إحياء علوم الدين/كتاب العلم/الباب الخامس
أما المتعلم فآدابه ووظائفه الظاهرة كثيرة ولكن تنظم تفاريقها عشر جمل: الوظيفة الأولى: تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف إذ العلم عبادة القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله تعالى؛ وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف. قال ﷺ "بنى الدين على النظافة" وهو كذلك باطناً وظاهراً قال الله تعالى "إنما المشركون نجس" تنبيهاً للعقول على الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظواهر بالحس فالمشرك قد يكون نظيف الثوب مغسول البدن ولكنه نجس الجوهر أي باطنه ملطخ بالخبائث. والنجاسة عبارة عما يجتنب ويطلب البعد منه وخبائث صفات الباطن أهم بالاجتناب فإنها مع خبثها في الحال مهلكات في المآل. ولذلك قال ﷺ "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب" والقلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم ومحل استقرارهم؛ والصفات الرديئة مثل والغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب إلا بواسطة الملائكة "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء" وهكذا ما يرسل من رحمة العلوم إلى القلوب إنما تتولاها الملائكة الموكلون بها وهم المقدسون المطهرون المبرءون عن الصفات المذمومات فلا يلحظون إلا طيباً ولا يعمرون بما عندهم من خزائن رحمة الله إلا طيباً طاهراً. ولست أقول المراد بلفظ البيت هو القلب و بالكلب هو الغضب والصفات المذمومة ولكني أقول هو تنبيه عليه، وفرق بين تعبير الظواهر إلى البواطن وبين التنبيه للبواطن من ذكر الظواهر مع تقرير الظواهر، ففارق الباطنية بهذه الدقيقة، فإن هذه طريق الاعتبار وهو مسلك العلماء والأبرار إذ معنى الاعتبار أن يعبر ما ذكر إلى غيره فلا يقتصر عليه كما عليه كما يرى العاقل مصيبة لغيره فيكون فيها له عبرة بأن يعبر منها إلى التنبيه لكونه أيضاً عرضة للمصائب وكون الدنيا بصدد الانقلاب، فعبوره من غيره إلى نفسه ومن نفسه إلى أصل الدنيا عبرة محمودة فاعبر أنت أيضاً من البيت الذي هو بناء الخلق إلى القلب الذي هو بيت من بناء الله تعالى ومن الكلب الذي ذم لصفته - لا لصورته - وهو ما فيه من سبعية ونجاسة إلى الروح الكلبية وهي السبعية. واعلم أن القلب المشحون بالغضب والشره إلى الدنيا والتكلب عليها والحرص على التمزيق لأعراض الناس كلب في المعنى وقلب في الصورة، فنور البصيرة يلاحظ المعاني لا الصور. والصور في هذا العالم غالبة على المعاني والمعاني باطنة فيها. وفي الآخرة تتبع الصور المعاني وتغلب المعاني. فلذلك يحشر كل شخص على صورته المعنوية فيحشر الممزق لأعراض الناس كلباً ضارياً.
والشره إلى أموالهم ذئباً عادياً، والمتكبر عليهم في صورة نمر، وطالب الرياسة في صورة أسد وقد وردت بذلك الأخبار وشهد به الاعتبار عند ذوي البصائر والأبصار. فإن قلت: كم من طالب رديء الأخلاق حصل العلوم فهيهات ما بعده عن العلم الحقيقي النافع في الآخرة الجالب للسعادة فإن من أوائل ذلك العلم أن يظهر له أن المعاصي سموم قاتلة مهلكة وهل رأيت من يتناول سماً مع علمه بكونه سماً قاتلاً? إنما الذي تسمعه من المترسمين حديث يلفقونه بألسنتهم مرة ويرددونه بقلوبهم أخرى وليس ذلك من العلم في شيء. قال ابن مسعود رضي الله عنه ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم نور يقذف في القلب. وقال بعضهم: إنما العلم الخشية لقوله تعالى "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وكأنه أشار إلى أخص ثمرات العلم. ولذلك قال بعض المحققين: معنى قولهم تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله أن العلم أبى وامتنع علينا فلم تنكشف لنا حقيقته وإنما حصل لنا حديثه وألفاظه. فإن قلت: أرى جماعة من العلماء والفقهاء المحققين برزوا في الفروع والأصول وعدوا من جملة الفحول وأخلاقهم ذميمة لم يتطهروا منها? فيقال: إذا عرفت مراتب العلوم وعرفت علم الآخرة استبان لك أن ما اشتغلوا به قليل الغناء من حيث كونه علماً وإنما غناؤه من حيث كونه عملاً لله تعالى إذا قصد به التقرب إلى الله تعالى وقد سبقت إلى هذا إشارة. وسيأتيك فيه مزيد بيان وإيضاح إن شاء الله تعالى. الوظيفة الثانية: أن يقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا ويبعد عن الأهل والوطن فإن العلائق شاغلة وصارفة "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه" ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق ولذلك قيل "العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر" والفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدول تفرق ماؤه فنشفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ المزدرع. الوظيفة الثالثة: أن لا يتكبر على العلم ولا يتامر في العلم بل يلقي إليه زمام أمره بالكلية في كل تفصيل ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق. وينبغي