والهزل لم يجعله الله ورسوله عذرا صارفا بل صاحبه أحق بالعقوبة ألا ترى أن الله تعالى عذر المكره في تكلمه بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان ولم يعذر الهازل بل قال ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم وكذلك رفع المؤاخذة على المخطئ والناسي.
فصل تعليق الطلاق بالشرط المنوي
ومن ذلك أنه لو قال أنت طالق وقال أردت إن كلمت رجلا أو خرجت من داري لم يقع به الطلاق في أحد الوجهين لأصحاب أحمد والشافعي وكذلك لو قال أردت إن شاء الله ففيه وجهان لهم ونص الشافعي فيما لو قال إن كلمت زيدا فأنت طالق ثم قال أردت به إلى شهر فكلمة بعد شهر لم تطلق باطنا وفرق بين هذه الصورة والصورتين اللتين قبلها فإن التقييد بالغاية المنوية كالتقييد بالمشيئة المنوية وهو أولى بالجواز من تخصيص العام بالنية كما إذا قال نسائي طوالق واستثنى بقلبه واحدة منهن فإنه إذا صح الاستثناء بالنية في إخراج ما يتناوله اللفظ صح التقييد بالنية بطريق الأولى فإن اللفظ لا دلالة له بوضعه على عموم الأحوال والأزمان ولو دل عليها بعمومه فإخراج بعضها تخصيص للعام وهذا ظاهر جدا وغايته استعمال العام في الخاص أو المطلق في المقيد وذلك غير بدع لغة وشرعا وعرفا وقد قال النبي ﷺ أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه فالصواب قبول مثل هذا فيما بينه وبين الله وفي الحكم أيضا.
فصل الحلف بالطلاق وبالحرام له صيغتان
قد عرف أن الحلف بالطلاق له صيغتان إحداهما إن فعلت كذا وكذا فأنت طالق والثانية الطلاق يلزمني لا أفعل كذا وأن الخلاف في الصيغتين قديما وحديثا وهكذا الحلف بالحرام له صيغتان إحداهما إن فعلت كذا فأنت علي حرام أو ما أحل الله على حرام والثانية الحرام يلزمني لا أفعل كذا فمن قال في الطلاق يلزمني إنه ليس بصريح ولا كناية ولا يقع به شيء ففي قوله الحرام يلزمني أولى ومن قال إنه كناية إن نوى به الطلاق كان طلاقا وإلا فلا فهكذا يقول في الحرام يلزمني ان نوى به التحريم كان كما لو نوى بالطلاق التطليق فكأنه التزم ان يحرم كما التزم ذلك أن يطلق فهذا التزام للتحريم وذاك التزام للتطليق وان نوى به ما حرم الله على يلزمني تحريمه لم يكن يمينا ولا تحريما ولا طلاقا ولا ظهارا ولا يجوز ان يفرق بين المسلم وبين امرأته بغير لفظ لم يوضع للطلاق ولا نواه وتلزمه كفارة يمين حرمة لشدة اليمين إذ ليست كالحلف بالمخلوق التي لا تنعقد ولا هي من لغو اليمين وهي يمين منعقدة ففيها كفارة يمين.
وبهذا أفتى ابن عباس ورفعه إلى النبي ﷺ فصح عنه بأصح إسناد الحرام يمين يكفرها ثم قال لقد كان لكم في رسول الله ﷺ أسوة حسنة.
وهكذا حكم قوله إن فعلت كذا فأنت على حرام وهذا أولى بكفارة يمين من قوله أنت علي حرام وفي قوله أنت على حرام أو ما أحل الله على حرام أو أنت على حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير مذاهب.
المذهب الأول فيمن قال لزوجته أنت علي حرام
أحدها أنه لغو وباطل ولا يترتب عليه شيء وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس وبه قال مسروق وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعطاء والشعبي وداود وجميع أهل الظاهر وأكثر أصحاب الحديث وهو أحد قولى المالكية اختاره اصبغ ابن الفرج.
وفي الصحيح عن سعيد بن جبير انه سمع ابن عباس يقول إذا حرم امرأته فليس بشيء لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وصح عن مسروق أنه قال ما أبالي أحرمت امرأتي أو قصعة من ثريد وصح عن الشعبي في تحريم المرأة لهو أهون على من نعلى وقال أبو سلمة ما أبالي أحرمت امرأتي أو حرمت ماء النهر.
وقال الحجاج بن منهال إن رجلا جعل امرأته عليه حراما فسأل عن ذلك حميد بن عبد الرحمن فقال له حميد قال الله تعالى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب وأنت رجل تلعب فاذهب فالعب.
فصل المذهب الثاني
المذهب الثاني أنها ثلاث تطليقات وهو قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزيد بن ثابت وابن عمر والحسن البصري ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى وقضى فيها أمير المؤمنين على بالثلاث في عدي بن قيس الكلابي وقال له والذي نفسي بيده لئن مسستها قبل ان تتزوج غيرك لأرجمنك وحجة هذا القول أنها لا تحرم عليها إلا بالثلاث فكان وقوع الثلاث من ضرورة كونها حراما عليه.
المذهب الثالث
المذهب الثالث أنها بهذا القول حرام عليه صح أيضا عن أبي هريرة والحسن وخلاس بن عمرو وجابر بن زيد وقتادة ولم يذكر هؤلاء طلاقا بل أمروه باجتنابها فقط وصح ذلك أيضا عن علي عليه السلام فإما أن يكون عنه روايتان أو يكون أراد تحريم الثلاث وحجة هذا القول أن لفظه إنما اقتضى التحريم ولم يتعرض لعدد الطلاق فحرمت عليه بمقتضى تحريمه.
المذهب الرابع
المذهب الرابع الوقف فيها صح ذلك عن أمير المؤمنين على أيضا وهو قول الشعبي قال يقول رجال في الحلال حرام إنها حرام حتى تنكح زوجا غيره وينسبونه إلى علي والله ما قال ذلك علي إنما قال ما أنا بمحلها ولا بمحرمها عليك إن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر وحجة هؤلاء أن التحريم ليس بطلاق وهو لا يملك تحريم الحلال وإنما يملك إنشاء السبب الذي يحرم به وهو الطلاق وهذا ليس بصريح في الطلاق ولا هو مما ثبت له عرف الشرع في تحريم الزوجة فاشتبه الأمر فيه.
المذهب الخامس
المذهب الخامس إن نوى به الطلاق فهو طلاق وإلا فهو يمين وهذا قول طاوس والزهري والشافعي ورواية عن الحسن وحجة هذا القول أنه كناية في الطلاق فإن نواه به كان طلاقا وإن لم ينوه كان يمينا لقوله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}.
المذهب السادس
المذهب السادس أنه إن نوى بها الثلاث فثلاث وإن نوى واحدة فواحدة بائنة وإن نوى يمينا فهو يمين وإن لم ينو شيئا فهي كذبة لا شيء فيها قاله سفيان وحكاه النخعي عن أصحابه وحجة هذا القول ان اللفظ يحتمل لما نواه من ذلك فيتبع نيته.
المذهب السابع
المذهب السابع مثل هذا إلا أنه إن لم ينو شيئا فهو يمين يكفرها وهو قول الأوزاعي وحجة هذا القول ظاهر قوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فإذا نوى به الطلاق لم يكن يمينا فإذا طلق ولم ينو الطلاق كان يمينا.
المذهب الثامن
المذهب الثامن مثل هذا أيضا إلا أنه إن لم ينو شيئا فواحدة بائنة إعمالا للفظ التحريم.
المذهب التاسع
المذهب التاسع: أن فيه كفارة الظهار وصح ذلك عن ابن عباس أيضا وأبي قلابة وسعيد بن جبير ووهب بن منبة وعثمان التيمي وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد وحجة هذا القول إن الله تعالى جعل تشبيه المرأة بأمه المحرمة عليه ظهارا وجعله منكرا من القول وزورا فإن كان التشبيه بالمحرمة يجعله مظاهرا فإذا صرح بتحريمها كان أولى بالظهار.
وهذا أقيس الأقوال وأفقهها ويؤيده أن الله لم يجعل للمكلف التحريم والتحليل وإنما ذلك إليه تعالى وإنما جعل له مباشرة الأفعال والأقوال التي يترتب عليها التحريم والتحليل فالسبب إلى العبد وحكمه إلى الله تعالى فإذا قال أنت على كظهر أمي أو قال أنت على حرام فقد قال المنكر من القول والزور وكذب فإن الله لم يجعلها كظهر أمه ولا جعلها عليه حراما فأوجب عليه بهذا القول من المنكر والزور أغلظ الكفارتين وهي كفارة الظهار.
المذهب العاشر
المذهب العاشر أنها تطليقة واحدة وهي أحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب وقول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة وحجة هذا القول أن تطليق التحريم لا يقتضى التحريم بالثلاث بل يصدق بأقله والواحدة متيقنة فحمل اللفظ عليها لأنها اليقين فهو نظير التحريم بانقضاء العدة.
المذهب الحادي عشر
المذهب الحادي عشر: أنه ينوي ما أراده من ذلك في إرادة أصل الطلاق وعدده وإن نوى تحريما بغير طلاق فيمين مكفرة وهو قول الشافعي وحجة هذا القول أن اللفظ صالح لذلك كله فلا يتعين واحد منها إلا بالنية فإن نوى تحريما مجردا كان امتناعا منها بالتحريم كامتناعه باليمين ولا تحرم عليه في الموضعين.
المذهب الثاني عشر
المذهب الثاني عشر انه ينوي أيضا في أصل الطلاق وعدده إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة وإن لم ينو طلاقا فهو مول وإن نوى الكذب فليس بشيء وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وحجة هذا القول احتمال اللفظ لما ذكره إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة لاقتضاء التحريم للبينونة وهي صغرى وكبرى والصغرى هي المتحققة فأعتبرت دون الكبرى وعنه رواية أخرى إن نوى الكذب دين ولم يقبل في الحكم بل يكون موليا ولا يكون مظاهرا عنده نواه أو لم ينوه ولو صرح به فقال أعنى به الظهار لم يكن مظاهرا.
المذهب الثالث عشر
المذهب الثالث عشر: أنه يمين يكفره ما يكفر اليمين على كل حال صح ذلك أيضا عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابث وابن مسعود وعبد الله بن عمر وعكرمة وعطاء ومكحول وقتادة والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وجابر بن زيد وسعيد بن جبير ونافع والأوزاعي وأبي ثور وخلق سواهم وحجة هذا القول ظاهر القرآن فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال فلا بد ان يتناوله يقينا فلا يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور قبلها ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله.
المذهب الرابع عشر
المذهب الرابع عشر أنه يمين مغلظة يتعين فيها عتق رقبة صح ذلك أيضا عن ابن عباس وأبي بكر وعمر وابن مسعود وجماعة من التابعين وحجة هذا القول أنه لما كان يمينا مغلظة غلظت كفارتها بتحتم العتق ووجه تغليظها تضمنها تحريم ما أحل الله وليس إلى العبد وقول المنكر والزور ان أراد الخبر فهو كاذب في إخباره معتد في إقسامه فغلظت كفارته بتحتم العتق كما غلظت كفارة الظهار به أو بصيام شهرين أو بإطعام ستين مسكينا.
المذهب الخامس عشر
المذهب الخامس عشر أنه طلاق ثم إنها إن كانت غير مدخول بها فهو مانواه من الواحدة وما فوقها وان كانت مدخولا بها فهو ثلاث وان نوى أقل منها وهو إحدى الروايتين عن مالك وحجة هذا القول ان اللفظ لما اقتضى التحريم وجب أن يترتب عليه حكمه وغير المدخول بها تحرم بواحدة والمدخول بها لا تحرم إلا بالثلاث.
خمسة أقوال للمالكية في هذه المسألة
وبعد ففي مذهب مالك خمسة أقوال هذا أحدها وهو مشهورها.
والثاني أنه ثلاث بكل حال نوى الثلاث أو لم ينوها اختارها عبد الملك في مبسوطه والثالث أنه واحدة بائنة مطلقا حكاه ابن خويز منداذ رواية عن مالك الرابع انه واحدة رجعية وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة الخامس أنه ما نواه من ذلك مطلقا سواء قبل الدخول وبعده وقد عرفت توجيه هذه الأقوال.
فصل مذهب الشافعية
وأما تحرير مذهب الشافعي فإنه إن نوى به الظهار كان ظهارا وإن نوى به التحريم كان تحريما لا يترتب عليه إلا تقدم الكفارة وإن نوى الطلاق كان طلاقا وكان ما نواه وإن أطلق فلأصحابه فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه صريح في إيجاب الكفارة والثاني لا يتعلق به شيء والثالث أنه في حق الأمة صريح في التحريم الموجب للكفارة وفي حق الحرة كناية قالوا لأن أصل الآية إنما وردت في الأمة قالوا فلو قال أنت علي حرام وقال أردت بها الظهار والطلاق فقال ابن الحداد يقال له عين أحد الأمرين لأن اللفظة الواحدة لا تصلح للظهار والطلاق معا وقيل يلزمه ما بدأ به منهما قالوا ولو ادعى رجل على رجل حقا فأنكره فقال الحل عليك حرام والنية نيتي لا نيتك مالي عليك شيء فقال الحل على حرام والنية في ذلك نيتك مالك عندي شيء كانت النية نية الحالف لا المحلف لأن النية إنما تكون ممن إليه الإيقاع.
فصل مذهب الحنابلة
وأما تحرير مذهب الإمام أحمد فهو أنه ظهار بمطلقه وإن لم ينوه إلا أن ينوي به الطلاق أو اليمين فيلزمه ما نواه وعنه رواية ثانية أنه يمين بمطلقه إلا أن ينوي به الطلاق أو الظهار فيلزمه ما نواه وعنه رواية ثالثه أنه ظهار بكل حال ولو نوى به الطلاق أو اليمين لم يكن يمينا ولا طلاقا كما لو نوى الطلاق أو اليمين بقوله أنت علي كظهر امي فإن اللفظين صريحان في الظهار فعلى هذه الرواية لو وصله بقوله أعنى به الطلاق فهل يكون طلاقا أو ظهارا على روايتين إحداهما يكون ظهارا كما لو قال أنت على كظهر امي أعني به الطلاق أو التحريم إذ التحريم صريح في الظهار والثانيه انه طلاق لأنه قد صرح بإرادته بلفظ يحتمله وغايته انه كناية فيه فعلى هذه الرواية ان قال أعني به طلاقا طلقت واحدة وان قال أعني به الطلاق فهل تطلق ثلاثا أو واحدة على روايتين مأخذهما حمل اللام على الجنس أو العموم هذا تحرير مذهبه وتقريره.
مذهب ابن تيمية
وفي المسألة مذهب آخر وراء هذا كله وهو أنه إن أوقع التحريم كان ظهارا ولو نوى به الطلاق وإن حلف به كان يمينا مكفرة وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وعليه يدل النص والقياس فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكرا من القول وزورا وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة وإذا حلف به كان يمينا من الأيمان كما لو حلف بالتزام العتق والحج والصدقة وهذا محض القياس والفقه ألا ترى أنه إذا قال لله على أن أعتق أو أحج أو اصوم لزمه ولو قال إن كلمت فلانا فالله على ذلك على وجه اليمين فهو يمين وكذلك لو قال هو يهودي أو نصراني كفر بذلك ولو قال إن فعلت كذلك فهو يهودي أو نصراني كان يمينا وطرد هذا بل نظيره من كل وجه أنه إذا قال أنت على كظهر امي كان ظهارا فلو قال ان فعلت كذا فأنت على كظهر امي كان يمينا وطرد هذا أيضا إذا قال أنت طالق كان طلاقا وان قال ان فعلت كذا فانت طالق كان يمينا.
فهذه هي الأصول الصحيحة المطردة المأخوذة من الكتاب والسنة والميزان وبالله التوقيق.
فصل أيمان البيعة
ومن هذه الالتزامات التي لم يلزم بها الله ولا رسوله لمن حلف بها الأيمان التي رتبها الفاجر الظالم الحجاج بن يوسف وهي أيمان البيعة.
بيعة النبي ﷺ للناس
وكانت البيعة على عهد رسول الله ﷺ بالمصافحة وبيعة النساء بالكلام وما مست يده الكريمة ﷺ يد امرأة لا يملكها فيقول لمن يبايعه بايعتك أو أبايعك على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره كما في الصحيحين عن ابن عمر كنا نبايع رسول الله ﷺ على السمع والطاعة فيقول فيما استطعت وفي صحيح مسلم عن جابر: "كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة بايعناه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت".
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا تأخذنا في الله لومة لائم".
وفي الصحيحين أيضا عن جنادة بن أبي أمية قال دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض فقلنا حدثنا أصلحك الله بحديث ننتفع به سمعته من رسول الله ﷺ قال: "دعانا رسول الله ﷺ فبايعناه وكان فيما أخذ علينا ان بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان".
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله ﷺ يمتحنهن بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} إلى آخر الآية قالت عائشة: فمن أقرت بهذا من المؤمنات فقد أقرت بالمحنة وكان رسول الله ﷺ إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله ﷺ: "انطلقن فقد بايعتكن" ولا والله ما مست يد رسول الله ﷺ يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام. قالت عائشة: والله ما أخذ رسول الله ﷺ على النساء قط إلا بما أمره الله وما مست كف رسول الله ﷺ كف امرأة قط وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن قد بايعتكن كلاما.
فهذه هي البيعة النبوية التي قال الله عز وجل فيها: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وقال فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}.
الحجاج الثقفي وأيمان البيعة
فأحدث الحجاج في الإسلام بيعة غير هذه تتضمن اليمين بالله تعالى والطلاق والعتاق وصدقة المال والحج فاختلف علماء الإسلام في ذلك على عدة أقوال ونحن نذكر تحرير هذه المسألة وكشفها فإن كان مراد الحالف بقوله: "أيمان البيعة تلزمني البيعة النبوية التي كان رسول الله ﷺ يبايع عليها أصحابه لم يلزمه الطلاق والإعتاق ولا شيء مما رتبه الحجاج وإن لم ينو تلك البيعة ونوى البيعة الحجاجية فلا يخلو إما ان يذكر في لفظه طلاقا أو عتاقا أو حجا أو صدقة أو يمينا بالله أو لا يذكر شيئا من ذلك فإن لم يذكر في لفظه شيئا فلا يخلو إما أن يكون عارفا بمضمونها أولا وعلى التقديرين فإما ان ينوي مضمونها كله أو بعض ما فيها أو لا ينوى شيئا من ذلك تقاسيم هذه المسألة.
مذهب الشافعية
فقال الشافعي وأصحابه ان لم يذكر في لفظه طلاقها أو عتاقها أو حجها أو صدقتها لم يلزمه شيء نواه أو لم ينوه إلا أن ينوى طلاقها أو عتاقها فاختلف أصحابه فقال العراقيون يلزمه الطلاق والعتاق فإن اليمين بهما تنعقد بالكناية مع النية وقال صاحب التتمة لا يلزمه ذلك وإن نواه مالم يتلفظ به لأن الصريح لم يوجد والكناية إنما يترتب عليها الحكم فيما يتضمن الإيقاع فأما الالتزام فلا ولهذا لم يجعل الشافعي الإقرار بالكناية مع النية إقرارا لأنه التزام ومن ههنا قال من قال من الفقهاء كالقفال وغيره إذا قال الطلاق يلزمني لا أفعل لم يقع به الطلاق وان نواه لأنه كناية والكناية إنما يترتب عليها الحكم في غير الالتزامات ولهذا لا تنعقد اليمين بالله بالكناية مع النية.
مذهب الحنابلة
وأما أصحاب أحمد فقد قال أبو عبد الله بن بطة كنت عند أبي القاسم الخرقي وقد سأله رجل عن أيمان البيعة فقال لست أفتي فيها بشيء ولا رأيت أحدا من شيوخنا يفتي فيها بشيء قال وكان أبي رحمه الله يعني أبا على يهاب الكلام فيها ثم قال أبو القاسم إلا أن يلتزم الحالف بها جميع ما فيها من الايمان فقال له السائل عرفها أم لم يعرفها قال نعم ووجه هذا القول أنه بالتزامه لموجبها صار ناويا له مع التلفظ وذلك مقتضى اللزوم ومتى وجد سبب اللزوم والوجوب ثبت موجبه وان لم يعرفه كما لو قال ان شفى الله مريضى فثلث مالى صدقة أو أوصى به ولم يعرفه أو قال انا مقر بما في هذا الكتاب وإن لم يعرفه أو قال ما أعطيت فلانا فأنا ضامن له أو مالك عليه فأنا ضامنه صح ولزمه وان لم يعرفه أو قال ضمان عهدة هذا المبيع على صح ولزمه وان لم يعرفه.
وقال أكثر أصحابنا منهم صاحب المغني وغيره إن لم يعرفها لم تنعقد يمينه بشيء مما فيها لأنها لسيت بصريحة في القسم والكناية لا يترتب عليها مقتضاها إلا بالنية فمن لم يعرف شيئا لم يصح ان ينويه قالوا وإن عرفها ولم ينو عقد اليمين بما فيها لم تصح أيضا لأنها كناية فلا يلزم حكمها إلا بالنية وان عرفها ونوى اليمين بما فيها صح في الطلاق والعتاق لأن اليمين بهما تنعقد بالكناية دون غيرهما لأنها لا تنعقد بالكناية.
وقال طائفة من أصحابنا تنعقد في الطلاق والعتاق وصدقة المال دون اليمين بالله تعالى فإن الكفارة إنما وجبت فيها لما اشتملت عليه من حرمة الاسم المعظم الذي تعظيمه من لوازم الايمان وهذا لا يوجد فيما عداه من الايمان.
فصل مذهب المالكية
وأما أصحاب مالك فليس عن مالك ولا عن أحد من قدماء أصحابه فيها قول واختلف المتأخرون فقال أبو بكر بن العربي أجمع هؤلاء المتأخرون على أنه يحنث فيها بالطلاق في جميع نسائه والعتق في جميع عبيده وإن لم يكن له رقيق فعليه عتق رقبة واحدة والمشي إلى مكة والحج ولو من أقصى المغرب والتصدق بثلث جميع أمواله وصيام شهرين متتابعين ثم قال جل الاندلسيين إن كل امرأة له تطلق ثلاثا ثلاثا وقال القرويون إنما تطلق واحدة واحدة وألزمه بعضهم صوم سنة إذا كان معتادا للحلف بذلك فتأمل هذا التفاوت العظيم بين هذا القول وقول أصحاب الشافعي.
فصل الحلف بأيمان المسلمين والأيمان اللازمة
وهكذا اختلافهم فيما لو حلف بأيمان المسلمين أو بالأيمان اللازمة أو قال جميع الأيمان تلزمني أو حلف بأشد ما أخذ أحد على أحد قالت المالكية أنما ألزمناه بهذه المذكورات دون غيرها من كسوة العريان وإطعام الجياع والاعتكاف وبناء الثغور ونحوها ملاحظة لما غلب الحلف به عرفا فألزمناه به لأنه المسمى العرفي فيقدم على المسمى اللغوي واختص حلفه بهذه المذكورات دون غيرها لأنها هي المشتهرة ولفظ الحلف واليمين إنما يستعمل فيها دون غيرها وليس المدرك أن عادتهم أنهم يفعلون مسمياتها وأنهم يصومون شهرين متتابعين أو يحجون بل غلبة استعمال الألفاظ في هذه المعاني دون غيرها قالوا وقد صرح الأصحاب بأنه من كثرت عادته بالحلف بصوم سنة لزمه صوم سنة فجعلوا المدرك الحلف اللفظي دون العرفي النقلى قالوا وعلى هذا لو اتفق في وقت آخر انه اشتهر حلفهم ونذرهم بالاعتكاف والرباط واطعام الجائع وكسوة العريان وبناء المساجد دون هذه الحقائق المتقدم ذكرها لكان اللازم لهذا الحالف إذا حنث الاعتكاف وما ذكر معه دون ما هو مذكور قبلها لأن الأحكام المترتبة على القرائن تدور معها كيفما دارت وتبطل معها إذا بطلت كالعقود في المعاملات والعيوب في الاعواض في المبايعات ونحو ذلك فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في المبيع عند الاطلاق على السكة والنقد المتجدد دون ما قبله كذلك إذا كان الشيء عيبا في العادة رد به المبيع فإن تغيرت العادة بحيث لم يعد عيبا لم يرد به المبيع قالوا وبهذا تعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد وهذا مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه وان وقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا قالوا وعلى هذا فليس في عرفنا اليوم الحلف بصوم شهرين متتابعين فلا تكاد تجد أحدا يحلف به فلا تسوغ الفتيا بإلزامه قالوا وعلى هذا أبدا تجيء الفتاوي في طول الأيام فمهما تجدد في العرف فاعتبره ومهما سقط فألغه ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك قالوا فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين قالوا وعلى هذه القاعدة تخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية وقد تصير الكناية صريحا تستغنى عن النية قالوا وعلى هذه القاعدة فإذا قال ايمان البيعة تلزمني خرج ما يلزمه على ذلك وما جرت به العادة في الحلف عند الملوك المعاصرة إذا لم يكن له نية فأي شيء جرت به عادة ملوك الوقت في التحليف به في بيعتهم واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عرفا متبادرا إلى الذهن من غير قرينة حملت يمينه عليه فإن لم يكن شيء من ذلك اعتبرت نيته أو بساط يمينه فإن لم يكن شيء من ذلك فلا شيء عليه انتهى.
وهذا محض الفقه ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل اضر ما على أديان الناس وابدانهم والله المستعان.
آراء أخر في الحلف بالأيمان اللازمة
ولم يكن الحلف بالايمان معتادا على عهد السلف الطيب بل هي من الأيمان الحادثة المبتدعة التي أحدثها الجهلة الأول ولهذا قال جماعة من أهل العلم إنها من الأيمان اللاغية التي لا يلزم بها شيء ألبتة أفتى بذلك جماعة من العلماء ومن متأخري من أفتى بها تاج الدين أبو عبد الله الارموي صاحب كتاب الحاصل قال ابن بزيزة في شرح الأحكام سأله عنها بعض أصحابنا فكتب له بخطه تحت الاستفتاء هذه يمين لاغية لا يلزم فيها شيء ألبتة وكتب محمد الارموي قال ابن بزيزة وقفت على ذلك بخطه وثبت عندي انه خطه ثم قال وقال جماعة من العلماء لا يلزم فيها شيء سوى كفارة اليمين بالله تعالى بناء على أن لفظ اليمين لا ينطلق إلا على اليمين بالله تعالى وما عداه التزامات لا أيمان قال والدليل عليه قوله ﷺ: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" والقائلون بأن فيها كفارة يمين اختلفوا هل تتعدد فيها كفارة اليمين بناء على أقل الجمع أو ليس عليه إلا كفارة واحدة لأنها إنما خرجت مخرج اليمين الواحدة كما أفتى به أبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم وقد كان أبو عمر يفتى بأنه لا شيء فيها ألبتة حكاه عنه القاضي أبو الوليد الباجي وعاب عليه ذلك قال ومن العلماء من رأى أنه يختلف بحسب اختلاف الأحوال والمقاصد والبلاد فمن حلف بها قاصدا للطلاق اوالعتاق لزمه ما ألزمه نفسه ومن لم يعلم بمقتضى ذلك ولم يقصده ولم يقيده العرف الغالب الجاري لزمه فيها كفارة ثلاثة أيمان بالله بناء على أن أقل الجمع ثلاثة وبه كان يفتى أبو بكر الطرطوشي ومن بعده من شيوخنا الذين حملنا عنهم ومن شيوخ عصرنا من كان يفتى بها بالطلاق الثلاث بناء على أنه العرف المستمر الجاري الذي حصل علمه والقصد إليه عند كل حالف بها ثم ذكر اختلاف المغاربة هل يلزم فيها الطلاق الثلاث أو الواحدة ثم قال والمعتمد عليه فيها الرجوع إلى عرف الناس وما هو المعلوم عندهم في هذه الايمان فإذا ثبت فيها عندهم شيء وقصدوه وعرفوه واشتهر بينهم وجب أن يحملوه عليه ومع الاحتمال يرجع إلى الأصل الذي هو اليمين بالله إذ لا يسمى غير ذلك يمينا فيلزم الحالف بها كفارة ثلاثة أيمان قال وعلى هذا كان يقول أهل التحقيق والإنصاف من شيوخنا.
قلت ولإجزاء الكفارة الواحدة فيها مدرك آخر أفقه من هذا وعليه تدل فتاوي الصحابة رضي الله عنهم صريحا في حديث ليلى بنت العجماء المتقدم وهذه الالتزامات الخارجة مخرج اليمين إنما فيها كفارة يمين بالنص والقياس واتفاق الصحابة كما تقدم فموجبها كلها شيء واحد ولو تعدد المحلوف به وصار هذا نظير ما لو حلف بكل سورة من القرآن على شيء واحد فعليه كفارة يمين لاتحاد الموجب وإن تعدد السبب ونظيره ما لو حلف بأسماء الرب تعالى وصفاته فكفارة واحدة فإذا حلف بأيمان المسلمين أو الايمان كلها أو الأيمان اللازمة أو أيمان البيعة أو بما يحلف به المسلمون لم يكن ذلك بأعظم مما لو حلف بكل كتاب أنزله الله أو بكل اسم من أسماء الله أو صفة من صفات الله فإذا أجزأ في هذه كفارة يمين مع حرمة هذه اليمين وتأكدها فلان تجزيء الكفارة في هذه الايمان بطريق الأولى والأحرى ولا يليق بهذة الشريعة الكاملة الحكيمة التي لم يطرق العالم شريعة اكمل منها غير ذلك وكذلك أفتى به أفقه الأمة وأعلمهم بمقاصد الرسول ودينه وهم الصحابة واختلف الفقهاء بعدهم فمنهم من يلزم الحالف بما التزمه من جميع الالتزامات كائنا ما كان ومنهم من لا يلزمه بشئ منها ألبتة لأنها أيمان غير شرعية ومنهم من يلزمه الطلاق والعتاق ويخيره في الباقي بين التكفير والالتزام ومنهم من يحتم عليه التكفير ومنهم من يلزمه بالطلاق وحده دون ما عداه ومنهم من يلزمه بشرط كون الصيغة شرطا فإن كانت صيغة التزام فيمين كقوله الطلاق يلزمني لم يلزمه بذلك ومنهم من يتوقف في ذلك ولا يفتى فيه بشيء فالأول قول مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة والثاني قول أهل الظاهر وجماعة من السلف والثالث قول أحمد بن حنبل والشافعي في ظاهر مذهبه وأبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه ومحمد بن الحسن والرابع قول بعض أصحاب الشافعي ويذكر قولا له ورواية عن أحمد والخامس قول أبي ثور وإبراهيم بن خالد والسادس قول القفال من الشافعية وبعض أصحاب أبي حنيفة ويحكى عنه نفسه والسابع قول جماعة من أهل الحديث وقول أصحاب رسول الله ﷺ أصح وافقه وأقرب هذه الأقوال إلى الكتاب والسنة وبالله التوفيق.
فصل تأجيل جزء من المهر وحكم المؤجل
المثال التاسع: الإلزام بالصداق الذي اتفق الزوجان على تأخير المطالبة به وان لم يسميا أجلا بل قال الزوج مائة مقدمة ومائة مؤخرة فان المؤخر لا يستحق المطالبة به إلا بموت أو فرقة هذا هو الصحيح وهو منصوص أحمد فإنه قال في رواية جماعة من أصحابه إذا تزوجها على العاجل والآجل لا يحل الآجل إلا بموت أو فرقة واختاره قدماء شيوخ المذهب والقاضي أبو يعلى وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول النخعي والشعبي والليث بن سعد وله فيه رسالة كتبها إلى مالك ينكر عليه خلاف هذا القول سنذكرها بإسنادها ولفظها وقال الحسن وحماد ابن أبي سليمان وأبو حنيفة وسفيان الثوري وأبو عبيدة يبطل الآجل لجهالة محله ويكون حالا وقال إياس بن معاوية يصح الأجل ولا يحل الصداق إلا أن يفارقها أو يتزوج عليها أو يخرجها من بلدها فلها حينئذ المطالبة به وقال مكحول والأوزاعي يحل بعد سنة من وقت الدخول وقال الشافعي وأبو الخطاب تفسد التسمية ويجب مهر المثل لجهالة العوض بجهالة اجله فترجع إلى مهر المثل وأما مذهب مالك فقال عبد الملك كان مالك وأصحابه يكرهون أن يكون شيء من المهر مؤخرا وكان مالك يقول انما الصداق فيما مضى ناجز كله فإن وقع منه شيء مؤخرا فلا أحب أن يطول الأجل في ذلك وحكى عن ابن القاسم تأخيره إلى السنتين والأربع وعن ابن وهب إلى السنة وعنه ان زاد الأجل على أكثر من عشرين سنة فسخ وعن ابن القاسم إذا جاوز الأربعين فسخ وعنه إلى الخمسين والستين حكى ذلك كله فضل بن سلمة عن ابن المواز ثم قال لأن الأجل الطويل مثل ما لو تزوجها إلى موت أو فراق قال عبد الملك وقد أخبرني اصبغ انه شهد ابن وهب وابن القاسم تذاكرا الأجل في ذلك فقال ابن وهب أرى فيه العشرين فدون فما جاوز ذلك فمفسوخ فقال له ابن القاسم وأنا معك على هذا فأقام ابن وهب على رأيه ورجع ابن القاسم فقال لا أفسخه إلى أربعين وأفسخه فيما فوق ذلك فقال أصبغ وبه آخذ ولا أحب ذلك ندبا إلى العشر ونحوها وقد شهدت أشهب زوج ابنته وجعل مؤخر مهرها إلى اثنتي عشرة سنة قال عبد الملك وما قصر من الأجل فهو أفضل وان بعد لم أفسخه إلا أن يجاوز ما قال ابن القاسم وان كانت الأربعون في ذلك كثيرة جدا قال عبد الملك وان كان بعض الصداق مؤخرا إلى غير أجل فإن مالكا كان يفسخه قبل البناء ويمضيه بعده ويرد المرأة إلى صداق مثلها معجلا كله إلا أن يكون صداق مثلها أقل من المعجل فلا ينقص منه أو أكثر من المعجل والمؤجل فيوفى تمام ذلك إلا أن يرضى الناكح بأن يجعل المؤخر معجلا كله مع النقد فيمضى النكاح ولا يفسخ لا قبل البناء ولا بعده ولا ترد المرأة إلى صداق مثلها ثم أطالوا بذكر فروع تتعلق بذلك.
