إحياء علوم الدين/كتاب أسرار الصلاة ومهماتها/الباب الرابع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



الباب الرابع

في الإمامة والقدوة

وعلى الإمام وظائف قبل الصلاة

وفي القراءة وفي أركان الصلاة وبعد السلام


أما الوظائف التي هي قبل الصلاة فستة أولها أن لا يتقدم للإمامة على قوم يكرهونه فإن اختلفوا كان النظر إلى الأكثرين، فإن كان الأقلون هم أهل الخير والدين فالنظر إليهم أولى وفي الحديث "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم رءوسهم: العبد الآبق وامرأة زوجها ساخط عليها وإمام أم قوماً وهم له كارهون" وكما ينهى عن تقدمه مع كراهيتهم فكذلك ينهى عن التقدمة إن كان وراءه من هو أفقه منه إلا إذا امتنع من هو أولى منه فله التقدم، فإن لم يكن شيء من ذلك فليتقدم مهما قدم وعرف من نفسه القيام بشروط الإمامة. ويكره عند ذلك المدافعة فقد قيل إن قوماً تدافعوا الإمامة بعد إقامة الصلاة فخسف بهم. وما روى من مدافعة الإمامة بين الصحابة رضي الله عنهم فسببه إيثارهم من رأوه أنه أولى بذلك أو أخوفهم على أنفسهم السهو وخطر ضمان صلاتهم، فإن الأئمة ضمناء وكأن من لم يتعود ذلك ربما يشتغل قلبه ويتشوش عليه الإخلاص في صلاته حياء من المقتدين لاسيما في جهره بالقراءة، فكان لاحتراز من احترز أسباب من هذا الجنس. الثانية إذا خير المرء بين الأذان والإمامة فينبغي أن يختار الإمامة فإن لكل واحد منهما فضلاً ولكن الجمع مكروه بل ينبغي أن يكون الإمام غير المؤذن، وإذا تعذر الجمع فالإمامة أولى. وقال قائلون: الأذان أولى لما نقلناه من فضيلة الأذان ولقوله "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن" فقالوا، فيها خطر الضمان. وقال "الإمام أمين فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا" وفي الحديث "فإن أتم فله ولهم وإن نقص فعليه لا عليهم" ولأنه قال "اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين" والمغفرة أولى بالطلب فإن الرشد يراد للمغفرة وفي الخبر "من أم في مسجد سبع سنين وجبت له الجنة بلا حساب ومن أذن أربعين عاماً دخل الجنة بغير حساب" ولذلك نقل عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتدافعون الإمامة: والصحيح أن الإمامة أفضل إذ واظب عليها رسول الله وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما والأئمة بعدهم. نعم فيها خطر الضمان والفضيلة مع الخطر كما أن رتبة الإمارة أفضل لقوله "ليوم من سلطان عادل أفضل من عبادة سبعين سنة" ولكن فيها خطر ولذلك وجب تقديم الأفضل والأفقه فقد قال "أئمتكم شفعاؤكم - أو قال وفدكم إلى الله - فإن أردتم أن تزكوا صلاتكم فقدموا خياركم" وقال بعض السلف. ليس بعد الأنبياء أفضل من العلماء ولا بعد العلماء أفضل من الأئمة المصلين لأن هؤلاء قاموا بين يدي الله عز وجل وبين خلقه هذا بالنبوة وهذا بالعلم وهذا بعماد الدين وهو الصلاة. وبهذه الحجة احتج الصحابة في تقديم أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعنهم للخلافة، إذ قالوا نظرنا فإذا الصلاة عماد الدين فاخترنا لدنيانا من رضيه رسول الله لديننا وما قدموا بلالاً احتجاجاً بأنه رضيه للأذان وما روي "أنه قال له رجل: يا رسول الله دلني