إحكام الآمدي - الجزء الأول

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

<الإحكام في أصول الأحكام

القاعدة الأولى في تحقيق مفهوم أصول الفقه وتعريف موضوعه وغايته وما فيه من البحث عنه من مسائله وما منه استمداده وتصوير مباديه وما لا بد من سبق معرفته قبل الخوض فيه. فنقول حق على كل من حاول تحصيل علم من العلوم أن يتصور معناه أولاً بالحد أو الرسم ليكون على بصيرة فيما يطلبه وأن يعرف موضوعه وهو الشيء الذي يبحث في ذلك العلم عن أحواله العارضة له تمييزاً له عن غيره وما هو الغاية المقصودة من تحصيله حتى لا يكون سعيه عبثاً وما عنه البحث فيه من الأحوال التي هي مسائله لتصور طلبها وما منه استمداده لصحة إسناده عند روم تحقيقه إليه وأن يتصور مباديه التي لا بد من سبق معرفتها فيه لإمكان البناء عليها. أما مفهوم أصول الفقه فنقول: أعلم أن قول القائل أصول الفقه قول مؤلف من مضاف هو الأصول ومضاف إليه هو الفقه ولن نعرف المضاف قبل معرفة المضاف إليه فلا جرم أنه يجب تعريف معنى الفقه أولاً ثم معنى الأصول ثانياً أما الفقه: ففي اللغة عبارة عن الفهم ومنه قوله تعالى: "ما نفقه كثيراً مما تقول" أي: لا نفهم وقوله تعالى: "ولكن لا تفقهون تسبيحهم" أي لا تفهمون وتقول العرب: فقهت كلامك أي فهمته. وقيل: هو العلم والأشبه أن الفهم مغاير للعلم إذ الفهم عبارة عن جودة الذهن من جهة تهيئه لاقتناص كل ما يرد عليه من المطالب وإن لم يكن المتصف به عالماً كالعامي الفطن وأما العلم فسيأتي تحقيقه عن قريب وعلى هذا فكل عالم فهم وليس كل فهم عالماً. وفي عرف المتشرعين الفقه مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال فالعلم احتراز عن الظن بالأحكام الشرعية فإنه وإن تجوز بإطلاق اسم الفقه عليه في العرف العامي فليس فقهاً في العرف اللغوي والأصولي بل الفقه العلم بها أو العلم بالعمل بها بناء على الإدراك القطعي وإن كانت ظنية في نفسها وقولنا بجملة من الأحكام الشرعية احتراز عن العلم بالحكم الواحد أو الاثنين لا غير فإنه لا يسمى في عرفهم فقهاً. وإنما لم نقل بالأحكام لأن ذلك يشعر بكون الفقه هو العلم بجملة الأحكام ويلزم منه أن لا يكون العلم بما دون ذلك فقهاً وليس كذلك وقولنا الشرعية احتراز عما ليس بشرعي كالأمور العقلية والحسية وقولنا الفروعية احتراز عن العلم بكون أنواع الأدلة حججاً فإنه ليس فقهاً في العرف الأصولي وإن كان المعلوم حكماً شرعياً نظرياً لكونه غير فروعي وقولنا بالنظر والاستدلال احتراز عن علم الله تعالى بذلك وعلم جبريل والنبي عليه السلام فيما علمه بالوحي فإن علمهم بذلك لا يكون فقهاً في العرف الأصولي إذ ليس طريق العلم في حقهم بذلك النظر والاستدلال. وأما أصول الفقه فاعلم أن أصل كل شيء هو ما يستند تحقيق ذلك الشيء إليه فأصول الفقه: هي أدلة الفقه وجهات دلالاتها على الأحكام الشرعية وكيفية حال المستدل بها من جهة الجملة لا من جهة التفصيل بخلاف الأدلة الخاصة المستعملة في آحاد المسائل الخاصة. وأما موضوع أصول الفقه فاعلم أن موضوع كل علم هو الشيء الذي يبحث في ذلك العلم عن أحواله العارضة لذاته ولما كانت مباحث الأصوليين في علم الأصول لا تخرج عن أحوال الأدلة الموصلة إلى الأحكام الشرعية المبحوث عنها فيه وأقسامها واختلاف مراتبها وكيفية استثمار الأحكام الشرعية عنها على وجه كلي كانت هي موضوع علم الأصول. وأما غاية علم الأصول فالوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية التي هي مناط السعادة الدنيوية والأخروية وأما مسائله فهي أحوال الأدلة المبحوث عنها فيه مما عرفناه وأما ما منه استمداده فعلم الكلام والعربية والأحكام الشرعية: أما علم الكلام فلتوقف العلم بكون أدلة الأحكام مفيدة لها شرعاً على معرفة الله تعالى وصفاته وصدق رسوله فيما جاء به وغير ذلك مما لا يعرف في غير علم الكلام وأما علم العربية فلتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة على معرفة موضوعاتها لغة من جهة الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والحذف والإضمار والمنطوق والمفهوم والاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء وغيره مما لا يعرف في غير علم العربية. وأما الأحكام الشرعية فمن جهة أن الناظر في هذا العلم إنما ينظر في أدلة الأحكام الشرعية فلا بد أن يكون عالماً بحقائق الأحكام ليتصور القصد إلى إثباتها ونفيها وأن يتمكن بذلك من إيضاح المسائل بضرب الأمثلة وكثرة الشواهد ويتأهل بالبحث فيها للنظر والاستدلال. ولا نقول إن استمداده من وجود هذه الأحكام ونفيها في آحاد المسائل فإنها من هذه الجهة لأثبت لها بغير أدلتها فلو توقفت الأدلة على معرفتها من هذه الجهة كان دوراً ممتنعاً. وأما مبادئه فاعلم أن مبادئ كل علم هي التصورات والتصديقات المسلمة في ذلك العلم وهي غير مبرهنة فيه لتوقف مسائل ذلك العلم عليها وسواء كانت مسلمة في نفسها كمبادئ العلم الأعلى أو غير مسلمة في نفسها بل مقبولة على سبيل المصادرة أو الوضع على أن تبرهن في علم أعلى من ذلك العلم وما هذه المبادئ في علم الأصول؟. فنقول: قد عرف أن استمداد علم أصول الفقه إنما هو من علم الكلام والعربية والأحكام الشرعية فمبادئه غير خارجة عن هذه الأقسام الثلاثة فلنرسم في كل مبدأ قسماً: القسم الأول في المبادئ الكلامية فنقول: اعلم أنه لما كانت أصول الفقه هي أدلة الفقه وكان الكلام فيها مما يحوج إلى معرفة الدليل وانقسامه إلى ما يفيد العلم أو الظن وكان ذلك مما لا يتم دون النظر دعت الحاجة إلى تعريف معنى الدليل والنظر والعلم والظن من جهة التحديد والتصوير لا غير. أما الدليل فقد