أن يتواضع لمعلمه ويطلب الثواب والشرف بخدمته. قال الشعبي "صلى زيد بن ثابت على جنازة فقربت إليه بغلته ليركبها فجاء ابن عباس فأخذ بركابه فقال زيد: خل عنه يا ابن عم رسول الله ﷺ فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء فقبل زيد بن ثابت يده وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا ﷺ" وقال ﷺ "ليس من أخلاق المؤمن التملق إلا في طلب العلم" فلا ينبغي لطالب العلم أن يتكبر على المعلم ومن تكبره على المعلم أن يستنكف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين وهو عين الحماقة فإن العلم سبب النجاة والسعادة، ومن يطلب مهرباً من سبع ضار يفترسه لم يفرق بين أن يرشده إلى الهرب مشهور أو خامل، وضراوة سباع النار بالجهال بالله تعالى أشد من ضراوة كل سبع فالحكمة ضالة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها ويتقلد المنة لمن ساقها إليه كائناً من كان؛ فلذلك قيل: العلم حرب للفتى المتعالـي كالسيل حرب للمكان العالي
فلا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع قال الله تعالى "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" ومعنى كونه ذا قلب أن يكون قابلاً للعلم فهماً، ثم لا تعينه القدرة على الفهم حتى يلقي السمع وهو شهيد حاضر القلب ليستقيل كل ما ألقى إليه بحسن الإصغاء والضراعة والشكر والفرح وقبول المنة. فليكن المتعلم لمعلمه كأرض دمثة نالت مطراً غزيراً فتشربت جميع أجزائها وأذعنت بالكلية لقبوله. ومهما أشار عليه المعلم بطريق في التعلم فليقلده وليدع رأيه فإن خطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه إذ التجربة تطلع على دقائق يستغرب سماعها مع أنه يعظم نفعها، فكم من مريض محرور يعالجة الطبيب في بعض أوقاته بالحرارة ليزيد في قوته إلى حد يحتمل صدمة العلاج فيعجب منه من لا خبرة له به، وقد نبه الله تعالى بقصة الخضر وموسى عليهما السلام حيث قال الخضر "إنك لن تسطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً" ثم شرط عليه السكوت والتسليم فقال "فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً" ثم لم يصبر ولم يزل في مراودته إلى أن كان ذلك سبب الفراق بينهما. وبالجملة كل متعلم استبقى لنفسه رأياً واختياراً دون اختيار المعلم فاحكم عليه بالإخفاق والخسران.
فإن قلت: فقد قال الله تعالى "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" فالسؤال مأمور به? فاعلم أنه كذلك ولكن فيما يأذن المعلم في السؤال عنه فإن السؤال عما لم تبلغ مرتبتك إلى فهمه مذموم، ولذلك منع الخضر موسى عليه السلام من السؤال: أي دع السؤال قبل أوانه فالمعلم أعلم بما أنت أهل له وبأوان الكشف. وما لم يدخل أوان الكشف في كل درجة من مراقي الدرجات لا يدخل أو أن السؤال عنه. وقد قال علي رضي الله عنه: إن من حق العالم أن لا تكثر عليه بالسؤال ولا تعنته في الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشي له سراً ولا تغتابن أحداً عنده ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله تعالى مادام يحفظ أمر الله تعالى، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته.
الوظيفة الرابعة؛ أن يحترز الخائض في العلم في مبدإ الأمر عن الإصغاء إلى اختلاف الناس، سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو من علوم الآخرة: فإن ذلك يدهش عقله ويحير ذهنه ويفتر رأيه ويؤيسه عن الإدراك والاطلاع، بل يبنغي أن يتقن أولاً الطريق الحميدة الواحدة المرضية عند أستاذه، ثم بعد ذلك يصغي إلى المذاهب والشبه. وإن لم يكن أستاذه مستقلاً باختيار رأي واحد وإنما عادته نقل المذاهب وما قيل فيها فليحذر منه فإن إضلاله أكثر من إرشاده فلا يصلح الأعمى لقود العميان وإرشادهم، ومن هذا حاله يعد في عمى الحيرة وتيه الجهل، ومنع المبتدىء عن الشبه يضاهي منع الحديث العهد بالإسلام عن مخالطة الكفار، وندب القوى إلى النظر في الاختلافات يضاهي حث القوى على مخالطة الكفار؛ ولهذا يمنع الجبان عن التهجم على صف الكفار ويندب الشجاع له. ومن الغفلة عن هذه الدقيقة ظن بعض الضعفاء أن الاقتداء بالأقوياء فيما ينقل عنهم من المساهلات جائز، ولم يدر أن وظائف الأقوياء تخالف وظائف الضعفاء. وفي ذلك قال بعضهم: من رآني من البداية صار صديقاً، ومن رآني في النهاية صار زنديقاً، إذ النهاية ترد الأعمال إلى الباطن وتسكن الجوارح إلا عن رواتب الفرائض؛ فيتراءى للناظرين أنها بطالة وكسل وإهمال، وهيهات فذلك مرابطة القلب في عين الشهود والحضور وملازمة الذكر الذي هو أفضل الأعمال على الدوام؛ وتشبه الضعيف بالقوي فيما يرى من ظاهره أنه هفوة يضاهي اعتذار من يلقى نجاسة يسيرة في كوز ماء ويتعلل بأن أضعاف هذه النجاسة قد يلقى في البحر والبحر أعظم من الكوز فما جاز للبحر فهو للكوز أجوز. ولا يدري المسكين أن البحر بقوته يحيل النجاسة ماء فتنقلب عين النجاسة باستيلائه إلى صفته، والقليل من النجاسة يغلب على الكوز ويحيله إلى صفته، ولمثل هذا جوز للنبي ﷺ ما لم يجوز لغيره حتى أبيح له تسع نسوة إذ كان له من القوة ما يتعدى منه صفة العدل إلى نسائه وإن كثرن، وأما غيره فلا يقدر على بعض العدل بل يتعدى ما بينهن من الضرار إليه حتى ينجر إلى معصية الله تعالى في طلبه رضاهن. فما أفلح من قاس الملائكة بالحدادين