على عمل أدخل به الجنة قال: كن مؤذناً، قال لا أستطيع، قال: كن إماماً، قال: لا أستطيع، فقال: صل بإزاء الإمام" فلعله ظن أنه لا يرضى بإمامته إذ الأذان إليه والإمامة إلى الجماعة وتقديمهم له. ثم بعد ذلك توهم أنه ربما يقدر عليها الثالثة أن يراعي الإمام أوقات الصلوات فيصلي في أوائلها ليدرك رضوان الله سبحانه ففضل أول الوقت على آخره كفضل الآخرة على الدنيا هكذا روي عن رسول الله وفي الحديث "إن العبد ليصلي الصلاة في آخر وقتها ولم تفته، ولما فاته من أول وقتها خير لهمن الدنيا وما فيها" ولا ينبغي أن يؤخر الصلاة لانتظار كثرة الجماعة بل عليهم المبادرة لحيازة فضيلة أول الوقت فهي أفضل من كثرة الجماعة ومن تطويل السورة. وقد قيل كانوا إذا حضر اثنان في الجماعة لم ينتظروا الثالث، وإذا حضر أربعة في الجنازة لم ينتظروا الخامس "وقد تأخر رسول الله عن صلاة الفجر وكانوا في سفر وإنما تأخر للطهارة فلم ينتظر وقدم عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم حتى فاتت رسول الله ركعة فقام يقضيها. قال: فأشفقنا من ذلك، فقال رسول الله "قد أحسنتم هكذا فافعلوا" وقد تأخر في صلاة الظهر فقدموا أبا بكر رضي الله عنه حتى جاء رسول الله وهو في الصلاة فقام إلى جانبه" وليس على الإمام انتظار المؤذن وإنما على المؤذن انتظار الإمام للإقامة فإذا حضر فلا ينتظر غيره الرابعة أن يؤم مخلصاً لله عز وجل ومؤدياً أمانة الله تعالى في طهارته وجميع شروط صلاته.

أما الإخلاص فبأن لا يأخذ عليها أجرة فقد أمر رسول الله عثمان بن أبي العاص الثقفي وقال "اتخذ مؤذناً لا يأخذ على الأذان أجراً" فالأذان طريق إلى الصلاة فهي أولى بأن لا يؤخذ عليها أجر، فإن أخذ رزقاً من مسجد قد وقف على من يقوم بإمامته أو من السلطان أو آحاد الناس فلا يحكم بتحريمه ولكنه مكروه. والكراهية في الفرائض أشد منها في التراويح "وتكون في أجرة له على مداومته على حضور الموضع ومراقبة مصالح المسجد في إقامة الجماعة لا على نفس الصلاة. وأما الأمانة فهي الطهارة باطناً عن الفسق والكبائر والإصرار على الصغائر فالمترشح للإمامة ينبغي أن يحترز عن ذلك بجهده فإنه كالوفد والشفيع للقوم فينبغي أن يكون خير القوم وكذا الطهارة ظاهراً عن الحدث والخبث فإنه لا يطلع عليه سواه، فإن تذكر في أثناء صلاته حدثاً أو خرج منه ريح فلا ينبغي أن يستحي بل يأخذ بيد من يقرب منه ويستخلفه "فقد ذكر رسول الله الجنابة في أثناء الصلاة فاستخلف واغتسل ثم رجع ودخل في الصلاة" وقال سفيان: صل خلف كل بر وفاجر إلا مدمن خمر أو معلن بالفسوق أو عاق لوالديه أو صاحب بدعة أو عبد آبق الخامسة أن لا يكبر حتى تستوي الصفوف فليلتفت يميناً وشمالاً فإن رأى خللاً أمر بالتسوية. فيل كانوا يتحاذون بالمناكب ويتضامون بالكعاب. ولا يكبر حتى يفرغ المؤذن من الإقامة. والمؤذن يؤخر الإقامة عن الأذان بقدر استعداد الناس في الصلاة. ففي الخبر "ليتمهل المؤذن بين الأذان والإقامة بقدر ما يفرغ الآكل من طعامه والمعتصر من اعتصاره" وذلك لأنه نهى عن مدافعة الأخبثين وأمر بتقديم العشاء على العشاء طلباً لفراغ القلب السادسة أن يرفع صوته بتكبيرة الإحرام وسائر التكبيرات ولا يرفع المأموم صوته إلا بقدر ما يسمع نفسه. وينوي