إحكام الآمدي - الجزء الرابع
المسألة العشرون اختلفوا في دخول العبد تحت خطاب التكاليف بالألفاظ العامة المطلقة كلفظ الناس والمؤمنين فأثبته الأكثرون ونفاه الأقلون إلا بقرينة ودليل يخصه ومنهم من قال بدخوله في العمومات المثبتة لحقوق الله دون حقوق الآدميين وهو منسوب إلى أبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة. والمختار إنما هو الدخول وذلك لأن الخطاب إذا كان بلفظ الناس أو المؤمنين فهو خطاب لكل من هو من الناس والمؤمنين والعبد من الناس والمؤمنين حقيقة فكان داخلاً في عمومات الخطاب بوضعه لغة إلا أن يدل دليل على إخراجه منه. فإن قيل: العبد من حيث هو عبد مال لسيده ولذلك يتمكن من التصرف فيه حسب تصرفه في سائر الأموال وإذا كان مالاً كان بمنزلة البهائم فلا يكون داخلاً تحت عموم خطاب الشارع سلمنا أنه ليس كالبهائم إلا أن أفعاله التي يتعلق بها التكليف ويحصل بها الامتثال مملوكة لسيده ويجب صرفها إلى منافعه بخطاب الشرع فلا يكون الخطاب متعلقاً بصرفها إلى غير منافع السيد لما فيه من التناقض سلمنا عدم التناقض غير أن الإجماع منعقد على إخراج العبد عن مطلق الخطاب العام بالجهاد والحج والعمرة والجمعة والعمومات الواردة بصحة التبرع والإقرار بالحقوق البدنية والمالية ولو كان داخلاً تحت عموم الخطاب بمطلقه لكان خروجه عنها في هذه الصور على خلاف الدليل سلمنا إمكان دخوله تحت مطلق الخطاب لغة إلا أن الرق مقتض لإخراجه عن عمومات الخطاب بطريق التخصيص وبيانه أنه صالح لذلك من حيث إنه مكلف بشغل جميع أوقاته بخدمة سيده بخطاب الشرع وحق السيد مقدم على حق الله تعالى لوجهين: الأول: أن السيد متمكن من منع العبد من التطوع بالنوافل مع أنها حق لله تعالى ولولا أن حق السيد مرجح لما كان كذلك. الثاني: أن حق الله تعالى مبني على المسامحة والمساهلة لأنه لا يتضرر بفوات حقوقه ولا ينتفع بحصولها وحق الآدمي مبني على الشح والمضايقة لأنه ينتفع بحصوله ويتضرر بفواته. والجواب عن السؤال الأول: أن كون العبد مالاً مملوكاً لا يخرجه عن جنس المكلفين إلى جنس البهائم وإلا لما توجه نحو التكليف بالخطاب الخاص بالصلاة والصوم ونحوه وهو خلاف الإجماع. وعن السؤال الثاني: لا نسلم أن السيد مالك لصرف منافع العبد إليه في جميع الأوقات حتى في وقت تضايق وقت العبادة المأمور بها بل في غيره وعلى هذا فلا تناقض.
وعن الثالث: أن ذلك لا يدل على إخراج العبد عن كون العمومات متناولة له لغة لما بيناه بل غايته أنه خص بدليل والتخصيص غير مانع من العموم لغة ولا يخفى أن القول بالتخصيص أولى من القول برفع العموم لغة مع تحققه وصار كما في تخصيص المريض والحائض والمسافر عن العمومات الواردة بالصوم والصلاة والجمعة والجهاد. وعن الرابع: بمنع تعلق حق السيد بمنافعه المصروفة إلى العبادات المأمور بها عند ضيق أوقاتها كما سبق والرق وإن اقتضى ذلك لمناسبته واعتباره فلا يقع في مقابلة الدلالة النصية على العبادة في ذلك الوقت لقوة دلالة النصوص على دلالة ما الحجة به مستندة إليها والنصوص وإن كانت متناولة للعبد بعمومها إلا أنها متناولة للعبادة في وقتها المعين بخصوصها والرق وإن كان مقتضياً لحق السيد بخصوصه إلا أن اقتضاءه لذلك الحق في وقت العبادة بعمومه فيتقابلان ويسلم الترجيح بالتنصيص كما سبق. قولهم: حق الآدمي مرجح على حق الله تعالى لا نسلم ذلك مطلقاً ولهذا فإن حق الله تعالى مرجح على حق السيد فيما وجب على العبد بالخطاب الخاص به إجماعاً وبه يندفع ما ذكروه من الترجيح الأول. قولهم في الترجيح الثاني إن السيد يتمكن من منع العبد من التنفل قلنا وإن أوجب ذلك ترجح جانب حق السيد على حقوق الله تعالى في النوافل فغير موجب لترجحه عليه في الفرائض. المسألة الحادية والعشرون ورود الخطاب على لسان الرسول ﷺ بقوله: "يا أيها الذين آمنوا يا أيها الناس يا عبادي" "يدخل الرسول في عمومه عندنا وعند أكثر العلماء خلافاً لطائفة من الفقهاء والمتكلمين ومنهم من قال: كل خطاب ورد مطلقاً ولم يكن الرسول مأموراً في أوله بأمر الأمة به كهذه الآيات فهو داخل فيه وإليه ذهب أبو بكر الصيرفي والحليمي من أصحاب الشافعي حجة من قال: يدخل في العموم وهو المختار حجتان. الأولى: أن هذه الصيغ عامة لكل إنسان وكل مؤمن وكل عبد والنبي ﷺ سيد الناس والمؤمنين والعبادة والنبوة غير مخرجة له عن إطلاق هذه الأسماء عليه فلا تكون مخرجة له عن هذه العمومات. الحجة الثانية: أنه ﷺ كان إذا أمر الصحابة بأمر وتخلف عنه ولم يفعله فإنهم كانوا يسألونه ما بالك لم تفعله؟ ولو لم يعقلوا دخوله فيما أمرهم به لما سألوه عن ذلك وذلك كما روي عنه ﷺ أنه أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة ولم يفسخ فقالوا له: أمرتنا بالفسخ ولم تفسخ ولم ينكر عليهم ما فهموه من دخوله في ذلك الأمر بل عدل إلى الاعتذار وهو قوله: إني قلدت هديا وروي عنه أنه قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة. فإن قيل: يمنع أن يكون النبي ﷺ داخلاً تحت عموم هذه الأوامر ثلاثة أوجه: الأول: أنه إذا كان النبي ﷺ آمراً لأمته بهذه الأوامر فلو كان مأموراً بها لزم من ذلك أن يكون بخطاب واحد آمراً ومأموراً وهو ممتنع ولأنه يلزم أن يكون آمراً لنفسه وأمر الإنسان لنفسه ممتنع لوجهين: الأول: أن الأمر طلب الأعلى من الأدنى والواحد لا يكون أعلى من نفسه وأدنى منها. الثاني: أنه وقع الاتفاق على أن أمر الإنسان لنفسه على الخصوص ممتنع فكذلك أمره لنفسه على العموم. الثاني: من الوجوه الثلاثة أنه يلزم من ذلك أن يكون بخطاب واحد مبلغاً ومبلغاً إليه وهو محال. الثالث: أن النبي ﷺ قد اختص بأحكام لم تشاركه فيها الأمة كوجوب ركعتي الفجر والضحى والأضحى وتحريم الزكاة عليه وأبيح له النكاح بغير ولي ولا مهر ولا شهود والصفي من المغنم ونحوه من الخصائص وذلك يدل على مزيته وانفراده عن الأمة في الأحكام التكليفية فلا يكون داخلاً تحت الخطاب المتناول لهم. قلنا: جواب الأول أن ما ذكروه مبني على كون الرسول آمراً وليس كذلك بل هو مبلغ لأمر الله وفرق بين الآمر والمبلغ للأمر ولهذا أعاد صيغ الأوامر له بالتبليغ كقوله: "قل أوحي إلي" "الجن 1" "واتل ما أوحي إليك" "الكهف 27" ونحوه. وجواب الثاني: أنه مبلغ للأمة بما ورد على لسانه وليس مبلغاً لنفسه بذلك الخطاب بل بما سمعه من جبريل عليه السلام. وجواب الثالث: أن اختصاصه ببعض الأحكام غير موجب لخروجه عن عمومات الخطاب ولهذا فإن الحائض والمريض والمسافر والمرأة كل واحد قد اختص بأحكام لا يشاركه غيره فيها ولم يخرج بذلك عن الدخول في عمومات الخطاب والله أعلم بالصواب. المسألة الثانية والعشرون الخطاب الوارد شفاهاً في زمن النبي ﷺ والأوامر العامة كقوله تعالى: "يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا" ونحوه هل يخص الموجودين في زمنه أو هو عام لهم ولمن بعدهم؟ اختلفوا فيه: فذهب أكثر أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة والمعتزلة إلى اختصاصه بالموجودين في زمن رسول الله ﷺ ولا يثبت حكمه في حق من بعدهم إلا بدليل آخر وذهبت الحنابلة وطائفة من السالفين والفقهاء إلى تناول ذلك لمن وجد بعد عصر النبي ﷺ حجة النافين من وجهين: الأول: أن المخاطبة شفاها بقوله تعالى: "يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا" تستدعي كون المخاطب موجوداً أهلاً للخطاب إنساناً مؤمناً ومن لم يكن موجوداً في وقت الخطاب لم يكن متصفاً بشيء من هذه الصفات فلا يكون الخطاب متناولاً له. الثاني: أن خطاب المجنون والصبي الذي لا يميز ممتنع حتى إن من شافهه بالخطاب استهجن كلامه وسفه في رأيه مع أن حالهما لوجودهما واتصافهما بصفة الإنسانية وأصل الفهم وقبولهما للتأديب بالضرب وغيره أقرب إلى الخطاب لهما ممن لا وجود له احتج الخصوم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى: "وما أرسلناك إلا كافة للناس" "سبأ 28" وأما السنة فقوله ﷺ: "بعثت إلى الأحمر والأسود" ولو لم يكن خطابه متناولاً لمن بعده لم يكن رسولاً إليه ولا مبلغاً إليه شرع الله تعالى وهو خلاف الإجماع وأيضاً قوله ﷺ "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" ولفظ الجماعة يستغرق كل من بعده فلو لم يكن حكمه على من في زمانه حكماً على غيرهم كان على خلاف الظاهر. وأما الإجماع فهو أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين وإلى زماننا هذا ما زالوا يحتجون في المسائل الشرعية على من وجد بعد النبي ﷺ بالآيات والأخبار الواردة على لسان النبي ﷺ ولولا عموم تلك الدلائل اللفظية لمن وجد بعد ذلك لما كان التمسك بها صحيحاً وكان الاسترواح إليها خطأ وهو بعيد عن أهل الإجماع. وأما المعقول فهو أن النبي ﷺ كان إذا أراد التخصيص ببعض الأمة نص عليه كما ذكرناه في مسألة خطاب النبي ﷺ للواحد هل هو خطاب للباقين؟ ولولا أن الخطاب المطلق العام يكون خطاباً للكل لما احتاج إلى التخصيص. والجواب على النصوص الدالة على كون النبي ﷺ عليه وسلم مبعوثاً إلى الناس كافة أنها إنما تلزم أن لو توقف مفهوم الرسالة والبعثة إلى كل الناس على المخاطبة للكل بالأحكام الشرعية شفاهاً وليس كذلك بل ذلك يتحقق بتعريف البعض بالمشافهة وتعريف البعض بنصب الدلائل والأمارات وقياس بعض الوقائع على بعض ويدل على ذلك أن أكثر الأحكام الشرعية لم يثبت بالخطاب شفاهاً لقلة النصوص وندرتها وكثرة الوقائع وما لزم من ذلك أن لا يكون النبي ﷺ رسولاً ولا مبلغاً بالنسبة إلى الأحكام التي لم تثبت بالخطاب شفاهاً. فإن قيل: والدلائل التي يمكن الاحتجاج بها في الأحكام الشرعية على من وجد بعد النبي ﷺ غير الخطاب فيما ذكرتموه إنما يعلم كونها حجة بالدلائل الخطابية فإذا كان الخطاب الموجود في زمن النبي ﷺ لا يتناول من بعده فقد تعذر الاحتجاج به عليه. قلنا: أمكن معرفة كونها حجة بالنقل عن النبي ﷺ أنه حكم بكونها حجة على من بعده أو بالإجماع المنقول عن الصحابة على ذلك. وأما قوله ﷺ: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" فالكلام في اختصاصه بالموجودين في زمنه كالكلام في الأول. وأما انعقاد الإجماع على صحة الاستدلال بالآيات والأخبار الواردة على لسانه ﷺ على من وجد بعده وهو أشبه حجج الخصوم فجوابه أنا بينا امتناع المخاطبة لمن ليس بموجود بما لا مراء فيه وعند ذلك فيجب اعتقاد استناد أهل الإجماع إلى النصوص من جهة معقولها لا من جهة ألفاظها جمعاً بين الأدلة.
وأما ما ذكروه من المعنى فقد سبق جوابه في مسألة خطاب النبي للواحد من الأمة. المسألة الثالثة والعشرون اختلفوا في المخاطب: هل يمكن دخوله في عموم خطابه لغة أو لا؟ والمختار دخوله وعليه اعتماد الأكثرين وسواء كان خطابه العام أمراً أو نهياً أو خبراً. أما الخبر فكما في قوله تعالى: "وهو بكل شيء عليم" "الحديد 3" فإن اللفظ بعمومه يقتضي كون كل شيء معلوماً لله تعالى وذاته وصفاته أشياء فكانت داخلة تحت عموم الخطاب. والأمر فكما لو قال السيد لعبده من أحسن إليك فأكرمه فإن خطابه لغة يقتضي إكرام كل من أحسن إلى العبد فإذا أحسن السيد إليه صدق عليه أنه من جملة المحسنين إلى العبد فكان إكرامه على العبد لازماً بمقتضى عموم خطاب السيد. وكذلك في النهي كما إذا قال له: من أحسن إليك فلا تسيء إليه وهذا في الوضوح غير محتاج إلى الإطناب فيه. فإن قيل: ما ذكرتموه يمتنع العمل به للنص والمعنى: أما النص فقوله تعالى: "الله خالق كل شيء" "الزمر 62" وذاته وصفاته أشياء وهو غير خالق لها ولو كان داخلاً في عموم خبره لكان خالقاً لها وهو محال. وأما المعنى فإن السيد إذا قال لعبده: من دخل داري فتصدق عليه بدرهم ولو دخل السيد فإنه يصدق عليه أنه من الداخلين إلى الدار ومع ذلك لا يحسن أن يتصدق عليه العبد بدرهم ولو كان داخلاً تحت عموم أمره لكان ذلك حسناً. قلنا: أما الآية فإنها بالنظر إلى عموم اللفظ تقتضي كون الرب تعالى خالقاً لذاته وصفاته غير أنه لما كان ممتنعاً في نفس الأمر عقلاً كان مخصصاً لعموم الآية ولا منافاة بين دخوله في العموم بمقتضى اللفظ وخروجه عنه بالتخصيص وكذلك الحكم فيما ذكروه من المثال فإنه بعمومه مقتض للتصدق على السيد عند دخوله غير أنه بالنظر إلى القرينة الحالية والدليل المخصص امتنع ثبوت حكم العموم في حقه ولا منافاة كما سبق. المسألة الرابعة والعشرون اختلف العلماء في قوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة" "التوبة 103" هل يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من أنواع مال كل مالك أو أخذ صدقة واحدة من نوع واحد؟ والأول مذهب الأكثرين والثاني مذهب الكرخي. احتج القائلون بتعميم كل نوع بأنه تعالى أضاف الصدقة إلى جميع الأموال بقوله: "من أموالهم" والجمع المضاف من ألفاظ العموم على ما عرف من مذهب أربابه فنزل ذلك منزلة قوله: خذ من كل نوع من أموالهم صدقة فكانت الصدقة متعددة بتعدد أنواع الأموال. وللنافي أن يقول المأمور به صدقة منكرة مضافة إلى جملة الأموال فمهما أخذ من نوع واحد منها من المالك صدقة صدق قول القائل أخذ من أمواله صدقة لأن المال الواحد جزء من جملة الأموال فإذا أخذت الصدقة من جزء المال صدق أخذها من المال. ولهذا وقع الإجماع على أن كل درهم ودينار من دراهم المالك ودنانيره موصوف بأنه من ماله ومع ذلك فإنه لا يجب أخذ الصدقة من خصوص كل دينار ودرهم له والأصل أن يكون ذلك لعدم دلالة اللفظ عليه لا للمعارض وبالجملة فالمسألة محتملة ومأخذ الكرخي دقيق. المسألة الخامسة والعشرون اللفظ العام إذا قصد به المخاطب الذم أو المدح كقوله تعالى: "إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم" "الانفطار 14" وكقوله: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم" "التوبة 34". نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه منع من عمومه حتى أنه منع من التمسك به في وجوب زكاة الحلي مصيراً منه إلى أن العموم لم يقع مقصوداً في الكلام وإنما سيق لقصد الذم والمدح مبالغة في الحث على الفعل أو الزجر عنه. وخالفه الأكثرون وهو الحق من حيث إن قصد الذم أو المدح وإن كان مطلوباً للمتكلم فلا يمنع ذلك من قصد العموم معه إذ لا منافاة بين الأمرين وقد أتى بالصيغة الدالة على العموم فكان الجمع بين المقصودين أولى ومن العمل بأحدهما وتعطيل الآخر والله أعلم. الصنف الرابع في تخصيص العموم ويشتمل على مقدمة ومسألتين أما المقدمة ففي بيان معنى التخصيص وما يجوز تخصيصه وما لا يجوز أما التخصيص فقد قال أبو الحسين البصري: هو إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه وذلك مما لا يمكن حمله على ظاهره على كل مذهب. أما على مذهب أرباب الخصوص فلأن الخطاب عندهم منزل على أقل ما يحتمله اللفظ فلا يتصور إخراج شيء منه.
وأما على مذهب أرباب الاشتراك فمن جهة أن العمل باللفظ المشترك في بعض محامله لا يكون إخراجاً لبعض ما تناوله الخطاب عنه بل غايته استعمال اللفظ في بعض محامله دون البعض. وأما على مذهب أرباب الوقف فظاهر إذ اللفظ عندهم موقوف لا يعلم كونه للخصوص أو للعموم وهو صالح لاستعماله في كل واحد منهما فإن قام الدليل على أنه أريد به العموم وجب حمله عليه وامتنع إخراج شيء منه وإن قام الدليل على أنه للخصوص لم يكن اللفظ إذ ذاك دليلاً على العموم ولا متناولاً له فلا يتحقق بالحمل على الخاص إخراج بعض ما تناوله اللفظ على بعض محامله الصالح لها. وأما على مذهب أرباب العموم فغايته أن اللفظ عندهم حقيقة في الاستغراق ومجاز في الخصوص وعلى هذا فإن لم يقم الدليل على مخالفة الحقيقة وجب إجراء اللفظ على جميع محامله من غير إخراج شي منها وإن قام الدليل على مخالفة الحقيقة وامتناع العمل باللفظ في الاستغراق وجب صرفه إلى محمله المجازي وهو الخصوص وعند حمل اللفظ على المجاز لا يكون اللفظ متناولاً للحقيقة وهي الاستغراق فلا تحقق لإخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه إذ هو حالة كونه مستعملاً في المجاز لا يكون مستعملاً في الحقيقة وعلى هذا فإطلاق القول بتخصيص العام أو أن هذا عام مخصص لا يكون حقيقة. وإذا عرف ذلك فالتخصيص على ما يناسب مذهب أرباب العموم هو تعريف أن المراد باللفظ الموضوع للعموم حقيقة إنما هو الخصوص وعلى ما يناسب مذهب أرباب الاشتراك تعريف أن المراد باللفظ الصالح للعموم والخصوص إنما هو الخصوص والمعرف لذلك بأي طريق كان يسمى مخصصاً واللفظ المصروف عن جهة العموم إلى الخصوص مخصصاً. وإذا عرف معنى تخصيص العموم فاعلم أن كل خطاب لا يتصور فيه معنى الشمول كقوله ﷺ لأبي بردة "تجزئك ولا تجزيء أحداً بعدك" فلا يتصور تخصيصه لأن التخصيص على ما عرف صرف اللفظ عن جهة العموم إلى جهة الخصوص وما لا عموم له لا يتصور فيه هذا الصرف وأما ما يتصور فيه الشمول والعموم فيتصور فيه التخصيص وسواء كان خطاباً أو لم يكن خطاباً كالعلة الشاملة لإمكان صرفه عن جهة عمومه إلى خصوصه هذا إتمام المقدمة. وأما المسائل فمسألتان: المسألة الأولى اتفق القائلون بالعموم على جواز تخصيصه على أي حال كان من الأخبار والأمر وغيره خلافاً لشذوذ لا يؤبه لهم في تخصيصه الخبر ويدل على جواز ذلك الشرع والمعقول: أما الشرع فوقوع ذلك في كتاب الله تعالى كقوله تعالى: "الله خالق كل شيء وهو على كل شيء قدير" "الزمر 62" وليس خالقاً لذاته ولا قادراً عليها وهي شيء وقوله تعالى: "ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم" "الذاريات 42" وقد أتت على الأرض والجبال ولم تجعلها رميماً وقوله تعالى: "تدمر كل شيء" "الأحقاف 25" "وأوتيت من كل شيء" "النحل 23" إلى غير ذلك من الآيات الخبرية المخصصة حتى إنه قد قيل لم يرد عام إلا وهو مخصص إلا في قوله تعالى: "وهو بكل شيء عليم" "الحديد 3" ولو لم يكن ذلك جائزاً لما وقع في الكتاب. وأما المعقول فهو أنه لا معنى لتخصص العموم سوى صرف اللفظ عن جهة العموم الذي هو حقيقة فيه إلى جهة الخصوص بطريق المجاز كما سبق تقريره والتجوز غير ممتنع في ذاته ولهذا لو قدرنا وقوعه لم يلزم المحال عنه لذاته ولا بالنظر إلى وضع اللغة ولهذا يصح من اللغوي أن يقول: جاءني كل أهل البلد وإن تخلف عنه بعضهم ولا بالنظر إلى الداعي إلى ذلك. والأصل عدم كل مانع سوى ذلك ويدل على جواز تخصيص الأوامر العامة وإن لم نعرف فيها خلافاً قوله تعالى: "فاقتلوا المشركين" مع خروج أهل الذمة عنه وقوله تعالى: "السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" "المائدة 38" "والزانية والزاني فاجدلوا كل واحد منهما مائة جلدة" "النور 2" مع أنه ليس كل سارق يقطع ولا كل زان يجلد وقوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين" "النساء 11" مع خروج الكافر والرقيق والقاتل عنه. فإن قيل: القول بجواز تخصيص الخبر مما يوجب الكذب في الخبر لما فيه من مخالفة المخبر للخبر وهو غير جائز على الشارع كما في نسخ الخبر.
قلنا: لا نسلم لزوم الكذب ولا وهم الكذب بتقدير إرادة جهة المجاز وقيام الدليل على ذلك وإلا كان القائل إذا قال: رأيت أسداً وأراد به الإنسان أن يكون كاذباً إذا تبينا أنه لم يرد الأسد الحقيقي وليس كذلك بالإجماع وعلى هذا فلا نسلم امتناع نسخ الخبر كما سيأتي تقريره. المسألة الثانية اختلف القائلون بالعموم وتخصيصه في الغاية التي يقع انتهاء التخصيص إليها: فمنهم من قال بجواز انتهاء التخصيص في جميع ألفاظ العموم إلى الواحد ومنهم من أجاز ذلك في من خاصة دون ما عداها من أسماء الجموع كالرجال والمسلمين وجعل نهاية التخصيص فيها أن يبقى تحتها ثلاثة وهذا هو مذهب القفال من أصحاب الشافعي ومنهم من جعل نهاية التخصيص في جميع الألفاظ العامة جمعاً كثيراً يعرف من مدلول اللفظ وإن لم يكن محدوداً وهو مذهب أبي الحسين البصري وإليه ميل إمام الحرمين وأكثر أصحابنا احتج من جوز الانتهاء في التخصيص إلى الواحد بالنص والإطلاق والمعنى. وأما النص فقوله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" "الحجر 9" وأراد به نفسه وحده. وأما الإطلاق فقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص وقد أنفذ إليه القعقاع مع ألف فارس قد أنفذت إليك ألفي رجل أطلق اسم الألف الأخرى وأراد بها القعقاع. وأما المعنى فمن وجهين: الأول أنه لو امتنع الانتهاء في التخصيص إلى الواحد فإما أن يكون لأن الخطاب صار مجازاً أو لأنه إذا استعمل اللفظ فيه لم يكن مستعملاً فيما هو حقيقة فيه من الاستغراق وكل واحد من الأمرين لو قيل بكونه مانعاً لزم امتناع تخصيص العام مطلقاً ولا بعدد ما لأنه يكون مجازاً في ذلك العدد وغير مستعمل فيما هو حقيقة فيه وذلك خلاف الإجماع. الثاني: أن استعمال اللفظ في الواحد من حيث إنه بعض من الكل يكون مجازاً كما في استعماله في الكثرة فإذا جاز التجوز باللفظ العام عن الكثرة فكذا في الواحد. ولقائل أن يقول: أما الآية فهي محمولة على تعظيم المتكلم وهو بمعزل عن التخصيص بالواحد. وأما الإطلاق العمري فمحمول على قصد بيان أن ذلك الواحد قائم مقام الألف وهو غير معنى التخصيص. وأما المعنى الأول فلا نسلم الحصر فيما قيل من القسمين بل المنع من ذلك إنما كان لعدم استعماله لغة. وأما المعنى الثاني فمبني على جواز إطلاق اللفظ العام وإرادة الواحد مجازاً وهو محل النزاع. وأما حجة أبي الحسين البصري فإنه قال: لو قال القائل: قتلت كل من في البلد وأكلت كل رمانة في الدار وكان فيها تقدير ألف رمانة وكان قد قتل شخصاً واحداً أو ثلاثة وأكل رمانة واحدة أو ثلاث رمانات فإن كلامه يعد مستقبحاً مستهجناً عند أهل اللغة وكذلك إذا قال لعبده: من دخل داري فأكرمه أو قال لغيره: من عندك وقال: أردت به زيداً وحده أو ثلاثة أشخاص معينة أو غير معينة كان قبيحاً مستهجناً ولا كذلك فيما إذا حمل على الكثرة القريبة من مدلول اللفظ فإنه يعد موافقاً مطابقاً لوضع أهل اللغة. وهذه الحجة وإن كانت قريبة من السداد وقد قلده فيها جماعة كثيرة إلا أن لقائل أن يقول: متى يكون ذلك مستهجناً منه إذا كان مريداً للواحد من جنس ذلك العدد الذي هو مدلول اللفظ وقد اقترن به قرينة أو إذا لم يكن الأول ممنوع والثاني مسلم وبيان ذلك النص وصحة الإطلاق. أما النص فقوله تعالى: "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم" "آل عمران 173" وأراد بالناس القائلين نعيم بن مسعود الأشجعي بعينه ولم يعد ذلك مستهجناً لاقترانه بالدليل. وأما الإطلاق فصحة قول القائل: أكلت الخبز واللحم وشربت الماء والمراد به واحد من جنس مدلولات اللفظ العام ولم يكن ذلك مستقبحاً لاقترانه بالدليل. نعم إذا أطلق اللفظ العام وكان الظاهر منه إرادة الكل وما يقاربه في الكثرة وهو مريد للواحد البعيد من ظاهر اللفظ من غير اقتران دليل به يدل عليه فإنه يكون مستهجناً وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فعليك بالاجتهاد في الترجيح. الصنف الخامس في أدلة تخصيص العموم وهي قسمان متصلة ومنفصلة القسم الأول في الأدلة المتصلة وهي أربعة أنواع: الاستثناء والشرط والصفة والغاية النوع الأول: الاستثناء وفيه مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي معنى الاستثناء وصيغه وأقسامه أما الاستثناء فقال الغزالي: هو قول ذو صيغ مخصوصة محصورة دال على أن المذكور به لم يرد بالقول الأول وهو باطل من وجهين: الأول: أنه ينتقض بآحاد الاستثناءات كقولنا: جاء القوم إلا زيداً فإنه استثناء حقيقة وليس بذي صيغ بل صيغة واحدة وهي إلا زيداً. الثاني: أنه يبطل بالأقوال الموجبة لتخصيص العموم الخارجة عن الاستثناء فإنها صيغ مخصوصة وهي محصورة لاستحالة القول بعدم النهاية في الألفاظ الدالة وهي دالة على أن المذكور بها لم يرد بالقول الأول وليست من الاستثناء في شيء وذلك كما لو قال القائل: رأيت أهل البلد ولم أر زيداً واقتلوا المشركين ولا تقتلوا أهل الذمة ومن دخل داري فأكرمه والفاسق منهم أهنه وأهل البلد كلهم علماء وزيد جاهل إلى غير ذلك. وقال بعض المتبحرين من النحاة: الاستثناء إخراج بعض الجملة عن الجملة بلفظ إلا أو ما يقوم مقامه وهو منتقض بقول القائل: رأيت أهل البلد ولم أر زيداً فإنه قائم مقام قوله: إلا زيداً في إخراج بعض الجملة عن الجملة وليس باستثناء. وقيل: إنه عبارة عما لا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه بلفظ إلا ولا يستقل بنفسه وهو أيضاً مدخول من وجهين: الأول: أن الاستثناء لا لإخراج بعض الكلام وإنما يكون إخراجاً لبعض ما دل عليه الكلام الأول وفرق بين الأمرين. الثاني: أنه لو قال القائل: جاء القوم غير زيد فإنه استثناء مع أن لفظة غير قد وجد فيها جميع ما ذكروه من القيود سوى قوله: لا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه فإن غير قد يدخل في الكلام لغرض النعتية إذا لم يجز في موضعها إلا كقولك: عندي درهم غير جيد فإنه لا يحسن أن تقول في موضعها عندي درهم إلا جيداً فلا جرم كانت نعتاً للدرهم وتابعة له في إعرابه وهذا بخلاف ما إذا قلت عندي درهم غير قيراط فإن غير تكون استثنائية منصوبة لإمكان دخول إلا في موضعها ويمكن أن يقال هاهنا إن النعتية ليست استثنائية فلا ترد على الحد. والمختار في ذلك أن يقال: الاستثناء عبارة عن لفظ متصل بجملة لا يستقل بنفسه دال بحرف إلا أو أخواتها على أن مدلوله غير مراد مما اتصل به ليس بشرط ولا صفة ولا غاية. فقولنا: لفظ احتراز عن الدلالات العقلية والحسية الموجبة للتخصيص وقولنا: متصل بجملة احتراز عن الدلائل المنفصلة وقولنا: ولا يستقل بنفسه احتراز عن مثل قولنا: قام القوم وزيد لم يقم وقولنا: دال احتراز عن الصيغ المهملة وقولنا: على أن مدلوله غير مراد مما اتصل به احتراز عن الأسماء المؤكدة والنعتية كقول القائل جاءني القوم العلماء كلهم وقولنا بحرف إلا أو أخواتها احتراز عن قولنا قام القوم دون زيد وفيه احتراز عن أكثر الإلزامات السابق ذكرها وقولنا: ليس بشرط احتراز عن قول القائل لعبده: من دخل داري فأكرمه إن كان مسلماً وقولنا ليس بصفة احتراز من قول القائل: جاءني بنو تميم الطوال وقولنا: ليس بغاية احتراز عن قول القائل لعبده: أكرم بني تميم أبداً إلى أن يدخلوا الدار وهذا الحد مطرد منعكس لا غبار عليه. وإذا عرف معنى الاستثناء فصيغه كثيرة وهي: إلا وغير وسوى وخلا وحاشا وعدا وما عدا وما خلا وليس ولا يكون ونحوه وأم الباب في هذه الصيغ إلا لكونها حرفاً مطلقا ولوقوعها في جميع أبواب الاستثناء لا غير ولها أحكام مختلفة في الإعراب مستقصاة في كتب أهل الأدب لا مناسبة لذكرها فيما نحن فيه كما قد فعله من غلب عليه حب العربية. وهو منقسم إلى الاستثناء من الجنس ومن غير الجنس كما يأتي تحقيقه عن قريب إن شاء الله تعالى ويجوز أن يكون متأخراً عن المستثنى منه كما ذكرناه من الأمثلة وأن يكون متقدماً عليه مع الاتصال كقولك خرج إلا زيداً القوم ومنه قول الكميت: فمـا لـي إلا أحـمـد شـيعة وما لي إلا مذهب الحق مذهب ويجوز الاستثناء من الاستثناء من غير خلاف كقول القائل: له علي عشرة دراهم إلا أربعة إلا اثنين ويدل عليه قوله تعالى: "إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين" "الحجر 58" إلى قوله: "إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته" "الحجر 59" استثنى آل لوط من أهل القرية واستثنى المرأة من الآل المنجين من الهلاك وهذا ما أردنا ذكره من المقدمة وأما المسائل فخمس: المسألة الأولى شرط صحة الاستثناء عند أصحابنا وعند الأكثرين أن يكون متصلاً بالمستثنى منه حقيقة من غير تخلل فاصل بينهما أو في حكم المتصل وهو ما لا يعد المتكلم به آتياً به بعد فراغه من كلامه الأول عرفاً وإن تخلل بينهما فاصل بانقطاع النفس أو سعال مانع من الاتصال حقيقة ونقل عن ابن عباس أنه كان يقول بصحة الاستثناء المنفصل وإن طال الزمان شهراً. وذهب بعض أصحاب مالك إلى جواز تأخير الاستثناء لفظاً لكن مع إضمار الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه ويكون المتكلم به مديناً فيما بينه وبين الله تعالى ولعله مذهب ابن عباس. وذهب بعض الفقهاء إلى صحة الاستثناء المنفصل في كتاب الله تعالى دون غيره حجة القائلين بالاتصال من ثلاثة أوجه. الأول: ما روي عن النبي ﷺ أنه قال: "من حلف على شيء فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" وروي "فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" ولو كان الاستثناء المنفصل صحيحاً لأرشد النبي ﷺ إليه لكونه طريقاً مخلصاً للحالف عند تأمل الخير في البر وعدم الحنث لأن النبي ﷺ إنما يقصد التيسير والتسهيل ولا يخفى أن الاستثناء أيسر وأسهل من التكفير فحيث لم يرشد إليه دل على عدم صحته. الثاني: أن أهل اللغة لا يعدون ذلك كلاماً منتظماً ولا معدوداً من كلام العرب ولهذا فإنه لو قال: لفلان علي عشرة دراهم ثم قال بعد شهر أو سنة إلا درهماً أو قال: رأيت بني تميم ثم قال بعد شهر: إلا زيداً فإنه لا يعد استثناء ولا كلاماً صحيحاً كما لو قال رأيت زيداً ثم قال بعد شهر: قائماً فإنهم لا يعدونه بذلك مخبراً عن زيد بشيء وكذلك لو قال السيد لعبده: أكرم زيداً ثم قال بعد شهر: إن دخل داري فإنهم لا يعدون ذلك شرطاً. الثالث: أنه لو قيل بصحة الاستثناء المنفصل لما علم صدق صادق ولا كذب كاذب ولا حصل وثوق بيمين ولا وعد ولا وعيد ولا حصل الجزم بصحة عقد نكاح وبيع وإجارة ولا لزوم معاملة أصلاً لإمكان الاستثناء المنفصل ولو بعد حين ولا يخفى ما في ذلك من التلاعب وإبطال التصرفات الشرعية وهو محال. احتج الخصوم بأربعة أمور: الأول ما روي عن النبي ﷺ أنه قال: "والله لأغزون قريشاً ثم سكت وقال بعده إن شاء الله" ولولا صحة الاستثناء بعد السكوت لما فعله لكونه مقتدى به وأيضاً ما روي عنه ﷺ أنه سألته اليهود عن عدة أهل الكهف وعن مدة لبثهم فيه فقال: "غداً أجيبكم" ولم يقل إن شاء الله فتأخر عنه الوحي مدة بضعة عشر يوماً ثم نزل عليه: "ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً" "الكهف 22" إلى قوله: "ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت" "الكهف 23" فقال: إن شاء الله بطريق الإلحاق بخبره الأول ولو لم يكن ذلك صحيحاً لما فعله. الثاني: أن ابن عباس ترجمان القرآن ومن أفصح فصحاء العرب وقد قال بصحة الاستثناء المنفصل وذلك يدل على صحته. الثالث: أن الاستثناء بيان وتخصيص للكلام الأول فجاز تأخيره كالنسخ والأدلة المنفصلة المخصصة للعموم. الرابع: أن الاستثناء رافع لحكم اليمين فجاز تأخيره كالكفارة. والجواب عن الخبر الأول أن سكوته قبل الاستثناء يحتمل أنه من السكوت الذي لا يخل بالاتصال الحكمي كما أسلفناه ويجب الحمل عليه موافقة لما ذكرناه من الأدلة. وعن الخبر الثاني أن قوله ﷺ: "إن شاء الله" ليس عائداً إلى خبر الأول بل إلى ذكر ربه إذا نسي تقديره أذكر ربي إذا نسيت إن شاء الله وذلك كما إذا قال القائل لغيره: افعل كذا فقال: إن شاء الله أي أفعل إن شاء الله. وعن المنقول عن ابن عباس إن صح ذلك فلعله كان يعتقد صحة إضمار الاستثناء ويدين المكلف بذلك فيما بينه وبين الله تعالى وإن تأخر الاستثناء لفظاً وهو غير ما نحن فيه وإن لم يكن كذلك فهو أيضاً مخصوم بما ذكرناه من الأدلة واتفاق أهل اللغة على إبطاله ممن سواه. وعن الوجه الثالث أنه قياس في اللغة فلا يصح لما سبق ثم هو منقوض بالخبر والشرط كما سبق كيف والفرق بين التخصيص والاستثناء واقع من جهة الجملة من حيث إن التخصيص قد يكون بدليل العقل والحس ولا كذلك الاستثناء وبينه وبين النسخ أن النسخ مما يمتنع اتصاله بالمنسوخ بخلاف الاستثناء.
وعن الوجه الرابع بالفرق وهو أن الكفارة رافعة لإثم الحنث لا لنفس الحنث والاستثناء مانع من الحنث فما التقيا في الحكم حتى يصح قياس أحدهما على الآخر كيف وإن الخلاف إنما وقع في صحة الاستثناء المنفصل من جهة اللغة لا من جهة الشرع ولا قياس في اللغة على ما سبق. المسألة الثانية اختلف العلماء في صحة الاستثناء من غير الجنس: فجوزه أصحاب أبي حنيفة ومالك والقاضي أبو بكر وجماعة من المتكلمين والنحاة ومنع منه الأكثرون. وأما أصحابنا فمنهم من قال بالنفي ومنهم من قال بالإثبات احتج من قال بالبطلان بأن الاستثناء استفعال مأخوذ من الثني ومنه تقول: ثنيت الشيء إذا عطفت بعضه على بعض وثنيت فلاناً عن رأيه وثنيت عنان الفرس وحقيقته أنه استخراج بعض ما تناوله اللفظ وذلك غير متحقق في مثل قول القائل: رأيت الناس إلا الحمر لأن الحمر المستثناة غير داخلة في مدلول المستثنى منه حتى يقال بإخراجها وثنيها عنه بل الجملة الأولى باقية بحالها لم تتغير ولا تعلق للثاني بالأول أصلاً ومع ذلك فلا تحقق للاستثناء من اللفظ ولا يمكن أن يقال بصحة الاستثناء بناء على ما وقع به الاشتراك من المعنى بين المستثنى منه وإلا لصح استثناء كل شيء من كل شيء ضرورة أنه ما من شيئين إلا وهما مشتركان في معنى عام لهما وليس كذلك كيف وأنه لو قال القائل: جاء العلماء إلا الكلاب وقدم الحاج إلا الحمير كان مستهجناً لغة وعقلاً وما هذا شأنه لا يكون وضعه مضافاً إلى أهل اللغة. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن الاستثناء مأخوذ من الثني بل من التثنية وكأن الكلام كان واحداً فثني وليس أحد الأمرين أولى من الآخر فإن قيل: لو كان الاستثناء مأخوذاً من التثنية لكان كل ما وجد فيه معنى التثنية من الكلام استثناء وليس كذلك. قلنا: ولو كان مأخوذاً من الثني لكان كل ما وجد فيه الثني والعطف استثناء وليس كذلك ولهذا لا يقال لمن عطف الثوب بعضه على بعض أو عطف عنان الفرس إنه استثناء. قولكم إن الاستثناء استخراج بعض ما تناوله اللفظ دعوى في محل النزاع وكيف يدعى ذلك مع قول الخصم بصحة الاستثناء من غير الجنس ولا دخول المستثنى تحت المستثنى منه وما ذكرتموه من الاستقباح لا يدل على امتناع صحته في اللغة ولهذا فإنه لو قال القائل في دعائه: يا رب الكلاب والحمير وخالقهم ارزقني وأعطني كان مستهجناً وإن كان صحيحاً من جهة اللغة والمعنى. ثم وإن سلمنا امتناع صحة الاستثناء من نفس الملفوظ به مطابقة فما المانع من صحته نظراً إلى ما وقع به الاشتراك بين المستثنى والمستثنى منه في المعنى اللازم المدلول للفظ مطابقه كما قال الشافعي إنه لو قال القائل لفلان علي مائة درهم إلا ثوباً فإنه يصح ويكون معناه إلا قيمة ثوب لاشتراكهما في ثبوت صفة القيمة لهما وكما قاله أبو حنيفة في استثناء المكيل من الموزون وبالعكس لاشتراكهما في علة الربا. قولكم: لو صح ذلك لصح استثناء كل شيء من كل شيء ليس كذلك وما المانع أن تكون صحة الاستثناء مشروطة بمناسبة بين المستثنى والمستثنى منه كما إذا قال القائل: ليس لي نخل إلا شجر ولا إبل إلا بقر ولا بنت إلا ذكر ولا كذلك فيما إذا قال: ليس لفلان بنت إلا أنه باع داره وأما القائلون بالصحة فقد احتجوا بالمنقول والمعقول: أما المنقول فمن جهة القرآن والشعر والنثر. أما القرآن فقوله تعالى: "وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم" "البقرة 34" "فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين" "الأعراف 11" وإبليس لم يكن من جنس الملائكة لقوله تعالى في آية أخرى: "إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه" "الكهف 50" والجن ليسوا من جنس الملائكة ولأنه كان مخلوقاً من نار على ما قال: "خلقتني من نار" "الأعراف 12" والملائكة من نور ولأن إبليس له ذرية على ما قال تعالى: "أفتتخذونه وذريته أولياء" "الكهف 50" ولا ذرية للملائكة فلا يكون من جنسهم وهو مستثنى منهم وقوله تعالى: "أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين" "الشعراء 75" استثنى الباري تعالى من جملة ما كانوا يعبدون من الأصنام وغيرها والباري تعالى ليس من جنس شيء من المخلوقات وقوله تعالى: "وما لهم به من علم إلا أتباع الظن" "النساء 157" استثنى الظن من العلم وليس من جنسه وقوله تعالى: "لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً" "الواقعة 26 - 27" استثنى السلام من اللغو وليس من جنسه وقوله تعالى: "لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" "النساء 29" والتجارة ليست من جنس الباطل وقد استثناها منه وقوله تعالى: "فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا" "يس 43" استثنى الرحمة من نفي الصريخ والإنقاذ وليست من جنسه وقوله تعالى: "لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم" "هود 43" ومن رحم ليس بعاصم بل معصوم وليس المعصوم من جنس العاصم وقوله تعالى: "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ" "النساء 92" استثنى الخطأ من القتل وليس من جنسه. وأما الشعر فمن ذلك قول القائل منهم: وبلدة ليس بهـا أنـيس إلا اليعافير وإلا العيس والعيس ليست من جنس الأنيس وقال النابغة الذبياني: وقفت فيها أصـيلالا أسـائلـهـا عيت جواباً وما بالربع من أحـد إلا أواري لأياً مـا أبـينـهـــا والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد والأواري ليست من جنس الأحد وقال: ولا عيب فيهم غير أن سيوفنا بهن فلول من قراع الكتائب وليس فلول السيوف عيباً لأربابها بل فخراً لهم وقد استثناها من العيوب وليست من جنسها. وأما النثر فقول العرب: ما زاد إلا ما نقص وما بالدار أحد إلا الوتد وما جاءني زيد إلا عمرو استثنوا النقص من الزيادة والوتد من أحد وعمراً من زيد وليس من جنسه. وأما المعقول فهو أن الاستثناء لا يرفع جميع المستثنى منه فصح كاستثناء الدراهم من الدنانير وبالعكس. ولقائل أن يقول: أما الآية الأولى فلا نسلم أن إبليس لم يكن من جنس الملائكة قولكم إنه كان من الجن قلنا: لا منافاة بين الأمرين: فإنه قد قال ابن عباس وغيره من المفسرين إن إبليس كان من الملائكة من قبيل يقال لهم الجن لأنهم كانوا خزان الجنان وكان إبليس رئيسهم وتسميته جنياً لنسبته إلى الجنة كما يقال بغدادي ومكي ويحتمل أنه سمي بذلك لاجتنانه واختفائه ويدل على كونه من الملائكة أمران: الأول أن الله تعالى استثناه من الملائكة والأصل أن يكون من جنسهم للاتفاق على صحة الاستثناء من الجنس ووقع الخلاف في غيره الثاني أن الأمر بالسجود لآدم إنما كان للملائكة بدليل قوله تعالى: "وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم" "البقرة 34" ولو لم يكن إبليس من الملائكة لما كان عاصياً للأمر المتوجه إلى الملائكة لكونه ليس منهم إذ الأصل عدم أمر وراء ذلك الأمر ودليل عصيانه قوله تعالى: "إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين" "البقرة 34". قولكم إن إبليس له ذرية ليس في ذلك ما ينافي كونه من جنس الملائكة فلئن قلتم بأن التوالد لا يكون إلا من ذكر وأنثى والملائكة لا إناث فيهم بدليل قوله تعالى: "وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً" "الزخرف 19" ذكر ذلك في معرض الإنكار والتوعد على قول ذلك. قلنا إنما يلزم من ذلك الإناث في الملائكة أن لو امتنع حصول الذرية إلا من جنسين وهو غير مسلم. قولكم: إن إبليس مخلوق من نار والملائكة من نور لا منافاة أيضاً بين ذلك وبين كونه من الملائكة. وأما الآية الثانية فاستثناء الرب تعالى فيها من المعبودين وذلك قوله: "ما كنتم تعبدون" "الشعراء 75" وهم كانوا ممن يعبد الله مع الأصنام لأنهم كانوا مشركين لا جاحدين لله تعالى فلا يكون الاستثناء من غير الجنس. وأما الآية الثالثة فجوابها من وجهين: الأول أن قوله تعالى: "وما لهم به من علم إلا اتباع الظن" "النساء 157" عام في كل ما يسمى علماً والظن يسمى علماً ودليله قوله تعالى: "فإن علمتموهن مؤمنات" "الممتحنة 10" وأراد إن ظننتموهن لاستحالة اليقين بذلك وذلك إن كان من الأسماء المتواطئة فلا يكون الاستثناء من غير الجنس وإن كان من الأسماء المشتركة أو المجازية فهو من جملة الأسماء العامة كما سبق. الثاني أن إلا فيها ليست للاستثناء بل هي بمعنى لكن وكذلك الحكم فيما بعدها من الآيات. وأما استثناء اليعافير والعيس من الأنيس فليس استثناء من غير الجنس لأنها مما يؤنس بها فهي من جنس الأنيس وإن لم تكن من جنس الأنس بل وقد يحصل الأنس بالآثار والأبنية والأشجار فضلاً عن الحيوان. وأما استثناء الأواري من أحد فإنما كان لأنه كما يطلق الأحد على الآدمي فقد يطلق على غيره من الحيوانات والجمادات ولذلك يقال: رأيت أحد الحمارين وركبت أحد الفرسين ورميت أحد الحجرين وأحد السهمين فلم يكن الاستثناء من غير الجنس من حيث إن الأواري مما يصدق عليها لفظة أحد وبتقدير أن لا يكون من الجنس فإلا ليست استثنائية حقيقة بل بمعنى لكن كما سبق. وأما فلول السيوف فهو عيب في السيوف وإن كان يسبب فلولها فخراً ومدحة لأربابها فهو في الجملة استثناء من الجنس. وقول العرب: ما زاد إلا ما نقص تقديره: ما زاد شيء إلا الذي نقص أي ينقص وهو استثناء من الجنس. وقولهم: ما في الدار أحد إلا الوتد فجوابه كما سبق في الأواري من أحد وقوله ما جاءني زيد إلا عمرو فإلا بمعنى لكن. وما ذكروه من المعقول قولهم: إن الاستثناء لا يرفع جميع المستثنى منه فشيء لا إشعار له بصحة الاستثناء من غير الجنس. وأما استثناء الدراهم من الدنانير ( وبالعكس فهو أيضاً محل النزاع عند القائلين بعدم صحة الاستثناء من غير الجنس وإن تكلف بيان صحة الاستثناء من جهة اشتراكهما في النقدية وجوهرية الثمنية فآئل إلى الاستثناء من الجنس. المسألة الثالثة اتفقوا على امتناع الاستثناء المستغرق كقوله له علي عشرة إلا عشرة وإنما اختلفوا في استثناء النصف والأكثر فذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى صحة استثناء الأكثر حتى إنه لو قال: له علي عشرة إلا تسعة لم يلزمه سوى درهم واحد وذهب القاضي أبو بكر في آخر أقواله والحنابلة وابن درستويه النحوي إلى المنع من ذلك وزاد القاضي أبو بكر والحنابلة القول بالمنع من استثناء المساوي وقد نقل عن بعض أهل اللغة استقباح استثناء عقد صحيح فلا يقول: له علي مائة إلا عشرة بل خمسة أو غير ذلك احتج من قال بصحة استثناء الأكثر والمساوي بالمنقول والمعقول والحكم أما المنقول فمن جهة القرآن والشعر. أما القرآن فقوله تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين" "الحجر 42" وقال: "لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين" "ص 83" فإن استووا فقد استثنى المساوي وإن تفاوتوا فأيهما كان أكثر فقد استثناه كيف وإن الغاوين أكثر بدليل قوله تعالى: "وقليل من عبادي الشكور" "سبأ 13". وقوله تعالى: "ولا تجد أكثرهم شاكرين" "الأعراف 17" وقوله تعالى: "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين" "يوسف 103" ولكن أكثرهم "لا يعقلون" "القصص 13" ولا يؤمنون. وأما الشعر فقوله: أدوا التي نقصت تسعين من مائة ثم ابعثوا حكماً بالحـق قـوالا وأما المعقول فهو أن الاستثناء لفظ يخرج من الجملة ما لولاه لدخل فيها فجاز إخراج الأكثر به كالتخصيص بالدليل المنفصل كاستثناء الأقل. هذا ما يخص الأكثر وأما المساوي فدليله قوله تعالى: "يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه" "المزمل 1" استثنى النصف وليس بأقل. وأما الحكم فعام للأكثر والمساوي وهو أنه لو قال: له علي عشرة واستثنى منها خمسة أو تسعة فإنه يلزمه في الأول خمسة وفي الثاني درهم باتفاق الفقهاء ولولا صحة الاستثناء لما كان كذلك. وفي هذه الحجج ضعف إذ لقائل أن يقول أما الآية فالغاوون فيها وإن كانوا أكثر من العباد المخلصين بدليل النصوص المذكورة فلا نسلم أن إلا في قوله: "إلا من اتبعك من الغاوين" "الحجر 42" للاستثناء بل هي بمعنى لكن وإن سلمنا أنها للاستثناء ولكن نحن إنما نمنع من استثناء الأكثر إذا كان عدد المستثنى والمستثنى منه مصرحاً به كما إذا قال: له علي مائة إلا تسعة وتسعين درهماً وأما إذا لم يكن العدد مصرحاً به كما إذا قال له: خذ ما في الكيس من الدراهم سوى الزيوف منها فإنه يصح وإن كانت الزيوف في نفس الأمر أكثر في العدد وكما إذا قال: جاءني بنو تميم سوى الأوباش منهم فإنه يصح من غير استقباح وإن كان عدد الأوباش منهم أكثر. وأما الشعر فلا استثناء فيه بل معناه: أدوا المائة التي سقط منها تسعون ولا يلزم أن يكون سقوطها بطريق الاستثناء. وما ذكروه من المعقول فحاصله يرجع إلى القياس في اللغة وهو فاسد كما سبق كيف والفرق بين الأصل والفرع واقع من جهة الإجمال أما التخصيص فمن جهة أنه قد يكون بدليل منفصل وبغير دليل لفظي كما يأتي. وأما استثناء الأقل فلكونه غير مستقبح كما إذا قال: له علي عشرة إلا درهماً ولا كذلك قوله: له علي مائة إلا تسعة وتسعين. وأما قوله تعالى: "يا أيها المزمل" "المزمل 1" فلا دلالة فيه على جواز استثناء النصف إذ النصف غير مستثنى وإنما هو ظرف للقيام فيه وتقديره قم الليل ونصفه إلا قليلاً. وأما الحكم فدعوى الاتفاق عليه خطأ فإن من لا يرى صحة استثناء الأكثر والمساوي فهو عنده بمنزلة الاستثناء المستغرق ولو قال: له علي عشرة إلا عشرة لزمه العشرة وإنما ذهب إلى ذلك الفقهاء القائلون بصحة استثناء الأكثر والمساوي. وأما من قال بامتناع صحة استثناء الأكثر والمساوي فقد احتج بأن الاستثناء على خلاف الأصل لكونه إنكاراً بعد إقرار وجحداً بعد اعتراف غير أنا خالفناه في استثناء الأقل لمعنى لم يوجد في المساوي والأكثر فوجب أن لا يقال بصحته فيه وبيان ذلك من وجهين: الأول: أن المقر ربما أقر بمال وقد وفى بعضه غير أنه نسيه لقلته وعند إقراره ربما تذكره فاستثناه فلو لم يصح استثناؤه لتضرر ولا كذلك في الأكثر والنصف لأنه قلما يتفق الذهول عنه. والثاني: أنه إذا قال: له علي مائة إلا درهماً لم يكن مستقبحاً وإذا قال له علي مائة إلا تسعة وتسعين كان مستقبحاً والمستقبح في لغة العرب لا يكون من لغتهم. وهذه الحجة ضعيفة أيضاً إذ لقائل أن يقول: لا نسلم أن الاستثناء على خلاف الأصل والقول بأنه إنكار بعد إقرار إنما يصح ذلك أن لو لم يكن المستثنى والمستثنى منه جملة واحدة وإلا فلا وإن سلمنا عدم الاتحاد ولكن لا نسلم مخالفة ذلك الأصل بل الأصل قبوله لإمكان صدق المتكلم به ودفعاً للضرر عنه ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يكون قبول ذلك في استثناء الأقل على خلاف الأصل والقول بأن ذلك مستقبح ركيك في لغة العرب ليس فيه ما يمنع مع ذلك من استعماله ولهذا فإنه لو قال: له علي عشرة إلا درهماً كان مستحسناً ولو قال: له علي عشرة إلا دانقاً ودانقاً إلى تمام عشرين مرة كان في غاية الاستقباح وما منع ذلك من صحته واستعماله لغة. المسألة الرابعة الجمل المتعاقبة بالواو إذا تعقبها الاستثناء رجع إلى جميعها عند أصحاب الشافعي رضي الله عنه وإلى الجملة الأخيرة عند أصحاب أبي حنيفة. وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وجماعة من المعتزلة: إن كان الشروع في الجملة الثانية إضراباً عن الأولى ولا يضمر فيها شيء مما في الأولى فالاستثناء مختص بالجملة الأخيرة لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة الأولى مع استقلالها بنفسها إلى غيرها إلا وقد تم مقصوده منها وذلك على أقسام أربعة: القسم الأول: أن تختلف الجملتان نوعا كما لو قال أكرم بني تميم والنحاة البصريون إلا البغاددة إذ الجملة الأولى أمر والثانية خبر. القسم الثاني: أن تتحدا نوعاً وتختلفا اسماً وحكماً كما لو قال: أكرم بني تميم واضرب ربيعة إلا الطوال إذ هما أمران. القسم الثالث: أن تتحدا نوعاً وتشتركا حكماً لا اسماً كما لو قال: سلم على بني تميم وسلم على بني ربيعة إلا الطوال. القسم الرابع: أن تتحدا نوعاً وتشتركا اسماً لا حكماً ولا يشترك الحكمان في غرض من الأغراض كما لو قال: سلم على بني تميم واستأجر بني تميم إلا الطوال. وأقوى هذه الأقسام في اقتضاء اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة القسم الأول ثم الثاني ثم الثالث والرابع. وأما إن لم تكن الجملة الأخيرة مضربة عن الأولى بل لها بها نوع تعلق فالاستثناء راجع إلى الكل وذلك أربعة أقسام. القسم الأول: أن تتحد الجملتان نوعاً واسماً لا حكماً غير أن الحكمين قد اشتركا في غرض واحد كما لو قال: أكرم بني تميم وسلم على بني تميم إلا الطوال لاشتراكهما في غرض الإعظام. القسم الثاني: أن تتحد الجملتان نوعاً وتختلفا حكماً واسم الأولى مضمر في الثانية كما لو قال أكرم بني تميم واستأجرهم وربيعة إلا الطوال. القسم الثالث: بالعكس من الذي قبله كما لو قال: أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال.