الوظيفة الخامسة: أن لا يدع طالب العلم فناً من العلوم المحمودة ولا نوعاً من أنواعه إلا وينظر فيه نظراً يطلع به على مقصده وغايته، ثم إن ساعده العمر طلب التبحر فيه وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه وتطرف من البقية؛ فإن العلوم متعاونة وبعضها مرتبط ببعض، ويستفيد منه في الحال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب جهله؛ فإن الناس أعداء ما جهلوا قال تعالى "وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم". قال الشاعر: ومن يك ذا فم مر مريض يجد مراً به الماء الزلالا
فالعلوم على درجاتها إما سالكة بالعبد إلى الله تعالى، أو معينة على السلوك نوعاً من الإعانة، ولها منازل مرتبة في القرب والبعد من المقصود، والقوام بها حفظة كحفاظ الرباطات والثغور، ولكل واحد رتبة وله بحسب درجته أجر في الآخرة إذا قصد به وجه الله تعالى.
الوظيفة السادسة: أن لا يخوض في فن من فنون العلم دفعة بل يراعي الترتيب ويبتدىء بالأهم. فإن العمر إذا كان لا يستع لجميع العلوم غالباً فالحزم أن يأخذ من كل شيء أحسنه ويكتفي منه بشمه ويصرف جمام قوته في الميسور المكاشفة. وغاية المكاشفة معرفة الله تعالى؛ ولست أعني به الاعتقاد الذي يتلقفه العامي ورائه أو تلقفاً؛ ولا طريق تحرير الكلام والمجادلة في تحصين الكلام عن مرواغات الخصوم كما غاية المتكلم، بل ذلك نوع يقين هو ثمرة نور يقذفه الله تعالى في قلب عبد طهر بالمجاهدة باطنه عن الخبائث حتى ينتهي إلى رتبة إيمان أبي بكر رضي الله عنه الذي لو وزن بإيمان العالمين لرجح كما شهد له به سيد البشر ﷺ، فما عندي أن ما يعتقده العامي ويرتبه المتكلم الذي لا يزيد على العامي إلا في صنعة الكلام ولأجله سميت صناعته كلاماً وكان يعجز عنه عمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم، حتى كان يفضلهم أبو بكر بالسر الذي وقر في صدره. والعجب ممن يسمع مثل هذه الأقوال من صاحب الشرع - صلوات الله وسلامه عليه - ثم يزدري ما يسمعه على وفقه ويزعم أنه من ترهات الصوفية وأن ذلك غير معقول؛ فينبغي أن تتئد في هذا فعنده ضيعت رأس المال، فكن حريصاً على معرفة ذلك السر الخارج عن بضاعة الفقهاء والمتكلمين ولا يرشدك إليه إلا حرصك في الطلب.
وعلى الجملة فأشرف العلوم وغايتها معرفة الله عز وجل وهو بحر لا يدرك منتهى غوره، وأقصى درجات البشر فيه رتبة الأنبياء ثم الأولياء ثم الذين يلونهم. وقد روي أنه رؤي صورة حكيمين من الحكماء المتقدمين في مسجد وفي يد أحدهما رقعة فيها: إن أحسنت كل شيء فلا تظنن أنك أحسنت شيئاً حتى تعرف الله تعالى وتعلم أنه مسبب الأسباب وموجد الأشياء. وفي يد الآخر كنت قبل أن أعرف الله تعالى أشرب وأظمأ، حتى إذا عرفته رويت بلا شرب الوظيفة السابعة: أن لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله؛ فإن العلوم مرتبة ترتيباً ضرورياً وبعضها طريق إلى بعض، والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدريج. قال الله تعالى "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته" أي لا يجاوزون فناً حتى يحكموه علماً وعملاً، وليكن قصده في كل علم يتحراه الترقي إلى ما هو فوقه؛ فينبغي ألا يحكم على علم بالفساد لوقوع الخلف بين أصحابه فيه، ولا بخطأ واحد أو آحاد فيه، ولا بمخالفتهم موجب علمهم بالعمل؛ فترى جماعة تركوا النظر في العقليات والفقهيات، متعللين فيها بأنها لو كان لها أصل لأذركه أربابها؛ وقد مضى كشف هذه الشبه في كتاب معيار العلم وترى طائفة يعتقدون بطلان الطب لخطأ شاهدوه من طبيب، وطائفة اعتقدوا صحة النجوم لصواب اتفق لواحد، وطائفة اعتقدوا بطلانه لخطأ اتفق لآخر. والكل خطأ، بل ينبغي أن يعرف الشيء في نفسه، فلا كل علم يستقل بالإحاطة به كل شخص ولذلك قال علي رضي الله عنه: لا تعرف الحق بالرجال. اعرف الحق تعرف أهله
الوظيفة الثامنة: أن يعرف السبب الذي به يدرك أشرف العلوم، وأن ذلك يراد به شيئان: أحدهما: شرف الثمرة والثاني: وثاقة الدليل وقوته، وذلك كعلم الدين وعلم الطب فإن ثمرة أحدهما الحياة الأبدية وثمرة الآخر الحياة الفانية فيكون علم الدين أشرف. ومثل علم الحساب وعلم النجوم فإن علم الحساب أشرف لوثاقة أدلته وقوتها وإن نسب الحساب إلى الطب كان الب أشرف باعتبار ثمرته والحساب أشرف باعتبار أدلته وملاحظة الثمرة أولى: ولذلك كان الطب أشرف وإن كان أكثره بالتخمين. وبهذا تبين أن أشرف العلوم العلم بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله والعلم بالطريق الموصل إلى هذه العلوم فإياك أن ترغب إلا فيه وأن تحرص إلا عليه.