يطلق في اللغة بمعنى الدال وهو الناصب للدليل وقيل هو الذاكر للدليل وقد يطلق على ما فيه دلالة وإرشاد وهذا هو المسمى دليلاً في عرف الفقهاء وسواء كان موصلاً إلى علم أو ظن والأصوليون يفرقون بين ما أوصل إلى العلم وما أوصل إلى الظن فيخصون اسم الدليل بما أوصل إلى العلم واسم الأمارة بما أوصل إلى الظن. وعلى هذا فحده على أصول الفقهاء: أنه الذي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري. فالقيد الأول احتراز عما لم يتوصل به إلى المطلوب لعدم النظر فيه فإنه لا يخرج بذلك عن كونه دليلاً لما كان التوصل به ممكناً والقيد الثاني احتراز عما إذا كان الناظر في الدليل بنظر فاسد والثالث احتراز عن الحد الموصل إلى العلم التصوري وهو عام للقاطع والظني. وأما حده على العرف الأصولي: فهو ما يمكن التوصل به إلى العلم بمطلوب خبري وهو منقسم إلى عقلي محض وسمعي محض ومركب من الأمرين. فالأول كقولنا في الدلالة على حدوث العالم: العالم مؤلف وكل مؤلف حادث فيلزم عنه العالم حادث. والثاني كالنصوص من الكتاب والسنة والإجماع والقياس كما يأتي تحقيقه. والثالث كقولنا في الدلالة على تحريم النبيذ: النبيذ مسكر وكل مسكر حرام لقوله عليه السلام "كل مسكر حرام" فيلزم عنه النبيذ حرام. وأما النظر فإنه قد يطلق في اللغة بمعنى الانتظار وبمعنى الرؤية بالعين والرأفة والرحمة والمقابلة والتفكر والاعتبار وهذا الاعتبار الأخير هو المسمى بالنظر في عرف المتكلمين. وقد قال القاضي أبو بكر في حده: هو الفكر الذي يطلب به من قام به علماً أو ظناً. وقد احترز بقوله يطلب به عن الحياة وسائر الصفات المشروطة بالحياة فإنها لا يطلب بها ذلك وإن كان من قامت به يطلبه وقصد بقوله علماً أو ظناً التعميم للعلم والظن ليكون الحد جامعاً وهو حسن غير أنه يمكن أن يعبر عنه بعبارة أخرى لا يتجه عليها من الإشكاليات ما قد يتجه على عبارة القاضي على ما بيناه في أبكار الأفكار وهو أن يقال: النظر عبارة عن التصرف بالعقل في الأمور السابقة بالعلم والظن للمناسبة للمطلوب بتأليف خاص قصداً لتحصيل ما ليس حاصلاً في العقل وهو عام للنظر المتضمن للتصور والتصديق والقاطع والظني وهو منقسم إلى ما وقف الناظر فيه على وجه دلالة الدليل على المطلوب فيكون صحيحاً وإلى ما ليس كذلك فيكون فاسداً وشرط وجوده مطلقاً وانتفاء أضداده من النوم والغفلة والموت وحصول العلم بالمطلوب وغير ذلك. وأما العلم فقد اختلف المتكلمون في تحديده فمنهم من زعم أنه لا سبيل إلى تحديده لكن اختلف هؤلاء: فمنهم من قال: بيان طريق تعريفه إنما هو بالقسمة والمثال كإمام الحرمين والغزالي وهو غير سديد فإن القسمة إن لم تكن مفيدة لتمييزه عما سواه فليست معرفة له وإن كانت مميزة له عما سواه فلا معنى للتحديد بالرسم سوى هذا. ومنهم من زعم أن العلم بالعلم ضروري غير نظري لأن كل ما سوى العلم لا يعلم إلا بالعلم فلو علم بالغير كان دوراً ولأن كل أحد يعلم وجود نفسه ضرورة والعلم أحد تصورات هذا التصديق فكان ضرورياً وهو أيضاً غير سديد أما الوجه الأول فلأن جهة توقف غير العلم على العلم من جهة كون العلم إدراكاً له وتوقف العلم على الغير لا من جهة كون ذلك الغير إدراكاً للعمل بل من جهة كونه صفة مميزة له عما سواه ومع اختلاف جهة التوقف فلا دور وأما الوجه الثاني فهو مبني على أن تصورات القضية الضرورية لا بد وأن تكون ضرورية وليس كذلك لأن القضية الضرورية هي التي يصدق العقل بها بعد تصور مفرداتها من غير توقف بعد تصور المفردات على نظر واستدلال وسواء كانت التصورات ضرورية أو نظرية. ومنهم من سلك في تعريفه التحديد وقد ذكر في ذلك حدود كثيرة أبطلناها في أبكار الأفكار والمختار في ذلك أن يقال: العلم عبارة عن صفة يحصل بها لنفس المتصف بها التميز بين حقائق المعاني الكلية حصولاً لا يتطرق إليه احتمال نقيضه. فقولنا صفة كالجنس له ولغيره من الصفات وقولنا يحصل بها التميز احتراز عن الحياة وسائر الصفات المشروطة بالحياة وقولنا بين حقائق الكليات احتراز عن الإدراكات الجزئية فإنها إنما تميز بين المحسوسات الجزئية دون الأمور الكلية وإن سلكنا مذهب الشيخ أبي الحسن في أن الإدراكات نوع من العلم لم نحتج إلى التقييد بالكليات. وهو منقسم إلى قديم لا أول لوجوده وإلى حادث بعد العدم والحادث ينقسم إلى ضروري وهو العلم الحادث الذي لا قدرة للمكلف على تحصيله بنظر واستدلال فقولنا العلم الحادث احتراز عن علم الله تعالى وقولنا لا قدرة للمكلف على تحصيله بنظر واستدلال احتراز عن العلم النظري والنظري هو العلم الذي تضمنه الصحيح. وأما الظن فعبارة عن ترجح أحد الاحتمالين في النفس على الآخر من غير قطع. القسم الثاني في المبادئ اللغوية كنا بينا فيما تقدم وجه استمداد الأصول من اللغة فلا بد من تعريف المبادئ المأخوذة منها ولنقدم على ذلك مقدمة فنقول: اعلم أنه لما كان نوع الإنسان أشرف موجود في عالم السفليات لكونه مخلوقاً لمعرفة الله تعالى التي هي أجل المطلوبات وأسنى المرغوبات بما خصه الله به من العقل الذي به إدراك المعقولات والمميز بين حقائق الموجودات على ما قال عليه السلام حكاية عن ربه "كنت كنزاً لم أعرف فخلقت خلقاً لأعرف به". ولما كان هذا المقصود لا يتم دون الاطلاع على المقدمات النظرية المستندة إلى القضايا الضرورية المتوسل بها إلى مطلوباته وتحقيق ما جاء به وكان كل واحد لا يستقل بتحصيل معارفه بنفسه وحده دون معين ومساعد له من نوعه دعت الحاجة إلى نصب دلائل يتوصل بها كل واحد إلى معرفة ما في ضمير الآخر من المعلومات المعينة له في تحقيق غرضه وأخف ما يكون من ذلك ما كان من الأفعال الاختيارية وأخف من ذلك ما كان منها لا يفتقر إلى الآلات والأدوات ولا فيه ضرر الازدحام ولا بقاء له مع الاستغناء عنه وهو مقدور عليه في كل الأوقات من غير مشقة ولا نصب وذلك هو ما يتركب من المقاطع الصوتية التي خص بها نوع الإنسان دون سائر أنواع الحيوان عناية من الله تعالى به. ومن اختلاف تركيبات المقاطع الصوتية حدثت الدلائل الكلامية والعبارات اللغوية وهي إما أن لا تكون موضوعة لمعنى أو هي موضوعة. والقسم الأول مهمل لا اعتبار به والثاني يستدعي النظر في أنواعه وابتداء وضعه وطريق معرفته فهذان أصلان لا بد من النظر فيهما. ?الأصل الأول في أنواعه وهي نوعان وذلك لأنه إما أن يكون اللفظ الدال بالوضع مفرداً أو مركباً النوع الأول في المفرد وفيه ستة فصول. الفصل الأول في حقيقته