القسم الرابع: أن يختلف نوع الجمل المتعاقبة إلا انه قد أضمر في الجملة الأخيرة ما تقدم أو كان غرض الأحكام المختلفة فيها واحدا كما في آية القذف فإن جملها مختلفة النوع من حيث إن قوله تعالى: "فاجلدوهم ثمانين جلدة" "النور 4" أمر وقوله: "ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً" "النور 4" نهي وقوله "وأولئك هم الفاسقون" "النور 4" خبر غير أنها داخلة تحت القسم الأول من هذه الأقسام الأربعة لاشتراك أحكام هذه الجمل في غرض الانتقام والإهانة وداخلة تحت القسم الثاني من جهة إضمار الاسم المتقدم فيها. وذهب المرتضى من الشيعة إلى القول بالاشتراك وذهب القاضي أبو بكر والغزالي وجماعة من الأصحاب إلى الوقف. والمختار انه مهما ظهر كون الواو للابتداء فالاستثناء يكون مختصاً بالجملة الأخيرة كما في القسم الأول من الأقسام الثانية المذكورة لعدم تعلق إحدى الجملتين بالأخرى وهو ظاهر وحيث أمكن أن تكون الواو للعطف أو الابتداء كما في باقي الأقسام السبعة فالواجب إنما هو الوقف. وتحقيق ذلك متوقف على ذكر حجج المخالفين وإبطالها ولنبدأ من ذلك بحجج القائلين بالعود إلى الجميع: الحجة الأولى: أن الجمل المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة ولهذا فإنه لا فرق في اللغة بين قوله: اضرب الجماعة التي منها قتلة وسراق وزناة إلا من تاب وبين قوله: اضرب من قتل وسرق وزنا إلا من تاب فوجب اشتراكهما في عود الاستثناء إلى الجميع وهي غير صحيحة وذلك لأنه إن قيل إنه لا فارق بين الجملة والجملتين في أمر ما لزم أن يكون المتكثر واحدا والواحد متكثراً وهو محال وإن قيل بالفرق فلا بد من جامع موجب للاشتراك في الحكم ومع ذلك فحاصله يرجع إلى القياس في اللغة ولا سبيل إليه لما تقدم. الحجة الثانية: أن الإجماع منعقد على أنه لو قال: والله لا أكلت الطعام ولا دخلت الدار ولا كلمت زيداً واستثنى بقوله: إن شاء الله أنه يعود إلى الجميع وهذه الحجة أيضاً باطلة فإن العلماء وإن أطلقوا لفظ الاستثناء على التعليق على المشيئة فمجاز وليس باستثناء حقيقة بل ذلك شرط كما في قوله: إن دخلت الدار ويدل على كونه شرطاً لا استثناء أنه يجوز دخوله على الواحد مع أن الواحد لا يدخله الاستثناء وذلك كقوله: أنت طالق إن شاء الله ولو قال: أنت طالق طلقة إلا طلقة لم يصح ووقع به طلقة وكذلك إذا قال له: علي درهم إلا درهماً وإذا كان شرطاً فلا يلزم من عوده إلى الجميع عود الاستثناء إلا بطريق القياس ولا بد من جامع مؤثر ومع ذلك يكون قياساً في اللغة وهو باطل بما سبق وبهذا يبطل إلحاقهم الاستثناء بالشرط وهو قولهم الاستثناء غير مستقل بنفسه فكان عائداً إلى الكل كالشرط وهو ما إذا قال أكرم بني تميم وبني ربيعة إن دخلوا الدار ولو صرح بذلك كان صحيحاً ولا كذلك في الاستثناء ولهذا فإنه لو قال: إلا أن يتوبوا اضرب بني تميم وبني ربيعة لا يكون صحيحاً. الحجة الثالثة: أن الحاجة قد تدعو إلى الاستثناء من جميع الجمل وأهل اللغة مطبقون على أن تكرار الاستثناء في كل جملة مستقبح ركيك مستثقل وذلك كما لو قال: إن دخل زيد الدار فاضربه إلا أن يتوب وإن زنا فاضربه إلا أن يتوب فلم يبق سوى تعقب الاستثناء للجملة الأخيرة. ولقائل أن يقول: وإن كان ذلك مطولاً غير أنه يعرف شمول الاستثناء للكل بيقين فلا يكون مستقبحاً وإن كان مستقبحاً فإنما يمتنع أن لو كان وضع اللغة مشروطاً بالمستحسن وهو غير مسلم ودليله أنه لو وقع الاستثناء كذلك فإنه يصح لغة ويثبت حكمه ولولا أنه من وضع اللغة لما كان كذلك. الحجة الرابعة: إن الاستثناء صالح أن يعود إلى كل واحدة من الجمل وليس البعض أولى من البعض فوجب العود إلى الجميع كالعام. ولقائل أن يقول: كونه صالحاً للعود إلى الجميع غير موجب لذلك ولهذا فإن اللفظ إذا كان حقيقة في شيء ومجازاً في شيء فهو صالح للحمل على المجاز ولا يجب حمله على المجاز. وما ذكروه من الإلحاق بالعموم فغير صحيح لما علم مراراً. الحجة الخامسة: أنه لو قال علي خمسة وخمسة إلا ستة فإنه يصح ولو كان مختصاً بالجملة الأخيرة لما صح لكونه مستغرقاً لها.
قلنا: لا نسلم صحة الاستثناء على رأي لنا وإن سلمنا فإنما عاد إلى الجميع لقيام الدليل عليه وذلك لأنه لا بد من إعمال لفظه مع الإمكان وقد تعذر استثناء الستة من الجملة الأخيرة لكونه مستغرقاً لها وهو صالح للعود إلى الجميع فحمل عليه ومع قيام الدليل على ذلك فلا نزاع وإنما النزاع فيما إذا ورد الاستثناء مقارناً للجملة الأخيرة من غير دليل يوجب عوده إلى ما تقدم. الحجة السادسة: أنه لو قال القائل: بنو تميم وربيعة أكرموهم إلا الطوال فإن الاستثناء يعود إلى الجميع فكذلك إذا تقدم الأمر بالإكرام ضرورة اتحاد المعنى. ولقائل أن يقول: حاصل ما ذكروه يرجع إلى القياس في اللغة وهو باطل لما علم كيف والفرق ظاهر لأنه إذا تأخر الأمر عن الجمل فقد اقترن باسم الجميع وهو قوله أكرموهم بخلاف الأمر المتقدم فإنه لم يتصل باسم الفريقين بل باسم الفريق الأول. الحجة السابعة: أنه إذا قال القائل: اضربوا بني تميم وبني ربيعة إلا من دخل الدار فمعناه من دخل من الفريقين ولقائل أن يقول ليس تقدير هذا المعنى أولى من تقدير إلا من دخل من ربيعة. وأما حجج القائلين بعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فمن جهة النص والمعقول. أما النص فقوله تعالى: "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا" "النور 4" فإنه راجع إلى قوله وأولئك هم الفاسقون ولم يرجع إلى الجلد بالاتفاق وأيضاً قوله تعالى: "فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله" "النساء 92" وقوله "إلا أن يصدقوا" "النساء 92" راجع إلى الدية دون الإعتاق بالاتفاق. قلنا: أما الآية الأولى فلا نسلم اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة منها بل هو عائد إلى جميع الجمل عدا الجلد لدليل دل عليه وهو المحافظة على حق الآدمي. أما الآية الأخرى فإنما امتنع عود الاستثناء إلى الإعتاق لأنه حق الله تعالى وتصدق الولي لا يكون مسقطاً لحق الله تعالى: وأما من جهة المعقول فحجج: الحجة الأولى أن الاستثناء من الجملة إذا تعقبه استثناء كان الاستثناء الثاني عائداً إلى الجملة الاستثنائية لا إلى الجملة الأولى فدل على اختصاص الاستثناء بالجملة المقارنة دون المتقدمة وإلا كان عدم عوده إلى المتقدمة على خلاف الأصل وذلك كما لو قال له علي عشرة إلا أربعة إلا اثنين فإن الاستثناء الثاني يختص بالأربعة دون العشرة. ولقائل أن يقول: الاستثناء الثاني إما أن يكون بحرف عطف أو لا بحرف عطف فإن كان الأول فهو راجع إلى الجملة المستثني منها كقوله: له علي عشرة إلا ثلاثة وإلا اثنين فيكون المقر به خمسة وإن كان الثاني كقوله: له علي عشرة إلا أربعة إلا اثنين فإنما امتنع عوده إلى الجملة المستثني منها لدليل لا لعدم اقتضائه لذلك لغة وذلك أن الاستثناء الثاني لو عاد إلى الجملة المستثني منها فإما أن يعود إليها لا غير أو إليها وإلى الاستثناء: الأول ممتنع لأن الإجماع منعقد على دخول الاستثناء الأول تحت الاستثناء الثاني فقطعه عنه ورده إلى الجملة المستثنى منها لا غير يكون على خلاف الإجماع وإن كان عائداً إلى الاستثناء والمستثنى منه فالمستثنى منه إثبات فالاستثناء منه يكون نفياً لأن الاستثناء من الإثبات نفي والاستثناء من الاستثناء يكون إثباتاً لأن الاستثناء من النفي إثبات على ما يأتي تقريره عن قريب وذلك ممتنع لوجهين: الوجه الأول: أنه يلزم منه أن يكون قد أثبت لعوده إلى أحدهما مثل ما نفاه عن الآخر ويكون جابراً للنفي بالإثبات ويبقى ما كان متحققاً قبل الاستثناء الثاني بحاله وفيه إلغاء الاستثناء الثاني وخروجه عن التأثير وهو خلاف الإجماع. الوجه الثاني: أنه يلزم منه أن يكون بعوده إلى الجملة الأولى قد نفي عنها مثل ما أثبته لها بعوده إلى الاستثناء الثاني فيكون الاستثناء الواحد مقتضياً لنفي شيء وإثباته بالنسبة إلى شيء واحد وهو محال. الحجة الثانية: أن الجملة الأخيرة حائلة بين الاستثناء والجملة الأولى فكان ذلك مانعاً من العود إليها كالسكوت. ولقائل أن يقول: إنما يصح ذلك أن لو لم يكون الكلام كله بمنزلة جملة واحدة وأما إذا كان كالجملة الواحدة فلا.
الحجة الثالثة: أنه استثناء تعقب جملتين فلا يكون بظاهره عائداً إليهما كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً وثلاثاً إلا أربعة فأنه لا يعود إلى الجميع وإلا لوقع به طلقتان لا ثلاث طلقات. قلنا: لا نسلم امتناع عوده إلى الجميع بل هو عائد إلى الجميع والواقع طلقتان على رأي لنا وإن سلمنا امتناع عوده إلى الجميع فلأن المعتبر من قوله ثلاثاً وثلاثاً إنما هو الجملة الأولى دون الثانية فلو عاد الاستثناء إليها لكان مستغرقاً وهو باطل. الحجة الرابعة: أن دخول الجملة الأولى تحت لفظه معلوم ودخولها تحت الاستثناء مشكوك فيه والشك لا يرفع اليقين. قلنا: لا نسلم تيقن دخوله مع اتصال الاستثناء بالكلام ثم وإن كان ذلك مما يمنع من عود الاستثناء إلى الجمل المتقدمة فهو مانع من اختصاصه بالجملة الأخيرة لجواز عوده بالدليل إلى الجملة المتقدمة دون المتأخرة ثم يلزم منه أن لا يعود الشرط والصفة على باقي الجمل لما ذكروه وهو عائد عند أكثر القائلين باختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة. الحجة الخامسة: أنه لما كان الاستثناء مما تدعو الحاجة إليه ولا يستقل بنفسه دعت الحاجة إلى عوده إلى غيره وهذه الحاجة والضرورة مندفعة بعوده إلى ما يليه فلا حاجة إلى عوده إلى غيره إذ هو خارج عن محل الحاجة وإنما وجب اختصاصه بما يليه دون غيره لوجهين. الأول: أنه إذا ثبت اختصاصه بجملة واحدة وجب عوده إلى ما يليه لامتناع عوده إلى غيره بالإجماع. الثاني: أنه قريب منه والقرب مرجح ولهذا وجب عود الضمير في قولهم: جاء زيد وعمرو أبوه منطلق إلى عمرو لكونه أقرب مذكور فكان ما يلي الفعل من الاسمين اللذين لا يظهر فيهما الإعراب بالفاعلية أولى كقولهم: ضربت سلمى سعدى وهذه الحجة أيضاً مدخولة إذ لقائل أن يقول ما ذكرتموه إنما يصح أن لو لم تكن الحاجة ماسة إلى عود الاستثناء إلى كل ما تقدم وذلك غير مسلم وإذا كانت الحاجة ماسة إلى عوده إلى كل ما تقدم فلا تكون الحاجة مندفعة بعوده إلى ما يليه فقط. ثم ما ذكرتموه منتقض بالشرط والصفة وإن سلمنا أنه لا ضرورة ولكن لم قلتم بامتناع عوده إلى ما تقدم وإن لم تكن ثم ضرورة ولهذا فإنه لو قام دليل على إرادة عوده إلى الجميع فإنه يكون عائداً إليه إجماعاً وإنما الخلاف في كونه حقيقة في الكلام أم لا. الحجة السادسة: ذكرها القلانسي وهي أن قال: نصب ما بعد الاستثناء في الإثبات إنما كان بالفعل المتقدم بإعانة إلا على ما هو مذهب أكابر البصريين فلو قيل إن الاستثناء يرجع إلى جميع الجمل لكان ما بعد إلا منتصباً بالأفعال المقدرة في كل جملة ويلزم منه اجتماع عاملين على معمول واحد وذلك لا يجوز لأنه بتقدير مضادة أحد العاملين في عمله للعامل الآخر يلزم منه أن يكون المعمول الواحد مرفوعاً منصوباً معاً وذلك كما لو قلت: ما زيد بذاهب ولا قام عمرو وهو محال ولأنه إما أن يكون كل واحد مستقلاً بالأعمال أولاً كل واحد منهما مستقل أو المستقل البعض دون البعض فإن كان الأول لزم من ذلك عدم استقلال كل واحد ضرورة أنه لا معنى لكون كل واحد مستقلاً إلا أن الحكم ثبت به دون غيره وإن كان الثاني فهو خلاف الفرض وإن كان الثالث فليس البعض أولى من البعض. ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه إذا قال: قام القوم إلا زيداً أن زيداً منصوب بقام وإن سلمنا أنه منصوب بقام لكن بالفعل المحقق أو المقدر في كل جملة الأول مسلم والثاني ممنوع والفعل المحقق غير زائد على واحد وأم حجج القائلين بالاشتراك فثلاث: الحجة الأولى: أنه يحسن الاستفهام من المتكلم عن إرادة عود الاستثناء إلى ما يليه أو إلى الكل ولو كان حقيقة في أحد هذه المحامل دون غيره لما حسن ذلك وذلك يدل على الاشتراك وهذه الحجة مدخولة لجواز أن يكون الاستفهام لعدم المعرفة بالمدلول الحقيقي والمجازي أصلاً كما تقوله الواقفية أو لأنه حقيقة في البعض مجاز في البعض والاستفهام للحصول على اليقين ودفع الاحتمال البعيد كما بيناه فيما تقدم. الحجة الثانية: أنه يصح إطلاق الاستثناء وإرادة عوده إلى ما يليه وإلى الجمل كلها وإلى بعض الجمل المتقدمة دون البعض بإجماع أهل اللغة والأصل في الإطلاق الحقيقة والمعاني مختلفة فكان مشتركاً.
ولقائل أن يقول: متى يكون الأصل في الإطلاق الحقيقة إذا أفضى إلى الاشتراك المخل بمقصود أهل الوضع من وضعهم أو إذا لم يفض؟ الأول ممنوع والثاني مسلم ثم وإن كان ذلك هو الأصل مطلقاً غير أنه أمر ظني ولم قلتم بإمكان التمسك به فيما نحن فيه على ما هو معلوم من قاعدة الواقفية. الحجة الثالثة: أن الاستثناء فضلة لا تستقل بنفسها فكان احتمال عوده إلى ما يليه وإلى جميع الجمل مساوياً كالحال وظرف الزمان والمكان في قوله: ضربت زيداً وعمراً قائماً في الدار يوم الجمعة. ولقائل أن يقول: لا نسلم صحة ما ذكره في الحال والظرف بل هو عائد إلى الكل أو ما يليه على اختلاف المذهبين وإن سلم ذلك غير أنه آئل إلى القياس في اللغة وهو باطل كما سبق. المسألة الخامسة مذهب أصحابنا أن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات خلافاً لأبي حنيفة. ودليلنا في ذلك أن القائل إذا قال: لا إله إلا الله كان موحداً مثبتاً للألوهية لله سبحانه وتعالى ونافياً لها عما سواه ولو كان نافياً للألوهية عما سوى الرب تعالى غير مثبت لها بالنسبة إلى الرب تعالى لما كان ذلك توحيداً لله تعالى لعدم إشعار لفظه بإثبات الألوهية لله تعالى وذلك خلاف الإجماع. وأيضاً فإنه إذا قال القائل: لا عالم في البلد إلا زيد كان ذلك من أدل الألفاظ على علم زيد وفضيلته وكان ذلك متبادراً إلى فهم كل سامع لغوي ولو كان نافياً للعلم عما سوى زيد غير مثبت للعلم لزيد لما كان كذلك وعلى هذا النحو في كل ما هو من هذا القبيل. فإن قيل: لو كان الاستثناء من النفي إثباتاً لكان قوله ﷺ "لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بولي ولا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء" مقتضياً تحقق الصلاة عند وجود الطهور والنكاح عند وجود الولي والبيع عند المساواة ولما لم يكن كذلك علم أن المراد بالاستثناء إخراج المستثنى عن دخوله في المستثنى منه وأنه غير متعرض لنفيه ولا إثباته. قلنا: الطهور والولي والمساواة لا يصدق عليه اسم ما استثني منه فكان استثناء من غير الجنس وهو باطل بما تقدم وإنما سبق ذلك لبيان اشتراط الطهور في الصلاة والولي في النكاح والمساواة في صحة بيع البر بالبر والشرط وإن لزم من فواته فوات المشروط فلا يلزم من وجوده وجود المشروط لجواز انتفاء المقتضي أو فوات شرط آخر أو وجود مانع والله أعلم. النوع الثاني التخصيص بالشرط والنظر في حده وأقسامه وصيغ الشرط اللغوي وأحكامه أما حده قال الغزالي: هو ما لا يوجد المشروط دونه ولا يلزم أن يوجد عند وجوده وهو فاسد من وجهين: الأول أن فيه تعريف الشرط بالمشروط والمشروط مشتق من الشرط فكان أخفى من الشرط وتعريف الشيء بما هو أخفى منه ممتنع. الثاني: أنه يلزم عليه جزء السبب إذا اتحد فإنه لا يوجد الحكم دونه ولا يلزم من وجود الحكم عند وجوده وليس بشرط. وقال بعض أصحابنا: الشرط هو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر في تأثيره لا في ذاته وهو فاسد أيضاً فإن الحياة القديمة شرط في وجود علم الباري تعالى وكونه عالماً ولا تأثير ولا مؤثر. والحق في ذلك أن يقال: الشرط هو ما يلزم من نفيه نفي أمر ما على وجه لا يكون سبباً لوجوده ولا داخلاً في السبب. ويدخل في هذا الحد شرط الحكم وهو ظاهر وشرط السبب من حيث إنه يلزم من نفي شرط السبب انتفاء السبب وليس هو سبب السبب ولا جزؤه وفيه احتراز عن انتفاء الحكم لانتفاء مداركه وعن انتفاء المدرك المعين وجزئه وهو منقسم إلى شرط عقلي كالحياة للعلم والإرادة وإلى شرعي كالطهارة للصلاة والإحصان للرجم وإلى لغوي وصيغه كثيرة وهي: إن الخفيفة وإذا ومن ومهما وحيثما وأينما وإذ ما. وأم هذه الصيغ إن الشرطية لأنها حرف وما عداها من أدوات الشرط أسماء والأصل في إفادة المعاني للأسماء إنما هو الحروف ولأنها تستعمل في جميع صور الشرط بخلاف أخواتها فإن كل واحدة منها تختص بمعنى لا تجري في غيره: فمن لمن يعقل وما لما لا يعقل وإذا لما لا بد من وقوعه كقولك: إذا احمر البسر فأتنا ونحو ذلك. وأما أحكامه فمنها أنه يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه وذلك ضربان: الأول: أن يخرج منه ما علمنا خروجه بدليل آخر كقوله: أكرم بني تميم إن دخلوا الدار فإنه يخرج من الكلام حالة عدم الاستطاعة وإن كان ذلك معلوما دون قوله فيكون قوله مؤكداً. الثاني: أنه يخرج منه ما لا يعلم خروجه دونه كقوله: أكرم بني تميم إن دخلوا الدار فإنه يخرج منه حالة عدم دخول الدار ولولا الشرط لعم الإكرام جميع الأحوال ولم يكن العلم بعدم الإكرام حالة عدم دخول الدار حاصلاً لنا فكان مخصصاً للعموم. وعلى كل تقدير لا يخلو إما أن يتحد الشرط والمشروط أو يتعدد المشروط أو بالعكس أو يتعددان معاً فإن اتحد الشرط والمشروط فمثاله ما سبق. وأما إن اتحد الشرط وتعدد المشروط فإما أن تكون المشروطات على الجمع أو على البدل: فإن كانت على الجمع كقوله: إن دخل زيد الدار فأعطه ديناراً ودرهماً وإن كانت على البدل كقوله إن دخل زيد الدار فأعطه ديناراً أو درهماً فالحكم كما لو اتحد المشروط. وأما إن تعدد الشرط واتحد المشروط فإما أن تكون الشروط على الجمع أو البدل: فإن كان الأول فكقوله: أكرم بني تميم أبداً إن دخلوا الدار والسوق فمقتضى ذلك توقف الإكرام على اجتماع الشرطين واختلاله باختلال أحدهما وإن كان على البدل كقوله: أكرم بني تميم إن دخلوا السوق أو الدار فمقتضى ذلك توقف الإكرام على تحقق أحد الشرطين واختلاله عند اختلالهما جميعاً. وأما إن تعدد الشرط والمشروط فإما أن يكون الشرط والمشروط على الجمع أو البدل أو الشرط على الجمع والمشروطات على البدل أو بالعكس: فإن كان القسم الأول كقوله: إن دخل زيد الدار والسوق فأعطه درهماً وديناراً فالإعطاء متوقف على اجتماع الشرطين ومختل باختلالهما أو باختلال أحدهما وإن كان القسم الثاني فكقوله: إن دخل زيد الدار أو السوق فأعطه درهماً أو ديناراً فإعطاء أحد الأمرين متوقف على تحقق أحد الشرطين واختلاله باختلال مجموع الأمرين. وإن كان القسم الثالث كقوله: إن دخل زيد الدار والسوق فأعطه درهماً أو ديناراً فإعطاء أحد الأمرين متوقف على اجتماع الشرطين واختلاله باختلال أحدهما. وإن كان الرابع كقوله: إن دخل زيد الدار أو السوق فأعطه درهماً وديناراً فإعطاء الأمرين متوقف على أحد الشرطين ومختل باختلالهما معاً وسواء كان حصول الشرط دفعة أو لا دفعة بل شيئاً فشيئاً. ومن أحكامه أنه لا بد من اتصاله بالمشروط لما تقدم في الاستثناء وأنه يجوز تقديمه على المشروط وتأخيره وإن كان الوضع الطبيعي له إنما هو صدر الكلام والتقدم على المشروط لفظاً لكونه متقدماً عليه في الوجود طبعاً ولو تعقب الشرط للجمل المتعاقبة فقد اتفق الشافعي وأبو حنيفة على عوده إلى جميعها خلافاً لبعض النحاة في اعتقاده اختصاصه بالجملة التي تليه كانت متقدمة أو متأخرة والكلام في الطرفين فعلى ما سبق في الاستثناء والمختار كالمختار ولا يخفى وجهه. النوع الثالث تخصيص العام بالصفة وهي لا تخلو إما أن تكون مذكورة عقب جملة واحدة أو جمل: فإن كان الأول كقوله أكرم بني تميم الطوال فإنه يقتضي اختصاص الإكرام بالطوال منهم ولولا ذلك لعم الطوال والقصار فكانت الصفة مخرجة لبعض ما كان داخلاً تحت اللفظ لولا الصفة. وإن كان الثاني كقوله أكرم بني تميم وبني ربيعة الطوال فالكلام في عود الصفة إلى ما يليها أو إلى الجميع كالكلام في الاستثناء. النوع الرابع التخصيص بالغاية وصيغها إلى وحتى ولا بد وأن يكون حكم ما بعدها مخالفاً لما قبلها وإلا كانت الغاية وسطاً وخرجت عن كونها غاية ولزم من ذلك إلغاء دلالة إلى وحتى وهي لا تخلو أيضاً إما أن تكون مذكورة عقب جملة واحدة أو جمل متعددة فإن كان الأول فإما أن تكون الغاية واحدة أو متعددة. فإن كانت واحدة كقوله: أكرم بني تميم أبداً إلى أن يدخلوا الدار فإن دخول الدار يقتضي اختصاص الإكرام بما قبل الدخول وإخراج ما بعد الدخول عن عموم اللفظ ولولا ذلك لعم الإكرام حالة ما بعد الدخول.
وإن كانت متعددة فلا يخلو إما أن تكون على الجمع أو على البدل: فالأول كقوله أكرم بني تميم أبداً إلى أن يدخلوا الدار ويأكلوا الطعام فمقتضى ذلك استمرار الإكرام إلى تمام الغايتين دون ما بعدهما والثاني كقوله أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا الدار أو السوق فمقتضى ذلك استمرار الإكرام إلى انتهاء إحدى الغايتين أيهما كانت دون ما بعدها. وأما إن كانت الغاية مذكورة عقب جمل متعددة فالكلام في اختصاصها بما يليها وفي عودها إلى جميع الجمل كالكلام في الاستثناء وسواء كانت الغاية واحدة أو متعددة على الجمع أو البدل ولا تخفى أمثلتها ووجه الكلام فيها وسواء كانت الغاية معلومة الوقوع في وقتها كقوله إلى أن تطلع الشمس أو غير معلومة الوقت كقوله إلى دخول الدار. القسم الثاني في التخصيص بالأدلة المنفصلة وفيه أربع عشرة مسألة. المسألة الأولى مذهب الجمهور من العلماء جواز تخصيص العموم بالدليل العقلي خلافاً لطائفة شاذة من المتكلمين. ودليل ذلك أن قوله تعالى: "الله خالق كل شيء" "الزمر 62" وقوله: "وهو على كل شيء قدير" "هود 4" متناول بعموم لفظه لغة كل شيء مع أن ذاته وصفاته أشياء حقيقة وليس خالقاً لها ولا هي مقدورة له لاستحالة خلق القديم الواجب لذاته واستحالة كونه مقدوراً بضرورة العقل فقد خرجت ذاته وصفاته بدلالة ضرورة العقل عن عموم اللفظ وذلك مما لا خلاف فيه بين العقلاء ولا نعني بالتخصيص سوى ذلك فمن خالف في كون دليل العقل مخصصاً مع ذلك فهو موافق على معنى التخصيص ومخالف في التسمية وكذلك قوله تعالى: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا" "آل عمران 97" فإن الصبي والمجنون من الناس حقيقة وهما غير مزادين من العموم بدلالة نظر العقل على امتناع تكليف من لا يفهم ولا معنى للتخصيص سوى ذلك. فإن قيل نحن لا ننكر أن ذات الباري تعالى وصفاته وأن الصبي والمجنون مما لم يرد باللفظ وإنما ننكر كون دليل العقل مخصصاً لثلاثة أوجه. الأول: أن التخصيص إخراج بعض ما تناوله اللفظ عنه وهو غير متصور فيما ذكرتموه وبيانه أن دلالات الألفاظ على المعاني ليست لذواتها وإلا كانت دالة عليها قبل المواضعة وإنما دلالتها تابعة لمقصد المتكلم وإرادته ونحن نعلم بالضرورة أن المتكلم لا يريد بلفظه الدلالة على ما هو مخالف لصريح العقل فلا يكون لفظه دالاً عليه لغة ومع عدم الدلالة اللغوية على الصورة المخرجة لا يكون تخصيصاً. الثاني: أن التخصيص بيان والمخصص مبين والبيان إنما يكون بعد سابقة الإشكال فيجب أن يكون البيان متأخراً عن المبين ودليل العقل سابق فلا يكون مبيناً ولا مخصصاً كالاستثناء المقدم. الثالث: أن التخصيص بيان فلا يجوز بالعقل كالنسخ ثم وإن سلمنا دلالة اللفظ لغة على ما ذكرتموه وجواز كون المخصص متقدماً ولكن ما المانع أن تكون صحة الاحتجاج بالدليل العقلي مشروطة بعدم معارضة عموم الكتاب له وبتقدير الاشتراط بذلك لا يكون حجة في التمسك به على الكتاب وإن سلمنا صحة التخصيص في الآيتين المذكورتين أولاً ولكن لا نسلم صحة تخصيص الصبي والمجنون عن عموم آية الحج فإن ما ذكرتموه مبني على امتناع خطابهما وكيف يمكن دعوى ذلك مع دخولهما تحت الخطاب بأروش الجنايات وقيم المتلفات وإجماع الفقهاء على صحة صلاة الصبي واختلافهم في صحة إسلامه ولولا إمكان دخوله تحت الخطاب لما كان كذلك. والجواب عن الأول: قولهم إن دلالات الألفاظ ليست لذواتها مسلم وأنه لا بد في دلالتها من قصد الواضع لها دالة على المعنى. قولهم: العاقل لا يقصد بلفظة الدلالة على ما هو ممتنع بصريح العقل قلنا: ذلك ممتنع بالنظر إلى ما وضع اللفظ عليه لغة أو بالنظر إلى إرادته من اللفظ؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وعند ذلك فلا منافاة بين كون اللفظ دالاً على المعنى لغة وبين كونه غير مراد من اللفظ.
قولهم إن حق المخصص أن يكون متأخراً عما خصصه قلنا: يجب أن يكون متأخراً بالنظر إلى ذاته أو بالنظر إلى صفته وهو كونه مبيناً ومخصصاً الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأن دليل العقل وإن كان متقدماً في ذاته على الخطاب المفروض غير أنه لا يوصف قبل ذلك بكونه مخصصاً لما يوجد وإنما يصير مخصصاً ومبيناً بعد وجود الخطاب وأما الاستثناء فإنما لم يجز تقديمه لأن المتكلم به لا يعد متكلماً بكلام أهل اللغة كما إذا قال إلا زيداً ثم قال بعد ذلك قام القوم وهذا بخلاف التخصيص فإنه إذا قال: "الله خالق كل شيء" وقام الدليل العقلي على أنه لم يرد بكلامه ذات الباري تعالى فإنه لا يخرج بذلك الكلام عن كونه متكلماً بكلام العرب. وأما امتناع النسخ بالعقل فإنما كان من جهة أن الناسخ معرف لبيان مدة الحكم المقصودة في نظر الشارع وذلك ما لا سبيل إلى الاطلاع عليه بمجرد العقل بخلاف معرفة استحالة كون ذات الرب تعالى مخلوقة مقدورة. قولهم: ما المانع أن يكون التمسك بدليل العقل مشروطاً بعدم معارضة الكتاب له قلنا: إذا وقع التعارض بينهما وأحدهما مقتض للإثبات والآخر للنفي فلا سبيل إلى الجمع بين موجبيهما لما فيه من التناقض ولا إلى نفيهما لما فيه من وجود واسطة بين النفي والإثبات فلم يبق إلا العمل بأحدهما والعمل بعموم اللفظ مما يبطل دلالة صريح العقل بالكلية وهو محال والعمل بدليل العقل لا يبطل عموم الكتاب بالكلية بل غايته إخراج بعض ما تناوله اللفظ من جهة اللغة عن كونه مراداً للمتكلم وهو غير ممتنع فكان العمل بدليل العقل متعيناً. قولهم: إن الصبي والمجنون داخلان تحت الخطاب بأروش الجنايات وقيم المتلفات ليس كذلك فإنا إن نظرنا إلى تعلق الحق بمالهما فهو ثابت بخطاب الوضع والأخبار وهو غير متعلق بالصبي والمجنون وإن نظرنا إلى وجوب الأداء الثابت بخطاب التكليف فهو متعلق بفعل وليهما لا بفعلهما. وأما صحة صلاة الصبي واختلاف الناس في صحة إسلامه فلا يدل ذلك على كونه داخلاً تحت خطاب التكليف بالصلاة والإسلام. أما صحة الصلاة فمعناها انعقادها سبباً لثوابه وسقوط الخطاب عنه بها إذا صلى في أول الوقت وبلغ في آخره لا بمعنى أنه امتثل أمر الشارع حتى يكون داخلاً تحت خطاب التكليف من الشارع بل إن كان ولا بد فهو داخل تحت خطاب الولي لفهمه بخطابه دون خطاب الشرع وعلى هذا يكون الجواب عن صحة إسلامه عند من يقول بذلك وبتقدير امتناع تخصيص الصبي بدليل العقل مع تسليم جواز التخصيص به في الجملة كما تقدم بيانه فغير مضر ولا قادح فإنه ليس المقصود تحقيق ذلك في آحاد الصور. وكما أن دليل العقل قد يكون مخصصاً للعموم فكذلك دليل الحس وذلك كما في قوله تعالى: "تدمر كل شيء" "الأحقاف 25" مع خروج السماوات والأرض عن ذلك حساً وكذلك قوله تعالى: "ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم" "الذاريات 42" وقد أتت على الأرض والجبال ولم تجعلها رميماً بدلالة الحس فكان الحس هو الدال على أن ما خرج عن عموم اللفظ لم يكن مراداً للمتكلم فكان مخصصاً. المسألة الثانية اتفق العلماء على جواز تخصيص الكتاب بالكتاب خلافاً لبعض الطوائف ودليله المنقول والمعقول. وأما المنقول فهو أن قوله: "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" "الطلاق 4" ورد مخصصاً لقوله تعالى: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً" "البقرة 234" وقوله تعالى: "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم" "المائدة 5" ورد مخصصاً لقوله تعالى: "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن" "البقرة 221" والوقوع دليل الجواز. وأما المعقول فهو أنه إذا اجتمع نصان من الكتاب أحدهما عام والآخر خاص وتعذر الجمع بين حكميهما فإما أن يعمل بالعام أو الخاص: فإن عمل بالعام لزم منه إبطال الدليل الخاص مطلقاً ولو عمل بالخاص لا يلزم منه إبطال العام مطلقاً لإمكان العمل به فيما خرج عنه كما سبق فكان العمل بالخاص أولى ولأن الخاص أقوى في دلالته وأغلب على الظن لبعده عن احتمال التخصيص بخلاف العام فكان أولى بالعمل. وعند ذلك فإما أن يكون الدليل الخاص المعمول به ناسخاً لحكم العام في الصورة الخارجة عنه أو مخصصاً له والتخصيص أولى من النسخ لثلاثة أوجه: الأول: أن النسخ يستدعي ثبوت أصل الحكم في الصورة الخاصة ورفعه بعد ثبوته والتخصيص ليس فيه سوى دلالته على عدم إرادة المتكلم للصور المفروضة بلفظة العام فكان ما يتوقف عليه النسخ أكثر مما يتوقف عليه التخصيص فكان التخصيص أولى. الثاني: أن النسخ رفع بعد الإثبات والتخصيص منع من الإثبات والدفع أسهل من الرفع. الثالث: أن وقوع التخصيص في الشرع أغلب من النسخ فكان الحمل على التخصيص أولى إدراجاً له تحت الأغلب وسواء جهل التاريخ أو علم وسواء كان الخاص متقدماً أو متأخراً. فإن قيل: لو كان الكتاب مبيناً للكتاب لخرج النبي ﷺ عن كونه مبيناً للكتاب وهو خلاف قوله تعالى: "لتبين للناس ما نزل إليهم" "النحل 44" وهو ممتنع. قلنا: إضافة البيان إلى النبي ﷺ ليس فيه ما يمنع من كونه مبيناً للكتاب بالكتاب إذ الكل وارد على لسانه فذكره الآية المخصصة يكون بياناً منه ويجب حمل وصفه بكونه مبيناً على أن البيان وارد على لسانه كان الوارد على لسانه الكتاب أو السنة لما فيه من موافقة عموم قوله تعالى: "ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء" فإن مقتضاه أن يكون الكتاب مبيناً لكل ما هو من الكتاب لكونه شيئاً غير أنا خالفناه في البعض فيجب بالبعض الآخر تقليلاً لمخالفة الدليل العام. فإن قيل: ما ذكرتموه وإن صح فيما إذا كان الخاص متأخراً ولا يصح فيما إذا جهل التاريخ وذلك لأنه يحتمل أن يكون الخاص مقدماً فيكون العام بعده ناسخاً له ويحتمل أن يكون العام متقدماً فيكون الخاص مخصصاً له ولم يترجح أحدهما على الآخر فوجب التعارض والتساقط والرجوع إلى دليل آخر كما ذهب إليه أبو حنيفة والقاضي أبو بكر والإمام أبو المعالي. وإن سلمنا كون الخاص مخصصاً مع الجهل بالتاريخ فلا يصح فيما إذا كان العام متأخراً عن الخاص فإنه يتعين أن يكون ناسخاً لمدلول الخاص لا أن يكون الخاص مخصصاً للعام على ما ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة وبعض المعتزلة وبيانه من أربعة أوجه: الأول: أنه إذا قال: اقتلوا المشركين فهو جار مجرى قوله اقتلوا زيداً المشرك وعمراً المشرك وخالداً وهلم جرا فإذا الخاص كقوله اقتلوا زيداً المشرك إذا ورد العام بعده بنفي القتل عن الجميع فهو ناص على زيد ولو قال اقتلوا زيداً لا تقتلوا زيداً كان نسخاً. الثاني: أن الخاص المتقدم يمكن نسخه والعام الوارد بعده مما يمكن أن يكون ناسخاً فكان ناسخاً. الثالث: هو أن الخاص المتقدم متردد بين كونه منسوخاً ومخصصاً لما بعده وذلك مما يمنع من كونه مخصصاً لأن البيان لا يكون ملتبساً. الرابع: قول ابن عباس كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث والعام المتأخر أحدث فوجب الأخذ به. قلنا: أما الجواب عن التعارض عند الجهل بالتاريخ فيما ذكرناه من الأدلة السابقة على الترجيح. وأما الجواب عن حجج أصحاب أبي حنيفة: أما عن الأول فيمتنع كون العام في تناوله لما تحته من الأشخاص جار مجرى الألفاظ الخاصة إذ الألفاظ الخاصة بكل واحد واحد غير قابلة للتخصيص بخلاف اللفظ العام. وعن الثاني: أنه لا يلزم من إمكان نسخه للخاص الوقوع ولو لزم من الإمكان الوقوع للزم أن يكون الخاص مخصصاً للعام لإمكان كونه مخصصاً له ويلزم من ذلك أن يكون الخاص منسوخاً ومخصصاً لناسخه وهو محال. وعن الثالث: أنهم إن أرادوا بتردد الخاص بين كونه منسوخاً ومخصصاً أن احتمال التخصيص مساو لاحتمال النسخ فهو ممنوع لما تقدم وإن أرادوا بذلك تطرق الاحتمالين إليه في الجملة فذلك لا يمنع من كونه مخصصاً ولو منع ذلك من كونه مخصصاً لمنع تطرق احتمال كون العام مخصصاً بالخاص إليه من كونه ناسخاً. وعن الرابع: أنه قول واحد من الصحابة فيجب حمله على ما إذا كان الأحدث هو الخاص جمعاً بين الأدلة. المسألة الثالثة تخصيص السنة بالسنة جائز عند الأكثرين ودليله المعقول والمنقول أما المعقول فما ذكرناه في تخصيص الكتاب بالكتاب.