بعض فتاوى الصحابة في هذه المسألة
والصحيح ما عليه أصحاب رسول الله ﷺ من صحة التسمية وعدم تمكين المرأة من المطالبة به إلا بموت أو فوقة حكاه الليث إجماعا منهم وهو محض القياس والفقه فإن المطلق من العقود ينصرف إلى العرف والعادة عند المتعاقدين كما في النقد والسكة والصفة والوزن والعادة جارية بين الازواج بترك المطالبة بالصداق إلا بالموت أو الفراق فجرت العادة مجرى الشرط كما تقدم ذكر الأمثلة بذلك وأيضا فإن عقد النكاح يخالف سائر العقود ولهذا نافاه التوقيت المشترط في غيره من العقود على المنافع بل كانت جهالة مدة بقائه غير مؤثرة في صحته والصداق عوضه ومقابله فكانت جهالة مدته غير مؤثرة في صحته فهذا محض القياس ونظير هذا لو اجره كل شهر بدرهم فإنه يصح وان كانت جملة الأجرة غير معلومة تبعا لمدة الإجارة فقد صح عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنه انه اجر نفسه كل دلو بتمرة واكل النبي ﷺ من ذلك التمر وقد قال النبي ﷺ: "المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا" وهذا لا يتضمن واحدا من الأمرين فإن ما أحل الحرام وحرم الحلال لو فعلاه بدون الشرط لما جاز وقال النبي ﷺ: "إن أحق الشرط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" وأما تلك التقديرات ألمذكورة فيكفي في عدم اعتبارها عدم دليل واحد يدل عليها ثم ليس تقدير منها بأولى من تقدير أزيد عليه أو أنقص منه وما كان هذا سبيله فهو غير معتبر.
وقال الحافظ أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي في كتاب التاريخ والمعرفة له وهو كتاب جليل غزير العلم جم الفوائد حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي قال هذه رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس:
رسالة الليث إلى مالك
سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد عافانا الله وإياك وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني فأدام الله ذلك لكم وأتمه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه وذكرت نظرك في الكتب التي بعثت بها إليك وإقامتك وإياها وختمك عليها بخاتمك وقد أتتنا فجزاك الله عما قدمت منها خيرا فإنها كتب انتهت إلينا عنك فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها وذكرت أنه قد أنشطك ما كتبت إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة ورجوت أن يكون لها عندي موضع وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيك فينا جميلا إلا لاني لم أذاكرك مثل هذا وأنه بلغك أني أفتى بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم وأني يحق على الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به وأن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن وقد أصبت بالذى كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى ووقع منى بالموقع الذي تحب وما أجد أحدا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني والحمد لله رب العالمين لا شريك له وأما ما ذكرت من مقام رسول الله ﷺ بالمدينة ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه وما علمهم الله منه وأن الناس صاروا به تبعا لهم فيه فكما ذكرت وأما ما ذكرت من قول الله تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فإن كثيرا من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله فجندوا الأجناد واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه ولم يكتموهم شيئا علموه وكان في كل جند منهم طائفة يعلمون كتاب الله وسنة نبيه ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة وتقدمهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لا جناد المسلمين ولا غافلين عنهم بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لاقامة الدين والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه فلم يتركوا أمرا فسره القرآن أو عمل به النبي ﷺ أو ائتمروا فيه بعده إلا علمو هموه فإذا جاء أمر عمل فيه أصحاب رسول الله ﷺ بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان ولم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره فلا نراه يجوز لاجناد المسلمين ان يحدثوا اليوم أمرا لم يعمل به سلفهم من أصحاب رسول الله ﷺ والتابعين لهم مع ان أصحاب رسول الله ﷺ قد اختلفوا بعد في الفتيا في أشياء كثيرة ولولا أني قد عرفت ان قد علمتها كتبت بها إليك ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله ﷺ سعيد بن المسيب ونظراؤه أشد الاختلاف ثم اختلف الذين كانوا بعدهم فحضرتهم بالمدينة وغيرها ورأسهم يومئذ ابن شهاب وربيعة بن أبي عبد الرحمن وكان من خلاف ربيعة لبعض ما قد مضى ما قد عرفت وحضرت وسمعت قولك فيه وقول ذوي الرأي من أهل المدينة يحيى بن سعيد وعبيدالله ابن عمر وكثير بن فرقد وغير كثير ممن هو أسن منه حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك فكنتما من الموافقين فيما أنكرت تكرهان منه ما أكرهه ومع ذلك بحمد الله عند ربيعه خير كثير وعقل أصيل ولسان بليغ وفضل مستبين وطريقة حسنة في الإسلام ومودة لإخوانه عامة ولنا خاصة رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن من عمله وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه وإذا كاتبه بعضنا فربما كتب إليه في الشيء الواحد على فضل رأيه وعلمه بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضا ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك فهذا الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه وقد عرفت أيضا عيب إنكاري إياه أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر ومطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا يعلمه الا الله لم يجمع منهم إمام قط في ليلة مطر وفيهم أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد ويزيد ابن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاذ بن جبل وقد بلغنا ان رسول الله ﷺ قال أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وقال يأتى معاذ يوم القيامة بين يدى العلماء برتوة وشرحبيل بن حسنة وأبو الدرداء وبلال بن رباح وكان أبو ذر بمصر والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وبحمص سبعون من أهل بدر وبأجناد المسلمين كلها وبالعراق ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعمران بن حصين ونزلها أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة سنين وكان معه من أصحاب رسول الله ﷺ فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط.
ومن ذلك القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق وقد عرفت انه لم يزل يقضي بالمدينة به ولم يقض به أصحاب رسول الله ﷺ بالشام وبحمص ولا بمصر ولا بالعراق ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم ولي عمر بن عبد العزيز وكان كما قد علمت في إحياء السنن والجد في إقامة الدين والاصابة في الرأي والعلم بما مضى من أمر الناس فكتب إليه رزيق بن الحكم إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمين صاحب الحق فكتب إليه عمر بن عبد العزيز إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة فوجدنا أهل الشام على غير ذلك فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين ولم يجمع بين العشاء والمغرب قط ليلة المطر والمطر يسكب عليه في منزله الذي كان فيه بخناصرة ساكنا.
ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صدقات النساء أنها متى شاءت أن تتكلم في مؤخر صداقها تكلمت فدفع إليها وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك وأهل الشام وأهل مصر ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله ﷺ ولا من بعدهم لامرأة بصداقها المؤخر إلا أن يفرق بينهما موت أو طلاق فتقوم على حقها.
ومن ذلك قولهم في الايلاء إنه لا يكون عليه طلاق حتى يوقف وان مرت أربعة الاشهر وقد حدثني نافع عن عبد الله بن عمر وهو الذي كان يروي عنه ذلك التوقيف بعد الاشهر انه كان يقول في الايلاء الذي ذكر الله في كتابه لا يحل للمولي إذا بلغ الاجل الا ان يفئ كما أمر الله أو يعزم الطلاق وانتم تقولون إن لبث بعد أربعة الاشهر التي سمى الله في كتابه ولم يوقف لم يكن عليه طلاق وقد بلغنا ان عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وقبيصة بن ذؤيب وابا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قالوا في الايلاء إذا مضت أربعة الاشهر فهى تطليقة بائنة وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابن شهاب إذا مضت أربعة الأشهر فهي تطليقة وله الرجعة في العدة.
ومن ذلك أن زيد بن ثابت كان يقول إذا ملك الرجل امرأته فأختارت زوجها فهي تطليقة وان طلقت نفسها ثلاث فهي تطليقة وقضى بذلك عبد الملك بن مروان وكان ربيعه بن عبد الرحمن يقوله وقد كاد الناس يجتمون على انها ان اختارت زوجها لم يكن فيه طلاق وان اختارت نفسها واحدة أو اثنتين كانت له عليها الرجعة وان طلقت نفسها ثلاثا بانت منه ولم تحل له حتى تنكح زوجا غيره فيدخل بها ثم يموت أو يطلقها إلا أن يرد عليها في مجلسه فيقول انما ملكتك واحدة فيستحلف ويخلى بينه وبين امرأته.
ومن ذلك أن عبد الله بن مسعود كان يقول ايما رجل تزوج أمة ثم اشتراها زوجها فاشتراؤه إياها ثلاث تطليقات وكان ربيعة يقول ذلك وان تزوجت المرأة الحرة عبدا فاشترته فمثل ذلك.
وقد بلغنا عنكم شيئا من الفتيا مستكرها وقد كنت كتبت إليك في بعضها فلم تجبني في كتابي فتخوفت ان تكون استثقلت ذلك فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكره وفيما أوردت فيه على رأيك وذلك انه بلغني انك امرت زفر بن عاصم الهلالي حين أراد أن يستسقي أن يقدم الصلاة قبل الخطبة فأعظمت ذلك لأن الخطبة والاستسقاء كهيئة يوم الجمعة إلا أن الإمام إذا دنا من فراغه من الخطبة فدعا حول رداءه ثم نزل فصلى وقد استسقى عمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهما فكلهم يقدم الخطبة والدعاء قبل الصلاة فاستهتر الناس كلهم فعل زفر بن عاصم من ذلك واستنكروه.
ومن ذلك انه بلغني انك تقول في الخليطين في المال إنه لا تجب عليهما الصدقة حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة وفي كتاب عمر بن الخطاب انه يجب عليهما الصدقة ويترادان بالسوية وقد كان ذلك يعمل به في ولاية عمر بن عبد العزيز قبلكم وغيره والذي حدثنا به يحيى بن سعيد ولم يكن بدون افاضل العلماء في زمانه فرحمه الله وغفر له وجعل الجنة مصيره.
ومن ذلك انه بلغني انك تقول إذا افلس الرجل وقد باعه الرجل سلعة فتقاضى طائفة من ثمنها أو أنفق المشتري طائفة منها أنه يأخذ ما وجد من متاعه وكان الناس على أن البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئا أو أنفق المشتري منها شيئا فليست بعينها.
ومن ذلك انك تذكر أن النبي ﷺ لم يعط الزبير بن العوام إلا لفرس واحد والناس كلهم يحدثون انه أعطاه أربعة أسهم لفرسين ومنعه الفرس الثالث والأمة كلهم على هذا الحديث أهل الشام وأهل مصر وأهل العراق وأهل إفريقية لا يختلف فيه اثنان فلم يكن ينبغي لك وان كنت سمعته من رجل مرضي أن تخالف الأمة أجمعين.
وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذا وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك مع استئناسي بمكانك وإن نأت الدار فهذه منزلتك عندي ورأي فيك فاستيقنه ولا تترك الكتاب إلي بخبرك وحالك وحال ولدك واهلك وحاجة ان كانت لك أو لأحد يوصل بك فإني اسر بذلك كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله نسأل الله ان يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا وتمام ما انعم به علينا والسلام عليك ورحمة الله.
مهر السر ومهر العلانية
فإن قيل فما تقولون فيما لو تجملوا وجعلوه حالا وقد اتفقوا في الباطن على تآخيره كصدقات النساء في هذه الأزمنة في الغالب هل للمرأة أن تطالب به قبل الفرقة أو الموت؟
قيل هذا ينبني على أصل وهو إذا اتفقا في السر على مهر وسموا في العلانية أكثر منه هل يؤخذ بالسر أو بالعلانية فهذه المسألة مما اضطربت فيها أقوال المتأخرين لعدم أحاطتهم بمقاصد الأئمة ولا بد من كشف غطائها ولها في الأصل صورتان:
إحداهما أن يعقدوه في العلانية بألفين مثلا وقد اتفقوا قبل ذلك ان المهر ألف وان الزيادة سمعة من غير ان يعقدوه في العلانية بالأقل فالذي عليه القاضي ومن بعده من أصحاب أحمد ان المهر هو المسمى في العقد ولا اعتبار بما اتفقوا عليه ذلك وان قامت به البينة أو تصادقوا عليه وسواء كان مهر العلانية من جنس مهر السر أو من جنس غيره أو أقل منه أو أكثر قالوا وهو ظاهر كلام أحمد في مواضع قال في رواية ابن بدينا في الرجل يصدق صداقا في السر وفي العلانيه شيئا آخر يؤخذ بالعلانية وقال في رواية ابن الحرث إذا تزوجها في العلانية على شيء واسر غير ذلك أخذنا بالعلانية وان كان قد اشهد في السر بغير ذلك وقال في رواية الأثرم في رجل أصدق صداقا سرا وصداقا علانيه يؤخذ بالعلانية إذا كان قد اقر به قيل له فقد اشهد شهودا في السر بغيره قال وان اليس قد اقر بهذا عند شهود يؤخذ بالعلانية قال شيخنا ومعنى قوله اقر به أي رضى به والتزمه لقوله تعالى أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري وهذا يعمم التسمية في العقد والاعتراف بعده ويقال اقر بالجزية واقر للسلطان بالطاعة وهذا كثير في كلامهم وقال في رواية صالح في الرجل يعلن مهرا ويخفي آخر آخذ بما يعلن لأن العلانية قد أشهد على نفسه بها وينبغي لهم ان يفوا له بما كان اسره وقال في رواية ابن منصور إذا تزوج امرأة في السر بمهر وأعلنوا مهرا آخر ينبغي لهم ان يفوا واما هو فيؤخذ بالعلانية قال القاضي وغيره فقد أطلق القول بمهر العلانية وإنما قال ينبغي لكم ان يفوا بما اسروا على طريق الاختيار لئلا يحصل منهم غرور له في ذلك وهذا القول هو قول الشعبي وأبي قلابة وابن أبي ليلى وابن شبرمة والأوزاعي وهو قول الشافعي المشهور عنه وقد نص في موضع آخر انه يؤخذ بمهر السر فقيل في هذه المسألة قولان وقيل بل ذلك في الصورة الثانية كما سيأتي وقال كثير من أهل العلم أو أكثرهم إذا علم الشهود ان المهر الذي يظهره سمعة وان أصل المهر كذا وكذا ثم تزوج واعلن الذي قال فالمهر هو السر والسمعة باطلة وهذا هو قول الزهري والحكم بن عتيبة ومالك والثوري والليث وأبي حنيفة وأصحابه وإسحاق وعن شريح والحسن كالقولين وذكر القاضي عن أبي حنيفة انه يبطل المهر ويجب مهر المثل وهو خلاف ما حكاه عنه أصحابه وغيرهم وقد نقل عن أحمد ما يقتضي ان الاعتبار بالسر إذا ثبت ان العلانية تلجئة فقال إذا كان رجل قد أظهر صداقا واسر غير ذلك نظر في البينات والشهود وكان الظاهر أوكد إلا أن تقوم بينة تدفع العلانيه قال القاضي وقد تأول أبو حفص العكبري هذا على أن بينة السر عدول وبينة العلانية غير عدول فحكم بالعدول قال القاضي وظاهر هذا انه يحكم بمهر السر إذا لم تقم بينة عأدلة بمهر العلانية وقال أبو حفص إذا تكافأت البينات وقد شرطوا في السر ان الذي يظهر في العلانية الرياء والسمعة فينبغي لهم ان يفوا له بهذا الشرط ولا يطالبوه بالظاهر لقول النبي ﷺ: "المؤمنون على شروطهم" قال القاضي: وظاهر هذا الكلام من أبي حفص انه قد جعل السر حكما قال والمذهب على ما ذكرناه قال شيخنا كلام أبي حفص الأول فيما إذا قامت البينة بأن النكاح عقد في السر بالمهر القليل ولم يثبت نكاح العلانية وكلامه الثاني فيما إذا ثبت نكاح العلانية ولكن تشارطوا ان ما يظهرون من الزيادة على ما اتفقوا عليه للرياء والسمعة قال شيخنا وهذا الذي ذكره أبو حفص اشبه بكلام الإمام أحمد وأصوله فأن عامة كلامه في هذه المسألة إنما هو إذا اختلف الزوج والمرأة ولم تثبت بينة ولا اعتراف ان مهر العلانية سمعة بل شهدت البينة انه تزوجها بالا كثر وادعى عليه ذلك فانه يجب ان يؤخذ بما اقر به إنشاء أو إخبارا فإذا أقام شهودا يشهدون أنهم تراضوا بدون ذلك عمل على البينة الأولى لأن التراضي بالأقل في وقت لا يمنع التراضي بما زاد عليه في وقت آخر ألا ترى انه قال آخذ بالعلانية لأنه قد اشهد على نفسه وينبغي لهم ان يفوا بما كان اسره فقوله لأنه قد اشهد على نفسه دليل على أنه انما يلزمه في الحكم فقط والا فما يجب بينه وبين الله لا يعلل بالإشهاد وكذلك قوله ينبغي لهم ان يفوا له واما هو فيؤخذ بالعلانية دليل على أنه يحكم عليه به وان أولئك يجب عليهم الوفاء وقوله ينبغي يستعمل في الواجب أكثر مما يستعمل في المستحب ويدل على ذلك انه قد قال أيضا في امرأة تزوجت في العلانية على ألف وفي السر على خمسمائة فاختلفوا في ذلك فان كانت البينة في السر والعلانية سواء أخذ بالعلانية لأنه أحوط وهو فرج يؤخذ بالأكثر وقيدت المسألة بانهم اختلفوا وان كليهما قامت به بينة عأدلة.
وإنما يظهر ذلك بالكلام في الصورة الثانية وهو ما إذا تزوجها في السر بألف ثم تزوجها في العلانية بألفين مع بقاء النكاح الأول فهنا قال القاضي في المجرد والجامع إن تصادقا على نكاح السر لزم نكاح السر بمهر السر لأن النكاح المتقدم قد صح ولزم والنكاح المتأخر عنه لا يتعلق به حكم ويحمل مطلق كلام أحمد والخرقي على مثل هذه الصورة وهذا مذهب الشافعي وقال الخرقي: إذا تزوجها على صداقين سر وعلانية أخذ بالعلانية وإن كان السر قد انعقد النكاح به وهذا منصوص كلام أحمد في قوله ان تزوجت في العلانية على ألف وفي السر على خمسمائة وعموم كلامه المتقدم يشمل هذه الصورة والتي قبلها وهذا هو الذي ذكره القاضي في خلافه وعليه أكثر الأصحاب ثم طريقته وطريقة جماعة في ذلك أن ما أظهراه زيادة في المهر والزيادة فيه بعد لزومه لازمة وعلى هذا فلو كان السر هو الأكثر أخذ به أيضا وهو معنى قول الإمام أحمد آخذ بالعلانية أي يؤخذ بالأكثر ولهذا القول طريقة ثانية وهو ان نكاح السر إنما يصح إذا لم يكتموه على احدى الروايتين بل انصهما فإذا تواصوا بكتمان النكاح الأول كانت العبرة انما هي بالنكاح الثاني.
هذا كلام شيخ الإسلام في مسألة مهر السر والعلانية في كتاب إبطال التحليل نقلته بلفظه.
ولهذه المسألة عدة صور هذه إحداها.
الثانية أن يتفقا في السر على أن ثمن المبيع ألف ويظهرا في العلانية أن ثمنه ألفان فقال القاضي في التعليق القديم والشريف أبو جعفر وغيرهما الثمن ما أظهراه على قياس المشهور عنه في المهر أن العبرة بما أظهراه وهو الأكثر وقال القاضي في التعليق الجديد وأبو الخطاب وأبو الحسين وغيرهم من أصحاب القاضي الثمن ما أسراه والزيادة سمعة ورياء بخلاف المهر وإلحاقا للعوض في البيع بنفس البيع وإلحاقا للمهر بالنكاح وجعلا الزيادة فيه بمنزلة الزيادة بعد العقد وهي غير لاحقة وقال أبو حنيفة عكس هذا بناء على أن تسمية العوض شرط في صحة البيع دون النكاح وقال صاحباه العبرة في الجميع بما أسراه.
الصورة الثالثة ان يتفقا في عقد البيع على أن يتبايعا شيئا بثمن ذكراه على نه بيع تلجئه لا حقيقة له تخلصا من ظالم يريد أخذه فهذا عقد باطل وإن لم يقولا في صلب العقد قد تبايعناه تلجئه قال القاضي هذا قياس قول أحمد لأنه قال فيمن تزوج امرأة واعتقد انه يحلها للأول لم يصح هذا النكاح وكذلك إذا باع عنبا ممن يعتقد انه يعصره خمرا قال وقد قال أحمد في رواية ابن منصور إنه إذا أقر لامرأة بدين في مرضه ثم تزوجها ومات وهي وارثة فهذه قد أقر لها وليست بزوجة يجوز ذلك إلا أن يكون أراد تلجئة فيرد ونحو هذا نقل إسحاق بن إبراهيم والمروزي وهذا قول أبي يوسف ومحمد وهو قياس قول مالك.
وقال أبو حنيفة والشافعي لا يكون تلجئه حتى يقولا في العقد قد تبايعنا هذا العقد تلجئة ومأخذ من أبطله انهما لم يقصدا العقد حقيقه والقصد معتبر في صحته ومأخذ من يصححه أن هذا شرط مقدم على العقد والمؤثر في العقد انما هو الشرط المقارن والأولون منهم من يمنع المقدمة الأولى ويقول لا فرق بين الشرط المتقدم والمقارن ومنهم من يقول انما ذلك في الشرط الزائد على العقد بخلاف الرافع له فان الشارط هنا يجعل العقد غير مقصود وهناك هو مقصود وقد أطلق عن شرط مقارن.
الصورة الرابعة أن يظهرا نكاحا تلجئة لا حقيقة له فاختلف الفقهاء في ذلك فقال القاضي وغيره من الأصحاب إنه صحيح كنكاح الهازل لأن أكثر ما فيه انه غير قاصد للعقد بل هازل به ونكاح الهازل صحيح قال شيخنا ويؤيد هذا المشهور عندنا انه لو شرط في العقد رفع موجبه مثل أن يشترط أنه لا يطأها أو أنها لا تحل له أو أنه لا ينفق عليها ونحو ذلك صح العقد دون الشرط فالاتفاق على التلجئة حقيقته أنهما اتفقا على أن يعقدا عقدا لا يقتضى موجبه وهذا لا يبطله قال شيخنا ويتخرج في نكاح التلجئة انه باطل لأن الاتفاق الموجود قبل العقد بمنزلة المشروط في العقد في أظهر الطريقين لأصحابنا ولو شرطا في العقد انه نكاح تلجئة لا حقيقة لكان نكاحا باطلا وإن قيل ان فيه خلافا فإن أسوأ الأحوال أن يكون كما لو شرطا انها لا تحل له وهذا الشرط يفسد العقد على الخلاف المشهور.
الصورة الخامسة أن يتفقا على أن العقد عقد تحليل لانكاح رغبة وانه متى دخل بها طلقها أو فهى طالق أو أنها متى اعترفت بأنه وصل إليها فهي طالق ثم يعقداه مطلقا وهو في الباطن نكاح تحليل لانكاح رغبة فهذا محرم باطل لا تحل به الزوجة للمطلق وهو داخل تحت اللعنة مع تضمن زيادة الخداع كما سماه السلف بذلك وجعلوا فاعله مخادعا الله وقالوا من يخادع الله يخدعه وعلى بطلان هذا النكاح نحو ستين دليلا.
والمقصود أن المتعاقدين وان أظهرا خلاف ما اتفقا عليه في الباطن فالعبرة لما أضمراه واتفقا عليه وقصداه بالعقد وقد أشهد الله على ما في قلوبهما فلا ينفعهما ترك التكلم به حالة العقد وهو مطلوبهما ومقصودهما.
الصورة السادسة أن يحلف الرجل في شيء في الظاهر وقصده ونيته خلاف ما حلف عليه وهو غير مظلوم فهذا لا ينفعه ظاهر لفظه ويكون يمينه على ما يصدقه عليه صاحبه اعتبارا بمقصده ونيته.
الصورة السابعة إذا اشترى أو استأجر مكرها لم يصح وان كان في الظاهر قد حصل صورة العقد لعدم قصده وإرادته فدل على أن القصد روح العقد ومصححه ومبطله فاعتبار القصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ فإن الألفاظ مقصودة لغيرها ومقاصد العقود هي التي تراد لأجلها فإذا ألغيت واعتبرت الألفاظ التي لا تراد لنفسها كان هذا إلغاء لما يجب اعتباره واعتبارا لما قد يسوغ إلغاؤه وكيف يقدم اعتبار اللفظ الذي قد ظهر كل الظهور ان المراد خلافه بل قد يقطع بذلك على المعنى الذي قد ظهر بل قد يتيقن انه المراد وكيف ينكر على أهل الظاهر من يسلك هذا وهل ذلك إلا من ايراد الظاهرية فإن أهل الظاهر تمسكوا بألفاظ النصوص وأجروها على ظواهرها حيث لا يحصل القطع بأن المراد خلافها وأنتم تمسكتم بظواهر ألفاظ غير المعصومين حيث يقع القطع بأن المراد خلافها فأهل الظاهر أعذر منكم بكثير وكل شبهة تمسكتم بها في تسويغ ذلك فأدلة الظاهرية في تمسكهم بظواهر النصوص أقوى واصح والله تعالى يحب الانصاف بل هو أفضل حلية تحلى بها الرجل خصوصا من نصب نفسه حكما بين الأقوال والمذاهب وقد قال الله تعالى لرسوله وأمرت لأعدل بينكم فورثة الرسول منصبهم العدل بين الطوائف وألا يميل احدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه بل يكون الحق مطلوبه يسير بسيره وينزل ينزوله يدين بدين العدل والإنصاف ويحكم الحجة وما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه فهو العلم الذي قد شمر إليه ومطلوبه الذي يحوم بطلبه عليه لا يثنى عنانه عنه عذل عاذل ولا تأخذه فيه لومة لائم ولا يصده عنه قول قائل.
ومن تدبر مصادر الشرع وموارده تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها بل جرت على غير قصد منه كالنائم والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطيء من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم ولم يكفر من قال من شدة فرحه براحلته بعد يأسه منها اللهم أنت عبدي وأنا ربك فكيف يعتبر الألفاظ التي يقطع بأن مراد قائلها خلافها ولهذا المعنى رد شهادة المنافقين ووصفهم بالخداع والكذب والاستهزاء وذمهم على أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم وان بواطنهم تخالف ظواهرهم وذم تعالى من يقول مالا يفعل وأخبر أن ذلك من أكبر المقت عنده ولعن اليهود إذ توسلوا بصورة عقد البيع على ما حرمه عليهم إلى أكل ثمنه وجعل أكل ثمنه لما كان هو المقصود بمنزلة أكله في نفسه وقد لعن رسول الله ﷺ في الخمر عاصرها ومعتصرها ومن المعلوم ان العاصر إنما عصر عنبا ولكن لما كانت إنما نيته هي تحصيل الخمر لم ينفعه ظاهر عصره ولم يعصمه من اللعنة لباطن قصده ومراده فعلم أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها ومن لم يراع القصود في العقود وجرى مع ظواهرها يلزمه أن لا يلعن العاصر وان يجوز له عصر العنب لكل أحد وإن ظهر له أن قصده الخمر وان يقضى له بالأجرة لعدم تأثير القصد في العقد عنده ولقد صرحوا بذلك وجوزوا له العصر وقضوا له بالأجرة وقد روى في اثر مرفوع من حديث ابن بريده عن أبيه من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو من يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة ذكره عبد الله بن بطة ومن لم يراع القصد في العقد لم ير بذلك بأسا وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها ان المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات كما هي معتبره في التقربات والعبادات فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالا أو حراما وصحيحا أو فاسدا وطاعة أو معصية كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة أو مستحبة أو محرمة أو صحيحة أو فاسدة ودلائل هذه القاعدة تفوت الحصر فمنها قوله تعالى في حق الأزواج إذا طلقوا أزواجهم طلاقا رجعيا {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} وقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} وذلك نص في أن الرجعة انما ملكها الله تعالى لمن قصد الصلاح دون من قصد الضرار وقوله في الخلع: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فبين تعالى أن الخلع المأذون فيه والنكاح المأذون فيه إنما يباح إذا ظنا أن يقيما حدود الله وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ} فإنما قدم الله الوصية على الميراث إذا لم يقصد بها الموصي الضرار فإن قصده فللورثة إبطالها وعدم تنفيذها وكذلك قوله فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه فرفع الإثم عليه فرفع الإثم عمن أبطل الجنف الإثم من وصية الموصي ولم يجعلها بمنزلة نص الشارع الذي تحرم مخالفته.
شرط الواقف ليس بمنزلة نص الشارع
وكذلك الإثم مرفوع عمن أبطل من شروط الواقفين ما لم يكن إصلاحا وما كان فيه جنف أو إثم ولا يحل لأحد ان يجعل هذا الشرط الباطل المخالف لكتاب الله بمنزلة نص الشارع ولم يقل هذا أحد من أئمة الإسلام بل قد قال إمام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق فإنما ينفذ من شروط الواقفين ما كان لله طاعة وللمكلف مصلحة وأما ما كان بضد ذلك فلا حرمة له كشرط التعزب والترهب المضاد لشرع الله ودينه فإنه تعالى فتح للامة باب النكاح بكل طريق وسد عنهم باب السفاح بكل طريق وهذا الشرط باطل مضاد لذلك فإنه يسد على من التزمه باب النكاح ويفتح له باب الفجور فإن لوازم البشرية تتقضاها الطباع أتم تقاض فإذا سد عنها مشروعها فتحت له ممنوعها ولا بد.
والمقصود أن الله تعالى رفع الإثم عمن أبطل الوصية الجانفة الإثمة وكذلك هو مرفوع عمن أبطل شروط الواقفين التي هي كذلك فإذا شرط الواقف القراءة على القبر كانت القراءة في المسجد أولى وأحب إلى الله ورسوله وأنفع للميت فلا يجوز تعطيل الاحب إلى الله الانفع لعبده واعتبار ضده وقد رام بعضهم الانفصال عن هذا بأنه قد يكون قصد الواقف حصول الاجر له باستماعه للقرآن في قبره وهذا غلط فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة فإنه عمل اختياري وقد انقطع بموته ومن ذلك اشتراطه ان يصلى الصلوات الخمس في المسجد الذي بناه على قبره فإنه شرط باطل لا يجب بل لا يحل الوفاء به وصلاته في المسجد الذي لم يوضع على قبره أحب إلى الله ورسوله فكيف يفتى أو يقضى بتعطيل الاحب إلى الله والقيام بالإكراه إليه اتباعا لشرط الواقف الجانف الإثم ومن ذلك أن يشرط عليه ايقاد قنديل على قبره أو بناء مسجد عليه فإنه لا يحل تنفيذ هذا الشرط ولا العمل به فكيف ينقله شرط لعن رسول الله ﷺ فاعله.
أقسام شروط الواقفين وحكمها
وبالجملة فشروط الواقفين أربعة أقسام شروط محرمة في الشرع وشروط مكروهة لله تعالى ورسوله ﷺ وشروط تتضمن ترك ما هو أحب إلى الله ورسوله وشروط تتضمن فعل ما هو أحب إلى الله ورسوله فالأقسام الثلاثة الأول لا حرمة لها ولا اعتبار والقسم الرابع هو الشرط المتبع الواجب الاعتبار وبالله التوفيق.
وقد أبطل النبي ﷺ هذه الشروط كلها بقوله: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وما رده رسول الله ﷺ لم يجز لأحد اعتباره ولا الإلزام به وتنفيذه ومن تفطن لتفاصيل هذه الجملة التي هي من لوازم الإيمان تخلص بها من آصار وأغلال في الدنيا وإثم وعقوبة ونقص ثواب في الآخرة وبالله التوفيق.
فصل المقاصد تغير أحكام التصرفات
وتأمل قول النبي ﷺ: "صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم" كيف حرم على المحرم الأكل مما صاده الحلال إذا كان قد صاده لأجله فانظر كيف أثر القصد في التحريم ولم يرفعه ظاهر الفعل ومن ذلك الأثر المرفوع من حديث أبي هريرة من تزوج امرأة بصداق ينوي ان لا يؤديه اليها فهو زان ومن أدان دينا ينوى ان لا يقضيه فهو سارق ذكره أبو حفص بإسناده فجعل المشتري والناكح إذا قصد ان لا يؤديا العوض بمنزلة من استحل الفرج والمال بغير عوض فيكون كالزاني والسارق في المعنى وإن خالفهما في الصورة ويؤيد ذلك ما في صحيح البخاري مرفوعا: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله".
فهذه النصوص وأضعافها تدل على أن المقاصد تغير أحكام التصرفات من العقود وغيرها وأحكام الشريعة تقتضي ذلك أيضا فإن الرجل إذا اشترى أو استأجر أو اقترض أو نكح ونوى أن ذلك لموكله أو لموليه كان له وان لم يتكلم به في العقد وان لم ينوه له وقع الملك للعاقد وكذلك لو تملك المباحات من الصيد والحشيش وغيرها ونواه لموكله وقع الملك له عند جمهور الفقهاء نعم لا بد في النكاح من تسمية الموكل لأنه مقعود عليه فهو بمنزلة السلعة في البيع فافتقر العقد إلى تعيينه لذلك لا انه معقود له وإذا كان القول والفعل الواحد يوجب الملك لمالكين مختلفين عند تغير النية ثبت أن للنية تأثيرا في العقود والتصرفات ومن ذلك أنه لو قضى عن غيره دينا أو أنفق عليه نفقة واجبة أو نحو ذلك ينوي التبرع والهبة لم يملك الرجوع بالبدل وإن لم ينو فله الرجوع ان كان بإذنه اتفاقا وإن كان بغير إذنه ففيه النزاع المعروف فصورة العقد واحدة وإنما اختلف الحكم بالنية والقصد ومن ذلك أن الله تعالى حرم ان يدفع الرجل إلى غيره مالا ربويا بمثله على وجه البيع إلا أن يتقابضا وجوز دفعه بمثله على وجه القرض وقد اشتركا في أن كلا منهما يدفع ربويا ويأخذ نظيره وإنما فرق بينهما القصد فإن مقصود المقرض إرفاق المقترض ونفعه وليس مقصوده المعارضة والربح ولهذا كان القرض شقيق العارية كما سماه النبي ﷺ منيحة الورق فكأنه أعاره الدراهم ثم استرجعها منه لكن لم يمكن استرجاع العين فاسترجع المثل وكذلك لو باعه درهما بدرهمين كان ربا صريحا ولو باعه إياه بدرهم ثم وهبه درهما آخر جاز والصورة واحدة وإنما فرق بينهما القصد فكيف يمكن أحدا أن يلغي القصود في العقود ولا يجعل لها اعتبارا.