أما حقيقته فهو ما دل بالوضع على معنى ولا جزء له يدل على شيء أصلاً كلفظ الإنسان فإن إذ من قولنا إنسان وإن دلت على الشرطية فليست إذ ذاك جزءاً من لفظ الإنسان وحيث كانت جزءاً من لفظ الإنسان لم تكن شرطية لأن دلالات الألفاظ ليست لذواتها بل هي تابعة لقصد المتكلم وإرادته ونعلم أن المتكلم حيث جعل إن شرطية لم يقصد جعلها غير شرطية وعلى هذا فعبد الله إن جعل علماً على شخص كان مفرداً وإن قصد به النسبة إلى الله تعالى بالعبودية كان مركباً لدلالة أجزائه على أجزاء معناه. الفصل الثاني في أقسام دلالته وهو إما أن تكون دلالته لفظية أو غير لفظية واللفظية إما أن تعتبر بالنسبة إلى كمال المعنى الموضوع له اللفظ أو إلى بعضه: فالأول دلالة المطابقة كدلالة لفظ الإنسان على معناه والثاني دلالة التضمن كدلالة لفظ الإنسان على ما في معناه من الحيوان أو الناطق والمطابقة أعم من التضمن لجواز أن يكون المدلول بسيطاً لا جزء له. وأما غير اللفظية فهي دلالة الالتزام وهي أن يكون اللفظ له معنى وذلك المعنى له لازم من خارج فعند فهم مدلول اللفظ من اللفظ ينتقل الذهن من مدلول اللفظ إلى لازمه ولو قدر عدم هذا الانتقال الذهني لما كان ذلك اللازم مفهوماً ودلالة الالتزام وإن شاركت دلالة التضمن في افتقارهما إلى نظر عقلي يعرف اللازم في الالتزام والجزء في دلالة التضمن غير أنه في التضمن لتعريف كون الجزء داخلاً في مدلول اللفظ وفي الالتزام لتعريف كونه خارجاً عن مدلول اللفظ فلذلك كانت دلالة التضمن لفظية بخلاف دلالة الالتزام ودلالة الالتزام مساوية لدلالة المطابقة ضرورة امتناع خلو مدلول اللفظ المطابق عن لازم وأعم من دلالة التضمن لجواز أن يكون اللازم لما لا جزء له. الفصل الثالث في أقسام المفرد وهو إما أن يصح جعله أحد جزأي القضية الخبرية التي هي ذات جزأين فقط أو لا يصح. فإن كان الأول فإما أن يصح تركب القضية الخبرية من جنسه أو لا يصح فإن كان الأول فهو الاسم وإن كان الثاني فهو الفعل وأما قسيم القسم الأول فهو الحرف. ولا يلزم على ما ذكرناه الأسماء النواقص كالذي والتي والمضمرات كهو وهي حيث إنه لا يمكن جعلها أحد جزأي القضية الخبرية عند تجردها ولا تركب القضية الخبرية منها. لأنها وإن تعذر ذلك فيها عند تجردها فالنواقص عند تعينها بالصلة لا يمتنع ذلك منها وكذلك المضمرات عند إضافتها إلى المظهرات بخلاف الحروف. الفصل الرابع في الاسم وهو ما دل على معنى في نفسه ولا يلزم منه الزمان الخارج عن معناه لبنيته ثم لا يخلو إما أن يكون واحداً أو متعدداً: فإن كان واحداً فمسماه إما أن يكون واحداً أو متعدداً فإن كان واحداً فمفهومه منقسم على وجوه. القسمة الأولى: أنه إما أن يكون بحيث يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون أو لا يصح فإن كان الأول فهو كلي وسواء وقعت فيه الشركة بالفعل إما بين أشخاص متناهية كاسم الكوكب أو غير متناهية كاسم الإنسان أو لم تقع إما لمانع من خارج كاسم العالم والشمس والقمر أو بحكم الاتفاق كاسم عناق مغرب أو جبل من ذهب. وهو إما أن يكون صفة أو لا يكون صفة والصفة كالعالم والقادر وما ليس بصفة إما أن يكون عينا كالإنسان والفرس وإما معنى كالعلم والجهل وما كان من هذه الأسماء لا اختلاف في مدلوله بشدة ولا ضعف ولا تقدم وتأخر فهو المتواطئ كلفظ الإنسان والفرس وإلا فمشكك كلفظ الوجود والأبيض. وعلى كل تقدير إما أن يكون ذاتياً للمشتركات فيه أو عرضياً. فإن كان ذاتياً فالمشتركات فيه إما أن تكون مختلفة بالذوات أو بالعرض: فإن كان الأول فإما أن يقال عليها في جواب ما هي فهو الجنس أو لا يقال كذلك فهو ذاتي مشترك إما جنس جنس أو فصل جنس وإن كانت مختلفة بالعرض فإما أن يقال عليها في جواب ما أو لا والأول هو النوع والثاني هو فصل النوع. وإن كان عرضياً فإن كانت المشتركات مختلفة بالذوات فهو العرض العام وإلا فهو الخاصة. وأما إن كان مفهومه غير صالح لاشتراك كثيرين فيه فهو الجزئي وهو إما أن لا يكون فيه تأليف أو فيه. والأول إما أن لا يكون مرتجلاً أو هو مرتجل: فإن لم يكن مرتجلاً فإما أن لا يكون منقولاً كزيد وعمرو أو هو منقول والمنقول إما عن اسم أو فعل أو صوت. فإن كان الأول فإما عن اسم عين كأسد وعقاب أو اسم معنى كفضل أو اسم صفة كحاتم وإن كان الثاني فإما عن ماض كشمر أو مضارع كتغلب أو فعل أمر كاصمت وإن كان الثالث كببه وإن كان مرتجلاً وهو أن لا يكون بينه وبين ما نقل عنه مناسبة كحمدان. وإن كان مؤلفاً فإما من اسمين مضافين كعبد الله أو غير مضافين وأحدهما عامل في الآخر أو غير عامل والأول كتسمية بعض الناس زيد منطلق والثاني كبعلبك وحضرموت وإما من فعلين كقام قعد وإما من حرفين كتسميته إنما وإما من اسم وفعل نحو تأبط شراً وإما من حرف واسم كتسميته بزيد وإما من فعل وحرف كتسميته قام علي. وأما إن كان الاسم واحداً والمسمى مختلفاً فإما