وأما المنقول فهو أن قوله ﷺ: "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق" ورد مخصصاً لعموم قوله ﷺ "فيما سقت السماء العشر" فإنه عام في النصاب وما دونه وقوله تعالى: "لتبين للناس ما نزل إليهم" "النحل 44" مما لا يمنع من كونه مبيناً لما ورد على لسانه من السنة بسنة أخرى كما ذكرناه في تخصيص الكتاب بالكتاب. المسألة الرابعة يجوز تخصيص عموم السنة بخصوص القرآن عندنا وعند أكثر الفقهاء والمتكلمين ومنهم من منع من ذلك ودليله العقل والنقل. أما النقل فقوله تعالى: "وأنزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء" "النحل 89" وسنة رسول الله ﷺ من الأشياء فكانت داخلة تحت العموم إلا انه قد خص في البعض فيلزم العمل به في الباقي وأما المعقول فما ذكرناه في تخصيص الكتاب بالكتاب. فإن قيل: الآية معارضة بقوله تعالى: "لتبين للناس ما نزل إليهم" "النحل 44" ووجه الاحتجاج به أنه جعل النبي ﷺ مبيناً للكتاب المنزل وذلك إنما يكون بسنته فلو كان الكتاب مبيناً للسنة لكان المبين بالسنة مبيناً لها وهو ممتنع وأيضاً فإن المبين أصل والبيان تبع له ومقصود من أجله فلو كان القرآن مبينا للسنة لكانت السنة أصلاً والقرآن تبعاً وهو محال. وجواب الآية أنه لا يلزم من وصف النبي ﷺ بكونه مبيناً لما أنزل امتناع كونه مبيناً للسنة بما يرد على لسانه من القرآن إذ السنة أيضاً منزلة على ما قال تعالى: "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" "النجم 3" غير أن الوحي منه ما يتلى فيسمى كتاباً ومنه ما لا يتلى فيسمى سنة وبيان أحد المنزلين بالآخر غير ممتنع. وما ذكروه من المعنى فغير صحيح فإن القرآن لا بد وأن يكون مبيناً لشيء ضرورة قوله تعالى: "تبياناً لكل شيء" "النحل 89" وأي شيء قدر كون القرآن مبيناً له فليس القرآن تبعاً له ولا ذلك الشيء متبوعاً وأيضاً فإن الدليل القطعي قد يبين به مراد الدليل الظني وليس منحطاً عن رتبة الظني. المسألة الخامسة يجوز تخصيص عموم القرآن بالسنة أما إذا كانت السنة متواترة فلم أعرف فيه خلافاً ويدل على جواز ذلك ما مر من الدليل العقلي. وأما إذا كانت السنة من أخبار الآحاد فمذهب الأئمة الأربعة جوازه ومن الناس من منع ذلك مطلقاً ومنهم من فصل وهؤلاء اختلفوا فذهب عيسى بن أبان إلى أنه إن كان قد خص بدليل مقطوع به جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلا فلا وذهب الكرخي إلى أنه إن كان قد خص بدليل منفصل لا متصل جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلا فلا وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف والمختار مذهب الأئمة ودليله العقل والنقل. أما النقل فهو أن الصحابة خصوا قوله تعالى: "وأحل لكم ما وراء ذلكم" "النساء 24" بما رواه أبو هريرة عن النبي ﷺ من قوله: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها" وخصوا قوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم" "النساء 11" الآية بقوله ﷺ: "لا يرث القاتل ولا يرث الكافر من المسلم ولا المسلم من الكافر" وبما رواه أبو بكر من قوله ﷺ: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" وخصوا قوله تعالى: "فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك" "النساء 11" بما روي عن النبي ﷺ أنه جعل للجدة السدس وخصوا قوله تعالى: "وأحل الله البيع" "البقرة 275" بما روي عنه ﷺ أنه نهى عن بيع الدرهم بالدرهمين وخصوا قوله تعالى: "والسارق والسارقة" "المائدة 38" وأخرجوا منه ما دون النصاب بقوله ﷺ: "لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً" وخصوا قوله تعالى: "اقتلوا المشركين" "التوبة 5" بإخراج المجوس منه بما روي عنه عليه السلام أنه قال "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" إلى غير ذلك من الصور المتعددة ولم يوجد لما فعلوه نكير فكان ذلك إجماعاً والوقوع دليل الجواز وزيادة وأما المعقول فما ذكرناه فيما تقدم في تخصيص الكتاب بالكتاب. فإن قيل: ما ذكرتموه من التخصيص في الصور المذكورة لا نسلم أن تخصيصها كان بخبر الواحد ويدل عليه قوله ﷺ "إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فاقبلوه وما خالفه فردوه" والخبر فيما نحن فيه مخالف للكتاب فكان مردوداً.
قولهم إن الصحابة أجمعوا على ذلك إن لم يصح فليس بحجة وإن صح فالتخصيص بإجماعهم عليه لا بخبر الواحد كيف وأنه لا إجماع على ذلك ويدل عليه ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كذب فاطمة بنت قيس فيما روته عن النبي ﷺ أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان ذلك مخصصاً لعموم قوله تعالى: "أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم" "الطلاق 6" وقال: كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة. وإن سلمنا الإجماع على أن التخصيص كان بخبر الواحد لكن ليس في ذلك ما يدل على أن قول الواحد بمجرده مخصص بل ربما قامت الحجة عندهم على صدقه وصحة قوله بقرائن وأدلة اقترنت بقوله فلا يكون مجرد إخباره حجة. وأما ما ذكرتموه من المعقول فنقول: خبر الواحد وإن كان نصاً في مدلوله نظراً إلى متنه غير أن سنده مظنون محتمل للكذب بخلاف القرآن المتواتر فإنه قطعي السند وقطعي في دلالته على كل واحد من الآحاد الداخلة فيه لما بيناه في المسألة المتقدمة ولا يكون خبر الواحد واقعاً في معارضته كما في النسخ. وإن سلمنا أن العموم ظني الدلالة بالنسبة إلى آحاده لكن متى إذا خص بدليل مقطوع على ما قاله عيسى بن إبان أو بدليل منفصل على ما قاله الكرخي أو قبل التخصيص الأول مسلم لكونه صار مجازاً ظنياً والثاني ممنوع لبقائه على حقيقته وعند ذلك فيمتنع التخصيص بخبر الواحد مطلقاً لترجيح العام عليه قبل التخصيص بكونه قاطعاً في متنه وسنده. وإن سلمنا أن دلالة العام بالنظر إلى متنه ظنية مطلقاً غير أنه قطعي السند والخبر وإن كان قاطعاً في متنه فظني في سنده فقد تقابلا وتعارضا ووجب التوقف على دليل خارج لعدم أولوية أحدهما كما قال القاضي أبو بكر. والجواب: قد بينا أن الصحابة أجمعوا على تخصيص العمومات بأخبار الآحاد حيث إنهم أضافوا التخصيص إليها من غير نكير فكان إجماعاً. وما ذكروه من الخبر فإنما يمنع من تخصيص عموم القرآن بالخبر أن لو كان الخبر المخصص مخالفاً للقرآن وهو غير مسلم بل هو مبين للمراد منه فكان مقرراً لا مخالفاً ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يفضي إلى تخصيص ما ذكروه من الخبر بالخبر المتواتر من السنة فإنه مخصص للقرآن من غير خلاف. قولهم إن صح إجماع الصحابة فالتخصيص بإجماعهم لا بالخبر ليس كذلك فإن إجماعهم لم يكن على تخصيص تلك العمومات مطلقاً بل على تخصيصها بأخبار الآحاد ومهما كان التخصيص بأخبار الآحاد مجمعاً عليه فهو المطلوب. وأما ما ذكروه من تكذيب عمر لفاطمة بنت قيس فلم يكن ذلك لأن خبر الواحد في تخصيص العموم مردود عنده بل لتردده في صدقها ولهذا قال: كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ولو كان خبر الواحد في ذلك مردوداً مطلقاً لما احتاج إلى هذا التعليل. قولهم: لم يكن إجماعهم على ذلك لمجرد خبر الواحد قلنا: ونحن لا نقول بأن مجرد خبر الواحد يكون مقبولاً بل إنما يقبل إذا كان مغلباً على الظن صدقه ومع ذلك فالأصل عدم اعتبار ما سواه في القول. قولهم إن سند الخبر ظني مسلم ولكن لا نسلم أن دلالة العموم على الآحاد الداخلة فيه قطعية لاحتماله للتخصيص بالنسبة إلى أي واحد منها قدر وسواء كان قد خص أو لم يكن على ما سبق بيانه. وأما النسخ فلا نسلم امتناعه بخبر الواحد وبتقدير التسليم فلأن النسخ رفع للحكم بعد إثباته بخلاف التخصيص لأنه بيان لا رفع فلا يلزم مع ذلك من امتناع النسخ به امتناع التخصيص. وما ذكروه من السؤال الأخير في جهة التعارض فجوابه أن احتمال الضعف في خبر الواحد من جهة كذبه وفي العام من جهة جواز تخصيصه ولا يخفى أن احتمال الكذب في حق من ظهرت عدالته أبعد من احتمال التخصيص العام ولهذا كانت أكثر العمومات مخصصة وليس أكثر أخبار العدول كاذبة فكان العمل بالخبر أولى ولأنه لو عمل بعموم العام لزم إبطال العمل بالخبر مطلقاً ولو عمل بالخبر لم يلزم منه إبطال العمل بالعام مطلقاً لإمكان العمل به فيما سوى صورة التخصيص والجمع بين الدليلين ولو من وجه أولى من تعطيل أحدهما ولأن العمل بالعام إبطال للخاص والعمل بالخاص بيان للعام لا إبطال له ولا يخفى أن البيان أولى من الإبطال. المسألة السادسة لا أعرف خلافاً في تخصيص القرآن والسنة بالإجماع ودليله المنقول والمعقول: أما المنقول فهو أن إجماع الأمة خصص آية القذف بتنصيف الجلد في حق العبد كالأمة. وأما المعقول فهو أن الإجماع دليل قاطع والعام غير قاطع في آحاد مسمياته كما سبق تعريفه فإذا رأينا أهل الإجماع قاضين بما يخالف العموم في بعض الصور علمنا أنهم ما قضوا به إلا وقد اطلعوا على دليل مخصص له نفيا للخطأ عنهم وعلى هذا فمعنى إطلاقنا أن الإجماع مخصص للنص أنه معرف للدليل المخصص لا أنه في نفسه هو المخصص. وبالنظر إلى هذا المعنى أيضاً نقول: إنا إذا رأينا عمل الصحابة وأهل الإجماع بما يخالف النص الخاص لا يكون ذلك إلا لاطلاعهم على ناسخ للنص فيكون الإجماع معرفاً للناسخ لا أنه ناسخ وإنما قلنا إن الإجماع نفسه لا يكون ناسخاً لأن النسخ لا يكون بغير خطاب الشارع والإجماع ليس خطاباً للشرع وإن كان دليلاً على الخطاب الناسخ. المسألة السابعة لا نعرف خلافاً بين القائلين بالعموم والمفهوم أنه يجوز تخصيص العموم بالمفهوم وسواء كان من قبيل مفهوم الموافقة أو من قبيل مفهوم المخالفة حتى إنه لو قال السيد لعبده كل من دخل داري فاضربه ثم قال: إن دخل زيد داري فلا تقل له: أف فإن ذلك يدل على تحريم ضرب زيد وإخراجه عن العموم نظراً إلى مفهوم الموافقة وما سيق له الكلام من كف الأذى عن زيد وسواء قيل إن تحريم الضرب مستفاد من دلالة اللفظ أو من القياس الجلي على اختلاف المذاهب في ذلك كما يأتي وكذا لو ورد نص عام يدل على وجوب الزكاة في الأنعام كلها ثم ورد قوله ﷺ "في الغنم السائمة زكاة" فإنه يكون مخصصاً للعموم بإخراج معلوفة الغنم عن وجوب الزكاة بمفهومه وإنما كان كذلك لأن كل واحد من المفهومين دليل شرعي وهو خاص في مورده فوجب أن يكون مخصصاً للعموم لترجح دلالة الخاص على دلالة العام كما سبق تقريره. فإن قيل: المفهوم وإن كان خاصاً وأقوى في الدلالة من العموم إلا أن العام منطوق به والمنطوق أقوى في دلالته من المفهوم لافتقار المفهوم في دلالته إلى المنطوق وعدم افتقار المنطوق في دلالته إلى المفهوم. قلنا: إلا أن العمل بالمفهوم لا يلزم منه إبطال العمل بالعموم مطلقاً ولا كذلك بالعكس ولا يخفى أن الجمع بين الدليلين ولو من وجه أولى من العمل بظاهر أحدهما وإبطال أصل الآخر. المسألة الثامنة في تخصيص العموم بفعل الرسول ﷺ وقد اختلف القائلون بكون فعل الرسول حجة على غيره هل يجوز تخصيصه للعموم أم لا؟ فأثبته الأكثرون كالشافعية والحنفية والحنابلة ونفاه الأقلون كالكرخي. وتحقيق الحق من ذلك يتوقف على التفصيل وهو أن نقول: العام الوارد إما أن يكون عاماً للأمة والرسول كما لو قال ﷺ "الوصال أو استقبال القبلة في قضاء الحاجة أو كشف الفخذ حرام على كل مسلم" وإما أن يكون عاماً للأمة دون الرسول كما لو قال ﷺ: "نهيتكم عن الوصال أو استقبال القبلة في قضاء الحاجة أو كشف الفخذ" فإن كان الأول فإذا رأيناه قد واصل أو استقبل القبلة في قضاء الحاجة أو كشف فخذه فلا خلاف في أن فعله يدل على إباحة ذلك الفعل في حقه ويكون مخرجاً له عن العموم ومخصصاً. وأما بالنسبة إلى غيره فإما أن نقول بأن اتباعه في فعله والتأسي به واجب على كل من سواه أو لا نقول ذلك. فإن قيل بالأول فيلزم منه رفع حكم العموم مطلقاً في حقه بفعله وفي حق غيره بوجوب التأسي به فلا يكون ذلك تخصيصاً بل نسخا لحكم العموم مطلقاً بالنسبة إليه وإلى غيره وإن قيل بالثاني كان ذلك تخصيصاً له عن العموم دون أمته.
وأما إن كان عاماً للأمة دون الرسول ففعله لا يكون مخصصاً لنفسه عن العموم لعدم دخوله فيه وأما بالنسبة إلى الأمة فإن قيل أيضاً بوجوب اتباع الأمة له في فعله كان ذلك أيضاً نسخاً عنهم لا تخصيصا كما سبق وإن لم يكن ذلك واجباً عليهم فلا يكون فعله مخصصاً للعموم أصلا لا بالنسبة إليه لعدم دخوله في العموم ولا بالنسبة إلى الأمة وعلى هذا التفصيل فلا أرى للخلاف على هذا التخصيص بفعل النبي وجهاً: أما إذا كان هو المخصص عن العموم وحده فلعدم الخلاف فيه وأما في باقي الأقسام فلعدم تحقق التخصيص بل إن وقع الخلاف في باقي الأقسام هل فعله يكون ناسخاً لحكم العموم فيها فخارج عن الخوض في باب التخصيص والأظهر في ذلك إنما هو الوقف من جهة أن دليل وجوب التأسي واتباع النبي ﷺ إنما هو بدليل عام للأمة وهو مساو للعموم الآخر في عمومه وليس العمل بأحدهما وإبطال الآخر أولى من العكس. فإن قيل: بل العمل بالفعل أولى لأنه خاص والخاص مقدم على العام قلنا: الفعل لم يكن دليلاً على لزوم الحكم في حق باقي الأمة بنفسه بل لأدلة عامة موجبة على الأمة لزوم الاتباع. فإن قيل: إلا أن الفعل الخاص مع العمومات الموجبة للتأسي أخص من اللفظ العام مطلقاً ولأنه متأخر عن العام والمتأخر أولى بالعمل. قلنا: أما الفعل فلا نسلم أن له دلالة على وجوب تأسي الأمة بالنبي بوجه من الوجوه بل الموجب شيء آخر وهو مساو للعام الآخر في عمومه وسواء كان الفعل خاصاً أو عاماً وذلك الموجب للتأسي غير متأخر عن العام بل محتمل للتقدم والتأخر من غير ترجيح حتى إنه لو علم التاريخ وجب العمل بالمتأخر منهما كيف وإن القول بوجوب التأسي متوقف على وجود الفعل وعلى الدليل الدال على التأسي ولا كذلك العام الآخر وما يتوقف العمل به على أمرين يكون أبعد مما لا يتوقف العمل به إلا على شيء واحد. المسألة التاسعة تقرير النبي ﷺ لما يفعله الواحد من أمته بين يديه مخالفاً للعموم وعدم إنكاره عليه مع علمه به وعدم الغفلة والذهول عنه مخصص لذلك العام عند الأكثرين خلافاً لطائفة شاذة. ودليل ذلك أن تقريره له عليه دليل على جواز ذلك الفعل له وإلا كان فعله منكراً ولو كان كذلك لاستحال من النبي ﷺ السكوت عنه وعدم النكير عليه وإذا كان التقرير دليل الجواز وإن أمكن نسخ ذلك الحكم مطلقاً أو نسخه عن ذلك الواحد بعينه لكنه بعيد واحتمال تخصيصه من العموم أولى وأقرب لما قررناه فيما تقدم وعند ذلك فإن أمكن تعقل معنى أوجب جواز مخالفة ذلك الواحد للعموم فكل من كان مشاركاً له في ذلك المعنى فهو مشارك له في تخصيصه عن ذلك العام بالقياس عليه عند من يرى جواز تخصيص العام بالقياس على محل التخصيص وأما إن لم يظهر المعنى الجامع فلا. فإن قيل: التقرير لا صيغة له فلا يقع في مقابلة ما له صيغة فلا يكون مخصصاً للعموم وبتقدير أن يكون مخصصاً فلا بد وأن يكون غير ذلك الواحد مشاركاً له في حكمه وإلا فلو لم يكن غير ذلك الواحد مشاركاً له في حكمه لصرح النبي ﷺ بتخصيصه بذلك الحكم دون غيره دفعاً لمحذور التلبيس على الأمة باعتقادهم المشاركة لذلك الواحد في حكمه لقوله ﷺ "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة". قلنا: وإن كان التقرير لا صيغة له غير أنه حجة قاطعة في جواز الفعل نفياً للخطأ عن النبي ﷺ بخلاف العام فإنه ظني محتمل للتخصيص فكان موجباً لتخصيصه وما ذكروه من وجوب المشاركة فبعيد وذلك لأن حكم ذلك الواحد لا يخلو: إما أن يكون له أو عليه فإن كان له فقوله: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة لا يكون مرتبطاً به وإن كان عليه فقوله حكمي على الواحد حكمي على الجماعة إنما يكون حجة موهمة لمشاركة الجماعة لذلك الواحد إن لو كان قوله حكمي عاماً في كل حكم وهو غير مسلم وإذا لم يكن ذلك حجة عامة فلا تدليس ولا تلبيس وبتقدير مشاركة الأمة لذلك الواحد في ذلك الحكم يكون نسخاً ولا يكون تخصيصاً كما ظن بعضهم. المسألة العاشرة مذهب الشافعي في القول الجديد ومذهب أكثر الفقهاء والأصوليين أن مذهب الصحابي إذا كان على خلاف ظاهر العموم وسواء كان هو الراوي أو لم يكن لا يكون مخصصاً للعموم خلافاً لأصحاب أبي حنيفة والحنابلة وعيسى بن أبان وجماعة من الفقهاء. ودليله أن ظاهر العموم حجة شرعية يجب العمل بها باتفاق القائلين بالعموم ومذهب الصحابي ليس بحجة على ما سنبينه فلا يجوز ترك العموم به. فإن قيل: إذا خالف مذهب الصحابي العموم فلا يخلو إما أن يكون ذلك لدليل أو لا لدليل لا جائز أن يكون لا لدليل وإلا وجب تفسيقه والحكم بخروجه عن العدالة وهو خلاف الإجماع وإن كان ذلك لدليل وجب تخصيص العموم به جمعاً بين الدليلين إذ هو أولى من تعطيل أحدهما كما علم غير مرة. قلنا: مخالفة الصحابي للعموم إنما كانت لدليل عن له في نطره وسواء كان في نفس الأمر مخطئاً فيه أو مصيباً فلذلك لم نقض بتفسيقه لكونه مأخوذاً باتباع اجتهاده وما أوجبه ظنه ومع ذلك فلا يكون ما عن له في نظره حجة متبعة بالنسبة إلى غيره بدليل جواز مخالفة صحابي آخر له من غير تفسيق ولا تبديع وإذا لم يكن ما صار إليه حجة واجبة الاتباع بالنسبة إلى الغير فلا يكون مخصصاً لظاهر العموم المتفق على صحة الاحتجاج به مطلقاً. المسألة الحادية عشرة إذا كان من عادة المخاطبين تناول طعام خاص فورد خطاب عام بتحريم الطعام كقوله: حرمت عليكم الطعام فقد اتفق الجمهور من العلماء على إجراء اللفظ على عمومه في تحريم كل طعام على وجه يدخل فيه المعتاد وغيره وأن العادة لا تكون منزلة للعموم على تحريم المعتاد دون غيره خلافاً لأبي حنيفة وذلك لأن الحجة إنما هي في اللفظ الوارد وهو مستغرق لكل مطعوم بلفظه ولا ارتباط له بالعوائد وهو حاكم على العوائد فلا تكون العوائد حاكمة عليه. فإن قيل: إذا منعتم من تجويز تخصيص العموم بالعادة وتنزيل لفظ الطعام على ما هو المعتاد المتعارف عند المخاطبين فما الفرق بينه وبين تخصيص اللفظ ببعض مسمياته في اللغة بالعادة وذلك كتخصيص اسم الدابة بذوات الأربع وإن كان لفظ الدابة عاماً في كل ما يدب وكتخصيص اسم الثمن في البيع بالنقد الغالب في البلد حتى إنه لا يفهم من إطلاق لفظ الدابة والثمن غير ذوات الأربع والنقد الغالب في البلد. قلنا: الفرق بين الأمرين أن العادة في محل النزاع إنما هي مطردة في اعتياد أكل ذلك الطعام المخصوص لا في تخصيص اسم الطعام بذلك الطعام الخاص فلا يكون ذلك قاضياً على ما اقتضاه عموم لفظ الطعام مع بقائه على الوضع الأصلي وهذا بخلاف لفظ الدابة فإنه صار بعرف الاستعمال ظاهراً في ذوات الأربع وضعاً حتى إنه لا يفهم من إطلاق لفظ الدابة غير ذوات الأربع فكان قاضياً على الاستعمال الأصلي حتى إنه لو كانت العادة في الطعام المعتاد أكله قد خصصت بعرف الاستعمال اسم الطعام بذلك الطعام لكان لفظ الطعام منزلاً عليه دون غيره ضرورة تنزيل مخاطبة الشارع للعرب على ما هو المفهوم لهم من لغتهم وفيه دقة مع وضوحه. المسألة الثانية عشرة اتفق الجمهور على أنه إذا ورد لفظ عام ولفظ خاص يدل على بعض ما يدل عليه العام لا يكون الخاص مخصصاً للعام بجنس مدلول الخاص ومخرجاً عنه ما سواه خلافاً لأبي ثور من أصحاب الشافعي وذلك كقوله ﷺ "أيما إهاب دبغ فقد طهر" فإنه عام في كل إهاب وقوله ﷺ في شاة ميمونة "دباغها طهورها" وإنما لم يكن مخصصاً له لأنه لا تنافي بين العمل بالخاص وإجراء العام على عمومه ومع إمكان إجراء كل واحد على ظاهره لا حاجة إلى العمل بأحدهما ومخالفة الآخر. فإن قيل: فقد اخترتم أن المفهوم يكون مخصصاً للعموم عند القائل به وتخصيص جلد الشاة بالذكر يدل بمفهومه على نفي الحكم عما سوى الشاة من جلود باقي الحيوانات فكان مخصصاً للعموم الوارد بتطهيرها.
قلنا: أما من نفي كون المفهوم حجة وأبطل دلالته كما يأتي تحقيقه فلا أثر لإلزامه به هاهنا ومن قال بالمفهوم المخصص للعموم إنما قال به في مفهوم الموافقة ومفهوم الصفة المشتقة كما سبق في المسألة المتقدمة لا في مفهوم اللقب وتخصيص جلد الشاة بالذكر لا يدل على نفي الطهارة بالدباغ عن باقي جلود الحيوانات كالإبل والبقرة وغيرها إلا بطريق مفهوم اللقب وليس بحجة على ما يأتي تحقيقه ولهذا فإنه لو قال: عيسى رسول الله فإنه لا يدل على أن محمداً ليس برسول الله وكذلك إذا قال: الحادث موجود لا يدل على أن القديم ليس بموجود وإلا كان ذلك كفراً. المسألة الثالثة عشرة اللفظ العام إذا عقب بما فيه ضمير عائد إلى بعض العام المتقدم لا إلى كله هل يكون خصوص المتأخر مخصصاً للعام المتقدم بما الضمير عائد إليه أو لا؟ اختلفوا فيه: فذهب بعض أصحابنا وبعض المعتزلة كالقاضي عبد الجبار وغيره إلى امتناع التخصيص بذلك ومنهم من جوزه ومنهم من توقف كإمام الحرمين وأبي الحسين البصري وذلك كما في قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قرؤ" "البقرة 228" فإنه عام في كل الحرائر المطلقات بوائن كن أو رجعيات ثم قال: "وبعولتهن أحق بردهن" "البقرة 228" فإن الضمير فيه إنما يرجع إلى الرجعيات دون البوائن وعلى هذا النحو. والمختار بقاء اللفظ الأول على عمومه وامتناع تخصيصه بما تعقبه وذلك لأن مقتضى اللفظ إجراؤه على ظاهره من العموم ومقتضى اللفظ الثاني عود الضمير إلى جميع ما دل عليه اللفظ المتقدم إذ لا أولوية لاختصاص بعض المذكور السابق به دون البعض فإذا قام الدليل على تخصيص الضمير ببعض المذكور السابق وخولف ظاهره لم يلزم منه مخالفة الظاهر الأخير بل يجب إجراؤه على ظاهره إلى أن يقوم الدليل على تخصيصه. فإن قيل: إنما يلزم مخالفة ظاهر ما اقتضاه الضمير من العود إلى كل المذكور السابق إذا أجرينا اللفظ السابق على عمومه وليس القول بإجرائه على عمومه ومخالفة ظاهر الضمير أولى من إجراء ظاهر الضمير على مقتضاه وتخصيص المذكور السابق وإذا لم يترجح أحدهما وجب الوقف. قلنا: بل إجراء اللفظ المتقدم على عمومه وتخصيص المتأخر أولى من العكس لأن دلالة الأول ظاهرة ودلالة الثاني غير ظاهرة ولا يخفى أن دلالة المظهر أقوى من دلالة المضمر فكان راجحاً. المسألة الرابعة عشرة القائلون بكون العموم والقياس حجة اختلفوا في جواز تخصيص العموم بالقياس: فذهب الأئمة الأربعة والأشعري وجماعة من المعتزلة كأبي هاشم وأبي الحسين البصري إلى جوازه مطلقاً وذهب الجبائي وجماعة من المعتزلة إلى تقديم العام على القياس وذهب ابن سريج وغيره من أصحاب الشافعي إلى جواز التخصيص بجلي القياس دون خفيه وذهب عيسى بن أبان والكرخي إلى جواز التخصيص بالقياس للعام المخصص دون غيره غير أن الكرخي اشترط أن يكون العام مخصصاً بدليل منفصل وأطلق عيسى بن أبان ومنهم من جوز التخصيص بالقياس إذا كان أصل القياس من الصور التي خصت عن العموم دون غيره وذهب القاضي أبو بكر وإمام الحرمين إلى الوقف. والمختار أنه إذا كانت العلة الجامعة في القياس ثابتة بالتأثير أي بنص أو إجماع جاز تخصيص العموم به وإلا فلا. أما إذا كانت العلة مؤثرة فلأنها نازلة منزلة النص الخاص فكانت مخصصة للعموم كتخصيصه بالنص كما سبق تعريفه. وأما إذا كانت العلة مستنبطة غير مؤثرة فإنما قلنا بامتناع التخصيص بها للإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أن العام في محل التخصيص: إما أن يكون راجحاً على القياس المخالف له أو مرجوحاً أو مساوياً فإن كان راجحاً امتنع تخصيصه بالمرجوح وإن كان مساوياً فليس العمل بأحدهما أولى من الآخر وإنما يمكن التخصيص بتقدير أن يكون القياس في محل المعارضة راجحاً ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه وأما التفصيل فهو أن العموم ظاهر في كل صورة من آحاد الصور الداخلة تحته وجهة ضعفه غير خارجة عن احتمال تخصيصه أو كذب الراوي إن كان العام من أخبار الآحاد. وأما احتمالات ضعف القياس فكثيرة جداً وذلك لأنه وإن كان متناولاً لمحل المعارضة بخصوصه إلا أنه يحتمل أن يكون دليل حكم الأصل من أخبار الآحاد التي يتطرق إليها الكذب وبتقدير أن يكون طريق إثباته قطعياً فيحتمل أن يكون المستنبط القياس ليس أهلا له وبتقدير أن يكون أهلاً فيحتمل أن لا يكون الحكم في نفس الأمر معللا بعلة ظاهرة وبتقدير أن يكون معللاً بعلة ظاهرة فلعلها غير ما ظنه القائس علة ولم يظهر عليها أو أنه أخطأ في طريق إثبات العلة فأثبتها بما لا يصلح للإثبات وبتقدير أن تكون العلة ما ظنه فلعله ظن وجودها في الفرع ولا وجود لها فيه وبتقدير أن تكون موجودة فيه يحتمل أن يكون قد وجد في الفرع مانع السبب أو مانع الحكم أو فات شرط السبب فيه أو شرط الحكم فكان العموم لذلك راجحاً كيف وأن العموم من جنس النصوص والنص غير مفتقر في العمل به في جنسه إلى القياس والقياس متوقف في العمل به على النص لأنه إن ثبت كونه حجة بالنص فظاهر وإن كان بالإجماع فالإجماع متوقف على النص فكان القياس متوقفاً على النص فكان جنس النص لذلك راجحاً ولذلك وقع القياس مؤخراً في حديث معاذ في العمل به عن العمل بالكتاب والسنة حيث قال له النبي ﷺ حين بعثه إلى اليمن قاضياً "بم تحكم؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي فقال ﷺ: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله" ومقتضى ذلك أن لا تتقدم السنة على الكتاب غير أنا خالفناه في تقديم خاص السنة على عام الكتاب فوجب العمل به فيما عداه. وهذه الاحتمالات كلها إن لم توجب الترجيح فلا أقل من المساواة وعلى كلا التقديرين فيمتنع تخصيص العام بالقياس. فإن قيل: القول بالوقف خلاف الإجماع قبل وجود الواقفية إذ الأمة مجمعة على تقديم أحدهما وإن اختلفوا في التعيين ولأن القول بالوقف مما يفضي إلى تعطيل الدليلين عن العمل بهما والمحذور فيه فوق المحذور في العمل بأحدهما فالعمل بالقياس أولى لأنا لو عملنا بالعموم لزم منه إبطال العمل بالقياس مطلقاً ولو عملنا بالقياس لم يلزم منه إبطال العموم مطلقاً لإمكان العمل به فيما عدا صورة التخصيص ولا يخفى أن الجمع بين الدليلين ولو من وجه أولى من العمل بأحدهما وتعطيل الآخر. قلنا: نحن لا نقول بالوقف لما بيناه من ترجيح العمل بالعموم على العمل بالقياس وبتقدير القول بالوقف لا نسلم إجماع الأمة على إبطاله بل غايته أن كل واحد رأى ترجيحاً فيما ذهب إليه وذلك لا يدل على إجماعهم على إبطال الوقف إلا أن يوجد منهم التصريح بذلك وهو غير مسلم ولهذا فإن كل واحد من المجتهدين لا يقطع بإبطال مذهب مخالفه مع مصيره إلى نفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه فلأن لا يكون قاطعاً بإبطاله عند توقفه في نفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه أولى. قولهم إن العمل بالقياس غير مبطل للعمل بالعموم قلنا: في محل المعارضة أو في غيرها؟ الأول ممنوع والثاني مسلم والنزاع إنما وقع في الترجيح في محل المعارضة دون غيره. وبالجملة فلا يمتنع على المجتهد في هذه المسألة الحكم بالوقف أو الترجيح على حسب ما يظهر في نظره في آحاد الوقائع من القرائن والترجيحات الموجبة للتفاوت أو التساوي من غير تخطئة إذ الأدلة فيها نفياً وإثباتاً ظنية غير قطعية فكانت ملحقة بالمسائل الاجتهادية دون القطعية خلافاً للقاضي أبي بكر ويجب أن نختم الكلام في أدلة التخصيص بالفرق بين التخصيص والاستثناء. أما على رأي من يزعم أن الاستثناء والمستثنى منه كالكلمة الواحدة كما سبق فلا خفاء بأن الاستثناء لا يكون تخصيصاً بل هو مباين له وأما من يرى أن الاستثناء تخصيص فهو نوع من التخصيص عنده فكل استثناء تخصيص وليس كل تخصيص استثناء وذلك لأن الاستثناء لا بد وأن يكون متصلاً بالمستثنى منه على ما تقدم تقريره وأنه لا يثبت بقرائن الأحوال بخلاف غيره من أنواع التخصيص وعلى هذا يكون الحكم في التخصيص بذكر الشرط والغاية أيضاً. /بسم الله الرحمن الرحيم الصنف السادس في المطلق والمقيد أما المطلق فعبارة عن النكرة في سياق الإثبات. فقولنا نكرة احتراز عن أسماء المعارف وما مدلوله واحد معين أو عام مستغرق.
وقولنا في سياق الإثبات احتراز عن النكرة في سياق النفي فإنها تعم جميع ما هو من جنسها وتخرج بذلك عن التنكير لدلالة اللفظ على الاستغراق وذلك كقولك في معرض الأمر اعتق رقبة أو مصدر الأمر كقوله: " فتحرير رقبة " المجادلة 3 أو الإخبار عن المستقبل كقوله سأعتق رقبة ولا يتصور الإطلاق في معرض الخبر المتعلق بالماضي كقوله رأيت رجلا ضرورة تعينه من إسناد الرؤية إليه. وإن شئت قلت هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه فقولنا لفظ كالجنس للمطلق وغيره وقولنا دال احتراز عن الألفاظ المهملة وقولنا على مدلول ليعم الوجود والعدم وقولنا شائع في جنسه احتراز عن أسماء الأعلام وما مدلوله معين أو مستغرق. وأما المقيد فإنه يطلق باعتبارين: الأول ما كان من الألفاظ الدالة على مدلول معين كزيد وعمرو وهذا الرجل ونحوه الثاني ما كان من الألفاظ دالاً على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه كقولك دينار مصري ودرهم مكي وهذا النوع من المقيد وإن كان مطلقا في جنسه من حيث هو دينار مصري ودرهم مكي غير أنه مقيد بالنسبة إلى مطلق الدينار والدرهم فهو مطلق من وجه ومقيد من وجه. وإذا عرف معنى المطلق والمقيد فكل ما ذكرناه في مخصصات العموم من المتفق عليه والمختلف فيه والمزيف والمختار فهو بعينه جار في تقييد المطلق فعليك باعتباره ونقله إلى هاهنا. ونزيد مسألةً أخرى وهي أنه إذا ورد مطلق ومقيد فلا يخلو إما أن يختلف حكمهما أو لا يختلف: فإن اختلف حكمهما فلا خلاف في امتناع حمل أحدهما على الآخر وسواء كانا مأمورين أو منهيين أو أحدهما مأموراً والآخر منهياً وسواء اتحد سببهما أو اختلف لعدم المنافاة في الجمع بينهما إلا في صورة واحدة. وهي ما إذا قال مثلاً في كفارة الظهار أعتقوا رقبة ثم قال لا تعتقوا رقبة كافرة فإنه لا خلاف في مثل هذه الصورة أن المقيد يوجب تقييد الرقبة المطلقة بالرقبة المسلمة وعليك باعتبار أمثلة هذه الأقسام فإنها سهلة. وأما إن لم يختلف حكمهما فلا يخلو إما أن يتحد سببهما أو لا يتحد: فإن اتحد سببهما فإما أن يكون اللفظ دالاً على إثباتهما أو نفيهما فإن كان الأول كما لو قال في الظهار اعتقوا رقبة ثم قال اعتقوا رقبة مسلمة فلا نعرف خلافاً في حمل المطلق على المقيد هاهنا وإنما كان كذلك لأن من عمل بالمقيد فقد وفى بالعمل بدلالة المطلق ومن عمل بالمطلق لم يف بالعمل بدلالة المقيد فكان الجمع هو الواجب والأولى. فإن قيل بطريقه الشبهة إذا كان حكم المطلق إمكان الخروج عن عهدته بما شاء المكلف من ذلك الجنس فالعمل بالمقيد مما ينافي مقتضى المطلق وليس مخالفة المطلق وإجراء المقيد على ظاهره أولى من تأويل المقيد بحمله على الندب وإجراء المطلق على إطلاقه. قلنا: بل التقييد أولى من التأويل لثلاثة أوجه: الأول: أنه يلزم منه الخروج عن العهدة بيقين ولا كذلك في التأويل. الثاني: أن المطلق إذا حمل على المقيد فالعمل به فيه لا يخرج عن كونه موفياً للعمل باللفظ المطلق في حقيقته ولهذا لو أداه قبل ورود التقييد كان قد عمل باللفظ في حقيقته ولا كذلك في تأويل المقيد وصرفه عن جهة حقيقته إلى مجازه. الثالث: أن الخروج عن العهدة بفعل أي واحد كان من الآحاد الداخلة تحت اللفظ المطلق لم يكن اللفظ دالا عليه بوضعه لغة بخلاف ما دل عليه المقيد من صفة التقييد. ولا يخفى أن المحذور في صرف اللفظ عما دل عليه اللفظ لغة أعظم من صرفه عما لم يدل عليه بلفظه لغةً. وأما إن كان دالاً على نفيهما أو نهى عنهما كما لو قال مثلاً في كفارة الظهار لا تعتق مكاتباً كافراً فهذا أيضاً مما لا خلاف في العمل بمدلولهما والجمع بينهما في النفي إذ لا تعذر فيه. وأما إن كان سببهما مختلفاً كقوله تعالى في كفارة الظهار: " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة " المجادلة 3 وقوله تعالى في القتل الخطأ:" ومن يقتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " فهذا مما اختلف فيه: فنقل عن الشافعي رضي الله عنه تنزيل المطلق على المقيد في هذه الصورة لكن اختلف الأصحاب في تأويله: فمنهم من حمله على التقييد مطلقاً من غير حاجة إلى دليل آخر ومنهم من حمله على ما إذا وجد بينهما علة جامعة مقتضية للإلحاق وهو الأظهر من مذهبه وأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم منعوا من ذلك مطلقاً.
ولنذكر حجة كل فريق ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار. أما حجة من قال بالتقييد من غير دليل فهي أن كلام الله تعالى متحد في ذاته لا تعدد فيه فإذا نص على اشتراط الإيمان في كفارة القتل كان ذلك تنصيصاً على اشتراطه في كفارة الظهار ولهذا حمل قوله تعالى:" والذاكرات " الأحزاب 35 على قوله في أول الآية:" والذاكرين الله كثيراً " الأحزاب 35 من غير دليل خارج. وهذا مما لا اتجاه له فإن كلام الله تعالى إما أن يراد به المعنى القائم بالنفس أو العبارات الدالة عليه. والأول وإن كان واحداً لا تعدد فيه غير أن تعلقه بالمتعلقات مختلف باختلاف المتعلق ولا يلزم من تعلقه بأحد المختلفين بالإطلاق والتقييد أو العموم والخصوص أو غير ذلك أن يكون متعلقاً بالآخر وإلا كان أمره ونهيه ببعض المختلفات أمراً ونهياً بباقي المختلفات وهو محال متناقض بل وكان يلزم من تعلقه بالصوم المقيد في الحج بالتفريق حيث قال تعالى:" فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم " البقرة 196 وبالتتابع في الظهار حيث قال:" فصيام شهرين متتابعين " النساء 92 أن يتقيد الصوم المطلق في اليمين إما بالتتابع أو التفريق وهو محال أو بأحدهما دون الآخر ولا أولوية. كيف وإنه يلزم من تقييده بأحدهما دون الآخر إبطال ما ذكروه من أن التنصيص على أحد المختلفين يكون تنصيصاً على الآخر. وإن أريد به العبارة الدالة فهي متعددة غير متحدة ولا يلزم من دلالة بعضها على بعض الأشياء المختلفة دلالته على غيره وإلا لزم من ذلك المحال الذي قدمنا لزومه في الكلام النفساني. وأما ما ذكروه من حمل الذاكرات على الذاكرين الله كثيراً فلا نسلم أن ذلك من غير دليل ودليله أن قوله تعالى:" والذاكرات " معطوف على قوله:" والذاكرين الله كثيراً " الأحزاب 35 ولا استقلال له بنفسه فوجب رده إلى ما هو معطوف عليه ومشارك له في حكمه. وأما حجة أصحاب أبي حنيفة فإنهم قالوا: إذا امتنع التقييد من غير دليل لما سبق فلا بد من دليل ولا نص من كتاب أو سنة يدل على ذلك والقياس يلزم منه رفع ما اقتضاه المطلق من الخروج عن العهدة بأي شيء كان مما هو داخل تحت اللفظ المطلق كما سبق تقريره فيكون نسخاً ونسخ النص لا يكون بالقياس. ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه يلزم من القياس نسخ النص المطلق بل تقييده ببعض مسمياته وذلك لا يدل على تخصيص العام بالقياس عندكم فكذلك التقييد. كيف وإن لفظ الرقبة مطلق بالنسبة إلى السليمة والمعيبة وقد كان مقتضى ذلك أيضاً الخروج عن العهدة بالمعيبة وقد شرطتم صفة السلامة ولم يدل عليه نص من كتاب أو سنة وإن كان بالقياس فإما أن يكون نسخاً أو لا يكون نسخاً فإن كان الأول فقد بطل قولكم إن النسخ لا يكون بالقياس وإن لم يكن نسخاً فقد بطل قولكم إن رفع حكم المطلق بالقياس يكون نسخاً. وأما حجة من قال بالتقييد بناء على القياس فالوجه في ضعفه ما سبق في تخصيص العام بالقياس فعليك بنقله إلى هاهنا. والمختار أنه إن كان الوصف الجامع بين المطلق والمقيد مؤثرا أي ثابتا بنص أو إجماع وجب القضاء بالتقييد بناء عليه وإن كان مستنبطا من الحكم المقيد فلا كما ذكرناه في تخصيص العموم. الصنف السابع في المجمل ويشتمل على مقدمة ومسائل : أما المقدمة ففي معنى المجمل وهو في اللغة مأخوذ من الجمع ومنه يقال أجمل الحساب إذا جمعه ورفع تفاصيله وقيل هو المحصل ومنه يقال جملت الشيء إذا حصلته هكذا ذكره صاحب المجمل في اللغة. وأما في اصطلاح الأصوليين فقال بعض أصحابنا: هو اللفظ الذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء وهو فاسد فإنه ليس بمانع ولا جامع. أما أنه ليس بمانع فلأنه يدخل فيه اللفظ المهمل فإنه لا يفهم منه شيء عند إطلاقه وليس بمجمل لأن الإجمال والبيان من صفات الألفاظ الدالة والمهمل لا دلالة له ويدخل فيه قولنا مستحيل فإنه ليس بمجمل مع أنه لا يفهم منه شيء عند إطلاقه لأن مدلوله ليس بشيء بالاتفاق. وأما أنه ليس بجامع فلأن اللفظ المجمل المتردد بين محامل قد يفهم منه شيء وهو انحصار المراد منه في بعضها وإن لم يكن معيناً. وكذلك ما هو مجمل من وجه ومبين من وجه كقوله تعالى:" وآتوا حقه يوم حصاده " الأنعام 141 فإنه مجمل وإن كان يفهم منه شيء.
فإن قيل: المراد منه أنه الذي لا يفهم منه شيء عند إطلاقه من جهة ما هو مجمل ففيه تعريف المجمل بالمجمل وتعريف الشيء بنفسه ممتنع. كيف وإن الإجمال كما أنه قد يكون في دلالة الألفاظ فقد يكون في دلالة الأفعال وذلك كما لو قام النبي ﷺ من الركعة الثانية ولم يجلس جلسة التشهد الوسط فإنه متردد بين السهو الذي لا دلالة له على جواز ترك الجلسة وبين التعمد الدال على جواز تركها. وإذا كان الإجمال قد يعم الأقوال والأفعال فتقييد حد المجمل باللفظ يخرجه عن كونه جامعاً وبهذا يبطل ما ذكره الغزالي في حد المجمل من أنه اللفظ الصالح لأحد معنيين الذي لا يتعين معناه لا بوضع اللغة ولا بعرف الاستعمال. وذكر أبو الحسين البصري فيه حدين آخرين: الأول أنه الذي لا يمكن معرفة المراد منه ويبطل بالألفاظ المهملة وباللفظ الذي هو حقيقة في شيء فإنه إذا أريد به جهة مجازه فإنه لا يفهم المراد منه وليس بمجمل. الثاني قال: المجمل هو ما أفاد شيئاً من جملة أشياء هو متعين في نفسه واللفظ لا بعينه قال وهذا بخلاف قولك اضرب رجلاً فإن مدلوله واحد غير معين في نفسه وأي رجل ضربته جاز ولا كذلك لفظ القرء فإن مدلوله واحد متعين في نفسه من الطهر أو الحيض وفيه إشعار بتقييد الحد باللفظ حيث قال: واللفظ لا بعينه فلا يكون جامعاً بخروج الإجمال في دلالة الفعل عنه كما حققناه وإنما يصح التقييد باللفظ لو أريد تحديد المجمل اللفظي خاصةً. والحق في ذلك أن يقال: المجمل هو ما له دلالة على أحد أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه. فقولنا ما له دلالة ليعم الأقوال والأفعال وغير ذلك من الأدلة المجملة وقولنا على أحد أمرين احتراز عما لا دلالة له إلا على معنى واحد وقولنا لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه احتراز عن اللفظ الذي هو ظاهر في معنىً وبعيد في غيره كاللفظ الذي هو حقيقة في شيء ومجاز في شيء على ما عرف فيما تقدم. وقد يكون ذلك في لفظ مفرد مشترك عند القائلين بامتناع تعميمه وذلك إما بين مختلفين كالعين للذهب والشمس والمختار للفاعل والمفعول أو ضدين كالقرؤ للطهر والحيض. وقد يكون في لفظ مركب كقوله تعالى:" أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " البقرة فإن هذه متردة بين الزوج والولي. وقد يكون ذلك بسبب التردد في عود الضمير إلى ما تقدمه كقولك: كل ما علمه الفقيه فهو كما علمه فإن الضمير في هو متردد بين العود إلى الفقيه وإلى معلوم الفقيه والمعنى يكون مختلفاً حتى أنه إذا قيل بعوده إلى الفقيه كان معناه: فالفقيه كمعلومه وإن عاد إلى معلومه كان معناه: فمعلومه على الوجه الذي علم. وقد يكون ذلك بسبب تردد اللفظ بين جمع الأجزاء وجمع الصفات كقولك: الخمسة زوج وفرد والمعنى مختلف حتى أنه إن أريد به جمع الأجزاء كان صادقاً وإن أريد به جمع الصفات كان كاذباً. وقد يكون ذلك بسببه الوقف والابتداء كما في قوله تعالى:" وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " آل عمران 7 فالواو في قوله:" والراسخون مترددة بين العطف والابتداء والمعنى يكون مختلفاً. وقد يكون ذلك بسبب تردد الصفة وذلك كما لو كان زيد طبيباً غير ماهر في الطب وهو ماهر في غيره فقلت زيد طبيب ماهر فإن قولك ماهر متردد بين أن يراد به كونه ماهراً في الطب فيكون كاذباً وبين أن يراد به غيره فيكون صادقاً. وقد يكون ذلك بسبب تردد اللفظ بين مجازاته المتعددة عند تعذر حمله على حقيقته وقد يكون بسببه تخصيص العموم بصور مجهولة كما لو قال: اقتلوا المشركين ثم قال بعد ذلك بعضهم غير مراد لي من لفظي فإن قوله:" اقتلوا المشركين " بعد ذلك يكون مجملاً غير معلوم أو بصفة مجهولة كقوله تعالى:" وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين " النساء 24 فإن تقييد الحل بالإحصان مع الجهل بما هو الإحصان يوجب الإجمال فيما أحل أو باستثناء مجهول كقوله:" أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم " المائدة 1 فإنه مهما كان المستثنى مجملاً فالمستثنى منه كذلك وكذلك الكلام في تقييد المطلق.
وقد يكون ذلك بسبب إخراج اللفظ في عرف الشرع عما وضع له في اللغة عند القائلين بذلك قبل بيانه لنا كقوله:" أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " البقرة 43 "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " آل عمران 5 فإنه يكون مجملاً لعدم إشعار اللفظ بما هو المراد منه بعينه من الأفعال المخصوصة لأنه مجمل بالنسبة إلى الوجوب. هذا كله في الأقوال وقد يكون ذلك في الأفعال كما ذكرناه أولاً. وتمام كشف الغطاء عن ذلك بمسائل وهي ثمان : المسألة الأولى في أن التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان لا إجمال فيهما الذي صار إليه أصحابنا وجماعة من المعتزلة كالقاضي عبد الجبار والجبائي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري أن التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان كقوله تعالى:" حرمت عليكم أمهاتكم النساء 23 " وحرمت عليكم الميتة " المائدة 3 لا إجمال فيه خلافاً للكرخي وأبي عبد الله البصري. احتج القائلون بالإجمال بأن التحليل والتحريم إنما يتعلق بالأفعال المقدورة والأعيان التي أضيف إليها التحليل والتحريم غير مقدورة لنا فلا تكون هي متعلق التحليل والتحريم فلا بد من إضمار فعل يكون هو متعلق ذلك حذراً من إهمال الخطاب بالكلية ويجب أن يكون ذلك بقدر ما تندفع به الضرورة تقليلاً للإضمار المخالف للأصل. وعلى هذا فيمتنع إضمار كل ما يمكن تعلقه بالعين من الأفعال وليس إضمار البعض أولى من البعض لعدم دلالة الدليل على تعيينه ولأنه لو دل على تعيين بعض الأفعال لكان ذلك متعينا من تعلق التحريم بأي عين كانت وهو محال. قال النافون: وإن سلمنا امتناع تعلق التحليل والتحريم بنفس العين ولكن متى يحتاج إلى الإضمار إذا كان اللفظ ظاهراً بعرف الاستعمال في الفعل المقصود من تلك العين أو إذا لم يكن ؟الأول ممنوع والثاني مسلم. وبيانه أن كل من اطلع على عرف أهل اللغة ومارس ألفاظ العرب لا يتبادر إلى فهمه عند قول القائل لغيره: حرمت عليك الطعام والشراب وحرمت عليك النساء سوى تحريم الأكل والشرب من الطعام والشراب وتحريم وطء النساء. والأصل في كل ما يتبادر إلى الفهم أن يكون حقيقةً إما بالوضع الأصلي أو بعرف الاستعمال والإجمال منتف بكل واحد منهما ولهذا كان الإجمال منتفياً عند قول القائل: رأيت دابةً لما كان المتبادر إلى الفهم ذوات الأربع بعرف الاستعمال وإن كان على خلاف الوضع الأصلي وعلى هذا فقد خرج الجواب عما ذكروه من الوجه الثاني أيضاً. سلمنا أنه لا بد من الإضمار ولكن ما المانع من إضمار جميع التصرفات المتعلقة بالعين المضاف إليها التحليل والتحريم. قولهم إن زيادة الإضمار على خلاف الأصل قلنا: فإضمار البعض إما أن يفضي إلى الإجمال أو لا يفضي إليه فإن كان الثاني فقد بطل مذهبكم وإن كان يفضي إلى الإجمال فلا بد من إضمار الكل حذراً من تعطيل دلالة اللفظ. فلئن قالوا: إضمار البعض وإن أفضى إلى الإجمال فليس في ذلك ما يفضي إلى تعطيل دلالة اللفظ مطلقاً لإمكان معرفة تعيين مدلوله بدليل آخر. وأما محذور إضمار كل التصرفات فلازم مطلقاً ولا يخفى أن التزام المحذور الدائم أعظم من التزام المحذور الذي لا يدوم. قلنا: بل التزام محذوره إضمار جميع الأفعال أولى من التزام محذور الإجمال في اللفظ لثلاثة أوجه: الأول: أن الإضمار في اللغة أكثر استعمالاً من استعمال الألفاظ المجملة ولولا أن المحذور في الإضمار أقل لما كان استعماله أكثر. الثاني: أنه انعقد الإجماع على وجود الإضمار في اللغة والقرآن واختلف في وجود الإجمال فيهما وذلك يدل على أن محذور الإضمار أقل. الثالث: أنه قال ﷺ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها وذلك يدل على إضمار جميع التصرفات المتعلقة بالشحوم وإلا لما لحقهم اللعن ببيعها ولو كان الإجمال أولى من إضمار الكل لكان ذلك على خلاف الأولى. المسألة الثانية ??ذهب بعض الحنيفة إلى أن قوله تعالى:وامسحوا برؤسكم مجمل ذهب بعض الحنفية إلى أن قوله تعالى:" وامسحوا برؤوسكم " المائدة 6 مجمل لأنه يحتمل مسح جميع الرأس ويحتمل مسح بعضه وليس أحدهما أولى من الآخر فكان مجملاً. قالوا: وما روي عنه ﷺ أنه مسح بناصيته فهو بيان لمجمل الآية.
