إحياء علوم الدين/كتاب آداب السماع والوجد
وهو الكتاب الثامن من ربع العادات من كتب إحياء علوم الدين
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحرق قلوب أوليائه بنار محبته،واسترق همهم وأرواحهم بالشوق الى لقائه ومشاهدته،ووقف أبصارهم وبصائرهم على ملاحظة جمال حضرته،حتى أصبحوا من تنسم روح الوصال سكرى - وأصبحت قلوبهم من ملاحظة سبحات الجلال والهة حيرى،فلم يروا في الكونين شيئاً سواه،ولم يذكروا في الدارين إلا إياه،إن سنحت لأبصارهم صورة عبرت الى المصور بصائرهم،وإن قرغت أسماعهم نغمة سبقت الى المحبوب سرائرهم،وإن ورد عليهم صوت مزعج أو مقلق أو مطرب أو محزن أو مبهج أو مشوق أو مهيج لم يكن انزعاجهم إلا إليه،ولا طربهم إلا به ولا قلقهم إلا عليه،ولا حزنهم إلا فيه ولا شوقهم إلا ما لديه،ولاابعاثهم إلا له ولا ترددهم إلا حواليه.فمنه سماعهم،وإليه استماعهم،فقد أقفل عن غيره أبصارهم وأسماعهم،فاولئك الذيناصطفاهم اللّه ولايته،واستخلصهم من بين أصفيائه وخاصته.والصلاة على محمد المبعوث برسالته وعلى آله وأصحابه أئمة الحق وقادته،وسلم كثيراً.
أما بعد:فإن القلوب والسرائر،خزائن الأسرار ومعادن الجواهر،وقد طويت فيها جواهرها كما طويت النار في الحديد والحجر،كما أخفى الماء تحت التراب والمدر،ولا سبيل الى استثارة خفاياها إلا بقوادح السماعولا منفذ الى القلوب الى من ددهليز الأسماع،فالنغمات الموزونة المستلذة تخرج ما فيها،وتظهر محاسنها أو مساويها،فلا يظهر من القلب عند التحريك إلا ما يحويه.كما لا يرشح الإناء إلا بما فيه،فالسماع للقلب محك صادق،ومعيار ناطق،فلا يصل نفس السماع إليه،إلا وقد تحرك فيه ما هو الغالب عليه،وإذا كانت القلوب بالطباع مطيعة للأسماع حتى أبدت بوارداتها مكامنها،وكشفت بها عن مساويها وأظهرت محاسنها،وجب شرح القول في السماع والوجد وبيان ما فيهما من الفوائد والآفات،وما يستحب فيهما من الآداب والهيئات،وما يتطرّق إليهما من خلاف العلماء في أنهما من المحظورات أو المباحات.ونحن نوضح ذلك في بابين."الباب الأول"في إباحة السماع."الباب الثاني"في آداب السماع وآثاره في القلب بالوجد وفي الجوارح بالرقص والزعق وتمزيق الثياب.