أن يكون موضوعاً على الكل حقيقة بالوضع الأول أو هو مستعار في بعضها. فإن كان الأول فهو المشترك وسواء كانت المسميات متباينة كالجون: للسواد والبياض أو غير متباينة كما إذا أطلقنا اسم الأسود على شخص من الأشخاص بطريق العلمية وأطلقناه عليه بطريق الاشتقاق من السواد القائم به فإن مدلوله عند كونه علماً إنما هو ذات الشخص ومدلوله عند كونه مشتقاً الذات مع الصفة وهي السواد فالذات التي هي مدلول العلم جزء من مدلول اللفظ المشتق ومدلول اللفظ المشتق وصف لمدلول العلم وإن كان الثاني فهو المجازي. وأما إن كان الاسم متعدداً فإما أن يكون المسمى متحداً أو متعدداً فإن كان متحداً فتلك هي الأسماء المترادفة كالبهتر والبحتر للقصير وإن كان المسمى متعدداً فتلك هي الأسماء المتباينة كالإنسان والفرس. مسائل هذه القسمة ثلاث المسألة الأولى اختلف الناس في اللفظ المشترك هل له وجود في اللغة فأثبته قوم ونفاه آخرون والمختار جوازه ووقوعه. أما الجواز العقلي فهو أنه لا يمتنع عقلاً أن يضع واحد من أهل اللغة لفظاً واحداً على معنيين مختلفين بالوضع الأول على طريق البدل ويوافقه عليه الباقون أو أن يتفق وضع إحدى القبيلتين للاسم على معنى حقيقة ووضع الأخرى له بازاء معنى آخر من غير شعور لكل واحدة بما وضعته الأخرى ثم يشتهر الوضعان ويخفى سببه وهو الأشبه ولو قدر ذلك لما لزم من فرض وقوعه محال عقلاً. كيف وإن وضع اللفظ تابع لغرض الواضع والواضع كما أنه قد يقصد تعريف الشيء لغيره مفصلاً فقد يقصد تعريفه مجملاً غير مفصل إما لأنه علمه كذلك ولم يعلمه مفصلاً أو لمحذور يتعلق بالتفصيل دون الإجمال فلا يبعد لهذه الفائدة منهم وضع لفظ يدل عليه من غير تفصيل. وأما بيان الوقوع فقد قال قوم إنه لو لم تكن الألفاظ المشتركة واقعة في اللغة مع أن المسميات غير متناهية والأسماء متناهية ضرورة تركبها من الحروف المتناهية لخلت أكثر المسميات عن الألفاظ الدالة عليها مع دعو الحاجة إليها وهو ممتنع وغير سديد من حيث إن الأسماء وإن كانت مركبة من الحروف المتناهية فلا يلزم أن تكون متناهية إلا أن يكون ما يحصل من تضاعيف التركيبات متناهية وهو غير مسلم وإن كانت الأسماء متناهية فلا نسلم أن المسميات المتضادة والمختلفة وهي التي يكون اللفظ مشتركاً بالنسبة إليها غير متناهية وإن كانت غير متناهية غير أن وضع الأسماء على مسمياتها مشروط بكون كل واحد من المسميات مقصوداً بالوضع وما لا نهاية له مما يستحيل فيه ذلك ولئن سلمنا أنه غير ممتنع ولكن لا يلزم من ذلك الوضع ولهذا فإن كثيراً من المعاني لم تضع العرب بازائها ألفاظاً تدل عليها لا بطريق الاشتراك ولا التفصيل كأنواع الروائح وكثير من الصفات وقال أبو الحسين البصري: أطلق أهل اللغة اسم القرء على الطهر والحيض وهما ضدان فدل على وقوع الاسم المشترك في اللغة. ولقائل أن يقول: القول بكونه مشتركاً غير منقول عن أهل الوضع بل غاية المنقول اتحاد الاسم وتعدد المسمى ولعله أطلق عليهما باعتبار معنى واحد مشترك بينهما لا باعتبار اختلاف حقيقتهما أو أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر وإن خفي موضع الحقيقة والمجاز وهذا هو الأولى. أما بالنظر إلى الاحتمال الأول فلما فيه من نفي التجوز والاشتراك وأما بالنظر إلى الاحتمال الثاني فلأن التجوز أولى من الاشتراك كما يأتي في موضعه.

والأقرب في ذلك أن يقال اتفق إجماع الكل على إطلاق اسم الموجود على القديم والحادث حقيقة ولو كان مجازاً في أحدهما لصح نفيه إذ هو أمارة المجاز وهو ممتنع وعند ذلك فإما أن يكون اسم الموجود دالاً على ذات الرب تعالى أو على صفة زائدة على ذاته: فإن كان الأول فلا يخفى أن ذات الرب تعالى مخالفة بذاتها لما سواها من الموجودات الحادثة وإلا لوجب الاشتراك بينها وبين ما شاركها في معناها في الوجوب ضرورة التساوي في مفهوم الذات وهو محال وإن كان مدلول اسم الوجود صفة زائدة على ذات الرب تعالى فإما أن يكون المفهوم منه هو المفهوم من اسم الوجود في الحوادث وإما خلافه والأول يلزم منه أن يكون مسمى الوجود في الممكن واجباً لذاته ضرورة أن وجود الباري تعالى واجب لذاته أو أن يكون وجود الرب ممكناً ضرورة إمكان وجود ما سوى الله تعالى وهو محال وإن كان الثاني لزم منه الاشتراك وهو المطلوب. فإن قيل المقصود من وضع الألفاظ إنما هو التفاهم وذلك غير متحقق مع الاشتراك من حيث أن فهم المدلول منه ضرورة تساوي النسبة غير معلوم من اللفظ والقرائن فقد تظهر وقد تخفى وبتقدير خفائها يختل المقصود من الوضع وهو الفهم. قلنا وإن اختل فهم التفصيل على ما ذكروه فلا يختل معه الفهم في جهة الجملة كما سبق تقريره وليس فهم التفصيل لغة من الضروريات بدليل وضع أسماء الأجناس فإنها لا تفيد تفاصيل ما تحتها وإن سلمنا أن الفائدة المطلوبة إنما هي فهم التفصيل فإنما يمنع ذلك من وضع الألفاظ المشتركة أن لو لم تكن مفيدة لجميع مدلولاتها بطريق العموم وليس كذلك على ما ذهب إليه القاضي والشافعي رضي الله عنه كما سيأتي تحقيقه. وإذا عرف وقوع الاشتراك لغة فهو أيضاً واقع في كلام الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى: "والليل إذا عسعس" فإنه مشترك بين إقبال الليل وإدباره وهما ضدان هكذا ذكره صاحب الصحاح. وما يقوله المانع لذلك من أن المشترك إن كان المقصود منه الإفهام فإن وجد معه البيان فهو تطويل من غير فائدة وإن لم يوجد فقد فات المقصود وإن لم يكن المقصود منه الإفهام فهو عبث وهو قبيح فوجب صيانة كلام الله عنه فهو مبني على الحسن والقبح الذاتي العقلي وسيأتي إبطاله. كيف وقد بينا أن مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر أن المشترك نوع من أنواع العموم والعام غير ممتنع في كلام الله تعالى وبتقدير عدم عمومه فلا يمتنع أن يكون في الخطاب به فائدة لنيل الثواب بالاستعداد لامتثاله بتقدير بيانه بظهور دليل يدل على تعيين البعض وإبطال جميع الأقسام سوى الواحد منها. المسألة الثانية قد ظن في أشياء أنها مشتركة وهي متواطئة وفي أشياء أنها متواطئة وهي مشتركة أما الأول فكقولنا مبدأ للنقطة والآن فإنه لما اختلف الموضوع المنسوب إليه وهو الزمان والخط ظن الاشتراك في اسم المبدأ وليس كذلك فإن إطلاق اسم المبدأ عليهما إنما كان بالنظر إلى أن كل واحد منهما أول لشيء لا من حيث هو أول للزمان أو الخط وهو من هذا الوجه متواطئ وليس بمشترك. وأما الثاني فكقولنا خمري للون الشبيه بلون الخمر وللعنب باعتبار أنه يؤول إلى الخمر وللدواء إذا كان يسكر كالخمر أو أن الخمر جزء منه فإنه لما اتحد المنسوب إليه وهو الخمر ظن أنه متواطئ وليس كذلك فإن اسم الخمري وإن اتحد المنسوب إليه إنما كان بسبب النسب المختلفة إليه ومع الاختلاف فلا تواطؤ نعم لو أطلق اسم الخمري في هذه الصور باعتبار ما وقع به الاشتراك من عموم النسبة وقطع النظر عن خصوصياتها كان متواطئاً. الثالثة ذهب شذوذ من الناس إلى امتناع وقوع الترادف في اللغة مصيراً منهم إلى أن الأصل عند تعدد الأسماء تعدد المسميات واختصاص كل اسم بمسمى غير مسمى الآخر وبيانه من أربعة أوجه: الأول: إنه يلزم من اتحاد المسمى تعطيل فائدة أحد اللفظين لحصولها باللفظ الآخر الثاني: إنه لو قيل باتحاد المسمى فهو نادر بالنسبة إلى المسمى المتعدد بتعدد الأسماء وغلبة استعمال الأسماء بازاء المسميات المتعددة تدل على أنه أقرب إلى تحصيل مقصود أهل الوضع من وضعهم فاستعمال الألفاظ المتعددة فيما هو على خلاف الغالب خلاف الأصل الثالث: إن المؤونة في حفظ الاسم الواحد أخف من حفظ الاسمين والأصل إنما هو التزام أعظم المشقتين لتحصيل أعظم الفائدتين الرابع: إنه إذا اتحد الاسم دعت حاجة الكل إلى معرفته مع خفة المؤونة في حفظه فعمت فائدة التخاطب به ولا كذلك إذا تعددت الأسماء فإن كل واحد على أمرين: بين أن يحفظ مجموع الأسماء أو البعض منها والأول شاق جداً وقلما يتفق ذلك والثاني فيلزم منه الإخلال بفائدة التخاطب لجواز اختصاص كل واحد بمعرفة اسم لا يعرفه الآخر. وجوابه أن يقال لا سبيل إلى إنكار الجواز العقلي فإنه لا يمتنع عقلاً أن يضع واحد لفظين على مسمى واحد ثم يتفق الكل عليه أو أن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين على مسمى وتضع الأخرى له اسماً آخر من غير شعور كل قبيلة بوضع الأخرى ثم يشيع الوضعان بعد بذلك كيف وإن ذلك جائز بل واقع بالنظر إلى لغتين ضرورة فكان جائزاً بالنظر إلى قبيلتين. قولهم في الوجه الأول لا فائدة في أحد الاسمين ليس كذلك فإنه يلزم منه التوسعة في اللغة وتكثير الطرق المفيدة للمطلوب فيكون أقرب إلى الوصول إليه حيث إنه لا يلزم من تعذر حصول أحد الطريقين تعذر الآخر بخلاف ما إذا اتحد الطريق وقد يتعلق به فوائد أخر في النظم والنثر بمساعدة أحد اللفظين في الحرف الروي ووزن البيت والجناس والمطابقة والخفة في النطق به إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة لأرباب الأدب وأهل الفصاحة. وما ذكروه في الوجه الثاني فغير مانع من وقوع الترادف بدليل الأسماء المشتركة والمجازية وما ذكروه في الوجه الثالث فإنما يلزم المحذور منه وهو زيادة مؤونة الحفظ إن لو وظف على كل واحد حفظ جميع المترادفات وليس كذلك بل هو مخير في حفظ الكل أو البعض مع ما فيه من الفائدة التي ذكرناها. وعن الوجه الرابع أنه ملغى بالترادف في لغتين كيف وإنه يلزم من الإخلال بالترادف الإخلال بما ذكرناه من المقاصد أولاً وهو محذور ثم الدليل على وقوع الترادف في اللغة ما نقل عن العرب من قولهم الصهلب والشوذب من أسماء الطويل والبهتر والبحتر من أسماء القصير إلى غير ذلك ولا دليل على امتناع ذلك حتى يتبع ما يقوله من يتعسف في هذا الباب في بيان اختلاف المدلولات لكنه ربما خفي بعض الألفاظ المترادفة وظهر البعض فيجعل الأشهر بياناً للأخفى وهو الحد اللفظي. وقد ظن بأسماء أنها مترادفة وهي متباينة وذلك عندما إذا كانت الأسماء لموضوع واحد باعتبار صفاته المختلفة كالسيف والصارم والهندي أو باعتبار صفته وصفة صفته كالناطق والفصيح وليس كذلك. ويفارق المرادف المؤكد من جهة أن اللفظ المرادف لا يزيد مرادفه إيضاحاً ولا يشترط تقدم أحدهما على الآخر ولا يرادف الشيء بنفسه بخلاف المؤكد والتابع في اللفظ فمخالف لهما فإنه لا بد وأن يكون على وزن المتبوع وأنه قد لا يفيد معنى أصلاً كقولهم: حس بسن وشيطان ليطان ولهذا قال ابن دريد: سألت أبا حاتم عن معنى قولهم بسن فقال: ما أدري ما هو. القسمة الثانية الاسم ينقسم إلى ظاهر ومضمر وما بينهما وذلك لأنه إما أن يقصد به البيان مع الاختصار أو لا مع الاختصار فالأول هو الظاهر. والثاني إما أن لا يقصد معه التنبيه أو يقصد: فالأول هو المضمر والثاني ما بينهما. فأما الاسم الظاهر: إما أن لا يكون آخره ألفاً ولا ياء قبلها كسرة أو يكون فالأول هو الاسم الصحيح فإن دخله حركة الجر مع التنوين فهو المنصرف كزيد وعمرو وإن لم يكن كذلك فهو غير منصرف كأحمد وإبراهيم. والثاني هو المعتل فإن كان في آخره ياء قبلها كسرة فهو المنقوص كالقاضي والداعي وإن كان في آخره ألف فهو المقصور كالدنيا والأخرى وإن كان في آخره همزة قبلها ألف فهو الممدود كالرداء والكساء. وأما المضمر فهو إما منفصل وإما متصل: والمنفصل نحو: أنا ونحن وهو وهي ونحوه والمتصل نحو: فعلت وفعلنا وما بينهما فهو اسم الإشارة.