واتفق النافون على نفي الإجمال لكن منهم من قال إنه بحكم وضع اللغة ظاهر في مسح جميع الرأس وهو مذهب مالك والقاضي عبد الجبار وابن جني مصيراً منهم إلى أن الباء في اللغة أصل في الإلصاق كما سبق تعريفه وقد دخلت على المسح وقرنته بالرأس واسم الرأس حقيقة في كله لا بعضه ولهذا ولا يقال لبعض الرأس رأس فكان ذلك مقتضياً لمسح جميعه لغةً. وهذا وإن كان هو الحق بالنظر إلى أصل وضع اللغة غير أن عرف استعمال أهل اللغة الطارىء على الوضع الأصلي حاكم عليه والعرف من أهل اللغة في اطراد الاعتياد جار باقتضاء إلصاق المسح بالرأس فقط مع قطع النظر عن الكل والبعض. ولهذا فإنه إذا قال القائل لغيره: امسح يدك بالمنديل لا يفهم منه أحد من أهل اللغة أنه أوجب عليه إلصاق يده بجميع المنديل بل بالمنديل إن شاء بكله وإن شاء ببعضه ولهذا فإنه يخرج عن العهدة بكل واحد منهما. وكذلك إذا قال: مسحت يدي بالمنديل فالسامعون يجوزون أنه مسح بكله وببعضه غير فاهمين لزوم وقوع المسح بالكل أو البعض بل بالقدر المشترك بين الكل والبعض وهو مطلق مسح ويجب أن يكون كذلك نفياً للتجوز والاشتراك في العرف. وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه واختيار القاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري. وعلى كل تقدير فلا وجه للقول بالإجمال لا بالنظر إلى الوضع اللغوي الأصلي ولا بالنظر إلى عرف الاستعمال. المسألة الثالثة مذهب الجمهور أنه لا إجمال في قوله ﷺ:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وقال أبو الحسين البصري وأبو عبد الله البصري وغيرهما إنه مجمل مصيراً منهم إلى أن اللفظ بوضعه لغة يقتضي رفع الخطإ والنسيان في نفسه وهو محال مع فرض وقوعه فيجل منصب النبي عن نفيه. وعند ذلك فإما أن يضمر نفي جميع أحكامه أو بعضها لا سبيل إلى الأول لأن الإضمار على خلاف الأصل وإنما يصار إليه لدفع الضرورة اللازمة من تعطيل العمل باللفظ فيجب الاقتصار فيه على أقل ما تندفع به الضرورة وهو بعض الأحكام. كيف وأنه يمتنع إضمار نفي جميع الأحكام لأن من جملتها لزوم الضمان وقضاء العبادة وهو غير منفي بالإجماع ثم ذلك الحكم المضمر لا يمكن القول بتعيينه لعدم دلالة اللفظ عليه فلم يبق إلا أن يكون غير معين ويلزم منه الإجمال. قال النافون للإجمال: وإن تعذر حمل اللفظ على رفع عين الخطإ والنسيان فإنما يلزم الإضمار إن لو لم يكن اللفظ ظاهراً بعرف استعمال أهل اللغة في نفي المؤاخذة والعقاب قبل ورود الشرع وليس كذلك. ولهذا فإن كل من عرف عرف أهل اللغة لا يتشكك ولا يتردد عند سماعه قول السيد لعبده: رفعت عنك الخطأ والنسيان في أن مراده من ذلك رفع المؤاخذة والعقاب. والأصل أن كل ما يتبادر إلى الفهم من اللفظ أن يكون حقيقة فيه إما بالوضع الأصلي أو العرف الاستعمالي وذلك لا إجمال فيه ولا تردد. فإن قيل: لو كان عرف الاستعمال كما ذكرتموه لارتفع عنه الضمان لكونه من جملة المؤاخذات والعقوبات. قلنا: عنه جوابان: الأول: أنا نسلم أن الضمان من حيث هو ضمان عقوبة ولهذا يجب في مال الصبي والمجنون وليسا أهلاً للعقوبة وكذلك يجب على المضطر في المخمصة إذا أكل مال غيره مع أن الأكل واجب عليه حفظاً لنفسه والواجب لا عقوبة على فعله وكذلك يجب الضمان على من رمى إلى صف الكفار فأصاب مسلماً مع أنه مأمور بالرمي وهو مثاب عليه. الثاني: وإن سلمنا أنه عقاب لكن غايته لزوم تخصيص عموم اللفظ الدال على نفي كل عقاب وذلك أسهل من القول بالإجمال. المسألة الرابعة اختلفوا في قوله ﷺ "لا صلاة إلا بطهور "فمذهب الكل إنه لا اجمال فيه اختلفوا في قوله ﷺ " لا صلاة إلا بطهور ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ولا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل "ونحوه. فمذهب الكل أنه لا إجمال فيه خلافاً للقاضي أبي بكر وأبي عبد الله البصري فإنهما قالا بإجماله لأن حرف النفي دخل على هذه المسميات مع تحققها فلا بد من إضمار حكم يلحق وتمام تقريره كما مر في المسألة المتقدمة. والمختار أنه لا إجمال في هذه الصور لأنه لا يخلو إما أن يقال بأن الشارع له في هذه الأسماء عرف أو لا عرف له فيها بل هي منزلة على الوضع اللغوي.
فإن قيل بالأول: فيجب تنزيل كلام الشارع على عرفه إذ الغالب منه أنه إنما يناطقنا فيما له فيه عرف بعرفه فيكون لفظه منزلاً على نفي الحقيقة الشرعية من هذه الأمور ونفي الحقيقة الشرعية ممكن. والأصل حمل الكلام على ما هو حقيقة فيه وعلى هذا فلا إجمال وإن كان مسمى هذه الأمور بالوضع اللغوي غير منفي. وإن قيل بالثاني: فالإجمال أيضاً إنما يتحقق إن لو لم يكن اللفظ ظاهراً بعرف استعمال أهل اللغة قبل ورود الشرع في مثل هذه الألفاظ في نفي الفائدة والجدوى وليس كذلك. وبيانه أن المتبادر إلى الفهم من نفي كل فعل كان متحقق الوجود إنما هو نفي فائدته وجدواه ومنه قولهم لا علم إلا ما نفع ولا كلام إلا ما أفاد ولا حكم إلا لله ولا طاعة إلا له ولا بلد إلا بسلطان إلى غير ذلك. وإذا كان النفي محمولاً على نفي الفائدة والجدوى فلا إجمال فيه وإن سلمنا أنه لا عرف للشارع ولا لأهل اللغة في ذلك وأنه لا بد من الإضمار غير أن الاتفاق واقع على أنه لا خروج للمضمر هاهنا عن الصحة والكمال وعند ذلك فيجب اعتقاد ظهوره في نفي الصحة والكمال لوجهين: الأول: أنه أقرب إلى موافقة دلالة اللفظ على النفي لأنه إذا قال: لا صلاة لا صوم إلا بكذا فقد دل على نفي أصل الفعل بدلالة المطابقة وعلى صفاته بدلالة الالتزام فإذا تعذر العمل بدلالة المطابقة تعين العمل بدلالة الالتزام تقليلا لمخالفة الدليل. الثاني: أنه إذا كان اللفظ قد دل على نفي العمل وعدمه فيجب عند تعذر حمل اللفظ على حقيقته حمله على أقرب المجازات الشبيهة به ولا يخفى أن مشابهة الفعل الذي ليس بصحيح ولا كامل للفعل المعدوم أكثر من مشابهة الفعل الذي نفي عنه أحد الأمرين دون الآخر فكان الحمل عليه أولى. فإن قيل ما ذكرتموه معارض من وجهين: الأول أنه يلزم منه الزيادة في الإضمار والتجوز المخالف للأصل الثاني أن حمله على نفي الكمال دون الصحة مستيقن من حيث إنه يلزم من نفي الصحة نفي الكمال ولا عكس وإذا تقابلت الاحتمالات لزم الإجمال. قلنا: بل الترجيح لما ذكرناه لأنه لا يلزم منه تعطيل دلالة اللفظ بخلاف ما ذكرتموه ولأنه على وفق النفي الأصلي وما ذكرتموه على خلافه فكان ما ذكرناه أولى. وعلى هذا فقوله ﷺ:" لا عمل إلا بنية وإنما الأعمال بالنيات "وإن لم يكن للشارع فيه عرف كما في الصلاة والصوم ونحوهما فعرف أهل اللغة في نفيه نفي الفائدة والجدوى كما قررناه فيما تقدم فلا إجمال فيه أيضاً خلافاً لأبي الحسين البصري وأبي عبد الله البصري وغيرهما من المعتزلة. المسألة الخامسة اختلفوا في قوله تعالى: فاقطعوا أيديهما هل هو مجمل أم لا ؟ اختلفوا في قوله تعالى:" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " المائدة 38 فقال بعض الأصوليين إن لفظ القطع واليد مجمل. أما الإجمال في القطع فلأنه يصدق إطلاقه على بينونة العضو من العضو وعلى شق الجلد الظاهر من العضو بالجرح من غير إبانة للعضو. ولذلك يقال عندما إذا جرح يده في بعض الأعمال كبرى القلم وغيره قطع يده وأما الإجمال في اليد فلأن لفظ اليد يطلق على جملتها إلى المنكب وعليها إلى المرفق وعليها إلى الكوع وليس أحد هذه الاحتمالات أظهر من الآخر فكان لفظ اليد والقطع مجملاً. وذهب الباقون إلى خلافه متمسكين في ذلك بالإجمال والتفصيل : أما الإجمال فهو أن إطلاق لفظ اليد على ما ذكر من المحامل وكذلك إطلاق لفظ القطع إما أن يكون حقيقةً في الكل أو هو حقيقة في البعض مجاز في البعض فإن كان حقيقة في الكل فإما أن يكون مشتركاً أو متواطئاً: القول بالاشتراك يلزم منه الإجمال في الكلام وهو على خلاف الأصل وإن كان الثاني والثالث فليس بمجمل. كيف وإنه وإن كان الاشتراك على وفق الأصل إلا أن الاحتمالات ثلاثة كما ذكرناه ولا إجمال فيه على تقديرين منها وهما حالة التواطؤ والتجوز في أحدهما وإنما يتحقق الإجمال على تقدير الاشتراك وهو متحد ووقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه. وإذا كان حقيقة في أحدهما دون الآخر فيجب اعتقاد كونه ظاهراً في كل العضو ضرورة الاتفاق على عدم ظهوره فيما سواه أما عند الخصم فلدعواه الإجمال وأما عندنا فلمصيرنا إلى نفي الظهور عنه وانحصاره في جملة مسمى العضو.
وأما التفصيل فهو أن لفظ اليد وإن أطلق على ما ذكروه من الاحتمالات إلا أنه حقيقة في جملة العضو إلى المنكب ومجاز فيما عداه. ودليله أنه يصح أن يقال إذا أبينت اليد من المرفق أو من الكوع هذا بعض اليد لا كلها وذلك يدل على أنه ليس حقيقة من وجهين: الأول: أن مسمى اليد حقيقة لا يصدق عليه أنه بعض اليد والثاني صحة القول بأنه ليس كل اليد ولو كان مسمى اليد حقيقة لما صح نفيه. وأما لفظ القطع فحقيقة في إبانة الشيء عما كان متصلاً به فإذا أضيف القطع إلى اليد وكان مسمى اليد حقيقةً في جملتها إلى الكوع وجب حمله على إبانة مسمى اليد وهو جملتها وحيث أطلق قطع اليد عن إبانة بعض أجزائها عن بعض لا يكون حقيقة بل تجوزاً. فإن قيل: لو كان الأمر على ما ذكرتموه لما وجب الاقتصار في قطع يد السارق على قطعه من الكوع لما فيه من مخالفة الظاهر. قلنا: وإن لزم منه مخالفة الظاهر إلا إنه أولى من القول بالإجمال في كلام الشارع فكان إدراج ما نحن فيه تحت الأغلب أغلب. الثاني: أن القول بالإجمال مما يفضي إلى تعطيل اللفظ عن الأعمال في الحال إلى حين قيام الدليل المرجح ولا كذلك في الحمل على المجاز: فإنه إن لم يظهر دليل التجوز عمل باللفظ في حقيقته وإن ظهر عمل به في مجازه من غير تعطيل اللفظ في الحال ولا في ثاني الحال. المسألة السادسة اللفظ الوارد إذا أمكن حمله على ما يفيد معنى واحدا وعلى ما يفيد معنيين قال الغزالي وجماعة من الأصوليين: هو مجمل لتردده بين هذين الاحتمالين من غير ترجيح. والذي عليه الأكثر أنه ليس بمجمل بل هو ظاهر فيما يفيد معنيين وهذا هو المختار. وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع فنقول: اللفظ الوارد إما أن يظهر كونه حقيقةً فيما قيل من المحملين مع اختلافهما أو كونه حقيقةً في أحدهما مجازاً في الآخر أو لم يظهر أحد الأمرين: فإن كان من القسم الأول أو الثاني فلا معنى للخلاف فيه أما الأول فلتحقق إجماله وأما الثاني فلتحقق الظهور في أحد المحملين: وإنما النزاع في القسم الثالث: ويجب اعتقاد نفي الإجمال فيه للإجمال والتفصيل: أما الإجمال فما تقدم في المسألة المتقدمة. وأما التفصيل فهو أن الكلام إنما وضع للإفادة ولا سيما كلام الشارع ولا يخفى أن ما يفيد معنيين أكثر في الفائدة فيجب اعتقاد كون اللفظ ظاهراً فيه. فإن قيل: هذا الترجيح معارض بترجيح آخر وهو إن الغالب من الألفاظ الواردة هي المفيدة لمعنى واحد بخلاف المفيد لمعنيين وعند ذلك فاعتقاد أدراج ما نحن فيه تحت الأعم الأغلب أغلب. قلنا: يجب اعتقاد الترجيح فيما ذكرناه وذلك لأنه لا يخلو إما أن يقال بالتساوي بين الاحتمالين أو التفاوت. القول بالتساوي يلزم منه تعطيل دلالة اللفظ وامتناع العمل به مطلقا إلى حين قيام الدليل وذلك على خلاف الأصل. وإن قبل بالتفاوت والترجيح فإما أن يكون فيما يفيد معنىً واحداً أو فيما يفيد معنيين: لا سبيل إلى الأول إذ القائل قائلان: قائل يقول بالإجمال ففيه نفي الترجيح عن المعنيين وقائل يقول بأنه ظاهر راجح فيما يفيد معنيين دون ما يفيد معنى واحداً فقد وقع الاتفاق على نفي الترجيح فيما يفيد معنى واحداً فتعين الترجيح لما يفيد معنيين. المسألة السابعة اختلفوا في اللفظ إذا أمكن حمله على حكم شرعي مجدد وعلى الموضوع اللغوي هل هو مجمل أم لا ؟ اللفظ الوارد من جهة الشارع إذا أمكن حمله على حكم شرعي مجدد وأمكن حمله على الموضوع اللغوي: اختلفوا فيه. فذهب الغزالي إلى أنه مجمل لتردده بين الاحتمالين من غير مزية وذهب غيره إلى أنه ظاهر في الحكم الشرعي وهو المختار. وذلك مثل قوله ﷺ:" الطواف بالبيت صلاة "فإنه يحتمل أنه أراد به أنه كالصلاة حكماً في الافتقار إلى الطهارة ويحتمل أنه أراد به أنه مشتمل على الدعاء الذي هو صلاة لغةً وكقوله ﷺ الاثنان فما فوقهما جماعة فإنه يحتمل أنه أراد به أنهما جماعة حقيقةً ويحتمل أنه أراد به انعقاد الجماعة بهما وحصول فضيلتها وإنما قلنا بكونه ظاهراً في الحكم الشرعي للإجمال والتفصيل: أما الإجمال فما ذكرناه فيما تقدم.
وأما التفصيل فهو أنه ﷺ إنما بعث لتعريف الأحكام الشرعية التي لا تعرف إلا من جهته لا لتعريف ما هو معروف لأهل اللغة فوجب حمل اللفظ عليه لما فيه من موافقة مقصود البعثة. فإن قيل: ما ذكرتموه من الترجيح مقابل بمثله وبيانه أن حمل اللفظ على الحكم الشرعي المجدد مخالف للنفي الأصلي بخلاف الحمل على الموضوع الأصلي. قلنا: إلا أنا لو حملناه على تعريف الموضوع اللغوي كانت فائدة لفظ الشارع التأكيد بتعريف ما هو معروف لنا ولو حملناه على تعريف الحكم الشرعي. كانت فائدته التأسيس وتعريف ما ليس معروفاً لنا وفائدة التأسيس أصل وفائدة التأكيد تبع فكان حمله على التأسيس أولى. المسألة الثامنة إذا ورد لفظ الشارع وله مسمى لغوي ومسمى شرعي فهو مجمل عند القاضي أبي بكر إذا ورد لفظ الشارع وله مسمى لغوي ومسمى شرعي عند المعترف بالأسماء الشرعية قال القاضي أبو بكر: تفريعاً على القول بالأسماء الشرعية إنه مجمل. وقال بعض أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة إنه محمول على المسمى الشرعي وفصل الغزالي وقال: ما ورد في الإثبات فهو للحكم الشرعي وما ورد في النهي فهو مجمل ومثال ذلك في طرف الإثبات قوله ﷺ حين دخل على عائشة فقال لها:" أعندك شيء ؟فقالت: لا قال إني إذا أصوم "فهو إن حمل على الصوم الشرعي دل على صحة الصوم بنية من النهار بخلاف حمله على الصوم اللغوي ومثاله في طرف النهي نهيه عليه السلام عن صوم يوم النحر فإنه إن حمل على الصوم الشرعي دل على تصور وقوعه لاستحالة النهي عما لا تصور لوقوعه بخلاف ما إذا حمل على الصوم اللغوي. والمختار ظهوره في المسمى الشرعي في طرف الإثبات وظهوره في المسمى اللغوي في طرف الترك: أما الأول: فبيانه بما تقدم في المسألة التي قبلها ويزيد ها هنا وجه آخر في الترجيح وهو أن الشارع مهما ثبت له عرف وإن كانت مناطقته لنا بالأمور اللغوية غالبا غير أن مناطقته لنا بعرفه في موضع له فيه عرف أغلب. وأما إذا ورد في طرف الترك كقوله ﷺ:" دعي الصلاة أيام أقرائك "وكنهيه عن بيع الحر والخمر وحبل الحبلة والملاقيح والمضامين فإنه لو كان اللفظ ظاهراً في الصلاة الشرعية والبيع الشرعي لزم أن يكون ذلك متصوراً لاستحالة النهي عما لا تصور له وهو خلاف الإجماع وأن يكون الشارع قد نهى عن التصرف الشرعي وذلك ممتنع لما فيه من إهمال المصلحة المعتبرة المرعية في التصرف الشرعي أو أن يقال مع ظهوره في المسمى الشرعي بتأويله وصرفه إلى المسمى اللغوي وهو على خلاف الأصل. ولا يلزم من اطراده عرف الشرع في هذه المسميات في طرف الإثبات مثله في طرف النهي أو النفي وعلى ما حققناه من تقديم عرف الشرع في خطابه على وضع اللغة. فيقدم ما اشتهر من المجاز الذي صار لا يفهم من اللفظ غيره على الوضع الأصلي الحقيقي وسواء كان ذلك التجوز بطريق نقل الكلام من محل الحقيقة إلى ما هو خارج عنه كلفظ الغائط أو بطريق تخصيصه ببعض مسمياته في الحقيقة كلفظ الدابة لأن العرف الطارىء غالب للوضع الأصلي ولا إجمال فيه. الصنف الثامن في البيان والمبين ويشتمل على مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي تحقيق معنى البيان والمبين واختلاف الناس في العبارات الدالة عليهما وما هو المختار في ذلك. أما البيان فاعلم أنه لما كان متعلقاً بالتعريف والإعلام بما ليس بمعروف ولا معلوم وكان ذلك مما يتوقف على الدليل والدليل مرشد إلى المطلوب وهو العلم أو الظن الحاصل عن الدليل لم يخرج البيان عن التعريف والدليل والمطلوب الحاصل من الدليل لعدم معنى رابع يفسر به البيان فلا جرم اختلف الناس. فقال أبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي وغيره إن البيان هو التعريف وعبر عنه بأنه إخراج الشيء عن حيز الإشكال إلى حيز الوضوح والتجلي. وذهب أبو عبد الله البصري وغيره إلى أن البيان هو العلم الحاصل من الدليل. وذهب القاضي أبو بكر والغزالي وأكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري وغيرهم إلى أن البيان هو الدليل وهو المختار. ويدل على صحة تفسيره بذلك أن من ذكر دليلاً لغيره وأوضحه غاية الإيضاح يصح لغةً وعرفاً أن يقال تم بيانه وهو بيان حسن إشارة إلى الدليل المذكور.
وإن لم يحصل منه المعرفة بالمطلوب للسامع ولا حصل به تعريفه ولا إخراج المطلوب من حيز الإشكال إلى حيز الوضوح والتجلي والأصل في الإطلاق الحقيقة والذي يخص كل واحد من التعريفين الآخرين. أما الأول: فلأنه غير جامع لأن ما يدل على الحكم بدياً من غير سابقة إجمال بيان وهو غير داخل في الحد وشرط الحد أن يكون جامعاً مانعاً كيف وفيه تجوز وزيادة أما التجوز ففي لفظ الحيز فإنه حقيقة في الجوهر دون غيره. وأما الزيادة فما فيه من الجمع بين الوضوح والتجلي وأحدهما كاف عن الآخر والحد مما يجب صيانته عن التجوز والزيادة. وأما التعريف الثاني فلأن حصول العلم عن الدليل يسمى تبيناً والأصل في الإطلاق الحقيقة فلو كان هو البيان أيضاً حقيقة لزم منه الترادف والأصل عند تعدده الأسماء تعدد المسميات تكثيراً للفائدة ولأن الحاصل عن الدليل قد يكون علماً وقد يكون ظناً. وعند ذلك فتخصيص اسم البيان بالعلم دون الظن لا معنى له مع أن اسم البيان يعم الحالتين وإذا كان النزاع إنما هو في إطلاق أمر لفظي فأولى ما اتبع ما كان موافقاً للإطلاق اللغوي وأبعد عن الاضطراب ومخالفة الأصول. وإذا عرف أن البيان هو الدليل المذكور فحد البيان ما هو حد الدليل على ما سبق في تحريره ويعم ذلك كل ما يقال له دليل كان مفيداً للقطع أو الظن وسواء كان عقلياً أو حسياً أو شرعياً أو عرفياً أو قولاً أو سكوتاً أو فعلاً أو ترك فعل إلى غير ذلك. وأما المبين فقد يطلق ويراد به ما كان من الخطاب المبتدإ المستغنى بنفسه عن بيان وقد يراد به ما كان محتاجاً إلى البيان وقد ورد عليه بيانه وذلك كاللفظ المجمل إذا بين المراد منه والعام بعد التخصيص والمطلق بعد التقييد والفعل إذا اقترن به ما يدل على الوجه الذي قصد منه إلى غير ذلك. وأما المسائل فثمان: المسألة الأولى مذهب الأكثرين أن الفعل يكون بياناً خلافاً لطائفة شاذة ويدل على ذلك النقل والعقل: أما النقل فما روي عنه ﷺ أنه عرف الصلاة والحج بفعله حيث قال:" صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم ". وأما العقل فهو أن الإجماع منعقد على كون القول بياناً والإتيان بأفعال الصلاة والحج لكونها مشاهدةً أدل على معرفة تفصيلها من الإخبار عنها بالقول فإنه ليس الخبر كالمعاينة ولهذا كانت مشاهدة زيد في الدار أدل على معرفة كونه فيها من الإخبار عنه بذلك وإذا كان القول بياناً مع قصوره في الدلالة عن الفعل المشاهد فكون الفعل بياناً أولى. فإن قيل: أما النقل فالبيان فيه إنما وقع بالقول لا بالفعل وهو قوله:" صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم "وأما المعقول فهو أن الفعل وإن كان مشاهداً غير أن زمان البيان به مما يطول ويلزم من ذلك تأخير البيان مع إمكانه بما هو أفضى إليه وهو القول وذلك ممتنع. قلنا: أما القول بأن البيان إنما حصل بالقول ليس كذلك فإنه لم يتضمن تعريف شيء من أفعال الصلاة والحج بل غايته تعريف أن الفعل هو البيان لذلك. وأما القول بأن البيان بالفعل مما يفضي إلى تأخير البيان مع إمكان تقدمه بالقول فهو غير مسلم بل التعريف بالقول وذكر كل فعل بصفته وهيئته وما يتعلق به أبعد عن التشبث بالذهن من الفعل المشاهد وربما احتيج في ذلك إلى تكرير في أزمنة تزيد على زمان وقوع الفعل بأزمنة كثيرة على ما يشهد به العرف والعادة. وإن سلمنا أن زمان التعريف بالفعل يكون أطول فليس في ذلك ما يدل على كونه غير صالح للبيان والتعريف والخلاف إنما هو في ذلك وقد بينا أنه مع صلاحيته للتعريف أدل من القول. قولهم إنه يفضي إلى تأخير البيان مع إمكان تقديمه بالقول قلنا: لا يخلو إما أن لا تكون الحاجة قد دعت إلى البيان في الحال أودعت إليه: فإن كان الأول فلا محذور في التأخير مع حصول البيان بما هو أدل من القول وإن كان الثاني فلا نسلم امتناع التأخير على قولنا بجواز التكليف بما لا يطاق على ما قررناه. وبتقدير امتناعه فإنما نسلم ذلك فيما إذا كان التأخير لا لفائدة وأما إذا كان لفائدة فلا وقد بينا الفائدة في البيان بالفعل من جهة كونه أدل على المقصود. المسألة الثانية إذا ورد بعد اللفظ المجمل قول وفعل وكل واحد منهما صالح للبيان فالبيان بماذا منهما ؟ والحق في ذلك أنه لا يخلو إما أن يتوافقا في البيان أو يختلفا: فإن توافقا فإن علم تقدم أحدهما فهو البيان لحصول المقصود به والثاني يكون تأكيداً إلا إذا كان دون الأول في الدلالة لاستحالة تأكيد الشيء بما هو دونه في الدلالة. وإن جهل ذلك فلا يخلو إما أن يكونا متساويين في الدلالة أو أحدهما أرجح من الآخر على حسب اختلاف الوقائع والأقوال والأفعال: فإن كان الأول فأحدهما هو البيان والآخر مؤكد من غير تعيين وإن كان الثاني فالأشبه أن المرجوح هو المتقدم لأنا فرضنا تأخر المرجوح امتنع أن يكون مؤكداً للراجح إذ الشيء لا يؤكد بما هو دونه في الدلالة والبيان حاصل دونه فكان الإتيان به غير مفيد ومنصب الشارع منزه عن الإتيان بما لا يفيد. ولا كذلك فيما إذا جعلنا المرجوح مقدما فإن الإتيان بالراجح بعده يكون مفيداً للتأكيد ولا يكون معطلاً. وأما إن لم يتوافقا في البيان كما روي عنه ﷺ أنه بعد آية الحج قال:" من قرن حجاً إلى عمرة فليطف طوافاً واحداً ويسعى سعياً واحداً "وروي عنه ﷺ أنه" قرن فطاف طوافين وسعى سعيين" فلا يخلو إما أن يعرف تقدم أحدهما أو يجهل. فإن علم التقدم قال أبو الحسين البصري: المتقدم هو البيان فإن تقدم الفعل كان الطواف الثاني واجباً وإن تقدم القول كان الطواف الثاني غير واجب وليس بحق بل الحق أن يقال: إن كان القول متقدماً فالطواف الثاني غير واجب وفعل النبي ﷺ له يجب أن يحمل على كونه مندوباً وإلا فلو كان فعله له دليل الوجوب كان ناسخاً لما دل عليه القول. ولا يخفى أن الجمع أولى من التعطيل وفعله للطواف الأول يكون تأكيداً للقول وإن كان الفعل متقدماً فهو وإن دل على وجوب الطواف الثاني إلا أن القول بعده يدل على عدم وجوبه والقول بإهمال دلالة القول ممتنع فلم يبق إلا أن يكون ناسخاً لوجوب الطواف الثاني. الذي دل عليه الفعل أو أن يحمل فعله على بيان وجوب الطواف الثاني في حقه دون أمته وأن يحمل قوله على بيان وجوب الأول دون الثاني في حق أمته دونه والأشبه إنما هو الاحتمال الثاني دون الأول لما فيه من الجمع بين البيانين من غير نسخ ولا تعطيل. وأما إن جهل المتقدم منهما فالأولى إنما هو تقدير تقدم القول وجعله بياناً لوجهين: الأول: أنه مستقل بنفسه في الدلالة بخلاف الفعل فإنه لا يتم كونه بياناً دون اقتران العلم الضروري بقصد النبي ﷺ البيان به أو قول منه يدل على ذلك وذلك مما لا ضرورة تدعو إليه. الثاني: أنا إذا قدرنا تقدم القول أمكن حمل الفعل بعده على ندبية الطواف الثاني كما تقدم تعريفه ولو قدرنا تقدم الفعل يلزم منه إما إهمال دلالة القول أو كونه ناسخاً لحكم الفعل أو أن يكون الفعل بياناً لوجوب الطواف الثاني في حق النبي ﷺ دون أمته والقول دليل عدم وجوبه في حق أمته دونه والإهمال والنسخ على خلاف الأصل والافتراق بين النبي ﷺ والأمة في وجوب الطواف الثاني مرجوح بالنظر إلى ما ذكرناه من التشريك لكون التشريك هو الغالب دون الافتراق. المسألة الثالثة هل يجب أن يكون البيان مساوياً للمبين في القوة أو يجوز أن يكون أدنى منه قال الكرخي: لا بد من المساواة وقال أبو الحسين البصري: يجوز أن يكون أدنى منه. وهل يجب أن يكون مساويا للمبين في الحكم؟ فمنهم من قال به ومنهم من نفاه. والمختار في ذلك أن يقال: أما المساواة في القوة فالواجب أن يقال: إن كان المبين مجملاً كفى في تعيين أحده احتماليه أدنى ما يفيد الترجيح وإن كان عاماً أو مطلقاً فلا بد وأن يكون المخصص والمقيد في دلالته أقوى من دلالة العام على صورة التخصيص. ودلالة المطلق على صورة التقييد وإلا فلو كان مساوياً لزم الوقف ولو كان مرجوحا لزم منه إلغاء الراجح بالمرجوح وهو ممتنع. وأما المساواة بينهما في الحكم فغير واجب وذلك لأنه لو كان ما دل عليه البيان من الحكم هو ما دل عليه المبين لم يكن أحدهما بياناً للآخر. وإنما يكون أحد الأمرين بياناً للآخر إذا كان دالاً على صفة مدلول الآخر لا على مدلوله ومع ذلك فلا اتحاد في الحكم.
فإن قيل: المراد من الاتحاد في الحكم أنه إن كان حكم المبين واجباً كان بيانه واجباً وإن لم يكن واجباً لم يكن البيان واجباً. قلنا: لا يخلو إما أن لا تكون الحاجة داعيةً إلى البيان في الحال أو هي داعية: فإن كان الأول فالبيان غير واجب على ما سيأتي وسواء كان حكم المبين واجباً أو لم يكن وإن كان الثاني فعلى قولنا بجواز التكليف بما لا يطاق على ما تقرر فالبيان أيضاً لا يكون واجباً وإن كان الحكم المبين واجباً. وأما إذا قلنا بامتناع التكليف بما لا يطاق فالحق ما قالوه وذلك لأنه إذا كان المبين واجباً فلو لم يكن البيان واجباً لجاز تركه ويلزم من ذلك التكليف بما لا يطاق وهو خلاف الفرض. وإذا كان المبين غير واجب فالقول بعدم إيجاب البيان لا يفضي إلى التكليف بما لا يطاق إذ لا تكليف فيما ليس بواجب لأن ما لا يكون واجب الفعل ولا واجب الترك فهو إما مندوب أو مباح أو مكروه وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة لا تكليف فيه على ما تقدم. ولا يلزم من القول بالوجوب حذراً من تكليف ما لا يطاق الوجوب مع عدم التكليف أصلاً اللهم إلا أن ينظر إلى التكليف بوجوب اعتقاده على ما هو عليه من إباحة أو ندب أو كراهة فيكون من القسم الأول. المسألة الرابعة في جواز تأخير البيان أما عن وقت الحاجة فقد اتفق الكل على امتناعه سوى القائلين بجواز التكليف بما لا يطاق ومدار الكلام من الجانبين فقد عرف فيما تقدم. وأما تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ففيه مذاهب: فذهب أكثر أصحابنا وجماعة من أصحاب أبي حنيفة إلى جوازه وذهب بعض أصحابنا كأبي إسحاق المروزي وأبي بكر الصيرفي وبعض أصحاب أبي حنيفة والظاهرية إلى امتناعه وذهب الكرخي وجماعة من الفقهاء إلى جواز تأخير بيان المجمل دون غيره. وذهب بعضهم إلى جواز تأخير بيان الأمر دون الخبر وذهب الجبائي وابنه والقاضي عبد الجبار إلى جواز تأخير بيان النسخ دون غيره وذهب أبو الحسين البصري إلى جواز تأخير بيان ما ليس له ظاهر كالمجمل وأما ما له ظاهر وقد استعمل في غير ظاهره كالعام والمطلق والمنسوخ ونحوه فقال يجوز تأخير بيانه التفصيلي ولا يجوز تأخير بيانه الإجمالي وهو أن يقول وقت الخطاب: هذا العموم مخصوص وهذا المطلق مقيد وهذا الحكم سينسخ. وإذا عرف تفصيل المذاهب فقد احتج أصحابنا القائلون بجواز التأخير مطلقاً بحجج نقلية وعقلية. إما النقلية فالحجة الأولى منها قوله تعالى:" إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه " القيامة 18 ووجه الاحتجاج به أنه قال:" فإذا قرأناه " معناه أنزلناه ويدل على ذلك قوله تعالى:" فاتبع قرآنه " أمر النبي ﷺ بالاتباع بفاء التعقيب لقوله" فإذا قرأناه" ولا يتصور ذلك قبل الإنزال لعدم معرفته به وإنما يكون بعد الإنزال. وإذا كان المراد بقوله:" قرأناه " الإنزال فقوله" ثم إن علينا بيانه " يدل على تأخير البيان عن وقت الإنزال لأن ثم للمهلة والتراخي على ما سبق تقريره. ولقائل أن يقول: وإن كان المراد من قوله تعالى:" فإذا قرأناه " الإنزال ولكن لا نسلم أن المراد من قوله:" ثم إن علينا بيانه " القيامة 19بيان مجمله وخصوصه وتقييده ومنسوخه بل المراد منه إظهاره وإشهاره وهو على وفق الظاهر لأن البيان هو الإظهار في اللغة ومنه يقال: بان لنا الكوكب الفلاني وبان لنا سور المدينة إذا ظهر ويقال بين فلان الأمر الفلاني إذا أظهره وعند ذلك فليس حمله على ما ذكر من بيان المراد من المجمل والعام والمطلق أولى مما ذكرناه. كيف وإن الترجيح لهذا المعنى من جهة أن المراد من قوله تعالى:" إن علينا جمعه وقرآنه " إنما هو جميع القرآن فإنه ليس اختصاص بعضه بذلك أولى من بعض وأيضا فإنه أمر النبي ﷺ بالاتباع بقوله:" فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " القيامة 18 والأمر بذلك غير خاص ببعض القرآن دون البعض إجماعاً ولأنه لا أولوية للبعض دون البعض ولأنه لو حمل ذلك على البعض دون البعض مع كونه غير معين في اللفظ كان مجملاً وتكليفاً له بما ليس بمعلوم له وهو خلاف الأصل.
وإذا ثبت أن المراد من قوله من أول الآية إنما هو جميع القرآن فالظاهر أن يكون الضمير في قوله تعالى:" ثم إن علينا بيانه " القيامة 19 عائد إلى جميع المذكور السابق وهو جملة القرآن لا إلى بعضه لعدم الأولوية. وإنما يمكن ذلك بحمل البيان على ما ذكرناه لا على ما ذكروه لاستحالة افتقار كل القرآن إلى البيان بالمعنى الذي ذكروه فإنه ليس كل القرآن مجملاً ولا ظاهراً في معنى وقد استعمل في غيره فكان ما ذكرناه أولى. وهذا إشكال مشكل وفي تحريره وتقريره على هذا الوجه يتبين للناظر المتبحر فيه إبطال كل ما يخبط به بعض المخبطين. وإن سلمنا أن المراد به إنما هو بيان المراد من الظاهر الذي استعمل في غير ما هو الظاهر منه لكن ما المانع أن يكون المراد به البيان التفصيلي كما قاله أبو الحسين البصري؟ فإن قيل: لا يمكن ذلك لأن لفظ البيان مطلق فحمله على البيان التفصيلي يكون تقييداً له وتقييد المطلق من غير دليل ممتنع. قلنا: وإذا كان مطلقاً فالمطلق لا يمكن حمله على جميع صوره وإلا كان عاماً لا مطلقاً بل غايته أنه إذا عمل به في صورة فقد وفى بالعمل بدلالته. وعند ذلك فلا يخفى أن تنزيل البيان في الآية على الإجمالي دون التفصيلي يكون تقييدا للمطلق وهو ممتنع من غير دليل وإن لم يقل بتنزيله عليه فلا حجة فيه. وإن سلمنا أن المراد به البيان الإجمالي والتفصيلي غير أنه قد تعذر العمل بظاهر ثم من حيث إنها تدل على وجوب تأخير بيان كل القرآن ضرورة عود الضمير إلى الكل على ما سبق وذلك خلاف الإجماع. وإذا تعذر العمل بظاهرها وجب العمل بها في مجازها وهو حملها على معنى الواو كما في قوله تعالى:" فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون " يونس 46 فإن ثم هاهنا بمعنى الواو ولاستحالة كون الرب شاهداً بعد أن لم يكن شاهداً. الحجة الثانية قوله تعالى:" الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت " هود 1 و ثم للتأخير. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن المراد من التفصيل بيان المراد من المجمل والظاهر والمستعمل في غير ما هو ظاهر فيه بل المراد من قوله: أحكمت أي في اللوح المحفوظ وفصلت في الإنزال. الحجة الثالثة قوله تعالى:" ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " طه 114 وأراد به بيانه للناس. ولقائل أن يقول: ظاهر ذلك للمنع من تعجيل نفس القرآن لا بيان ما هو المراد منه لما فيه من الإضمار المخالف للأصل وإنما منعه من تعجيل القرآن أي من تعجيل أدائه عقيب سماعه حتى لا يختلط عليه السماع بالأداء وإلا فلو أراد به البيان لما منعه عنه بالنهي للاتفاق على أن تعجيل البيان بعد الأداء غير منهي عنه. الحجة الرابعة: أنه تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة معينة غير منكرة بقوله تعالى:" إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " البقرة 67 ولم يعينها إلا بعد سؤالهم. ودليل كون المأمور به معيناً أمران الأول أنهم سألوا تعيينها بقولهم له:" ادع لنا ربك يبين لنا ما هي " البقرة 68 وما لونها ولو كانت منكرة لما احتيج إلى ذلك للخروج عن العهدة بأي بقرة كانت. الثاني أن قوله تعالى:" إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر " البقرة 68 و إنها بقرة صفراء و إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث " والضمير في هذه الكنايات يجب صرفه إلى ما أمروا به أولا. وبيانه من وجهين: الأول أنه لو لم يكن كذلك لكان تكليفاً بأمور مجددة غير ما أمروا به أولاً ولو كان كذلك لكان الواجب من تلك الصفات المذكورة آخراً دون ما ذكر أولا وهو خلاف الإجماع على أن المأمور به كان متصفاً بجميع الصفات المذكورة الثاني أنه لو لم يكن كذلك للزم منه أن لا يكون الجواب مطابقاً للسؤال وهو خلاف الأصل. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن البقرة المأمور بها كانت معينةً في نفس الأمر بل منكرة مطلقاً فلا تكون محتاجة إلى البيان لإمكان الخروج عن العهدة بذبح أي بقرة اتفقت ولا يكون ذلك من صور النزاع. قولهم إنهم سألوا عن تعيينها ولو أمروا بمنكر لما سألوا عن تعيينه قلنا ظاهر الأمر يدل على التنكير حيث قال:" إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ". والقول بالتعيين مخالف للتنكير المفهوم من اللفظ وليس الحمل على التعيين ضرورة تصحيح سؤالهم ومخالفة ظاهر النص أولى من العكس بل موافقة ظاهر لنص أولى.
قولكم في الوجه الثاني: إن الضمير في جميع الكنايات عائد إلى المأمور به أولاً لا نسلم ذلك. قولهم لو لم يكن كذلك لكان ذلك تكليفاً بأمور مجددة مسلم وما المانع منه؟ قولكم: لو كان كذلك لكان الواجب من تلك الصفات المذكورة آخراً دون ما ذكر أولا لا نسلم ذلك وما المانع أن يكون قد أوجب عليهم بعد السؤال الأول ذبح بقرة متصفة بالصفات المذكورة أولاً ثم أوجب بعد ذلك اعتبار الصفات المذكورة ثانياً ولا منافاة بين الحالتين. قولكم: لو كان كذلك لما كان الجواب مطابقاً للسؤال وهو خلاف الأصل فهو معارض بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لو ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجزأتهم لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم. وهذا يدل على أن ذلك كان ابتداء إيجاب لا بياناً لأن البيان ليس بتشديد بل تعيين ما هو الواجب ولا يخفى أن موافقة ظاهر النص الدال على تنكير البقرة وظاهر قول ابن عباس أولى من موافقة ما ذكروه من لزوم مطابقة الجواب للسؤال لما فيه من موافقة أصلين ومخالفة أصل واحد وما ذكروه بالعكس. ثم وإن سلمنا أن المأمور به كان بقرة معينة في نفس الأمر غير أنهم سألوا البيان الإجمالي أو التفصيلي؟ الأول ممنوع والثاني مسلم. ولا يلزم من جواز تأخير البيان التفصيلي تأخير البيان الإجمالي كما هو مذهب أبي الحسين البصري وليس تقييد سؤالهم بطلب البيان مع إطلاقه بالإجمالي أولى من التفصيلي ولا محيص عنه. وربما أورد على هذا الاحتجاج ما لا اتجاه له كقولهم: ما المانع أن يكون البيان مقارناً للمبين غير أنهم لم يتبينوا أن الأمر بالذبح كان ناجزاً وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع أما أولا فلأنه لو كان البيان حاصلاً لفهموه ظاهراً ولما سألوا عنه. وأما ثانياً فلأن الأمر بالذبح كان مطلقاً والأمر المطلق على التراخي عند صاحب هذه الحجة على ما سبق تقريره ولو كان على الفور فتأخير بيانه عنه أيضاً غير ممتنع على أصله لكونه قائلاً بجواز التكليف بما لا يطلق كما سبق تحقيقه. الحجة الخامسة: أنه لما نزل قوله تعالى:" إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " الأنبياء 98 قال عبد الله بن الزبعري: فقد عبدت الملائكة والمسيح أفتراهم يعذبون والنبي ﷺ لم ينكر عليه بل سكت إلى حين ما نزل بيان ذلك بعد حين وهو قوله: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " الأنبياء 101 وذلك يدل على جواز التأخير. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن الآية لم تكن بينة حتى أنها تحتاج إلى بيان فإن الملائكة والمسيح إنما يمكن القول بدخولهم في عموم الآية إذ لو كانت ما تتناول من يعلم ويعقل وهو غير مسلم وإذا لم تكن متناولة لهم فلا حاجة إلى إخراج ما لا دخول له في الآية عنها. فإن قيل: دليل تناول ما لمن يعلم ويعقل النص والإطلاق والمعنى. أما النص فقوله تعالى:" وما خلق الذكر والأنثى " الليل 3 وقوله تعالى:" والسماء وما بناها " الشمس 5 وقوله تعالى:" ولا أنتم عابدون ما أعبد " الكافرون 3 وأما الإطلاق فمن وجهين: الأول أن ما قد تطلق بمعنى الذي باتفاق أهل اللغة و الذي يصح إطلاقها على من يعقل بدليل قولهم الذي جاء زيد فما كذلك الثاني أنه يصح أن يقال ما في داري من العبيد أحرار. وأما المعنى فمن وجهين: الأول هو أن ابن الزبعرى كان من فصحاء العرب وقد فهم تناول ما لمن يعقل والنبي ﷺ لم ينكر عليه ذلك. الثاني أن ما لو كانت مختصة بمن لا يعلم لما احتيج إلى قوله:" من دون الله "وحيث كانت بعمومها متناولة لله تعالى احتاج إلى التقييد بقوله: من دون الله. قلنا: أما ما ذكروه من النصوص والإطلاقات فغايتها جواز إطلاق ما على من يعقل ويعلم ولا يلزم من ذلك أن تكون ظاهرة فيه بل هي ظاهرة فيمن لا يعقل. ودليل ذلك قول النبي ﷺ لابن الزبعري لما ذكر ما ذكر راداً عليه بقوله: ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن ما لما لا يعقل و من لمن يعقل. ولا يخفى أن الجمع بين الأمرين والتوفيق بين الأدلة أولى من تعطيل قول النبي ﷺ والعمل بما ذكروه وإذا كانت ما ظاهرةً في من لا يعقل دون من يعقل وجب تنزيلها على ما هي ظاهرة فيه.