الأحكام لا تجري على الظواهر
فإن قيل قد أطلتم الكلام في مسألة القصود في العقود ونحن نحاكمكم إلى القرآن والسنة وأقوال الأئمة قال الله تعالى حكاية عن نبيه نوح: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} فرتب الحكم على ظاهر إيمانهم ورد علم ما في أنفسهم إلى العالم بالسرائر تعالى المنفرد بعلم ذات الصدور وعلم ما في النفوس من علم الغيب وقد قال تعالى لرسوله: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} وقد قال ﷺ: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" وقد قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله فأكتفى منهم بالظاهر ووكل سرائرهم إلى الله" وكذلك فعل بالذين فعل بالذين تخلفوا عنه واعتذروا إليه فيل منهم علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل وكذلك كانت سيرته في المنافقين قبول ظاهر إسلامهم ويكل سرائرهم إلى الله عزوجل وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ولم يجعل لنا علما بالنيات والمقاصد تتعلق الأحكام الدنيوية بها فقولنا لا علم لنا به قال الشافعي فرض الله تعالى على خلقه طاعة نبيه ولم يجعل لهم من الأمر شيئا فأولى ألا يتعاطوا حكما على غيب أحد بدلالة ولا ظن لقصور علمهم عن علوم أنبيائه الذين فرض عليهم الوقوف عما ورد عليهم حتى يأتيهم أمره فإنه تعالى ظاهر عليهم الحجج فما جعل إليهم الحكم في الدنيا إلا بما ظهر من المحكوم عليه ففرض على نبيه ان يقاتل أهل الأوثان حتى يسلموا فتحقن دماؤهم إذا أظهروا الإسلام واعلم انه لا يعلم صدقهم بالإسلام إلا الله ثم اطلع الله رسوله على قوم يظهرون الإسلام ويسرون غيره فلم يجعل له أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإسلام ولم يجعل له أن يقضى عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا فقال لنبيه قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا يعني أسلمنا بالقول مخافة القتل والسبي ثم أخبرهم انه يجزيهم إن أطاعوا الله ورسوله يعني إن أحدثوا طاعة الله ورسوله وقال في المنافقين وهم صنف ثان {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُون} إلى قوله {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يعني جنة من القتل وقال سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم فأمر بقبول ما أظهروا ولم يجعل لنبيه أن يحكم عليهم بخلاف حكم الأيمان وقد اعلم الله نبيه أنهم في الدرك الأسفل من النار فجعل حكمه تعالى عليهم على سرائرهم وحكم نبيه عليهم في الدنيا على علانيتهم باظهار التوبة وما قامت عليه بينة من المسلمين وبما أقروا بقوله وما جحدوا من قول الكفر ما لم يقروا به ولم يقم به بينة عليهم وقد كذبهم في قولهم في كل ذلك وكذلك أخبرنا النبي ﷺ عن الله أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد عن عبيد الله بن يزيد عن عدي ابن الخيار ان رجلا سار النبي ﷺ فلم يدر ما ساره حتى جهر رسول الله ﷺ فإذا هو يشاوره في قتل رجل من المنافقين فقال النبي ﷺ: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله" قال: بلى ولا شهادة له فقال: "أليس يصلى قال بلى ولا صلاة له" فقال النبي ﷺ: "أولئك الذين نهانى الله عن قتلهم" ثم ذكر حديث: "أمرت أن أقاتل الناس" ثم قال: "فحسابهم على الله بصدقهم وكذبهم وسرائرهم إلى الله العالم بسرائرهم المتولى الحكم عليهم دون أنبيائه وحكام خلقه".
وبذلك مضت أحكام رسول الله ﷺ فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق أعلمهم أن جميع أحكامه على ما يظهرون والله يدين بالسرائر ثم ذكر حديث عويمر العجلاني في لعانه امرأته ثم قال فقال النبي ﷺ: "فيما بلغنا لولا ما قضى الله لكان لي فيها قضاء غيره" يعنى لولا ما قضى الله من ألا يحكم على أحد إلا باعتراف على نفسه أو بينة ولم يعرض لشريك ولا للمرأة وأنفذ الحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب ثم علم بعد أن الزوج هو الصادق. ثم ذكر حديث ركانة أنه طلق امرأته ألبتة وان النبي ﷺ استحلفه ما أردت إلا واحدة فحلف له فردها إليه قال وفي ذلك وغيره دليل على أن حراما على الحاكم ان يقضي ابدا على أحد من عباد الله إلا بأحسن ما يظهر وإن احتمل ما يظهر غير أحسنه وكانت عليه دلالة على ما يخالف أحسنه ومن قوله بلى لما حكم الله الاعراب الذين قالوا آمنا وعلم الله ان الايمان لم يدخل في قلوبهم لما أظهروا من الإسلام ولما حكم في المنافقين الذين علم أنهم آمنوا ثم كفروا وانهم كاذبون بما أظهروا من الايمان بحكم الإسلام وقال في المتلاعنين: "أبصروها فإن جاءت به كذا وكذا فلا أراه إلا وقد صدق عليها فجاءت به كذلك ولم يجعل له إليها سبيلا" إذ لم تقر ولم تقم عليها بينة وأبطل في حكم الدنيا عنهما استعمال الدلالة التي لا توجد في الدنيا بعد دلالة الله على المنافقين والأعراب أقوى مما أخبر به رسول الله ﷺ في قوله في امرأة العجلاني على أن يكون ثم كان كما أخبر به النبي ﷺ والأغلب على من سمع الفزازي يقول للنبي ﷺ ان امرأتي ولدت غلاما أسود وعرض بالقذف انه يريد القذف ثم لم يحده النبي ﷺ اذ لم يكن التعريض ظاهرا قذف فلم يحكم النبي ﷺ بحكم القذف والأغلب على من سمع قول ركانة لامرأته أنت طالق ألبتة انه قد أوقع الطلاق بقوله أنت طالق وان ألبتة إرادة شيء غير الأول انه أراد الابتات بثلاث ولكنه لما كان ظاهرا في قوله واحتمل غيره لم يحكم النبي ﷺ الا بظاهر الطلاق واحدة فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم استدلالا على أن ما أظهروا خلاف ما ابطنوا بدلالة منهم أو غير دلالة لم يسلم عندي من خلاف التنزيل والسنة وذلك مثل أن يقول قائل من رجع عن الإسلام ممن ولد عليه قتلته ولم استتبه ومن رجع عنه ممن لم يولد عليه استتبه ولم يحكم الله على عباده الا حكما واحدا ومثله ان يقول من رجع عن الإسلام ممن أظهر نصرانية أو يهودية أو دينا يظهره كالمجوسية أستتبه فإن أظهر التوبة قبلت منه ومن رجع إلى دين خفية لم أستتبه وكل قد بدل دين الحق ورجع إلى الكفر فكيف يستتاب بعضهم ولا يستتاب بعض فإن قال لا أعرف توبة الذي يسر دينه قيل ولا يعرفها إلا الله وهذا مع خلافه حكم الله ثم رسوله كلام محال يسأل من قال هذا هل تدري لعل الذي كان أخفى الشرك يصدق بالتوبة والذي كان أظهر الشرك يكذب بالتوبة فإن قال نعم قيل فتدرى لعلك قتلت المؤمن الصادق الإيمان واستحييت الكاذب بإظهار الايمان فإن قال ليس علي إلا الظاهر قيل فالظاهر فيهما واحد وقد جعلته اثنين بعلة محالة والمنافقون على عهد رسول الله ﷺ لم يظهروا يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية بل كانوا يستسرون بدينهم فيقبل منهم ما يظهرون من الايمان فلو كان قائل هذا القول حين خالف السنة أحسن أن يقول شيئا له وجه ولكنه يخالفها ويعتل بما لا وجه له كأنه يرى أن اليهودية والنصرانية لا تكون إلا بإتيان الكنائس أرأيت إن كانوا ببلاد لا كنائس فيها أما يصلون في بيوتهم فتخفى صلاتهم على غيرهم قال وما وصفت من حكم الله ثم حكم رسوله في المتلاعنين يبطل حكم الدلالة التي هي أقوى من الذرائع وإذا بطل الأقوى من الدلائل بطل الأضعف من الذارئع كلها وبطل الحد في التعريض بالقذف فإن من الناس من يقول إذا تشاتم الرجلان فقال أحدهما ما أنا بزان ولا أمي بزانية حد لأنه إذا قاله على المشاتمة فالأغلب أنه إنما يريد به قذف الذي يشاتم وأمه وإن قاله على غير المشاتمة لم أحده إذا قال لم أرد القذف مع إبطال رسول الله ﷺ حكم التعريض في حديث الفزاري الذي ولدت امرأته غلاما أسود فإن قال قائل فإن عمر حد في التعريض في مثل هذا قيل استشار أصحابه فخالفه بعضهم ومع من خالفه ما وصفنا من الدلالة ويبطل مثله قول الرجل لامرأته أنت طالق ألبتة لأن الطلاق إيقاع طلاق ظاهر والبتة تحتمل زيادة في عدد الطلاق وغير زيادة والقول قوله في الذي يحتمل غير الظاهر حتى لا يحكم عليه أبدا إلا بظاهر ويجعل القول قوله في الذي يحتمل غير الظاهر فهذا يدل على أنه لا يفسد عقد إلا بالعقد نفسه ولا يفسد بشيء تقدمه ولا تأخره ولا بتوهم ولا بالأغلب وكذلك كل شيء لا يفسد إلا بعقده ولا يفسد البيوع بأن يقول هذه ذربعة وهذه نية سوء ولو كان أن يبطل البيوع بأن تكون ذريعة إلى الربا كان اليقين في البيوع بعقد ما لا يحل أولى أن يريد به من الظن ألا ترى أن رجلا لو اشترى سيفا ونوى بشرائه أن يقتل به مسلما كان الشراء حلالا وكانت النية بالقتل غير جائزة ولم يبطل بها البيع وكذلك لو باع سيفا من رجل يريد أن يقتل به رجلا كان هذا هكذا ولو أن رجلا شريفا نكح دنية أعجمية أو شريفة نكحت دنيا أعجميا فتصادقا في الوجهين على أن لم ينو واحد منهما أن يثبت على النكاح أكثر من ليلة لم يحرم النكاح بهذه النية لأن ظاهر عقده كان صحيحا إن شاء الزوج حبسها وإن شاء طلقها فإذا دل الكتاب ثم السنة ثم عامة حكم الإسلام على أن العقود إنما تثبت بظاهر عقدها لا تفسدها نية العاقدين كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة ولا تفسد بتوهم غير عاقدها على عاقدها ولا سيما إذا كان توهما ضعيفا انتهى كلام الشافعي.
وقد جعل النبي ﷺ الهازل بالنكاح والطلاق والرجعة كالجاد بها مع انه لم يقصد حقائق هذه العقود وابلغ من هذا قوله ﷺ إنما أقضى بنحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فأخبر النبي ﷺ أنه يحكم بالظاهر وإن كان في نفس الأمر لا يحل للمحكوم له ما حكم له به وفي هذا كله دلالة على إلغاء المقاصد والنيات في العقود وإبطال سد الذرائع واتباع ظواهر عقود الناس وألفاظهم وبالله التوفيق.
فانظر ملتقى البحرين ومعترك الفريقين فقد أبرز كل منهما حجته وخاض بحر العلم فبلغ منه لجته وأدلى من الحجج والبراهين بما لا يدفع وقال ما هو حقيق بأن يقول له أهل العلم قل يسمع وحجج الله لا تتعارض وأدلة الشرع لا تتناقض والحق يصدق بعضه بعضا ولا يقبل معارضة ولا نقضا وحرام على المقلد المتعصب أن يكون من أهل هذا الطراز الأول أو يكون على قوله وبحثه إذا حقت الحقائق المعول فليجرب المدعى ما ليس له والمدعى في قوم ليس منهم نفسه وعلمه وما حصله في الحكم بين الفريقين والقضاء للفصل بين المتغالبين وليبطل الحجج والأدلة من أحد الجانبين ليسلم له قول إحدى الطائفتين وإلا فيلزم حده ولا يتعدى طوره ولا يمد إلى العلم الموروث عن رسول الله ﷺ باعا يقصر عن الوصول إليه ولا يتجر بنقد زائف لا يروج عليه ولا يتمكن من الفصل بين المقالين إلا من تجرد لله مسافرا بعزمه وهمته إلى مطلع الوحي منزلا نفسه منزلة من يتلقاه غضا طريا من في رسول الله ﷺ يعرض عليه آراء الرجال ولا يعرضه عليها ويحاكمها إليه ولا يحاكمه إليها فنقول وبالله التوفيق.
الألفاظ موضوعة للدلالة على ما في النفس
إن الله تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفا ودلالة على ما في نفوسهم فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئا عرفه بمراده وما في نفسه بلفظه ورتب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ ولم يرتب تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول ولا على مجرد ألفاظ مع العلم بأن المتكلم بها لم يرد معانيها ولم يحط بها علما بل تجاوز للأمة عما حدثت به انفسها ما لم تعمل به أو تكلم به وتجاوز لها عما تكلمت به مخطئة أو ناسية أو مكرهة أو غير عالمة به إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلمت به أو قاصدة إليه فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم هذه قاعدة الشريعة وهي من مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته فإن خواطر القلوب وإرادة النفوس لا تدخل تحت الاختيار فلو ترتبت عليها الاحكام لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة ورحمة الله تعالى وحمكته تأبى ذلك والغلط والنسيان والسهو وسبق اللسان بما لا يريده العبد بل يريد خلافه والتكلم به مكرها وغير عارف لمقتضاه من لوازم البشرية لا يكاد ينفك الإنسان من شيء منه فلو رتب عليه الحكم لحرجت الأمة واصابها غاية التعب والمشقة فرفع عنها المؤاخذة بذلك كله حتى الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب والسكر كما تقدمت شواهده وكذلك الخطأ والنسيان والإكراه والجهل بالمعنى وسبق اللسان بما لم يرده والتكلم في الإغلاق ولغو اليمين فهذه عشرة اشياء لا يؤاخذ الله بها عبده بالتكلم في حال منها لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخذه به.
أما الخطأ من شدة الفرح فكما في الحديث الصحيح حديث فرح الرب بتوبة عبده وقول الرجل أنت عبدى وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح.
وأما الخطأ من شدة الغضب فكما في قوله تعالى ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم قال السلف هو دعاء الإنسان على نفسه وولده وأهله حال الغضب لو أجابه الله تعالى لأهلك الداعي ومن دعى عليه فقضى إليهم أجلهم وقد قال جماعة من الآئمة الإغلاق الذي منع النبي ﷺ من وقوع الطلاق والعتاق فيه هو الغضب وهذا كما قالوه فإن للغضب سكرا كسكر الخمر أو أشد.
وأما السكران فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فلم يرتب على كلام السكران حكما حتى يكون عالما بما يقول ولذلك أمر النبي ﷺ رجلا يشكك المقر بالزنا ليعلم هل هو عالم بما يقول أو غير عالم بما يقول ولم يؤاخذ حمزة بقوله في حال السكر هل أنتم إلا لأبي ولم يكفر من قرأ في حال سكره في الصلاة أعد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون وأما الخطأ والنيسان فقد قال تعالى حكاية عن المؤمنين ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وقال الله تعالى قد فعلت وقال النبي ﷺ: "إن الله قد تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
وأما المكره فقد قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} والإكراه داخل في حكم الإغلاق.
وأما اللغو فقد رفع الله تعالى المؤاخذة به حتى يحصل عقد القلب وأما سبق اللسان بما لم يرده المتكلم فهو دائر بين الخطأ في اللفظ والخطأ في القصد فهو أولى أن لا يؤاخذ به من لغو اليمين وقد نص الأئمة على مسائل من ذلك تقدم ذكر بعضها.
وأما الاغلاق فقد نص عليه صاحب الشرع والواجب حمل كلامه فيه على عمومه اللفظي والمعنوي فكل من أغلق عليه باب قصده وعلمه كالمجنون والسكران والمكره والغضبان فقد تكلم في الاغلاق ومن فسره بالجنون أو بالسكر أو بالغصب أو بالإكراه فإنما قصد التمثيل لا التخصيص ولو قدر ان اللفظ يختص بنوع من هذه الأنواع لوجب تعميم الحكم بعموم العلة فإن الحكم إذا ثبت لعلة تعدى بتعديها وانتفى بانتفائها.
فصل أقسام الألفاظ الثلاثة
فإذا تمهدت هذه القاعدة فنقول الالفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلمين ونياتهم وإراداتهم لمعانيها ثلاثة أقسام.
القسم الأول من أقسام الألفاظ
أحدها أن تظهر مطابقة القصد للفظ وللظهور مراتب تنتهي إلى اليقين والقطع بمراد المتكلم بحسب الكلام في نفسه وما يقترن به من القرائن الحالية واللفظية وحال المتكلم به وغير ذلك كما إذا سمع العاقل والعارف باللغة قوله ﷺ إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب لا تضارون في رؤيته إلا كما تضارون في رؤيتها فإنه لا يستريب ولا يشك في مراد المتكلم وأنه رؤية البصر حقيقة وليس في الممكن عبارة أوضح ولا أنص من هذه ولو اقترح على أبلغ الناس أن يعبر عن هذا المعنى بعبارة لا تحتمل غيره لم يقدر على عبارة أوضح ولا أنص من هذه وعامة كلام الله ورسوله من هذا القبيل فإنه مستول على الأمد الأقصى من البيان.
فصل القسم الثاني من أقسام الألفاظ
القسم الثاني: ما يظهر بأن المتكلم لم يرد معناه وقد ينتهي هذا الظهور إلى حد اليقين بحيث لا يشك السامع فيه وهذا القسم نوعان أحدهما أن لا يكون مريدا لمقتضاه ولا لغيره والثاني أن يكون مريدا لمعنى يخالفه فالأول كالمكره والنائم والمجنون ومن اشتد به الغضب والسكران والثاني كالمعرض والمورى والملغز والمتأول.
فصل القسم الثالث من أقسام الألفاظ
القسم الثالث ما هو ظاهر في معناه ويحتمل إرادة المتكلم له ويحتمل إرادته غيره ولا دلالة على واحد من الأمرين واللفظ دال على المعنى الموضوع له وقد أتى به اختيارا.
متى يحمل الكلام على ظاهره
فهذه أقسام الألفاظ بالنسبة إلى إرادة معانيها ومقاصد المتكلم بها وعند هذا يقال إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام أو لم يظهر قصد يخالف كلامه وجب حمل كلامه على ظاهره والأدلة التي ذكرها الشافعي رضي الله عنه وأضعافها كلها إنما تدل على ذلك وهذا حق لا ينازع فيه عالم والنزاع إنما هو في غيره.
إذا عرف هذا فالواجب حمل كلام الله تعالى ورسوله وحمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره وهو الذي يقصد من اللفظ عند التخاظب ولا يتم التفهيم والفهم إلا بذلك ومدعي غير ذلك على المتكلم القاصد للبيان والتفهيم كاذب عليه.
قال الشافعي: وحديث رسول الله ﷺ على ظاهره بت ومن ادعى أنه لا طريق لنا إلى اليقين بمراد المتكلم لأن العلم بمراده موقوف على العلم بانتفاء عشرة أشياء فهو ملبوس عليه ملبس على الناس فإن هذا لو صح لم يحصل لأحد العلم بكلام المتكلم قط وبطلت فائدة التخاطب وانتفت خاصية الإنسان وصار الناس كالبهائم بل أسوأ حالا ولما علم غرض هذا المصنف من تصنيفه وهذا باطل بضرورة الحس والعقل وبطلانه من أكثر من ثلاثين وجها مذكورة في غير هذا الموضع ولكن حمل كلام المتكلمين على ظاهره لا ينبغي صرفه عن ذلك لدلالة تدل عليه كالتعريض ولحن الخطاب والتورية وغير ذلك وهذا أيضا مما لا ينازع فيه العقلاء.
متى يحمل الكلام على غير ظاهره
وإنما النزاع في الحمل على الظاهر حكما بعد ظهور مراد المتكلم والفاعل بخلاف ما أظهره فهذا هو الذي وقع فيه النزاع وهو هل الاعتبار بظواهر الألفاظ والعقود وإن ظهرت المقاصد والنيات بخلافها أم للقصود والنيات تأثير يوجب الالتفات إليها ومراعاة جانبها وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده وفي حله وحرمته بل أبلغ من ذلك وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقد تحليلا وتحريما فيصير حلالا تارة وحراما تارة أخرى باختلاف النية والقصد كما يصير صحيحا تارة وفاسدا تارة باختلافها وهذا كالذبح فإن الحيوان يحل إذا ذبح لأجل الأكل ويحرم إذ ذبح لغير الله وكذلك الحلال يصيد الصيد للمحرم فيحرم عليه ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم وكذلك الرجل يشتري الجارية ينوى أن تكون لموكله فتحرم على المشتري وينوى أنها له فتحل له وصورة العقد واحدة وإنما اختلفت النية والقصد وكذلك صورة القرض وبيع الدرهم بالدرهم إلى اجل صورتهما واحدة وهذا قربة صحيحة وهذا معصية باطلة بالقصد وكذلك عصر العنب بنية أن يكون خمرا معصية ملعون فاعله على لسان رسول الله ﷺ وعصره بنية أن يكون خلا أو دبسا جائز وصورة الفعل واحدة وكذلك السلاح يبيعه الرجل لمن يعرف انه يقتل به مسلما حرام باطل لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان وإذا باعه لمن يعرف انه يجاهد به في سبيل الله فهو طاعة وقربة وكذلك عقد النذر المعلق على شرط ينوي به التقرب والطاعة فيلزمه الوفاء بما نذره وينوي به الحلف والامتناع فيكون يمينا مكفرة وكذلك تعليق الكفر بالشرط ينوي به اليمين والامتناع فلا يكفر بذلك وينوي به وقوع الشرط فيكفر عند وجود الشرط ولا يكفر إن نوى به اليمين وصورة اللفظ واحدة وكذلك ألفاظ الطلاق صريحها وكنايتها ينوى بها الطلاق فيكون ما نواه وينوى به غيره فلا تطلق وكذلك قوله أنت عندي مثل أمي ينوي بها الظهار فتحرم عليه وينوي به أنها مثلها في الكرامة فلا تحرم عليه وكذلك من أدى عن غيره واجبا ينوي به الرجوع ملكه وإن نوى به التبرع لم يرجع. وهذه كما أنها أحكام الرب تعالى في العقود فهي أحكامه تعالى في العبادات والمثوبات والعقوبات فقد اطردت سنته بذلك في شرعه وقدره أما العبادات فتأثير النيات في صحتها وفسادها أظهر من أن يحتاج إلى ذكره فإن القربات كلها مبناها على النيات ولا يكون الفعل عبادة إلا بالنية والقصد ولهذا لو وقع في الماء ولم ينو الغسل أو دخل الحمام للتنظيف أو سبح للتبرد لم يكن غسله قربة ولا عبادة بالاتفاق فإنه لم ينو العبادة فلم تحصل له وإنما لامرئ ما نوى ولو امسك عن المفطرات عادة واشتغالا ولم ينو القربة لم يكن صائما ولو دار حول البيت يلتمس شيئا سقط منه لم يكن طائفا ولو أعطى الفقير هبة أو هدية ولم ينو الزكاة لم يحسب زكاة ولو جلس في المسجد ولم ينو الاعتكاف لم يحصل له وهذا كما أنه ثابت في الإجزاء والامتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب ولهذا لو جامع أجنبية يظنها زوجته أو أمته لم يأثم بذلك وقد يثاب بنيته ولو جامع في ظلمة من يظنها أجنبية فبانت زوجته أو أمته أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام ولو أكل طعاما حراما يظنه حلالا لم يأثم به ولو أكله وهو حلال يظنه حراما وقد أقدم عليه أثم بنيته وكذلك لو قتل من يظنه مسلما معصوما فبان كافرا حربيا أثم بنيته ولو رمى صيدا فأصاب معصوما لم يأثم ولو رمى معصوما فأخطأه وأصاب صيدا أثم ولهذا كان القاتل والمقتول من المسلمين في النار لنية كل واحد منهما قتل صاحبه.
العمل تابع للنية
فالنية روح العمل ولبه وقوامه وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها والنبي ﷺ قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم وهما قوله إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية ولهذا لا يكون عمل إلا بنية ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا ولا يعصمه من ذلك صورة البيع وأن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محللا ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح لأنه قد نوى ذلك وإنما لامريء ما نوى فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان والثانية معلومة بالنص وعلى هذا فإذا نوى بالعصر حصول الخمر كان له ما نواه ولذلك استحق اللعنة وإذا نوى بالفعل التحيل على ما حرمه الله ورسوله كان له ما نواه فإنه قصد المحرم وفعل مقدوره في تحصيله ولا فرق في التحيل على المحرم بين الفعل الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له لا في عقل ولا في شرع ولهذا لو نهى الطبيب المريض عما يؤذيه وحماه منه فتحيل على تناوله عد متناولا لنفس ما نهى عنه ولهذا مسخ الله اليهود قردة لما تحيلوا على فعل ما حرمه الله ولم يعصمهم من عقوبته إظهار الفعل المباح لما توسلوا به إلى ارتكاب محارمه ولهذا عاقب أصحاب الجنة بأن حرمهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين ولهذا لعن اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله ولم يعصمهم التوصل إلى ذلك بصورة البيع وأيضا فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم وتنتقل إلى اسم الودك فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك بطلان الحيل والدلالة على تحريمها:
قال الخطابي في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوسل إلى المحرم فإنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه.
قال شيخنا رضي الله عنه: ووجه الدلالة ما أشار إليه أحمد أن اليهود لما حرم الله عليهم الشحوم أرادوا الاحتيال على الانتفاع بها على وجه لا يقال في الطاهر إنهم انتفعوا بالشحم فجملوه وقصدوا بذلك ان يزول عنه اسم الشحم ثم انتفعو بثمنه بعد ذلك لئلا يكون الانتفاع في الظاهر بعين المحرم ثم مع كونهم احتالوا بحيلة خرجوا بها في زعمهم من ظاهر التحريم من هذين الوجهين لعنهم الله على لسان رسول الله ﷺ على هذا الاستحلال نظرا إلى المقصود وان حكمة التحريم لا تختلف سواء كان جامدا أو مائعا وبذل الشيء يقوم مقامه ويسد مسده فإذا حرم الله الانتفاع بشيء حرم الاعتياض عن تلك المنفعة واما ما ابيح الانتفاع به من وجه دون وجه كالخمر مثلا فإنه يجوز بيعها لمنفعة الظهر المباحة لا لمنفعة اللحم المحرمة وهذا معنى حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود وصححه الحاكم وغيره لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه يعنى ثمنه المقابل لمنفعة الأكل فإذا كان فيه منفعة أخرى وكان الثمن في مقابلتها لم يدخل في هذا.
إذا تبين هذا فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقا بمجرد اللفظ وبظاهر من القول دون مراعاة المقصود للشيء المحرم ومعناه وكيفيته لم يستحقوا اللعنة لوجهين:
أحدهما أن الشحم خرج بجملة عن أن يكون شحما وصار ودكا كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعا عند من يستحل ذلك فإن من أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى اجل فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم اشتراها بالثمن الحال ولا غرض لواحد منهما في السلعة بوجه ما وإنما هي كما قال فقيه الأمة دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة فلا فرق بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين درهما بلا حيلة ألبتة لا في شرع ولا في عقل ولا عرف بل المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قأئمة مع الاحتيال أو أزيد منها فإنها تضاعفت بالاحتيال لم تذهب ولم تنقص فمن المستحيل على شريعة أحكم الحاكمين أن يحرم ما فيه مفسدة ويلعن فاعله ويؤذنه بحرب منه ورسوله ويوعده أشد الوعيد ثم يبيح التحيل على حصول ذلك بعينه سواء مع قيام تلك المفسدة وزيادتها بتعب الاحتيال في معصية ومخادعة الله ورسوله هذا لا يأتي به شرع فإن الربا على الأرض أسهل وأقل مفسدة من الربا بسلم طويل صعب التراقي يترابى المترابيان على رأسه.
فيالله العجب أي مفسدة من مفاسد الربا زالت بهذا الاحتيال والخداع فهل صار هذا الذنب العظيم عند الله الذي هو من اكبر الكبائر حسنة وطاعة بالخداع والاحتيال ويالله كيف قلب الخداع والاحتيال حقيقته من الخبيث إلى الطيب ومن المفسدة إلى المصلحة وجعله محبوبا للرب تعالى بعد أن كان مسخوطا له ولئن كان هذا الاحتيال يبلغ هذا المبلغ فإنه عند الله ورسوله بمكان ومنزلة عظيمة وإنه من أقوى دعائم الدين وأوثق عراه وأجل أصوله.
ويالله العجب كيف تزول مفسدة التحليل الذي أشار رسول الله ﷺ بلعن فاعله مرة بعد أخرى بتسبيق شرطه وتقديمه على صلب العقد وخلاء صلب العقد من لفظه وقد وقع التواطؤ والتوافق عليه واي غرض للشارع وأي حكمة في تقديم الشرط وتسبيقه حتى تزول به اللعنة وتنقلب به خمرة هذا العقد خلا وهل كان عقد التحليل مسخوطا لله ورسوله لحقيقته ومعناه أم لعدم مقارنة الشرط له وحصول صورة نكاح الرغبة مع القطع بانتفاء حقيقته وحصول حقيقة نكاح التحليل وهكذا الحيل الربوية فإن الربا لم يكن حراما لصورته ولفظة وإنما كان حراما لحقيقته التي أمتاز بها عن حقيقة البيع فتلك الحقيقة حيث وجدت وجد التحريم في أي صورة ركبت وبأي لفظ عبر عنها فليس الشأن في الأسماء وصور العقود وإنما الشأن في حقائقها ومقاصدها وما عقدت له.
الوجه الثاني أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم وإنما انتفعوا بثمنه ويلزم من راعى الصور والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن يحرم ذلك فلما لعنوا على استحلال الثمن وإن لم ينص لهم على تحريمه علم أن الواجب النظر إلى الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة ونظير هذا أن يقال لرجل لا تقرب مال اليتيم فيبيعه ويأخذ عوضه ويقول لم أقرب ماله وكمن يقول لرجل لا تشرب من هذا النهر فيأخذ بيديه ويشرب بكفيه ويقول لم أشرب منه وبمنزلة من يقول لا تضرب زيدا فيضربه فوق ثيابه ويقول إنما ضربت ثيابه وبمنزلة من يقول لا تأكل مال هذا الرجل فإنه حرام فيشتري به سلعة ولا يعينه ثم ينقده للبائع ويقول لم آكل ماله إنما أكلت ما اشتريته وقد ملكت ظاهرا وباطنا وأمثال هذه الأمور التي لو استعملها الطبيب في معالجة المرضى لزاد مرضهم ولو استعملها المريض لكان مرتكبا لنفس ما نهاه عنه الطبيب كمن يقول له الطبيب: لا تأكل اللحم فإنه يزيد في مواد المرض فيدقه ويعمل منه هريسة ويقول لم آكل اللحم وهذا المثال مطابق لعامة الحيل الباطلة في الدين.
ويالله العجب أي فرق بين بيع مائة بمائة وعشرين درهما صريحا وبين إدخال سلعة لم تقصد أصلا بل دخولها كخروجها ولهذا لا يسأل العاقد عن جنسها ولا صفتها ولا قيمتها ولا عيب فيها ولا يبالي بذلك ألبتة حتى لو كانت خرقة مقطعة أو أذن شاة أو عودا من حطب ادخلوه محللا للربا ولما تفطن المحتالون أن هذه السلعة لا اعتبار بها في نفس الأمر وانها ليست مقصودة بوجه وأن دخولها كخروجها تهاونوا بها ولم يبالوا بكونها مما يتمول عادة أولا يتمول ولم يبال بعضهم بكونها مملوكة للبائع أو غير مملوكة بل لم يبال بعضهم بكونها مما يباع أو مما لا يباع كالمسجد والمنارة والقلعة وكل هذا وقع من أرباب الحيل وهذا لما علموا أن المشتري لاغرض له في السلعة فقالوا أي سلعة اتفق حضورها حصل بها التحليل كأي تيس اتفق في باب محلل النكاح.
مثل من وقف مع الظواهر ولم يراع الحقائق
وما مثل من وقف مع الظواهر والألفاظ ولم يراع المقاصد والمعاني إلا كمثل رجل قيل له لا تسلم على صاحب بدعة فقبل يده ورجله ولم يسلم عليه أو قيل له اذهب فاملأ هذه الجرة فذهب فملأها ثم تركها على الحوض وقال لم تقل ايتني بها وكمن قال لوكيله بع هذه السلعة فباعها بدرهم وهي تساوي مائة ويلزم من وقف مع الظواهر أن يصحح هذا البيع ويلزم به الموكل وإن نظر إلى المقاصد تناقض حيث ألقاها في غير موضع وكمن أعطاه رجل ثوبا فقال والله لا ألبسه لما له فيه من المئة فباعه وأعطاه ثمنه فقبله وكمن قال والله لا أشرب هذا الشراب فجعله عقيدا أو ثرد فيه خبزا وأكله ويلزم من وقف مع الظواهر والألفاظ أن لا يحد من فعل ذلك بالخمر وقد أشار النبي ﷺ إلى أن من الأمة من يتناول المحرم ويسميه بغير اسمه فقال: "ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير" رواه أحمد وأبو داود وفي مسند الإمام أحمد مرفوعا يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها وفيه عن عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ: "يشرب ناس من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه" وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي امامة يرفعه: "لا تذهب الليالي والأيام حتى بشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها" قال شيخنا رضي الله عنه وقد جاء حديث آخر يوافق هذا مرفوعا وموقوفا من حديث ابن عباس يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء يستحلون الخمر باسم يسمونها إياه والسحت بالهدية والقتل بالرهبة والزنا بالنكاح والربا بالبيع وهذا حق فان استحلال الربا باسم البيع ظاهر كالحيل الربوية التي صورتها صورة البيع وحقيقتها حقيقة الربا ومعلوم ان الربا إنما حرم لحقيقته ومفسدته لا لصورته واسمه فهب ان المرابي لم يسمه ربا وسماه بيعا فذلك لا يخرج حقيقته وماهيته عن نفسها وأما استحلال الخمر باسم آخر فكما استحل المسكر من غير عصير العنب وقال لا أسميه خمرا وإنما هو نبيذ وكما يستحلها طائفة من المجان إذا مزجت ويقولون خرجت عن اسم الخمر كما يخرج الماء بمخالطة غيره له عن اسم الماء المطلق وكما يستحلها من يستحلها إذا اتخذت عقيدا ويقول هذه عقيد لا خمر ومعلوم ان التحريم تابع للحقيقة والمفسدة لا للاسم والصورة فإن إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة لا تزول بتبديل الأسماء والصور عن ذلك وهل هذا إلا من سوء الفهم وعدم الفقه عن الله ورسوله وأما استحلال السحت باسم الهدية وهو أظهر من ان يذكر كرشوة الحاكم والوالي وغيرهما فإن المرتشي ملعون هو والراشي لما في ذلك من المفسدة ومعلوم قطعا انهما لا يخرجان عن الحقيقة وحقيقة الرشوة بمجرد اسم الهدية وقد علمنا وعلم الله وملائكته ومن له إطلاع على الحيل أنها رشوة وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي تسميه ولاة الجور سياسة وهيبة وناموسا وحرمة للملك فهو أظهر من أن يذكر وأما استحلال الزنا باسم النكاح فهو الزنا بالمرأة التي لا غرض له أن يقم معها ولا أن تكون زوجته وإنما غرضه أن يقضي منها وطره أو بأخذ جعلا على الفساد بها ويتوصل إلى ذلك باسم النكاح وإظهار صورته وقد علم الله ورسوله والملائكة والزوج والمرأة انه محلل لا ناكح وانه ليس بزوج وإنما هو تيس مستعار للضراب بمنزلة حمار العشريين.