وهو إما أن يكون مفرداً ليس معه تنبيه ولا خطاب أو يكون: فالأول نحو: ذا وذان وذين وأولاء وأما إن كان غير مفرد فإن وجد معه التنبيه لا غير فنحو: هذا وهذان وإن وجد معه الخطاب فنحو: ذاك وذانك وإن اجتمعا معه فنحو هذاك وهاتيك. ثم ما كان من الأسماء الظاهرة فلا يكون من أقل من ثلاثة أحرف أصول نفياً للإجحاف عنه مع قوته بالنسبة إلى الفعل والحرف إلا فيما شذ من قولهم: يد ودم وأب وأخ ونحوه مما حذف منه الحرف الثالث. وما كان من الأسماء المضمرة متصلاً كان من حرف واحد كالتاء من فعلت وإن كان منفصلاً فلا يكون من أقل من حرفين يبتدأ بأحدهما ويوقف على الآخر: نحو هو وهي وكذلك ما كان من أسماء الإشارة فلا يكون من أقل من حرفين أيضاً نحو ذا وذي ونحوه وبالجملة فإما أن يدل على شيء بعينه أو لا بعينه. فالأول هو المعرفة كأسماء الأعلام والمضمرات والمبهمات كأسماء الإشارة والموصولات وما دخل عليه لام التعريف وما أضيف إلى أحد هذه المعارف والثاني هو النكرة كإنسان وفرس. وما ألحق بآخره من الأسماء ياء مشددة مكسور ما قبلها فهو المنسوب كالهاشمي والمكي ونحوه. القسمة الثالثة الاسم ينقسم إلى ما هو حقيقة ومجاز أما الحقيقة فهي في اللغة مأخوذة من الحق والحق هو الثابت اللازم وهو نقيض الباطل ومنه يقال حق الشيء حقه ويقال حقيقة الشيء أي ذاته الثابتة اللازمة ومنه قوله تعالى "ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين" "الزمر 71" أي وجبت وكذلك قوله تعالى "حقيق على أن لا أقول" "الأعراف 105" أي واجب علي. وأما في اصطلاح الأصوليين فاعلم أن الأسماء الحقيقية قد يطلقها الأصوليون على لغوية وشرعية. واللغوية تنقسم إلى وضعية وعرفية والكلام إنما هو في الحقيقة الوضعية فلنعرفها ثم نعود إلى باقي الأقسام وقد ذكر فيها حدود واهية يستغنى عن تضييع الزمان بذكرها والحق في ذلك أن يقال هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا في اللغة كالأسد المستعمل في الحيوان الشجاع العريض الأعالي والإنسان في الحيوان الناطق. وأما الحقيقة العرفية اللغوية فهي اللفظ المستعمل فيما وضع له بعرف الاستعمال اللغوي وهي قسمان: الأول أن يكون الاسم قد وضع لمعنى عام ثم يخصص بعرف استعمال أهل اللغة ببعض مسمياته كاختصاص لفظ الدابة بذوات الأربع عرفاً وإن كان في أصل اللغة لكل ما دب وذلك إما لسرعة دبيبه أو كثرة مشاهدته أو كثرة استعماله أو غير ذلك. الثاني أن يكون الاسم في أصل اللغة بمعنى ثم يشتهر في عرف استعمالهم بالمجاز الخارج عن الموضوع اللغوي بحيث إنه لا يفهم من اللفظ عند إطلاقه غيره كاسم الغائط فإنه وإن كان في أصل اللغة للموضع المطمئن من الأرض غير أنه قد اشتهر في عرفهم بالخارج المستقدر من الإنسان حتى إنه لا يفهم من ذلك اللفظ عند إطلاقه غيره ويمكن أن يكون شهرة استعمال لفظ الغائط من الخارج المستقذر من الإنسان لكثرة مباشرته وغلبة التخاطب به مع الاستنكاف من ذكر الاسم الخاص به لنفرة الطباع عنه فكنوا عنه بلازمه أو لمعنى آخر. وأما الحقيقة الشرعية فهي استعمال الاسم الشرعي فيما كان موضوعاً له أولاً في الشرع وسواء كان الاسم الشرعي ومسماه لا يعرفهما أهل اللغة أو هما معروفان لهم غير أنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى أو عرفوا المعنى كاسم الصلاة والحج والزكاة ونحوه وكذلك اسم الإيمان والكفر لكن ربما خصت هذه بالأسماء الدينية. وإن شئت أن تحد الحقيقة على وجه يعم جميع هذه الاعتبارات قلت: الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً في الاصطلاح الذي به التخاطب فإنه جامع مانع. وأما المجاز فمأخوذ في اللغة من الجواز وهو الانتقال من حال إلى حال ومنه يقال جاز فلان من جهة كذا إلى جهة كذا. وهو مخصوص في اصطلاح الأصوليين بانتقال اللفظ من جهة الحقيقة إلى غيرها وقبل النظر في تحديده يجب أن تعلم أن المجاز قد يكون لصرف اللفظ عن الحقيقة الوضعية وعن العرفية والشرعية إلى غيرها كما كانت الحقيقة منقسمة إلى وضعية وعرفية وشرعية.

وعند هذا نقول: من اعتقد كون المجاز وضعياً قال في حد المجاز في اللغة الوضعية هو اللفظ المتواضع على استعماله في غير ما وضع له أولاً في اللغة لما بينهما من التعلق ومن لم يعتقد كونه وضعياً أبقى الحد بحاله وأبدل المتواضع عليه بالمستعمل وعلى هذا فلا يخفى حد التجوز عن الحقيقة العرفية والشرعية. وإن أردت التحديد على وجه يعم الجميع قلت هو اللفظ المتواضع على استعماله أو المستعمل في غير ما وضع له أولاً في الاصطلاح الذي به المخاطبة لما بينهما من التعلق ونعني بالتعلق بين محل الحقيقة والمجاز أن يكون محل التجوز مشابهاً لمحل الحقيقة في شكله وصورته كإطلاق اسم الإنسان على المصور على الحائط أو في صفة ظاهرة في محل الحقيقة كإطلاق اسم الأسد على الإنسان لاشتراكهما في صفة الشجاعة لا في صفة البخر لخفائها أو لأنه كان حقيقة كإطلاق اسم العبد على المعتق أو لأنه يؤول إليه في الغالب كتسمية العصير خمراً أو أنه مجاور له في الغالب كقولهم: جرى النهر والميزاب ونحوه. وجميع جهات التجوز وإن تعددت غير خارجة عما ذكرناه وإنما قيدنا الحد باللفظ لأن الكلام إنما هو في المجاز اللفظي لا مطلقاً وبقولنا المتواضع على استعماله أو المستعمل في غير ما وضع له أولاً تمييزاً له عن الحقيقة وبقولنا لما بينهما من التعلق لأنه لو لم يكن كذلك كان ذلك الاستعمال ابتداء وضع آخر وكان اللفظ مشتركاً لا مجازاً. فإن قيل ما ذكرتموه من الحد غير جامع لأنه يخرج منه التجوز بتخصيص الاسم ببعض مدلولاته في اللغة كتخصيص لفظ الدابة بذوات الأربع فإنه مجاز وهو غير مستعمل في غير ما وضع له أولاً لدخول ذوات الأربع في المدلول الأصلي ويلزم منه أيضاً خروج التجوز بزيادة الكاف في قوله "ليس كمثله شيء" "الشورى 11" فإنه مجاز وهو غير مستعمل في إفادة شيء أصلاً ويخرج أيضاً منه التجوز بلفظ الأسد عن الإنسان حالة قصد تعظيمه وإنما يحصل تعظيمه بتقدير كونه أسداً لا بمجرد إطلاق اسم الأسد عليه بدليل ما إذا جعل علماً له ومدلوله إذ ذاك لا يكون غير ما وضع له أولاً وتدخل فيه الحقيقة العرفية كلفظ الغائط وإن كان اللفظ مستعملاً في غير موضوعه أولاً والحقيقة من حيث هي حقيقة لا تكون مجازاً. قلنا: أما الإشكال الأول فمندفع لأنه لا يخفى أن حقيقة المطلق مخالفة لحقيقة المقيد من حيث هما كذلك فإذا كان لفظ الدابة حقيقة في مطلق دابة فاستعماله في الدابة المقيدة على الخصوص يكون استعمالاً له في غير ما وضع له أولاً وأما الكاف في قوله تعالى "ليس كمثله شيء" فليست مستعملة للاسمية كوضعها في اللغة ولا للتشبيه وإلا كان معناها: ليس لمثله مثل وهو مثل لمثله فكان تناقضاً فكانت مستعملة لا فيما وضعت له في اللغة أولاً فكانت داخلة في الحد وأما التعبير بلفظ الأسد عن الإنسان تعظيماً له فليس لتقدير مسمى الأسد الحقيقي فيه بل لمشاركته له في صفته من الشجاعة والحقيقة العرفية وإن كانت حقيقة بالنظر إلى تواضع أهل العرف عليها فلا تخرج عن كونها مجازاً بالنسبة إلى استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولاً ولا تناقض وإذا عرف معنى الحقيقة والمجاز فمهما ورد لفظ في معنى وتردد بين القسمين فقد يعرف كونه حقيقة ومجازاً بالنقل عن أهل اللغة وإن لم يكن نقل فقد يعرف كونه مجازاً بصحة نفيه في نفس الأمر ويعرف كونه حقيقة بعدم ذلك ولهذا فإنه يصح أن يقال لمن سمي من الناس حماراً لبلادته أنه ليس بحمار ولا يصح أن يقال إنه ليس بإنسان في نفس الأمر لما كان حقيقة فيه. ومنها أن يكون المدلول مما يتبادر إلى الفهم من إطلاق اللفظ من غير قرينة مع عدم العلم بكونه مجازاً بخلاف غيره من المدلولات فالمتبادر إلى الفهم هو الحقيقة وغيره هو المجاز. فإن قيل هذا لا يطرد في المجاز المنقول حيث إنه يسبق إلى الفهم من اللفظ دون حقيقته فالأمر فيهما بالضد مما ذكرتموه وينتقض أيضاً باللفظ المشترك فإنه حقيقة في مدلولاته مع عدم تبادر شيء منها إلى الفهم عند إطلاقه.