الوظيفة التاسعة: أن يكون قصد المتعلم في الحال تحلية باطنه وتجميله بالفضيلة وفي المآل لقرب من الله سبحانه والترقي إلى جوار الملأ الأعلى من الملائكة والمقربين، ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه ومماراة السفهاء ومباهاة الأقران وإن كان هذا مقصده طلب لا محالة الأقرب إلى مقصوده وهو علم الآخرة: ومع هذا فلا ينبغي له أن ينظر بعين الحقارة إلى سائر العلوم أعني علم الفتاوى وعلم النحو واللغة المتعلقين بالكتاب والسنة وغير ذلك مما أوردناه في المقدمات والمتممات من ضروب العلوم التي هي فرض كفاية، ولا تفهمن من غلونا في الثناء على علم الآخرة تهجين هذه العلوم فالمتكلفون بالعلوم كالمتكلفين بالثغور والمرابطين بها والغزاة المجاهدين في سبيل الله فمنهم المقاتل ومنهم الرد. ومنهم الذي يسقيهم الماء ومنهم الذي يحفظ دوابهم ويتعهدهم ولا ينفك أحد منهم عن أجر إذا كان قصده إعلاء كلمة الله تعالى دون حيازة الغنائم فكذلك العلماء قال الله تعالى "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" وقال تعالى "هم درجات عند الله" والفضيلة نسبية. واستحقارنا للصيارفة عند قياسهم بالملوك لا يدل على حقارتهم إذا قيسوا بالكناسين فلا تظن أن ما نزل عن الرتبة القصوى ساقط القدر بل الرتبة العليا للأنبياء ثم الأولياء ثم العلماء الراسخين في العلم ثم للصالحين على تفاوت درجاتهم وبالجملة "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" ومن قصد الله تعالى بالعلم أي علم كان نفعه ورفعه لا محالة. الوظيفة العاشرة: أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد كيما يؤثر الرفيع القريب على البعيد والمهم على غيره - ومعنى المهم ما يهمك - ولا يهمك إلا شأنك في الدنيا والآخرة. وإذا لم يمكنك الجمع بين ملاذ الدنيا ونعيم الآخرة كما نطق به القرآن وشهد له من نور البصائر ما يجري مجرى العيان فالأهم ما يبقى أبد الآباد وعند ذلك تصير الدنيا منزلاً والبدن مركباً والأعمال سعياً إلى المقصد ولا مقصد إلا لقاء الله تعالى ففيه النعيم كله وإن كان لا يعرف في هذا العالم قدره إلا الأقلون.