أسماء ما أنزل الله بها من سلطان
فيالله العجب اى فرق في نفس الأمر بين الزنا وبين هذا نعم هذا زنا بشهود من البشر وذلك زنا بشهود من الكرام الكاتبن كما صرح به أصحاب رسول الله ﷺ وقالوا: "لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة" إذا علم الله انه إنما يريد أن يحللها والمقصود أن هذا المحلل إذا قيل: له هذا زنا قال: ليس بزنا بل نكاح كما أن المرابي إذا قيل: له هذا ربا قال: بل هو بيع وكذلك كل من استحل محرما بتغيير اسمه وصورته كمن يستحل الحشيشة باسم لقيمة الراحة ويستحل المعازف كالطنبور والعود والبربط باسم يسميها به وكما يسمى بعضهم المغني بالحادي والمطرب والقوال وكما يسمي الديوث بالمصلح والموفق والمحسن ورأيت من يسجد لغير الله من الأحياء والأموات ويسمى ذلك وضع الرأس للشيخ قال: ولا أقوال هذا سجود وهكذا الحيل سواء فإن أصحابها يعمدون إلى الأحكام فيعقلونها بمجرد اللفظ ويزعمون ان الذي يستحلونه ليس بداخل في لفظ الشيء المحرم مع القطع بأن معناها معنى الشيء المحرم فإن الرجل إذا قال: لمن له عليه ألف اجعلها ألفا ومائة إلى سنة بإدخال هذه الخرقة وإخراجها صورة لا معنى لم يكن فرق بين توسطها وعدمه وكذلك إذا قال: مكنيني من نفسك اقض منك وطرا يوما أو ساعة بكذا وكذا لم يكن فرق بين إدخال شاهدين في هذا أو عدم إدخالهما وقد تواطئا على قضاء وطر ساعة من زمان.
ولو أوجب تبديل الأسماء والصور تبدل الأحكام والحقائق لفسدت الديانات وبدلت الشرائع واضمحل الإسلام وأي شيء نفع المشركين تسميتهم أصنامهم آلهة وليس فيها شيء من صفات الإلهية وحقيقتها وأي شيء نفعهم تسمية الإشراك بالله تقربا إلى الله وأي شيء نفع المعطلين لحقائق أسماء الله وصفاته تسميه ذلك تنزيها وأي شيء نفع الغلاة من البشر واتخاذهم طواغيت يعبدونها من دون الله تسمية ذلك تعظيما واحتراما وأي شيء نفع نفاة القدر المخرجين لأشرف ما في مملكة الرب تعالى من طاعات أنبيائه ورسله وملائكته وعباده عن قدرته تسمية ذلك عدلا وأي شيء نفعهم نفيهم لصفات كما له تسمية ذلك توحيدا وأي شيء نفع أعداء الرسل من الفلاسفة القائلين بأن الله لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام ولا يحيي الموتى ولا يبعث من في القبور ولا يعلم شيئا من الموجودات ولا أرسل إلى الناس رسلا يأمرونهم بطاعته تسمية ذلك حكمة وأي شيء نفع أهل النفاق تسمية نفاقهم عقلا معيشيا وقدحهم في عقل من لم ينافق نفاقهم ويداهن في دين الله واي شيء نفع المكسة تسمية ما يأخذونه ظلما وعدوانا حقوقا سلطانية وتسمية أوضاعهم الجائرة الظالمة المناقضة لشرع الله ودينه شرع الديوان واي شيء نفع أهل البدع والضلال تسمية شبههم الداحضة عند ربهم وعند أهل العلم والدين والايمان عقليات وبراهين وتسمية كثير من المتصوفة الخيالات الفاسدة والشطحات حقائق فهؤلاء كلهم حقيق ان يتلى عليهم: {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}.
العبرة في العقود القصد دون اللفظ المجرد
ومما يوضح ما ذكرناه من ان القصود في العقود معتبرة دون الألفاظ المجردة التي لم تقصد بها معانيها وحقائقها أو قصد غيرها ان صيغ العقود كبعت واشتريت وتزوجت واجرت إما إخبارات وإما إنشاءات وإما أنها متضمنة للأمرين فهي إخبارات عما في النفس من المعاني التي تدل على العقود وإنشاءات لحصول العقود في الخارج فلفظها موجب لمعناها في الخارج وهي أخبار عما في النفس من تلك المعاني ولا بد في صحتها من مطابقة خبرها لمخبرها فإذا لم تكن تلك المعاني في النفس كانت خبرا كاذبا وكانت بمنزلة قول المنافق أشهد أن محمدا رسول الله وبمنزلة قوله آمنت بالله وباليوم الاخر وكذلك المحلل إذا قال: تزوجت وهو لا يقصد التزوج المعني الذي جعله الله في الشرع كان إخبارا كاذبا وإنشاء باطلا فإنا نعلم ان هذه اللفظة لم توضح في الشرع ولا في العرف ولا في اللغة لمن قصد رد المطلقة إلى زوجها وليس له قصد في النكاح الذي وضعه الله بين عباده وجعله سببا للمودة والرحمة بين الزوجين وليس له قصد في توابعه حقيقة ولا حكما فمن ليس له قصد في الصحبة ولا في العشرة ولا في المصاهرة ولا في الولد ولا المواصلة ولا المعاشرة ولا الإيواء بل قصده ان يفارق لتعود إلى غيره فالله جعل النكاح سببا للمواصلة والمصاحبة والمحلل جعله سببا للمفارقة فإنه تزوج ليطلق فهو مناقض لشرع الله ودينه وحكمته فهو كاذب في قوله تزوجت بإظهاره خلاف ما في قلبه وبمنزلة من قال: لغيره وكلتك أو شاركتك أو ضاربتك أو ساقيتك وهو يقصد رفع هذه العقود وفسخها.
وقد تقدم ان صيغ العقود اخبارات عما في نفس من المعاني التي هي أصل العقود ومبدأ الحقيقة التي بها يصير اللفظ كلاما معتبرا فإنها لا تصير كلاما معتبرا إلا إذا قرنت بمعانيها فتصير انشاء للعقود والتصرفات من حيث إنها هي التي أثبتت الحكم وبها وجد وإخبارات من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس فهى تشبه في اللفظ أحببت أو ابغضت وكرهت وتشبه في المعنى قم واقعد وهذه الأقوال انما تفيد الأحكام إذا قصد المتكلم بها حقيقة أو حكما ما جعلت له وإذا لم يقصد بها ما يناقض معناها وهذا فيما بينه وبين الله تعالى فأما في الظاهر فالأمر محمول على الصحة وإلا لما تم عقد ولا تصرف فإذا قال: بعت أو تزوجت كان هذا اللفظ دليلا على أنه قصد معناه المقصود به وجعله الشارع بمنزلة القاصد إن كان هازلا وباللفظ والمعنى جميعا يتم الحكم فكل منهما جزء السبب وهما مجموعه وإن كانت العبرة في الحقيقة بالمعنى واللفظ دليل ولهذا يصار إلى غيره عند تعذره وهذا شأن عامة أنواع الكلام فإنه محمول على معناه المفهوم منه عند الإطلاق لا سيما الأحكام الشرعية التي علق الشارع بها احكامها فإن المتكلم عليه ان يقصد بتلك الالفاظ معانيها والمستمع عليه ان يحملها على تلك المعاني فإن لم يقصد المتكلم بها معانيها بل تكلم بها غير قاصد لمعانيها أو قاصدا لغيرها أبطل الشارع عليه قصده فإن كان هازلا أولاعبا لم يقصد المعنى ألزمه الشارع المعنى كمن هزل بالكفر والطلاق والنكاح والرجعة بل لو تكلم الكافر بكلمة الإسلام هازلا ألزم به وجرت عليه أحكامه ظاهرا وإن تكلم بها مخادعا ماكرا محتالا مظهرا خلاف ما أبطن لم يعطه الشارع مقصوده كالمحلل والمرابي بعقد العينة وكل من احتال على إسقاط واجب أو فعل محرم بعقد أو قول أظهره وأبطن الأمر الباطل وبهذا يخرج الجواب عن الإلزام بنكاح الهازل وطلاقه ورجعته وان لم يقصد حقائق هذه الصيغ ومعانيها.
تقسيمات لصيغ العقود
ونحن نذكر تقسيما جامعا نافعا في هذا الباب نبين به حقيقة الأمر فنقول المتكلم بصيغ العقود إما أن يكون قاصدا للتكلم بها أو لا يكون قاصدا فإن لم يقصد التكلم بها كالمكره والنائم والمجنون والسكران والمغلوب على عقله لم يترتب عليها شيء وإن كان في بعض ذلك نزاع وتفصيل فالصواب أن أقول هؤلاء كلها هدر كما دل عليه الكتاب والسنة والميزان وأقوال الصحابة وإن كان قاصدا للتكلم بها فإما أن يكون عالما بغاياتها متصورا لها أو لا يدري معانيها ألبتة بل هي عنده كأصوات ينعق بها فإن لم يكن عالما بمعناها ولا متصورا له لم يترتب عليه أحكامها أيضا ولا نزاع بين أئمة الإسلام في ذلك وإن كان متصورا لمعانيها عالما بمدلولها فإما أن يكون قاصدا لها أو لا فإن كان قاصدا لها ترتبت أحكامها في حقه ولزمته وإن لم يكن قاصدا لها فإما ان يقصد خلافها أو لا يقصد لا معناها ولا غير معناها فإن لم يقصد غير التكلم بها فهو الهازل ونذكر حكمه وإن قصد غير معناها فإما أن يقصد ما يجوز له قصده أو لا فإن قصد ما يجوز له قصده نحو أن يقصد بقوله أنت طالق من زوج كان قبلي أو يقصد بقوله أمتي أو عبدي حر أنه عفيف عن الفاحشة أو يقصد بقوله امرأتي عندي مثل أمي في الكرامة والمنزلة ونحو ذلك لم تلزمه احكام هذه الصيغ فيما بينه وبين الله تعالى واما في الحكم فإن اقترن بكلامه قرينة تدل على ذلك لم يلزمه أيضا لأن السياق والقرينة بينة تدل على صدقه وإن لم يقترن بكلامه قرينه أصلا وادعى ذلك دعوى مجردة لم تقبل منه وإن قصد بها ما لا يجوز قصده كالتكلم بنكحت وتزوجت بقصد التحليل وبعت واشتريت بقصد الربا وبخالعتها بقصد الحيلة على فعل المحلوف عليه وبملكت بقصد الحيلة على إسقاط الزكاة أو الشفعة وما أشبه ذلك فهذا لا يحصل له مقصوده الذي قصده وجل ظاهر اللفظ والفعل وسيلة إليه فإن في تحصيل مقصوده تنفيذا للمحرم وإسقاطا للواجب وإعانة على معصية الله ومناقضة لدينه وشرعه، فإعانته على ذلك إعانة على الإثم والعدوان ولا فرق بين اعانته على ذلك بالطريق التي وضعت مفضية إليه وبين إعانته على ذلك بالطريق التي وضعت مفضية إلى غيره فالمقصود إذا كان واحدا لم يكن اختلاف الطرق الموصلة إليه بموجب لاختلاف حكمه فيحرم من طريق ويحل بعينه من طريق أخرى والطرق وسائل وهي مقصودة لغيرها فأي فرق بين التوسل إلى الحرام بطريق الاحتيال والمكر والخداع والتوسل إليه بطريق المجاهرة التي يوافق فيها السر الإعلان والظاهر الباطن والقصد اللفظ بل سالك هذه الطريقة قد تكون عاقبته أسلم وخطره أقل من سالك تلك من وجوه كثيرة كما أن سالك طريق الخداع والمكر عند الناس امقت وفي قلوبهم أوضع وهم عنه أشد نفرة ممن أتى الأمر على وجهه ودخله من بابه ولهذا قال: أيوب السختياني وهو من كبار التابعين وساداتهم وأئمتهم في هؤلاء يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل عليهم أنهما لم يقصدا بالسبب حكمه ولا باللفظ معناه وإنما قصدا التوسل بذلك اللفظ وبظاهر ذلك السبب إلى شيء آخر غير حكم السبب لكن أحدهما راهب قصده دفع الضرر عن نفسه ولهذا يحمد أو يعذر على ذلك والآخر راغب قصده إبطال حق وإيثار باطل ولهذا يذم على ذلك فالمكره يبطل حكم السبب فيما عليه وفيما له لأنه لم يقصد واحدا منهما والمحتال يبطل حكم السبب فيما احتال عليه وأما فيما سواه فيجب فيه التفصيل.
وههنا أمر لا بد منه وهو ان من ظهر لنا انه محتال فكمن ظهر لنا انه مكره ومن ادعى انه انما قصد الاحتيال فكمن ادعى انه مكره وان كان ظهور أمر المكره أبين من ظهور أمر المحتال.
فصل حكم عقود الهازل
وأما الهازل فهو الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه وحقيقته بل على وجه اللعب ونقيضه الجاد فاعل من الجد بكسر الجيم وهو نقيض الهزل وهو مأخوذ من جد فلان إذا عظم واستغنى وصار ذا حظ والهزل من هزل إذا ضعف وضؤل نزل الكلام الذي يراد معناه وحقيقته بمنزلة صاحب الحظ والبخت والغنى والذي لم يرد معناه وحقيقته بمنزلة الخالي من ذلك إذ قوام الكلام بمعناه وقوام الرجل بحظه وماله وقد جاء فيه حديث أبي هريرة المشهور عن النبي ﷺ: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" رواه أهل السنن وحسنه الترمذي وفي مراسيل الحسن عن النبي ﷺ: "من نكح لاعبا أو طلق لاعبا أو اعتق لاعبا فقد جاز" وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أربع جائزات إذا تكلم بهن الطلاق والعتاق والنكاح والنذر" وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: "ثلاثة لا لعب فيهن الطلاق والعتاق والنكاح" وقال أبو الدرداء: "ثلاث اللعب فيهن كالجد الطلاق والعتاق والنكاح" وقال ابن مسعود النكاح جده ولعبه سواء ذكر ذلك أبو حفص العكبري.
فصل عقود الهازل واختلاف الفقهاء في نفاذها
فأما طلاق الهازل فيقع عند الجمهور وكذلك نكاحه صحيح كما صرح به النص وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين وهو قول الجمهور وحكاه أبو حفص أيضا عن أحمد وهو قول أصحابه وقول طائفة من أصحاب الشافعي وذكر بعضهم ان الشافعي نص على أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه ومذهب مالك الذي رواه ابن القاسم عنه وعليه العمل عند أصحابه ان هزل النكاح والطلاق لازم بخلاف البيع وروى عنه علي بن زياد ان نكاح الهازل لا يجوز قال: بعض أصحابه فان قام دليل على الهزل لم يلزمه عتق ولا نكاح ولا طلاق ولا شيء عليه من الصداق واما بيع الهازل وتصرفاته المالية فإنه لا يصح عند القاضي أبي يعلى وأكثر أصحابه وهو قول الحنفية والمالكية وقال أبو الخطاب في انتصاره يصح بيعه كطلاقه وخرجها بعض الشافعية على وجهين ومن قال: بالصحة قاس سائر التصرفات على النكاح والطلاق والرجعة والفقه فيه ان الهازل أتى بالقول غير ملتزم لحكمه وترتيب الاحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء أم ابى لأن ذلك لا يقف على اختياره وذلك ان الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه وقصد اللفظ المتضمن للمعنى قصد لذلك المعنى لتلازمهما إلا أن يعارضه قصد آخر كالمكره والمخادع المحتال فإنهما قصدا شيئا آخر غير معني القول وموجبه ألا ترى ان المكره قصد دفع العذاب عن نفسه ولم يقصد السبب ابتداء والمحلل قصد إعادتها إلى المطلق وذلك مناف لقصده موجب السبب وأما الهازل فقصد السبب ولم يقصد حكمه ولا ما ينافى حكمه فترتب عليه أثره.
فإن قيل: هذا ينتقض عليكم بلغو اليمين فإنه لا يترتب عليه حكمه.
قيل: اللاغي لم يقصد السبب وإنما جرى على لسانه من غير قصده فهو بمنزلة كلام النائم والمغلوب على عقله وأيضا فالهزل أمر باطن لا يعرف إلا من جهة الهازل فلا يقبل قوله في إبطال حق العاقد الآخر ومن فرق بين البيع وبابه والنكاح وبابه قال: الحديث والآثار تدل على أن العقود ما يكون جده وهزله سواء ومنها ما لا يكون كذلك وإلا لقال العقود كلها أو الكلام كله جده وهزله سواء واما من جهة المعنى فان النكاح والطلاق والرجعة والعتق فيها حق لله تعالى اما العتق فظاهر واما الطلاق فإنه يوجب تحريم البضع ولهذا تجب إقامة الشهادة فيه وان لم تطلبها الزوجة وكذلك في النكاح فإنه يفيد حل ما كان حراما وحرمة ما كان حلالا وهو التحريم الثابت بالمصاهرة ولهذا لا يستباح إلا بالمهر وإذا كان كذلك لم يكن للعبد مع تعاطي السبب الموجب لهذه الأحكام أن لا يرتب عليها موجباتها كما ليس له ذلك في كلمات الكفر إذا هزل بها كما صرح به القرآن فإن الكلام المتضمن لحق الله لا يمكن قوله مع رفع ذلك الحق إذ ليس للعبد ان يهزل مع ربه ولا يستهزيء بآياته ولا يتلاعب بحدوده وفي حديث أبي موسى ما بال اقوام يلعبون بحدود الله ويستهزوءن بآياته وذلك في الهازلين يعني والله أعلم يقولونها لعبا غير ملتزمين لاحكامها وحكمها لازم لهم وهذا بخلاف البيع وبابه فإنه تصرف في المال الذي هو محض حق الآدمي ولهذا يملك بذله بعوض وغير عوض والإنسان قد يلعب مع الإنسان وينبسط معه فإذا تكلم على هذا الوجه لم يلزمه حكم الجاد لأن المزاح معه جائز.
وحاصل الأمر ان اللعب والهزل والمزاح في حقوق الله تعالى غير جائز فيكون جد القول وهزله سواء بخلاف جانب العباد ألا ترى ان النبي ﷺ كان يمزح مع الصحابة ويباسطهم وأما مع ربه تعالى فيجد كل الجد ولهذا قال: للأعرابي يمازحه: "من يشتري مني العبد" فقال: تجدني رخيصا يا رسول الله فقال: "بل أنت عند الله غال" وقصد ﷺ انه عبد الله والصيغة صيغة استفهام وهو ﷺ كان يمزح ولايقول إلا حقا ولو ان رجلا قال: من يتزوج امي أو اختي لكان من أقبح الكلام وقد كان عمر رضي الله عنه يضرب من يدعو امرأته اخته وقد جاء في ذلك حديث مرفوع رواه أبو داود ان رجلا قال: لامرأته يا أخته فقال النبي ﷺ: "أختك هي إنما جعل إبراهيم ذلك حاجة لا مزاحا".
ومما يوضحه أن عقد النكاح يشبه العبادات في نفسه بل هو مقدم على نفلها ولهذا يستحب عقده في المساجد وينهى عن البيع فيها ومن يشترط له لفظ بالعربية راعى فيه ذلك الحاقا له بالاذكار المشروعة ومثل هذا لا يجوز الهزل به فإذا تكلم به رتب الشارع عليه حكمه وإن لم يقصده بحكم ولاية الشارع على العبد فالمكلف قصد السبب والشارع قصد الحكم فصار مقصودين كلاهما.
شريعة الإسلام خير الشرائع
وقد ظهر بهذا ان ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة فإنه ﷺ أمر ان يقاتل الناس حتى يدخلوا في الإسلام ويلتزموا طاعة لله ورسوله ولم يؤمر ان ينقب عن قلوبهم ولا أن يشق بطونهم بل يجرى عليهم احكام الله في الدنيا إذا دخلوا في دينه ويجرى أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونياتهم فأحكام الدنيا على الإسلام وأحكام الآخرة على الإيمان ولهذا قبل إسلام الأعراب ونفى عنهم أن يكونوا مؤمنين وأخبر أنه لا ينقصهم مع ذلك من ثواب طاعتهم لله ورسوله شيئا وقبل إسلام المنافقين ظاهرا وأخبر أنه لا ينفعهم يوم القيامة شيئا وأنهم في الدرك الأسفل من النار.
فأحكام الرب تعالى جارية على ما يظهر للعباد ما لم يقم دليل على أن ما أظهروه خلاف ما أبطنوه كما تقدم تفصيله وأما قصة الملاعن فالنبي ﷺ إنما قال بعد أن ولدت الغلام على شبه الذي رميت به: "لولا مامضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" فهذا والله أعلم إنما أراد به لولا حكم الله بينهما باللعان لكان شبه الولد بمن رميت به يقتضى حكما آخر غيره ولكن حكم الله باللعان ألغي حكم الشبه فإنهما دليلان وأحدهما أقوى من الآخر فكان العمل به واجبا وهذا كما لو تعارض دليل الفراش ودليل الشبه فإنا نعمل دليل الفراش ولا نلتفت إلى الشبه بالنص والإجماع فأين في هذا ما يبطل المقاصد والنيات والقرائن التي لا معارض لها وهل يلزم من بطلان الحكم بقرينة قد عارضها ما هو أقوى منها بطلان الحكم بجميع القرائن وسيأتي دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وجمهور الأئمة على العمل بالقرائن واعتبارها في الأحكام.
وأما إنفاذه للحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب فليس في الممكن شرعا غير هذا وهذا شأن عامة المتداعيين لا بد أن يكون أحدهما محقا والآخر مبطلا وينفذ حكم الله عليهما تارة بإثبات حق المحق وإبطال باطل المبطل وتارة بغير ذلك إذا لم يكن مع المحق دليل.
وأما حديث ركانة لما طلق امرأته ألبتة وأحلفه النبي ﷺ أنه إنما أراد واحدة فمن أعظم الأدلة على صحة هذه القاعدة وان الاعتبار في العقود بنيات أصحابها ومقاصدهم وإن خالفت ظواهر ألفاظهم فإن لفظ ألبتة يقتضى أنها قد بانت منه وانقطع التواصل الذي كان بينهما بالنكاح وأنه لم يبق له عليها رجعة بل بانت منه ألبتة كما يدل عليه لفظ ألبتة لغة وعرفا ومع هذا فردها عليه وقبل قوله أنها واحدة مع مخالفة الظواهر اعتمادا على قصده ونيته فلولا اعتبار القصود في العقود لما نفعه قصده الذي يخالف ظاهر لفظه مخالفة ظاهرة بينة فهذا الحديث أصل لهذه القاعدة وقد قيل: منه في الحكم ودينه فيما بينه وبين الله فلم يقض عليه بما أظهر من لفظه لما أخبره بأن نيته وقصده كان خلاف ذلك.
وأما قوله إن النبي ﷺ أبطل في حكم الدنيا استعمال الدلالة التي لا يوجد أقوى منها يعني دلالة الشبه فإنما أبطلها بدلالة أقوى منها وهي اللعان كما أبطلها مع قيام دلالة الفراش واعتبرها حيث لم يعارضها مثلها ولا أقوى منها في إلحاق الولد بالقافة وهي دلالة الشبه فأين في هذا إلغاء الدلالات والقرائن مطلقا.
أحكام الدنيا تجري على الأسباب
وأما قوله: إنه لم يحكم في المنافقين بحكم الكفر مع الدلالة التي لا أقوى منها وهي خبر الله تعالى عنهم وشهادته عليهم.
فجوابه ان الله تعالى لم يجر أحكام الدنيا على علمه في عباده وإنما أجراها على الأسباب التي نصبها أدلة عليها وإن علم سبحانه ونعالى أنهم مبطلون فيها مظهرون لخلاف ما يبطنون وإذا أطلع الله رسوله على ذلك لم يكن ذلك مناقضا لحكمه الذي شرعه ورتبه على تلك الأسباب كما رتب على المتكلم بالشهادتين حكمه وأطلع رسوله وعباده المؤمنين على أحوال كثير من المنافقين وأنهم لم يطابق قولهم اعتقادهم وهذا كما اجرى حكمه على المتلاعنين ظاهرا ثم أطلع رسوله والمؤمنين على حال المرأة بشبه الولد لمن رميت به وكما قال: إنما أقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار وقد يطلعه الله على حال آخذ ما لا يحل له أخذه ولا يمنعه ذلك من إنفاذ الحكم وأما الذي قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود فليس فيه ما يدل على القذف لا صريحا ولا كناية وإنما أخبره بالواقع مستفتيا عن حكم هذا الولد أيستلحقه مع مخالفة لونه للونه أم ينفيه فأفتاه النبي ﷺ وقرب له الحكم بالشبه الذي ذكره ليكون أذعن لقبوله وانشراح الصدر له ولا يقبله على إغماض فأين في هذا ما يبطل حد القذف بقول من يشاتم غيره أما أنا فلست بزان وليست امي بزانية ونحو هذا من التعريض الذي هو أوجع وانكى من التصريح وأبلغ في الأذى وظهوره عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح فهذا لون وذلك لون وقد حد عمر بالتعريض في القذف ووافقه الصحابة رضي الله عنهم أجعين وأما قوله رحمه الله إنه استشار الصحابة فخالفه بعضهم فإنه يريد ما رواه عن مالك عن أبي الرجال عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب فقال أحدهما للآخر والله ما أنا بزان ولا أمي بزانية فاستشار في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال قائل: مدح أباه وأمه وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن تجلده الحد فجلده عمر الحد ثمانين وهذا لا يدل على أن القائل الأول خالف عمر فإنه لما قيل: له إنه قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا فهم أنه أراد القذف فسكت وهذا إلى الموافقة أقرب منه إلى المخالفة وقد صح عن عمر من وجوه أنه حد في التعريض فروى معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن عمر كان يحد في التعريض بالفاحشة وروى ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن صفوان وأيوب عن عمر أنه حد في التعريض وذكر أبو عمر ان عثمان كان يحد في التعريض وذكره ابن أبي شيبة وكان عمر بن عبد العزيز يرى الحد في التعريض وهو قول أهل المدينة والأوزاعي وهو محض القياس كما يقع الطلاق والعتق والوقف والظهار بالصريح والكتابة واللفظ إنما وضع لدلالته على المعنى فإذا ظهر المعنى غاية الظهور لم يكن في تغيير اللفظ كثير فائدة.
وأما قوله: من حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم لم يسلم من خلاف التنزيل والسنة فإنه يشير بذلك إلى قبول توبة الزنديق وحقن دمه بإسلامه وقبول توبة المرتد وإن ولد على الإسلام وهاتان مسألتان فيهما نزاع بين الأمة مشهور وقد ذكر الشافعي الحجة على قبول توبتهما ومن لم يقبل توبتهما يقول إنه لا سبيل إلى العلم بها فإن الزنديق قد علم أنه لم يزل مظهرا للإسلام فلم يتجدد له بإسلامه الثاني حال مخالفة لما كان عليه بخلاف الكافر الأصلي فإنه إذا أسلم تجدد له بالإسلام حال لم يكن عليها والزنديق إنما رجع إلى إظهار الإسلام وأيضا فالكافر كان معلنا لكفره غير مستتر به ولا مخف له فإذا أسلم تيقنا أنه أتى بالإسلام رغبة فيه لا خوفا من القتل والزنديق بالعكس فإنه كان مخفيا لكفره مستترا به فلم تؤاخذه بما في قلبه إذا لم يظهر عليه فإذا ظهر على لسانه وآخذناه به فإذا رجع عنه لم يرجع عن أمر كان مظهرا له غير خائف من إظهاره وإنما رجع خوفا من القتل وأيضا فإن الله تعالى سن في عباده انهم إذا رأوا بأسه لم ينفعهم الإسلام وهذا إنما أسلم عند معاينة البأس ولهذا لو جاء من تلقاء نفسه وأقر بأنه قال: كذا وكذا وهو تائب منه قبلنا توبته ولم نقتله وأيضا فإن الله تعالى سن في المحاربين أنهم إن تابوا من قبل القدرة عليهم قبلت توبتهم ولا تنفعهم التوبة بعد القدرة عليهم ومحاربة الزنديق للإسلام بلسانه أعظم من محاربة قاطع الطريق بيده وسنانه فإن فتنة هذا في الأموال والابدان وفتنة الزنديق في القلوب والايمان فهو أولى ألا تقبل توبته بعد القدرة عليه وهذا بخلاف الكافر الأصلي فإن أمره كان معلوما وكان مظهرا لكفره غير كاتم له والمسلمون قد أخذوا حذرهم منه وجاهروه بالعداوة والمحاربة وأيضا فإن الزنديق هذا دأبه دائما فلو قبلت توبته لكان تسليطا له على بقاء نفسه بالزندقة والالحاد وكلما قدر عليه أظهر الإسلام وعاد إلى ما كان عليه ولا سيما وقد علم انه امن بإظهار الإسلام من القتل فلا يزعه خوفه من المجاهرة بالزندقة والطعن في الدين ومسبة الله ورسوله فلا ينكف عدوانه عن الإسلام إلا بقتله وأيضا فإن من سب الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا فجزاؤه القتل حدا والحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة اتفاقا ولا ريب أن محاربة هذا الزنديق لله ورسوله وإفساده في الأرض أعظم محاربة وإفسادا فكيف تأتي الشريعة بقتل من صال عل عشرة دراهم لذمي أو على بدنه ولا تقبل توبته ولا تأتى بقتل من دأبه الصول على كتاب الله وسنة رسوله والطعن في دينه وتقبل توبته بعد القدرة عليه وأيضا فالحدود بحسب الجرائم والمفاسد وجريمة هذا أغلظ الجرائم ومفسدة بقائه بين أظهر المسلمين من أعظم المفاسد.
السر في قبول توبة الكافر دون الزنديق
وههنا قاعدة يجب التنبيه عليها لعموم الحاجة إليها وهي ان الشارع انما قبل توبة الكافر الأصلي من كفره بالإسلام لأنه ظاهر لم يعارضه ما هو أقوى منه فيجب العمل به لأنه مقتض لحقن الدم والمعارض منتف فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه فإظهاره بعد القدرة عليه للتوبة والإسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية ولاظنية أما انتفاء القطع فظاهر وأما انتفاء الظن فلأن الظاهر انما يكون دليلا صحيحا إذا لم يثبت ان الباطن بخلافه فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم ان الباطن بخلافه ولهذا اتفق الناس على أنه لا يجوز للحاكم ان يحكم بخلاف علمه وان شهد عنده بذلك العدول وإنما يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها وكذلك لو أقر إقرارا علم أنه كاذب فيه مثل أن يقول لمن هو أسن منه وهذا ابني لم يثبت نسبه ولا ميراثه اتفاقا وكذلك الأدلة الشرعية مثل خبر الواحد العدل والأمر والنهى والعموم والقياس إنما يجب اتباعها إذا لم يقم دليل أقوى منها يخالف ظاهرها.
وإذا عرف هذا فهذا الزنديق قد قام الدليل على فساد عقيدته وتكذيبه واستهانته بالدين وقدحه فيه فإظهاره الإقرار والتوبة بعد القدرة عليه ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا وهذا القدر قد بطلت دلالته بما أظهره من الزندقة فلا يجوز الاعتماد عليه لتضمنه إلغاء الدليل القوي وإعمال الدليل الضعيف الذي قد أظهر بطلان دلالته ولا يخفى على المنصف قوة هذا النظر وصحة هذا المأخذ وهذا مذهب أهل المدينة ومالك وأصحابه والليث بن سعد وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة وهو إحدى الروايات عن أحمد نصرها كثير من أصحابه بل هي أنص الروايات عنه وعن أبي حنيفة وأحمد انه يستتاب وهو قول الشافعي وعن أبي يوسف روايتان إحداهما انه يستتاب وهي الرواية الأولى عنه ثم قال: آخرا أقتله من غير استتابه لكن إن تاب قبل ان يقدر عليه قبلت توبته وهذا هو الرواية الثالثة عن أحمد.
ويالله العجب كيف يقاوم دليل إظهاره للإسلام بلسانه بعد القدرة عليه أدلة زندقته وتكررها منه مرة بعد مرة وإظهاره كل وقت للاستهانة بالإسلام والقدح في الدين والطعن فيه في كل مجمع مع استهانته بحرمات الله واستخفافه بالفرائض وغير ذلك من الأدلة ولا ينبغي لعالم قط ان يتوقف في قتل مثل هذا ولا تترك الأدلة القطعية لظاهر قد تبين عدم دلالته وبطلانها ولا تسقط الحدود عن أرباب الجرائم بغير موجب.
نعم لو أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال والاعمال ما يدل على حسن الإسلام وعلى التوبة النصوحة وتكرر ذلك منه لم يقتل كما قاله أبو يوسف وأحمد في إحدى الروايات وهذا التفصيل أحسن الأقوال في المسألة.
ومما يدل على أن توبة الزنديق بعد القدرة لا تعصم دمه قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} قال: السلف في هذه الآية أو بأيدينا بالقتل إن أظهرتم ما في قلوبكم وهو كما قالوا: لأن العذاب على ما يبطنونه من الكفر بأيدي المؤمنين لا يكون إلا بالقتل فلو قبلت توبتهم بعد ما ظهرت زنذقتهم لم يمكن المؤمنين ان يتربصوا بالزنادقة ان يصيبهم الله بأيديهم لأنهم كلما أرادوا ان يعذبوهم على ذلك أظهروا الإسلام فلم يصابوا بأيديهم قط والأدلة على ذلك كثيرة جدا.
وعند هذا فأصحاب هذا القول يقولون نحن أسعد بالتنزيل والسنة من مخالفينا في هذه المسألة المشنعين علينا بخلافها وبالله التوفيق.
وأما قوله ولا يفسد عقد إلا بالعقد نفسه ولا يفسد بشيء تقدمه ولا تأخره ولا بتوهم ولا أمارة عليه يريد أن الشرط المتقدم لا يفسد العقد إذا عرى صلب العقد عن مقارنته وهذا أصل قد خالفه فيه جمهور أهل العلم وقالوا لا فرق بين الشرط المتقدم والمقارن إذ مفسدة الشرط المتقدم لم تزل بتقدمه وإسلافه بل مفسدته مقارنا كمفسدته متقدما وأي مفسدة زالت بتقدم الشرط إذا كانا قد علما وعلم الله تعالى والحاضرون أنهما إنما عقدا على ذلك الشرط الباطل المحرم وأظهرا صورة العقد مطلقا وهو مقيد في الأمر بذلك الشرط المحرم فإذا اشترطا قبل العقد ان النكاح نكاح تحليل أو متعة أو شغار وتعاهدا على ذلك وتواطئا عليه ثم عقدا على ما اتفقا عليه وسكتا عن إعادة الشرط في صلب العقد اعتمادا على تقدم ذكره والتزامه لم يخرج العقد بذلك عن كونه عقد تحليل ومتعة وشغار حقيقة وكيف يعجز المتعاقدان اللذان يريدان عقدا قد حرمه الله ورسوله لوصف أن يشترطا قبل العقد إرادة ذلك الوصف وأنه هو المقصود ثم يسكتا عن ذكره في صلب العقد ليتم غرضهما وهل إتمام غرضهما إلا عين تفويت مقصود الشارع وهل هذه القاعدة وهى أن الشرط المتقدم لا يؤثر إلا فتح لباب الحيل بل هي أصل الحيل وأساسها وكيف تفرق الشريعة بين متماثلين من كل وجه لافتراقهما في تقدم لفظ وتأخره مع استواء العقدين في الحقيقة والمعنى والقصد وهل هذا الا من أقرب الوسائل والذرائع إلى حصول ما قصد الشارع عدمه وإبطاله وأين هذه القاعدة من قاعدة سد الذرائع إلى المحرمات ولهذا صرح أصحابها ببطلان سد الذارئع لما علموا انها مناقضة لتلك فالشارع سد الذرائع إلى المحرمات بكل طريق وهذه القاعدة توسع الطرق اليها وتنهجها وإذا تأمل اللبيب هذه القاعدة وجدها ترفع التحريم أو الوجوب مع قيام المعنى المقتضى لهما حقيقة وفي ذلك تأكيد للتحريم من وجهين من جهة ان فيها فعل المحرم وترك الواجب ومن جهة اشتمالها على التدليس والمكر والخداع والتوسل بشرع الله الذي أحبه ورضيه لعباده إلى نفس ما حرمه ونهى عنه ومعلوم انه لا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق بين في الحقيقة بحيث يظهر للعقول مضادة أحدهما للآخر والفرق في الصورة غير معتبر ولا مؤثر إذ الاعتبار بالمعاني والمقاصد في الأقوال والافعال فان الالفاظ إذا اختلفت عباراتها أو مواضعها بالتقدم والتأخر والمعنى واحد كان حكمها واحدا ولو اتفقت ألفاظها واختلفت معانيها كان حكمها مختلفا وكذلك الاعمال ومن تأمل الشريعة حق التأمل علم صحة هذا بالاضطرار فالأمر المحتال عليه بتقدم الشرط دون مقارنة صورته صورة الحلال المشروع ومقصوده الحرام الباطل فلا تراعى الصورة وتلغى الحقيقة والمقصود بل مشاركة هذا للحرام صورة ومعنى وإلحاقه به لاشتراكهما في القصد والحقيقة أولى من إلحاقه بالحلال المأذون فيه بمشاركته له في مجرد الصورة.