قلنا أما الأول فمندفع وذلك لأن اللفظ الوارد إذا تبادر مدلوله إلى الذهن عند إطلاقه فإن علم كونه مجازاً فهو غير وارد على ما ذكرناه وإن لم يعلم فالظاهر أنه يكون حقيقة فيه لاختصاص ذلك بالحقيقة في الغالب وإدراج النادر تحت الغالب أولى وأما اللفظ المشترك فإن قلنا إنه عام في جميع محامله فقد اندفع الإشكال وإن قلنا إنه لا يتناول إلا واحداً من مدلولاته على طريق البدل فهو حقيقة في الواحد على البدل لا في الواحد عيناً والذي هو حقيقة فيه فهو متبادر إلى الفهم عند إطلاقه وهو الواحد على البدل والذي لم يتبادر إلى الفهم وهو الواحد المعين غير حقيقة فيه وفيه دقة. ومنها أن لا يكون اللفظ مطرداً في مدلوله مع عدم ورود المنع من أهل اللغة والشارع من الاطراد وذلك كتسمية الرجل الطويل نخلة إذ هو غير مطرد في كل طويل. فإن قيل: عدم الاطراد لا يدل على التجوز فإن اسم السخي حقيقة في الكريم والفاضل حقيقة في العالم وهذان المدلولان موجودان في حق الله تعالى ولا يقال له سخي ولا فاضل وكذلك اسم القارورة حقيقة في الزجاجة المخصوصة لكونها مقراً للمائعات وهذا المعنى موجود في الجرة والكوز ولا يسمى قارورة وإن سلمنا ذلك ولكن الاطراد لا يدل على الحقيقة لجواز اطراد بعض المجازات وعدم الاطراد في بعضها كما ذكرتموه فلا يلزم منه التعميم. قلنا: أما الإشكال الأول فقد اندفع بقولنا إذا لم يوجد مانع شرعي ولا لغوي وفيما أورد من الصور قد وجد المنع ولولاه لكان الاسم مطرداً فيها وأما الثاني فإنا لا ندعي أن الاطراد دليل الحقيقة ليلزم ما قيل بل المدعى أن عدم الاطراد دليل المجاز. ومنها أن يكون الاسم قد اتفق على كونه حقيقة في غير المسمى المذكور وجمعه مخالف لجمع المسمى المذكور فنعلم أنه مجاز فيه وذلك كإطلاق اسم الأمر على القول المخصوص وعلى الفعل في قوله تعالى "وما أمرنا إلا واحدة" "القمر 50" وقوله تعالى "وما أمر فرعون برشيد" "هود 97" فإن جمعه في جهة الحقيقة أوامر وفي الفعل أمور ولا نقول إن المجاز لا يجمع والحقيقة تجمع كما ذكر بعضهم إذ الإجماع منعقد على التجوز بلفظ الحمار عن البليد مع صحة تثنيته وجمعه حيث يقال حماران وحمر. فإن قيل اختلاف الجمع لا يدل على التجوز في المسمى المذكور لجواز أن يكون حقيقة فيه واختلاف الجمع بسبب اختلاف المسمى قلنا: الجمع إنما هو للاسم لا للمسمى فاختلافه لا يكون مؤثراً في اختلاف الجمع. ومنها أن يكون الاسم موضوعاً لصفة ولا يصح أن يشتق لموضوعها منها اسم مع عدم ورود المنع من الاشتقاق فيدل على كونه مجازاً وذلك كإطلاق اسم الأمر على الفعل فإنه لا يشتق لمن قام به منه اسم الآمر بخلاف اسم القارورة فإنه لا يطلق على الكوز والجرة بطريق الاشتقاق من قرار المائع فيه مع كون اسم القرار فيه حقيقة كما اشتق في الزجاجة المخصوصة لورود المنع من أهل اللغة فيه. فإن قيل: هذا ينتقض باسم الرائحة القائمة بالجسم فإنه حقيقة مع عدم الاشتقاق قلنا: لا نسلم عدم الاشتقاق فإنه يصح أن يقال للجسم الذي قامت به الرائحة متروح. ومنها أن يكون الاسم مضافاً إلى شيء حقيقة وهو متعذر الإضافة إليه فيتعين أن يكون مجازاً في شيء آخر وذلك كقوله تعالى "واسأل القرية" يوسف 83". فإن قيل: لا يدل ذلك على كونه مجازاً في الغير لجواز أن يكون مشتركاً وتعذر حمل اللفظ المشترك على بعض محامله لا يوجب جعله مجازاً في الباقي. قلنا: هذا مبني على القول بالاشتراك وهو خلاف الأصل والمجاز وإن كان على خلاف الأصل إلا أن المحذور فيه أدنى من محذور الاشتراك على ما يأتي فكان أولى وعلى هذا نقول: مهما ثبت كون اللفظ حقيقة في بعض المعاني لزم أن يكون مجازاً فيما عداه إذا لم يكن بينهما معنى مشترك يصلح أن يكون مدلولاً للفظ بطريق التواطئ. ومنها أن يكون قد ألف من أهل اللغة أنهم إذا استعملوا لفظاً بازاء معنى أطلقوه إطلاقاً وإذا استعملوه بازاء غيره قرنوا به قرينة فيدل ذلك على كونه حقيقة فيما أطلقوه مجازاً في الغير وذلك لأن وضع الكلام للمعنى إنما كان ليكتفي به في الدلالة والأصل أن يكون ذاك في الحقيقة دون المجاز لكونها أغلب في الاستعمال.