والعلوم بالإضافة إلى سعادة لقاء الله سبحانه والنظر إلى وجهه الكريم - أعني النظر الذي طلبه الأنبياء وفهموه دون ما سبق إلى فهم العوام والمتكلمين - على ثلاث مراتب تفهمها بالموازنة بمثال وهو أن العبد الذي علق عتقه وتمكينه من الملك بالحج وقيل له إن حججت وأتممت وصلت إلى العتق والملك جميعاً وإن ابتدأت بطريق الحج والاستعداد له وعاقك في الطريق مانع ضروري فلك العتق والخلاص من شقاء الرق فقط دون سعادة الملك فله ثلاثة أصناف من الشغل، الأول. تهيئة الأسباب بشراء الناقة وخرز الراوية وإعداد الزاد والراحلة والثاني السلوك ومفارقة الوطن بالتوجه إلى الكعبة منزلاً بعد منزل. والثالث: الاشتغال بأعمال الحج ركناً بعد ركن ثم بعد الفراغ والنزوع عن هيئة الإحرام وطواف الوداع استحق التعرض للملك والسلطنة، وله في كل مقام منازل من أول إعداد الأسباب إلى آخره، من أول سلوك البوادي إلى آخره، ومن أول أركان الحج إلى آخره. وليس قرب من ابتدأ بأركان الحج من السعادة كقرب من هو بعد في إعداد الزاد والراحلة ولا كقرب من ابتدأ بالسلوك بل هو أقرب منه، فالعلوم أيضاً ثلاثة أقسام: قسم يجري مجرى إعداد الزاد والراحلة وشراء الناقة وهو علم الطب والفقه وما يتعلق بمصالح البدن في الدنيا. وقسم يجري مجرى سلوك البادي وقطع العقبات وهو تطهير الباطن عن كدورات الصفات وطلوع تلك العقبات الشامخة التي عجز عنها الأولون والآخرون إلا الموفقين فهذا سلوك الطريق وتحصيل علمه كتحصيل علم جهات الطريق ومنازله وكما لا يغني علم المنازل وطرق البوادي دون سلوكها كذلك لا يغني علم تهذيب الأخلاق دون مباشرة التهذيب ولكن المباشرة دون العلم غير ممكن. وقسم ثالث يجري مجرى نفس الحج وأركانه وهو العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته وأفعاله وجميع ما ذكرناه في تراجم المكاشفة وههنا نجاة وفوز بالسعادة فلا يناله إلا العارفون بالله تعالى وهم المقربون المنعمون في جوار الله تعالى بالروح والريحان وجنة النعيم وأما الممنوعون دون ذروة الكمال فلهم النجاة والسلامة كما قال الله عز وجل "فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين" وكل من لم يتوجه إلى المقصد ولم ينتهض له أو انتهض إلى جهته لا على قصد الامتثال والعبودية بل لغرض عاجل فهو من أصحاب الشمال ومن الضالين فله نزل من حميم وتصلية جحيم.
واعلم أن هذا هو حق اليقين عند العلماء الراسخين أعني أنهم أدركوه بمشاهدة من الباطن هي أقوى وأجلى من مشاهدة الأبصار وترقوا فيه عن حد التقليد لمجرد السماع، وحالهم حال من أخبر فصدق ثم شاهد فحقق وحال غيرهم حال من قبل بحسن التصديق والإيمان ولم يحظ بالمشاهدة والعيان. فالسعادة وراء علم المكاشفة وعلم المكاشفة وراء علم المعاملة التي هي سلوك طريق الآخرة وقطع عقبات الصفات. وسلوك طريق محو الصفات المذمومة وراء علم الصفات وعلم طريق المعالجة وكيفية السلوك في ذلك وراء علم سلامة البدن ومساعدة أسباب الصحة. وسلامة البدن بالاجتماع والتظاهر والتعاون الذي يتوصل به إلى الملبس والمطعم والمسكن وهو منوط بالسلطان وقانونه في ضبط الناس على منهج العدل والسياسة في ناصية الفقيه. وأما أسباب الصحة ففي ناصية الطبيب ومن قال العلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان وأشار به إلى الفقه أراد به العلوم الظاهرة الشائعة لا للعلوم العزيزة الباطنة. فإن قلت: لم شبهت علم الطب والفقه بإعداد الزاد والراحلة? فاعلم أن الساعي إلى الله تعالى لينال قربه هو القلب دون البدن ولست أعني بالقلب اللحم المحسوس بل هو من أسرار الله عز وجل لا يدركه الحس ولطيفة من لطائفه تارة يعبر عنه بالروح وتارة بالنفس المطمئنة، والشرع يعبر عنه بالقلب لأنه المطية الأولى لذلك السر وبواسطته صار جميع البدن مطية وآلة لتلك اللطيفة، وكشف الغطاء عن ذلك السر من علم المكاشفة وهو مضنون به بل لا رخصة في ذكره، وغاية المأذون فيه أن يقال هو جوهر نفيس ودر عزيز اشرف من هذه الأجرام المرئية وإنما هو أمر إلهي كما قال تعالى "ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي" وكل المخلوقات منسوبة إلى الله تعالى ولكن نسبته أشرف من نسبة سائر أعضاء البدن فلله الخلق والأمر جميعاً، والأمر أعلى من الخلق. وهذه الجوهرة النفيسة الحاملة لأمانة الله تعالى المتقدمة بهذه الرتبة على السموات والأرضين والجبال إذ أبين أن يحملنها وأشفقن منها من عالم الأمر: ولا يفهم من هذا أنه تعريض بقدمها فإن القائل بقدم الأرواح مغرور جاهل لا يدري ما يقول فلنقبض عنان البيان عن هذا الفن فهو وراء ما نحن بصدده. والمقصود أن هذه اللطيفة هي الساعية إلى قرب الرب لأنها من أمر الرب فمنه مصدرها وإليه مرجعها، وأما البدن فمطيتها التي تركبها وتسعى بواسطتها، فالبدن لها في طريق الله تعالى كالناقة للبدن في طريق الحج وكالراوية الخازنة للماء الذي يفتقر إليه البدن فكل علم مقصده مصلحة البدن فهو من جملة مصالح المطية. ولا يخفى أن الطب كذلك فإنه قد يحتاج إليه في حفظ الصحة على البدن ولو كان الإنسان وحده لاحتاج إليه: والفقه يفارقه في أنه لو كان الإنسان وحده ربما كان يستغني عنه ولكنه خلق على وجه لا يمكنه أن يعيش وحده إذ لا يستقل بالسعي وحده في تحصيل طعامه بالحراثة والزرع والخبز والطبخ وفي تحصيل الملبس والمسكن وفي إعداد آلات ذلك كله فاضطر إلى المخالطة والاستعانة. ومهما اختلط الناس وثارت شهواتهم تجاذبوا أسباب الشهوات وتنازعوا وتقاتلوا وحصل من قتالهم هلاكهم بسبب التنافس من خارج كما يحصل هلاكهم بسبب تضاد الأخلاط من داخل، وبالطب يحفظ الاعتدال في الأخلاط طب، وعلم طريق اعتدال أحوال الناس في المعاملات والأفعال فقه.