فصل فيمن لا يعتبر سد الذرائع والقصد في العقود
وقوله ولا تفسد العقود بأن يقال هذه ذريعة وهذه نية سوء إلى آخره فإشارة منه إلى قاعدتين إحداهما ان لا اعتبار بالذرائع ولا يراعى سدها والثانية أن القصود غير معتبرة في العقود والقاعدة المتقدمة ان الشرط المتقدم لا يؤثر وإنما التأثير للشرط الواقع في صلب العقد وهذه القواعد متلازمة فمن سد الذرائع اعتبر المقاصد وقال يؤثر الشرط متقدما ومقارنا ومن لم يسد الذرائع لم يعتبر المقاصد ولا الشروط المتقدمة ولا يمكن إبطال واحدة منها إلا بإبطال جميعها ونحن نذكر قاعدة سد الذرائع ودلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والميزان الصحيح عليها.
في سد الذرائع
لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضى إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منا بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له ومنعا أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به وحكمته تعالى وعلمه يأبي ذلك كل الإباء بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح له الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضا ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده وكذلك الاطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه والا فسد عليهم ما يرومون أصلاحه فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها والذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء.
ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره ليزول الالتباس فيه فنقول.
حكم الوسائل المؤدية إلى المقاصد
الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان أحدهما أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشرب المسكر المفضى إلى مفسدة السكر وكالقذف المفضى إلى مفسدة الفرية والزنا المفضى إلى اختلاط المياه وفساد الفراش ونحو ذلك فهذه افعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهرا غيرها والثاني ان تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه فالأول كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل أو يعقد البيع قاصدا به الربا أو يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك والثاني كمن يصلى تطوعا بغير سبب في اوقات النهي أو يسب ارباب المشركين بين أظهرهم أو يصلى بين يدى القبر لله ونحو ذلك ثم هذا القسم من الذرائع نوعان أحدهما ان تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته والثاني ان تكون مفسدته راجحة على مصلحته فههنا أربعة أقسام الأول وسيلة موضوعة للافضاء إلى المفسدة الثاني وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة الثالث وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية اليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها الرابع وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضى إلى المفسدة ومصلحتها ارجح من مفسدتها فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم ومثال الثالث الصلاة في اوقات النهى ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم وتزين المتوفي عنها في زمن عدتها وأمثال ذلك ومثال الرابع النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها ويعاملها وفعل ذوات الأسباب في اوقات النهي وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر ونحو ذلك فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجات في المصلحة وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة بقى النظر في القسمين الوسط هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما فنقول الدلالة على المنع من وجوه:
منع ما يؤدي إلى الحرام
الوجه الأول قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم لكونه ذريعة إلى سبهم لله تعالى وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز.
الوجه الثاني قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ} فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.
الوجه الثالث قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} الآية أمر تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة ولم يأمرهم بالإستئذان في غيرها وإن أمكن في تركه هذه المفسدة لندورها وقلة الإفضاء إليها فجعلت كالمقدمة.
الوجه الرابع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي ﷺ ويقصدون بها السب يقصدون فاعلا من الرعونة فنهى المسلمون عن قولها سدا لذريعة المشابهة ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي ﷺ تشبها بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون.
الوجه الخامس قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفرا وأعتاهم عليه لئلا يكون إغلاظ القول له مع أنه حقيقي به ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة فنهاهما عن الجائز لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى.
الوجه السادس أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد وأمرهم بالعفو والصفح لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإغضاء واحتمال الضيم ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة.
الوجه السابع أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها.
الوجه الثامن ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه متفق عليه ولفظ البخاري إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه" فجعل رسول الله ﷺ الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده.
الوجه التاسع أن النبي ﷺ كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه وقولهم إن محمدا يقتل أصحابه فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ومن لم يدخل فيه ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم ومصلحة التأليف أعطم من مصلحة القتل.
الوجه العاشر أن الله حرم الخمر لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل وهذا ليس مما نحن فيه لكن حرم القطرة الواحدة منها وحرم إمساكها للتخليل ونجسها لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب ثم بالغ في سد الذريعة فنهى عن الخليطين وعن شرب العصير بعد ثلاث وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به حسما لمادة قربان المسكر وقد صرح ﷺ بالعلة في تحريم القليل فقال: "لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه".
الوجه الحادي عشر أنه ﷺ حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع.
الوجه الثاني عشر أن الله تعالى أمر بغض البصر وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور.
الوجه الثالث عشر أن النبي ﷺ نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد وعن الصلاة إليها وعندها وعن إبقاد المصابيح عليها وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيدا وعن شد الرحال اليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدا للذريعة الوجه الرابع عشر أنه ﷺ نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود المشركين للشمس وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سدا لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد مع بعد هذه الذريعة فكيف بالذرائع القريبة.
الوجه الخامس عشر أنه ﷺ نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة كقوله إن اليهود والنصارى لايصبغون فخالفوهم وقوله إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم وقوله في عاشوراء خالفوا اليهود صوموا يوما قبله ويوما بعده وقوله لا تشبهوا بالأعاجم وروىالترميذي عنه ليس منا من تشبه بغيرنا وروى الإمام أحمد عنه: "من تشبه بقوم فهو منهم" وسر ذلك أن المشابهة في الهدى الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل.
الوجه السادس عشر أنه ﷺ حرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وقال إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم حتى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة كما علل به النبي ﷺ.
الوجه السابع عشر أنه حرم نكاح أكثر من أربع لأن ذلك ذريعة إلى الجور وقيل العلة فيه أنه ذريعة إلى كثرة المؤنة المفضية إلى أكل الحرام وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع وأباح الأربع وإن كان لا يؤمن الجور في اجتماعهن لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن فكانت مصلحة الإباحة أرجح من مفسدة الجور المتوقعة.
الوجه الثامن عشر أن الله تعالى حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها.
الوجه التاسع عشر: أن الله حرم عقد النكاح في حال العدة وفي الإحرام وإن تأخر الوطء إلى وقت الحل لئلا يتخذ العقد ذريعة إلى الوطء ولا ينتقض هذا بالصيام فإن زمنه قريب جدا فليس عليه كلفة في صبره بعض يوم إلى الليل.
الوجه العشرون أن الشارع حرم الطيب على المحرم لكونه من أسباب دواعي الوطء فتحريمه من سد باب الذريعة.
الوجه الحادي والعشرون: أن الشارع اشترط للنكاح شروطا زائدة على العقد تقطع عنه شبه السفاح كالاعلام والولي ومنع المرأة أن تليه بنفسها وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من جحد الفراش ثم أكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة تزيد على مقدار الاستبراء وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة زائدة على مجرد الاستمتاع فعلم أن الشارع جعله سببا ووصله بين الناس بمنزلة الرحم كما جمع بينهما في قوله وجعله نسبا وصهرا وهذه المقاصد تمنع شبهة بالسفاح وتبين أن نكاح المحلل بالسفاح أشبه منه بالنكاح.
الوجه الثاني والعشرون: أن النبي ﷺ نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين وهذا هو معنى الربا فانظر إلى حمايته الذريعة إلى ذلك بكل طريق وقد احتج بعض المانعين لمسألة مد عجوة بأن قال: إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار في منديل بألف وخمسمائة مفردة قال: وهذا ذريعة إلى الربا.
ثم قال: يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة وهذا هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله ﷺ وهو من أقرب الذرائع إلى الربا ويلزم من لم يسد الذرائع أن يخالف النصوص ويجيز ذلك فكيف يترك أمرا ويرتكب نظيره من كل وجه.
الوجه الثالث والعشرون أن الآثار المتظاهرة في تحريم العينة عن النبي ﷺ وعن الصحابة تدل على المنع من عود السلعة إلى البائع وإن لم يتواطئا على الربا وما ذاك إلا شدا للذريعة.
الوجه الرابع والعشرون أن النبي ﷺ منع المقرض من قبول الهدية وكذلك أصحابه حتى يحسبها من دينه وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا فإنه يعود إليه ماله وأخذ الفضل الذي استفاده بسبب القرض.
الوجه الخامس والعشرون أن الوالي والقاضي والشافع ممنوع من قبول الهدية وهو أصل فساد العالم وإسناد الأمر إلى غير أهله وتولية الخونة والضعفاء والعاجزين وقد دخل بذلك من الفساد مالا يحصيه إلا الله وما ذاك إلا لأن قبول الهدية ممن لم تجر عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته وحبك الشيء يعمى ويصم فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته مكافأة له مقرونة بشره وإغماض عن كونه لا يصلح.
الوجه السادس والعشرون أن السنة مضت بأنه ليس للقاتل من الميراث شيء إما عمدا كما قال: مالك وإما مباشرة كما قال: أبو حنيفة وإما قتلا مضمونا بقصاص أودية أو كفارة وإما قتلا بغير حق وإما قتلا مطلقا كما هي أقوال في مذهب الشافعي وأحمد والمذهب الأول وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا وما ذاك.
لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسد الشارع الذريعة بالمنع.
الوجه السابع والعشرون أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد إن لم يقصد الحرمان لأن الطلاق ذريعة وأما إذا لم يتهم ففيه خلاف معروف مأخذه أن المرض أوجب تعلق حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سدا للذريعة بالكلية وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين.
الوجه الثامن والعشرون أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجميع بالواحد وإن كان أصل القصاص يمنع ذلك لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء.
الوجه التاسع والعشرون أن النبي ﷺ نهى أن تقطع الأيدي في الغزو لئلا يكون ذريعة إلى إلحاق المحدود بالكفار ولهذا لاتقام الحدود في الغزو كما تقدم.
الوجه الثلاثون: أن النبي ﷺ نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن تكون له عادة توافق ذلك اليوم ونهى عن صوم يوم الشك وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه وكذلك حرم صوم يوم العيد تمييزا لوقت العبادة عن غيره لئلا يكون ذريعة إلى الزيادة في الواجب كما فعلت النصارى ثم أكد هذا الغرض باستحباب تعجيل الفطر وتأخير السحور واستحباب تعجيل الفطر في يوم العيد قبل الصلاة وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها فكره للإمام أن يتطوع في مكانه وأن يستديم جلوسه مستقبل القبلة كل هذا سدا للباب المفضى إلى أن يزاد في الفرض ما ليس منه.
الوجه الحادي والثلاثون: أنه ﷺ كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله تعالى وأحب لمن صلى إلى عود أو عمود أو شجرة أو نحو ذلك أن يجعله على أحد جانبيه ولا يصمد إليه صمدا قطعا لذريعة التشبه بالسجود إلى غير الله تعالى.
الوجه الثاني والثلاثون انه شرع الشفعة وسلط الشريك على انتزاع الشقص من يد المشترى سد لذريعة المفسدة المتعلقة بالشركة والقسمة.
الوجه الثالث والثلاثون ان الحاكم منهى عن رفع أحد الخصمين على الآخر وعن الاقبال عليه دونه وعن مشاورته والقيام له دون خصمه لئلا يكون ذريعة إلى انكسار قلب الآخر وضعفه عن القيام بحجته وثقل لسانه بها.
الوجه الرابع والثلاثون أنه ممنوع من الحكم بعلمه لئلا يكون ذلك ذريعة إلى حكمه بالباطل ويقول حكمت بعلمي.
الوجه الخامس والثلاثون ان الشريعة منعت من قبول شهادة العدو على عدوه لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدوه بالشهادة الباطلة.
الوجه السادس والثلاثون ان الله تعالى منع رسوله حيث كان بمكة من الجهر بالقرآن حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به ومن أنزل عليه.
الوجه السابع والثلاثون ان الله تعالى أوجب الحدود على مرتكبي الجرائم التي تتقضاها الطباع وليس عليها وازع طبعى والحدود عقوبات لارباب الجرائم في الدنيا كما جعلت عقوبتهم في الآخرة بالنار إذا لم يتوبوا ثم إنه تعالى جعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له فمن لقيه تائبا توبة نصوحا لم يعذبه مما تاب منه وهكذا في أحكام الدنيا إذا تاب توبة نصوحا قبل رفعه إلى الإمام سقط عنه في أصح قولى العلماء فإذا رفع إلى الامام لم تسقط توبته عنه الحد لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تعطيل حدود الله إذ لا يعجز كل من وجب عليه الحد ان يظهر التوبة ليتخلص من العقوبة وإن تاب توبة نصوحا سدا لذريعة السكوت بالكلية.
الوجه الثامن والثلاثون: ان الشارع أمر بالاجتماع على إمام واحد في الامامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الخوف مع كون صلاة الخوف بإمامين أقرب إلى حصول صلاة الامن وذلك سدا لذريعة التفريق والاختلاف والتنازع وطلبا لاجتماع القلوب وتألف الكلمة وهذا من اعظم مقاصد الشرع وقد سد الذريعة إلى ما يناقضه بكل طريق حتى في تسوية الصف في الصلاة لئلا تختلف القلوب وشواهد ذلك أكثر من أن تذكر.
الوجه التاسع والثلاثون: أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم وكراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم وليلتها بالقيام سدا لذريعة اتخاذ شرع لم يأذن به الله من تخصيص زمان أو مكان بما لم يخصه به ففي ذلك وقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب.
الوجه الأربعون أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا تفضى مشابهتهم إلى ان يعامل الكافر معاملة المسلم فسدت هذه الذريعة بإلزامهم التميز عن المسلمين.
الوجه الحادي والأربعون: أن النبي ﷺ أمر ناجية بن كعب الأسلمى وقد أرسل معه هدية إذا عطب منه شيء دون المحل ان ينحره ويصبغ نعله التي قلده بها في دمه ويخلى بينه وبين الناس ونهاه ان ياكل منه هو أو أحد من أهل رفقته قالوا: وما ذاك إلا لأنه لو جاز ان يأكل منه أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعاه ذلك إلى ان يقصر في علفها وحفظها لحصول غرضه من عطبها دون المحل كحصوله بعد بلوغ المحل من أكله هو ورفقته وإهدائهم إلى أصحابهم فإذا أيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى حفظها حتى تبلغ محلها وأحسم لمادة هذا الفساد وهذا من ألطف أنواع سد الذرائع.
الوجه الثاني والأربعون: ان النبي ﷺ أمر الملتقط ان يشهد على اللقطة وقد علم انه امين وما ذاك إلا لسد الذريعة الطمع والكتمان فإذا بادر وأشهد كان احسم لمادة الطمع والكتمان وهذا أيضا من ألطف أنواعها.
الوجه الثالث والأربعون: انه ﷺ قال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد وذم الخطيب الذي قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن عصاهما فقد غوى سدا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ وحسما لمادة الشرك حتى في اللفظ ولهذا قال: للذي قال: له ما شاء الله وشئت أجعلتني لله ندا فحسم مادة الشرك وسد الذريعة إليه في اللفظ كما سدها في الفعل والقصد فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله أكمل صلاة وأتمها وأزكاها وأعمها.
الوجه الرابع والأربعون: انه ﷺ وآله وسلم أمر المأمومين ان يصلوا قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا وقد تواتر عنه ذلك ولم يجيء عنه ما ينسخه وما ذاك إلا سدا لذريعة مشابهة الكفار حيث يقومون على ملوكهم وهم قعود كما علله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وهذا التعليل منه يبطل قول من قال إنه منسوخ مع ان ذلك دعوى لا دليل عليها.
الوجه الخامس والأربعون انه ﷺ أمر المصلي بالليل إذا نعس ان يذهب فليرقد وقال لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه فأمره بالنوم لئلا تكون صلاته في تلك الحال ذريعة إلى سبه لنفسه وهو لا يشعر لغلبه النوم.
الوجه السادس والأربعون: ان الشارع صلوات الله عليه نهى ان يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يستام على سوم أخيه أو يبيع أخيه وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى التباغض والتعادي فقياس هذا انه لايستأجر على إجارته ولا يخطب ولاية ولا منصبا على خطبته وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى وقوع العداوة والبغضاء بينه وبين أخيه.
الوجه السابع والأربعون انه نهى عن البول في الجحر وما ذاك إلا لأنه قد يكون ذريعة إلى خروج حيوان يؤذيه وقد يكون من مساكن الجن فيؤذيهم بالبول فربما اذوه.
الوجه الثامن والأربعون انه نهى عن البراز في قارعة الطريق والظل والموارد لأنه ذريعة لاستجلاب اللعن كما علل به ﷺ بقوله اتقوا الملاعن الثلاث وفي لفظ اتقوا اللاعنين قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله قال: "الذي يتخلى في طريق الناس وفي ظلهم".
الوجه التاسع والأربعون انه نهاهم إذا أقيمت الصلاة ان يقوموا حتى يروه قد خرج لئلا يكون ذلك ذريعة إلى قيامهم لغير الله ولو كانوا إنما يقصدون القيام للصلاة لكن قيامهم قبل خروج الإمام ذريعة ولا مصلحة فيها فنهوا عنه.
الوجه الخمسون انه نهى ان توصل صلاة بصلاة الجمعة حتى يتكلم أو يخرج لئلا يتخذ ذريعة إلى تغيير الفرض وان يزاد فيه ما ليس منه قال السائب بن يزيد: "صليت الجمعة في المقصورة فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت فلما دخل معاوية ارسل إلي فقال: لا تعد لما فعلت إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج فإن النبي ﷺ أمر بذلك ألا توصل الصلاة حتى يتكلم أو يخرج".
الوجه الحادي والخمسون: انه أمر من صلى في رحله ثم جاء إلى المسجد ان يصلي مع الامام وتكون له نافلة لئلا يتخذ قعوده والناس يصلون ذريعة إلى إساءة الظن به وانه من المصلين.
الوجه الثاني والخمسون انه نهى ان يسمر بعد العشاء الآخرة إلى المصل أو مسافر وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وما ذاك إلا لأن النوم قبلها ذريعة إلى تفويتها والسمر بعدها ذريعة إلى تفويت قيام الليل فإن عارضه مصلحة راجحة كالسمر في العلم ومصالح المسلمين لم يكره.
الوجه الثالث والخمسون انه نهى النساء إذا صلين مع الرجال ان يرفعن رءوسهن قبل الرجال لئلا يكون ذريعة منهن إلى رؤية عورات الرجال من وراء الأزر كما جاء التعليل بذلك في الحديث.
الوجه الرابع والخمسون انه نهى الرجل ان يتخطى المسجد الذي يليه إلى غيره كما رواه بقية عن المجاشع بن عمرو عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ: "ليصل أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتخطاه إلى غيره" وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى هجر المسجد الذي يليه وإيحاش صدر الإمام وإن كان الإمام لايتم الصلاة أو يرمي ببدعة أو يعلن بفجور فلا بأس بتخطيه إلى غيره.
الوجه الخامس والخمسون انه نهى الرجل بعد الاذان ان يخرج من المسجد حتى يصلي لئلا يكون خروجه ذريعةالى اشتغاله عن الصلاة جماعة كما قال: عمار لرجل رآه قد خرج بعد الاذان اما هذا فقد عصى أبا القاسم.
الوجه السادس والخمسون انه نهى عن الاحتباء يوم الجمعة كما رواه أحمد في مسنده من حديث سهل بن معاذ عن أبيه: "نهى رسول الله ﷺ عن الاحتباء يوم الجمعة" وما ذاك إلا انه ذريعة إلى النوم.
الوجه السابع والخمسون: انه نهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد ان تتطيب أو تصيب بخورا وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال وتشوفهم اليها فإن رائحتها وزينتها وصورتها وابداء محاسنها تدعو اليها فأمرها ان تخرج تفلة وان لا تتطيب وان تقف خلف الرجال وان لا تسبح في الصلاة إذا بابها شيء بل تصفق ببطن كفها على ظهر الأخرى كل ذلك سدا للذريعة وحماية عن المفسدة.
الوجه الثامن والخمسون: انه نهى ان تنعت المرأء المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها ولا يخفى أن ذلك سد للذريعة وحماية عن مفسدة وقوعها في قلبه وميله إليها بحضور صورتها في نفسه وكم ممن أحب غيره بالوصف قبل الرؤية.
الوجه التاسع والخمسون أنه نهى عن الجلوس بالطرقات وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى النظر إلى المحرم فلما أخبروه أنه لا بد لهم من ذلك قال: "أعطوا الطريق حقه" قالوا: وما حقه قال: "غض البصر وكف الأذى ورد السلام".
الوجه الستون: أنه نهى أن يبيت الرجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحا أو ذا رحم محرم وما ذاك إلا لأن المبيت عند الأجنبية ذريعة إلى المحرم.
الوجه الحادي والستون: أنه نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى تنقل عن مكانها وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى جحد البائع البيع وعدم إتمامه إذا رأى المشتري قد ربح فيها فيغره الطمع وتشح نفسه بالتسليم كما هو الواقع وأكد هذا المعنى بالنهي عن الربح مالم يضمن وهذا من محاسن الشريعة وألطف باب لسد الذرائع.
الوجه الثاني والستون: أنه نهى عن بيعتين في بيعة وهو الشرطان في البيع في الحديث الآخر وهو الذي لعاقده أوكس البيعتين أو الربا في الحديث الثالث وذلك سد لذريعة الربا فإنه إذا باعه السلعة بمائة مؤجلة ثم اشتراها منه بمائتين حالة فقد باع بيعتين في بيعة فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما وهذا من اعظم الذرائع إلى الربا وأبعد كل البعد من حمل الحديث على البيع بمائة مؤجلة أو خمسين حالة وليس ههنا ربا ولا جهالة ولا غرر ولا قمار ولا شيء من المفاسد فإنه خيره بين أي الثمنين شاء وليس هذا بأبعد من تخييره بعد البيع بين الأخذ والإمضاء ثلاثة أيام وأيضا فإنه فرق بين عقدين كل منهما ذريعة ظاهرة جدا إلى الربا وهما السلف والبيع والشرطان في البيع وهذان العقدان بينهما من النسب والإخاء والتوسل بهما إلى أكل الربا ما يقتضى الجمع بينهما في التحريم فصلوات الله وسلامه على من كلامه الشفاء والعصمة والهدى والنور.
الوجه الثالث والستون: أنه أمر أن يفرق بين الأولاد في المضاجع وأن لا يترك الذكر ينام مع الأنثى في فراش واحد لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى نسج الشيطان بينهما المواصلة المحرمة بواسطة اتحاد الفراش ولا سيما مع الطول والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه وهو لايشعر وهذا أيضا من ألطف سد الذرائع.
الوجه الرابع والستون: أنه نهى أن يقول الرجل خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي سدا لذريعة اعتياد اللسان للكلام الفاحش وسدا لذريعة اتصاف النفس بمعنى هذا اللفظ فإن الألفاظ تتقاضى معانيها وتطلبها بالمشاكلة والمناسبة التي بين اللفظ والمعنى ولهذا قل من تجده يعتاد لفظا إلا ومعناه غالب عليه فسد رسول الله ﷺ ذريعة الخبث لفظا ومعنى وهذا أيضا من ألطف الباب.
الوجه الخامس والستون: أنه نهى الرجل أن يقول لغلامه وجاريته عبدي وأمتي ولكن يقول فتاي وفتاتي ونهى أن يقول لغلامه وضىء ربك أطعم ربك سدا لذريعة الشرك في اللفظ والمعنى وإن كان الرب ههنا هو المالك كرب الدار ورب الإبل فعدل عن لفظ العبد والأمة إلى لفظ الفتى والفتاة ومنع من إطلاق لفظ الرب على السيد حماية لجانب التوحيد وسدا لذريعة الشرك.
الوجه السادس والستون: أنه نهى المرأة أن تسافر بغير محرم وما ذاك إلا أن سفرها بغير محرم قد يكون ذريعة إلى الطمع فيها والفجور بها.
الوجه السابع والستون: أنه نهى عن تصديق أهل الكتاب وتكذيبهم فيما يحدثون به لأن تصديقهم قد يكون ذريعة إلى التصديق بالباطل وتكذيبهم قد يكون ذريعة إلى التكذيب بالحق كما علل به في نفس الحديث.
الوجه الثامن والستون أنه نهى أن يسمى عبده بأفلح ونافع ورباح ويسار لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى ما يكره من الطيرة بأن يقال ليس ههنا يسار ولا رباح ولا أفلح وإن كان إنما قصد اسم الغلام ولكن سدا لذريعة اللفظ المكروه الذي يستوحش منه السامع.
الوجه التاسع والستون: أنه نهى الرجل عن الدخول على النساء لأنه ذريعة ظاهرة.
الوجه السبعون: أنه نهى أن يسمى باسم برة لأنه ذريعة إلى تزكية النفس بهذا الاسم وإن كان إنما قصد العلمية.
الوجه الحادي والسبعون أنه نهى عن التداوي بالخمر وإن كانت مصلحة التداوي راجحة على مفسدة ملابستها سدا لذريعة قربانها واقتنائها ومحبة النفوس لها فحسم عليها المادة حتى في تناولها على وجه التداوي وهذا من أبلغ سد الذرائع.
الوجه الثاني والسبعون: أنه نهى أن يتناجى اثنان دون الثالث لأن ذلك ذريعة إلى حزنه وكسر قلبه وظنه السوء.
الوجه الثالث والسبعون: ان الله حرم نكاح الأمة على القادر على نكاح الحرة إذا لم يخش العنت لأن ذلك ذريعة إلى إرقاق ولده حتى لو كانت الأمة من الآيسات من الحبل والولادة لم تحل له سد الذريعة ولهذا منع الإمام أحمد الاسير والتاجر ان يتزوج في دار الحرب خشية تعريض ولده للرق وعلله بعلة أخرى وهي انه قد يمكنه منع العدو من مشاركته في زوجته.
الوجه الرابع والسبعون انه نهى ان يورد ممرض على مصح لأن ذلك قد يكون ذريعة اما إلى اعدائه واما إلى تأذيه بالتوهم والخوف وذلك سبب إلى إصابة المكروه له.
الوجه الخامس والسبعون انه نهى أصحابه عن دخول ديار ثمود إلا أن يكونوا باكين خشية ان يصيبهم مثل ما اصابهم فجعل الدخول من غير بكاء ذريعة إلى اصابة المكروه.
الوجه السادس والسبعون انه نهى الرجل ان ينظر إلى من فضل عليه في المال واللباس فإنه ذريعة إلى ازدرائه نعمة الله عليه واحتقاره بها وذلك سبب الهلاك.
الوجه السابع والسبعون انه نهى عن إنزاء الحمر على الخيل لأن ذلك ذريعة إلى قطع نسل الخيل أو تقليلها ومن هذا نهيه عن أكل لحومها ان صح الحديث فيه انما كان لأنه ذريعة إلى تقليلها كما نهاهم في بعض الغزوات عن نحر ظهورهم لما كان ذريعة إلى لحوق الضرر بهم بفقد الظهر.
الوجه الثامن والسبعون انه نهى من رأى رؤيا يكرهها يتحدث بها فإنه ذريعة إلى انتقالها من مرتبة الوجود اللفظي إلى مرتبة الوجود الخارجي كما انتقلت من الوجود الذهني إلىاللفظي وهكذا عامة الامور تكون في الذهن ثم تنتقل إلى الحس وهذا من ألطف سد الذرائع وانفعها ومن تأمل عامة الشر رآه متنقلا في درجات الظهور طبقا بعد طبق من الذهن إلى اللفظ إلى الخارج.
الوجه التاسع والسبعون: انه سئل عن الخمر تتخذ خلا فقال لا مع إذنه في خل الخمر الذي حصل بغير التخليل وما ذلك إلا سدا لذريعة امساكها بكل طريق اذ لو اذن في تخليلها لحبسها أصحابها لذلك وكان ذريعة إلى المحذور.
الوجه الثمانون: انه نهى ان يتعاطى السيف مسلولا وما ذاك الا انه ذريعة إلى الاصابة بمكروه ولعل الشيطان يعينه وينزع في يده فيقع المحذور ويقرب منه.
الوجه الحادى والثمانون: انه أمر المار في المسجد بنبال ان يمسك عن نصلها بيده لئلا يكون ذريعة إلى تأذى رجل مسلم بالنصال.
الوجه الثاني والثمانون: انه حرم الشياع وهو المفاخرة بالجماع لأنه ذريعة إلى تحريك النفوس والتشبه وقد لا يكون عند الرجل من يغنيه من الحلال فيتخطى إلى الحرام ومن هذا كان المجاهرون خارجين من عافية الله وهم المتحدثون بما فعلوه من المعاصي فإن السامع تتحرك نفسه إلى التشبه وفي ذلك من الفساد المنتشر مالا يعلمه إلا الله.
الوجه الثالث والثمانون أنه نهى عن البول في الماء الدائم وما ذاك إلا أن تواتر البول فيه ذريعة إلى تنجيسه وعلى هذا فلا فرق بين القليل والكثير وبول الواحد والعدد وهذا أولى من تفسيره بما دون القلتين أو بما يمكن نزحه فإن الشارع الحكيم لا يأذن للناس ان يبولوا في المياه الدأئمة إذا جاوزت القلتين أو لم يمكن نزحها فإن في ذلك من إفساد مياه الناس ومواردهم مالا تأتي به شريعة فحكمة شريعته اقتضت المنع من البول فيه قل أو كثر سدا لذريعة إفساده.
الوجه الرابع والثمانون أنه نهى ان يسافر بالقرآن إلى ارض العدو فإنه ذريعة إلى ان تناله ايديهم كما علل به في نفس الحديث.
الوجه الخامس والثمانون: انه نهى عن الاحتكار وقال لا يحتكر إلا خاطيء فإنه ذريعة إلى أن يضيق على الناس أقواتهم ولهذا لا يمنع من احتكار ما لا يضر الناس.
الوجه السادس والثمانون أنه نهى عن منع فضل الماء لئلا يكون ذريعة إلى منع فضل الكلأ كما علل به في نفس الحديث فجعله بمنعه من الماء مانعا من الكلأ لأن صاحب المواشي إذا لم يمكنه الشرب من ذلك الماء لم يتمكن من المرعى الذي حوله.
الوجه السابع والثمانون انه نهى عن اقامة حد الزنا على الحامل حتى تضع لئلا يكون ذلك ذريعة إلى قتل ما في بطنها كما قال في الحديث الآخر لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأمرت فتياني ان يحملوا معهم حزما من حطب فأخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة في الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار فمنعه من تحريق بيوتهم التي عصوا الله فيها بتخلفهم عن الجماعة كون ذلك ذريعة إلى عقوبة من لم يجب عليه حضور الجماعة من النساء والاطفال.
الوجه الثامن والثمانون: أنه نهى عن إدامة النظر إلى المجذومين وهذا والله أعلم لأنه ذريعة إلى ان يصابوا بإيذائهم وهي من ألطف الذرائع وأهل الطبيعة يعترفون به وهو جار على قاعدة الأسباب وأخبرني رجل من علمائهم انه جلس قرابة له يكحل الناس فرمد ثم بريء فجلس يكحلهم فرمد مرارا قال: فعلمت ان الطبيعة تنتقل وأنه من كثرة ما يفتح عينيه في اعين الرمد نقلت الطبيعة الرمد إلى عينيه وهذا لا بد معه من نوع استعداد وقد جبلت الطبيعة والنفس على التشبه والمحاكاة.
الوجه التاسع والثمانون: ان النبي ﷺ نهى الرجل ان ينحنى للرجل إذا لقيه كما يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم ممن لا علم له بالسنة بل يبالغون إلى أقصى حد الانحناء مبالغة في خلاف السنة جهلا حتى يصير أحدهم بصورة الراكع لأخيه ثم يرفع رأسه من الركوع كما يفعل إخوانهم من السجود بين يدى شيوخهم الأحياء والأموات أخذوا من الصلاة سجودها وأولئك ركوعها وطائفة ثالثة قيامها يقوم عليهم الناس وهم قعود كما يقومون في الصلاة فقاسمت الفرق الثلاث أجزاء الصلاة والمقصود أن النبي ﷺ نهى عن انحناء الرجل لأخيه سدا لذريعة الشرك كما نهى عن السجود لغير الله وكما نهاهم أن يقوموا في الصلاة على رأس الامام وهو جالس مع ان قيامهم عبادة لله تعالى فما الظن إذا كان القيام تعظيما للمخلوق وعبودية له فالله المستعان.
الوجه التسعون أنه حرم التفريق في الصرف وبيع الربوي بمثله قبل القبض لئلا يتخذ ذريعة إلى التأجيل الذي هو أصل باب الربا فحماهم من قربانه باشتراط التقابض في الحال ثم أوجب عليهم فيه التماثل وأن لايزيد أحد العوضين على الآخر إذا كانا من جنس واحد حتى لايباع مد جيد بمدين رديئين وإن كانا يساويانه سدا لذريعة ربا النساء الذي هو حقيقة الربا وأنه إذا منعهم من الزيادة مع الحلول حيث تكون الزيادة في مقابلة جودة أو صفة أو سكة أو نحوهما فمنعهم منها حيث لا مقابل لها إلا مجرد الأجل أولى فهذه هى حكمة تحريم ربا الفضل التي خفيت على كثير من الناس حتى قال: بعض المتأخرين لا يتبين لي حكمة تحريم ربا الفضل وقد ذكر الشارع هذة الحكمة بعينها فإنه حرمه سدا لذريعة ربا النساء فقال في حديث تحريم ربا الفضل فإنى أخاف عليكم الرما والرما هو الربا فتحريم الربا نوعان نوع حرم لما فيه من المفسدة وهو ربا النسيئة ونوع حرم تحريم الوسائل وسدا للذرائع فظهرت حكمة الشارع الحكيم وكمال شريعته الباهرة في تحريم النوعين ويلزم من لم يعتبر الذرائع ولم يأمر بسدها أن يجعل تحريم ربا الفضل تعبدا محضا لا يعقل معناه كما صرح بذلك صرح كثير منهم.