وما ذكروه من الوجه الأول في المعنى فهو باطل بما ذكرناه من إنكار النبي ﷺ ولا يخفى أن اتباع قول النبي أولى من اتباع ما ظنه ابن الزبعري. وما ذكروه في الوجه الثاني من عدم الاحتياج إلى قوله: من دون الله إنما يصح أن لو لم يكن فيه فائدة وفائدته التأكيد وحمل الكلام على فائدة التأسيس وإن كان هو الأصل غير أنه يلزم من حمله على فائدة التأسيس مخالفة ظاهر قول النبي ﷺ والجمع أولى من التعطيل. وإن سلمنا أن ما حقيقةً في من يعقل غير أنا لا نسلم أن بيان التخصيص لم يكن مقارناً للآية وبيان المقارنة أن دليل العقل صالح للتخصيص على ما سبق. والعقل قد دل على امتناع تعذيب أحد بجرم صادر من غيره اللهم إلا أن يكون راضياً بجرم ذلك الغير واحد من العقلاء لم يخطر بباله رضا الملائكة والمسيح بعبادة من عبدهم و ما مثل هذا الدليل العقلي فلا نسلم عدم مقارنته للآية. وأما نزول قوله تعالى:" إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " الأنبياء 101 الآية فإنما ورد تأكيدا بضم الدليل الشرعي إلى الدليل العقلي مع الاستغناء عن أصله أما أن يكون هو المستقل بالبيان فلا. الحجة السادسة قول الملائكة لإبراهيم:" إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين " العنكبوت 31 ولم يبينوا إخراج لوط ومن معه من المؤمنين عن الهلاك بقولهم:" نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله " العنكبوت 32 إلا بعد سؤال إبراهيم وقوله: إن فيها لوطاً. ولقائل أن يقول: لا نسلم تأخر البيان عن هذه الآية بل هو مقترن بها ودليله قول الملائكة في تعليل الهلاك: إن أهلها كانوا ظالمين وذلك لا يدخل فيها إلا من كان ظالماً كيف وإنه لم يتخلل بين قول الملائكة غير سؤال إبراهيم وهو قوله:" إن فيها لوطاً " العنكبوت 32 وما مثل هذا لا يعد تأخيراً للبيان فإن مثل ذلك قد يجري إما بسبب انقطاع نفسه أو سعال فيما بين البيان والمبين ولا يعد ذلك من المبين تأخيراً. ومبادرة إبراهيم إلى السؤال ومنعهم من اقتران البيان بالمبين نازل منزلة انقطاع النفس والسعال حتى أنه لو لم يبادر بالسؤال لبادروا بالبيان. الحجة السابعة أن النبي ﷺ أنفذ معاذاً إلى اليمن ليعلمهم الزكاة وغيرها فسألوه عن الوقص فقال: ما سمعت فيه شيئاً من رسول الله ﷺ حتى أرجع إليه فاسأله وذلك دليل على أن بيانه لم يتقدم. ولقائل أن يقول كون معاذ لم يسمع البيان ولم يعرفه لا يدل على عدم مقارنة البيان للمبين كيف ويمكن أن يقال الأصل عدم وجوب الزكاة في الأوقاص وغيرها غير أن الشارع أوجب فيما أوجب وبقي الباقي على حكم العقل وذلك صالح للبيان والتخصيص. هذا ما يتعلق بالمنقول وأما الحجج العقلية فأولها أنه لو كان تأخير البيان ممتنعاً فإما أن يكون امتناعه لذاته أو لغيره وذلك إما أن يعرف بضرورة العقل أو نظره وكل واحد من الأمرين منتف فلا امتناع. ولقائل أن يقول: ولو كان جائزاً فإما أن يعرف بضرورة العقل أو نظره وكل واحد من الأمرين منتف فلا جواز وليس أحد الأمرين أولى من الآخر وكل ما هو جواب له هاهنا فهو جوابه فيما ذكر. الحجة الثانية: أنه لو امتنع تأخير البيان لامتنع تأخيره في الزمن القصير وامتنع عطف الجمل المتعددة إذا كان بيان الأولى متأخراً عن الجمل المعطوف عليها ولما جاز البيان بالكلام الطويل واللازم ممتنع. ولقائل أن يقول: إنما يجوز تأخير البيان في الزمان القصير إذا كان مع قصره لا يعد المتكلم معرضاً عن كلامه الأول فإن كلامه الثاني مع الأول معدود كالجملة الواحدة وذلك لا يعد تأخيراً للبيان. وهذا بخلاف ما إذا تطاول الزمان تطاولاً يعد به المتكلم بالكلام الأول معرضاً عن كلامه ولهذا فإنه يجوز لغةً وعرفاً أن يتكلم الإنسان بكلام يقصر فهم السامع عنه ويبينه بعد الزمان القصير من غير استهجان بخلاف ما إذا بينه بعد الزمان المتطاول فلا يلزم من التأخير ثم التأخير هاهنا وأما الجمل المعطوفة فنازلة منزلة الجملة الواحدة فالبيان المتعقب للجمل المعطوفة ينزله منزلة تعقبه للجملة الواحدة. وأما البيان بالكلام الطويل فإنما يجوزه الخصم إذا لم يكن حصول البيان إلا به أو كانت المصلحة فيه أتم من الكلام القصير وإلا فلا.
الحجة الثالثة: أنه لو قبح تأخير البيان لكان ذلك لعدم تبين المكلف وذلك يقتضي قبح الخطاب إذا بين له ولم يتبين فإنه لا فرق في ذلك بين ما امتنع بأمر يرجع إلى نفسه أو إلى غيره ولهذا يسقط تكليف الإنسان إذا مات سواء قتل هو نفسه أو قتله غيره واللازم ممتنع. ولقائل أن يقول: مسلم أن قبح تأخير البيان لما فيه من فقد التبين المنسوب إلى المخاطب ولا يلزم من ذلك قبحه عند عدم تبين المكلف إذا بين له لكونه منسوباً إلى تقصير المكلف لا إلى المخاطب وسقوط التكليف عن الميت إنما كان لعدم تمكنه المشروط في التكليف وذلك لا يفترق بأن يكون قد فات بفعله أو بفعل غيره. والمختار في ذلك: أما من جهة النقل فقوله تعالى:" واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " الأنفال 41 إلى قوله:" ولذي القربى " الأنفال 41 ثم بين بعد ذلك أن السلب للقاتل وأن المراد بذوي القربى بنو هاشم وبنو المطلب دون بني أمية وبني نوفل بمنعه لهم من ذلك حتى أنه لما سئل عن ذلك قال إنا وبنو هاشم والمطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام ولم نزل هكذا وشبك بين أصابعه. فإن قيل: المتأخر إنما هو البيان المفصل ونحن لا نمنع من ذلك وإنما نمنع من تأخير البيان المجمل ولا دلالة لما ذكرتموه على تأخيره. قلنا: إذا سلم عدم اقتران البيان التفصيلي بهذه الآية فهو حجة على من نازع فيه وهي حجة على من نازع في تأخير البيان الإجمالي حيث إنها ظاهرة في العموم لكل ذوي القربى ولم ينقل أحد من أهل النقل وأرباب الأخبار ما يشير إلى البيان الإجمالي أيضا مع أن الأصل عدمه ولو كان لما أهمل نقله غالباً وأيضاً ما روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي ﷺ اقرأ قال: وما أقرأ؟ كرر عليه ذلك ثلاث مرات ثم قال له:" اقرأ باسم ربك الذي خلق " العلق 1 أخر بيان ما أمره به أولاً من إجماله إلى ما بعد ثلاث مرات من أمر جبريل وسؤال النبي مع إمكان بيانه أولاً وذلك دليل جواز التأخير. فإن قيل: أمره له بالقراءة مطلق وذلك إما أن يكون مقتضاه الوجوب على الفور أو التراخي: فإن كان الأول فقد أخر البيان عن وقت الحاجة وإن كان الثاني فلا شك في إفادته جواز الفعل في الزمن الثاني من وقت الأمر وتأخير البيان عنه تأخير له عن وقت الحاجة وذلك ممتنع بالإجماع. فترك الظاهر لازم لنا ولكم والخلاف إنما وقع في تأخير البيان إلى وقت الحاجة وليس فيما ذكرتموه دلالة عليه. قلنا: أما أن الأمر ليس مقتضاه الوجوب على الفور فقد تقدم وإذا كان على التراخي فلا نسلم لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة. قولكم إنه يفيد جواز الفعل في الزمان الثاني من وقت الأمر قلنا: متى إذا كان الفعل المأمور به مبينا أو إذا لم يكن مبيناً؟ الأول مسلم والثاني ممنوع. وإن سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن الحاجة داعية إلى معرفته مع قطع النظر عن وجوبه وعدم المؤاخذة بتركه بدليل ما قبل الأمر. وأيضاً فإنه لما نزل قوله تعالى:" أقيموا الصلاة " مع أنه لم يرد بها مطلق الدعاء إجماعا لم يتقرن بها البيان بل أخر بيان أفعال الصلاة وأوقاتها إلى أن بين ذلك جبريل للنبي ﷺ بعد ذلك وبين النبي ﷺ ذلك لغيره بعد بيان جبريل له. وكذلك نزل قوله تعالى:" وآتوا الزكاة " البقرة 110 مطلقاً ثم بين النبي ﷺ بعد ذلك مقدار الواجب وصفته في النقود والمواشي وغيرها من أموال الزكاة شيئاً فشيئاً. وكذلك نزل قوله تعالى:" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " المائدة 32 ثم بين بعد ذلك ما يجب القطع بسرقته في مقداره وصفته على التدريج وكذلك نزل قوله تعالى:" وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم " التوبة 41 ثم نزل تخصيصه بقوله تعالى :" ليس على الضعفاء ولا على المرضى " إلى غير ذلك من الأوامر العامة التي لم تبين تفاصيلها إلا بعد مدد. فإن قيل: المؤخر في جميع هذه الأوامر إنما هو البيان التفصيلي وليس فيها ما يدل على تأخير البيان الإجمالي كيف وإن الأمر إما أن يكون على الفور أو التراخي وتمام الإشكال ما سبق.
قلنا: وجواب الإشكالين أيضاً ما سبق وأيضاً فإن العمومات الواردة في البيع والنكاح والإرث وردت مطلقة والنبي ﷺ بين بعد ذلك على التدريج ما يصح بيعه وما لا يصح ومن يحل نكاحها ومن لا يحل وصفات العقود وشروطها ومن يرث ومن لا يرث ومقادير المواريث شيئاً فشيئاً. ومن نظر في جميع عمومات القرآن والسنة وجدها كذلك وأيضاً فإنه لما نهى النبي ﷺ عن المزابنة وشكا الأنصار إليه بعد ذلك رخص لهم في العرايا وهي نوع من المزابنة مع أنه لم ينقل أنه اقترن بنهيه عن ذلك بيان مجمل ولا مفصل وهو لا يخلو إما أن يكون ذلك نسخاً أو تخصيصاً: وعلى كلا التقديرين فهو حجة على المخالف فيه. وأما من جهة المعقول فهو أنه لو امتنع تأخير البيان لم يخل إما أن يكون ذلك ممتنعاً لذاته أو لأمر من خارج لا جائز أن يكون لذاته فإنا لو فرضناه واقعاً لا يلزم عنه المحال لذاته. وإن كان لأمر خارج فلا يخفى أنه لا فارق بين حالة وجود البيان وعدمه سوى علم المكلف بالمراد من الكلام حالة وجود البيان وجهله به حالة عدمه. فلو امتنع تأخير البيان لكان لما قارنه من جهل المكلف بالمراد ولو كان كذلك لامتنع تأخير بيان النسخ لما فيه من الجهل بمراد الكلام الدال بوضعه على تكرر الفعل على الدوام واللازم ممتنع فالملزوم ممتنع. وهذه الطريقة لازمة على كل من منع من تأخير بيان المجمل والعام والمقيد وكل ما أريد به غير ما هو ظاهر فيه وجوزه في النسخ كالجبائي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار وغيرهم. اعترض القاضي عبد الجبار وقال الفرق بين تأخير بيان النسخ وتأخير بيان المجمل هو أن تأخير بيان النسخ مما لا يخل بالتمكن من الفعل في وقته بخلاف تأخير بيان صفة العبادة فإنه لا يتأتى معه فعل العبادة في وقتها للجهل بصفتها والفرق بين تأخير بيان تخصيص العموم وتأخير بيان النسخ من وجهين. الأول: أن الخطاب المطلق الذي أريد نسخه معلوم أن حكمه مرتفع لعلمنا بانقطاع التكليف ولا كذلك المخصوص. الثاني: أن تأخير بيان تخصيص العموم مع تجويز إخراج بعض الأشخاص منه من غير تعيين مما يوجب الشك في كل واحد من أشخاص المكلفين هل هو مراد بالخطاب أم لا ولا كذلك في تأخير بيان النسخ. وجواب الفرق بين الإجمال والنسخ أن وقت العبادة إنما هو وقت دعو الحاجة إليها لا قبل ذلك ووقت الحاجة إليها فالبيان لا يكون متأخراً عنه فلا يلزم من تأخير بيان صفة العبادة عنها في غير وقتها ووجوده في وقتها تعذر الإتيان بالعبادة في وقتها. وجواب الفرق الأول بين العموم والنسخ هو أن حكم الخطاب المطلق وإن علم ارتفاعه بانقطاع التكليف فذلك مما يعم التخصيص والنسخ لعلمنا بانقطاع التكليف بالموت في الحالتين. وإنما الخلاف فيما قبل حالة الموت مع وجود الدليل الظاهر المتناول لكل الأشخاص واللفظ الظاهر المتناول لجميع أوقات الحياة. وعند ذلك إذا جاز رفع حكم الخطاب الظاهر المتناول لجميع الأوقات مع فرض الحياة والتمكن منه من غير دليل مبين في الحال جاز تخصيص بعض من تناوله اللفظ بظهوره مع التمكن من غير دليل مبين في الحال أيضاً لتعذر الفرق بين الحالتين. وجواب الفرق الثاني أن تأخير بيان التخصيص وإن أوجب التردد في كل واحد من أشخاص المكلفين أنه داخل تحت الخطاب أم لا فتأخير بيان النسخ عندما إذا أمر بعبادة متكررة في كل يوم مما يوجب التردد في أن العبادة في كل يوم عدا اليوم الأول هل هي داخلة تحت الخطاب العام لجميع الأيام أم لا. وإذا جاز ذلك في أحد الطرفين جاز في الطرف الآخر ضرورة تعذر الفرق وكذلك أيضاً فإنه إذا أمر بعبادة في وقت مستقبل أمراً عاماً فإن من شخص إلا ويحتمل احترامه قبل دخول ذلك الوقت ويخرج بذلك عن دخوله تحت الخطاب العام. وذلك مما يوجب التردد في كل واحد واحد من الأشخاص هل هو داخل تحت ذلك الخطاب إذا لم يرده البيان به ومع ذلك فإنه غير ممتنع إجماعاً. شبه المخالفين منها ما يختص بتأخير بيان المجمل ومنها ما يختص بتأخير بيان ماله ظاهر أريد به غير ما هو ظاهر فيه. أما الشبه الخاصة بالمجمل فشبهتان: الأولى: أنه لا فرق بين الخطاب باللفظ المجمل الذي لا يعرف له مدلول من غير بيان وبين الخطاب بلغة يضعها المخاطب مع نفسه من غير بيان وعند ذلك فإما أن يقال بحسن المخاطبة بهما أو بأحدهما دون الآخر أو لا بواحد منهما:الأول يلزم منه حسن المخاطبة بما وضعه مع نفسه من غير بيان وهو في غاية الجهالة والثاني أيضاً ممتنع لعدم الأولوية والثالث هو المطلوب. الشبهة الثانية: أن المقصود من الخطاب إنما هو التفاهم والمجمل الذي لا يعرف مدلوله من غير بيان له في الحال لا يحصل منه التفاهم فلا يكون مفيداً وما لا فائدة فيه لا تحسن المخاطبة به لكونه لغواً وهو قبيح من الشارع كما لو خاطب بكلمات مهملة لم توضع في لغة من اللغات لمعنى على أن يبين المراد منها بعد ذلك. وأما الشبه الخاصة بما استعمل من الظواهر في غير ما هو ظاهر فيه فثلاث شبه: الأولى إنه إن جاز الخطاب بمثل ذلك من غير بيان له في الحال فإما أن يقال بجواز تأخير بيانه إلى مدة معينة فهو تحكم لم يقل به قائل. وإن كان ذلك إلى غير نهاية فيلزم منه بقاء المكلف عاملاً أبدا بعموم قد أريد به الخصوص وهو في غاية التجهيل. الثانية: أنه إذا خاطب الشارع بما يريد به غير ظاهره فإما أن لا يكون مخاطباً لنا في الحال أو يكون مخاطباً لنا به حالاً: الأول خلاف الإجماع وإن كان الثاني فلا بد وأن يكون قاصداً لتفهيمنا بخطابه حالاً وإلا خرج عن كونه مخاطباً لنا حالا وهو خلاف الفرض وبيان لزوم ذلك أن المعقول من قول القائل: خاطب فلان فلاناً أنه قصد تفهيمه بكلامه له. وإذا كان قاصداً للتفهيم في الحال فإن قصد تفهيم ما هو الظاهر من كلامه فقد قصد تجهيلنا وهو قبيح وإن قصد تفهيم ما هو المراد منه فقد قصد ما لا سبيل لنا إليه دون البيان وهو أيضاً قبيح. الثالثة: أنه لو جاز أن يخاطبنا بالعموم ويريد به الخصوص من غير بيان له في الحال لتعذر معرفة المراد من كلامه مطلقاً وذلك لأن ما من لفظ يبين به المراد إلا ويجوز أن يكون قد أراد به غير ما هو الظاهر منه ولم يبينه لنا وذلك مما يخل بمقصود الخطاب مطلقاً وهو ممتنع. والجواب عن الشبهة الأولى بالفرق وهو أن اللفظ المجمل وإن لم يعلم منه المراد بعينه فقد علم المكلف أنه مخاطب بأحد مدلولاته المعينة المفهومة له وبذلك يتحقق اعتقاده للوجوب والعزم على الفعل بتقدير البيان والتعيين فكان مفيداً بخلاف الخطاب بما لا يفهم منه شيء أصلاً كما فرضوه. وبهذا يكون جواب الشبهة الثانية. وعن الشبهة الثالثة: أن تأخير البيان إنما يجوز إلى الوقت الذي تدعو الحاجة فيه إلى البيان وذلك لا يكون إلا معيناً في علم الله تعالى: ويجوز أن يكون معلوماً للرسول بإعلام الله تعالى له وعند ذلك فأي وقت وجب على المكلف العمل بمدلول اللفظ فيه فذلك هو وقت الحاجة إلى البيان والبيان لا يكون إذ ذاك متأخراً لما فيه من تأخير البيان عن وقت الحاجة وقبل وقت الوجوب فلا عمل للمكلف حتى يقال بأنه عامل بعموم أريد به الخصوص بل غايته أنه يعتقد ذلك ولا امتناع فيه كما لو أمر بعبادة متكررة كل يوم فإنه لا يمتنع اعتقاده لعموم ذلك في جميع الأيام مع جواز نسخها في المستقبل وإن لم يرد بذلك بيان وكل ما يعتذر به في النسخ فهو عذر لنا هاهنا. وعن الشبهة الرابعة من وجهين: الأول: أنه وإن لزم من كونه مخاطباً لنا أن يكون قاصداً لتفهيمنا في الحال لكن لا لنفس ما هو الظاهر من كلامه فقط ولا لنفس مراده من كلامه فقط بل يفهم ما هو الظاهر من كلامه مع تجويز تخصيصه وليس في ذلك تجهيل ولا إحالة وذلك مما لا يمنع ورود المخصص بعد ذلك وإلا لما كان مجوز التخصيص وهو خلاف الفرض. الثاني: أنه يلزم على ما ذكروه الخطاب بما علم الله أنه سينسخه فإن جميع ما ذكر من الأقسام بعينها متحققة فيه ومع ذلك جاز الخطاب به مع تأخير بيانه. وعن الخامسة من وجهين: الأول: أنه لا يمتنع أن يكون البيان: إما بدليل قاطع لا يسوغ فيه احتمال التأويل أو ظني اقترن به من القرائن ما أوجب العلم بمدلول كلامه. الثاني: أنه يلزم على ما ذكروه الخطاب الوارد الذي علم الله نسخ حكمه مع تأخير البيان عنه والجواب يكون متحداً. المسألة الخامسة اختلفوا في جواز تأخير ما أوحى به إلى النبي )ص( الذين منعوا من تأخير بيان المراد من الخطاب عن وقت الخطاب اختلفوا في جواز تأخير تبليغ ما أوحى به إلى النبي ﷺ من الأحكام والعبادات إلى وقت الحاجة إليه وأكثر المحققين على جوازه وهو الحق لأنه لو امتنع لم يخل: إما أن يمتنع لذاته أو لمعنى من خارج: الأول محال فإنه لا يلزمه من فرض وقوعه لذاته محال وإن كان ذلك لأمر من خارج فالأصل عدمه كيف وإن تأخيره يحتمل أن يكون فيه مصلحة في علم الله تقتضى التأخير. ولهذا لو صرح الشارع بذلك لما كان ممتنعاً ويحتمل أن يكون فيه مفسدة مانعة من التأخير وليس أحد الأمرين أولى من الآخر. فإن قيل: الامتناع من التأخير إنما هو لمعنى خارج عن ذاته وهو قوله تعالى:" يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك " المائدة 67 وظاهر الأمر للوجوب. قولكم: يحتمل وجود مفسدة في التقديم ومصلحة في التأخير وليس أحد الأمرين أولى من الآخر قلنا: فهذا كما لا يمكن معه الجزم بامتناع التأخير فلا يمكن معه الجزم بجواز التأخير الذي هو مذهبكم. وجواب الأول: أنا وإن سلمنا أن قوله تعالى: بلغ أمر ولكن لا نسلم أنه للوجوب وإن سلمنا أنه للوجوب ولكن لا نسلم أن مطلق الأمر يقتضي الفور على ما تقدم تقريره. وإن سلمنا أنه على الفور غير أنا لا نسلم أنه يتناول تبليغ الأحكام التي وقع الخلاف فيها وإنما هو دال على تبليغ ما أنزل من لفظ القرآن إذ هو المفهوم من لفظ المنزل. وجواب الثاني أنه إذا وقع التردد بين المصلحة والمفسدة تساقطاً وبقينا على أصل الجواز العقلي. المسألة السادسة الذين اتفقوا على امتناع تأخير البيان إلى وقت الحاجة اختلفوا في جواز إسماع الله للمكلف العام دون إسماعه للدليل المخصص له. فذهب الجبائي وأبو الهذيل إلى امتناع ذلك في الدليل المخصص السمعي وأجازا أن يسمعه العام المخصص بدليل العقل وإن لم يعلم السامع دلالته على التخصيص وذهب أبو هاشم والنظام وأبو الحسين البصري إلى جواز إسماع العام من لم يعرف الدليل المخصص له وسواء كان المخصص سمعياً أو عقلياً وهو الحق لوجهين: الأول: إنا قد بينا جواز تأخير المخصص عن الخطاب إذا كان سمعياً مع أن عدم سماعه لعدمه في نفسه أتم من عدم سماعه مع وجوده في نفسه فإذا جاز تأخير المخصص فجواز تأخير إسماعه مع وجوده أولى. الثاني: هو أن وقوع ذلك يدل على جوازه ودليله إسماع فاطمة قوله تعالى:" يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " النساء 11 مع أنها لم تسمع بقوله:" نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة "إلا بعد حين. وكذلك أسمعت الصحابة قوله تعالى:" اقتلوا المشركين " التوبة 5 ولم يسمع أكثرهم الدليل المخصص للمجوس وهو قوله ﷺ:" سنوا بهم سنة أهل الكتاب "إلا بعد حين إلى وقائع كثيرة غير محصورة. وكل ما يتشبث به الخصوم في المنع من ذلك فغير خارج عما ذكرناه لهم من الشبه في المسألة المتقدمة وجوابها ما سبق مع أنه منتقض بجواز إسماعه العام مع عدم معرفته بالدليل المخصص إذا كان عقلياً. المسألة السابعة اختلفوا في جواز التدريج في البيان اختلف المجوزون لتأخير البيان عن وقت الخطاب العام في جواز التدريج في البيان: فمنع منه قوم مصيراً منهم إلى أن تخصيص البعض بالتنصيص على إخراجه دون غيره يوهم وجوب استعمال اللفظ في الباقي وامتناع التخصيص بشيء آخر وهو تجهيل للمكلف وإنما ينتفي هذا التجهيل بالتنصيص على كل ما هو خارج عن العموم. ومذهب المحققين منهم خلاف ذلك ودليل جوازه وقوعه وبيان وقوعه قوله تعالى:" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " المائدة 38 فإنه عام في كل سارق. ومع ذلك فإن تخصيصه بما خصص به من ذكر نصاب السرقة أولاً وعدم الشبهة ثانياً وقع على التدريج وكذلك قوله تعالى:" ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " آل عمران 97 خصص أولاً بتفسير الاستطاعة بذكر الزاد والراحلة ثم بذكر الأمن في الطريق والسلامة من طلب الخفارة ثانياً. وكذلك قوله تعالى:" اقتلوا المشركين " أخرج منه أهل الذمة أولاً ثم العسيف والمرأة ثانياً وكذلك آية الميراث أخرج منها ميراث النبي ﷺ والقاتل والكافر وكل ذلك على التدريج إلى غير ذلك من العمومات المخصصة ولولا جوازه لما وقع.
والقول بأن تخصيص البعض بالذكر يوهم نفي تخصيصه بشيء آخر ليس كذلك فإن الاقتصار على الخطاب العام دون ذكر المخصص مع كونه ظاهراً في التعميم بلفظه إذا لم يوهم المنع من التخصيص فإخراج بعض ما تناوله اللفظ عنه مع أنه لا دلالة له على إثبات غير ذلك البعض بلفظه أولى أن لا يكون موهماً لمنع التخصيص. المسألة الثامنة إذا ورد لفظ عام بعبادة أو غيرها قبل دخول وقت العمل به يجب اعتقاد عمومه إذا ورد لفظ عام بعبادة أو بغيرها قبل دخول وقت العمل به قال أبو بكر الصيرفي: يجب اعتقاد عمومه جزماً قبل ظهور المخصص وإذا ظهر المخصص تغير ذلك الاعتقاد وهو خطأ: فإن احتمال إرادة الخصوص به قائم ولهذا لو ظهر المخصص لما كان ذلك ممتنعاً ووجب اعتقاد الخصوص. وما هذا شأنه فاعتقاد عمومه جزماً قبل الاستقصاء في البحث عن مخصصه وعدم الظفر به على وجه تركن النفس إلى عدمه يكون ممتنعاً فإذا لا بد في الجزم باعتقاد عمومه من اعتقاد انتفاء مخصصه بطريقه ومع ذلك لا نعرف خلافاً بين الأصوليين في امتناع العمل بموجب اللفظ العام قبل البحث عن المخصص وعدم الظفر به لكن اختلفوا: فذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين إلى امتناع العمل به واعتقاد عمومه إلا بعد القطع بانتفاء المخصص وإلا فالجزم بعمومه والعمل به مع احتمال وجود المعارض ممتنع. قال: ومعرفة انتفاء المخصص بطريق القطع ممكن وذلك بأن تكون المسألة المتمسك بالعموم فيها مما كثر الخلاف فيها بين العلماء وطال النزاع فيما بينهم فيها ولم يطلع أحد منهم على موجب للتخصيص مع كثرة بحثهم واستقصائهم. ولو كان ثم شيء لاستحال أن لا يعرف عادةً ولأنه لو كان المراد بالعموم الخصوص لاستحال أن لا ينصب الله تعالى عليه دليلاً ويبلغه للمكلفين. وذهب ابن سريج وإمام الحرمين والغزالي وأكثر الأصوليين إلى امتناع اشتراط القطع في ذلك وهو المختار وذلك لأنه لا طريق إلى معرفة ذلك بغير البحث والسبر وهو غير يقيني والقول بأنه لو كان ثم مخصص لاطلع عليه العلماء غير يقيني لجواز وجوده مع عدم اطلاع أحد من العلماء عليه. وبتقدير اطلاع بعضهم عليه فنقله له أيضاً غير قاطع بل غايته أن يكون ظنياً كيف وإنه ليس كل ما ورد فيه العام مما كثر خوض العلماء فيه وبحثهم عنه ليصح ما قيل. والقول بأنه لو كان المراد بالعام الخصوص لنصب الله تعالى عليه دليلاً غير مسلم وبتقدير نصبه للدليل لا نسلم لزوم اطلاع المكلفين عليه. وبتقدير ذلك لا نسلم لزوم نقلهم له وإذا لم يكن إلى القطع بذلك طريق فلو شرط ذلك في العمل بالعموم لتعطلت العمومات بأسرها وإذا عرف أنه لا بد من الظن بانتفاء المخصص فالحد الذي يجب العمل بالعموم عنده أن يبحث عن المخصص بحثاً غلب على ظنه عدمه وأنه لو بحث عنه ثانياً وثالثاً كان بحثه غير مفيد وعلى هذا يكون الكلام في العمل بكل دليل مع معارضه. الصنف التاسع في الظاهر وتأويله ويشتمل على مقدمة ومسائل: أما المقدمة ففي تحقيق معنى الظاهر والتأويل. أما الظاهر فهو في اللغة عبارة عن الواضح ومنه يقال: ظهر الأمر الفلاني إذا اتضح وانكشف وفي لسان المتشرعة قال الغزالي: اللفظ الظاهر هو الذي يغلب على الظن فهم معنىً منه من غير قطع وهو غير جامع مع اشتماله على زيادة مستغنى عنها. أما أنه غير جامع فلأنه يخرج منه ما فيه أصل الظن دون غلبة الظن مع كونه ظاهراً ولهذا يفرق بين قول القائل: ظن وغلبة ظن ولأن غلبة الظن ما فيه أصل الظن وزيادة. وأما اشتماله على الزيادة المستغنى عنها فهي قوله: من غير قطع فإن من ضرورة كونه مفيداً للظن أن لا يكون قطعياً. والحق في ذلك أن يقال: اللفظ الظاهر ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي ويحتمل غيره احتمالاً مرجوحاً. وإنما قلنا ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي احترازاً عن دلالته على المعنى الثاني إذا لم يصر عرفياً كلفظ الأسد في الإنسان وغيره. وقولنا ويحتمل غيره احتراز عن القاطع الذي لا يحتمل التأويل وقولنا احتمالاً مرجوحاً احتراز عن الألفاظ المشتركة. وهو منقسم إلى ما هو ظاهر بحكم الوضع الأصلي كإطلاق لفظ الأسد بإزاء الحيوان المخصوص وإلى ما هو ظاهر بحكم عرف الاستعمال كإطلاق لفظ الغائط بإزاء الخارج المخصوص من الإنسان.
وأما التأويل ففي اللغة مأخوذ من آل يؤول أي رجع ومنه قوله تعالى:" ابتغاء تأويله " آل عمران 7 أي ما يؤول إليه ومنه يقال: تأول فلان الآية الفلانية أي نظر إلى ما يؤول إليه معناها. وأما في اصطلاح المتشرعة قال الغزالي: التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر وهو غير صحيح: أما أولاً فلأن التأويل ليس هو نفس الاحتمال الذي حمل اللفظ عليه بل هو نفس حمل اللفظ عليه وفرق بين الأمرين وأما ثانياً فلأنه غير جامع فإنه يخرج منه التأويل بصرف اللفظ عما هو ظاهر فيه إلى غيره بدليل قاطع غير ظني حيث قال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر وأما ثالثاً فلأنه أخذ في حد التأويل من حيث هو تأويل وهو أعم من التأويل بدليل ولهذا يقال: تأويل بدليل وتأويل من غير دليل. فتعريف التأويل على وجه يوجد معه الاعتضاد بالدليل لا يكون تعريفاً للتأويل المطلق اللهم إلا أن يقال: إنما أراد تعريف التأويل الصحيح دون غيره. والحق في ذلك أن يقال أما التأويل من حيث هو تأويل مع قطع النظر عن الصحة والبطلان هو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له. وأما التأويل المقبول الصحيح فهو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له بدليل يعضده. وإنما قلنا حمل اللفظ على غير مدلوله احترازاً عن حمله على نفس مدلوله وقولنا الظاهر منه احتراز عن صرف اللفظ المشترك من أحد مدلوليه إلى الآخر فإنه لا يسمى تأويلاً. وقولنا مع احتماله له احتراز عما إذا صرف اللفظ عن مدلوله الظاهر إلى ما لا يحتمله أصلاً فإنه لا يكون تأويلاً صحيحاً. وقولنا بدليل يعضده احتراز عن التأويل من غير دليل فإنه لا يكون تأويلاً صحيحاً أيضاً وقولنا بدليل يعم القاطع والظني وعلى هذا فالتأويل لا يتطرق إلى النص ولا إلى المجمل وإنما يتطرق إلى ما كان ظاهراً لا غير. وإذا عرف معنى التأويل فهو مقبول معمول به إذا تحقق بشروطه ولم يزل علماء الأمصار في كل عصر من عهد الصحابة إلى زمننا عاملين به من غير نكير. وشروطه أن يكون الناظر المتأول أهلاً لذلك وأن يكون اللفظ قابلاً للأقاويل بأن يكون اللفظ ظاهراً فيما صرف عنه محتملاً لما صرف إليه وأن يكون الدليل الصارف للفظ عن مدلوله الظاهر راجحاً على ظهور اللفظ في مدلوله ليتحقق صرفه عنه إلى غيره. وإلا فبتقدير أن يكون مرجوحاً لا يكون صارفاً ولا معمولاً به اتفاقاً وإن كان مساوياً لظهور اللفظ في الدلالة من غير ترجيح فغايته إيجاب التردد بين الاحتمالين على السوية ولا يكون ذلك تأويلا غير أنه يكتفى بذلك من المعترض إذا كان قصده إيقاف دلالة المستدل ولا يكتفى به من المتسدل دون ظهوره وعلى حسب قوة الظهور وضعفه وتوسطه يجب أن يكون التأويل وتمام كشف ذلك بمسائل ثمان: المسألة الأولى قوله ﷺ لغيلان وقد أسلم علىعشر نسوة " أمسك أربعاً وفارق سائرهن " وقوله لفيروز الديلمي وقد أسلم على أختين "أمسك أيتهما شئت وفارق الأخرى "أمر بالإمساك وهو ظاهر في استصحاب النكاح وقد تأوله أصحاب أبي حنيفة بثلاث تأويلات: الأول أنهم قالوا: يحتمل أنه أراد بالإمساك ابتداء النكاح ويكون معنى قوله "أمسك أربعاً "أي انكح منهن أربعاً وأراد بقوله وفارق سائرهن لا تنكحهن. الثاني أنهم قالوا: يحتمل أن النكاح في الصورتين كان واقعاً في ابتداء الإسلام قبل حصر عدد النساء في أربع وتحريم نكاح الأختين فكان ذلك واقعاً على وجه الصحة والباطل من أنكحة الكفار ليس إلا ما كان مخالفا لما ورد به الشرع حال وقوعها. الثالث أنهم قالوا: يحتمل أنه أمر الزوج باختيار أوائل النساء وهذه التأويلات وإن كانت منقدحة عقلاً غير أن ما اقترن بلفظ الإمساك من القرائن دارئة لها. أما التأويل الأول فمن وجوه: الأول أن المتبادر إلى الفهم من لفظ الإمساك إنما هو الاستدامة دون التجديد الثاني أنه فوض الإمساك والفراق إلى خيرة الزوج وهما غير واقعين بخيرته عندهم لوقوع الفراق بنفس الإسلام وتوقف النكاح على رضا الزوجة.
الثالث أنه لم يذكر شروط النكاح مع دعو الحاجة إلى معرفة ذلك لقرب عهدهم بالإسلام الرابع أنه أمر الزوج بإمساك أربع من العشر وواحدة من الأختين وبمفارقة الباقي والأمر إما للوجوب أو الندب ظاهراً على ما تقدم وحصر التزويج في العشرة وفي الأختين ليس واجباً ولا مندوباً والمفارقة ليست من فعل الزوج حتى يكون الأمر متعلقاً بها. الخامس هو أن الظاهر من الزوج المأمور إنما هو امتثال أمر النبي ﷺ بالإمساك ولم ينقل أحد من الرواة تجديد النكاح في الصور المذكورة. السادس هو أن الزوج إنما سأل عن الإمساك بمنى الاستدامة لا بمعنى تجديد النكاح وعن الفراق بمعنى انقطاع النكاح والأصل في جواب الرسول ﷺ أن يكون مطابقاً للسؤال. وأما التأويل الثاني: فبعيد أيضاً لأنه لو لم يكن الحصر ثابتاً في ابتداء الإسلام لما خلا ابتداء الإسلام عن الزيادة على الأربع عادةً وعن الجمع بين الأختين ولم ينقل عن أحد من الصحابة ذلك في ابتداء الإسلام ولو وقع لنقل. وقوله تعالى:" وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " النساء 23 قال أهل التفسير: المراد به ما سلف في الجاهلية قبل بعثة النبي ﷺ ولهذا قال إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً. وأما التأويل الثالث: فيدرؤه قوله ﷺ لزوج الأختين أمسك أيتهما شئت وفارق الأخرى وقوله لواحد كان قد أسلم على خمس نسوة إختر منهن أربعاً وفارق واحدة قال المأمور بذلك فعمدت إلى أقدمهن عندي ففارقتها. المسألة الثانية ومن جملة التأويلات البعيدة ما يقوله أصحاب أبي حنيفة في قوله ﷺ:" في أربعين شاةً شاة " من أن المراد به مقدار قيمة الشاة وذلك لأن قوله:" في أربعين شاةً شاة " قوي الظهور في وجوب الشاة عيناً حيث إنه خصصها بالذكر ولا بد في ذلك من إضمار حكم وهو إما الندب أو الوجوب وإضمار الندب ممتنع لعدم اختصاص الشاة الواحدة من النصاب به فلم يبق غير الواجب. ولا يخفى أنه يلزم من تأويل ذلك بالحمل على وجوب مقدار قيمة الشاة بناء على أن المقصود إنما هو دفع حاجات الفقراء وسد خلاتهم جواز دفع القيمة وفيه رفع الحكم وهو وجوب الشاة بما استنبط منه من العلة وهي دفع حاجات الفقراء واستنباط العلة من الحكم إذا كانت موجبةً لرفعه كانت باطلةً. ومما يلتحق من التأويلات بهذا التأويل ما يقوله بعض الناس في قوله تعالى:" إنما الصدقات للفقراء والمساكين " التوبة 60 الآية من جواز الاقتصار على البعض نظراً إلى أن المقصود من الآية إنما هو دفع الحاجة في جهة من الجهات المذكورة لا دفع الحاجة عن الكل لأن الآية ظاهرة في استحقاق جميع الأصناف المذكورة للصدقة حيث إنه أضافها إليهم بلام التمليك في عطف البعض على البعض بواو التشريك وما استنبط من هذا الحكم من العلة يكون رافعاً لحكم المستنبط منه فلا يكون صحيحاً. وما يقال من أن مقصود الآية إنما هو بيان مصارف الزكاة وشروط الاستحقاق فنحن وإن سلمنا كون ذلك مقصوداً من الآية فلا نسلم أنه لا مقصود منها سواه ولا منافاة بين كون ذلك مقصوداً وكون الاستحقاق بصفة التشريك مقصوداً وهو الأولى موافقة لظاهر الإضافة بلام التمليك والعطف بواو التشريك. ويقرب من هذا التأويل أيضاً ما يقوله أصحاب أبي حنيفة في قوله تعالى:" فإطعام ستين مسكيناً " من أن المراد به إطعام طعام ستين مسكيناً مصيراً منهم إلى أن المقصود إنما هو دفع الحاجة ولا فرق في ذلك بين دفع حاجة ستين مسكينا ودفع حاجة مسكين واحد في ستين يوماً وهو بعيد أيضاً وذلك لأن قوله تعالى:" فإطعام " فعل لا بد له من مفعول يتعدى إليه. وقوله:" ستين مسكيناً " صالح أن يكون مفعول الإطعام وهو مما يمكن الاستغناء به مع ظهوره والطعام وإن كان صالحاً أن يكون هو مفعول الإطعام إلا أنه غير ظاهر ومسكوت عنه فتقدير حذف المظهر وإظهار المفعول المسكوت عنه بعيد في اللغة والواجب عكسه. وإذا كان ذلك ظاهراً في وجوب رعاية العدد دفعاً لحاجة ستين مسكيناً نظراً للمكفر بما يناله من دعائهم له واغتنامه لبركتهم وقلما يخلو جمع من المسلمين عن ولي من أولياء الله تعالى يكون مستجاب الدعوة مغتنم الهمة وذلك في الواحد المعين مما يندر. المسألة الثالثة قوله ﷺ:" أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل " صدر الكلام بأي وما في معرض الشرط والجزاء وذلك من أبلغ أدوات العموم عند القائلين به وأكده بالبطلان مرةً بعد مرة ثلاث مرات وهو من أبلغ ما يدل به الفصيح المصقع على التعميم والبطلان. وقد طرق إليه أصحاب أبي حنيفة ثلاث تأويلات الأول أنه يحتمل أنه أراد بالمرأة الصغيرة الثاني أنه وإن أراد بها الكبيرة فيحتمل أنه أراد بها الأمة والمكاتبة الثالث أنه يحتمل أنه أراد ببطلان النكاح مصيره إلى البطلان غالبا بتقدير اعتراض الأولياء عليها إذا زوجت نفسها من غير كفوء. وهذه التأويلات مما لا يمكن المصير إليها في صرف هذا العموم القوي المقارب للقطع عن ظاهره. أما الحمل على الصغيرة فمن جهة أنها لا تسمى امرأة في وضع اللسان ولأن النبي ﷺ حكم بالبطلان ونكاح الصغيرة لنفسها دون إذن وليها صحيح عندهم موقوف على إجازة الولي. وأما الحمل على الأمة فيدرأه قوله ﷺ فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها ومهر الأمة ليس لها بل لسيدها. وأما الحمل على المكاتبة فبعيد أيضاً من جهة أنها بالنسبة إلى جنس النساء نادرة واللفظ المذكور من أقوى مراتب العموم وليس من الكلام العربي إطلاق ما هذا شأنه وإرادة ما هو في غاية الندرة والشذوذ ولهذا فإنه لو قال السيد لعبده: أيما امرأة لقيتها اليوم فأعطها درهماً وقال: إنما أردت به المكاتبة كان منسوباً إلى الإلغاز في القول وهجر الكلام. وعلى هذا فلا نسلم صحة الاستثناء بحيث لا يبقى غير الأقل النادر من المستثنى منه كما سبق تقريره ولا فرق بين البابين. وأما حمل بطلان النكاح على مصيره إلى البطلان فبعيد من وجهين: الأول: أن مصير العقد إلى البطلان من أندر ما يقع والتعبير باسم الشيء عما يؤول إليه إنما يصح فيما إذا كان المآل إليه قطعاً كما في قوله تعالى:" إنك ميت وإنهم ميتون " الزمر 30 أو غالباً كما في تسمية العصير خمراً في قوله تعالى:" أراني أعصر خمرا " يوسف 36. الثاني قوله: فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها ولو كان العقد واقعاً صحيحاً لكان المهر لها بالعقد لا بالاستحلال. المسألة الرابعة ومن التأويلات البعيدة قول أصحاب أبي حنيفة في قوله ﷺ "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل "إن المراد به صوم القضاء والنذر من حيث إن الصوم نكرة وقد دخل عليه حرف النفي فكان ظاهره العموم في كل صوم والمتبادر إلى الفهم من لفظ الصوم إنما هو الصوم الأصلي المتخاطب به في اللغات وهو الفرض والتطوع دون ما وجوبه بعارض ووقوعه نادر وهو القضاء والنذر. ولا يخفى أن إطلاق ما هو قوي في العموم وإرادة ما هو العارض البعيد النادر وإخراج الأصل الغالب منه إلغاز في القول. ولهذا فإنه لو قال السيد لعبده: من دخل داري من أقاربي أكرمه وقال: إنما أردت قرابة السبب دون النسب أو ذوات الأرحام البعيدة دون العصبات القريبة كان قوله منكراً مستبعداً لكنه مع ذلك لا ينتهض في البعد إلى بعد التأويل في حمل الخبر السابق على الأمة والمكاتبة. المسألة الخامسة ومن التأويلات البعيدة أيضا تأويل قوله ﷺ " من ملك ذا رحم محرم عتق عليه " فإن ظهور وروده لتأسيس قاعدة وتمهيد أصل في سياق الشرط والجزاء والتنبيه على حرمة الرحم المحرم وصلته قوي الظهور في قصد التعميم لكل ذي رحم محرم وذلك مما يمتنع معه التأويل بالحمل على الأصول والفصول دون غيرهم لأنهم قد امتازوا بكونهم على عمود النسب عن غيرهم ممن هو على حواشيه من الأرحام وذلك موجب لاختصاصهم بالتنصيص عليهم إظهاراً لشرف قربهم ونسابتهم فلو كان القصد متعلقاً بهم دون غيرهم بالذكر لما عدل عن التنصيص عليهم إلى ما يعم لما فيه من إسقاط حرمتهم وإهمال خاصيتهم ولذلك فإنه لو قال السيد لعبده: أكرم الناس قاصداً لإكرام أبويه لا غير كان ذلك من الأقوال المهجورة المستبعدة. المسألة السادسة ومن التأويلات البعيدة تأويل أبي حنيفة في قوله تعالى:" واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى " الأنفال 41 حيث إنه قال باعتبار الحاجة مع القرابة وحرمان من ليس بمحتاج من ذوي القربى وهو بعيد جداً لأن الآية ظاهرة في إضافة الخمس إلى كل ذوي القربى بلام التمليك والاستحقاق مومئة إلى أن مناط الاستحقاق هو القرابة فإنها مناسبة للاستحقاق إظهاراً لشرفها وإبانةً لخطرها وحيث رتب الاستحقاق على ذكرها في الآية كان ذلك إيماء إلى التعليل بها فالمصير بعد ذلك إلى اعتبار الحاجة يكون تخصيصاً للعموم وتركاً لما ظهر كونه علةً مومى إليها في الآية وهو صفة القرابة وتعليلاً بالحاجة المسكوت عنها وهو في غاية البعد. فإن قيل: ما ذكرتموه بعينه لازم على قول الشافعي باعتبار الحاجة مع اليتم في سياق الآية. قلنا: المختار من قول الشافعي إنما هو عدم اعتبار الحاجة مع اليتم وبتقدير القول بذلك فاعتبار الحاجة إنما كان لأن لفظ اليتم مع قرينة إعطاء المال مشعر بها فاعتبارها يكون اعتباراً لما دل عليه لفظ الآية لا أنه إلغاء له واليتم بمجرده عن اقتران الحاجة به غير صالح للتعليل بخلاف القرابة فإن القرابة بمجردها مناسبة للإكرام باستحقاق خمس الخمس كما ذكرناه فاعتبار الحاجة معها يكون تركاً للعمل بما ظهر كونه علةً وعمل بغيره وهو مناقضة لا تأويل. المسألة السابعة ومن التأويلات البعيدة أيضاً مصير قوم إلى أن قوله ﷺ "فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر" ليس بحجة في إيجاب العشر ونصف العشر في الخضروات لأن المقصود الذي سيق الكلام لأجله إنما هو الفرق بين العشر ونصف العشر لا بيان ما يجب فيه العشر ونصف العشر وهو بعيد أيضاً لأن اللفظ عام في كل ما سقت السماء وسقي بنضح أو دالية بوضع اللغة عند القائلين به وكون ذلك مما يقصد به الفرق بين العشر ونصف العشر غير مانع من قصد التعميم إذ لا منافاة بينهما اللهم إلا أن يبين أن الخبر لم يرد إلا لقصد الفرق وذلك مما لا سبيل إليه. المسألة الثامنة ومن أبعد التأويلات ما يقوله القائلون بوجوب غسل الرجلين في الوضوء في قوله تعالى:" وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين " المائدة 6 من أن المراد به الغسل وهو في غاية البعد لما فيه من ترك العمل بما اقتضاه ظاهر العطف من التشريك بين الرؤوس والأرجل في المسح من غير ضرورة. فإن قيل: العطف إنما هو على الوجوه واليدين في أول الآية وذلك موجب للتشريك في الغسل وبيان ذلك من وجهين: الأول قوله تعالى:" إلى الكعبين " قدر المأمور به إلى الكعبين كما قدر غسل اليدين إلى المرفقين ولو كان الواجب هو المسح لما كان مقدراً كمسح الرأس. الثاني: ما ورد القراءة بالنصب من قوله تعالى:" وأرجلكم " وذلك يدل على العطف على الأيدي دون الرؤوس. وأما الكسر فإنما كان بسبب المجاورة فإنها موجبة لاستتباع المجاور ومنه قول امرىء القيس: كأن ثبيراً في عرانين وبله كبير أناس في بجاد مزمل كسر مزمل استتباعاً لما قبله وإلا فحقه أن يكون مرفوعاً لكونه وصف كبير وإن سلمنا أن الأرجل معطوفة على الرؤوس غير أنه ليس من شرط العطف الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في تفاصيل حكم المعطوف عليه بل في أصله كما سبق تقريره وذلك مما قد وقع الاشتراك فيه فإن الغسل والمسح قد اشتركا في أن كل واحد منهما فيه إمساس العضو بالماء وإن افترقا في خصوص المسح والغسل وذلك كاف في صحة العطف ودليله قول الشاعر: ولقد رأيتك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحا عطف الرمح على التقلد بالسيف وإن كان الرمح لا يتقلد وإنما يعتقل به لاشتراكهما في أصل الحمل وكذلك عطف الشاعر الماء على التبن في قوله: وعلفتها تبناً وماءً بارداً. والماء لا يعلف لاشتراكهما في أصل التناول. والجواب قولهم إن العطف إنما هو على الأيدي فأبعد من كل بعيد لما فيه من ترك العطف على ما يلي المعطوف إلى ما لا يليه. وأما التقدير بالكعبين فمما لا يمنع من العطف على الرؤوس الممسوحة وإن لم يكن مسح الرؤوس مقدراً في الآية كما عطف الأيدي على الوجوه في حكم الغسل وإن كان غسل اليدين مقدراً وغسل الوجوه غير مقدر. وأما القرآءة بالنصب فإنما كان ذلك عطفاً على الموضع وذلك لأن الرؤوس في موضع النصب بوقوع الفعل عليها غير أنه لما دخل الخافض على الرؤوس أوجب الكسر ومنه قول الشاعر: معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا عطف الحديد على موضع الجبال إذ هي في موضع نصب غير أنها خفضت بدخول الجار عليها. قولهم إن الكسر بسبب المجاورة إنما يصح إذا لم يكن بين المتجاورين فاصل كما ذكروه من الشعر وأما إذا فصل بينهما حرف العطف فلا. وإن سلمنا جوازه غير أنه مما لا يتحمل إلا لضرورة الشعر فلا ينتهض موجباً لاتباعه وترك ما أوجبه العطف. ومثل ذلك وإن ورد في النثر كما في قولهم جحر ضب خرب وماء شن بارد فمن النوادر الشاذة التي لا يقاس عليها. قولهم: إن العطف وإن وقع على الرؤوس فذلك غير موجب للاشتراك في تفاصيل حكم المعطوف عليه. قلنا: هذا هو الأصل وإنما يصار إلى خلافه لدليل ولا دليل وإنما ذكرنا هذه النبذة من مسائل التأويلات لتدرب المبتدئين بالنظر في أمثالها. وبالجملة فالمتبع في ذلك إنما هو نظر المجتهد في كل مسألة فعليه اتباع ما أوجبه ظنه. القسم الثاني في دلالة غير المنظوم وهو ما دلالته لا بصريح صيغته ووضعه وذلك لا يخلو إما أن يكون مدلوله مقصوداً للمتكلم أو غير مقصود: فإن كان مقصوداً فلا يخلو إما أن يتوقف صدق المتكلم أو صحة الملفوظ به عليه أو لا يتوقف: فإن توقف فدلالة اللفظ عليه تسمى دلالة الاقتضاء وإن لم يتوقف فلا يخلو إما أن يكون مفهوماً في محل تناوله اللفظ نطقاً أو لا فيه فإن كان الأول فتسمى دلالته دلالة التنبيه والإيماء وإن كان الثاني فتسمى دلالته دلالة المفهوم وأما إن كان مدلوله غير مقصود للمتكلم فدلالة اللفظ عليه تسمى دلالة الإشارة. فهذه أربعة أنواع: النوع الأول دلالة الاقتضاء وهي ما كان المدلول فيه مضمراً إما لضرورة صدق المتكلم وإما لصحة وقوع الملفوظ به فإن كان الأول فهو كقوله ﷺ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وقوله عليه السلام:" لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" وقوله عليه السلام:" لا عمل إلا بنية " فإن رفع الصوم والخطإ والعمل مع تحققه ممتنع فلا بد من إضمار نفي حكم يمكن نفيه كنفي المؤاخذة والعقاب في الخبر الأول ونفي الصحة أو الكمال في الخبر الثاني ونفي الفائدة والجدوى في الخبر الثالث ضرورة صدق الخبر. وإما إن كان لصحة الملفوظ به فإما أن تتوقف صحته عليه عقلاً أو شرعاً. فإن كان الأول فكقوله تعالى:" واسأل القرية " يوسف 82 فإنه لا بد من إضمار أهل القرية لصحة الملفوظ به عقلاً. وإن كان الثاني فكقول القائل لغيره: أعتق عبدك عني على ألف فإنه يستدعي تقدير سابقة انتقال الملك إليه ضرورة توقف العتق الشرعي عليه. النوع الثاني دلالة التنبيه والإيماء وهي خمسة أصناف وسيأتي ذكرها في القياس النوع الثالث دلالة الإشارة وذلك كما في قوله ﷺ في "حق النساء النساء ناقصات عقل ودين" فقيل له: يا رسول الله ما نقصان دينهن؟ قال: تمكث إحداهن في قعر بيتها شطر دهرها لا تصلي ولا تصوم " فهذا الخبر إنما سيق لبيان نقصان دينهن لا لبيان أكثر الحيض وأقل الطهر ومع ذلك لزم منه أن يكون أكثر الحيض خمسة عشر يوماً وأقل الطهر كذلك لأنه ذكر شطر الدهر مبالغة في بيان نقصان دينهن ولو كان الحيض يزيد على خمسة عشر يوما وأقل الطهر لذكره وكذلك دلالة مجموع قوله تعالى:" وحمله وفصاله ثلاثون شهراً " الأحقاف 15 وقوله تعالى:" وفصاله في عامين " لقمان 14 على أن أقل مدة ستة أشهر وإن لم يكن ذلك مقصوداً من اللفظ وكذلك قوله تعالى:" فالآن باشروهن " البقرة 187 أباح المباشرة ممتدة إلى طلوع الفجر بقوله:" حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود " البقرة 187 وكان بيان ذلك هو المقصود ومع ذلك لزم منه أن من جامع في ليل رمضان وأصبح جنباً لم يفسد صومه لأن من جامع في آخر الليل لا بد من تأخر غسله إلى النهار فلو كان ذلك مما يفسد الصوم لما أبيح الجماع في آخر جزء من الليل ومع ذلك فإنه لم يقع مقصوداً من الكلام إلى نظائره. النوع الرابع المفهوم ولا بد من النظر في معناه وأصنافه قبل الحجاج في نفيه وإثباته. أما معناه فاعلم أن المفهوم مقابل للمنطوق والمنطوق أصل للمفهوم فلا بد من تحقيقه أولاً ثم العود إلى تحقيق معنى المفهوم ثانياً. فنقول أما المنطوق فقد قال بعضهم هو ما فهم من اللفظ في محل النطق وليس بصحيح فإن الأحكام المضمرة في دلالة الاقتضاء مفهومة من اللفظ في محل النطق ولا يقال لشيء من ذلك منطوق اللفظ فالواجب أن يقال: المنطوق ما فهم من دلالة اللفظ قطعاً في محل النطق وذلك كما في وجوب الزكاة المفهوم من قوله ﷺ في الغنم السائمة زكاة وكتحريم التأفيف للوالدين من قوله تعالى:" ولا تقل لهما أف " الإسراء 23 إلى نظائره. وأما المفهوم فهو ما فهم من اللفظ في غيره محل النطق والمنطوق وإن كان مفهوماً من اللفظ غير أنه لما كان مفهوماً من دلالة اللفظ نطقا خص باسم المنطوق وبقي ما عداه معرفاً بالمعنى العام المشترك تمييزاً بين الأمرين. وإذا عرف معنى المفهوم فهو ينقسم إلى ما يسمى مفهوم الموافقة وإلى ما يسمى مفهوم المخالفة. أما مفهوم الموافقة فما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت موافقاً لمدلوله في محل النطق ويسمى أيضا فحوى الخطاب ولحن الخطاب والمراد به معنى الخطاب ومنه قوله تعالى:" ولتعرفنهم في لحن القول " محمد 30 أي في معناه. وقد يطلق اللحن ويراد به اللغة ومنه يقال: لحن فلان بلحنه إذا تكلم بلغته وقد يطلق ويراد به الفطنة ومنه قوله ﷺ ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض أي أفطن وقد يطلق ويراد به الخروج عن ناحية الصواب ويدخل فيه إزالة الإعراب عن جهة الصواب ومثاله تحريم شتم الوالدين وضربهما من دلالة قوله تعالى:" ولا تقل لهما أف " فإن الحكم المفهوم من اللفظ في محل السكوت موافق للحكم المفهوم في محل النطق وكذلك دلالة قوله تعالى:" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً " النساء 10 على تحريم إتلاف أموالهم وكدلالة قوله تعالى:" فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " الزلزلة 7-8 على المقابلة فيما زاد على ذلك وكدلالة قوله تعالى:" ومنهم من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك " آل عمران 75 على تأدية ما دون القنطار وعدم تأدية ما فوق الدينار إلى غير ذلك من النظائر. والدلالة في جميع هذه الأقسام لا تخرج من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى وبالأعلى على الأدنى ويكون الحكم في محل السكوت أولى منه في محل النطق وإنما يكون كذلك إن لو عرف المقصود من الحكم في محل النطق من سياق الكلام وعرف أنه أشد مناسبة واقتضاء للحكم في محل السكوت من اقتضائه له في محل النطق وذلك كما عرفنا من سياق الآية المحرمة للتأفيف أن المقصود إنما هو كف الأذى عن الوالدين وأن الأذى في الشتم والضرب أشد من التأفيف فكان بالتحريم أولى. وإلا فلو قطعنا النظر عن ذلك لما لزم من تحريم التأفيف تحريم الضرب العنيف ولهذا فإنه يتنظم من الملك أن يأمر الجلاد بقتل والده إذا استيقن منازعته له في ملكه وينهاه عن التأفيف حيث كان المقصود من الأمر بالقتل إنما هو دفع محذور المنازعة في الملك وإن كان القتل أشد في دفعه من التأفيف ولذلك لم يلزم من إباحة أعلى المحذورين إباحة أدناهما ولا من تحريم أدناهما تحريم أعلاهما. وهذا مما اتفق أهل العلم على صحة الاحتجاج به إلا ما نقل عن داود الظاهري أنه قال إنه ليس بحجة ودليل كونه حجةً أنه إذا قال السيد لعبده لا تعط زيداً حبة ولا تقل له أف ولا تظلمه بذرة ولا تعبس في وجهه فإنه يتبادر إلى الفهم من ذلك امتناع إعطاء ما فوق الحبة وامتناع الشتم والضرب وامتناع الظلم بالدينار وما زاد وامتناع أذيته بما فوق التعبيس من هجر الكلام وغيره ولذلك كان المفهوم من قول النبي ﷺ احفظ عفاصها ووكاءها حفظ ما التقط من الدنانير ومن قوله ﷺ في الغنيمة أدوا الخيط والمخيط أداء الرحال والنقود وغيرها ومن قوله من سرق عصى مسلم فعليه ردها رد ما زاد على ذلك. وكذلك لو حلف أنه لا يأكل لفلان لقمةً ولا يشرب من مائه جرعةً كان ذلك موجباً لامتناعه من أكل ما زاد على اللقمة كالرغيف وشرب ما زاد على الجرعة إلى نظائره. غير أن الخلاف واقع في أن مستند الحكم في محل السكوت هل هو فحوى الدلالة اللفظية أو الدلالة القياسية. وقد احتج القائلون بالفحوى بأن العرب إنما وضعت هذه الألفاظ للمبالغة في التأكيد للحكم في محل السكوت وأنها أفصح من التصريح بالحكم في محل السكوت.