وكل ذلك لحفظ البدن الذي هو مطية فالمتجرد لعلم الفقه أو الطب إذا لم يجاهد نفسه ولا يصلح قلبه كالمتجرد لشراء الناقة وعلفها وشراء الراوية وخرزها إذا لم يسك بادية الحج. والمستغرق عمره في دقائق الكلمات التي تجري في مجادلات الفقه كالمستغرق عمره في دقائق الأسباب التي بها تستحكم الخيوط التي تخرز بها الراوية للحج. ونسبة هؤلاء من السالكين لطريق إصلاح القلب الموصل إلى علم المكاشفة كنسبة أولئك إلى سالكي طريق الحج أو ملابسي أركانه: فتأمل هذا أولاً واقبل النصيحة مجاناً ممن قام عليه ذلك غالباً ولم يصل إليه إلا بعد جهد جهيد وجراءة تامة على مباينة الخلق العامة والخاصة في النزوع من تقليدهم بمجرد الشهوة، فهذا القدر كاف في وظائف المتعلم.
بيان وظائف المرشد المعلم
[عدل]اعلم أن للإنسان في علمه أربعة أحوال كحالة في اقتناء الأموال: إذ لصاحب المال حال استفادة فيكون مكتسباً، وحال ادخار لما اكتسبه فيكون به غنياً عن السؤال. وحال إنفاق على نفسه فيكون منتفعاً، وحال بذل لغيره فيكون به سخياً متفضلاً وهو أشرف أحواله. فكذلك العلم يقتنى كما بقتنى المال فله حال طلب واكتساب وحال تحصيل يغني عن السؤال وحال استبصار وهو التفكر في المحصل والتمتع به وحال تبصير وهو أشرف الأحوال: فمن علم وعمل وعلم فهو الذي يدعى عظيماً في ملكوت السموات فإنه كالشمس تضيء لغيرها وهي مضيئة في نفسها وكالمسك الذي يطيب غيره وهو طيب. والذي يعلم ولا يعمل به كالدفتر الذي يفيد غيره وهو خال عن العلم وكالمسن الذي يشحذ غيره ولا يقطع والإبرة التي تكسو غيرها وهي عارية وذبالة المصباح تضيء لغيرها وهي تحترق كما قيل: ما هـو إلا ذبـالة وقـدت تضيء للناس وهي تحترق
ومهما اشتغل بالتعليم فقد تقلد أمراً عظيماً وخطراً جسيماً فليحفظ آدابه ووظائفه (الوظيفة الأولى) الشفقة على المتعلمين وأن يجريهم مجرى بنيه قال رسول الله ﷺ "إنما أنا لكم مثل الوالد لولده" بأن يقصد إنقاذهم من نار الآخرة وهو أهم من إنقاذ الوالدين ولدهما من نار الدنيا: ولذلك صار حق المعلم أعظم من حق الوالدين فإن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية والمعلم سبب الحياة الباقية. ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخروية الدائمة أعني معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة لا على قصد الدنيا، فأما التعليم على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاك ونعوذ بالله منه. وكما أن حق أبناء الرجل الواحد أن يتحابوا ويتعاونوا على المقاصد كلها فكذلك حق تلامذة الرجل الواحد التحاب والتوادد ولا يكون إلا كذلك إن كان مقصدهم الآخرة ولا يكون إلا التحاسد والتباغض إن كان مقصدهم الدنيا. فإن العلماء وأبناء الآخرة مسافرون إلى الله تعالى وسالكون إليه الطريق من الدنيا، وسنوها وشهورها منازل الطريق والترافق في الطريق بين المسافرين إلى الأمصار سبب التواد والتحاب فكيف السفر إلى الفردوس الأعلى والترافق في طريقه? ولا ضيق في سعادة الآخرة فلذلك لا يكون بين أبناء الآخرة تنازع ولا سعة في سعادات الدنيا فلذلك لا ينفك عن ضيق التزاحم. والعادلون إلى طلب الرياسة بالعلوم خارجون عن موجب قوله تعالى "إنما المؤمنون إخوة" وداخلون في مقتضى قوله تعالى "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" الوظيفة الثانية أن يقتدى بصاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فلا يطلب على إفادة العلم أجراً ولا يقصد به جزاء ولا شكراً بل يعلم لوجه الله تعالى وطلباً للتقرب إليه ولا يرى لنفسه منة عليهم وإن كانت المنة لازمة عليهم بل يرى الفضل لهم إذ هذبوا قلوبهم لأن تتقرب إلى الله تعالى بزراعة العلوم فيها، كالذي يعيرك الأرض لتزرع فيها لنفسك زراعة فمنفعتك بها تزيد على منفعة صاحب الأرض فكيف تقلده منه وثوابك في التعليم أكثر من ثواب المتعلم عند الله تعالى? ولولا المتعلم ما نلت هذا الثواب فلا تطلب الأجر إلا من الله تعالى كما قال عز وجل "ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله" فإن المال وما في الدنيا خادم البدن والبدن مركب النفس ومطيتها والمخدوم هو العلم إذ به شرف النفس. فمن طلب بالعلم المال كان كمن مسح أسفل مداسه بوجهه لينظفه فجعل المخدوم خادماً والخادم مخدوماً وذلك هو الانتكاس على أم الرأس، ومثله هو الذي يقوم في العرض الأكبر مع المجرمين ناكسي رءوسهم عند ربهم. وعلى الجملة فالفضل والمنة للمعلم فانظر كيف انتهى أمر الدين إلى قوم يزعمون أن مقصودهم التقرب إلى الله تعالى بما هم فيه من علم الفقه والكلام والتدريس فيهما وفي غيرهما? فإنهم يبذلون المال والجاه ويتحملون أصناف الذل في خدمة السلاطين لاستطلاق الجرايات ولو تركوا ذلك لتركوا ولم يختلف إليهم ثم يتوقع المعلم من المتعلم أن يقوم له في كل نائبة وينصر وليه ويعادي عدوه وينتهض جهاراً له في حاجاته ومسخراً بين يديه في أوطاره: فإن قصر في حقه ثار عليه وصار من أعدى أعدائه. فأخسس بعالم يرضى لنفسه بهذه المنزلة ثم يفرح بها ثم لا يستحيي من أن يقول غرضي من التدريس نشر العلم تقرباً إلى الله تعالى ونصرة لدينه!