الوجه الحادي والتسعون: انه أبطل أنواعا من النكاح الذي يتراضى به الزوجان سدا لذريعة الزنا فمنها النكاح بلا ولى فإنه أبطله سدا لذريعة الزنا فإن الزاني لا يعجز أن يقول للمرأة أنكحيني نفسك بعشرة دراهم ويشهد عليها رجلين من أصحابه أو غيرهم فمنعها من ذلك سدا لذريعة الزنا ومن هذا تحريم نكاح التحليل الذي لا رغبة للنفس فيه في إمساك المرأة واتخاذها زوجة بل له وطر فيما يقضيه بمنزلة الزاني في الحقيقة وإن اختلفت الصورة ومن ذلك تحريم نكاح المتعة الذي يعقد فيه المتمتع على المرأة مدة يقضي وطره منها فيها فحرم هذة الأنواع كلها سدا لذريعة السفاح ولم يبح إلا عقدا مؤبدا يقصد فيه كل من الزوجين المقام مع صاحبه ويكون بإذن الولى وحضور الشاهدين أو ما يقوم مقامهما من الاعلان فإذا تدبرت حكمة الشريعة وتأملتها حق التأمل رأيت تحريم هذه الأنواع من باب سد الذرائع وهي من محاسن الشريعة وكمالها.
الوجه الثاني والتسعون: أنه المتصدق من شراء صدقته ولو وجدها تباع في السوق سدا لذريعة العود فيما خرج عنه ولو بعوضه فإن المتصدق إذا منع من تملك صدقته بعوضها فتملكه إياها بغيرعوض أشد منعا وأفطم للنفوس عن تعلقها بما خرجت عنه لله والصواب ما حكم به النبي ﷺ من المنع من شرائها مطلقا ولا ريب أن في تجويز ذلك ذريعة إلى التحليل علىالفقير بأن يدفع إليه صدقة ماله ثم يشتريها منه بأقل من قيمتها ويرى المسكين أنه قد حصل له شيء مع حاجته فتسمح نفسه بالبيع والله عالم بالأسرار فمن محاسن هذه الشريعة الكاملة سد الذريعة ومنع التصدق من شراء صدقته وبالله التوفيق.
الوجه الثالث والتسعون: أنه نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها لئلا يكون ذريعة إلى أكل مال المشتري بغير حق إذا كانت معرضة للتلف وقد يمنعها الله وأكد هذا الغرض بأن حكم للمشتري بالجائحة إذا تلفت بعد الشراء الجائز وكل هذا لئلا يظلم المشتري ويؤكل ماله بغير حق.
الوجه الرابع والتسعون أنه نهى الرجل بعد إصابة ما قدر له أن يقول لو أنى فعلت كذا لكان كذا وكذا وأخبر ان ذلك ذريعة إلى عمل الشيطان فإنه لا يجدي عليه إلا الحزن والندم وضيقة الصدر والسخط على المقدور واعتقاد أنه كان يمكنه دفع المقدور لو فعل ذلك وذلك يضعف رضاه وتسليمه وتفويضه وتصديقه بالمقدور وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وإذا أعرض القلب عن هذا انفتح له عمل الشيطان وما ذاك لمجرد لفظ لو بل لما قارنها من الامور القأئمة بقلبه المنافية لكمال الايمان الفاتحة لعمل الشيطان بل أرشد العبد في هذه الحال إلى ما هو أنفع له وهو الايمان بالقدر والتفويض والتسليم للمشيئة الإلهية وأنه ما شاء الله كان ولا بد فمن رضى فله الرضى ومن سخط فله السخط فصلوات الله وسلامه على من كلامه شفاء للصدور ونور للبصائر وحياة للقلوب وغذاء للأرواح وعلى آله فلقد أنعم به على عباده أتم نعمة ومن عليهم به أعظم منه فلله النعمة وله المنة وله الفضل وله الثناء الحسن.
الوجه الخامس والتسعون أنه ﷺ نهى عن طعام المتباريين وهما الرجلان يقصد كل منهما مباراة الآخر ومباهاته إما في التبرعات كالرجلين يصنع كل منهما دعوة يفتخر بها على الآخر ويباريه بها وإما في المعاوضات كالبائعين يرخص كل منهما سلعته لمنع الناس من الشراء من صاحبه ونص الإمام أحمد على كراهية الشراء من هؤلاء وهذا النهي يتضمن سد الذريعة من وجهين أحدهما ان تسليط النفوس على الشراء منهما وأكل طعامهما تفريح لهما وتقوية لقلوبهما وإغراء لهما على فعل ما كرهه الله ورسوله والثاني ان ترك الاكل من طعامهما ذريعة إلى امتناعهما وكفهما عن ذلك.
الوجه السادس والتسعون: أنه تعالى عاقب الذين حفروا الحفائر يوم الجمعة فوقع فيها السمك يوم السبت فأخذوه يوم الاحد ومسخهم الله قردة وخنازير وقيل إنهم نصبوا الشباك يوم الجمعة وأخذوا الصيد يوم الاحد وصورة الفعل الذي فعلوه مخالف لما نهوا عنه ولكنهم لما جعلوا الشباك والحفائر ذريعة إلى أخذ ما يقع فيها من الصيد يوم السبت نزلوا منزلة من اصطاد فيه إذ صورة الفعل لا اعتبارا بها بل بحقيقته وقصد فاعله ويلزم من يسد الذرائع ان لا يحرم مثل هذا كما صرحوا به في نظيره سواء وهو لو نصب قبل الاحرام شبكة فوقع فيها صيد وهو محرم جاز له أخذه بعد الحل وهذا جار على قواعد من لم يعتبر المقاصد ولم يسد الذرائع.
الوجه السابع والتسعون: قال الإمام أحمد: نهى رسول الله ﷺ عن بيع السلاح في الفتنة ولا ريب أن هذا سد لذريعة الإعانة على المعصية ويلزم من لم يسد الذرائع ان يجوز هذا البيع كما صرحوا به ومن المعلوم ان هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان وفي معنى هذا كل بيع أو إجاره أو معاوضة تعين على معصية الله كبيع السلاح للكفار والبغاة وقطاع الطريق وبيع الرقيق لمن يفسق به أو يؤاجره لذلك أو إجارة داره أو حانوته أو خانه لمن يقيم فيها سوق المعصية وبيع الشمع أو إجارته لمن يعصي الله عليه ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يبغضه الله ويسخطه ومن هذا عصر العنب لمن يتخذه خمرا وقد لعنه رسول الله ﷺ هو والمعتصر معا ويلزم من لم يسد الذرائع أن لا يلعن العاصر وأن يجوز له ان يعصر العنب لكل أحد ويقول القصد غير معتبر في العقد والذرائع غير معتبرة ونحن مطالبون في الظواهر والله يتولى السرائر وقد صرحوا بهذا ولا ريب في التنافى بين هذا وبين سنة رسول الله ﷺ.
الوجه الثامن والتسعون نهيه عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا أو جاروا ما أقاموا الصلاة سدا لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير بقتالهم كما هو الواقع فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف اضعاف ما هم عليه والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن وقال إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما سدا لذريعة الفتنة.
الوجه التاسع والتسعون جمع عثمان المصحف على حرف واحد من الاحرف السبعة لئلا يكون ذريعة إلى اختلافهم في القرآن ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم.
ولنقتصر على هذا العدد من الأمثلة الموافق لأسماء الله الحسنى التي من احصاها دخل الجنة تفاؤلا بأنه من أحصى هذه الوجوه وعلم انها من الدين وعمل بها دخل الجنة إذ قد يكون قد اجتمع له معرفة أسماء الرب تعالى ومعرفة أحكامه ولله وراء ذلك أسماء وأحكام.
وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف فإنه أمر ونهي والأمر نوعان أحدهما مقصود لنفسه والثاني وسيلة إلى المقصود والنهي نوعان أحدهما ما يكون المنهى عنه مفسدة في نفسه والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين.
فصل في تحريم الحيل
وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة فأن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن والمحتال يفتح الطريق اليها بحيلة فأين من يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرم إلى من يعمل الحيلة في التوصل إليه.
فهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها تدل على تحريم الحيل والعمل بها والإفتاء بها في دين الله ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحل محارم الله وأسقط فرائضه بالحيل كقوله: "لعن الله المحلل والمحلل له، لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها، لعن الله الراشي والمرتشي، لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده" ومعلوم ان الكاتب والشاهد انما يكتب ويشهد على الربا المحتال عليه ليتمكن من الكتابة والشهادة بخلاف ربا المجاهرة الظاهر ولعن في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها ومعلوم انه انما عصر عنبا ولعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وقرن بينهما وبين آكل الربا وموكله والمحلل والمحلل له في حديث ابن مسعود وذلك للقدر المشترك بين هؤلاء الاصناف وهو التدليس والتلبيس فإن هذه تظهر من الخلقة ما ليس فيها والمحلل يظهر من الرغبة ما ليس عنده وآكل الربا يستحله بالدليس والمخادعة فيظهر من عقد التبايع ما ليس له حقيقة فهذا يستحل الربا بالبيع وذلك يستحل الزنا باسم النكاح فهذا يفسد الأموال وذاك يفسد الأنساب وابن مسعود هو راوي هذا الحديث وهو راوي حديث ما ظهر الزنا والربا في قوم إلا أحلوا بأنفسهم العقاب والله تعالى مسخ الذين استحلوا محارمه بالحيل قردة وخنازير جزاء من جنس عملهم فإنهم لما مسخوا شرعه وغيروه عن وجهه مسخ وجوههم وغيرها عن خلقتها والله تعالى ذم أهل الخداع والمكر ومن يقول بلسانه ما ليس في قلبه وأخبر ان المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وأخبر عنهم بمخالفة ظواهرهم لبواطنهم وسرائرهم لعلانيتهم وأقوالهم لأفعالهم وهذا شأن أرباب الحيل المحرمة وهذه الأوصاف منطبقة عليهم فإن المخادعة هي الاحتيال والمراوغة بإظهار أمر جائز ليتوصل به إلى أمر محرم يبطنه ولهذا يقال طريق خيدع إذا كان مخالفا للقصد لا يفطن له ويقال للسراب الخيدع لأنه يخدع من يراه ويغره وظاهره خلاف باطنه ويقال للضب خادع وفي المثل أخدع من ضب لمراوغته ويقال سوق خادعة أي متلونة وأصله الاختفاء والستر ومنه المخدع في البيت فوازن بين قول القائل آمنا بالله وباليوم الآخر وأشهد ان محمدا رسول الله إنشاء للإيمان وإخبارا به وهو غير مبطن لحقيقة هذه الكلمة ولا قاصدا له ولا مطمئن به وإنما قاله متوسلا به إلى امنه وحقن دمه أو نيل غرض دنيوي وبين قول المرابي بعتك هذه السلعة بمائة وليس لواحد منهما غرض فيها بوجه من الوجوه وليس مبطنا لحقيقة هذه اللفظة ولا قاصدا له ولا مطمئنا به وإنما تكلم بها متوسلا إلى الربا وكذلك قول المحلل تزوجت هذه المرأة أو قبلت هذا النكاح وهو غير مبطن لحقيقة النكاح ولا قاصد له ولا مريد أن تكون زوجته بوجه ولا هي مريدة لذلك ولا الولى هل تجد بينهما فرقا في الحقيقة أو العرف فكيف يسمى أحدهما مخادعا دون الآخر مع أن قوله بعت واشتريت واقترضت وأنكحت وتزوجت غير قاصد به انتقال الملك الذي وضعت له هذه الصيغة ولا ينوي النكاح الذي جعلت له هذه الكلمة بل قصده ما ينافى مقصود العقد أو أمر آخر خارج عن أحكام العقد وهو عود المرأة إلى زوجها المطلق وعود السلعة إلى البائع بأكثر من ذلك الثمن بمباشرته لهذه الكلمات التي جعلت لها تمائق ومقاصد مظهر لإرداة حقائقها ومقاصدها ومبطنا لخلافه فالأول لفاق في أصل الدين وهذا نفاق في فروعه.
يوضح ذلك ما ثبت عن ابن عباس انه جاءه رجل فقال إن عمي طلق امرأته ثلاثا أيحلها له رجل فقال من يخادع الله يخدعه وصح عن أنس وعن ابن عباس أنهما سئلا عن العينة فقالا إن الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله فسميا ذلك خداعا كما سمى عثمان وابن عمر نكاح المحلل نكاح دلسة وقال أيوب السختياني في أهل الحيل يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان فلو أتوا الأمر عيانا كان أهون على وقال شريك بن عبد الله القاضي في كتاب الحيل هوكتاب المخادعة.
الأدلة على تحريم الحيل
وتلخيص هذا أن الحيل المحرمة مخادعة لله ومخادعة الله حرام أما المقدمة الأولى فإن الصحابة والتابعين وهم أعلم الأمة بكلام الله ورسوله ومعانيه سموا ذلك خداعا وأما الثانية فإن الله ذم أهل الخداع وأخبر ان خداعهم انما هو لانفسهم وان في قلوبهم مرضا وانه تعالى خادعهم فكل هذا عقوبة لهم ومدار الخداع على أصلين أحدهما إظهار فعل لغير مقصوده الذي جعل له الثاني إظهار قول الغير مقصوده الذي وضع له وهذا منطبق على الحيل المحرمة وقد عاقب الله تعالى المتحيلين على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بجد جنتهم عليهم وإهلاك ثمارهم فكيف بالمتحيل على إسقاط فرائض الله وحقوق خلقه ولعن أصحاب السبت ومسخهم قردة وخنازير على احتيالهم على فعل ما حرمه عليهم.
قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} قال: رموا الحيتان في السبت ثم أرجؤها في الماء فاستخرجوها بعد ذلك فطبخوها فأكلوها والله أوخم أكلة أكلة أسرعت في الدنيا عقوبة وأسرعت عذابا في الآخرة والله ما كانت لحوم الحيتان تلك بأعظم عند الله من دماء قوم مسلمين إلا أنه عجل لهؤلاء وأخر لهؤلاء.
وقوله: رموها في السبت يعني احتالوا على وقوعها في الماء يوم السبت كما بين غيره أنهم حفروا لها حياضا ثم فتحوها عشية الجمعة ولم يرد انهم باشروا رميها يوم السبت إذ لو اجترءوا على ذلك لاستخرجوها قال: شيخنا وهؤلاء لم يكفروا بالتوراة وبموسى وإنما فعلوا ذلك تأويلا واحتيالا ظاهره ظاهر الاتقاء وحقيقته حقيقة الاعتداء ولهذا والله أعلم مسخوا قردة لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان وفي بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه وهو مخالف له في الحد والحقيقة فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته مسخهم الله قردة تشبه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة جزاء وفاقا.
ويقوي ذلك ان بني اسرائيل أكلوا الربا وأموال الناس بالباطل وهو أعظم من أكل الصيد في يوم بعينه ولم يعاقب أولئك بالمسخ كما عوقب به من استحل الحرام بالحيلة لأن هؤلاء لما كانوا اعظم جرما كانت عقوبتهم أعظم فإنهم بمنزلة المنافقين يفعلون ما يفعلون ولا يعترفون بالذنب بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم بخلاف من أكل الربا وأموال الناس بالباطل والصيد المحرم عالما بتحريمه فإنه يقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم وخشيته لله واستغفاره وتوبته يوما ما واعترافه بأنه مذنب عاص وانكسار قلبه من ذل المعصية وازدراؤه على نفسه ورجاؤه لمغفرة ربه له وعد نفسه من المذنبين الخاطئين وهذا كله إيمان يفضى بصاحبه إلى خير بخلاف الماكر المخادع المحتال على قلب دين الله ولهذا حذر النبي ﷺ امته من ارتكاب الحيل فقال لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل وقد أخبر الله تعالى انه جعل هذه القرية أو هذه الفعلة التي فعلها بأهلها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين.
فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكاله ان يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال وان يعلم انه لا يخلصه من الله ما أظهره مكرا وخديعة من الأقوال والافعال وان يعلم ان لله يوما تكع فيه الرجال وتنسف فيه الجبال وتترادف فيه الاهوال وتشهد فيه الجوارح والاوصال وتبلى فيه السرائر وتظهر فيه الضمائر ويصير الباطل فيه ظاهرا والسر علانية والمستور مكشوفا والمجهول معروفا ويحصل ويبدو ما في الصدور كما يبعثر ويخرج ما في القبور وتجري أحكام الرب تعالى هنالك على القصود والنيات كما جرت أحكامه في هذه الدار على ظواهر الأقوال والحركات يوم تبيض وجوه بما في قلوب أصحابها من النصيحة لله ورسوله وكتابه وما فيها من البر والصدق والاخلاص للكبير المتعال وتسود وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والغش والكذب والمكر والاحتيال هنالك يعلم المخادعون أنهم لانفسهم كانوا يخدعون وبدينهم كانوا يلعبون وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.
ليس للعبد إلا ما نواه
وقد فصل قوله ﷺ: "إنما الاعمال بالنيات وإنما لامريء ما نوى" الأمر في هذه الحيل وأنواعها فأخبر ان الاعمال تابعة لمقاصدها ونياتها وأنه ليس للعبد من ظاهر قوله وعمله إلا ما نواه وأبطنه لا ما أعلنه وأظهره وهذا نص في أن من نوى التحليل كان محللا ومن نوى الربا بعقد التبايع كان مرابيا ومن نوى المكر والخداع كان ماكرا مخادعا ويكفى هذا الحديث وحده في إبطال الحيل ولهذا صدر به حافظ الأمة محمد بن إسماعيل البخاري إبطال الحيل والنبي ﷺ أبطل ظاهر هجرة مهاجر أم قيس بما أبطنه ونواه من إرادة أم قيس وقد قال: النبي ﷺ البيعان بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله فاستدل به الإمام أحمد وقال فيه إبطال الحيل وقد اشكل هذا على كثير من الفقهاء بفعل ابن عمر فإنه كان إذا أراد أن يلزم البيع مشى خطوات ولا إشكال بحمد الله في الحديث وهو من أظهر الأدلة على بطلان التحيل لإسقاط حق من له حق فإن الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أثبت خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين وليحصل تمام الرضي الذي شرطه تعالى فيه فإن العقد قد يقع بغته من غير ترو ولا نظر في القيمة فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حريما يتروى فيه المتبايعان ويعيدان النظر ويستدرك كل واحد منهما عيبا كان خفيا فلا أحسن من هذا الحكم ولا أرفق لمصلحة الخلق فلو مكن أحد المتعاقدين الغابن للآخر من النهوض في الحال والمبادرة إلى التفرق لفاتت مصلحة الآخر ومقصود الخيار بالنسبة إليه وهب انك أنت اخترت إمضاء البيع فصاحبك لم يتسع له وقت ينظر فيه ويتروى فنهوضك حيلة على إسقاط حقه من الخيار فلا يجوز حتى يخيره فلو فارق المجلس لغير هذه الحاجة أو صلاة أو غير ذلك ولم يقصد إبطال حق الآخر من الخيار لم يدخل في هذا التحريم ولا يقال هو ذريعة إلى إسقاط حق الآخر من الخيار لأن باب سد الذرائع متى فاتت به مصلحة راجحة أو تضمن مفسدة راجحة لم يلتفت إليه فلو منع العاقد من التفرق حتى يقوم الآخر لكان في ذلك إضرار به ومفسدة راجحة فالذي جاءت به الشريعة في ذلك أكمل شيء واوفقه للمصلحة والحكمة ولله الحمد.
وتأمل قوله: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" أي أسهلها وأقربها وإنما ذكر أدنى الحيل لأن المطلق ثلاثا مثلا من أسهل الحيل عليه ان يعطي بعض التيوس المستعارة عشرة دراهم ويستعيره لينزو على امرأته نزوة وقد طيبها له بخلاف الطريق الشرعي التي هي نكاح الرغبة فإنها يصعب معها عودها إلى الأول جدا وكذلك من أراد أن يقرض الفا بالف وخمسمائة فمن ادنى الحيل ان يعطيه الفا إلا درهما باسم القرض ويبيعه خرقة تساوي درهما بخمسمائة ولو أراد ذلك بالطريق الشرعي لتعذر عليه وكذلك حيلة اليهود بنصب الشباك يوم الجمعة واخذ ما وقع فيها يوم السبت من أسهل الحيل وكذلك إذابتهم الشحم وبيعه وأكل ثمنه.
وقال الإمام أحمد في مسنده ثنا أسود بن عامر ثنا أبو بكر بن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "اذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا اذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله عليهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم" ورواه أبو داود بإسناد صحيح إلى حيوة بن شريح المصري عن إسحاق بن عبد الرحمن الخراساني ان عطاء الخراساني حدثه ان نافعا حدثه عن ابن عمر قال: شيخنا رضي الله عنه وهذان إسنادان حسنان أحدهما يشد الآخر ويقويه فأما رجال الأول فأئمة مشاهير ولكن يخاف أن لا يكون الاعمش سمعه من عطاء أو ان عطاء لم يسمعه من ابن عمر فالإسناد الثاني يبين ان للحديث أصلا محفوظا عن ابن عمر فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور وحيوة بن شريح كذلك وأفضل واما إسحاق بن عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثل حيوة بن شريح والليث بن سعد ويحيى بن أيوب وغيرهم قال: فقد روينا من طريق ثالث من حديث السري بن سهل الجنديسابوري بإسناد مشهور إليه ثنا عبد الله بن رشيد ثنا عبد الرحمن عن ليث عن عطاء عن ابن عمر قال: لقد أتى علينا زمان ومامنا رجل يرى انه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ولقد سمعت رسول الله ﷺ يقول إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتركوا الجهاد واتبعوا أذناب البقر أدخل الله عليهم ذلا لا ينزعه عنهم حتى يتوبوا ويراجعوا دينهم وهذا يبين أن للحديث أصلا عن عطاء وروى محمد ابن عبد الله الحافظ المعروف بمطين في كتاب البيوع له عن انس انه سئل عن العينة فقال ان الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله وروى أيضا في كتابه عن ابن عباس قال: اتقوا هذه العينة لا تبع دراهم بدراهم وبينهما حريرة وفي رواية ان رجلا باع من رجل حريرة بمائة ثم اشتراها بخمسين فسأل ابن عباس عن ذلك فقال دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة وسئل ابن عباس عن العينة يعني بيع الحريرة فقال ان الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله وروى ابن بطة بإسناده إلى الأوزاعي قال: قال رسول الله ﷺ: "يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع" يعنى العينة وهذا المرسل صالح للاعتضاد به والاستشهاد وان لم يكن عليه وحده الاعتماد.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته انها دخلت على عائشة هي وام ولد زيد بن ارقم وامرأة أخرى فقالت: لها أم ولد زيد إني بعت من زيد غلاما بثمان مائة نسيئة واشتريته بست مائة نقدا فقالت: "أبلغي زيدا أن قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ إلا أن يتوب بئسما شريت وبئسما اشتريت" رواه الإمام أحمد وعمل به وهذا حديث فيه شعبة وإذا كان شعبة في حديث فاشدد يديك به فمن جعل شعبة بينه وبين الله فقد استوثق لدينه.
وأيضا فهذه امرأة أبي إسحاق وهو أحد أئمة الإسلام الكبار وهو أعلم بامرأته وبعدالتها فلم يكن ليروي عنها سنة يحرم بها على الأمه وهي عنده غير ثقة ولا يتكلم فيها بكلمة بل يحابيها في دين الله هذا لا يظن بمن هو دون أبي إسحاق.
وأيضا فإن هذه امرأة من التابعين قد دخلت على عائشة وسمعت منها وروت عنها ولا يعرف أحد قدح فيها بكلمة وأيضا فإن الكذب والفسق لم يكن ظاهرا في التابعين بحيث ترد به روايتهم.
وأيضا فأن هذه المرأة معروفة واسمها العالية وهي جدة إسرائيل كما رواه حرب من حديث إسرئيل حدثني أبو إسحاق عن جدته العالية يعني جدة إسرائيل فإنه إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق والعالية امرأة أبي إسحاق وجدة يونس وقد حملا عنها هذه السنة وإسرائيل أعلم بجدته وأبو إسحاق اعلم بامرأته.
وأيضا فلم يعرف أحد قط من التابعين أنكر على العالية هذا الحديث ولا قدح فيها من أجله ويستحيل في العادة ان تروى حديثا باطلا ويشتهر في الأمة ولا ينكره عليها منكر.
وأيضا فلو لم يأت في هذه المسألة أثر لكان محض القياس ومصالح العباد وحكمة الشريعة تحريمها أعظم من تحريم الربا فإنها ربا مستحل بأدنى الحيل.
وأيضا فإن في الحديث قصة وعند الحفاظ إذا كان فيه قصة دلهم على أنه محفوظ قال: أبو إسحاق حدثتني امرأتي العالية قالت دخلت على عائشة في نسوة فقالت ما حاجتكن فكان أول من سألها أم محبة فقالت يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم قالت نعم قالت فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء وإنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقدا فأقبلت عليها وهي غضبي فقالت بئسما شريت وبئسما اشتريت أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب وأفحمت صاحبتنا فلم تكلم طويلا ثم إنها سهل عليها فقالت يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالى فتلت عليها: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَف}.
وأيضا فهذا الحديث إذا انضم إلى تلك الأحاديث والآثار افادت بمجموعها الظن الغالب إن لم تفد اليقين.
وأيضا فإن آثار الصحابة كما تقدم موافقة لهذا الحديث مشتقة منه مفسرة له.
وأيضا فكيف يليق بالشريعة الكاملة التي لعنت آكل الربا وموكله وبالغت في تحريمه وآذنت صاحبه بحرب من الله ورسوله أن تبيحه بأدنى الحيل مع استواء المفسدة ولولا أن عند أم المؤمنين رضي الله عنها علما من رسول الله ﷺ لا تستريب فيه ولا تشك بتحريم مسألة العينة لما أقدمت على الحكم بإبطال جهاد رجل من الصحابة باجتهادها لا سيما إن كانت قصدت أن العمل يبطل بالردة واستحلال الربا ردة ولكن عذر زيد أنه لم يعلم ان هذا محرم كما عذر ابن عباس بإباحته بيع الدرهم بالدرهمين وإن لم يكن قصدها هذا بل قصدت ان هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد ويصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئا ولو كان هذا اجتهادا منها لم تمنع زيدا منه ولم تحكم ببطلان جهاده ولم تدعه إلى التوبة فإن الاجتهاد لا يحرم الاجتهاد ولا يحكم ببطلان عمل المسلم المجتهد بمخالفته لاجتهاد نظيره والصحابة ولا سيما أم المؤمنين أعلم بالله ورسوله وافقه في دينه من ذلك.
وأيضا فإن الصحابة كعائشة وابن عباس وانس أفتوا بتحريم مسألة العينة وغلظوا فيها هذا التغليظ في اوقات ووقائع مختلفة فلم يجيء عن واحد من الصحابة ولا التابعين الرخصة في ذلك فيكون إجماعا.
فإن قيل: فزيد بن أرقم قد خالف عائشة ومن ذكرتم فغاية الأمر انها مسألة ذات قولين للصحابة وهي مما يسوغ فيها الاجتهاد.
قيل لم يقل زيد قط ان هذا حلال ولا أفتى بها يوما ما ومذهب الرجل لا يؤخذ من فعله إذ لعله فعله ناسيا أو ذاهلا أو غير متأمل ولا ناظر أو متأولا أو ذنبا يستغفر الله منه ويتوب أو يصر عليه وله حسنات تقاومه فلا يؤثر شيئا قال: بعض السلف العلم علم الرواية يعنى ان يقول رأيت فلانا يفعل كذا وكذا إذ لعله قد فعله ساهيا وقال إياس بن معاوية: "لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك" ولم يذكر عن زيد انه أقام على هذه المسألة بعد إنكار عائشة وكثيرا ما يفعل الرجل الكبير الشيء مع ذهوله عما في ضمنه من مفسدة فإذا نبه انتبه وإذا كان الفعل محتملا لهذه الوجوه وغيرها لم يجز أن يقدم على الحكم ولم يجز أن يقال مذهب زيد بن أرقم جواز العينة لا سيما وام ولده قد دخلت على عائشة تستفتيها فأفتتها بأخذ رأس مالها وهذا كله يدل على أنهما لم يكونا جازمين بصحة العقد وجوازه وأنه مما أباحه الله ورسوله.
وأيضا فبيع العينة إنما يقع غالبا من مضطر إليها وإلا فالمستغنى عنها لا يشغل ذمته بألف وخمسمائة في مقابلة ألف بلا ضرورة وحاجة تدعو إلى ذلك.
وقد روى أبو داود من حديث علي: "نهى رسول الله ﷺ عن بيع المصطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل ان تدرك".
وفي مسند الإمام أحمد عنه قال: سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤثر بذلك قال: الله تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} وينهر الاشرار ويستذل الاخيار ويبايع المضطرون وقد نهى رسول الله ﷺ عن بيع المضطر وعن بيع الغرر وبيع الثمر قبل ان يطعم وله شاهد من حديث حذيفة عن النبي ﷺ رواه سعيد عن هشيم عن كوثر بن حكيم عن مكحول بلغني عن حذيفة انه حدث عن رسول الله ﷺ إن بعد زمانكم هذا زمانا عضوضا يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤثر بذلك قال: الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وينهر شرار خلق الله يبايعون كل مضطر ألا ان بيع المضطر حرام المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه إن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكا إلى هلاكه وهذا من دلائل النبوة فإن عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن بها عليه الموسر بالقرض حتى يربح عليه في المائة ما أحب وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهى العينة وإن باعها لغيره فهو التورق وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا والاقسام الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق وقد كرهه عمر بن عبد العزيز وقال هو أخيه الربا وعن أحمد فيه روايتان وأشار في رواية الكراهة إلى انه مضطر وهذا من فقهه رضي الله عنه قال: فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر وكان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مرارا وأنا حاضر فلم يرخص فيها وقال المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها فالشريعة لا تحرم الضرر الادنى وتبيح ما هو أعلى منه.
وقد تقدم الاستدلال على تحريم العينة بقوله ﷺ: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع" وبقوله: "من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما أو الربا" وان ذلك لا يمكن وقوعه الا على العينة.
ومما يدل على تحريم الحيل قوله ﷺ: "صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم" رواه أهل السنن ومما يدل على تحريمها ما رواه ابن ماجه في سننه عن يحيى بن أبي إسحاق قال: سألت أنس بن مالك الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدى إليه فقال قال: رسول الله ﷺ: "إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك" رواه من حديث إسماعيل بن عياش عن عتبة ابن حميد الضبي عن يحيى.
قال شيخنا رضي الله عنه وهذا يحيى بن يزيد الهنائى من رجال مسلم وعتبة ابن حميد معروف بالرواية عن الهنائي قال: أبو حاتم مع تشدده هو صالح الحديث وقال أحمد ليس بالقوى وإسماعيل بن عياش ثقة في حديثه عن الشاميين ورواه سعيد في سننه عن إسماعيل بن عياش لكن قال: عن يزيد ابن أبي إسحاق الهنائي عن انس عن النبي ﷺ وكذلك رواه البخاري في تاريخه عن يزيد بن أبي يحيى الهنائي عن أنس يرفعه إذا أقرض أحدكم فلا يأخذ هدية قال شيخنا: وأظنه هو ذاك انقلب اسمه.
وفي صحيح البخاري عن أبي بردة بن أبي موسى قال: "قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي إنك بارض الربا فيها فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا وفي سنن سعيد هذا المعنى عن أبي بن كعب وجاء عن ابن مسعود أيضا وأتى رجل عبد الله بن عمر فقال إنى أقرضت رجلا بغير معرفة فأهدى إلي هدية جزلة فقال رد إليه هديته أو احسبها له وقال سالم بن أبي الجعد جاء رجل إلى ابن عباس فقال إنى أقرضت رجلا يبيع السمك عشرين درهما فأهدى إلى سمكة قومتها بثلاثة عشر درهما فقال خذ منه سبعة دراهم ذكرهما سعيد وذكر حرب عن ابن عباس إذا اسلفت رجلا سلفا فلا تأخذ منه هدية ولا عارية ركوب دابة فنهى النبي ﷺ هو وأصحابه المقرض عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء فإن المقصود بالهدية ان يؤخر الاقتضاء وإن كان لم يشترط ذلك سدا لذريعة الربا فكيف تجوز الحيلة على الربا ومن لم يسد الذرائع ولم يراع المقاصد ولم يحرم الحيل يبيح ذلك كله وسنة رسول الله ﷺ وهدى أصحابه أحق ان يتبع وقد تقدم تحريم السلف والبيع لأنه يتخذ حيلة إلى الربا.
ويدل على تحريم الحيل الحديث الصحيح وهو قوله ﷺ لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وهذا نص في تحريم الحيلة المفضية إلى إسقاط الزكاة أو تنقيصها بسبب الجمع والتفريق فإذا باع بعض النصاب قبل تمام الحول تحيلا على إسقاط الزكاة فقد فرق بين المجتمع فلا تسقط الزكاة عنه بالفرار منها ومما يدل على تحريمها قوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قال: المفسرون من السلف ومن بعدهم لا تعط عطاء تطلب أكثر منه وهو ان تهدى ليهدى إليك أكثر من هديتك.
وهذا كله يدل على أن صور العقود غير كافة في حلها وحصول أحكامها إلا إذا لم يقصد بها قصدا فاسدا وكل ما لو شرطه في العقد كان حراما فاسدا فقصده حرام فاسد واشتراطه إعلان وإظهار للفساد وقصده ونيته غش وخداع ومكر فقد يكون أشد فسادا من الاشتراط ظاهرا.
من هذه الجهة والاشتراط الظاهر أشد فسادا منه من جهة إعلان المحرم واظهاره.
ومما يدل على التحريم ان أصحاب رسول الله ﷺ اجمعوا على تحريم هذه الحيل وإبطالها وإجماعهم حجة قاطعة بل هي من أقوى الحجج وآكدها ومن جعلهم بينه وبين الله فقد استوثق لدينه.
بيان المقدمة الأولى أن عمر بن الخطاب خطب الناس على منبر رسول الله ﷺ وقال لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما واقره سائر الصحابة على ذلك وأفتى عثمان وعلي وابن عباس وابن عمر ان المرأة لا تحل بنكاح التحليل وقد تقدم عن غير واحد من أعيانهم كأبي وابن مسعود وعبد الله ابن سلام وابن عمر وابن عباس انهم نهوا المقرض عن قبول هدية المقترض وجعلوا قبولها ربا وقد تقدم عن عائشة وابن عباس وانس تحريم مسألة العينة والتغليظ فيها وأفتى عمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وغيرهم من الصحابة ان المبتوتة في مرض الموت ترث ووافقهم سائر المهاجرين والانصار من أهل بدر وبيعة الرضوان ومن عداهم.