ولهذا فإنهم إذا قصدوا المبالغة في كون أحد الفرسين سابقاً للآخر قالوا هذا الفرس لا يلحق غبار هذا الفرس وكان ذلك عندهم أبلغ من قولهم هذا الفرس سابق لهذا الفرس وكذلك إذا قالوا فلان يأسف بشم رائحة مطبخه فإنه أفصح عندهم وأبلغ من قولهم فلان لا يطعم ولا يسقي. واحتج القائلون بكونه قياساً أنا لو قطعنا النظر عن المعنى الذي سيق له الكلام من كف الأذى عن الوالدين وعن كونه في الشتم والضرب أشد منه في التأفيف لما قضى بتحريم الشتم والضرب إجماعاً ولما سبق من جواز أمر الملك للجلاد بقتل والده والنهي عن التأفيف له فالتأفيف أصل والشتم والضرب فرع ودفع الأذى علة والتحريم حكم ولا معنى للقياس إلا هذا. وسموا ذلك قياساً جلياً نظراً إلى أن الوصف الجامع بين الأصل والفرع ثابت بالتأثير والأشبه إنما هو المذهب الأول وهو الإسناد إلى فحوى الدلالة اللفظية. وما قيل من أنه لا بد من فهم المعنى وكونه في محل السكوت أولى بالحكم في محل النطق فهو شرط تحقق الفحوى ولا مناقضة بينه وبين الفحوى ويدل على أنه ثابت بالفحوى لا بالقياس أمران: الأول: أن القياس لا يشترط فيه أن يكون المعنى المناسب للحكم في الفرع أشد مناسبة له من حكم الأصل إجماعاً وهذا النوع من الاستدلال لا يتم دونه فلا يكون قياساً. الثاني: أن الأصل في القياس لا يكون مندرجاً في الفرع وجزءاً منه إجماعاً وهذا النوع من الاستدلال قد يكون ما تخيل أصلاً فيه جزءاً مما تخيل فرعاً وذلك كما قال السيد لعبده لا تعط لفلان حبة فإنه يدل على امتناع إعطاء الدينار وما زاد عليه والحبة المنصوصة تكون داخلةً فيه وكذلك قوله تعالى:" فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " الزلزلة 7-8 فإنه يدل على روية ما زاد على الذرة والذرة تكون داخلةً فيه إلى نظائره. ولهذا فإن كل من خالف في القياس مطلقاً وافق على هذا النوع من الدلالة سوى أهل الظاهر ولو كان قياسا لما كان كذلك وعلى كل تقدير فهو منقسم إلى قطعي وظني. أما القطعي فكما ذكرنا من آية التأفيف حيث إنا علمنا من سياق الآية أن حكمة تحريم التأفيف إنما هو دفع الأذى عن الوالدين وأن الأذى في الشتم والضرب أشد. وأما الظني فكما في قوله تعالى:" ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " النساء 92 فإنه وإن دل على وجوب الكفارة في القتل العمد لكونه أولى بالمؤاخذة كما يقوله الشافعي غير أنه ليس بقطعي لإمكان أن لا تكون الكفارة في القتل الخطإ موجبة بطريق المؤاخذة لقوله ﷺ:" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان "والمراد به رفع المؤاخذة بل نظراً للخاطىء بإيجاب ما يكفر ذنبه في تقصيره ومن ذلك سميت كفارةً وجناية المتعمد فوق جناية الخاطىء وعند ذلك فلا يلزم من كون الكفارة رافعة لإثم أدنى الجنايتين أن تكون رافعةً لإثم أعلاهما. وأما مفهوم المخالفة فهو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفاً لمدلوله في محل النطق ويسمى دليل الخطاب أيضاً وهو عند القائلين به منقسم إلى عشرة أصناف متفاوتة في القوة والضعف. الصنف الأول :منها ذكر الاسم العام مقترناً بصفة خاصة كقوله ﷺ: في الغنم السائمة زكاة. الصنف الثاني: مفهوم الشرط والجزاء كقوله تعالى:" وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن " الطلاق 6 وقوله ﷺ:" إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه " الصنف الثالث: مفهوم الغاية كقوله تعالى:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " البقرة 230 وقوله تعالى:" ولا تقربوهن حتى يطهرن " البقرة 222 " وحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " التوبة 29 الصنف الرابع: مفهوم إنما كقوله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات وإنما الربا في النسيئة وإنما الولاء لمن أعتق وإنما الشفعة فيما لم يقسم" إلى نظائره. الصنف الخامس: التخصيص بالأوصاف التي تطرأ وتزول بالذكر كقوله ﷺ: الثيب أحق بنفسها من وليها وقوله عليه الصلاة والسلام في السائمة زكاة. الصنف السادس: مفهوم اللقب وذلك كتخصيص الأشياء الستة في الذكر بتحريم الربا. الصنف السابع: مفهوم الاسم المتشق الدال على الجنس كقوله ﷺ:" لا تبيعوا الطعام بالطعام" وهو قريب من مفهوم اللقب لكون الطعام لقباً لجنس. الصنف الثامن: مفهوم الاستثناء كقوله تعالى:" لا إله إلا الله " الصافات 35 وقول القائل: لا عالم في البلد إلا زيد. الصنف التاسع: تعليق الحكم بعدد خاص كتخصيص حد القذف بثمانين. الصنف العاشر: مفهوم حصر المبتدإ في الخبر كقوله: العالم زيد وصديقي عمرو. وإذا عرف المفهوم بحده وأصنافه فيجب أن تعلم قبل الخوض في الحجاج في هذه الأصناف أن مستند فهم الحكم في محل السكوت عند القائلين به إنما هو النظر إلى فائدة تخصيص محل النطق بالذكر دون غيره وسواء كان ذلك من قبيل مفهوم الموافقة أو المخالفة وإن افترقا من جهة أن فائدة التخصيص بالذكر في مفهوم الموافقة إنما هو تأكيد مثل حكم المنطوق في محل المسكوت عنه وفائدة التخصيص بالذكره في مفهوم المخالفة إنما هو نفي مثل حكم المنطوق في محل السكوت وذلك مما لا يعلم من مجرد تخصيص محل النطق بالذكر دون نظر عقلي يتحقق به أن التخصيص للتأكيد أو النفي وذلك بأن ينظر إلى حكمة الحكم المنطوق به. فإن عرفت وعرف تحققها في المحل المسكوت عنه وأنها أولى باقتضائها الحكم فيه من الحكم في محل النطق علم أن فائدة التخصيص التأكيد وأن المفهوم مفهوم الموافقة وإن لم يعلم حكمة الحكم المنطوق به أو علمت غير أنها لم تكن متحققةً في محل السكوت أو كانت متحققة فيه لكنها ليست أولى باقتضاء الحكم فيه علم أن فائدة التخصيص إنما هي النفي وأن المفهوم مفهوم المخالفة. وإذا أتينا على تحقيق المفهوم وأصنافه فلنرجع إلى المقصود من الحجاج في نفيه وإثباته وما هو المختار في كل واحد من أصنافه فنقول: أما مفهوم الموافقة فقد اتفق الكل على صحة الاحتجاج به سوى الظاهرية وإن اختلفوا في دلالته هل هي لفظية أو قياسية على ما سبق. والمتفقون على صحة مفهوم الموافقة اختلفوا في صحة الاحتجاج بمفهوم المخالفة فيجب الخوض فيما يتعلق به من المسائل وهي تسع مسائل. المسألة الأولى اختلفوا في الخطاب الدال على حكم مرتبط باسم عام مقيد بصفة خاصة كقوله ﷺ:" في الغنم السائمة زكاة " هل يدل على نفي الزكاة عن غير السائمة أو لا ؟فأثبته الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل والأشعري وجماعة من الفقهاء والمتكلمين وأبو عبيد وجماعة من أهل العربية ونفاه أبو حنيفة وأصحابه والقاضي أبو بكر وابن سريج والقفال والشاشي وجماهير المعتزلة. وفرق أبو عبد الله البصري من المعتزلة وقال: الخطاب المتعلق بالصفة دال على النفي عما عداها في أحد أحوال ثلاث وهي: أن يكون الخطاب قد ورد للبيان كما في قوله ﷺ:" في الغنم السائمة زكاة " أو التعليم كما في خبر التحالف عند التخالف والسلعة قائمة أو يكون ما عدا الصفة داخلاً تحتها كالحكم بالشاهدين فإنه يدل على نفيه عن الشاهد الواحد لدخوله في الشاهدين ولا يدل على النفي فيما سوى ذلك. وإذ أتينا على تفصيل المذاهب من الجانبين فلا بد من ذكر حجج الفريقين والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار. أما القائلون بالإثبات فقد احتجوا بحجج نقلية وعقلية. أما الحجج النقلية فست حجج. الحجة الأولى: أنهم قالوا إن أبا عبيد القاسم بن سلام من أهل اللغة وقد قال بدليل الخطاب في قوله ﷺ:" لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " حيث قال إنه أراد به أن من ليس بواجد لا يحل عرضه وعقوبته والواجد هو الغني وليه مطله ومعنى إحلال عرضه مطالبته وعقوبته حبسه. وقال في قوله ﷺ:" لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً " وقد قيل إن: النبي ﷺ إنما أراد الهجاء من الشعراء أو هجا الرسول فقال: لو كان ذلك هو المراد لم يكن لتعليق ذلك بالكثرة وامتلاء الجوف منه معنى لأن ما دون ملء الجوف من ذلك ككثيره ووجه الاحتجاج به أنه فهم أن تعليق الذم على امتلاء الجوف من ذلك مخالف لما دونه.
ولقائل أن يقول: حكم أبي عبيد بذلك إن ادعيتم أنه كان نقلاً عن العرب فهو غير مسلم وليس في لفظه ما يدل على النقل وإن قلتم إن ذلك كان بناء على مذهبه واجتهاده فغايته أنه مجتهد فيه فلا يكون ذلك حجةً على غيره من المجتهدين المخالفين له في ذلك كيف وإنه لو ذكر ذلك نقلاً فلا نسلم كونه حجةً في مثل هذه القاعدة اللغوية لكونه من أخبار الآحاد ثم هو معارض بمذهب الأخفش فإنه من أهل اللغة ولم يقل بدليل الخطاب على ما نقل عنه على أنه يمكن أن يكون حكمه بذلك مستنداً إلى النفي الأصلي وعدم دلالة الدليل على مخالفته وهو أولى جمعاً بين المذاهب. الحجة الثانية: ما روى قتادة أنه قال: لما نزل قوله تعالى:" استغفر لهم أو لا تستغفر لم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " التوبة 80 قال النبي ﷺ: قد خيرني ربي فوالله لأزيدن على السبعين فعقل أن ما زاد على السبعين بخلافه. لقائل أن يقول: ما ذكرتموه من أخبار الآحاد لا نسلم كونه حجةً في مثل هذه القاعدة وإن سلمنا أنه حجة ولكن يمتنع التمسك به لوجهين: الأول: أن زيادة النبي ﷺ على السبعين في الاستغفار ليس فيه ما يدل على فهمه وقوع المغفرة لهم باستغفاره زيادةً على السبعين وليس في لفظه ما يدل عليه فيحتمل أنه قصد بذلك استمالة قلوب الأحياء منهم ترغيباً لهم في الدين لا لوقوع المغفرة وليس أحد الأمرين أولى من الآخر بل ربما كان احتمال الاستمالة أولى من فهمه وقوع المغفرة بالزيادة على السبعين في الاستغفار من الآية لما فيه من دفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى:" سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم " المنافقون 6 الوجه الثاني: أن تخصيص نفي المغفرة بالسبعين يدل على انتفاء المغفرة بالسبعين قطعاً ضرورة صدق الله تعالى في خبره. ومن قال بدليل الخطاب فهو قائل بأنه يدل على نقيض حكم المنطوق في محل السكوت وعند ذلك فلو دل اختصاص السبعين بنفي المغفرة قطعاً على نقيضه في محل السكوت لكان دالا على وقوع المغفرة بعد السبعين وذلك إما أن يكون قطعاً أو ظناً: الأول خلاف الإجماع وخلاف ما ذكرناه من الآية الدالة على امتناع المغفرة بعد السبعين والثاني فليس نقيضا لنفي المغفرة قطعاً بل هو مقابل والمقابل أعم من النقيض فلا يكون ذلك من باب دليل الخطاب وفيه دقة فليتأمل. الحجة الثالثة: مصير ابن عباس رضي الله عنهما إلى منع توريث الأخت مع البنت استدلالاً بقوله تعالى:" إنه امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " النساء 176 حيث إنه فهم من توريث الأخت مع عدم الولد امتناع توريثها مع البنت لأنها ولد وهو من فصحاء العرب وترجمان القرآن. وجواب هذه الحجة ما سبق في دفع الحجة التي قبلها كيف وإنه يحتمل أنه ورث الأخت عند عدم الولد بالآية وعند وجود البنت لم يورثها بناء على استصحاب النفي الأصلي لا بناء على دليل الخطاب وليس أحد الأمرين أولى من الآخر. الحجة الرابعة: أن الصحابة اتفقوا على أن قوله ﷺ:" إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل "ناسخ لقوله ﷺ:" الماء من الماء "ولولا أن قوله:"الماء من الماء "يدل على نفي الغسل من غير إنزال لما كان نسخاً له. ولقائل أن يقول: لا نسلم صحة الاحتجاج بخبر الواحد في اللغات وإن سلمنا ولكن لا نسلم أن جملة الصحابة اتفقوا على ذلك. وقول البعض لا يكون حجةً على غيره وإن سلمنا اتفاق الصحابة على ذلك ولكن إنما حكموا بكونه ناسخاً لا لمدلول دليل الخطاب بل يحتمل أنهم فهموا من قوله ﷺ الماء من الماء كل غسل من إنزال الماء ويدل على تأكد هذا الاحتمال قوله ﷺ:" لا ماء إلا من الماء "فكان قوله:" إذا التقى الختانان وجب الغسل "ناسخاً لمدلول عموم الأول لا لمدلول دليل الخطاب وليس أحد الأمرين أولى من الآخر بل حمله على ما ذكرناه أولى لكونه متفقاً عليه ومختلفا فيما ذكروه.
الحجة الخامسة ما روي أن يعلى بن أمية قال لعمر: ما بالنا نقصر وقد أمنا وقد قال الله تعالى:" فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم " النساء 101 ووجه الاحتجاج به أنه فهم من تخصيص القصر بحالة الخوف عدم القصر عند عدم الخوف ولم ينكر عليه عمر بل قال: لقد عجبت مما عجبت منه فسألت النبي ﷺ عن ذلك فقال لي:" هي صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" ويعلى بن أمية وعمر من فصحاء العرب وقد فهما ذلك والنبي ﷺ أقرهما عليه. ولقائل أن يقول: لا نسلم صحة الاحتجاج بخبر الواحد هاهنا وإن سلمنا لكن يحتمل أن يعلى وعمر بنيا عدم القصر على استصحاب الحال في حالة الأمن لا على دليل الخطاب وليس أحد الأمرين أولى من الآخر بل البناء على الاستصحاب أولى دفعاً للتعارض بين الدليل المجوز للقصر حالة الأمن والدليل النافي له. الحجة السادسة: أنه إذا قال العربي لوكيله: اشتر لي عبداً أسود فهم منه عدم الشراء للأبيض حتى إنه لو اشترى أبيض لم يكن ممتثلاً وكذلك إذا. قال الرجل لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار فهم منه انتفاء الطلاق عند عدم الدخول. ولقائل أن يقول: ليس ذلك مفهوماً من دليل الخطاب بل عدم شراء الأبيض وعدم وقوع الطلاق قبل دخول الدار إنما كان مستنداً إلى النفي الأصلي ولهذا فإنه لو قال له لا تشتر لي عبداً أسود وقال لزوجته: إن دخلت الدار فلست طالقاً فإنه لا يصح شراؤه لعبد غير أسود ولا يقع بالزوجة الطلاق بتقدير عدم دخول الدار لبقاء ذلك على النفي الأصلي ولو كان نفي الحكم في محل السكوت مما يدل عليه ذكر الحكم في محل النطق لصح شراء عبد ليس بأسود وطلقت الزوجة بتقدير عدم دخول الدار. وعلى هذا فكل خطاب ورد في الشرع أو اللغة بحكم مخصص بصفة وهو منفى عما عدا تلك الصفة فهو مبني على استصحاب الحال لا على دليل الخطاب. وأما الحجج العقلية فخمس حجج. الحجة الأولى: أنه لو كان حكم السائمة والمعلوفة سواء في وجوب الزكاة لما كان لتخصيص السائمة بالذكر فائدة بل كان ملغزاً بذكر ما يوهم في الزكاة في المعلوفة ومقصراً في البيان مع دعو الحاجة إليه. وذلك على خلاف الأصل وحيث امتنع ذلك دل على أن فائدة التخصيص بذكر السائمة نفي الزكاة عن المعلوفة. ولقائل أن يقول: ما ذكرتموه في إثبات دليل الخطاب يرجع إلى إثبات الوضع بما فيه من الفائدة ولا نسلم إمكان إثبات الوضع بذلك سلمنا إمكان ذلك ولكن لا نسلم أنه لا فائدة في تخصيص الصفة بالذكر سوى نفي الحكم المعلق بها عند عدمها وبيانه من وجهين: الأول: أنه لو لم يكن له فائدة سوى نفي الحكم في محل السكوت لامتنع ورود نص خاص يدل على إثبات الحكم في محل السكوت لما فيه من إبطال فائدة التخصيص بالذكر لمحل النطق لما يلزم من اللغو في كلام الحكيم وهو ممتنع. فإن قيل: فإذا أثبت مثل ذلك الحكم في محل السكوت لم يكن مخصصاً للصفة بالحكم حتى يقال بأن التخصيص يكون لغواً. قلنا: فإذا مجرد تخصيص الصفة بالذكر لا يكون دليلا على نفي الحكم عند عدمها دون البحث عما يدل على إثبات الحكم في محل السكوت مع عدم الظفر به وليس كذلك عندكم لكن نفس التخصيص دليل ووجود ما يدل على إثبات الحكم في صورة السكوت يكون معارضاً له بل أمكن وجود فائدة أخرى دعت إلى التخصيص بالذكر وهي إما عموم وقوع المذكور كما في قوله تعالى:" وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " النساء 23 وإما لسؤال سائل سأل عن ذلك أو لحدوث واقعة وقعت كذلك.
وإن لم يكن شيء من ذلك فأمكن أن يكون ذلك لرفع وهم من توهم أن حكم الصفة بتقدير تعميم اللفظ يكون مخالفاً لحكم العموم ويكون بذلك منبهاً على إثبات الحكم فيما عدا الصفة بطريق الأولى وذلك كما لو قال: ضحوا بشاة فإنه قد يتوهم متوهم أنه لا يجوز التضحية بشاة عوراء فإذا قال: ضحوا بشاة عوراء كان ذلك أدل على التضحية بما ليست عوراء وكذلك لو قال: ولا تقتلوا أولادكم على العموم فقد يتوهم أنه لم يرد النهي عن قتلهم عند خشية الإملاق فإذا قال:" ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " الإسراء 31 كان أدل على النهي في غير حالة الخشية وإن لم يكن كذلك أمكن أن يكون لفائدة تعريف حكم المنطوق والمسكوت بنصين مختلفين إذ هو أدل على المقصود من التعميم لوقوع الخلاف فيه وإمكان تطرق التخصيص بالاجتهاد إلى محل الصفة وغيرها وليس مراداً للتخصيص وإن لم يكن كذلك أمكن أن يكون ذلك لفائدة التوصل إلى معرفة الحكم في المسكوت عنه بطريق الاجتهاد لينال المكلف ثواب الاجتهاد حين توفر دواعي المجتهدين على النظر والاستدلال والبحث عن الأحكام الشرعية فتبقى غضة طرية كما هي في سائر الأصول المنصوص عليها مع وقوعها في الأقيسة وإن لم يكن كذلك أمكن أن يكون حكم الصفة جارياً على حكم العقل الأصلي وتكون المصلحة في نظر الشارع تعريف ذلك الحكم عند وجود الصفة بالنص وعند عدمها بالبقاء على الحكم الأصلي كما لو قال: لا زكاة في الغنم السائمة وإن لم يكن كذلك وكان الحكم في محل السكوت مخالفاً للحكم في محل النطق فأمكن أن يكون ثبوت الحكم على خلاف حكم العقل كما في إيجاب الزكاة وتكون فائدة التنصيص على محل الصفة اختصاصه بالحكم فإنه لولا النص لما ثبت ويكون الحكم في محل السكوت منتفياً بناءً على حكم العقل الأصلي. فإن قيل: فإذا سلمتم انتفاء الحكم في محل السكوت فقد وافقتم على المطلوب. قلنا: ليس كذلك فإن النزاع إنما وقع في إسناد النفي في محل السكوت إلى دليل الخطاب لا إلى النفي الأصلي وإن سلمنا أنه لا فائدة في التخصيص سوى ما ذكرتموه لكن يلزم على ما ذكرتموه مفهوم اللقب الذي لم يقل به محصل على ما يأتي تقريره فكل ما هو جواب لكم ثم فهو جواب لنا هاهنا. الحجة الثانية: إن أهل اللغة فرقوا بين الخطاب المطلق والمقيد بالصفة كما فرقوا بين الخطاب المرسل وبين المقيد بالاستثناء والاستثناء يدل على أن حكم المستثنى على خلاف حكم المستثنى منه فكذلك الصفة. ولقائل أن يقول: نحن لا ننكر الفرق بين حكم الخطاب المطلق وبين حكم الخطاب المقيد بالصفة فإن حكم المطلق العلم أو الظن بثبوت حكمه مطلقاً وحكم الخطاب المقيد بالصفة ثبوته في محل التنصيص قطعاً أو ظناً وفي غير محل الصفة مشكوك في إثباته ونفيه فقد افترقا كما وقع الافتراق بين الخطاب المطلق والخطاب المستثنى منه غير أن المطلق يقتضي إثبات الحكم أو نفيه مطلقاً والخطاب المستثنى منه يقتضي نفي الحكم في صورة الاستثناء جزماً. وعلى هذا فإن قيل بأن الفرق سوى بينهما من كل وجه فهو ممتنع وإن قيل بوجوب التسوية بينهما من جهة أنه لا بد من الافتراق بين المطلق والمقيد بالصفة في الجملة كما وقع الافتراق بين المطلق والمستثنى منه في الجملة فهو واقع لا محالة. الحجة الثالثة: أنه إذا كان التخصيص بذكر الصفة يدل على الحكم في محل التنصيص وعلى نفيه في محل السكوت كانت الفائدة فيه أكثر مما إذا لم يدل فوجب جعله دليلاً عليه. ولقائل أن يقول: ما ذكرتموه وإن كان من جملة الفوائد غير أن إثبات الحكم أو نفيه مأخوذاً من دليله فرع دلالة ذلك الدليل عليه. فلو قيل بكونه دليلاً عليه لكون الحكم يكون داخلاً فيه كان دوراً كيف وإنه ليس القول بكون التخصيص دالاً على نفي الحكم في محل السكوت تكثيرا للفائدة وإبطال ما ذكرناه من الفوائد التي سبقت أولى من العكس. الحجة الرابعة: أن التعليق بالصفة كالتعليق بالعلة والتعليق بالعلة يوجب نفي الحكم لانتفاء العلة فكذلك الصفة. ولقائل أن يقول: لا نسلم لزوم انتفاء الحكم مع انتفاء العلة حتى يقال مثله في الصفة اللهم إلا أن يقال باتحاد العلة فإنه يلزم من نفيها نفي الحكم ولكن لا نسلم أنه يلزم مثله في الصفة ضرورة أنه يلزم من تعدد أصناف النوع وأشخاصه تعدد صفاته وإلا لما تعدد بل كان متحداً من كل وجه.
الحجة الخامسة: أنه قال: ﷺ "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعاً" فلو لم يدل على عدم الطهارة فيما دون السبع وإلا لما طهر بالسبع لأن السابعة تكون واردة على محل طاهر فلا يكون طهوره بالسبع ويلزم من ذلك إبطال دلالة المنطوق. وكذلك إذا قال: "يحرم من الرضاع خمس رضعات "لو لم يدل على أن ما دون ذلك لا يحرم لما كانت الخمس رضعات محرمة لما عرف في الغسلات. ولقائل أن يقول: لا يلزم من كون الغسلات السبع غير دالة على نفي الطهارة فيما دون السبع ومن كونه الرضعات الخمس غير دالة على نفي الحرمة فيما دونها أن يكون المحل قبل السابعة طاهراً ولا أن يكون ما دون الخمس من الرضعات محرماً لجواز ثبوت النجاسة قبل السبع بدليل آخر غير دليل الخطاب وكذلك جاز أن يكون ما دون الرضعات الخمس غير محرمة بدليل غير دليل الخطاب. وإذ أتينا على حجج القائلين بدليل الخطاب وتتبع ما فيها فلا بد من ذكر حجج عول عليها القائلون بإبطال دليل الخطاب والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار. الحجة الأولى: أن تقييد الحكم بالصفة لو دل على نفيه عند نفيها إما أن يعرف ذلك بالعقل أو النقل والعقل لا مجال له في اللغات والنقل إما متواتر وآحاد ولا سبيل إلى التواتر والآحاد لا تفيد غير الظن وهو غير معتبر في إثبات اللغات لأن الحكم على لغة ينزل عليها كلام الله تعالى ورسوله ﷺ بقول الآحاد مع جواز الخطإ والغلط عليه يكون ممتنعاً. ولقائل أن يقول: إن سلمنا أن ذلك لا يعرف إلا بالنقل ولكن لا نسلم امتناع إثبات ذلك بالآحاد إذ المسألة عندنا غير قطعية بل ظنية مجتهد فيها بنفي أو إثبات بل غلبة ظن تجري فيها التخطئة الظنية دون القطعية كما في سائر مسائل الفروع الاجتهادية. كيف وإن اشتراط التواتر في إثبات اللغات إما أن يكون في كل كلمة ترد عن أهل اللغة أو في البعض دون البعض القول بالتفصيل تحكم غير معقول كيف وأنه لا قائل به. وإن كان ذلك شرطاً في الكل فذلك مما يفضي إلى تعطيل التمسك بأكثر اللغة لتعذر التواتر فيها ويلزم من ذلك تعطيل العمل بأكثر ألفاظ الكتاب والسنة والأحكام الشرعية والمحذور في ذلك فوق المحذور في قبول خبر الواحد المعروف بالعدالة والضبط والمعرفة وهو تطرق الكذب أو الخطإ عليه مع أن الغالب صدقه وصحه نقله. ولهذا كان العلماء في كل عصر وإلى زمننا هذا يكتفون في إثبات الأحكام الشرعية المستندة إلى الألفاظ اللغوية بنقل الآحاد المعروفين بالثقة والمعرفة كالأصمعي والخليل وأبي عبيدة وأمثالهم. الحجة الثانية: أنه لو كان تقييد الحكم بالصفة يدل على نفيه عند عدمها لما حسن الاستفهام عن الحكم في حال نفيها لا عن نفيه ولا عن إثباته لكونه استفهاماً عما دل عليه اللفظ كما لو قال: له لا تقل لزيد أف فإنه دل على امتناع ضربه فإنه لا يحسن أن يقال: فهل أضربه ولا شك في حسنه لو قال: أد الزكاة عن غنمك السائمة فإنه يحسن أن يقال وهل أؤديها عن المعلوفة ؟ ولقائل أن يقول: حسن الاستفهام إنما كان لطلب الأجلى والأوضح لكون دلالة الخطاب ظاهرةً ظنيةً غير قطعية ولهذا فإنهم لم يستقبحوا الاستفهام ممن قال: رأيت أسداً أو بحراً أو دخل السلطان البلد بأن يقال هل رأيت الحيوان المخصوص أو إنساناً شجاعاً وهل رأيت البحر الذي هو الماء المخصوص أو إنساناً كريماً ؟وهل رأيت السلطان نفسه أو عسكره؟ مع أن لفظه ظاهر في أحد المعنيين دون الآخر. الحجة الثالثة: لو كان تعليق الحكم على الصفة يدل على نفيه عن غير المتصف بها لكان في الخبر كذلك ضرورة اشتراك الأمر والخبر في التخصيص بالصفة واللازم ممتنع. ولهذا فإنه لو قال: رأيت الغنم السائمة ترعى فإنه لا يدل على عدم رؤية المعلوفة منها. ولقائل أن يقول:الاستشهاد بالخبر وإن كان كثيراً ما يستروح إليه المنكرون لدليل الخطاب إلا أنه ممنوع عند القائلين بدليل الخطاب ولا فرق عندهم في تعليق الحكم بالصفة بين الأمر والخبر. ولهذا فإنه لو قال القائل: الفقهاء الشافعية فضلاء أئمة فإن سامعه من فقهاء الحنفية وغيرهم تشمئز نفسه من ذلك وتكبر عن سماعه لا لوصفه لهم بذلك بل لما فيه من الإشعار بسلب ذلك عمن ليس بشافعي.
وهذا الشعور مما لا يختلف فيه الأمر والخبر عندهم وإن سلم امتناع ذلك في الخبر فحاصل ما ذكروه يرجع إلى القياس في اللغة وهو ممتنع لما سبق. وبتقدير صحة القياس في اللغة فالفرق بين الخبر والأمر ظاهر وذلك أنه إذا أخبر وقال: رأيت خبزاً سميداً ولحماً طرياً ورطباً جنياً إنما يخبر عما شاهده وعلمه ولا يلزم من مشاهدته لذلك أن لا يكون قد شاهد ما ليس على هذه الصفة. وإذا قال لعبده: اشتر خبزاً سميذاً ولحماً طرياً ورطباً جنياً مع علمه بأن الخبز الخشكار واللحم والرطب البايت مما يباع في السوق فقوله ذلك إنما يقصد به البيان وتمييز ما يشترى عما لا يشترى فكان النفي ملازماً للإثبات. الحجة الرابعة: أن أهل اللغة فرقوا بين العطف والنقض فقالوا: قول القائل: اضرب الرجال الطوال والقصار فالقصار عطف وليس بنقض للأول ولو كان قوله: اضرب الرجال الطوال مقتضياً لنفي الضرب عن القصار لكان نقضاً لا عطفاً وهي بعيدة عن التحقيق. وذلك أن قول القائل: اضرب الرجال الطوال إنما يدل على امتناع ضرب القصار بتقدير اختصاص الطوال بالذكر وإذا عطف عليه القصار فلا يكون مخصصاً للطوال بالذكر فلا يدل على نفي الضرب عن القصار ثم هو منتقض بالتخصيص بالغاية كما لو قال القائل لغيره: صم إلى غروب الشمس فإنه يدل على أن حكم ما بعد الغاية مخالف لما قبلها ومع ذلك فإنه لو قال له: صم إلى غروب الشمس وإلى نصف الليل فإنه لا يكون نقضاً. الحجة الخامسة: أنه لو كان تعليق الحكم بالصفة دالاً على نفيه عن غير الموصوف بها لما حسن الجمع بين قوله: أد زكاة السائمة وبين قوله: والمعلوفة لما بينهما من التناقض كما لا يحسن أن يقول له: لا تقل لزيد أف واضربه. ولقائل أن يقول: إنما لا يحسن ذلك أن لو قيل بالمناقضة وليس كذلك على ما سبق في الحجة التي قبلها هذا إذا كان بطريق العطف وأما إن قال بعد ذلك أد زكاة المعلوفة فإنما لم يمتنع لأن غايته أن صريح قوله: أد زكاة الغنم المعلوفة وقع معارضاً لدليل الخطاب والمعارضة غير ممتنعة. ولا يلزم من عدم جواز مثل ذلك في فحوى الخطاب امتناعه في دليل الخطاب إذ هو قياس في اللغة وهو ممتنع لما سبق. وبتقدير صحة القياس في اللغة فالفرق ظاهر وذلك لأن امتناع ذلك في فحوى الخطاب إنما كان فيما علم لا فيما ظن على ما سبق ودليل الخطاب فمظنون ولا يلزم من امتناع معارضه المقطوع امتناع معارضة المظنون ثم يلزم عليه التخصيص بالغاية كما سبق. الحجة السادسة: ذكرها أبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وهي أن المقصود من الصفة إنما هو تمييز الموصوف بها عما سواه. وكذلك المقصود من الاسم إنما هو تمييز المسمى عن غيره وتعليق الحكم بالاسم كما لو قال: زيد عالم لا يدل على نفي العلم عمن لم يسم باسم زيد فكذلك تعليق الحكم بالصفة. ولقائل أن يقول: قياس التخصيص بالصفة على التخصيص بالاسم قياس في اللغة فلا يصح وإن صح فلا نسلم أن تعليق الحكم بالاسم لا يدل على نفي الحكم عما سواه كما يأتي. وإن سلم عدم دلالته على ذلك فإنما يلزم مشاركة التعليق بالصفة له في ذلك أن لو بين أن مناط عدم دلالة التعليق بالاسم كونه موضوعاً للتمييز وهو غير مسلم ثم الفرق بينهما أن شعور المتكلم بالاسم العام المقيد بالصفة الخاصة بما ليس له تلك الصفة أتم من شعور المتكلم باسم أحد الجنسين بالجنس الآخر. وعند ذلك فلا يلزم من عدم دلالة التخصيص بالاسم مثله في الصفة كيف وهو منقوض بالتخصيص بالغاية فإنها مقصودة للتمييز ومع ذلك فهو دال على أن حكم ما بعد الغاية مخالف لما قبلها. الحجة السابعة: أن تعليق الحكم بالصفة لا يدل على نفيه عن غير الموصوف بها لأنه يصح أن يقال: في الغنم السائمة زكاة ولا زكاة في المعلوفة منها ولو كان قوله: في الغنم السائمة زكاة يدل على نفيها عن المعلوفة لما احتيج إلى العبارة الأخرى لعدم فائدتها. ولقائل أن يقول: كون الحكم في محل السكوت مستفاداً من دليل الخطاب لا يمنع من وضع عبارة خاصة إذ هو أبلغ في الدلالة وأقرب إلى حصول المقصود كما لا يمتنع ذلك في التقييد بالغاية كما تقدم ذكره.
الحجة الثامنة: أن القول في الغنم السائمة زكاة له دلالة بمنطوقه على وجوب السائمة فلو كان له دلالة مفهوم لجاز أن يبطل حكم المنطوق ويبقى حكم دلالة المفهوم كما يجوز أن يبطل حكم دليل الخطاب ويبقى حكم صريح الخطاب وهو ممتنع. ولقائل أن يقول: دليل الخطاب إنما هو متفرع من تخصيص الحكم بالصفة فإذا بطل حكم الصفة فلا تخصيص ومع عدم التخصيص فلا دلالة لدليل الخطاب ثم هو منقوض بالتخصيص بالغاية. الحجة التاسعة: أنه ليس في لغة العرب كلمة تدل على المتضادين معاً فلو كان قوله في الغنم السائمة زكاة دالاً على نفي الزكاة عن المعلوفة لكان اللفظ الواحد دالاً على الضدين معا وهو ممتنع. ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه ليس في اللغة لفظ يدل على المتضادين معا بدليل ما ذكرناه من دلالة الأسماء المشتركة على المسميات المتعددة معا كانت أضداداً أو لم تكن. سلمنا امتناع ذلك ولكن إنما يمتنع ذلك بالنظر إلى جهة واحدة من دلالة اللفظ. وأما من جهتين فلا نسلم ذلك وهاهنا الدال على وجوب الزكاة في السائمة صريح الخطاب والدال على نفي الزكاة عن المعلوفة دليل الخطاب وهما غيران ثم ما ذكرتموه منتقض بالتخصيص بالغاية. الحجة العاشرة: أن صورة الغنم السائمة مخالفة لصورة الغنم التي ليست بسائمة وعند اختلاف الصورتين لا يلزم من ثبوت الحكم في أحديهما ثبوته في الأخرى ولا عدمه لجواز اشتراك الصور المختلفة في أحكام وافتراقها في أحكام. وإذا لم يكن ذلك لازماً لم يلزم من الإخبار عن حكم في إحدى الصورتين الإخبار عنه في الصورة الأخرى لا وجوداً ولا عدماً. ولقائل أن يقول: متى لا يلزم من ثبوت الحكم في إحدى الصورتين نفيه في الصورة الأخرى إذا كان ذلك الحكم قد علق ثبوته بالاسم العام الموصوف بصفة خاصة أو إذا لم يكن الأول ممنوع ودعواه دعوى محل النزاع والثاني مسلم. وعلى هذا فالقول بأنه لا يلزم من الإخبار عن حكم إحدى الصورتين المختلفتين الإخبار عن الصورة الأخرى مطلقاً لا يكون صحيحاً ثم إنه منتقض بفحوى الخطاب فإن صورة المنطوق بالحكم فيها مخالفة للصورة المسكوت عنها ومع ذلك فإن الحكم الثابت في صورة النطق لازم ثبوته في صورة السكوت والإخبار عنه في إحداهما إخبار عنه في الصورة الأخرى. وإذ أتينا على ما أردناه من التنبيه على إبطال الحجج الواهية فلا بد من الإشارة إلى ما هو المختار في ذلك وأقرب ما يقال فيه مسلكان: المسلك الأول إنه لو كان تعليق الحكم على الصفة موجباً لنفيه عند عدمها لما كان ثابتاً عند عدمها لما يلزمه من مخالفة الدليل. وهو على خلاف الأصل لكنه ثابت مع عدمها ودليله قوله تعالى:" ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق" الإسراء 31 فإن النهي عن قتل الأولاد وقع معلقاً على تحريم القتل حالة الإملاق وكان التنصيص أولى من التحريم حالة خشية عدم خشية الإملاق بخشية الإملاق وهو منهي عنه أيضاً في حالة عدم خشية الإملاق. فإن قيل: تعليق الحكم بالصفة عندنا إنما يكون دليلاً على نفيه حالة عدم الصفة إذا لم يكن حالة عدم الصفة أولى بإثبات حكم الصفة كما ذكرناه من حكم زكاة السائمة والمعلوفة. وأما إذا كان الحكم في حالة عدم الصفة أولى بالإثبات من حالة وجود الصفة فلا وها هنا تحريم القتل حالة عدم خشية الإملاق أولى من التحريم حالة خشية الإملاق فكان التنصيص على تحريم القتل حالة خشية الإملاق محرماً له حالة عدم الخشية بطريق الأولى وكان ذلك من باب فحوى الخطاب لا من باب دليل الخطاب. قلنا: هذا وإن استمر لكم في هذه الصورة فلا يستمر في قوله تعالى:" لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفةً " آل عمران 130 وفي قوله:" ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا " وفي قوله تعالى:" ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً " النور 33 فإن النهي في جميع هذه الصور ليس هو أولى من صور السكوت فإن النهي. عن أكل قليل الربا ليس أولى من كثيره ولا النهي عن أكل مال اليتيم من غير إسراف أولى من الإسراف ولا النهي عن الإكراه على الزنى حالة إرادة التحصن أولى من حالة إرادة الزنى ومع ذلك فالحكم في الكل مشترك.