الإمام لينال الفضل فإن لم ينو صحت صلاته وصلاة القوة إذا نووا الاقتداء. ونالوا فضل القدوة وهو لا ينال فضل الإمامة، وليؤخر المأموم تكبيره عن تكبيرة الإمام فيبتدىء بعد فراغه والله أعلم. وأما وظائف القراءة فثلاثة أولها أن يسر بدعاء الاستفتاح والتعوذ كالمنفرد ويجهر بالفاتحة والسورة بعدها في جميع الصبح وأولي العشاء والمغرب وكذلك المنفرد. ويجهر بقوله "آمين" في الصلاة الجهرية وكذا المأموم ويقرن المأمون تأمينه بتأمين الإمام معاً لا تعقيباً ويجهر ب "بسم الله الرحمن الرحيم" والأخبار فيه متعارضة واختيار الشافعي رضي الله عنه الجهر الثانية أن يكون للإمام في القيام ثلاث سكتات هكذا رواه سمرة بن جندب وعمران بن الحصين عن رسول الله ؛ أولاهن: إذا كبر وهي الطولى منهن مقدار ما يقرأ من خلفه فاتحة الكتاب وذلك وقت قراءته لدعاء الاستفتاح فإنه لم يسكت يفوتهم الاستماع فيكون عليه ما نقص من صلاتهم، فإن لم يقرءوا الفاتحة في سكوته واشتغلوا بغيرها فذلك علية لا عليهم. السكنة الثانية: إذا فرغ من الفاتحة ليتم من يقرأ الفاتحة في السكتة الأولى فاتحته وهي كنصف السكتة الأولى. السكنة الثالثة: إذا فرغ من السورة قبل أن يركع وهي أخفها وذلك بقدر ما تنفصل القراءة عن التكبير فقد نهى عن الوصل فيه. ولا يقرأ المأموم وراء الإمام إلا الفاتحة فإن لم يسكت الإمام قرأ فاتحة الكتاب معه والمقصر هو الإمام. وإن لم يسمع المأموم في الجهرية لبعده أو كان في السرية فلابأس بقراءة السورة الوظيفة الثالثة أن يقرأ في الصبح سورتين من المثاني مادون المائة فإن الإطالة في قراءة الفجر والتغليس بها سنة، ولا يضره الخروج منها مع الإسفار، ولابأس بأن يقرأ في الثانية بأواخر السور نحو الثلاثين أو العشرين إلى أن يختمها لأن ذلك لا يتكرر على الأسماع كثيراً فيكون أبلغ في الوعظ وأدعى إلى التفكر، وإنما كره بعض العلماء قراءة بعض أول السور وقطعها. وقد روي أنه قرأ بعض سورة يونس فلما انتهى إلى ذكر موسى وفرعون قطع فركع وروي أنه قرأ في الفجر آية من البقرة وهي قوله "قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا" وفي الثانية "ربنا آمنا بما أنزلت" وسمع بلالاً يقرأ من ههنا وهنا؛ فسأله عن ذلك فقال: أخلط الطيب بالطيب، فقال: أحسنت ويقرأ في الظهر بطوال المفصل إلى ثلاثين آية وفي العصر بنصف ذلك وفي المغرب بأواخر المفصل. وآخر صلاة صلاها رسول الله : المغرب؛ قرأ فيها سورة المرسلات ما صلى بعدها حتى قبض. وبالجملة التخفيف أولى لاسيما إذا كثير الجمع قال في هذه الرخصة "إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء" وقد كان معاذ بن جبل يصلي بقوم العشاء فقرأ البقرة فخرج رجل م الصلاة وأتم لنفسه، فقالوا: نافق الرجل، فتشاكيا إلى رسول الله فزجر رسول الله معاذاً فقال "أفتان أنت يا معاذ اقرأ سورة سبح والسماء والطارق والشمس وضحاها" وأما وظائف الأركان فثلاثة؛ أولها: أن يخفف الركوع والسجود فلا يزيد في التسبيحات على ثلاث فقد روي عن أنس أنه قال "ما رأيت أخف صلاة من رسول الله في تمام" نعم روي أيضاً عن أنس بن مالك لما صلى خلف عمر بن عبد العزيز وكان أميراً بالمدينة قال "ما صليت وراء أحد أشبه صلاة بصلاة رسول الله من هذا الشاب