وهذه وقائع متعددة لاشخاص متعددة في أزمان متعددة والعادة توجب اشتهارها وظهورها بينهم لا سيما وهؤلاء اعيان المفتين من الصحابة الذين كانت تضبط أقوالهم وتنهي إليهم فتاويهم والناس عنق واحد إليهم متلقون لفتاويهم ومع هذا فلم يحفظ عن أحد منهم الإنكار ولا إباحة الحيل مع تباعد الاوقات وزوال أسباب السكوت وإذا كان هذا قولهم في التحليل والعينة وهدية المقترض إلى المقرض فماذا يقولون في التحيل لإسقاط حقوق المسلمين بل لإسقاط حقوق رب العالمين وإخراج الابضاع والأموال عن ملك اربابها وتصحيح العقود الفاسدة والتلاعب بالدين وقد صانهم الله تعالى ان يروا في وقتهم من يفعل ذلك أو يفتى به كما صانهم عن رؤية الجهمية والمعتزلة والحلولية والاتحادية وأضرابهم وإذا ثبت هذا عنهم فيما ذكرنا من الحيل فهو دليل على قولهم فيما هو أعظم منها.
وأما المقدمة الثانية فكل من له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائله ثم انصف لم يشك ان تقرير هذا الإجماع منهم على تحريم الحيل وإبطالها ومنافاتها للدين أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغير ذلك مما يدعى فيه إجماعهم كدعوى إجماعهم على عدم وجوب غسل الجمعة وعلى المنع من بيع أمهات الأولاد وعلى الإلزام بالطلاق الثلاث بكلمة واحدة وأمثال ذلك.
فإذا وازنت بين هذا الإجماع وتلك الإجماعات ظهر لك التفاوت وانضم إلى هذا ان التابعين موافقون لهم على ذلك فإن الفقهاء السبعة وغيرهم من فقهاء المدينة الذين أخذوا عن زيد بن ثابت وغيره متفقون على إبطال الحيل وكذلك أصحاب عبد الله بن مسعود من أهل الكوفة وكذلك أصحاب فقهاء البصرة كأيوب وأبي الشعثاء والحسن وابن سيرين وكذلك أصحاب ابن عباس.
وهذا في غاية القوة من الاستدلال فإنه انضم إلى كثرة فتاويهم بالتحريم في أفراد هذا الأصل وانتشارها ان عصرهم انصرم وبقع الإسلام متسعة وقد دخل الناس في دين الله افواجا وقد اتسعت الدنيا على المسلمين أعظم اتساع وكثر من كان يتعدى الحدود وكان المقتضى لوجود هذه الحيل موجودا فلم يحفظ عن رجل واحد منهم أنه أفتى بحيلة واحدة منها أو أمر بها أو دل عليها بل المحفوظ عنهم النهى والزجر عنها فلو كانت هذه الحيل مما يسوغ فيها الاجتهاد لأفتى بجوازها رجل منهم ولكانت مسألة نزاع كغيرها بل أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم متفقة على تحريمها والمنع منها ومضى على اثرهم أئمة الحديث والسنة في الإنكار قال: الإمام أحمد في رواية موسى بن سعيد الديداني لا يجوز شيء من الحيل وقال في رواية الميموني وقد سأله عمن حلف على يمين ثم احتال لإبطالها فقال نحن لا نرى الحيلة وقال في رواية بكر بن محمد إذا حلف على شيء ثم احتال بحيلة فصار اليها فقد صار إلى ذلك الذي حلف عليه بعينه وقال من احتال بحيلة فهو حانث وقال في رواية صالح وأبي الحارث وقد ذكر له قول أصحاب الحيل فأنكره وقال في رواية إسماعيل بن سعيد وقد سئل عمن احتال في إبطال الشفعة فقال لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق امريء مسلم وقال في رواية أبي طالب وغيره في الرجل يحلف وينوي غير ذلك فاليمين على نية ما يحلفه عليه صاحبه إذا لم يكن مظلوما فإذا كان مظلوما حلف على نيته ولم يكن عليه من نية الذي حلفه شئ وقال في رواية عبد الخالق بن منصور من كان عنده كتاب الحيل في بيته يفتي به فهو كافر بما أنزل الله على محمد ﷺ.
الذين يذكرون الحيل لم يعترفوا بجوازها كلها
قلت والذين ذكروا الحيل لم يقولوا إنها كلها جائزة وإنما أخبروا ان كذا حيلة وطريق إلى كذا ثم قد تكون الطريق محرمة وقد تكون مكروهة وقد يختلف فيها فإذا قالوا: الحيلة في فسخ المرأة النكاح أن ترتد ثم تسلم والحيلة في سقوط القصاص عمن قتل أم امرأته ان يقتل امرأته إذا كان لها ولد منه والحيلة في سقوط الكفارة عمن أراد الوطء في رمضان ان يتغدى ثم يطأ بعد الغداء والحيلة لمن أرادت ان تفسخ نكاح زوجها ان تمكن ابنه من الوقوع عليها والحيلة لمن أراد أن يفسخ نكاح امرأته ويحرمها عليه على التأبيد ان يطأ حماته أو يقبلها والحيلة لمن أراد سقوط حد الزنا عنه ان يسكر ثم يزنى والحيلة لمن أراد سقوط الحج عنه مع قدرته عليه أن يملك ماله لابنه أو زوجته عند خروج الركب فإذا بعد استرد ماله والحيلة لمن أراد حرمان وارثه ميراثه أن يقر بماله كله لغيره عند الموت والحيلة لمن أراد إبطال الزكاة وإسقاط فرضها عنه بالكلية ان يملك ماله عند الحول لابنه أو امرأته أو أجنبي ساعة من زمان ثم يسترده منه ويفعل هكذا كل عام فيبطل فرض الزكاة عنه أبدا والحيلة لمن أراد أن يملك مال غيره بغير رضاه أن يفسده عليه أو يغير صورته فيملكه فيذبح شاته ويشق قميصه ويطحن حبه ويخبزه ونحو ذلك والحيلة لمن أراد قتل غيره ولا يقتل به ان يضربه بدبوس أو مرزبة حديد ينثر دغامه فلا يجب عليه قصاص والحيلة لمن أراد أن يزنى بامرأة ولا يجب عليه الحد ان يستأجرها لكنس بينه أو لطى ثيابه أو لغسلها أو لنقل متاع من مكان إلى مكان ثم يزنى بها ما شاء مجانا بلا حد ولا غرامة أو يستأجرها لنفس الزنا والحيلة لمن أراد أن يسقط عنه حد السرقة ان يدعى ان المال له وان له فيه شركة فيسقط عنه القطع بمجرد دعواه أو ينقب الدار ثم يدع غلامه أو ابنه أو شريكه يدخل ويخرج متاعه أو يدعه على ظهر دابة تخرج به ونحو ذلك والحيلة لمن أراد سقوط حد الزنا عنه بعد أن يشهد به عليه أربعة عدول غير متهمين ان يصدقهم فيسقط عنه الحد بمجرد تصديقهم والحيلة لمن أراد قطع يد غيره ولا يقطع بها ان يمسك هو وآخرالسكين أو السيف ويقطعانها معا والحيلة لمن أرادت التخلف عن زوجها في السفر ان تقر لغيره بدين والحيلة لمن أراد الصيد في الاحرام ان ينصب الشباك قبل ان يحرم ثم يأخذ ما وقع فيها حال إحرامه بعد أن يحل، فهذه الحيل وأمثالها لا يحل لمسلم ان يفتى بها في دين الله تعالى ومن استحل الفتوى بهذه فهو الذي كفره الإمام أحمد وغيره من الأئمة حتى قالوا: إن من أفتى بهذه الحيل فقد قلب الإسلام ظهرا لبطن ونقض عرى الإسلام عروة عروة وقال بعض أهل الحيل ما نقموا علينا من أنا عمدنا إلى اشياء كانت حراما عليهم فاحتلنا فيها حتى صارت حلالا وقال آخر منهم إنا نحتال للناس منذ كذا وكذا سنة في تحليل ما حرم الله عليهم قال: أحمد بن زهير بن مروان كانت امراة ههنا بمرو أرادت ان تختلع من زوجها فأبى زوجها عليها فقيل لها لو ارتددت عن الإسلام لبنت منه ففعلت فذكرت ذلك لعبد الله بن المبارك فقال: "من وضع هذا الكتاب فهو كافر ومن سمع به ورضي به فهو كافر ومن حمله من كورة إلى كورة فهو كافر ومن كان عنده فرضي به فهو كافر" وقال إسحاق بن راهويه عن شقيق بن عبد الملك إن ابن المبارك قال في قصة بنت أبي روح حيث أمرت بالارتداد وذلك في أيام أبي غسان فذكر شيئا ثم قال: ابن المبارك وهو مغضب: "احدثوا في الإسلام ومن كان أمر بهذا فهو كافر ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به أو هويه ولم يأمر به فهو كافر" ثم قال ابن المبارك: "ما أرى الشيطان كان يحسن مثل هذا حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم فأشاعها حينئذ أو كان يحسنها ولم يجد من يمضيها فيهم حتى جاء هؤلاء" وقال إسحاق الطالقاني قيل: يا أبا عبد الرحمن إن هذا الكتاب وضعه إبليس قال: "إبليس من الابالسة" وقال النضر بن شميل في كتاب الحيل ثلاثمائة وعشرون أو ثلاثون مسألة كلها كفر وقال أبو حاتم الرازي قال: شريك يعنى ابن عبد الله قاضي الكوفة وذكر له كتاب الحيل فقال: "من يخادع الله يخدعه" وقال حفص بن غياث: "ينبغى أن يكتب عليه كتاب الفجور" وقال إسماعيل بن حماد قال: القاسم بن معن يعنى ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قاضي الكوفة: "كتابكم هذا الذي كتبتموه في الحيل كتاب الفجور" وقال حماد بن زيد سمعت أيوب يقول: "ويلهم من يخدعون يعنى أصحاب الحيل" وقال عبد الرحمن الدارمي سمعت يزيد بن هارون يقول: "لقد أفتى أصحاب الحيل شيء لو أفتى به اليهودي والنصراني كان قبيحا" فقال: إنى حلفت انى لا أطلق أمرأتي بوجه من الوجوه وإنهم قد بذلوا لي مالا كثيرا فقال له: قبل أمها فقال يزيد بن هارون: ويله يأمره ان يقبل امرأة أجنبية" وقال حبيش بن مبشر: "سئل أبو عبد الله يعنى الإمام أحمد عن الرجل يشتري جارية ثم يعتقها من يومه ويتزوجها أيطؤها من يومه فقال: كيف يطؤها من يومه وقد وطئها ذلك بالامس هذا من طريق الحيلة وغضب وقال هذا اخبث قول" وقال رجل للفضيل بن عياض: "يا أبا علي استفتيت رجلا في يمين حلفت بها فقال لي إن فعلت كذا حنثت وأنا احتال لك حتى تفعل ولا تحنث فقال له الفضيل تعرف الرجل قال: نعم قال: ارجع إليه فاستثبته فإنى احسبه شيطانا شبه لك في صورة إنسان".
وإنما قال: هؤلاء الأئمة وأمثالهم هذا الكلام في هذه الحيل لأن فيها الاحتيال على تأخير صوم رمضان وإسقاط فرائض الله تعالى من الحج والزكاة وإسقاط حقوق المسلمين واستحلال ما حرم الله من الربا والزنا واخذ أموال الناس وسفك دمائهم وفسخ العقود اللازمة والكذب وشهادة الزور واباحة الكفر وهذه الحيل دائرة بين الكفر والفسوق ولا يجوز ان تنسب هذه الحيل إلى أحد من الأئمة ومن نسبها إلى أحد منهم فهو جاهل بأصولهم ومقاديرهم ومنزلتهم من الإسلام وإن كان بعض هذه الحيل قد تنفذ على أصول إمام بحيث إذا فعلها المتحيل نفذ حكمها عنده ولكن هذا أمر غير الاذن فيها واباحتها وتعليمها فإن إباحتها شيء ونفوذها إذا فعلت شيء ولا يلزم من كون الفقيه والمفتي لا يبطلها ان يبيحها وبأذن فيها وكثير من العقود يحرمها الفقيه ثم ينفذها ولا يبطلها ولكن الذي ندين الله به تحريمها وإبطالها وعدم تنفيذها ومقابلة اربابها بنقيض مقصودهم موافقة لشرع الله تعالى وحكمته وقدرته.
والمقصود أن هذه الحيل لا تجوز ان تسب إلى امام فإن ذلك قدح في إمامته وذلك يتضمن القدح في الأمة حيث ائتمنت بمن لا يصلح للإمامة وهذا غير جائز ولو فرض انه حكى عن واحد من الأئمة بعض هذه الحيل المجمع على تحريمها فإما ان تكون الحكاية باطلة أو يكون الحاكي لم يضبط لفظه فاشتبه عليه فتواه بنفوذها بفتواه بإباحتها مع بعد ما بينهما ولو فرض وقوعها منه في وقت ما فلا بد أن يكون قد رجع عن ذلك وان لم يحمل الأمر على ذلك لزم القدح في الامام وفي جماعة المسلمين المؤتمين به وكلاهما غير جائز ولا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الاذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الأغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالايمان.
ثم إن هذا على مذهب أبي حنيفة وأصحابه أشد فإنهم لا يأذنون في كلمات وأفعال دون ذلك بكثير ويقولون إنها كفر حتى قالوا: لو قال: الكافر لرجل إنى أريد أن أسلم فقال له اصبر ساعة فقد كفر فكيف بالأمر بإنشاء الكفر وقالوا لو قال: مسيجد أو صغر لفظ المصحف كفر.
فعلمت ان هؤلاء المحتالين الذين يفتون بالحيل التي هي كفر أو حرام ليسوا مقتدين بمذهب أحد من الأئمة وان الأئمة أعلم بالله ورسوله ودينه واتقى له من ان يفتوا بهذه الحيل وقد قال: أبو داود في مسائله سمعت أحمد وذكر أصحاب الحيل يحتالون لنقض سنن رسول الله ﷺ وقال في رواية أبي الحارث الصانع هذه الحيل التي وضعوها عمدوا إلى السنن واحتالوا لنقضها والشيء الذي قيل: لهم إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلوه قالوا: الرهن لا يحل ان يستعمل ثم قالوا: يحتال له حتى يستعمل فكيف يحل بحيلة ما حرم الله ورسوله وقال ﷺ: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فأذابوها فباعوها وأكلوا أثمانها" أذابوها حتى ازالوا عنها اسم الشحم وقد لعن رسول الله ﷺ المحلل والمحلل له وقال في رواية ابنه صالح عجبت مما يقول ارباب الحيل في الايمان يبطلون الايمان بالحيل وقد قال: الله تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} وقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} وكان ابن عيينة يشتد عليه أمر هذه الحيل وقال في رواية الميموني وقد سأله إنهم يقولون في رجل حلف على امرأته وهي على درجة إن صعدت أو نزلت فأنت طالق فقالوا تحمل حملا فقال هذا هو الحنث بعينه ليست هذه حيلة هذا هو الحنث وقالوا إذا حلف لا يطأ بساطا يطأ بساطين وإذا حلف لا يدخل دارا يحمل فأقبل أبو عبد الله يعجب سبحان الله ما أعجب هذا أبطلوا كتاب الله والسنة جعل الله على الحرائر العدة من أجل الحمل فليس من امرأة تطلق أو يموت زوجها إلا تعتد من أجل الحمل ففرج يوطأ يشتريه ثم يعتقه على المكان فيتزوجها فيطؤها فإن كانت حاملا كيف يصنع يطؤها رجل اليوم ويطؤها الآخر غدا هذا نقض للكتاب والسنة قال: النبي ﷺ لا توطأ الحامل حتى تضع ولا غير الحامل حتى تحيض ولا يدري هل هي حامل أم لا سبحان الله ما أسمج هذا.
وقال محمد بن الهيثم سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يحكي عن مقاتل بن محمد قال: شهدت هشاما وهو يقرىء كتابا فانتهى بيده إلى مسألة فجازها فقيل له: في ذلك فقال دعوه وكره مكاني فتطلعت في الكتاب فإذا فيه لو أن رجلا لف على ذكره حريرة في شهر رمضان ثم جامع امرأته نهارا فلا قضاء عليه ولا كفارة.
فصل الأدلة على بطلان الحيل
ومما يدل على بطلان الحيل وتحريمها أن الله تعالى إنما أوجب الواجبات وحرم المحرمات لما تتضمن من مصالح عباده في معاشهم ومعادهم فالشريعة لقلوبهم بمنزلة الغذاء الذي لا بد لهم منه والدواء الذي لا يندفع الداء إلا به فإذا احتال العبد على تحليل ما حرم الله وإسقاط ما فرض الله وتعطيل ما شرع الله كان ساعيا في دين الله بالفساد من وجوه.
أحدها إبطالها ما في الأمر المحتال عليه من حكمة ونقض حكمته فيه ومناقضته له.
والثاني ان الأمر المحتال به ليس له عنده حقيقة ولا هو مقصود بل هو ظاهر المشروع فالمشروع ليس مقصودا له والمقصود له هو المحرم نفسه وهذا ظاهر كل الظهور فيما يقصد الشارع فإن المرابي مثلا مقصوده الربا المحرم وصورة البيع الجائز غير مقصودة له وكذلك المتحيل على إسقاط الفرائض بتمليك ماله لمن لا يهبه درهما واحدا حقيقة مقصودة إسقاط الفرض وظاهر الهبة المشروعة غير مقصودة له.
الثالث نسبته ذلك إلى الشارع الحكيم والى شريعته التي هي غذاء القلوب ودواؤها وشفاؤها ولو ان رجلا تحيل حتى قلب الغذاء والدواء إلى ضده فجعل الغذاء دواء والدواء غذاء إما بتغير اسمه أو صورته مع بقاء حقيقته لاهلك الناس فمن عمد إلى الأدوية المسهلة فغير صورتها أو أسماءها وجعلها غذاء للناس أو عمد إلى السموم القاتلة فغير أسماءها وصورتها وجعلها أدوية أو إلى الاغذية الصالحة فغير أسماءها وصورها كان ساعيا بالفساد في الطبيعة كما أن هذا ساع بالفساد في الشريعة فإن الشريعة للقلوب بمنزلة الغذاء والدواء للأبدان وإنما ذلك بحقائقها لا بأسمائها وصورها.
وبيان ذلك على وجه الإشارة ان الله سبحانه وتعالى حرم الربا والزنا وتوابعهما ووسائلهما لما في ذلك من الفساد واباح البيع والنكاح وتوابعهما لأن ذلك مصلحة محضة ولا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق في الحقيقة وإلا لكان البيع مثل الربا والنكاح مثل الزنا ومعلوم ان الفرق في الصورة دون الحقيقة ملغى عند الله ورسوله وفي فطر عباده فإن الاعتبار بالمقاصد والمعاني في الأقوال والافعال فإن الالفاظ إذا اختلفت ومعناها واحد كان حكمها واحدا فإذا اتفقت الالفاظ واختلفت المعاني كان حكمها مختلفا وكذلك الاعمال إذا اختلفت صورها واتفقت مقاصدها وعلى هذه القاعدة يبنى الأمر والنهي والثواب والعقاب ومن تأمل الشريعة علم بالاضطرار صحة هذا فالأمر المحتال به على المحرم صورته صورة الحلال وحقيقته ومقصوده حقيقة الحرام فلا يكون حلالا فلا يترتب عليه أحكام الحلال فيقع باطلا والأمر المحتال عليه حقيقته حقيقة الأمر الحرام وإن لم تكن صورته صورته فيجب أن يكون حراما لمشاركته للحرام في الحقيقة.
ويالله العجب أين القياس والنظر في المعاني المؤثرة وغير المؤثرة فرقا وجمعا والكلام في المناسبات ورعاية المصالح وتحقيق المناط وتنقيحه وتخريجه وإبطال قول من علق الاحكام بالأوصاف الطردية التي لا مناسبة بينها وبين الحكم فكيف يعلقه بالأوصاف المناسبة لضد الحكم وكيف يعلق الاحكام على مجرد الالفاظ والصور الظاهرة التي لا مناسبة بينها وبينها ويدع المعاني المناسبة المفضية لها التي ارتباطها بها كارتباط العلل العقلية بمعلولاتها والعجب منه كيف ينكر مع ذلك على أهل الظاهر المتمسكين بظواهر كتاب ربهم وسنة نبيهم حيث لا يقوم دليل يخالف الظاهر ثم يتمسك بظواهر أفعال المكلفين وأقوالهم حيث يعلم ان الباطن والقصد بخلاف ذلك ويعلم لو تأمل حق التأمل ان مقصود الشارع غير ذلك كما يقطع بأن مقصوده من إيجاب الزكاة سد خلة المساكين وذوي الحاجات وحصول المصالح التي أرادها بتخصيص هذه الأوصاف من حماية المسلمين والذب عن حوزة الإسلام فإذا أسقطها بالتحيل فقد خالف مقصود الشارع وحصل مقصود المتحيل والواجب الذي لا يجوز غيره ان يحصل مقصود الله ورسوله ويبطل مقاصد المتحيلين المخادعين وكذلك يعلم قطعا انه إنما حرم الربا لما فيه من الضرر بالمحاويج وان مقصوده إزالة هذه المفسدة فإذا ابيح التحيل على ذلك كان سعيا في إبطال مقصود الشارع وتحصيلا المقصود المرابى وهذه سبيل جميع الحيل المتوسل بها إلى تحليل الحرام وإسقاط الواجب وبهذه الطريق تبطل جميعا الا ترى ان المتحيل لإسقاط الاستبراء مبطل لمقصود الشارع من حكمة الاستيراء ومصلحته فالمعين له على ذلك مفوت لمقصود الشارع محصل لمقصود المتحيل وكذلك التحيل على إبطال حقوق المسلمين التي ملكهم إياها الشارع وجعلهم أحق بها من غيرهم إزالة لضررهم وتحصيلا لمصالحهم فلوا أباح التحيل لإسقاطها لكان عدم إثباتها للمستحقين أولى وأقل ضررا من ان يثبتها ويوصى بها ويبالغ في تحصيلها ثم يشرع التحيل لإبطالها وإسقاطها وهل ذلك إلا بمنزلة من بنى بناء مشيدا وبالغ في إحكامه واتقانه ثم عاد فنقضه وبمنزلة من أمر بإكرام رجل والمبالغة في بره والاحسان إليه واداء حقوقه ثم اباح لمن امره ان يتحيل بأنواع الحيل لإهانته وترك حقوقه ولهذا يسيء الكفار والمنافقون ومن في قلوبهم المرض الظن بالإسلام والشرع الذي بعث الله به رسوله حيث ظنوا ان هذه الحيل مما جاء به الرسول وعلموا مناقضتها للمصالح مناقضة ظاهرة ومنافاتها لحكمة الرب وعدله ورحمته وحمايته وصيانته لعباده فإنه نهاهم عما نهاهم عنه حمية وصيانة فكيف يبيح له الحيل على ما حماهم عنه وكيف يبيح لهم التحيل على إسقاط ما فرضه عليهم وعلى إضاعة الحقوق التي احقها عليهم لبعضهم بعضا لقيام مصالح النوع الإنساني التي لا تتم إلا بما شرعه. فهذه الشريعة شرعها الذي علم ما في ضمنها من المصالح والحكم والغايات المحمودة وما في خلافها من ضد ذلك وهذا أمر ثابت لها لذاتها وبائن من أمر الرب تبارك وتعالى بها ونهيه عنها فالمأمور به مصلحة وحسن في نفسه واكتسى بأمر الرب تعالى مصلحة وحسنا اخر فازداد حسنا بالأمر ومحبة الرب وطلبه له إلى حسنه في نفسه وكذلك المنهى عنه مفسدة وقبيح في نفسه وازداد بنهى الرب تعالى عنه وبغضه له وكراهيته له قبحا إلى قبحه وما كان هكذا لم يجز أن ينقلب حسنه قبحا بتغير الاسم والصورة مع بقاء الماهية والحقيقة. ألا ترى ان الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله حرم بيع الثمار قبل بدو صلاحها لما فيه من مفسدة التشاحن والتشاجر ولما يؤدي إليه ان منع الله الثمرة من أكل مال أخيه بغير حق ظلما وعدوانا ومعلوم قطعا ان هذه المفسدة لا تزول بالتحيل على البيع قبل بدو الصلاح فإن الحيلة لا تؤثر في زوال هذه المفسدة ولا في تخفيفها ولا في زوال ذرة منها فمفسدة هذا العقد أمر ثابت له لنفسه فالحيلة إن لم تزده فسادا لم تزل فسادا وكذلك شرع الله تعالى الاستبراء لإزالة مفسدة اختلاط المياه وفساد الانساب وسقى الإنسان بمائه زرع غيره وفي ذلك من المفاسد ما توجب العقول تحريمه لو لم تأت به شريعة ولهذا فطر الله الناس على استهجانه واستقباحه ويرون من أعظم الهجن ان يقوم هذا عن المرأة ويخلفه الآخر عليها ولهذا حرم نكاح الزانية واوجب العدد والاستبراء ومن المعلوم قطعا ان هذه المفسدة لا تزول بالحيلة على إسقاط الاستبراء ولا تخف وكذلك شرع الحج إلى بيته لأنه قوام للناس في معاشهم ومعادهم ولو عطل البيت الحرام عاما واحدا عن الحج لما أمهل الناس ولعوجلوا بالعقوبة وتوعد من ملك الزاد والراحلة ولم يحج بالموت على غير الإسلام ومعلوم ان التحيل لإسقاطه لا يزيل مفسدة الترك ولو ان الناس كلهم تحيلوا لترك الحج والزكاة لبطلت فائدة هذين الفرضين العظيمين وارتفع من الأرض حكمهما بالكلية وقيل للناس إن شئتم كلكم ان تتحلوا لإسقاطهما فافعلوا فليتصور العبد ما في إسقاطهما من الفساد المضاد لشرع الله واحسانه وحكمته وكذلك الحدود جعلها الله تعالى زواجر للنفوس وعقوبة ونكالا وتطهيرا فشرعها من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد بل لا تتم سياسة ملك من ملوك الأرض إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم ومعلوم ما في التحيل لإسقاطها من منافاة هذا الغرض وإبطاله وتسليط النفوس الشريرة على تلك الجنايات إذا علمت ان لها طريقا إلى إبطال عقوباتها فيها وانها تسقط تلك العقوبات بأدنى الحيل فإنه لا فرق عندها ألبتة بين ان تعلم انه لا عقوبة عليها فيها وبين ان تعلم ان لها عقوبة وان لها إسقاطها بأدنى الحيل ولهذا احتاج البلد الذي تظهر فيه هذه الحيل إلى سياسة وال أو أمير يأخذ على يد الجناة ويكف شرهم عن الناس إذا لم يمكن ارباب الحيل ان يقوموا بذلك وهذا بخلاف الازمنة والأمكنة التي قام الناس فيها بحقائق ما بعث الله به رسول الله ﷺ فإنهم لم يحتاجوا معها إلى سياسة أمير ولا وال كما كان أهل المدينة في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم فإنهم كانوا يحدون بالرائحة وبالقيء وبالحبل وبظهور المسروق عند السارق ويقتلون في القسامة ويعاقبون أهل التهم ولا يقبلون الدعوى التي تكذبها العادة والعرف ولا يرون الحيل في شيء من الدين ويعاقبون أربابها ويحبسون في التهم حتى يتبين حال المتهم فإن ظهرت براءته خلوا سبيله وإن ظهر فجوره قرروه بالعقوبة اقتداء بسنة رسول الله ﷺ في عقوبة المتهمين وحبسهم فإن رسول الله ﷺ حبس في تهمة وعاقب في تهمه كما سيأتي إن شاء الله من ذكر ذلك عنه وعن أصحابه ما فيه شفاء وكفاية وبيان لإغناء ما جاء به عن كل وال وسائس وأن شريعته التي هي شريعته لا يحتاج معها إلى غيرها وإنما يحتاج إلى غيرها من لم يحط بها علما أو لم يقم بها عملا.
والمقصود أن ما في ضمن المحرمات من المفاسد والمأمورات من المصالح يمنع ان يشرع اليها التحيل بما يبيحها ويسقطها وأن ذلك مناقضة ظاهرة ألا ترى انه بالغ في لعن المحلل للمفاسد الظاهرة والباطنة التي في التحليل التي يعجز البشر عن الاحاطة بتفاصيلها فالتحليل على صحة هذه النكاح بتقديم اشتراط التحليل عليه وإخلاء صلبه عنه إن لم يزد مفسدته فإنه لا يزيلها ولا يخففها وليس تحريمه والمبالغة في لعن فاعله تعبدا لا يعقل معناه بل هو معقول المعنى من محاسن الشريعة بل لا يمكن شريعة الإسلام ولا غيرها من شرائع الانبياء ان تأتي بحيلة فالتحيل على وقوعه وصحته إبطاله لغرض الشارع وتصحيح لغرض المتحيل المخادع.
وكذلك الشارع حرم الصيد في الاحرام وتوعد بالانتقام على من عاد إليه بعد التحريم لما فيه من المفسدة الموجبة لتحريمه وانتقام الرب من فاعله ومعلوم قطعا ان هذه المفسدة لا تزول بنصب الشباك له قبل الاحرام بلحظة فإذا وقع فيها حال الاحرام أخذه بعد الحل بلحظة فإباحته لمن فعل هذا إبطال لغرض الشارع الحكيم وتصحيح لغرض المخادع.
وكذلك إيجاب الشارع الكفارة على من وطيء في نهار رمضان فيه من المصلحة جبر وهن الصوم وزجر الواطيء وتكفير جرمه واستدراك فرطه وغير ذلك من المصالح التي علمها من شرع الكفارة واحبها ورضيها فإباحة التحليل لإسقاطها بأن يتغذى قبل الجماع ثم يجامع نقض لغرض الشارع وإبطال له واعمال لغرض الجاني المتحيل وتصحيح له ثم ان ذلك جنابة على حق الله وحق العبيد فهو اضاعة للحقين وتفويت لهما.
وكذلك الشارع شرع حدود الجرائم التي تتقاضاها الطباع أشد تقاض في اهمال عقوباتها من مفاسد الدنيا والآخرة بحيث لا يمكن سياسة ملك ما من الملوك ان يخلو عن عقوباتها ألبتة ولا يقوم ملكه بذلك فالاذن في التحيل لإسقاطها بصورة العقد وغيره مع وجود تلك المفاسد بعينها أو اعظم منها نقض وإبطال لمقصود الشارع وتصحيح لمقصود الجاني واغراء بالمفاسد وتسليط للنفوس على الشر.
ويالله العجب كيف يجتمع في الشريعة تحريم الزنا والمبالغة في المنع منه وقتل فاعله شر القتلات وأقبحها وأشنعها وأشهرها ثم يسقط بالتحيل عليه بأن يستأجرها لذلك أو لغيره ثم يقضي غرضه منها وهل يعجز عن ذلك زان أبدا وهل في طباع ولاة الأمر ان يقبلوا قول الزاني أنا استأجرتها للزنا أو استأجرتها لتطوي ثيابي ثم قضيت غرضي منها فلا يحل لك ان تقيم علي الحد وهل ركب الله في فطر الناس سقوط الحد عن هذه الجريمة التي هي من أعظم الجرائم إفسادا للفراش والأنساب بمثل هذا وهل يسقط الشارع الحكيم الحد عمن أراد أن ينكح أمه أو بنته أو أخته بأن يعقد عليها العقد ثم يطأها بعد ذلك وهل زاده صورة العقد المحرم إلا فجورا واثما واستهزاء بدين الله وشرعه ولعبا بآياته فهل يليق به مع ذلك رفع هذه العقوبة عنه وإسقاطها بالحيلة التي فعلها مضمومة إلى فعل الفاحشة بأمه وابنته فأين القياس وذكر المناسبات والعلل المؤثرة والإنكار على الظاهرية فهل بلغوا بالتمسك بالظاهر عشر معشار هذا والذي يقضى منه العجب أن يقال لا يعتد بخلاف المتمسكين بظاهر القرآن والسنة ويعتد بخلاف هؤلاء والله ورسوله منزه عن هذا الحكم.
ويالله العجب كيف يسقط القطع عمن اعتاد سرقة أموال الناس وكلما امسك معه المال المسروق قال: هذا ملكي والدار التي دخلتها داري والرجل الذي دخلت داره عبدي قال: أرباب الحيل فيسقط عنه الحد بدعوى ذلك فهل تأتي بهذا سياسة قط جائرة أو عأدلة فضلا عن شريعة نبي من الانبياء فضلا عن الشريعة التي هي اكمل شريعة طرقت العالم.
وكذلك الشارع أوجب الإنفاق على الأقارب لما في ذلك من قيام مصالحهم ومصالح المنفق ولما في تركهم من إضاعتهم فالتحيل لإسقاط الواجب بالتمليك في الصورة مناقضة لغرض الشارع وتتميم لغرض الماكر المحتال وعود إلى نفس الفساد الذي قصد الشارع اعدامه بأقرب الطرق ولو تحيل هذا المخادع على إسقاط نفقة دوابه لهلكوا وكذلك ما فرضه الله تعالى للوارث من الميراث هو حق له جعله أولى من سائر الناس به فإباحة التحيل لإسقاطه بالإقرار بماله كله للأجنبي وإخراج الوارث مضادة لشرع الله ودينه ونقض لغرضه واتمام لغرض المحتال وكذلك تعليم المرأة ان تقر بدين لأجنبي إذا أراد زوجها السفر بها.