فإن قيل مخالفة دليل الخطاب في هذه الصور إنما كانت لمعارض ولا يلزم مخالفته عند عدم المعارض قلنا: وإن كان ثبوت الحكم في صورة السكوت على نحو ثبوته في صورة النطق لدليل ولكن يجب أن يعتقد أنه من غير مخالفة دليل لما فيه من دفع محذور المعارضة ولو كان دليل الخطاب دليلا لزم من ذلك التعارض وهو خلاف الأصل. المسلك الثاني إن تعليق الحكم بالصفة لو كان مما يستفاد منه نفي الحكم عند عدم الصفة لم يخل إما أن يكون ذلك مستفاداً من صريح الخطاب أو من جهة أن تعليق الحكم بالصفة يستدعي فائدة ولا فائدة سوى نفي الحكم عند عدم الصفة أو من جهة أخرى الأول محال فإن صريح الخطاب بوجوب الزكاة في السائمة غير صريح بوجوبها في المعلوفة كيف وإن ذلك مما لا قائل به. والثاني أيضاً ممتنع لما ذكرناه من الوجوه الكثيرة في إبطال الحجة الأولى من المعقول للقائلين بدليل الخطاب. والثالث فالأصل عدمه وعلى مدعيه بيانه ويلتحق بهذه المسألة تخصيص الأوصاف التي تطرأ وتزول كقوله: السائمة تجب فيها الزكاة والحكم كالحكم نفيا وإثباتا والمأخذ من الطرفين فعلى ما عرف والمختار فيها كالمختار ثم. المسألة الثانية اختلفوا في الحكم المعلق على شيء بكلمة إن هل الحكم على العدم عند عدم ذلك الشيء أولا ؟ فذهب ابن سريج والهراسي من أصحاب الشافعي والكرخي وأبو الحسين البصري إلى أن الحكم على العدم مع عدم ذلك الشرط وذهب القاضي أبو بكر والقاضي عبد الجبار وأبو عبد الله البصري إلى أن الحكم لا يكون على العدم عند عدم الشرط وهو المختار. وبيانه أن ما علق عليه الحكم بكلمة إن إما أن لا يكون شرطاً للحكم أو يكون شرطاً: فإن كان الأول فلا يلزم من نفيه نفي الحكم وإن كان شرطاً فلا يخلو إما أن يكون من لوازم الشرط انتفاء الحكم المعلق عليه مطلقاً عند انتفائه أو لا يكون لازماً له الأول محال وإلا لامتنع وجود القصر المعلق على الخوف بكلمة إن في قوله تعالى:" فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " النساء 101 وهو خلاف الإجماع وإن كان الثاني فهو المطلوب. فإن قيل: هو من لوازمه بتقدير عدم المعارض وليس من لوازمه بتقدير المعارض ثم ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه أن كلمة إن مسماة في اصطلاح أهل اللغة بالشرط والأصل في الإطلاق الحقيقة ولأن قول القائل لغيره: إن دخل زيد الدار فأكرمه في معنى قوله دخول زيد الدار شرط في إكرامه فكان ما دخلت عليه كلمة إن شرطاً في الحكم وإذا كان شرطاً لزم من عدمه عدم المشروط ويدل عليه ثلاثة أمور: الأول: أن يعلى بن أمية فهم من تعليق القصر على الخوف بكلمة إن عدم القصر عند عدم الخوف حيث سأل عمر قال ما بالنا نقصر وقد أمنا وقد قال تعالى:" فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم " النساء 101 وأقره عمر على ذلك وقال له: لقد عجبت مما عجبت منه فسألت النبي ﷺ عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.وفهم عمر ويعلى ذلك مع تقرير النبي ﷺ لهما على ما فهماه دليل ظاهر على العدم عند العدم. الثاني: أن الأمة متفقة على أن الحياة شرط لوجود العلم والقدرة والإرادة ونحو ذلك وإن الحول شرط لوجوب الزكاة وحكموا بانتفاء العلم والقدرة عند عدم الحياة وبانتفاء وجوب الزكاة عند عدم الحول ولولا أن ذلك مقتضى الشرط لما كان كذلك. الثالث: أنه إذا كان الشرط مما لا يثبت الحكم مع عدمه على كل حال وهو لا يلزم من وجوده وجود الحكم فيلزم أن يكون كل أمرين مختلفين لا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ولا من عدمه عدمه شرطاً وهو محال متفق عليه. والجواب: قولهم انه من لوازمه بتقدير عدم المعارض قلنا: يجب أن لا يكون مقتضياً لذلك حذراً من التعارض بتقدير وجود المعارض وما ذكروه ثانياً إنا وإن سلمنا أن ما دخلت عليه كلمة إن شرط ولكن لا نسلم أنه يلزم من عدمه عدم المشروط. وأما الاستدلال بقضية يعلى بن أمية فليس فيه ما يدل على أن عدم الخوف مانع من ثبوت القصر دونه بل لعله فهم أن الأصل عدم القصر وحيث ورد القصر حالة الخوف بقوله:" فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم " ولم يوجد ما يدل على القصر حالة عدم الخوف فيبقى على حكم الأصل.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الاحتمال إنما يصح أن لو كان الأصل في الصلاة الإتمام وليس كذلك بل الأصل في الصلاة عدم الإتمام ودليله ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت الصلاة في السفر والحضر ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر فلم يبق للتعجب وجه سوى دلالة اشتراط الخوف وعدم القصر عند عدمه. قلنا: الصلاة المشروعة بدياً ركعتين لا تسمى مقصورة كصلاة الصبح ولا فعلها قصراً وإنما المقصورة اسم لما جوز الاقتصار عليه من ركعتين في الرباعية ولفظ القصر لنفس الاقتصار على الركعتين من الرباعية فإطلاق لفظ القصر في الآية مشعر بسابقة وجوب الإتمام لا محالة. وإذا كان الإتمام هو الأصل السابق على القصر فقد بطل ما ذكروه كيف وإن ما ذكرناه من الاحتمال هو الأولى وإلا فلو كان اشتراط الخوف في القصر مانعاً من القصر مع عدمه لما جاز القصر مع عدم الخوف أو كان القصر على خلاف الدليل وهو ممتنع من غير ضرورة. وأما عدم العلم والقدرة وعدم وجوب الزكاة عند عدم الحياة وعدم الحول فليس في ذلك ما يدل على أن عدم الشرط مانع من وجود الحكم مع عدمه ولا بد بل غايته أن الحكم قد ينتفي في بعض صور نفي الشرط ولا نزاع فيه وإنما النزاع في لزوم انتفائه من انتفاء شرطه ولا بد. وأما الوجه الثالث فالوجه في جوابه أن يقال: لا يلزم من كونه الشرط لا يلزم من ثبوته ثبوت الحكم ولا من نفيه نفيه إذا كان غير الشرط مشاركاً له في هذه الصفة أن يكون شرطاً لأنه لا يمتنع اشتراك المختلفات في عارض عام لها كيف وإن معنى كون الشيء شرطاً لغيره أنه مؤكد لحال المشروط بمعنى أنه تحقق الشرط لا يجوز نفي المشروط عند تحقق مقتضيه دفعاً لوهم من توهم أن الخطاب لو ورد مطلقاً لجاز أن لا يكون المشروط بذلك الشرط مراداً. وذلك كما لو قال القائل: ضح بالشاة وإن كانت عوراء فإنه لو قال: ضحوا بالشاة مطلقا لجاز أن يتوهم متوهم أنه لا يجوز التضحية بالعوراء فكان ذكر الشرط لدفع هذا الوهم. وعلى هذا فلا يلزم أن يكون كل شيء شرطا لكل شيء كما قالوه إلا أن يكون الشرط على هذا النحو الذي ذكرناه وليس كذلك. وإن سلمنا أن الشرط يمنع من وجود المشروط دونه ولكن متى إذا أمكن قيام شرط مقام ذلك الشرط أو إذا لم يقم مقامه شرط آخر؟ الأول ممنوع والثاني مسلم. وهذا هو مذهب القاضي عبد الجبار وأبي عبد الله البصري وعلى هذا فكونه شرطاً يتحقق بانتفاء الحكم عند انتفائه إذا لم يقم غيره مقامه وإن لم يثبت إذا قام غيره مقامه فلم قلتم إن غيره لم يقم مقامه في الشرطية مع أن لفظ الاشتراط لا يدل على وجود شرط آخر ولا على عدمه. فإن قيل: إذا قال القائل لغيره: إن دخل زيد الدار فأعطه درهماً معناه أن الشرط هو دخول الدار في عطيتك له وذلك يقتضي أن يكون كمال الشرط هو دخول الدار لأن لام الجنس تقتضي العموم ولأن قوله إن دخل الدار فأعطه درهما يقتضي عدم الإعطاء عند عدم الدخول فلو قام شرط آخر مقامه لزم منه جواز الإعطاء مع عدم الدخول فيقتضي الشرط الأول امتناع وجود شرط آخر يقوم مقامه لما فيه من إخراج الشرط الأول عن كونه شرطاً. قلنا: جواب الأول أنا لا نسلم أن معنى قوله: إن دخل الدار هو الشرط بل هو شرط وذلك لا يمنع من شرط آخر.وتقدير لام الجنس هاهنا زيادة لم يدل عليها دليل فلا يصار إليها. وجواب الثاني أنا نسلم أن قوله: إن دخل الدار يقتضي عدم الإعطاء عند عدم الدخول مطلقاً بل إذا لم يقم غيره مقامه لكن قد يمكن أن يقال هاهنا إذا سلم أنه إذا لم يقم غيره مقامه إن عدمه يقتضي العدم فالأصل عدم قيام غيره مقامه فاقتضى عدمه العدم. وربما احتج القاضي عبد الجبار وأبو عبد الله البصري بأنه لو منع الشرط من ثبوت الحكم عند عدمه لكان قوله تعالى:" ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً " النور 33 يمنع من تحريم الإكراه على الزنى عند عدم إرادة التحصن وهو محال مخالف للإجماع. ولقائل أن يقول: ذكر إرادة التحصن إنما كان لكونه شرطاً في الإكراه لاستحالة تحقق الإكراه على الزنى في حق من هو مريد له غير مريد للتحصن لا لأنه شرط في تحريم الإكراه على الزنى والله أعلم. المسألة الثالثة اختلفوا في الخطاب إذا قيد الحكم بغايته هل يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية أم لا؟ اختلفوا في الخطاب إذا قيد الحكم بغاية كما في قوله تعالى:" ثم أتموا الصيام إلى الليل " البقرة 187 وقوله تعالى:" ولا تقربوهن حتى يطهرن " البقرة 222 وقوله:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " البقرة 230 وقوله:" حتى يعطوا الجزية " التوبة 29 فذهب أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلمين كالقاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم إلى أن ذلك يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية وخالف في ذلك أصحاب أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء والمتكلمين وهو المختار وذلك لأنه لو دل تقييدالحكم بالغاية المحدودة على نفي الحكم فيما بعد الغاية لم يخل إما أن يدل عليه بصريح لفظه أو بأنه لو لم يكن دالاً على نفي الحكم فيما بعد الغاية لما كان التقييد بالغاية مفيداً أو من جهة أخرى الأول محال لأن اللفظ بصريحه لم يدل على نفي الحكم بعد الغاية والثاني إنما يلزم أن لو لم يكن للتقييد فائدة سوى ما ذكروه وليس كذلك بل جاز أن تكون فائدة التقييد تعريف بقاء ما بعد الغاية على ما كان قبل الخطاب أي أنه غير متعرض فيه لإثبات الحكم ولا نفيه. وإن كان الثالث فالأصل عدمه وعلى مدعيه بيانه وأيضاً فإنه لا مانع من ورود الخطاب فيما بعد الغاية بمثل الحكم السابق قبل الغاية بالإجماع. وعند ذلك إما أن يكون تقييد الحكم بالغاية نافياً للحكم فيما بعدها أو لا يكون والأول يلزم منه إثبات الحكم مع تحقق ما ينفيه وهو خلاف الأصل وإن كان الثاني فهو المطلوب. فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه أن كلمة حتى و إلى لانتهاء الغاية وهي جارية مجرى قوله: صوموا صوماً أخره الليل ولو قال ذلك لمنع من وجوب الصوم بعد مجيء الليل لأنه لو وجب الصوم بعد ذلك لصارت الغاية وسطاً وهو محال. ولهذا فإنه لو قال القائل لعبده: لا تعط زيدا درهماً حتى يقوم واضرب عمراً حتى يتوب فإنه لا يحسن الاستفهام بعد ذلك وأن يقال: فهل أعطيه إذا قام وهل أضربه إذا تاب؟ ولولا أن التقييد بالغاية يدل على عدم الحكم بعدها لما كان كذلك. قلنا: لا ننكر أن حتى و إلى لانتهاء الغاية وأنها جارية مجرى قوله: صوموا صياماً آخره الليل غير أن الخلاف إنما هو في أن تقييد الحكم بالغاية هل يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية وذلك غير لازم من التقييد بالغاية. بل غايته أن دلالة التقييد بالغاية على أن ما بعدها غير متعرض فيه بالخطاب الأول لا بنفي ولا إثبات ولا يلزم من وجود صوم بعد الغاية أن تصير الغاية وسطاً بل هي غاية للصوم المأمور به أولا وإنما تصير وسطاً أن لو كان الصوم فيما بعد الغاية مستنداً إلى الخطاب الذي قبل الغاية وليس كذلك. وأما أنه لا يحسن الاستفهام عند قوله: لا تعط زيدا درهماً حتى يقوم واضرب عمراً حتى يتوب لأن ما بعد الغاية مسكوت عنه غير متعرض له بنفي ولا إثبات فلا يحسن الاستفهام فيما لا دلالة للفظ عليه كما قبل الأمر بالإعطاء والضرب. المسألة الرابعة اختلفوا في تقييد الحكم بعدد مخصوص هل يدل على أن ما عدا ذلك العدد بخلافه أو لا والحق في ذلك إنما هو التفصيل وهو أن الحكم إذا قيد بعدد مخصوص فمنه ما يدل على ثبوت ذلك الحكم فيما زاد على ذلك العدد بطريق الأولى وذلك كما لو حرم الله جلد الزاني مائةً وقال إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً فإنه يدل على تحريم ما زاد على المائة وإن ما زاد على القلتين لا يحمل خبثا بطريق الأولى ولأن ما زاد على المائة وعلى القلتين ففيه المائة والقلتان وزيادة. وهل يدل ذلك على أن الحكم فيما دون المائة ودون القلتين على خلاف الحكم في المائة والقلتين؟ هذا موضع الخلاف. ومنه ما لا يدل على ثبوت الحكم فيما زاد على العدد المخصوص بطريق الأولى وذلك كما إذا أوجب جلد الزاني مائةً أو أباحه فإنه لا يدل على الوجوب والإباحة فيما زاد على ذلك بطريق الأولى بل هو مسكوت عنه ومختلف في دلالته على نفي الوجوب والإباحة فيما زاد ومتفق على أن حكم ما نقص كحكم المائة لدخوله تحتها لكن لا يمنع من الاقتصار عليه. والمختار فيما كان مسكوتاً عنه ولم يكن الحكم فيه ثابتا بطريق الأولى من هذه الصور أن تخصيص الحكم بالعدد لا يدل على انتفاء الحكم فيه لما ذكرناه في المسائل المتقدمة.
ومن نازع في ذلك فلا يخرج في احتجاجه على مذهبه عما ذكرناه فيما تقدم وقد عرف ما فيه. المسألة الخامسة اتفق الكل على أن مفهوم اللقب ليس بحجة خلافاً للدقاق وأصحاب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وصورته أن يعلق الحكم إما باسم جنس كالتنصيص على الأشياء الستة بتحريم الربا أو باسم علم كقول القائل زيد قائم أو قام. والمختار إنما هو مذهب الجمهور لكن قد احتج بعض القائلين بإبطاله بحجج لا بد من الإشارة إليها والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار. الحجة الأولى: لو كان مفهوم اللقب حجةً لبطل القياس وذلك ممتنع وبيان لزوم ذلك أن القياس لا بد فيه من أصل وحكم الأصل إما أن يكون منصوصاً أو مجمعاً عليه فلو كان النص على الحكم في الأصل أو الإجماع عليه يدل على نفي الحكم عن الفرع فالحكم في الفرع إن ثبت بالنص أو الإجماع فلا قياس وإن ثبت بالقياس على الأصل فهو ممتنع لما فيه من مخالفة النص أو الإجماع الدال على نفي الحكم في الفرع. ولقائل أن يقول: النص الوارد في الأصل وإن دل على نفي الحكم في الفرع فليس بصريحه بل بمفهومه وذلك مما لا يمنع عند القائلين به من إثبات الحكم بمعقول النص وهو القياس فلا يفضي إلى إبطال القياس وغايته التعارض لا الإبطال. الحجة الثانية: أنه لو كان مفهوم اللقب حجةً ودليلاً لكان القائل إذا قال: عيسى رسول الله فكأنه قال: محمد ليس برسول الله وكذلك إذا قال: زيد موجود فكأنه قال: الإله ليس بموجود وهو كفر صراح ولم يقل بذلك قائل. ولقائل أن يقول: من الخصوم إنما لا يكون المتكلم بذلك كافراً إذا لم يكن متنبهاً لدلالة اللفظ أو كان متنبهاً لها غير أنه لم يرد بلفظه ما دل عليه مفهومه وأما إذا كان متنبهاً لدلالة لفظه وهو مريد لمدلولها فإنه يكون كافراً. الحجة الثالثة أنهم قالوا: إذا قال القائل: زيد يأكل لا يفهم منه أن عمراً لا يأكل ولقائل أن يقول: لا يفهم منه ذلك من يعتقد دلالة مفهوم اللقب أو من لا يعتقده؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وعدم فهم ذلك بالنسبة إلى من لا يعتقد دلالته لا يدل على عدم دلالته في نفسه. الحجة الرابعة: أنه لو كان مفهوم اللقب دليلاً لما حسن من الإنسان أن يخبر أن زيداً يأكل إلا بعد علمه أن غيره لم يأكل وإلا كان مخبراً بما يعلم أنه كاذب فيه أو بما لا يأمن فيه من الكذب وحيث استحسن العقلاء ذلك مع عدم علمه بذلك دل على عدم دلالته على نفي الأكل عن غير زيد. ولقائل أن يقول: إذا أخبر بذلك فلا يخلو إما أن يكون عالماً بأن غير زيد يأكل أو غير عالم بذلك وعلى كلا التقديرين إنما لم يستقبح منه ذلك لظهور القرينة الدالة على أنه لم يرد سوى مدلول صريح لفظه دون مفهومه لعدم علمه بذلك في إحدى الحالتين وعلمه بوقوع الأكل من غير زيد في الحالة الأخرى فإن الظاهر من حال العاقل أنه لا يخبر عن نفي ما لم يعلمه ولا نفي ما علم وقوعه حتى إنه لو ظهر منه ما يدل على إرادته لنفي ما دل عليه لفظه عند القائلين به لكان مستقبحاً. والمختار في إبطال ما سبق في المسائل المتقدمة. وأما حجج الخصوم وجوابها فعلى ما سبق في مفهوم التقييد بالصفة. وربما احتجوا في خصوص هذه المسألة بحجج أخرى وهو أنه لو تخاصم شخصان فقال أحدهما للآخر أما أنا فليس لي أم ولا أخت ولا امرأة زانية فإنه يتبادر إلى الفهم نسبة الزنى منه إلى زوجة خصمه وأمه وأخته ولهذا قال أصحاب أحمد بن حنبل ومالك بوجوب حد القذف عليه. وجوابه أن ذلك إن فهم منه فإنما يفهم من قرينة حاله لا من دلالة مقاله بدليل ما أسلفناه ولذلك لم يكن حد القذف عندنا واجباً بذلك وعلى هذا يكون الحكم في مفهوم الاسم العام المشتق كقوله لا تبيعوا الطعام بالطعام. المسألة السادسة اختلفوا في تقييد الحكم بإنما هل يدل على الحصر أو لا؟ اختلفوا في تقييد الحكم بإنما كقوله ﷺ:" إنما الشفعة فيما لم يقسم وإنما الأعمال بالنيات وإنما الولاء لمن أعتق وإنما الربا في النسيئة "هل يدل على الحصر أو لا ؟ فذهب القاضي أبو بكر والغزالي والهراسي وجماعة من الفقهاء إلى أنه ظاهر في الحصر محتمل للتأكيد وذهب أصحاب أبي حنيفة وجماعة ممن أنكر دليل الخطاب إلى أنه لتأكيد الإثبات ولا دلالة له على الحصر وهو المختار.
وذلك لأن كلمة إنما قد ترد ولا حصر كقوله إنما الربا في النسيئة وهو غير منحصر في النسيئة لانعقاد الإجماع على تحريم ربا الفضل فإنه لم يخالف فيه سوى ابن عباس ثم رجع عنه وقد ترد والمراد بها الحصر كقوله تعالى:" إنما أنا بشر مثلكم " فصلت 6 وعند ذلك فيجب اعتقاد كونها حقيقةً في القدر المشترك بين الصورتين وهو تأكيد إثبات الخبر للمبتدإ نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ لكونه على خلاف الأصل ولأن كلمة إنما لو كانت للحصر لكان ورودها في غير الحصر على خلاف الأصل. فإن قيل: ولو لم تكن للحصر لكان فهم الحصر في صورة الحصر من غير دليل وهو خلاف الأصل: قلنا إنما يكون فهم ذلك من غير دليل أن لو كان دليل الحصر منحصراً في كلمة إنما وليس كذلك. المسألة السابعة اختلفوا في قوله ﷺ الأعمال بالنيات وفي قول القائل: العالم زيد: وصديقي زيد هل يدل على حصر الأعمال فيما كان منوياً وعلى حصر العالم والصديق في زيد. فذهبت الحنيفة والقاضي أبو بكر وجماعة من المتكلمين إلى أنه لا يدل على الحصر وذهب الغزالي والهراسي وجماعة من الفقهاء إلى أنه يدل على الحصر. والمختار أنه لا يدل لما سبق في المسائل المتقدمة. فإن قيل: لو لم يكن ذلك دالا على حصر الأعمال في المنوي والعالم والصديق في زيد لكان المبتدأ أعم من خبره وكان ذلك كذباً كما لو قال: الحيوان إنسان والإنسان زيد. قلنا: إنما يلزم الكذب أن لو كانت الألف واللام في الأعمال للعموم فإنها تنزل منزلة قوله كل عمل منوى وهو كاذب كما في قوله: كل حيوان إنسان وليس كذلك بل هي ظاهرة في البعض فكأنه قال: بعض الأعمال بالنيات وذلك صادق غير كاذب. وكذلك الحكم في قوله: العالم زيد وكذلك قوله: صديقي زيد ليس عاماً في كل صديق بل كأنه قال بعض أصدقائي زيد حتى إنه لو ثبت أن الألف واللام إذا دخلت على اسم الجنس تكون عامة وكان المتكلم مريداً للتعميم فإنه يكون كاذباً بتقدير ظهور عالم آخر وصديق آخر له وكان قوله دالاً على الحصر لا محالة. وربما قيل في إبطال القول بالحصر إنه لو كان قوله: العالم زيد وصديقي زيد يدل على حصر العالم والصديق في زيد لكان إذا قال: العالم زيد وعمرو وصديقي زيد وعمرو متناقضاً وليس كذلك باتفاق أهل اللغة وليس بحق فإن للخصم أن يقول إنما يكون ذلك مناقضاً بشرط أن يتجرد قوله الأول عما يغيره. وأما إذ عطف عليه قوله: وعمرو صار الكل كالجملة الواحدة وكان قوله: العالم زيد مع الإنفراد مغايراً في دلالته لقوله: العالم زيد وعمرو وهذا كما لو قال: له علي عشرة ثم بعد حين قال: إلا خمسة فإنه لا يقبل لما فيه من مناقضة لفظه الأول: ولو قال: له علي عشرة إلا خمسة على الاتصال كان مقبولاً لعدم تناقضه ولولا اختلاف الدلالة لما اختلف الحال بل كان الواجب أن لا يقبل استثناؤه في الصورتين أو يقبل فيهما وهو محال. المسألة الثامنة اختلفوا في قوله لا عالم في البلد إلا زيد فالذي عليه الجمهور وأكثر منكرين المفهوم أنه يدل على نفي كل عالم سوى زيد وإثبات كون زيد عالماً وذهب بعض منكرين المفهوم إلى أن ذلك لا يدل على كون زيد عالماً بل هو نطق بالمستثنى منه وسكوت عن المستثنى. ومعنى خروج المستثنى عن المستثنى منه أنه لم يدخل في عموم المستثنى منه وأنه لم يتعرض فيه لكون زيد عالماً لا نفياً ولا إثباتاً. والحق إنما هو المذهب الجمهوري ودليله ما بيناه فيما تقدم من أن الاستثناء من النفي إثبات وأن قول القائل: لا إله إلا الله ناف للألوهية عن غير الله تعالى ومثبت لصفة الألوهية لله تعالى وقررناه أحسن تقرير وحققنا وجه الانفصال عن كل ما ورد عليه من الإشكالات فعليك بالالتفات إليه ونقله إلى هاهنا. المسألة التاسعة اتفق القائلون على أن كل خطاب خصص محل النطق بالذكر لا مفهوم له اتفق القائلون بالمفهوم على أن كل خطاب خصص محل النطق بالذكر لخروجه مخرج الأعم بالأغلب لا مفهوم له وذلك كقوله تعالى:" وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " النساء 23 وقوله:" وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها " النساء 35 وقوله ﷺ:" أيما امرأة نكحت نفسها بغير أذن وليها فنكاحها باطل "وقوله ﷺ:" فليستنج بثلاثة أحجار "فإن تخصيصه بالذكر لمحل النطق في جميع هذه الصور إنما كان لأنه الغالب إذ الغالب أن الربيبة إنما تكون في الحجر وإن الخلع لا يكون إلا مع الشقاق وإن المرأة لا تزوج نفسها إلا عند عدم إذن الولي لها وإبائه من تزويجها وإن الاستنجاء لا يكون إلا بالحجارة وكذلك الحكم في كل ما ظهر سبب تخصيصه بالذكر كسؤال سائل أو حدوث حادثة أو غير ذلك مما سبق ذكره من أسباب التخصيص. وعلى هذا فلو لم يظهر سبب يوجب تخصيص محل النطق بالذكر دون محل السكوت بل كانت الحاجة إليهما وإلى ذكرهما مع العلم بهما مستويةً ولم يكن الحكم في محل السكوت أولى بالثبوت وبالجملة لو لم يظهر سبب من الأسباب الموجبة للتخصيص سوى نفي الحكم في محل السكوت فهل يجب القول بنفي الحكم في محل السكوت تحقيقاً لفائدة التخصيص أو لا يجب: إن قلنا إنه لا يجب كان التخصيص بالذكر عبثاً خلياً عن الفائدة وذلك مما ينزه عنه منصب آحاد البلغاء فضلاً عن كلام الله تعالى ورسوله وإن قلنا بوجوب نفي الحكم لزم القول بدلالة المفهوم في هذه الصورة. والوجه في حله أن يقال: إذا لم يظهر السبب المخصص فلا يخلو إما أن يكون مع عدم ظهوره محتمل الوجود والعدم على السواء أو أن عدمه أظهر من وجوده: فإن كان الأول فليس القول بالنفي أولى من القول بالإثبات وعلى هذا فلا مفهوم وإن كان الثاني فإنما يلزم من ذلك نفي الحكم في محل السكوت أن لو كان نفي الحكم فيه من جملة الفوائد الموجبة لتخصيص محل النطق بالذكر وليس كذلك. وذلك لأن نفي الحكم في محل السكوت عند القائلين بمفهوم المخالفة إنما هو فرع دلالة اللفظ في محل النطق عليه فلو كانت دلالة اللفظ في محل النطق عل نفي الحكم في محل السكوت متوقفة عليه بوجه من الوجوه كان دوراً ممتنعاً. وإلى هاهنا تم الكلام في أصناف دلالة غير المنظوم هذا ما يتعلق بالنظر فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع. الباب الثاني فيما يشترك فيه الكتاب والسنة دون غيرهما من الأدلة وأما ما يتعلق بالنظر فيما يشترك فيه الكتاب والسنة دون غيرهما من الأدلة فهو النظر في النسخ ويشتمل على مقدمة ومسائل. أما المقدمة فتشتمل على أربعة فصول: الفصل الأول في تعريف النسخ والناسخ والمنسوخ أما النسخ فهو في اللغة قد يطلق بمعنى الإزالة ومنه يقال نسخت الشمس الظل أي أزالته ونسخت الريح أثر المشي أي أزالته ونسخ الشيب الشباب إذا أزاله ومنه تناسخ القرون والأزمنة. والإزالة هي الإعدام ولهذا يقال: زال عنه المرض والألم وزالت النعمة عن فلان ويراد به الانعدام في هذه الأشياء كلها. وقد يطلق بمعنى نقل الشيء وتحويله من حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه قال السجستاني من أهل اللغة: والنسخ أن تحول ما في الخلية من النحل والعسل إلى أخرى ومنه تناسخ المواريث بانتقالها من قوم إلى قوم وتناسخ الأنفس بانتقالها من بدن إلى غيره عند القائلين بذلك. ومنه نسخ الكتاب بما فيه من مشابهة النقل وإليه الإشارة بقوله تعالى:" إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " الجاثية 29 والمراد به نقل الأعمال إلى الصحف أو من الصحف إلى غيرها لكن اختلف الأصوليون: فذهب القاضي أبو بكر ومن تابعه كالغزالي وغيره إلى أن اسم النسخ مشترك بين هذين المعنيين وذهب أبو الحسين البصري وغيره إلى أنه حقيقة في الإزالة مجاز في النقل وذهب القفال من أصحاب الشافعي إلى أنه حقيقة في النقل والتحويل وقد احتج أبو الحسين البصري بأن إطلاق اسم النسخ على النقل في قولهم: نسخت الكتاب مجاز لأن ما في الكتاب لم ينقل حقيقةً. وإذا كان اسم النسخ مجاز في النقل لزم أن يكون حقيقة في الإزالة لأنه غير مستعمل فيما سواهما. وإذا بطل كونه حقيقةً في أحدهما تعين أن يكون حقيقةً في الآخر وقد قرر ذلك بعضهم من وجه آخر فقال: إطلاق اسم النسخ بمنى الإزالة والإعدام واقع كما سبق والأصل في الإطلاق الحقيقة ويلزم أن لا يكون حقيقةً في النقل دفعا للاشتراك عن اللفظ. ولقائل أن يقول على الوجه الأول إن إطلاق اسم النسخ على الكتاب إما أن يكون حقيقةً أو تجوزاً: فإن كان حقيقةً فهو المطلوب وبطل ما ذكروه وإن كان مجازاً ضرورة أن ما في الكتاب لم ينقل على الحقيقة فيمتنع أن يكون التجوز به مستعاراً من الإزالة فإنه غير مزال ولا يشبه الإزالة فلا بد من استعارته من معنى آخر والإجماع منعقد على امتناع إطلاق اسم النسخ حقيقةً في الإزالة والنقل فإذا تعذرت استعارته من الإزالة تعين أن يكون مستعاراً من النقل. ووجه استعارته منه أن تحصيل ما في أحد الكتابين في الآخر تجري مجرى نقله وتحويله إليه فكان منه بسبب من أسباب التجوز وإذا كان مستعاراً من النقل وجب أن يكون اسم النسخ حقيقة في النقل إذ المجاز لا يتجوز به في غيره بإجماع أهل اللغة. ثم وإن كان ذلك مجازاً في نسخ الكتاب فما الاعتذار عن اطلاق اسم التناسخ في المواريث مع كونها منتقلةً حقيقةً وإطلاق اسم النسخ على تحويل النحل والعسل من خلية إلى أخرى فإن ما ذكروه في تقرير التجوز في نسخ الكتاب غير متصور هاهنا. وأما الوجه الثاني فمقابل بمثله وهو أن يقال: اسم النسخ قد أطلق بمعنى النقل على ما سبق والأصل في الإطلاق الحقيقة ويلزم من كونه حقيقةً فيه أن لا يكون حقيقةً في الإزالة دفعاً للاشتراك عن اللفظ وليس أحد الأمرين أولى من الآخر فإن قبل الترجيح لكونه حقيقة في الإزالة وذلك لأن الإزالة مطلق إعدام والنقل أخص من الإزالة لأنه يستلزم إعدام الصفة وحدوث أخرى والإعدام المستلزم حدوث شيء آخر أخص من الإعدام الذي لا يستلزم ذلك وإذا كانت الإزالة أعم فجعل النسخ حقيقةً فيها أولى نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ. قلنا: لا نسلم أن الإزالة أعم من النقل والتحويل وإن كان يستلزم إعدام صفة وتجدد أخرى فكل إزالة هكذا لأن الإزالة على ما قيل هي الإعدام والإعدام يستلزم زوال الصفة وهي الوجود وتجدد أخرى وهي صفة العدم وهما صفتان متقابلتان مهما انتفت إحداهما تحققت الأخرى وإذا تساويا عموماً وخصوصاً فليس جعل اسم النسخ حقيقةً في أحدهما أولى من الآخر. وإذا تعذر ترجيح أحد الأمرين مع صحة الإطلاق فيهما كان القول بالاشتراك أشبه اللهم إلا أن يوجد في حقيقة النقل خصوص تبدل الصفة الوجودية بصفة وجودية فيكون النقل أخص. ومع هذا كله فالنزاع في هذا لفظي لا معنوي وأما معناه في اصطلاح الأصوليين فقد اختلف فيه: فقال أبو الحسين البصري: هو إزالة مثل الحكم الثابت بقول منقول عن الله تعالى أو عن رسوله مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً وهو فاسد من وجهين: الأول: هو أن إزالة المثل إما أن تكون قبل وجود ذلك المثل أو بعد عدمه أو في حالة وجوده: الأول محال فإن ما لم يوجد لا يقال إنه أزيل والثاني أيضاً محال فإن إزالة ما عدم بعد وجوده ممتنع والثالث أيضاً محال لأن الإزالة هي الإعدام وإعدام الشيء حال وجوده محال. الوجه الثاني: أنه غير مانع إذ يدخل فيه إزالة مثل ما كان ثابتاً من الأحكام العقلية قبل ورود الشرع بخطاب الشارع المتراخي على وجه لولا خطاب الشارع المغير لكان ذلك الحكم مستمراً وليس بنسخ في مصطلح المتشرعين إجماعاً. ومنهم من قال: هو إزالة الحكم بعد استقراره ويبطل بالوجهين السابقين وبما لو زال الحكم بعد استقرار بمرض أو جنون أو موت فإنه داخل فيما قيل وليس بنسخ إجماعاً. ومنهم من قال: هو نقل الحكم إلى خلافه ويبطل بما بطل به الحد الذي قبله وبما لو نقل الحكم إلى خلافه بالغاية كما في قوله تعالى:" ثم أتموا الصيام إلى الليل " البقرة 187 فإن الحكم فيما قبل الغاية قد قلب إلى خلافه فيما بعد الغاية وليس بنسخ وبه يبطل قول من قال في حده إنه بيان مدة الحكم.
وقال القاضي أبو بكر: إنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه وهو اختيار الغزالي أيضاً وقصد بالقيد الأول تعميم كل خطاب كان من باب المنظوم أو غيره والاحتراز عن الموت والمرض والجنون وجميع الأعذار الدالة على ارتفاع الأحكام الزائلة بها مع تراخيها ولولاها لكانت الأحكام الزائلة بها مستمرة وبالقيد الثاني وهو الخطاب المتقدم الاحتراز عن الخطاب الدال على ارتفاع الأحكام العقلية قبل ورود الشرع وبالقيد الثالث وهو على وجه لولاه لكان مستمرا الإحتراز عما إذا ورد الخطاب بحكم موقت ثم ورد الخطاب عند تصرم ذلك الوقت بحكم مناقض للأول كما لو ورد قوله: عند غروب الشمس كلوا بعد قوله:" ثم أتموا الصيام إلى الليل " فإنه لا يكون نسخاً لحكم الخطاب الأول حيث إنا لو قدرنا عدم الخطاب الثاني لم يكن حكم الخطاب الأول مستمراً بل منتهياً بالغروب وبالقيد الرابع الاحتراز عن الخطاب المتصل كالاستثناء والتقييد بالشرط والغاية فإن يكون بياناً لا نسخاً. ويرد عليه إشكالات: الإشكال الأول أن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت هو الناسخ والنسخ هو نفس الارتفاع فلا يكون الناسخ هو النسخ. الثاني: وهو ما أورده أبو الحسين البصري أنه قال إنه ليس بجامع ولا مانع: أما أنه ليس بجامع فلأنه يخرج منه النسخ بفعل الرسول مع أنه ليس بخطاب ويخرج منه نسخ ما ثبت بفعل الرسول وليس فيه ارتفاع حكم ثبت بالخطاب. وأما أنه ليس بمانع فلأنه لو اختلفت الأمة في الواقعة على قولين وأجمعوا بخطابهم على تسويغ الأخذ بكل واحد من القولين للمقلد ثم أجمعوا بأقوالهم على أخذ القولين فإن حكم خطاب الإجماع الثاني دل على ارتفاع حكم خطاب الإجماع الأول وليس بنسخ إذ الإجماع لا ينسخ به. الثالث: هو أن تحديد النسخ بارتفاع الحكم الثاني تحديد له بما ليس بمتصور لوجوه يأتي ذكرها في مسألة إثبات النسخ. الرابع: أن فيه زيادةً لا حاجة إليها وهي قوله متراخ عنه وقوله: على وجه لولاه لكان مستمراً ثابتاً فإن ذكر التراخي إنما وقع احترازاً عن الخطاب المتصل كالاستثناء والتقييد بالشرط والغاية وفي الحد ما يدرأ النقض بذلك وهو ارتفاع الحكم والخطاب المتصل بالخطاب الأول في هذه الصور ليس رافعاً لحكم الخطاب المتقدم في الذكر بل هو مبين أن الخطاب المتقدم لم يرد الحكم فيما استثنى وفيما خرج عن الشرط والغاية وبالتقييد بالرفع يدرأ النقض بالخطاب الوارد بما يخالف حكم الخطاب المتقدم إذا كان حكمه موقتا من حيث إن الخطاب الثاني لا يدل على ارتفاع حكم الخطاب الأول لانتهائه بانتهاء وقته. والجواب عن الإشكال الأول: لا نسلم أن النسخ هو ارتفاع الحكم بل النسخ نفس الرفع المستلزم للارتفاع والرفع هو الخطاب الدال على الارتفاع وذلك لأن النسخ يستدعى ناسخاً ومنسوخاً والناسخ هو الرافع أي الفاعل والمنسوخ هو المرفوع أي المفعول. والرافع والمرفوع أي الفاعل والمفعول يستدعي رفعاً وارتفاعاً أي فعلاً وانفعالاً والرافع هو الله تعالى على الحقيقة. وإن سمي الخطاب ناسخاً فإنما هو بطريق التجوز كما يأتي تحقيقه والمرفوع هو الحكم والرفع الذي هو الفعل صفة الرافع وذلك هو الخطاب والارتفاع الذي هو نفس الانفعال صفة المرفوع المفعول. وذلك على نحو فسخ العقد فإن الفاسخ هو العاقد والمفسوخ هو العقد والفسخ صفة العاقد وهو قوله: فسخت والانفساخ صفة العقد وهو انحلاله بعد انبرامه. وأما النسخ بفعل الرسول فلا نسلم أن فعل الرسول ناسخ حقيقةً إذ ليس للرسول ولاية إثبات الأحكام الشرعية ورفعها من تلقاء نفسه وإنما هو رسول ومبلغ عن الله تعالى ما يشرعه من الأحكام ويرفعه ففعله إن كان ولا بد فإنما هو دليل على الخطاب الدال على ارتفاع الحكم لا أن نفس الفعل هو الدال على الارتفاع. وأما الإشكال بالإجماع ففيه جوابان: الأول: أنه مهما اجتمعت الأمة على تسويغ الخلاف في حكم مسألة معينة وكان إجماعهم قاطعاً فلا نسلم تصور إجماعهم على مناقضة ما أجمعوا عليه أولاً ليصح ما قيل.
الثاني: أنه وإن صح ذلك فلا نسلم أن الحكم نفياً وإثباتاً مستند إلى قول أهل الإجماع وإنما هو مستند إلى الدليل السمعي الموجب لإجماعهم على ذلك الحكم وعلى هذا فيكون إجماعهم دليلاً على وجود الخطاب الذي هو النسخ لا أن خطابهم نسخ. وما وعدوا به في الوجه الثالث فسيأتي الجواب عنه أيضاً. وأما ما ذكروه من الزيادات فهي غير مخلة بصحة الحد وفائدتها الميز بين النسخ والصور المذكورة مبالغة في تحصيل الفائدة. ومع ذلك فالمختار في تحديده أن يقال: النسخ عبارة عن خطاب الشارع المانع من استمرار ما ثبت من حكم خطاب شرعي سابق. ولا يخفى ما فيه من الاحتراز من غير حاجة إلى التقييد بالتراخي ولا بقولنا: لولاه لكان مستمراً ثابتاً لما سبق تقريره. وأما الناسخ فإنه قد يطلق على الله تعالى فيقال: نسخ فهو ناسخ ومنه قوله تعالى:" ما ننسخ من آية " البقرة 106 وقوله تعالى:" فينسخ الله ما يلقى الشيطان " الحج 52 وقد يطلق على الآية أنها ناسخةً فيقال: آية السيف نسخت كذا فهي ناسخة. وكذلك على كل طريق يعرف به نسخ الحكم من خبر الرسول وفعله وتقريره وإجماع الأمة. وعلى الحكم فيقال وجوب صوم رمضان نسخ وجوب صوم عاشوراء فهو ناسخ وعلى المعتقد لنسخ الحكم فيقال: فلان ينسخ القرآن بالسنة أي يعتقد ذلك فهو ناسخ. غير أن الإجماع منعقد على أن إطلاق اسم الناسخ على الحكم وعلى المعتقد للنسخ مجاز وإنما الخلاف بيننا وبين المعتزلة في أنه حقيقة في الله تعالى أو في الطريق المعرف لارتفاع الحكم فعندهم الناسخ في الحقيقة هو الطريق حتى قالوا في حده: إن الناسخ هو قول صادر عن الله تعالى أو عن رسوله أو فعل منقول عن رسوله يفيد إزالة مثل الحكم الثابت بنص صادر عن الله تعالى أو بنص أو فعل منقول عن رسوله مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً. وأما نحن فمعتقدنا أن الناسخ في الحقيقة إنما هو الله تعالى وأن خطابه الدال على ارتفاع الحكم هو النسخ وإن سمي ناسخاً فمجاز وحاصل النزاع في ذلك آيل إلى اللفظ. وأما المنسوخ فهو الحكم المرتفع كالمرتفع من وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي ﷺ وحكم الوصية للوالدين والأقربين وحكم التربص حولاً كاملاً عن المتوفى عنها زوجها إلى غير ذلك. الفصل الثاني في الفرق بين النسخ والبداء واعلم أن البداء عبارة عن الظهور بعد الخفاء ومنه يقال: بدا لنا سور المدينة بعد خفائه وبدا لنا الأمر الفلاني أي ظهر بعد خفائه وإليه الإشارة بقوله تعالى:" وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " الزمر 47 " بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل " الأنعام 28 " وبدا لهم سيئات ما عملوا " الجاثية 33 وحيث كان فإن النسخ يتضمن الأمر بما نهى عنه والنهي عما أمر به على حده وظن أن الفعل لا يخرج عن كونه مستلزماً لمصلحة أو مفسدة فإن كان مستلزما لمصحلة فالأمر به بعد النهي عنه على الحد الذي نهى عنه إنما يكون لظهور ما كان قد خفي من المصلحة وإن كان مستلزماً لمفسدة فالنهي عنه بعد الأمر به على الحد الذي أمر به إنما يكون لظهور ما كان قد خفي من المفسدة وذلك عين البداء. ولما خفي الفرق بين البدآء والنسخ على اليهود والرافضة منعت اليهود من النسخ في حق الله تعالى وجوزت الروافض البداء عليه لاعتقادهم جواز النسخ على الله تعالى مع تعذر الفرق عليهم بين النسخ والبدآء واعتضدوا في ذلك بما نقلوه عن علي رضي الله عنه أنه قال: لولا البدا لحدثتكم بما هو كائن إلى يوم القيامة. ونقلوا عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: ما بدا لله تعالى في شيء كما بدا له في إسماعيل أي في أمره بذبحه ونقلوا عن موسى بن جعفر: أنه قال البدآء ديننا ودين آبائنا في الجاهلية. وتمسكوا أيضا بقوله تعالى:" يمحو الله ما يشاء ويثبت " الرعد 39 وفي ذلك قال شاعرهم: ولولا البدا سميته غير هائب وذكر البدا نعت لمن يتقلب ولولا البدا ما كان فيه تصرف وكان كنار دهره يتلهب وكان كضوء بطبيعة وبالله عن ذكر الطبائع يرغب فلزم اليهود على ذلك إنكار تبدل الشرائع ولزم الروافض على ذلك وصف الباري تعالى بالجهل مع النصوص القطعية والأدلة العقلية الدالة على استحالة ذلك في حقه وانه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. أما النصوص الكتابية فكقوله تعالى:" وهو بكل شيء عليم " البقرة 29 وقوله تعالى:" عالم الغيب والشهادة " المؤمنون 92 وقوله:" وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " الأنعام 59 وقوله:" ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها " الحديد 22 إلى غير ذلك من الآيات. وأما الأدلة العقلية فما استقصيناه في كتبنا الكلامية. وما نقلوه عن علي وعن أهل بيته فمن الأحاديث التي انتحلها الكذاب الثقفي على أهل البيت فإنه كان يدعي العصمة لنفسه ويخبر بأشياء فإذا ظهر كذبه فيها قال إن الله وعدني بذلك غير أنه بدا له منه وأسند ذلك إلى أهل البيت مبالغة في ترويج أكاذيبه. وأما الآية فالمراد بها إنما هو محو المنسوخ وإثبات الناسخ ومحو السيئات بالحسنات كما قال تعالى:" إن الحسنات يذهبن السيئات " هود 114 ومحو الحسنات بالردة على ما قال تعالى:" ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " البقرة 217 أو محو المباحات وإثبات الطاعات على ما قاله أهل التفسير أو محو ما يشاء من الآجال أو الأرزاق وإثبات غيرها ويجب الحمل على ذلك جمعا بينه وبين الأدلة القاطعة الدالة على امتناع الجهل في حق الله تعالى. وكشف الغطاء عن ذلك يتحقق بالفرق بين النسخ والبداء فنقول: إذا عرف معنى البدآء وأنه مستلزم للعلم بعد الجهل والظهور بعد الخفاء وأن ذلك مستحيل في حق الله تعالى على ما بيناه في كتبنا الكلامية فالنسخ ليس كذلك فإنه لا يبعد أن يعلم الله تعالى في الأزل استلزام الأمر بفعل من الأفعال للمصلحة في وقت معين واستلزام نسخه للمصلحة في وقت آخر فإذا نسخه في الوقت الذي علم نسخه فيه فلا يلزم من ذلك أن يكون قد ظهر له ما كان خفياً عنه ولا أن يكون قد أمر بما فيه مفسدة ولا نهى عما فيه مصلحة وذلك كإباحته الأكل في الليل من رمضان وتحريمه في نهاره. فإن قيل: لا يخلو إما أن يكون الباري تعالى قد علم استمرار أمره بالفعل المعين أبداً أو إلى وقت معين وعلم أنه لا يكون مأموراً بعد ذلك الوقت: فإن كان الأول استحال نسخه لما فيه من انقلاب علمه جهلاً وإن كان الثاني فالحكم يكون منتهياً بنفسه في ذلك الوقت فلا يتصور بقاؤه بعده وإلا لانقلب علم الباري جهلاً وإذا كان منتهياً بنفسه فالنسخ لا يكون مؤثراً فيه لا في حالة علم الله تعالى أنه يكون الفعل مأموراً فيها ولا في حالة علم الله أنه لا يكون مأموراً فيها لما فيه من انقلاب علمه إلى الجهل وإذا لم يكن الناسخ مؤثراً فيه فلا يتصور نسخه. قلنا: الأمر مطلق والباري علم أن الأمر بالفعل ينتهي بالناسخ في الوقت الذي علم أن النسخ يقع فيه لا أنه علم انتهاءه إلى ذلك الوقت مطلقاً بل علم انتهاءه بالنسخ فلو لم يكن منتهيا بالنسخ لانقلب علمه جهلاً وعلى هذا فلا يلزم من انتهاء الأمر في ذلك الوقت بالنسخ أن لا يكون الأمر منسوخاً الفصل الثالث في الفرق بين التخصيص والنسخ نقول إن التخصيص والنسخ وإن اشتركا من جهة أن كل واحد منهما قد يوجب تخصيص الحكم ببعض ما تناوله اللفظ لغةً غير أنهما يفترقان من عشرة أوجه. الأول: أن التخصيص يبين أن ما خرج عن العموم لم يكن المتكلم قد أراد بلفظه الدلالة عليه والنسخ يبين أن ما خرج لم يرد التكليف به وإن كان قد أراد بلفظه الدلالة عليه. الثاني: أن التخصيص لا يرد على الأمر بمأمور واحد والنسخ قد يرد على الأمر بمأمور واحد. الثالث: أن النسخ لا يكون في نفس الأمر إلا بخطاب من الشارع بخلاف التخصيص فإنه يجوز بالقياس وبغيره من الأدلة العقلية والسمعية. الرابع: أن الناسخ لا بد وأن يكون متراخياً عن المنسوخ بخلاف المخصص فإنه يجوز أن يكون متقدماً على المخصص ومتأخراً عنه كما سبق تحقيقه. الخامس: أن التخصيص لا يخرج العام عن الاحتجاج به مطلقا في مستقبل الزمان فإنه يبقى معمولاً به فيما عدا صورة التخصيص بخلاف النسخ فإنه قد يخرج الدليل المنسوخ حكمه عن العمل به في مستقبل الزمان بالكلية وذلك عندما إذا ورد النسخ على الأمر بمأمور واحد. السادس: أنه يجوز التخصيص بالقياس ولا يجوز به النسخ. السابع: أن النسخ رفع الحكم بعد أن ثبت بخلاف التخصيص. الثامن: أنه يجوز نسخ شريعة بشريعة ولا يجوز تخصيص شريعة بأخرى. التاسع: أن العام يجوز نسخ حكمه حتى لا يبقى منه شيء بخلاف التخصيص. العاشر: وهو ما ذكره بعض المعتزلة أن التخصيص أعم من النسخ وأن كل نسخ تخصيص وليس كل تخصيص نسخاً إذ النسخ لا يكون إلا بتخصيص الحكم ببعض الأزمان والتخصيص يعم تخصيص الحكم ببعض الأشخاص وبعض الأحوال وبعض الأزمان وفيه نظر وذلك أنه إن ثبت أن ما ذكر من صفات التخصيص الفارقة بينه وبين النسخ داخلة في مفهوم التخصيص أو ملازمة خارجة فلا وجود لها في النسخ فلا يكون التخصيص أعم من النسخ لأن الأعم لا بد وأن يصدق الحكم به مع جميع صفاته اللازمة لذاته على الأخص وذلك مما لا يصدق على النسخ فلا يكون النسخ تخصيصاً. وإلا فلقائل أن يقول: ما ذكر من الصفات الفارقة بين التخصيص والنسخ إنما هي فروق بين أنواع التخصيص وليست من لوازم مفهوم التخصيص بل التخصيص أعم من النسخ ومن جميع الصور المذكورة وهو قادح لا غبار عليه اللهم إلا أن يرجع إلى الاصطلاح وإطلاق اسم التخصيص على بعض هذه الأنواع والنسخ على البعض الآخر فحاصل النزاع يرجع إلى الإطلاق اللفظي ولا منازعة فيه بعد فهم عوز المعنى. الفصل الرابع في شروط النسخ الشرعي وهي منقسمة إلى متفق عليه ومختلف فيه. أما المتفق عليه فأن يكون الحكم المنسوخ شرعياً وأن يكون الدليل الدال على ارتفاع الحكم شرعياً متراخياً عن الخطاب المنسوخ حكمه وأن لا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدا بوقت معين. وأما الشروط المختلف فيها فأن يكون قد ورد الخطاب الدال على ارتفاع الحكم بعد دخول وقت التمكن من الامتثال وأن يكون الخطاب المنسوخ حكمه مما لا يدخله الاستثناء والتخصيص وأن يكون نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة وأن يكون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين وأن يكون الناسخ مقابلاً للمنسوخ مقابلة الأمر بالنهي والمضيق بالموسع وأن يكون النسخ ببدل فإن ذلك كله مختلف فيه والحق أن هذه الأمور غير معتبرة كما يأتي. وإذ أتينا على ما أردناه من المقدمة فلا بد من العود إلى المسائل المتشعبة عن النسخ وهي عشرون مسألةً. المسألة الأولى في إثبات النسخ على منكريه وقد اتفق أهل الشرائع على جواز النسخ عقلاً وعلى وقوعه شرعاً ولم يخالف في ذلك من المسلمين سوى أبي مسلم الأصفهاني فإنه منع من ذلك شرعاً وجوزه عقلاً ومن أرباب الشرائع سوى اليهود فإنهم انقسموا ثلاث فرق: فذهبت الشمعنية إلى امتناعه عقلاً وذهبته العنانية منهم إلى امتناعه سمعاً لا عقلاً وذهبت العيسوية إلى جوازه عقلاً ووقوعه سمعاً واعترفوا بنبوة محمد ﷺ لكن إلى العرب خاصةً لا إلى الأمم كافةً. والدليل على الجواز العقلي العقل والسمع. أما العقل فهو أن المخالف لا يخلو إما أن يكون ممن يوافق على أن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير نظر إلى حكمة وغرض وإما أن يكون ممن يعتبر الحكمة والغرض في أفعاله تعالى: فإن كان الأول فلا يمتنع عليه تعالى أن يأمر بالفعل في وقت وينهى عنه في وقت كما أمر بالصيام في نهار رمضان ونهى عنه في يوم العيد وإن كان الثاني فمع بطلانه على ما عرفناه في كتب الكلام فلا يمتنع أن يعلم الله استلزام الأمر بالفعل في وقت معين للمصلحة واستلزام النهي عنه للمصلحة في وقت آخر. فإن المصالح مما يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال حتى إن مصلحة بعض الأشخاص في الغنى أو الصحة أو التكليف ومصلحة الآخر في نقيضه فكذلك جاز أن تختلف المصلحة باختلاف الأزمان حتى أن مصلحة بعض أهل الأزمان في المداراة والمساهلة ومصلحة أهل زمان آخر في الشدة والغلظة عليهم إلى غير ذلك من الأحوال. وإذا عرف جواز اختلاف المصلحة باختلاف الأزمان فلا يمتنع أن يأمر الله تعالى المكلف بالفعل في زمان لعلمه بمصلحته فيه وينهاه عنه في زمن آخر لعلمه بمصلحته فيه كما يفعل الطبيب بالمريض حيث يأمره باستعمال دواء خاص في بعض الأزمنة وينهاه عنه في زمن آخر بسبب اختلاف مصلحته عند اختلاف مزاجه وكما يفعل الوالد بولده من التأديب له وضربه في زمان واللين له والرفق به في زمان آخر على حسب ما يتراءى له من المصلحة. ولهذا خص الشارع كل زمان بعبادة غير عبادة الزمن الآخر كأوقات الصلوات والحج والصيام ولولا اختلاف المصالح باختلاف الأزمنة لما كان كذلك ومع جواز اختلاف المصالح باختلاف الأزمنة لا يكون النسخ ممتنعاً. هذا ما يدل على الجواز العقلي من جهة العقل وأما من جهة السمع فقوله تعالى:" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " البقرة 106 فهذه الآية تدل على جواز النسخ على الله تعالى شرعاً. أما بالنسبة إلى من خالف في ذلك من المسلمين فظاهر لموافقته على أن الآية من كلام الله تعالى وأن كلامه صدق وأما بالنسبة إلى اليهود فلأنه إذا ثبت أن محمداً رسول الله بما أثبتناه من الأدلة القاطعة في علم الكلام وأنه صادق فيما يدعيه من الوحي إليه من الله تعالى فقد ادعى كون هذه الآية من كلام الله فكان صادقاً في ذلك وكانت الآية حجة على جواز النسخ. وأما ما يدل على وقوع النسخ في الشرع إما بالنسبة إلى من خالف من المسلمين في ذلك فهو أن الصحابة والسلف أجمعوا على أن شريعة محمد ﷺ ناسخة لجميع الشرائع السالفة وأجمعوا على نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس باستقبال الكعبة وعلى نسخ الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ونسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي ﷺ ووجوب التربص حولاً كاملاً عن المتوفى عنها زوجها ووجوب ثبات الواحد للعشرة المستفاد من قوله تعالى:" إن يكن منكم عشرون صابرون " الأنفال 65 الآية بقوله :" الآن خفف الله عنكم " الأنفال 66 الآية إلى غير ذلك من الأحكام المتعددة. وأما بالنسبة إلى منكر ذلك من اليهود فيدل عليه أنه ورد في التورية أن الله تعالى أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه وقد حرم ذلك في شريعة من بعده. وأيضاً فإن الله تعالى قال لنوح عند خروجه من الفلك إني جعلت لك كل دابة مأكلاً لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه وقد حرم كثيراً من الدواب على من بعده من أرباب الشرائع وهو عين النسخ. فإن قيل: يحتمل أن أمر آدم والإباحة لنوح وذريته كان مقيداً بظهور شريعة من بعده فتحريم ذلك على من بعده لا يكون نسخاً لانتهاء مدة الحكم الأول لكونه كان مقيداً بظهور شريعة من بعده. قلنا: الأمر لآدم والإباحة لنوح كان مطلقاً والأصل عدم التقييد. وإن قيل إنه كان ذلك مقيداً في علم الله تعالى بظهور شريعة أخرى. قلنا: فهذا هو عين النسخ فإن الله تعالى إذا أمر بالفعل مطلقاً فهو عالم بأنه سينسخه ويعلم وقت نسخه فتقييده في علمه لا يخرجه عن حقيقة النسخ. وقد احتج عليهم بإلزامات أخر منها أن العمل كان مباحاً في يوم السبت ثم حرم على موسى وقومه ومنها أن الختان كان في شرع إبراهيم جائزاً بعد الكبر وقد أوجبه موسى يوم ولادة الطفل ومنها أن الجمع بين الأختين كان مباحاً في شريعة يعقوب وقد حرم ذلك في شريعة من بعده. ولقائل أن يقول: العمل في يوم السبت وكذلك الختان في حالة الكبر وكذلك الجمع بين الأختين كان مباحاً بحكم الأصل ورفع ما كان ثابتاً بحكم الأصل العقلي لا يكون نسخاً كما علم فيما تقدم. فإن قيل: لو كان النسخ جائزاً عقلاً لم يخل نسخ ما أمر به إما أن يكون لحكمة ظهرت لم تكن ظاهرة حالة الأمر أو لا يكون كذلك فإن لم يكن لحكمة ظهرت له كان عابثاً والعبث على الحكيم محال وإن كان الأول فقد بدا له ما لم يكن والبدآء على الله تعالى محال. وأيضاً فإنه لو جاز نسخ الأحكام الشرعية لكون التكليف بها مصلحةً في وقت ومفسدة في وقت لجاز نسخ ما وجب من الاعتقادات في التوحيد وما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز وهو محال.