فانظر إلى الأمارات حتى ترى ضروب الاغترارات الوظيفة الثالثة أن لا يدع من نصح المتعلم شيئاً وذلك بأن يمنعه من التصدي لرتبة قبل استحقاقها والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من الجلي ثم ينبهه على أن الغرض بطلب العلوم القرب إلى الله تعالى دون الرياسة والمباهاة والمنافسة، ويقدم تقبيح ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن فليس ما يصلحه العالم الفاجر بأكثر مما يفسده: فإن علم من باطنه أنه لا يطلب العلم إلا للدنيا نظر إلى العلم الذي يطلبه فإن كان هو علم الخلاف في الفقه والجدل في الكلام والفتاوى في الخصومات والأحكام فيمنعه من ذلك فإن هذه العلوم ليست من علوم الآخرة ولا من العلوم التي قيل فيها "تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله" وإنما ذلك علم التفسي وعلم الحديث وما كان الأولون يشتغلون به من علم الآخرة ومعرفة أخلاق النفس وكيفية تهذيبها فإذا تعلمه الطالب وقصد به الدنيا فلا بأس أن يتركه فإنه يثمر له طمعاً في الوعظ والاستتباع ولكن قد يتنبه في أثناء الأمر أو آخره إذ فيه العلوم المخوفة من الله تعالى المحقرة للدنيا المعظمة للآخرة، وذلك يوشك أن يؤدي إلى الصواب في الآخرة حتى يتعظ بما يعظ به غيره. ويجري حب القبول والجاه مجرى الحب الذي ينثر حوالي الفخ ليقتنص به الطير وقد فعل الله ذلك بعباده إذ جعل الشهوة ليصل الخلق بها إلى بقاء النسل. وخلق أيضاً حب الجاه ليكون سبباً لإحياء العلوم وهذا متوقع في هذه العلوم فأما الخلافيات المحضة ومجادلات الكلام ومعرفة التفاريع الغريبة فلا يزيد التجرد لها مع الإعراض عن غيرها إلا قسوة القلب وغفلة عن الله تعالى وتمادياً في الضلال وطلباً للجاه إلا من تداركه الله تعالى برحمته أو مزج به غيره من العلوم الدينية. ولا برهان على هذا كالتجربة والمشاهدة فانظر واعتبر واستبصر لتشاهد تحقيق ذلك في العباد والبلاد والله المستعان. وقد رؤي سفيان الثوري رحمه الله حزيناً فقيل له: مالك? فقال: صرنا متجراً لأبناء الدنيا يلزمنا أحدهم حتى إذا تعلم جعل قاضياً أو عاملاً أو قهرماناً الوظيفة الرابعة وهي من دقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح. وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ فإن التصريح يهتك حجاب الهيئة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ويهيج الحرص على الإصرار إذ قال ﷺ وهو مرشد كل معلم "لو منع الناس عن فت البعر لفتوه وقالوا ما نهينا عنه إلا وفيه شيء" وينبهك على هذا قصة آدم وحواء عليهما السلام وما نهيا عنه؛ فما ذكرت القصة معك لتكون سمراً بل لتتنبه بها على سبيل العبرة ولأن التعريص أيضاً يميل النفوس الفاضلة والأذكان الذكية إلى استنباط معانيه فيفيد فرح التفطن لمعناه رغبة في العلم به ليعلم أن ذلك مما لا يعزب عن فطنته الوظيفة الخامسة أن المتكفل ببعض العلوم ينبغي أن لا يقبح في نفس المتعلم العلوم التي وراءه، كمعلم اللغة إذ عادته تقبيح علم الفقه. ومعلم الفقه عادته تقبيح علم الحديث والتفسير وأن ذلك نقل محض وسماع وهو شأن العجائز ولا نظر للعقل فيه، ومعلم الكلام ينفر عن الفقه ويقول: ذلك فروع وهو كلام في حيض النسوان فأين ذلك من الكلام في صفة الرحمن? فهذه أخلاق مذمومة للمعلمين ينبغي أن تجتنب بل المتكفل بعلم واحد ينبغي أن يوسع على المتعلم طريق التعلم في غيره وإن كان متكفلاً بعلوم فينبغي أن يراعي التدريج في ترقية المتعلم من ربتة إلى رتبة الوظيفة السادسة أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقى إليه ما لا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله اقتداء في ذلك بسيد البشر ﷺ حيث قال "نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم" فليبث إليه الحقيقة إذا علم أنه يستقل بفهمها وقال ﷺ "ما أحد يحدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم" وقال علي رضي الله عنه - وأشار إلى صدره - "إن ههنا لعلوماً جمة لو وجدت لها حملة، وصدق رضي الله عنه فقلوب الأبرار قبور الأسرار. فلا ينبغي أن يفشي العالم كل ما يعلم إلى كل أحد؛ هذا إذا كان يفهمه المتعلم ولم يكن أهلاً للانتفاع به فكيف فيما لا يفهمه?