فصل مناقضة الحيل لأصول الأئمة
وأكثر هذه الحيل لا تمشى على أصول الأئمة بل تناقضها اعظم مناقضة وبيانه ان الشافعي رضي الله عنه يحرم مسألة مد عجوة ودرهم بمد ودرهم ويبالغ في تحريمها بكل طريق خوفا ان يتخذ حيلة على نوع ما من ربا الفضل فتحريمه للحيل الصريحة التي يتوصل بها إلى ربا النساء أولى من تحريم مد عجوة بكثير فإن التحيل بمد ودرهم من الطرفين على ربا الفضل اخف من التحيل بالعينة على ربا النساء وأين مفسدة هذه من مفسدة تلك وأين حقيقة الربا في هذه من حقيقته في تلك وأبو حنيفة يحرم مسألة العينه وتحريمه لها يوجب تحريمه للحيلة في مسألة مد عجوه بأن يبيعه خمسة عشر درهما بعشرة في خرقة فالشافعي يبالغ في تحريم مسألة مد عجوة ويبيح العينة وأبو حنيفة يبالغ في تحريم العينة ويبيح مسائل مد عجوة ويتوسع فيها واصل كل من الامامين رضي الله عنهما في أحد البابين يستلزم إبطال الحيلة في الباب الآخر وهذا من أقوى التخريج على أصولهم ونصوصهم وكثير من الأقوال المخرجة دون هذا فقد ظهر أن الحيل المحرمة في الدين تقتضي رفع التحريم مع قيام موجبه ومقتضيه وإسقاط الوجوب مع قيام سببه وذلك حرام من وجوه أحدها استلزامها فعل المحرم وترك الواجب والثاني ما يتضمن من المكر والخداع والتلبيس والثالث الاغراء بها والدلالة عليها وتعليمها من لا يحسنها والرابع إضافتها إلى الشارع وان أصول شرعه ودينه تقتضيها والخامس ان صاحبها لا يتوب منها ولا يعدها ذنبا والسادس انه يخادع الله كما يخادع المخلوق والسابع انه يسلط اعداء الدين على القدح فيه وسوء الظن به وبمن شرعه والثامن انه يعمل فكره واجتهاده في نقض ما ابرمه الرسول وإبطال ما أوجبه وتحليل ما حرمه والتاسع أنه إعانة ظاهرة على الإثم والعدوان وإنما اختلفت الطريق فهذا يعين عليه بحيلة ظاهرها صحيح مشروع يتوصل بها إليه وذاك يعين عليه بطريقه المفضية إليه بنفسها فكيف كان هذا معينا على الإثم والعدوان والمتحيل المخادع يعين على البر والتقوى العاشر ان هذا ظلم في حق الله وحق رسوله وحق دينه وحق نفسه وحق العبد المعين وحقوق عموم المؤمنين فإنه يغرى به ويعلمه ويدل عليه والمتوصل إليه بطريق المعصية لا يظلم إلا نفسه ومن تعلق به ظلمه من المعينين فإنه لا يزعم ان ذلك دين وشرع ولا يقتدى به الناس فأين فساد أحدهما من الآخر وضرره من ضرره وبالله التوفيق.
فصل حجج من جوزوا الحيل
قال أرباب الحيل قد أكثرتم من ذمم الحيل وأجلبتم بخيل الأدلة ورجلها وسمينها ومهزولها فاستمعوا الآن تقريرها واشتقاقها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأئمة الإسلام وأنه لا يمكن أحدا إنكارها.
قال الله تعالى لنبيه أيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} فأذن لنبيه أيوب ان يتحلل من يمينه بالضرب بالضغث وقد كان نذر أن يضربها ضربات معدودة وهي في التعارف الظاهر إنما تكون متفرقة فأرشده تعالى إلى الحيلة في خروجه من اليمين فنقيس عليه سائر الباب ونسميه وجوه المخارج من المضائق ولا نسميه بالحيل التي ينفر الناس من اسمها.
وأخبر تعالى عن نبيه يوسف عليه السلام أنه جعل صواعه في رحل أخيه ليتوصل بذلك إلى أخذه من إخوته ومدحه بذلك وأخبر أنه برضاه وإذنه كما قال: كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم فأخبر ان هذا كيده لنبيه وأنه بمشيئته وأنه يرفع درجة عبده بلطيف العلم ودقيقه الذي لا يهتدي إليه سواه وأن ذلك من علمه وحكمته.
وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فأخبر تعالى أنه مكر بمن مكر بأنبيائه ورسله وكثير من الحيل هذا شأنها يمكر بها على الظالم والفاجر ومن يعسر تخليص الحق منه فتكون وسيلة إلى نصر مظلوم وقهر ظالم ونصر حق وإبطال باطل.
والله تعالى قادر على أخذهم بغير وجه المكر الحسن ولكن جازاهم بجنس عملهم وليعلم عباده أن المكر الذي يتوصل به إلى إظهار الحق ويكون عقوبة للماكر ليس قبيحا.
وكذلك قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وخداعه لهم أن يظهر لهم أمرا ويبطن لهم خلافه فما تنكرون على أرباب الحيل الذين يظهرون أمرا يتوصلون به إلى باطن غيره اقتداء بفعل الله تعالى.
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن رسول الله ﷺ استعمل رجلا على خيبر فجاءهم بتمر جنيب فقال أكل تمر خيبر هكذا قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاث فقال لا تفعل بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا وقال في الميزان مثل ذلك فأرشده إلى الحيلة على التخلص من الربا بتوسط العقد الآخر وهذا أصل في جواز العينة.
وهل الحيل إلا معاريض في الفعل على وزان المعاريض في القول وإذا كان في المعاريض مندوحة عن الكذب ففي معاريض الفعل مندوحة عن المحرمات وتخلص من المضايق.
وقد لقي النبي ﷺ طائفة من المشركين وهو في نفر من أصحابه فقال المشركون ممن أنتم فقال رسول الله ﷺ نحن من ماء فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا أحياء اليمن كثير فلعلهم منهم وانصرفوا.
وقد جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: احملني فقال: "ما عندي إلا ولد ناقة" فقال: ما أصنع بولد الناقة فقال النبي ﷺ: "وهل يلد الإبل إلا النوق".
وقد رأت امرأة عبد الله بن رواحة عبد الله على جارية له فذهبت وجاءت بسكين فصادفته وقد قضى حاجته فقالت لو وجدتك على الحال التي كنت عليها لوجأتك فأنكر فقالت: فاقرأ إن كنت صادقا فقال:
شهدت بأن وعد الله حق ** وأن النار مثوى الكافرينا.
وان العرش فوق الماء طاف ** وفوق العرش رب العالمينا.
وتحمله ملائكة كرام ** ملائكة الإله مسومينا.
فقالت آمنت بكتاب الله وكذبت بصرى فبلغ النبي ﷺ فضحك ولم ينكر عليه وهذا تحيل منه بإظهار القراءة لما أوهم أنه قرآن ليتخلص به من مكروه الغيرة.
وكان بعض السلف إذا أراد أن لا يطعم طعاما لرجل قال: أصبحت صائما يريد أنه اصبح فيما سلف صائما قبل ذلك اليوم وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه بعض غرمائه وليس عنده ما يعطيه قال: أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله يريد بذلك يومي الدنيا والآخرة وسأل رجل عن المروزي وهو في دار أحمد بن حنبل فكره الخروج إليه فوضع أحمد أصبعه في كفه فقال ليس المروزي ههنا وما يصنع المروزي ههنا وحضر سفيان الثوري مجلسا فلما أراد النهوض منعوه فحلف أنه يعود ثم خرج وترك نعله كالناسي لها فلما خرج عاد وأخذها وانصرف وقد كان لشريح في هذا الباب فقه دقيق كما أعجب رجل فرسه وأراد أخذها منه فقال له شريح إنها إذا أربضت لم تقم حتى تقام فقال الرجل أف أف وإنما أراد شريح أن الله هو الذي يقيمها وباع من رجل ناقة فقال له المشتري كم تحمل فقال احمل على الحائط ما شئت فقال كم تحلب قال: احلب في أي إناء شئت فقال كيف سيرها قال: الريح لا تلحق فلما قبضها المشتري لم يجد شيئا من ذلك فجاء إليه وقال ما وجدت شيئا من ذلك فقال ما كذبتك.
قالوا ومن المعلوم أن الشارع جعل العقود وسائل وطرقا إلى إسقاط الحدود والمأثم ولهذا لو وطيء الإنسان امرأة أجنبية من غير عقد ولا شبهة لزمه الحد فإذا عقد عليها عقد النكاح ثم وطئها لم يلزمه الحد وكان العقد حيلة على إسقاط الحد بل قد جعل الله تعالى الأكل والشرب واللباس حيلة على دفع أذى الجوع والعطش والبرد والاكتفاء حيلة إلى دفع الصائل من الحيوان وغيره وعقد التبايع حيلة على حصول الانتفاع بملك الغير وسائر العقود حيلة على التوصل إلى مالا يباح إلا بها وشرع الرهن حيلة على رجوع صاحب الدين في ماله من عين الرهن إذا أفلس الراهن أو تعذر الاستيفاء منه.
وقد روى سلمة بن صالح عن يزيد الواسطي عن عبد الكريم عن عبد الله ابن بريدة قال: سئل رسول الله ﷺ عن أعظم آية في كتاب الله فقال لا أخرج من المسجد حتى أخبرك فقام رسول الله ﷺ من مجلسه فلما أخرج إحدى رجليه أخبره بالآية قبل أن يخرج رجله الأخرى.
وقد بنى الخصاف كتابه في الحيل على هذا الحديث ووجه الاستدلال به أن من حلف أن لا يفعل شيئا فأراد التخلص من الحنث بفعل بعضه لم يكن حانثا فإذا حلف لا يأكل هذا الرغيف ولا يأخذ هذا المتاع فليدع بعضه ويأخذ الباقي ولا يحنث وهذا أصل في بابه في التخلص من الأيمان.
وهذا السلف الطيب قد فتحوا لنا هذا الباب ونهجوا لنا هذا الطريق فروى قيس بن الربيع عن الأعمش عن إبراهيم في رجل أخذه رجل فقال إن لي معك حقا فقال لا فقال احلف لي بالمشي إلى بيت الله فقال يحلف له بالمشي إلى بيت الله ويعني به مسجد حيه وبهذا الإسناد أنه قال: له رجل إن فلانا امرني أن آتي مكان كذا وكذا وأنا لا أقدر على ذلك المكان فكيف الحيلة قال: يقول والله ما أبصر إلا ما سددني غيري.
وذكر عبد الملك بن ميسرة عن النزالي بن سبرة قال: جعل حذيفة لعثمان ابن عفان على أشياء بالله ما قالها وقد سمعناه يقولها فقلنا يا أبا عبد الله سمعناك تحلف لعثمان على أشياء ما قلتها وقد سمعناك قلتها فقال: "إني أشترى ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله" وذكر قيس بن الربيع عن الأعمش عن إبراهيم أن رجلا قال: له إني أنال من رجل شيئا فيبلغه عني فكيف أعتذر إليه فقال له إبراهيم: "قل والله إن الله ليعلم ما قلت من ذلك من شيء" وكان إبراهيم يقول لأصحابه إذا خرجوا من عنده وهو مستخف من الحجاج: "إن سئلتم عني فاحلفوا بالله لا تدرون أين أنا ولا في أي موضع أنا وأعنوا لا تدرون أين انا من البيت وفى أي موضع منه وأنتم صادقون" وقال مجاهد عن ابن عباس: "ما يسرني بمعارض الكلام حمر النعم".
وقد ثبت في الصحيح من حديث حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت من المهاجرات الأول: "أن رسول الله ﷺ رخص في الكذب في ثلاث في الرجل يصلح بين الناس والرجل يكذب لامرأته والكذب في الحرب".
وقال معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه حدثني نعيم بن أبي هند عن سويد ابن غفلة أن عليا كرم الله وجهه في الجنة لما قتل الزنادقة نظر في الأرض ثم رفع رأسه إلى السماء ثم قال: صدق الله ورسوله ثم قام فدخل بيته فأكثر الناس في ذلك فدخلت عليه فقلت يا أمير المؤمنين أشيء عهد إليك رسول الله ﷺ أم شيء رأيته فقال هل على من بأس أن أنظر إلى السماء قلت لا قال: فهل على من بأس أن أنظر إلى الأرض قلت لا قال: فهل على من بأس أن أقول صدق الله ورسوله قلت لا قال: فإني رجل مكائد.
وقال حجاج بن منهال ثنا أبو عوانة عن أبي مسكين قال: كنت عند إبراهيم وامرأته تعاتبه في جاريته وبيدها مروحة فقال أشهدكم بأنها لها فلما خرجنا قال: علام شهدتم قلنا أشهدتنا أنك جعلت الجارية لها قال: أما رأيتموني أشير إلى المروحة.
وقال محمد بن الحسن عن عمرو بن دينار عن الشعبي لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام ويخرج به إلى الحلال فما كان من هذا ونحوه فلا بأس به وإنما يكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق الرجل حتى يبطله أو يحتال في باطل حتى يوهم انه حق أو يحتال في شئ حتى يدخل فيه شبهة وأما ما كان على السبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك.
قالوا وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} قال: غير واحد من المفسرين: مخرجا مما ضاق على الناس ولا ريب أن هذه الحيل مخارج مما ضاق على الناس ألا ترى أن الحالف يضيق عليه إلزام ما حلف عليه فيكون له بالحيلة مخرج منه وكذلك الرجل تشتد به الضرورة إلى نفقة ولا يجد من يقرضه فيكون له من هذا الضيق مخرج بالعينة والتورق ونحوهما فلو لم يفعل ذلك لهلك ولهلكت عياله والله تعالى لا يشرع ذلك ولا يضيق عليه شرعه الذي وسع جميع خلقه فقد دار أمره بين ثلاثة لا بد له من واحد منها إما إضاعة نفسه وعياله وإما الربا صريحا وإما المخرج من هذا الضيق بهذه الحيلة فأوجدونا أمرا رابعا نصير إليه وكذلك الرجل ينزعه الشيطان فيقع به الطلاق فيضيق عليه جدا مفارقة امرأته وأولاده وخراب بيته فكيف ينكر في حكمة الله ورحمته أن نتحيل له بحيلة تخرجه من هذا الاصر والغل وهل الساعي في ذلك إلا مأجور غير مأزور كما قاله إمام الظاهرية في وقته أبو محمد بن حزم وأبو ثور وبعض أصحاب أبي حنيفة وحملوا أحاديث التحريم على ما إذا شرط في صلب العقد انه نكاح تحليل؟
قالوا وقد روى عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال: أرسلت امرأة إلى رجل فزوجته نفسها ليحلها لزوجها فأمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان يقيم معها ولا يطلقها وأوعده ان يعاقبه ان طلقها فهذا أمير المؤمنين قد صحح نكاحه ولم يأمره باستئنافه وهو حجة في صحة نكاح المحلل والنكاح بلا ولي.
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان لا يرى بأسا بالتحليل إذا لم يعلم أحد الزوجين قال ابن حزم وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وصح عن عطاء فيمن نكح امرأة محللا ثم رغب فيها فأمكسها فقال لا بأس بذلك. وقال الشعبي لا بأس بالتحليل إذا لم يأمر به الزوج. وقال الليث بن سعد إن تزوجها ثم فارقها لترجع إلى زوجها ولم يعلم المطلق ولا هي بذلك وإنما كان ذلك إحسانا منه فلا بأس ان ترجع إلى الأول فإن بين الثاني ذلك للأول بعد دخوله بها لم يضره. وقال الشافعي وأبو ثور المحلل الذي يفسد نكاحه هو الذي يعقد عليه في نفس عقد النكاح انه إنما يتزوجها ليحلها ثم يطلقها فأما من لم يشترط ذلك في عقد النكاح فعقده صحيح لا داخلة فيه سواء شرط ذلك عليه قبل العقد أو لم يشرط نوى ذلك أو لم ينوه قال أبو ثور: وهو مأجور.
وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف وعن أبي حنيفة مثل هذا سواء وروى أيضا محمد وأبو يوسف عن أبي حنيفة إذا نوى الثاني وهي تحليلها للأول لم تحل له بذلك.
وروى الحسن بن زياد عن زفر وأبي حنيفة أنه إن اشترط عليه في نفس العقد أنه إنما تزوجها ليحلها للأول فإنه نكاح صحيح ويبطل الشرط وله ان يقيم معها فهذه ثلاث روايات عن أبي حنيفة.
قالوا وقد قال الله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وهذا زوج وقد عقد بمهر وولى ورضاها وخلوها من الموانع الشرعية وهو راغب في ردها إلى الأول فيدخل في حديث ابن عباس ابن رسول الله ﷺ قال: "لا نكاح إلا نكاح رغبة وهذا نكاح رغبة في تحليلها للمسلم" كما أمر الله تعالى بقوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} والنبي ﷺ إنما شرط في عودها إلى الأول مجرد ذوق العسيلة بينهما وغيا الحل بذلك فقال لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها فإذا تذاوقا العسيلة حلت له بالنص.
قالوا وأما نكاح الدلسة فنعم هو باطل ولكن ما هو نكاح الدلسة فلعله أراد به أن تدلس له المرأة بغيرها أو تدلس له انها انقضت عدتها ولم تنقض لتستعجل عودها إلى الأول.
وأما لعنه للمحلل فلا ريب انه ﷺ لم يرد كل محلل ومحلل له فإن الولي محلل لما كان حراما قبل العقد والحاكم المزوج محلل بهذا الاعتبار والبائع لأمته محلل للمشتري وطأها فإن قلنا العام إذ خص صار مجملا بطل الاحتجاج بالحديث وإن قلنا هو حجة فيما عدا محل التخصيص فذلك مشروط ببيان المراد منه ولسنا ندري المحلل المراد من هذا النص أهو الذي نوى التحليل أو شرطه قبل العقد أو شرطه في صلب العقد أو الذي أحل ما حرمه الله ورسوله ووجدنا كل من تزوج مطلقة ثلاثا فإنه محلل ولو لم يشترط التحليل ولم ينوه فإن الحل حصل بوطئه وعقده ومعلوم قطعا أنه لم يدخل في النص فعلم ان النص إنما أراد به من أحل الحرام بفعله أو عقده ونحن وكل مسلم لا نشك في أنه أهل للعنه الله وأما من قصد الاحسان إلى أخيه المسلم ورغب في جمع شمله بزوجته ولم شعثه وشعث أولاده وعياله فهو محسن وما على المحسنين من سبيل فضلا عن ان تلحقهم لعنة رسول الله ﷺ.
ثم قواعد الفقه وأدلته لا تحرم مثل ذلك فإن هذه العقود التي لم يشترط المحرم في صلبها عقود صدرت من أهلها في محلها مقرونة بشروطها فيجب الحكم بصحتها لأن السبب هو الإيجاب والقبول وهما تامان وأهلية العاقد لا نزاع فيها ومحلية العقد قابلة فلم يبق إلا القصد المقرون بالعقد ولا تأثير له في بطلان الأسباب الظاهرة لوجوه أحدها أن المحتال مثلا إنما قصد الربح الذي وضعت له التجارة وإنما لكل امرئ ما نوى فإذا حصل له الربح حصل له مقصوده وقد سلك للطريق المفضية إليه في ظاهر الشرع والمحلل غايته انه قصد الطلاق ونواه إذا وطيء المرأة وهو مما ملكه الشارع إياه فهو كما لو نوى المشتري إخراج المبيع عن ملكه إذا اشتراه وسر ذلك أن السبب مقتض لتأبد الملك والنية لا تغير موجب السبب حتى يقال إن النية توجب تأقيت العقد وليست هي منافية لموجب العقد فإن له أن يطلق ولو نوى بعقد الشراء إتلاف المبيع وإحراقه أو إغراقه لم يقدح في صحة البيع فنية الطلاق أولى.
وأيضا فالقصد لا يقدح في اقتضاء السبب لحكمه لأنه خارج عما يتم به العقد ولهذا لو اشترى عصيرا ومن نيته ان يتخذه خمرا أو جارية ومن نيته ان يكرهها على البغاء أو يجعلها مغنية أو سلاحا ومن نيته ان يقتل به معصوما فكل ذلك لا أثر له في صحة البيع من جهة انه منقطع عن السبب فلا يخرج السبب عن اقتضاء حكمه.
وقد ظهر بهذا الفرق بين هذا العقد وبين الإكراه فإن الرضا شرط في صحة العقد والإكراه ينافى الرضا وظهر أيضا الفرق بينه وبين الشرط المقارن فإن الشرط المقارن يقدح في مقصود العقد فغاية الأمر ان العاقد قصد محرما لكن ذلك لا يمنع ثبوت الملك كما لو تزوجها ليضار بها امرأة له أخرى ومما يؤيد ما ذكرناه ان النية إنما تعمل في اللفظ المحتمل للمنوى وغيره مثل الكنايات ومثل أن يقول اشتريت كذا فإنه يحتمل ان يشتريه لنفسه ولموكله فإذا نوى أحدهما صح فإذا كان السبب ظاهرا متعينا لمسببه لم يكن للنية الباطنة أثر في تغيير حكمه.
يوضحه أن النية لا تؤثر في اقتضاء الأسباب الحسية والعقلية المستلزمة لمسبباتها ولا تؤثر النية في تغييرها.
يوضحه أن النية إما ان تكون بمنزلة الشرط أو لا تكون فإن كانت بمنزلة الشرط لزم انه إذا نوى ان لا يبيع ما اشتراه ولا يهبه ولا يتصرف فيه أو نوى ان يخرجه عن ملكه أو نوى ان لا يطلق الزوجة أو يبيت عندها كل ليلة أو لا يسافر عنها بمنزلة ان يشترط ذلك في العقد وهو خلاف الإجماع وان لم تكن بمنزلة الشرط فلا تأثير له حينئذ.
وأيضا فنحن لنا ظواهر الامور والى الله سرائرها وبواطنها ولهذا يقول الرسل لربهم تعالى يوم القيامة إذ سألهم: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} فيقولون: {لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوب} كان لنا ظواهرهم وأما ما انطوت عليه ضمائرهم وقلوبهم فأنت العالم به.
قالوا فقد ظهر عذرنا وقامت حجتنا فتبين أنا لم نخرج فيما أصلناه من اعتبار الظاهر وعدم الالتفات إلى القصود في العقود وإلغاء الشروط المتقدمة الخالي عنها العقد والتحيل على التخلص من مضايق الايمان وما حرمه الله ورسوله من الربا وغيره عن كتاب ربنا وسنة نبينا وأقوال السلف الطيب.
ادعاء أن في مذاهب الأئمة تجويزا للحيل
ولنا بهذه الأصول رهن عند كل طائفة من الطوائف المنكرة علينا.
فلنا عند الشافعية رهون كثيرة في عدة مواضيع وقد سلموا لنا ان الشرط المتقدم على العقد ملغى وسلموا لنا ان القصود غير معبرة في العقود وسلموا لنا جواز التحيل على إسقاط الشفعة وقالوا يجوز التحيل على بيع المعدوم من الثمار فضلا عما لم يبد صلاحه بأن يؤجره الأرض ويساقيه على الثمر من كل ألف جزء على جزء وهذا نفس الحيلة على بيع الثمار قبل وجودها فكيف تنكرون علينا التحيل على بيعها قبل بدو صلاحها وهل مسألة العينة إلا ملك باب الحيل وهم يبطلون الشركة بالعروض ثم يقولون الحيلة في جوازها ان يبيع كل منهما نصف عرضه لصاحبه فيصيران شريكين حينئذ بالفعل ويقولون لا يصح تعليق الوكالة بالشرط والحيلة على جوازها ان يوكله الآن ويعلق تصرفه بالشرط.
وقولهم في الحيل على عدم الحنث بالمسألة السريجية معروف وكل حيلة سواه محلل بالنسبة إليه فإن هذه المسألة حيلة على أن يحلف دائما بالطلاق ويحنث ولا يقع عليه الطلاق ابدا.
وأما المالكية فهم من أشد الناس إنكارا علينا للحيل وأصولهم تخالف أصولنا في ذلك إذ عندهم أن الشرط المتقدم كالمقارن والشرط العرفي كاللفظي والقصود في العقود معتبرة والذرائع يجب سدها والتغرير الفعلي كالتغرير القولى وهذه الأصول تسد باب الحيل سدا محكما ولكن قد علقنا لهم برهون نطالبهم بفكاكها أو بموافقتهم لنا على ما أنكروه علينا فجوزوا التحيل على إسقاط الشفعة وقالوا لو تزوجها ومن نيته ان يقيم معها سنة صح النكاح ولم تعمل هذه النية في فساده.
وأما الحنابلة فبيننا وبينهم معترك النزال في هذه المسائل فإنهم هم الذين شنوا علينا الغارات ورمونا بكل سلاح من الاثر والنظر ولم يراعوا لنا حرمة ولم يرقبوا فينا إلا ذمة وقالوا لو نصب شباكا للصيد قبل الاحرام ثم أخذ ما وقع فيها حال الاحرام بعد الحل جاز ويالله العجب أي فرق بين هذه الحيلة وحيلة أصحاب السبت على الحيتان وقالوا لو نوى الزوج الثاني ان يحلها للأول ولم يشترط ذلك جاز وحلت له لأنه لم يشترط ذلك في العقد وهذا تصريح بأن النية لا تؤثر في العقد وقالوا لو تزوجها ومن نيته ان يقيم معها شهرا ثم يطلقها صح العقد ولم تكن نية التوقيت مؤثرة فيه وكلامهم في باب المخارج من الايمان بأنواع الحيل معروف وعنا تلقوه ومنا أخذوه وقالوا لو حلف ان لا يشتري منه ثوبا فاتهبه منه وشرط له العوض لا يحنث وقالوا بجواز مسألة التورق وهي شقيقة مسألة العينة فأي فرق بين مصير السلعة إلى البائع وبين مصيرها إلى غيره بل قد يكون عودها إلى البائع أرفق بالمشتري وأقل كلفة عليه وأرفع لخسارته وتعنيه فكيف تحرمون الضرر اليسير وتبيحون ما هو أعظم منه والحقيقة في الموضوعين واحدة وهي عشر وبينهما حريرة رجعت في إحدى الصورتين إلى مالكها وفي الثانية إلى غيره؟
وقالوا لو حلف بالطلاق لا يتزوج عبده بأمته أبدا ثم أراد تزويجه بها ولا يحنث فإنه يبيع العبد والجارية من رجل ثم يزوجهما المشتري ثم يستردهما منه قال القاضي: "وهذا غير ممتنع على أصلنا لأن عقد النكاح قد وجد في حال زوال ملكه عنهما ولا يتعلق الحنث باستدامة العقد بعد أن ملكهما لأن التزويج عبارة عن العقد وقد انقضى وإنما بقى حكمه فلم يحنث باستدامة حكمه".
وقالوا لو كان له عليه مال وهو محتاج فأحب أن يدعه له من زكاته فالحيلة ان يتصدق عليه بذلك القدر ثم يقبضه منه ثم قالوا: فإن كان له شريك فيه فخاف ان يخاصمه فيه فالحيلة ان يهب المطلوب للطالب مالا بقدر حصة الطالب مما له عليه ويقبضه منه للطالب ثم يتصدق الطالب على المطلوب بما وهبه له ويحتسب بذلك من زكاته ثم يهب المطلوب ماله عليه من الدين ولا يضمن الطالب لشريكه شيئا لأن هبة الدين لمن في ذمته براءة وإذا أبرأ أحد الشريكين الغريم من نصيبه لم يضمن لشريكه شيئا وإنما يضمن إذا حصل الدين في ضمانه.
وقالوا لو أجره الأرض بأجرة معلومة وشرط عليه ان يؤدي خراجها لم يجز لأن الخراج على المالك لا على المستأجر والحيلة في جوازه ان يؤجره إياها بمبلغ يكون زيادته بقدر الخراج ثم يأذن له أن يدفع في خراجها ذلك القدر الزائد على اجرتها قالوا: لأنه متى زاد مقدار الخراج على الأجرة حصل ذلك دينا على المستأجر وقد أمره ان يدفعه إلى مستحق الخراج وهو جائز.
وقالوا ونظير هذا أن يؤجره دابة ويشترط علفها على المستأجر لم يجز والحيلة في جوازه هكذا سواء يزيد الأجرة ويوكله ان يعلف الدابة بذلك القدر الزائد.
وقالوا لا يصح استئجار الشجرة للثمرة والحيلة في ذلك ان يؤجره الأرض ويساقيه على الثمرة من كل ألف جزء جزء مثلا.
وقالوا لو وكله ان يشتري له جارية معينة بثمن معين دفعه إليه فلما رآها أراد شراءها لنفسه وخاف ان يحلفه انه انما اشتراها بمال الموكل له وهو وكيله فالوجه ان يعزل نفسه عن الوكالة ثم يشتريها بثمن في ذمته ثم ينقد ما معه من الثمن ويصير لموكله في ذمته نظيره.
قالوا واما نحن فلا تأتي هذه الحيلة على أصولنا لأن الوكيل لا يملك عزل نفسه إلا بحضرة موكله.
قالوا وقد قالت الحنابلة أيضا لو أراد إجارة أرض له فيها زرع لم يجز والحيلة في جوازه ان يبيعه الزرع ثم يؤجره الأرض فإن أراد بعد ذلك ان يشتري منه الزرع جاز.
وقالوا لو شرط رب المال على المضارب ضمان مال المضاربة لم يصح والحيلة في صحته ان يقرضه المال في ذمته ثم يقبضه المضارب منه فإذا قبضه دفعه إلى مالكه الأول مضاربة ثم يدفعه رب المال إلى المضارب بضاعة فإن نوى فهو من ضمان المضارب لأنه قد صار مضمونا عليه بالقرض فتسليمه إلى رب المال مضاربة كتسليم مال له آخر وحيلة أخرى وهي ان يقرض رب المال المضارب ما يريد دفعه إليه ثم يخرج من عنده درهما واحدا فيشاركه على أن يعملا بالمالين جميعا على أن ما رزقه الله فهو بينهما نصفين فإن عمل أحدهما بالمال بإذن صاحبه فربح كان الربح بينهما على ما شرطاه وان خسر كان الخسران على قدر المالين وعلى رب المال بقدر الدرهم وعلى المضارب بقدر رأس المال وإنما جاز ذلك لأن المضارب هو الملزم نفسه الضمان بدخوله في القرض.
وقالوا لا تجوز المضاربة على العرض فإن كان عنده عرض فأراد أن يضارب عليه فالحيلة في جوازه ان يبيعه العرض ويقبض ثمنه فيدفعه إليه مضاربة ثم يشتري المضارب ذلك المتاع بالمال.
وقالوا: لو حلفته امرأته ان كل جارية يشتريها فهى حرة فالحيلة في جواز الشراء ولا تعتق ان يعنى بالجارية السفينة ولا تعتق وان لم تحضره هذه النية وقت اليمين فالحيلة ان يشتريها صاحبه ويهبه اياها ثم يهبه نظير الثمن وقالوا لو حلفته ان كل امرأة يتزوجها عليها فهى طالق وخاف من هذه اليمين عند من يصحح هذا التعليق فالحيلة ان ينوي كل امرأة أتزوجها على طلاقك أي يكون طلاقك صداقها أو كل امرأة أتزوجها على رقبتك أي تكون رقبتك صداقها فهى طالق فلا يحنث بالتزويج على غير هذه الصفة.
وقالوا لو أراد أن يصرف دنانير بدارهم ولم يكن عند الصيرفي مبلغ الدراهم وأراد أن يصبر عليها بالباقي لم يجز والحيلة فيه ان يأخذ ما عنده من الدراهم بقدر صرفه ثم يقرضه إياها فيصرف بها الباقي فإن لم يوف فعل ذلك مرارا حتى يستوفى صرفه ويصير ما أقرضه دينا عليه لا انه عوض الصرف.
وقالوا لو أراد أن يبيعه دراهم بدنانير إلى اجل لم يجز والحيلة في ذلك ان يشتري منه متاعا وينقده ثمنه ويقبض المتاع ثم يشتري البائع منه ذلك المتاع بدنانيرالى أجل والتأجيل جائز في ثمن المتاع.
وقالوا لو مات رب المال بعد أن قبض المضارب المال انتقل إلى ورثته فلو اشترى المضارب به بعد ذلك متاعا ضمن لأنه تصرف بعد بطلان الشركة والحيلة في تخلص المضارب من ذلك أن يشهد رب المال ان حصته من المال الذي دفعه إليه مضاربة لولده وانه مقارض إلى هذا الشريك بجميع ما تركه وأمره ان يشتري لولده ما أحب في حياته وبعد وفاته فيجوز ذلك لأن المانع منه كونه متصرفا في ملك الغير بغير وكالة ولا ولاية فإذا أذن له في التصرف برئ من الضمان وان كانت هذه الحيلة انما تتم إذا كان الورثة أولادا صغارا.
وقالوا لو صالح عن المؤجل ببعضه حالا لم يصح والحيلة في تصحيحه ان يفسخا العقد الذي وقع على المؤجل ويجعلاه بذلك القدر الحال.
وقالوا لو لبس المتوضيء أحد الخفين قبل غسل الرجل الأخرى ثم غسل الأخرى ولبس عليها لم يجز المسح لأنه لم يلبس على كمال الطهارة والحيلة في جواز المسح ان يخلع هذه الفردة الثانية ثم يلبسها.
قالوا: ولو أوصى لرجل بخدمة عبده أو بما في بطن أمته جاز فلو أراد الورثة شراء خدمة العبد أو ما في بطن الأمة من الموصى له لم يجز والحيلة في جوازه ان يصالحوه عن الموصى به على ما يبذلونه له فيجوز وإن لم يجز البيع فإن الصلح يجوز فيه ما لا يجوز في البيع.
قالوا ولا يجوز الشركة بالعروض فإن كان لأحدهما عرض يساوي خمسة آلاف درهم وللآخر عرض يساوي الفا فأحبا ان يشتركا في العرضين فالحيلة ان يشتري صاحب العرض الذي قيمته خمسة آلاف من الآخر خمسة أسداس عرضه بسدس عرضه هو فيصير للذي يساوي عرضه ألفا سدس جميع المال وللآخر خمسة أسداسه لأن جميع ماليهما ستة آلاف وقد حصل كل واحد من العرضين بهذه الشركة بينهما أسداسا خمسة أسداسه لأحدهما وسدسه للآخر فإذا هلك أحدهما هلك على الشركة قالوا: ولا تقبل شهادة الموكل لموكله فيما هو وكيله فيه فلو لم يكن له شاهد غيره وخاف ضياع حقه فالحيلة ان يعزله حتى يشهد له ثم يوكله بعد ذلك إن أراد.
قالوا ولو أعتق عبده في مرضه وثلثه يحتمله وخاف عليه من الورثة ان يجحدوا المال ويرثوا ثلثيه فالحيلة ان يدفع إليه مالا يشتري نفسه منه بحضرة شهود ويشهدون انه قد اقبضه المال وصار العبد حرا.
قالوا وكذلك الحيلة لو كان لأحد الورثة دين على الموروث وليست له به بينة فأراد بيعه العبد بدينه الذي له عليه فعل مثل ذلك سواء.
قالوا ولو قال: أوصيت إلى فلان وان لم يقبل فإلى فلان وخاف ان تبطل الوصية على مذهب من لا يرى جواز تعليق الولاية بالشرط فالحيلة أن يقول فلان وفلان وصيان فإن لم يقبل أحدهما وقبل الآخر فالذي قبل هو الوصي فيجوز على قول الجميع لأنه لم يعلق الولاية بالشرط.
قالوا ولو أراد ذمى ان يسلم وعنده حمر كثير فخاف ان يذهب عليه بالإسلام فالحيلة ان يبادر ببيعها من ذمى آخر ثم يسلم فإنه يملك تقاضيه بعد الإسلام فإن بادر الآخر وأسلم لم يسقط عنه ذلك وقد نص عليه الإمام أحمد في مجوسي باع مجوسيا خمرا ثم أسلما يأخذ الثمن قد وجب له يوم باعه.
قال أرباب الحيل: فهذا رهن الفرق عندنا بأنهم قالوا بالحيل وأوصوا بها فماذا تنكرون علينا بعد ذلك وتشنعون ومثالنا ومثالهم في ذلك كقوم وجدوا كنزا فأصاب كل منهم طائفة منه في يديه فمستقل ومستكثر ثم أقبل بعض الآخذين ينقم على بقيتهم وما أخذه من الكنز في يديه فليرم بما أخذ منه ثم لينكر على الباقين.
إعلام الموقعين عن رب العالمين | |
---|---|
الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | فهرس |