وأيضاً فإن الخطاب المنسوخ حكمه إما أن يكون موقتاً بوقت أو هو دال على التأبيد: فإن كان الأول فهو غير قابل للنسخ لانتهائه بانتهاء ذلك الوقت وإن كان الثاني فهو محال من أربعة أوجه: الأول: إنه من ذلك اعتقاد المكلف دوام الحكم وتأييده وهو جهل قبيح وما لزم منه القبيح فهو قبيح. الثاني: أنه يلزم منه أن لا يبقى لنا طريق إلى معرفة التأبيد بتقدير إرادة التأبيد وذلك مما يوجب إعجاز الرب تعالى عن إعلامنا بالتأبيد وهو محال. الثالث: أنه لو جاز النسخ مع أن اللفظ للتأبيد لما بقي لنا وثوق بوعد الله تعالى ووعيده ولا بشيء من الظواهر اللفظية ولا يخفى ما في ذلك من اختلاف الشرائع واتجاه قول الباطنية. الرابع: أنه يلزمكم على هذا جواز نسخ شريعتكم ولم تقولوا به وأيضاً فإنه لو جاز رفع الحكم بعد وقوعه فإما أن يكون رفعه قبل وجوده أو بعد عدمه أو في حال وجوده: الأول محال لأن رفع ما لم يوجد غير متصور والثاني محال لأن رفع المعدوم ممتنع والثالث يلزم منه أن يكون الشيء حالة وجوده مرتفعاً وذلك أيضاً ممتنع. وأيضاً فإن الفعل المأمور به إما أن يكون حسناً أو قبيحاً: فإن كان الأول فقد نهى عن الحسن وإن كان الثاني فقد أمر بالقبيح. وأيضاً فإنه إما أن يكون طاعةً أو معصيةً: فإن كان طاعة فقد نهى عن الطاعة وإن كان معصية فقد أمر بالمعصية. وأيضاً فإما أن يكون مراداً أو مكروهاً فإن كان مراداً فقد صار بالنهي مكروهاً وإن كان مكروهاً فقد صار بالأمر مراداً. وأما ما ذكرتموه من الدليل السمعي على الجواز العقلي فلا وجه له. أما قوله تعالى:" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها " البقرة 106 فالمراد بالنسخ الإزالة ونسخ الآية بإزالتها عن اللوح المحفوظ. وأما ما ذكرتموه على الوقوع الشرعي فلا نسلم أن شريعة محمد ناسخة لشرائع من تقدم على ما يأتي تقريره. وأما وجوب استقبال بيت المقدس فإنه لم يزل بالكلية لجواز التوجه إليه عند الإشكال ومع العذر فكان ذلك تخصيصاً لا نسخاً. وأما تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي ﷺ فإنما زالت لزوال سببها وهو امتياز المنافقين من حيث إنهم لا يتصدقون على المؤمنين ووجوب التربص حولاً كاملاً لم يزل بالكلية لبقائه عندما إذا كانت مدة حملها سنة فكان ذلك أيضاً من باب التخصيص لا من باب النسخ. سلمنا الجواز العقلي ولكن لا نسلم الجواز الشرعي وبيانه من وجهين: الأول: قوله تعالى في صفة القرآن:" لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " فصلت 42 فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل وهذه حجة من منع جواز نسخ القرآن مطلقاً. الثاني: أن موسى الكليم كان نبياً حقاً بالإجماع منا ومنكم وبالدلائل الدالة على صدقه في رسالته وقد نقل عنه نقلاً متواتراً أنه قال: هذه الشريعة مؤبدة عليكم ما دامت السموات والأرض وروي عنه أنه قال: الزموا يوم السبت أبدا فقد كذب بذلك من ادعى نسخ شريعته فلو قيل بجواز نسخ شريعته لزم منه أن يكون كاذباً وهو محال. والجواب عن الإشكال الأول أن النسخ لم يكن لحكمة ظهرت له بعد أن لم تكن ظاهرةً بل إن قلنا برعاية الحكمة بحكمة كان عالماً بها على ما سبق في الفرق بين النسخ والبدآء. وعن الإشكال الثاني أن اعتقاد التوحيد وكل ما مستند معرفته دليل العقل لا يخلو إما أن يقال بأن وجوبه ثابت بالعقل كما قاله المعتزلة أو بالشرع كما نقوله نحن: فإن كان الأول فلا يخفى إحالة نسخ ما ثبت وجوبه عقلاً لأن الشارع لا يأتي بما يخالف العقل وإن كان الثاني فالعقل يجوز أن لا يرد الشرع بوجوبه ابتداء فضلاً عن نسخه بعد وجوبه. وعن الثالث قولهم إن الخطاب إن كان موقتاً فلا يكون قابلاً للنسخ لا نسلم ذلك فإنه لو قال في رمضان حجوا في هذه السنة ثم قال قبل يوم عرفة لا تحجوا فإنه يكون جائزاً عندنا على ما يأتي في جواز نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال. قولهم: وإن كان دالا على التأبيد فهو محال لا نسلم ذلك. قولهم في الوجه الأول إنه يلزم منه جهل المكلف باعتقاد التأبيد فقد أجاب عنه أبو الحسين البصري بأنه إنما يفضي إلى ذلك إن لو لم يكن قد اقترن بالخطاب المنسوخ ما يشعر بنسخه وليس كذلك: وقد بينا إبطال ما ذهب إليه في تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
والوجه في الجواب أن نقول: دلالة الخطاب على التأبيد لا يلزمها التأبيد مع القول بجواز النسخ فإذا اعتقد المكلف التأبيد فالجهل إنما جاءه من قبل نفسه لا من قبل ما اقتضاه الخطاب بل الواجب أن يعتقد التأبيد بشرط عدم الناسخ ثم وان أفضى ذلك إلى الجهل في حق العبد فالقول بقبح ذلك من الله تعالى مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه فيما تقدم. ثم متى يكون ذلك قبيحاً إذا استلزم مصلحة تربو على مفسدة جهله أو إذا لم يكن كذلك؟ الأول ممنوع والثاني مسلم. وبيان لزوم المصلحة الزائدة هنا ما فيه من زيادة الثواب باعتقاده دوام ما أمر به والعزم على فعله والانقياد لقضاء الله وحكمه في الأمر والنهي كيف وإن ما ذكروه منتقض بما يحدثه الله تعالى للعبد من الغنى والصحة فإن ذلك مما يوجب اعتقاد دوامه له مع جواز إزالته بالفقر والمرض. قولهم في الوجه الثاني إنه يفضي إلى تعجيز الرب تعالى عن إعلامنا بالتأبيد ليس كذلك لجواز أن يخلق لنا العلم الضروري بذلك. وما ذكروه في الوجه الثالث فمندفع فإنه إن كان اللفظ الوارد في الخطاب مما لا يحتمل التأويل فالوثوق به حاصل لا محالة وإن كان مما يحتمل التأويل فيجب أن يكون الوثوق به على حسب ما اقتضاه الظاهر لا قطعاً وذلك غير مستحيل. وما ذكروه في الوجه الرابع فغير صحيح فإنا لا نمنع من جواز نسخ شرعنا عقلاً وإنما نمنع منه شرعاً لورود خبر الصادق بذلك عندنا وهو قوله تعالى:" وخاتم النبيين " الأحزاب 40 وقوله ﷺ:" ألا إنه لا نبي بعدي" والخلاف في خبر الصادق محال ومع ذلك فإنا لا نحيل عقلاً أن يكون ذلك الخبر مشروطاً بقيد. قولهم: لو جاز رفع الحكم إما أن يكون قبل وقوعه فمندفع فإنا وإن أطلقنا لفظة الرفع في النسخ إنما نريد به امتناع استمرار المنسوخ وأنه لولا الخطاب الدال على الانقطاع لاستمر وذلك لا يلزم عليه شيء مما قيل. قولهم: الفعل المأمور به إما أن يكون حسناً أو قبيحاً فهو مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه. قولهم: إما أن يكون طاعةً أو معصيةً قلنا هو طاعة حالة كونه مأموراً ومعصية حالة كونه منهياً فالطاعة والمعصية ليست من صفات الأفعال بل تابعة للأمر والنهي. قولهم: إما أن يكون مراداً أو مكروهاً لا نسلم الحصر لجواز أن لا يكون مراداً ولا مكروهاً إذ الإرادة والكراهة عندنا غير لازمة للأمر والنهي وبتقدير أن يكون ما أمر به مراداً جاز أن يكون مراداً حالة الأمر دون حالة النهي. قولهم: المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ ليس كذلك فإنه قال تعالى:" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " البقرة 106 والقرآن خير كله من غير تفاوت فيه فلو كان المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ وكتابة أخرى بدلها لما تحقق هذا الوصف وإنما يتحقق الخيرية بالنسبة إلينا فيما يرجع إلى أحكام الآيات المرفوعة عنا والموضوعة علينا من حيث إن البعض قد يكون أخف من البعض فيما يرجع إلى تحمل المشقة أو أن ثواب البعض أجزل من ثواب البعض على اختلاف المذاهب فوجب حمل النسخ على نسخ أحكام الآيات لا على ما ذكروه. وأما منع كون شريعة محمد ﷺ ناسخة لشرع من تقدم فمخالف لإجماع السلف قاطبةً. والكلام في هذا المقام إنما هو مع منكر النسخ من الإسلاميين وما يذكرونه في تقدير ذلك فسيأتي الجواب عنه أيضاً وأما ما ذكروه على باقي صور النسخ فهو أيضاً خلاف إجماع السلف كيف وإن ما ذكروه من التخريج لا وجه له. قولهم إن التوجه إلى بيت المقدس لم يزل بالكلية قلنا: لا خلاف أنه كان يجب التوجه إليه حالة عدم الإشكال والعذر وقد زال ذلك بالكلية فكان نسخاً. قولهم إن وجوب تقديم الصدقة إنما زال لزوال سببه قلنا: الأصل بقاء السبب وما ذكروه من السبب يلزم منه أن كل من لم يتصدق من الصحابة أن يكون منافقاً ولم يتصدق أحد منهم سوى علي عليه السلام على ما نقله الرواة وذلك ممتنع. قولهم إن وجوب التربص لم يزل بالكلية قلنا: لا خلاف بين أهل الملة في أنه كان التربص حولاً كاملاً واجباً سواء كانت مدة الحمل سنةً أو لم تكن وذلك مما رفع بالكلية.
وما ذكروه من امتناع نسخ القرآن بقوله:" لا يأتيه الباطل " فصلت 42 الآية فليس فيه ما يدل على امتناع النسخ إلا أن يكون النسخ إبطالاً له وليس كذلك. وبيانه أن النسخ لا معنى له سوى قطع الحكم الذي دل عليه اللفظ مع كون المخاطب مريداً لقطعة على ما سبق وذلك لا يكون إبطالاً له بل تحقيقاً لمقصوده. وما ذكروه من قول موسى فمختلق لم تثبت صحته عن موسى عليه السلام وقد قيل إن أول من وضع ذلك لهم ابن الراوندي ليعارض به دعوى الرسالة من محمد ﷺ لما ظهر من تسمحه في الدين. ويدل على ذلك أن أحبارهم ككعب الأحبار وابن سلام ووهب ابن منبه وغيرهم كانوا أعرف من غيرهم بما في التورية وقد أسلموا ولم يذكروا شيئاً من ذلك: ولو كان ذلك صحيحاً لكان من أقوى ما يتمسك به اليهود في زمن النبي ﷺ في معارضته. ولم ينقل عنهم شيء من ذلك ثم أنهم مختلفون في نفس متن الحديث فإن منهم من قال الحديث إن أطعتموني لما أمرتكم به ونهيتكم عنه ثبت ملككم كما ثبتت السموات والأرض وليس في ذلك ما يدل على إحالة النسخ. وإن سلمنا صحة ما نقلوه فيحتمل أنه أراد بالشريعة التوحيد ويحتمل أنه أراد بقوله: مؤبدة ما لم تنسخ بشريعة نبي آخر ومع احتمال هذه التأويلات فلا يعارض قوله ما ظهر على يد النبي ﷺ من المعجزات القاطعة الدالة على صدقه في دعواه الرسالة ونسخ شريعة من تقدم كيف وإن لفظ التأبيد قد ورد في التورية ولم يرد به الدوام كقوله: إن العبد يستخدم ست سنين ثم يعتق في السابعة فإن أبى العتق فلتثقب أذنه ويستخدم أبداً وكقوله في البقرة التي أمروا بذبحها هذه سنة لكم أبداً وكقوله قربوا كل يوم خروفين قرباناً دائماً. وأما العيسوية فيمتنع عليهم بعد التسليم بصحة رسالته وصدقه في دعواه بما اقترن بها من المعجزة القاطعة تكذيبه فيما ورد به التواتر القاطع عنه بدعوى البعثة إلى الأمم كافةً ونزول القرآن بذلك وهو قوله تعالى:" يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً " الأعراف 158 وقوله تعالى:" وما أرسلناك إلا كافةً للناس " سبأ 28 وقال في وصف ما أنزل عليه هذا هدىً للناس ومن ذلك قوله ﷺ:" بعثت إلى الأحمر والأسود "وقوله:" بعثت إلى الناس كافةً "وقوله:" لو كان أخي موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي "ويدل على ذلك ما اشتهر عنه وتواتر من دعائه لطوائف الجبابرة والأكاسرة. وتنفيذه إلى أقاصي البلاد وطلب الدخول في ملته والقتال لمن جاحده من العرب وغيرهم في نبوته والله أعلم. المسألة الثانية اتفق القائلون بجواز النسخ على جواز نسخ حكم الفعل بعد خروج وقته واختلفوا في جواز ذلك قبل دخول الوقت وذلك كما لو قال الشارع في رمضان حجوا في هذه السنة ثم قال قبل يوم عرفة لا تحجوا. فذهبت الأشاعرة وأكثر أصحاب الشافعي وأكثر الفقهاء إلى جوازه ومنع من ذلك جماهير المعتزلة وأبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي وبعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل والمختار جوازه وقد احتج الأصحاب بحجج ضعيفة. الحجة الأولى قوله تعالى:" يمحو الله ما يشاء ويثبت " الرعد 39 دل على أنه يمحو كل ما يشاء محوه على كل وجه فيدخل فيه محو العبادة قبل دخول وقتها ولا دلالة فيه لأن الآية إنما تدل على محو كل ما يشاء محوه وليس فيها ما يدل على أنه يشاء محو العبادة قبل دخول وقتها مع كون ذلك ممتنعاً عند الخصم وإن بين إمكان مشيئة ذلك بغير الآية ففيه ترك الاستدلال بالآية كيف وإنه قد أمكن حمل المحو على ما هو حقيقة فيه وهو محو الكتابة مما يكتبه الملكان من المباحات وتبقيه المعاصي والطاعات. ومنهم من احتج بقصة إبراهيم عليه السلام وأمر الله له بذبح ولده ونسخه عنه بذبح الفداء ودليل أمره بذلك انه قد روي انه تعالى قال لإبراهيم: اذبح ولدك وروي واحدك والقرآن دل عليه بقوله:" يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر " الصافات 102 وانه نسخ بذبح الفدا بقوله:" وفديناه بذبح عظيم " الصافات 107 وهذا أيضاً مما يضعف الاحتجاج به جداً غير أنه قد وجه الخصوم على هذه الحجة اعتراضات واهية لا بد من ذكرها والإشارة إلى الانفصال عنها تكثيراً للفائدة ثم نذكر بعد ذلك وجه الضعيف في الآية المذكورة.
أما الأسئلة فأولها أنهم قالوا إن ذلك إنما كان مناماً لا أصل له فلا يثبت به الأمر ولهذا قال: إني أرى في المنام سلمنا أن منامه أصل يعتمد عليه ولكن لا نسلم أنه كان قد أمر. وقول ولده: افعل ما تؤمر ليس فيه دلالة على أنه كان قد أمر ولهذا علقه على المستقبل ومعناه: افعل ما يتحقق من الأمر في المستقبل سلمنا أنه كان مأموراً. لكن لا نسلم أنه كان مأموراً بالذبح حقيقةً بل بالعزم على الذبح امتحاناً له بالصبر على العزم وذلك بلاء عظيم والفداء إنما كان عما يتوقعه من الأمر بالذبح لا عن نفس وقوع الأمر بالذبح أو بمقدمات الذبح من إخراجه إلى الصحراء وأخذ المدية والحبل وتله للجبين فاستشعر إبراهيم أنه مأمور بالذبح ولذلك قال تعالى:" قد صدقت الرؤيا " الصافات 105 سلمنا أنه كان مأموراً بالذبح حقيقةً إلا أنه قد وجد منه فإن قد روي أنه كان كلما قطع جزءاً عاد ملتحماً إلى آخر الذبح ولهذا قال الله تعالى:" قد صدقت الرؤيا " الصافات 105 وإذا كان ما أمر به من الذبح قد وقع فالفداء لا يكون نسخاً. سلمنا أن الذبح حقيقةً لم يوجد لكن قد روي أن الله تعالى منعه من الذبح بأن جعل على عنق ولده صفيحةً من نحاس أو حديد مانعةً من الذبح لا أن ذلك كان بطريق النسخ. والجواب عن الأول أن منام الأنبياء فيما يتعلق بالأوامر والنواهي وحي معمول به وأكثر وحي الأنبياء كان بطريق المنام وقد روي عن النبي ﷺ أن وحيه كان ستة أشهر بالمنام ولهذا قال عليه السلام:" الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة "فكانت نسبة الستة أشهر من ثلاثة وعشرين سنةً من نبوته كذلك ويدل على ذلك قوله ﷺ ما احتلم نبي قط يعني ما تشكل له الشيطان في المنام على الوجه الذي يتشكل لأهل الاحتلام كيف وإنه لو كان ذلك خيالاً لا وحياً لما جاز لأبراهيم العزم على الذبح المحرم بمنام لا أصل له ولما سماه بلاء مبيناً ولما احتاج إلى الفداء. وعن الثاني أن قوله: افعل ما تؤمر " وإن لم يكن ظاهراً في الماضي لكنه قد يرد ويراد به الماضي. ولهذا فإنه لو قال القائل: قد أمرني السلطان بكذا فإنه يصح أن يقال له: افعل ما تؤمر أي ما أمرت به وأنت مأمور ويجب الحمل عليه ضرورة حمل الولد على إخراجه إلى الصحراء وأخذ آلات الذبح وترويع الولد فإن ذلك كله مما يحرم من غير أمر ولا إذن في ذلك. وعن الثالث أن حمل الأمر على العزم أو على مقدمات الذبح على خلاف قوله:" إني أرى في المنام أني أذبحك " الصافات 102 ثم لو كان مأموراً بالعزم على الذبح ومقدمات الذبح لا غير لما سماه بلاء مبيناً ولما احتاج إلى الفداء لكون المأمور به مما وقع ولما قال الذبيح:" ستجدني إن شاء الله من الصابرين " الصافات 102 فإن ذلك مما لا ضرر عليه فيه. وقوله:" قد صدقت الرؤيا " معناه أنك عملت في المقدمات عمل مصدق للرؤيا بقلبه لكن لقائل أن يقول: إذا كان قد أمر بإخراج الولد إلى الصحراء وأخذ المدية والحبل وتله للجبين مع إبهام عاقبة الأمر عليه وعلى ولده فإنه يظهر من ذلك لهما أن عاقبة الأمر إنما هي الذبح وذلك عين البلاء به يتحقق قول الذبيح:" ستجدني إن شاء الله من الصابرين " الصافات 102 وأما تسمية الكبش فداء فإنما كان عن الأمر المتوقع لا عن الأمر الواقع غير أن هذا مما لا يستقيم على أصل أبي الحسين البصري لما فيه من توريط المكلف في الجهل حيث أوجب عليه ما يظهر منه الأمر بالذبح ولا أمر. وعن الرابع أنه لو كان قد أتى بما أمر به من الذبح لما احتاج إلى الفداء ولا اشتهر ذلك وظهر لأنه من أكبر الآيات الباهرات وحيث لم ينقله سوى بعض الخصوم دل على ضعفه. وعن الخامس أن ذلك من المعتزلة لا يصح لأنهم لا يرون التكليف بما لا يطاق وهذا تكليف بما لا يطاق كيف وإنه لو كان كما ذكروه لنقل أيضاً واشتهر لكونه من المعجزات العظيمة هذا ما في هذه الأسئلة والأجوبة. وأما وجه الضعف في الاحتجاج بقصة إبراهيم فمن جهة أن لقائل أن يقول: وإن سلمنا أنه نسخ عنه الأمر بالذبح لكن لا نسلم أنه نسخ قبل التمكن من الامتثال بل إنما كان ذلك بعد التمكن من الامتثال والخلاف إنما هو فيما قبل التمكن لا بعده. ولا سبيل إلى بيان أنه نسخ قبل التمكن من الامتثال إلا بعد بيان أن مطلق الأمر يقتضي الوجوب على الفور أو أن وقت الأمر كان مضيقاً لا يجوز التأخير عنه للنبي عليه السلام وأن النبي عليه السلام لا يجوز عليه صغائر المعاصي والكل ممنوع على ما عرف. الحجة الثانية أن الله تعالى نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي ﷺ قبل فعلها وأيضاً فإن النبي ﷺ صالح قريشاً يوم الحديبية على رد من هاجر إليه ثم نسخ ذلك قبل الرد بقوله تعالى:" فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار " الممتحنة 10 وأيضاً فإن الإجماع من الخصوم واقع على أن الله تعالى لو أمرنا بالمواصلة في الصوم سنة جاز أن ينسخه عنا بعد شهر منها وذلك نسخ للصوم فيما بقي من السنة قبل حضور وقته وأيضاً فإن النبي ﷺ قال:" أحلت لي مكة ساعةً من نهار "ومع ذلك منع من القتال فيها وهو نسخ قبل وقت الفعل. وهذه الحجج أيضاً ضعيفة. أما الأولى فلأن لقائل أن يقول: لا نسلم أن نسخ تقديم الصدقة كان قبل التمكن من الوقت ويدل عليه أمران: الأول عتاب الله لهم بقوله:" أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقة فإن لم تفعلوا وتاب الله عليكم " المجادلة 13 الآية ولو لم يكن وقت الفعل قد حضر لما حسن ذلك الثاني أن علياً رضي الله عنه ناجى بعد تقديم الصدقة وذلك يدل على حضور وقت الفعل. وأما الثانية فلأنه لا يمتنع أن يكون ذلك بعد مضي وقت تمكن المهاجرة فيه إليه مع ردهن ولا دليل على وقوع نسخ ذلك قبل دخول وقت الفعل فلا يكون حجةً. وأما الثالثة فلأن النسخ ورد على بعض ما تناوله اللفظ فكان بياناً أن مراده من اللفظ إنما هو بعض السنة ويكون النهي متناولاً لغير ما تناوله الأمر وذلك غير ممتنع وهذا بخلاف ما إذا نسخ قبل دخول شيء من الوقت لأن النهي يكون متناولاً لغير ما تناوله الأمر ولا يلزم من جواز ذلك ثم جوازه هاهنا. وأما الرابعة فلأن إباحة القتال في تلك الساعة لا يقتضي وقوع القتال ولا بد وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون النهي عن القتال بعد مضي تلك الساعة ولا دليل يدل على وقوع النسخ قبل دخول الوقت كيف وأنه لا دلالة في قوله: أحلت لي مكة ساعةً على إباحة القتال بل لعله أراد بذلك إباحة قتل أناس معينين كابن خطل وغيره فالنهي عن القتال لا يكون نسخاً لإباحة القتال. والأقرب في ذلك حجتان: الحجة الأولى التمسك بقصة الإسراء وهو ما صح بالرواية أن الله تعالى فرض ليلة الإسراء على نبيه وعلى أمته خمسين صلاةً فأشار عليه موسى بالرجوع وقال له: أمتك ضعفاء لا يطيقون ذلك فاستنقص الله ينقصك وأنه قبل ما أشار عليه وسأل الله في ذلك فنسخ الخمسين إلى أن بقي خمس صلوات وذلك نسخ لحكم الفعل قبل دخول وقته. الحجة الثانية أنه يجوز أن يأمر الله تعالى زيداً بفعل في الغد ويمنعه منه بمانع عائق له عنه قبل الغد فيكون مأموراً بالفعل في الغد بشرط انتفاء المانع. وإذا جاز الأمر بشرط انتفاء المانع مع تعقيبه بالمنع جاز الأمر بالفعل بشرط انتفاء الناسخ مع تعقيبه بالنسخ إذ الفعل لا يفرق بين الحالتين وهو إلزام ملزم. فإن قيل أما قصة الإسراء فهي خبر واحد فلا يمكن إثبات مثل هذه المسألة به وإن كان حجةً إلا أنه يقتضي نسخ حكم الفعل قبل التمكن وقبل تمكن المكلف من العلم به لنسخه قبل الإنزال وذلك مما لا يحصل معه الثواب بالعزم على الادواء والاعتقاد لوجوبه ولم يقولوا به. وأما الحجة الثانية فلا نسلم أنه يجوز أن يأمر زيداً في الغد ويمنعه منه قبل الغد لأنه لا يخلو إما أن يأمره مطلقاً ويريد منه الفعل أو بشرط زوال المنع فإن كان الأول فمنعه منه بعد ذلك يكون تكليفاً بما لا يطاق وهو محال. وإن كان الثاني فالأمر بالشرط مما لا يجوز وقوعه من العالم بعواقب الأمور على ما سبق تقريره في الأوامر وهذا بخلاف ما إذا أمر جماعة بفعل في الغد فإنه يجوز أن يمنع بعضهم من الفعل لأن ذلك يدل على أنه لم يرد بخطابه من علم منعه وإذا لم يجز في المنع فكذلك في النسخ. ثم ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من وجوه: الوجه الأول: أنه إذا نهى المكلف عن الفعل الذي أمر به قبل دخول وقته فالأمر والنهي قد تواردا على شيء واحد من جهة واحدة في وقت واحد وهو محال وذلك لأن الفعل في نفسه في ذلك الوقت إما أن يكون حسناً أو قبيحاً.
وعند ذلك فلا يخلو الباري تعالى عند الأمر بالفعل إما أن يكون عالماً بما هو عليه الفعل من الحسن والقبح وكذلك في حالة النهي أو لا يكون عالماً به أصلاً أو هو عالم به في حالة النهي دون حالة الأمر أو في حالة الأمر دون حالة النهي: فإن كان الأول فإن كان الفعل حسناً فقد نهى عن الحسن مع علمه به وإن كان قبيحاً فقد أمر بالقبيح مع علمه به وهو قبيح وإن كان الثاني فهو محال لما يلزمه من الجهل في حق الله تعالى وكذلك إن كان الثالث أو الرابع. كيف وإنه إذا ظهر له في حالة النهي ما لم يكن قد ظهر له في حالة الأمر فهو عين البدآء والبدآء على الله محال. الوجه الثاني: أنه إذا أمر بالفعل في وقت معين ثم نهى عنه فقد بان أنه لم يرد إيقاعه ويكون قد أمر بما لم يرده ولو جاز ذلك لما بقي لنا وثوق بقول من أقوال الشارع لجواز أن يكون المراد بذلك القول ضد ما هو دال على إرادته وذلك محال. الوجه الثالث أن ذلك مما يفضي إلى أن يكون الفعل الواحد مأموراً منهياً والأمر والنهي عندكم كلام الله وكلامه صفة واحدة فيكون الكلام الواحد أمراً نهياً بشيء واحد في وقت واحد وذلك محال. والجواب قولهم في قصة الإسراء إنها خبر واحد قلنا والمسألة عندنا من مسائل الاجتهاد ولذلك لا يكفر المخالف فيها ولا يبدع. قولهم إنه نسخ عن المكلفين قبل علمهم به قلنا: فقد نسخ عن النبي ﷺ بعد علمه وإن سلمنا أنه نسخ عن المكلفين قبل علمهم به ولكن لم قالوا بامتناعه. قولهم إنه لا يتعلق به فائدة الثواب باعتقاد الوجوب والعزم على الفعل فهو مبني على رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وهو ممنوع على ما عرف من أصلنا. قولهم على الحجة الثانية إنا لا نسلم الأمر مع المنع قلنا: قد سبق تقريره في الأوامر. قولهم: إن أراد منه الفعل فهو تكليف بما لا يطاق قلنا: وإن كان كذلك فهو جائز عندنا على ما تقرر قبل. قولهم: وإن لم يكن مريدا له فهو أمر بشرط عدم المنع من العالم بعواقب الأمور وذلك محال لما سبق قلنا: وقد سبق أيضا في الأوامر جواز ذلك وإبطال كل ما تخيلوه مانعاً. قولهم في المعارضة الأولى إنه يلزم من ذلك أن يكون الرب تعالى آمراً وناهياً عن فعل واحد في وقت واحد وهو محال لا نسلم إحالته. قولهم: إما أن يكون حسناً أو قبيحاً فهو مبني على الحسن والقبح العقلي وهو باطل لما سبق فلئن قالوا وإن لم يكن حسناً ولا قبيحاً فلا يخلو إما أن يكون مشتملاً على مصلحة أو مفسدة. فإن كان الأول فقد نهى عما فيه مصلحة وإن كان الثاني فقد أمر بما فيه مفسدة قلنا: وهذا أيضاً مبني على رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وهو باطل لما عرف من أصلنا بل جاز أن يكون الأمر والنهي لا لمصلحة ولا لمفسدة. وإن سلم عدم خلوه عن المصلحة والمفسدة ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك الأمر بالمفسدة والنهي عن المصلحة بل جاز أن يقال إنه مشتمل على المصلحة حالة الأمر ومشتمل على المفسدة حالة النهي ولا مفسدة حالة الأمر ولا مصلحة حالة النهي على ما تقرر قبل ولا يلزم من ذلك الجهل في حق الله تعالى ولا البدآء لعلمه حالة الأمر بما الفعل مشتمل عليه من المصلحة وانه سينسخه في ثاني الحال لما يلازمه من المفسدة المقتضية للنسخ حالة النسخ كما علم. قولهم في المعارضة الثانية: إذا أمر بالفعل ثم نهى عنه فتبين أنه أمر بما لم يرد مسلم وعندنا ليس من شرط الأمر إرادة المأمور به كما سبق تعريفه. قولهم يلزم من ذلك عدم الوثوق بجميع أقوال الشارع إن أرادوا بذلك أنه إذا خاطب بما يحتمل التأويل أنا لا نقطع بإرادته لما هو الظاهر من كلامه فمسلم ولكن لا نسلم امتناع ذلك وهذا هو أول المسألة وإن أرادوا به أنه لا يمكن الاعتماد على ظاهره مع احتمال إرادة غيره من الاحتمالات البعيدة فغير مسلم وإن أرادوا غير ذلك فلا نسلم تصوره. قولهم في المعارضة الثالثة إنه يلزم منه أن يكون الفعل الواحد في وقت واحد مأموراً منهياً قلنا: مأمور منهي معاً أو لا معاً؟ الأول ممنوع والثاني مسلم. قولهم إن كلام الله عندكم صفة واحدة لا نسلم ذلك إن سلكنا مذهب عبد الله بن سعد من أصحابنا وإن سلكنا مذهب الشيخ أبي الحسن فلم قالوا بالإحالة.
قولهم يلزم منه أن تكون الصفة الواحدة أمراً نهياً قلنا: إنما تسمى الصفة الواحدة بهذه الأسماء بسبب اختلاف تعلقاتها ومتعلقاتها فإن تعلقت بالفعل سميت أمراً وإن تعلقت بالترك سميت نهياً وذلك إنما يمتنع أن لو اتحد زمان التعلق بالفعل والترك. وأما إذا كان زمان التعلق مختلفاً فلا والمأمور والمنهي وإن كان زمانه متحداً لكن زمان تعلق الأمر به غير زمان تعلق النهي به ومع التغاير فلا امتناع. المسألة الثالثة اتفق الجمهور على جواز نسخ حكم الخطاب إذا كان بلفظ التأبيد كقوله: صوموا أبداً خلافاً لشذوذ من الأصوليين ودليل جوازه أن الخطاب إذا كان بلفظ التأبيد غايته أن يكون دالاً على ثبوت الحكم في جميع الأزمان بعمومه ولا يمتنع مع ذلك أن يكون المخاطب مريداً لثبوت الحكم في بعض الأزمان دون البعض كما في الألفاظ العامة لجميع الأشخاص. وإذا لم يكن ذلك ممتنعاً فلا يمتنع ورود الناسخ المعرف لإرادة المخاطب لذلك ولو فرضنا ذلك لما لزم عنه المحال وكان جائزاً. فإن قيل: لفظ التأبيد جار مجرى التنصيص على كل وقت من أوقات الزمان بخصوصه والتنصيص على وجوب الفعل في الوقت المعين بخصوص لا يجوز نسخه فكذلك هذا. وأيضاً فإنا لو أمرنا بالعبادة بلفظ يقتضي الاستمرار جاز النسخ فلو جاز ذلك مع التقييد بلفظ التأبيد لم يكن للتقييد معنىً. وأيضاً فإنه لو جاز نسخ ما ورد بلفظ التأبيد لما بقي لنا طريق إلى العلم بدوام العبادة في زمان إرادة التكليف. وأيضاً فإن المخاطب إذا أخبر بلفظ التأبيد لم يجز نسخه فكذلك في غير الخبر. والجواب عن الأول: لا نسلم أن لفظ التأبيد ينزل منزلة التنصيص على كل وقت بعينه بل هو في العرف قد يطلق للمبالغة كما في قول القائل: لازم فلاناً أبداً وفلان أبدا يكرم الضيف وأدام الله ملك الأمير أبداً. وإن سلمنا أنه ينزل منزلة التنصيص على الأوقات المعينة فعندنا لا يمتنع نسخ حكم الخطاب إذا كان مقيداً بوقت معين كما إذا قال: صل وقت زوال الشمس ركعتين فإنه يجوز نسخه بعد دخول الوقت وقبله على ما عرف من أصلنا. وعن الثاني أن فائدة التأبيد تأكيد الاستمرار فإذا ورد النسخ كانت فائدته تأكيد المبالغة في الاستمرار لا نفس الاستمرار. ثم يلزمهم على ما ذكروه ما إذا أتى بلفظ عام كما لو قال كل من دخل داري فأكرمه فإنه يجوز تخصيصه مع تأكيده بكل وجميع فما هو جوابهم في التخصيص فهو جواب لنا في النسخ. عن الثالث أن ما ذكروه إنما يصح إن لو كان لفظ التأبيد يفيد العلم ولا طريق يفيده سواه والأمران ممنوعان: أما الأول فلما سبق وأما الثاني فلجواز أن يخلق الله تعالى العلم الضرروي بذلك أو بما يقترن باللفظ من القرائن المفيدة لليقين كما في القرائن المقترنة بخبر التواتر ثم ما ذكروه لازم عليهم في تخصيص العام المؤكد فإنه جائز مع توجه ما ذكروه في النسخ بعينه عليه والجواب أن ذلك يكون متحداً. وعن الرابع بمنع ذلك في الخبر أيضاً. المسألة الرابعة مذهب الجميع جواز نسخ حكم الخطاب لا إلى بدل خلافاً لبعض الشذوذ ودليله أمران الأول ما يدل على الجواز العقلي وهو أنا لو فرضنا وقوع ذلك لم يلزم عنه لذاته محال في العقل ولا معنى للجائز عقلاً سوى هذا ولأنه لا يخلو إما أن لا يقال برعاية الحكمة في أفعال الله تعالى أو يقال بذلك: فإن كان الأول فرفع حكم الخطاب بعد ثبوته لا يكون ممتنعاً لأن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء وإن كان الثاني فلا يمتنع في العقل أن تكون المصلحة في نسخ الحكم دون بدله. الثاني ما يدل على الجواز الشرعي وهو أن ذلك مما وقع في الشرع كنسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي ﷺ ونسخ الاعتداد بحول كامل في حق المتوفى عنها زوجها ونسخ وجوب ثبات الرجل لعشرة ونسخ وجوب الإمساك بعد الفطر في الليل ونسخ تحريم ادخار لحوم الأضاحي وكل ذلك من غير بدل إلى غير ذلك من الأحكام التي نسخت لا إلى بدل والوقوع في الشرع أدل الدلائل على الجواز الشرعي. فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وهو قوله تعالى:" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " أخبر أنه لا ينسخ إلا ببدل والخلف في خبر الصادق محال.
قلنا: ما ذكروه إنما هو دليل لزوم البدل في نسخ لفظ الآية وليس فيه دلالة على نسخ حكمها وذلك هو موضع الخلاف سلمنا دلالة ما ذكروه على نسخ الحكم لكن لا نسلم العموم في كل حكم وإن سلمنا ولكنه مخصص بما ذكرناه من الصور سلمنا أنه غير مخصص لكن ما المانع أن يكون رفع الحكم بدل إثباته وهو خير منه في الوقت الذي نسخ فيه لكون المصلحة في الرفع دون الإثبات وإن سلم امتناع وقوع ذلك شرعاً لكنه لا يدل على عدم الجواز العقلي. المسألة الخامسة وكما يجوز نسخ حكم الخطاب من غير بدل كما بيناه يجوز نسخه إلى بدل أخف منه كنسخ تحريم الأكل بعد النوم في ليل رمضان إلى حله وإلى بدل مماثل كنسخ وجوب التوجه إلى القدس بالتوجه إلى الكعبة وهذان مما لا خلاف فيهما عند القائلين بالنسخ وإنما الخلاف في نسخ الحكم إلى بدل أثقل منه. ومذهب أكثر أصحابنا وجمهور المتكلمين والفقهاء جوازه خلافاً لبعض أصحاب الشافعي وبعض أهل الظاهر ومنهم من أجازه عقلاً ومنع منه سمعاً. ودليل جوازه عقلاً ما سبق في المسألة المتقدمة ودليل الجواز الشرعي وقوع ذلك في الشرع فمن ذلك أن الله تعالى أوجب صيام رمضان في ابتداء الإسلام مخيراً بينه وبين الفداء بالمال ونسخه بتحتم الصوم وهو أثقل من الأول. ومن ذلك أن الله تعالى أوجب في ابتداء الإسلام الحبس في البيوت والتعنيف حداً على الزنى ونسخه بالضرب بالسياط والتغريب عن الوطن في حق البكر وبالرجم بالحجارة في حق الثيب ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكل ذلك أثقل من الأول. فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من جهة العقل والسمع. أما من جهة العقل فهو أن النسخ إما أن يكون لا لمصلحة أو لمصلحة: فإن كان الأول فهو عبث وقبيح فلا يكون جائزاً على الشارع وإن كان لمصلحة فإما أن تكون أدنى من مصلحة المنسوخ أو مساويةً لها أو راجحةً عليها: فإن كان الأول فهو أيضاً ممتنع لما فيه من إهمال أرجح المصلحتين واعتبار أدناهما وإن كان الثاني فليس الناسخ أولى من المنسوخ فلم يبق غير الثالث. وإذا كان النسخ إنما يكون للأصلح والأنفع والأقرب إلى حصول الطاعة وذلك إنما يكون بنقل المكلفين من الأشد إلى الأخف ومن الأصعب إلى الأسهل لكونه أقرب إلى حصول الطاعة وأسهل في الانقياد وإذا كان بالعكس كان إضراراً بالمكلفين لأنهم إن فعلوا التزموا المشقة الزائدة وإن تركوا استضروا بالعقوبة والمؤاخذة وذلك غير لائق بحكمة الشارع. وأما من جهة السمع فنصوص: أولها قوله تعالى:" يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً " ولا تخفيف في نسخ الأخف إلى الأثقل. وثانيها قوله تعالى:" يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " البقرة 185 وفي نسخ الأخف إلى الأثقل إرادة العسر وفيه تكذيب خبر الصادق. وثالثها قوله تعالى:" ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " الأعراف 157 والأصر هو الثقل أخبر أنه يضع عنهم الثقل الذي حمله للأمم قبلهم فلو نسخ ذلك بما هو أثقل منه كان تكذيباً لخبره تعالى وهو محال. ورابعها قوله تعالى:" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " البقرة 106 وليس المراد منه أنه يأتي بخير من الآية في نفسها إذ القرآن كله خير لا تفاضل فيه وإنما المراد به ما هو خير بالنسبة إلينا وذلك هو الأخف والأسهل في الأحكام. والجواب عن المعقول أن ما ذكروه لازم عليهم في ابتداء التكليف ونقل الخلق من الإباحة والإطلاق إلى مشقة التكليف وكذلك في نقلهم من الصحة إلى السقم ومن الشبيبة إلى الهرم ومن الجدة إلى العدم وإعدام القوي والحواس بعد وجودها فإن ما نقلهم إليه أشق عليهم مما نقلهم عنه وكل ما ذكروه فهو بعينه لازم هاهنا وما هو الجواب في صورة الإلزام فهو جوابنا في محل النزاع. وعن الآية الأولى أنه لا عموم فيها حتى يلزم من ذلك إرادة التخفيف في كل شيء وبتقدير العموم فليس فيه ما يدل على إرادة التخفيف على الفور بل جاز أن يكون المراد من ذلك التخفيف في المآل برفع أثقال الآخرة والعقاب على المعاصي بما يحصل لنا من الثواب الجزيل على الأعمال الشاقة علينا في الدنيا وعلى طباعنا تسميةً للشيء بعاقبته.