قال: وكنا نسبح وراءه عشراً عشراً" وروي مجملاً أنهم قالوا "كنا نسبح وراء رسول الله في الركوع والسجود عشراً عشراً" وذلك حسن ولكن الثلاث إذا كثر الجمع أحسن. فإذا لم يحضر إلا المتجردون للدين فلابأس بالعشر، هذا وجه الجمع بين الروايات. وينبغي أن يقول الإمام عند رفع رأسه من الركوع "سمع الله لمن حمده" الثانية: في المأموم؛ ينبغي أن لا يساوي الإمام في الركوع والسجود بل يتأخر فلا يهوي للسجود إلى إذا وصلت جبهة الإمام إلى المسجد، هكذا كان اقتداء الصحابة برسول الله ولا يهوي للركوع حتى يستوي الإمام راكعاً. وقد قيل إن الناس يخرجون من الصلاة على ثلاثة أقسام؛ طائفة بخمس وعشرين صلاة وهم الذين يكبرون ويركعون بعد الإمام: وطائفة بصلاة واحدة وهم الذين يساوونه، وطائفة بلا صلاة وهم الذين يسابقون الإمام. وقد اختلف في أن الإمام في الركوع هل ينتظر لحوق من يدخل لينال فضل الجماعة وإدراكهم لتلك الركعة? ولعل الأولى أن ذلك مع الإخلاص لابأس به إذا لم يظهر تفاوت ظاهر للحاضرين فإن حقهم مرعي في ترك التطويل عليهم. الثالثة: لا يزيد في دعاء التشهد على مقدار التشهد حذراً من التطويل ولا يخص نفسه في الدعاء بل يأتي بصيغة الجمع فيقول "اللهم اغفر لنا" ولا يقول "اغفر لي" فقد كره للإمام أن يخص نفسه ولابأس أن يستعيذ في التشهد بالكلمات الخمس المأثورة عن رسول الله فيقول "نعوذ بك من عذاب جهنم وعذاب القبر ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين" وقيل سمي مسيحاً لأنه يمسح الأرض بطولها وقيل لأنه ممسوح العين أي مطموسها، وأما وظائف التحلل فثلاثة، أولها: أن ينوي بالتسليمتين السلام على القوم والملائكة. الثانية: أن يثبت عقيب السلام كذلك فعل رسول الله وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما فيصلي النافلة في موضع آخر. فإن كان خلفه نسوة لم يقم حتى ينصرفن وفي الخبر المشهور "أنه لم يكن يقعد إلا قدر قوله: اللهم أنت السلام ومنك السلام تبارك تيا ذا الجلال والإكرام" الثالثة: إذا وثبفينبغي أن يقبل بوجهه على الناس ويكره للمأموم القيام قبل انتقال الإمام. فقد روي عن طلحة والزبير رضي الله عنهما أنهما صليا خلف إمام فلما سلما قالا للإمام ما أحسن صلاتك وأتمها إلا شيئاً واحداً أنك لما سلمت لم تنفتل بوجهك. ثم قالا للناس: ما أحسن صلاتكم إلا أنكم انصرفتم قبل أن ينفتل إمامكم. ثم ينصرف الإمام حيث شاء من يمينه وشماله واليمين أحب. هذه وظيفة الصلوات، وأما الصبح فزيد فيها القنوت فيقول الإمام "اللهم اهدنا" ولا يقول اللهم اهدني ويؤمن المأمون فإذا انتهى إلى قوله "إنك تقضي ولا يقضى عليك" فلا يليق به التأمين وهو ثناء، فيقرأ معه فيقول مثل قوله أو يقول "بلى وأنا على ذلك من الشاهدين" أو "صدقت وبررت" وما أشبه ذلك. وقد روي حديث في رفع اليدين في القنوت فإذا صح الحديث استحب ذلك وإن كان على خلاف الدعوات في آخر التشهد إذ لا يرفع بسببها اليد بل التعويل على التوقيف وبينهما أيضاً فرق أن للأيدي وظيفة في التشهد وهو الوضوع على الفخذين على هيئة مخصوصة ولا وظيفة لهما ههنا، فلا يبعد أن يكون رفع اليدين هو الوظيفة في القنوت، فإنه لائق بالدعاء والله أعلم. فهذه جمل آداب القدوة والإمامة والله الموفق.