وقال عيسى عليه السلام: لا تعلقوا الجواهر في أعناق الخنازير فإن الحكمة خير من الجوهر ومن كرهها فهو شر من الخنازير ولذلك قيل: كل لكل عبد بمعيار عقله وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه وينتفع بك وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار: وسئل بعض العلماء عن شيء فلم يجب فقال السائل: أما سمعت رسول الله ﷺ قال "من كتم علماً نافعاً جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار"? فقال: اترك اللجام واذهب فإن جاء من يفقهه وكتمته فليلجمني فقد قال الله تعالى "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" تنبيهاً على أن حفظ العلم ممن يفسده ويضره أولى، وليس الظلم في إعطاء غير المستحق بأقل من الظلم في منع المستحق:
الوظيفة السابعة أن المتعلم القاصر ينبغي أن يلقى إليه الجلى اللائق به ولا يذكر له وراء هذا تدقيقاً وهو يدخره عنه فإن ذلك يفتر رغبته في الجلى ويشوش عليه قلبه ويوهم إليه البخل به عنه إذ يظن كل أحد أنه أهل لكل علم دقيق. فما من أحد إلا وهو راض عن الله سبحانه في كمال عقله وأشدهم حماقة وأضعفهم عقلاً هو أفرحهم بكمال عقله. وبهذا يعلم أن من تقيد من العوام بقيد الشرع ورسخ في نفسه العقائد المأثورة عن السلف من غير تشبيه ومن غير تأويل وحسن مع ذلك سريرته ولم يحتمل عقله أكثر من ذلك فلا ينبغي أن يشوش عليه اعتقاده بل ينبغي أن يخلى وحرفته، فإنه لو ذكر له تأويلات الظاهر اتحل عنه قيد العوام ولم يتيسر قيده بقيد الخوض فيرتفع عنه السد الذي بينه وبين المعاصي وينقلب شيطاناً مريداً بهلك نفسه وغيره؛ بل لا ينبغي أن يخاض مع العوام في حقائق العلوم الدقيقة بل يقتصر معهم على تعليم العبادات وتعليم الأمانة في الصناعات التي هم بصددها ويملأ قلوبهم من الرغبة والرهبة في الجنة والنار كما نطق به القرآن ولا يحرك عليهم شبهة فإنه ربما تعلقت الشبهة بقلبه ويعسر عليه حلها فيشقى ويهلك. وبالجملة لا ينبغي أن يفتح للعوام باب البحث فإنه يعطل عليهم صناعاتهم التي بها قوام الخلق ودوام عيش الخواص الوظيفة الثامنة أن يكون المعلم عاملاً بعلمه فلا يكذب قوله فعله لأن العلم يدرك بالبصائر والعمل يدرك بالأبصار وأرباب الأبصار أكثر. فإذا خالف العمل العلم منع الرشد وكل من تناول شيئاً وقال للناس لا تتناولوه فإنه سم مهلك سخر الناس به واتهموه وزاد حرصهم على ما نهوا عنه فيقولون لولا أنه أطيب الأشياء وألذها لما كان يستأثر به. ومثل المعلم المرشد من المسترشدين مثل النقش من الطين والظل من العود فكيف ينتقش الطين بما لا نقش فيه ومتى استوى الظل والعود أعوج? ولذلك قيل في المعنى: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال الله تعالى "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" ولذلك كان وزر العالم في معاصيه أكثر من وزر الجاهل إذ يزل بزلته علام كثير ويقتدون به. ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها. ولذلك قال علي رضي الله عنه قصم ظهري رجلان؛ عالم متهتك وجاهل متنسك؛ فالجاهل يغر الناس بتنسكه، والعالم يغرهم بتهتكه. والله أعلم.