ومنها أنه إذا كان اللفظ حقيقة في معنى ولذلك المعنى متعلق فإطلاقه بازاء ما ليس له ذلك المتعلق يدل على كونه مجازاً فيه كإطلاق اسم القدرة على الصفة المؤثرة في الإيجاد فإن لها مقدوراً وإطلاقها على المخلوقات في قولهم انظر إلى قدرة الله لا مقدور لها. فإن: قيل التعلق ليس من توابع كون اللفظ حقيقياً بل من توابع المسمى ولا يلزم من اختلاف المسمى إذا كان الاسم في أحدهما حقيقة أن يكون مجازاً في الآخر لجواز الاشتراك فجوابه ما سبق. ومنها أن يكون الاسم الموضوع لمعنى مما يتوقف إطلاقه عليه على تعلقه بمسمى ذلك الاسم في موضع آخر ولا كذلك بالعكس فيعلم أن المتوقف مجاز والآخر غير مجاز. وتشترك الحقيقة والمجاز في امتناع اتصاف أسماء الأعلام بهما كزيد وعمرو وذلك لأن الحقيقة على ما تقدم إنما تكون عند استعمال اللفظ فيما وضع له أولاً والمجاز في غير ما وضع له أولاً وذلك يستدعي كون الاسم الحقيقي والمجازي في وضع اللغة موضوعاً لشيء قبل هذا الاستعمال في وضع اللغة وأسماء الأعلام ليست كذلك فإن مستعملها لم يستعملها فيما وضعه أهل اللغة له أولاً ولا في غيره لأنها لم تكن من وضعهم فلا تكون حقيقة ولا مجازاً وعلى هذا فالألفاظ الموضوعة أولاً في ابتداء الوضع في اللغة لا توصف بكونها حقيقة ولا مجازاً وإلا كانت موضوعة قبل ذلك الوضع وهو خلاف الفرض وكذلك كل وضع ابتدائي حتى الأسماء المخترعة ابتداء لأرباب الحرف والصناعات لأدواتهم وآلاتهم وإنما تصير حقيقة ومجازاً باستعمالها بعد ذلك وبهذا يعلم بطلان قول من قال إن كل مجاز له حقيقة ولا عكس وذلك لأن غاية المجاز أن يكون مستعملاً في غير ما وضع له أولاً وما وضع له اللفظ أولاً ليس حقيقة ولا مجازاً على ما عرف وبالنظر إلى ما حققناه في معنى الحقيقة والمجاز يعلم أن تسمية اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً حقيقة وإن كان حقيقة بالنظر إلى الأمر العرفي غير أنه مجاز بالنظر إلى كونه منقولاً من الوجوب والثبوت الذي هو مدلول الحقيقة أولاً في اللغة على ما سبق تحقيقه. وتشترك الحقيقة والمجاز أيضاً أن كل ما كان من كلام العرب ما عدا الوضع الأول فإنه لا يخلو عن الحقيقة والمجاز معا بل لا بد من أحدهما فيه. مسائل هذه القسمة خمس: المسألة الأولى في الأسماء الشرعية ولا شك في إمكانها إذ لا إحالة في وضع الشارع اسماً من أسماء أهل اللغة أو من غير أسمائهم على معنى يعرفونه أو لا يعرفونه لم يكن موضوعاً لأسمائهم فإن دلالات الأسماء على المعاني ليست لذواتها ولا الاسم واجب للمعنى بدليل انتفاء الاسم قبل التسمية وجواز إبدال اسم البياض بالسواد في ابتداء الوضع وكما في أسماء الأعلام والأسماء الموضوعة لأرباب الحرف والصناعات لأدواتهم وآلاتهم. وإنما الخلاف نفياً وإثباتاً في الوقوع والحجاج هاهنا مفروض فيما استعمله الشارع من أسماء أهل اللغة كلفظ الصوم والصلاة هل خرج به عن وضعهم أم لا فمنع القاضي أبو بكر من ذلك وأثبته المعتزلة والخوارج والفقهاء. احتج القاضي بمسلكين: الأول أن الشارع لو فعل ذلك لزمه تعريف الأمة بالتوقيف نقل تلك الأسامي وإلا كان مكلفاً لهم بفهم مراده من تلك الأسماء وهم لا يفهمونه وهو تكليف بما لا يطاق والتوقيف الوارد في مثل هذه الأمور لا بد وأن يكون متواتراً لعدم قيام الحجة بالآحاد فيها ولا تواتر وهذه الحجة غير مرضية أما أولاً فلأنها مبنية على امتناع التكليف بما لا يطاق وهو فاسد على ما عرف من أصول أصحابنا القائلين بخلافه في هذه المسألة وإن كان ذلك ممتنعاً عند المعتزلة وبتقدير امتناع التكليف بما لا يطاق إنما يكون هذا تكليفاً بما لا يطاق إذ لو كلفهم بفهمها قبل تفهيمهم وليس كذلك. قوله التفهيم إنما يكون بالنقل لا نسلم وما المانع أن يكون تفهيمهم بالتكرير والقرائن المتضافرة مرة بعد مرة كما يفعل الوالدان بالولد الصغير والأخرس في تعريفه لما في ضميره لغيره بالإشارة.

المسلك الثاني أن هذه الألفاظ قد اشتمل عليها القرآن فلو كانت مفيدة لغير مدلولاتها في اللغة لما كانت من لسان أهل اللغة كما لو قال أكرم العلماء وأراد به الجهال أو الفقراء وذلك لأن كون اللفظ عربياً ليس لذاته وصورته بل لدلالته على ما وضعه أهل اللغة بازائه وإلا كانت جميع ألفاظهم قبل التواضع عليها عربية وهو ممتنع ويلزم من ذلك أن لا يكون القرآن عربياً وهو على خلاف قوله تعالى "إنا جعلناه قرآناً عربياً" الزخرف 3" وقوله تعالى "بلسان عربي مبين" "الشعراء 195" وقوله تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه" "إبراهيم 4" وذلك ممتنع وهذا المسلك ضعيف أيضاً إذ لقائل أن يقول: لا أسلم أنه يلزم من ذلك خروج القرآن عن كونه عربياً فإن قيل لأنه إذا كان مشتملاً على ما ليس بعربي فما بعضه عربي وبعضه غير عربي لا يكون كله عربياً وفي ذلك مخالفة ظواهر النصوص المذكورة فيمكن أن يقال: لا نسلم دلالة النصوص على كون القرآن بكليته عربياً لأن القرآن قد يطلق على السورة الواحدة منه بل على الآية الواحدة كما يطلق على الكل ولهذا يصح أن يقال للسورة الواحدة: هذا قرآن والأصل في الإطلاق الحقيقة ولأن القرآن مأخوذ من الجمع ومنه يقال: قرأت الناقة لبنها في ضرعها إذا جمعته وقرأت الماء في الحوض أي جمعته والسورة الواحدة فيها معنى الجمع لتألفها من حروف وكلمات وآيات فصح إطلاق القرآن عليها غايته أنا خالفنا هذا في غير الكتاب العزيز فوجب العمل بمقتضى هذا الأصل في الكتاب وبعضه ولأنه لو حلف أنه لا يقرأ القرآن فقرأ سورة منه حنث ولو لم يكن قرآناً لما حنث وإذا كان كذلك فليس الحمل على الكل أولى من البعض وعند ذلك أمكن حمله على البعض الذي ليس فيه غير العربية. فإن قيل: أجمعت الأمة على أن الله تعالى لم ينزل إلا قرآناً واحداً فلو كان البعض قرآناً والكل قرآناً لزمت التثنية في القرآن وهو خلاف الإجماع وإذا لم يكن القرآن إلا واحداً تعين أن يكون هو الكل ضرورة الإجماع على تسميته قرآناً. قلنا: أجمعت الأمة على أن الله تعالى لم ينزل إلا قرآناً واحداً بمعنى أنه لم ينزل غير هذا القرآن أو بمعنى أن المجموع قرآن وبعضه ليس بقرآن الأول مسلم والثاني ممنوع. فإن قيل: ما ذكرتموه من الدليل على كون بعض القرآن قرآناً معارض بما يدل على أنه ليس بقرآن وهو صحة قول القائل عن السورة والآية: هذا بعض القرآن. قلنا: المراد به إنما هو بعض الجملة المسماة بالقرآن وليس في ذلك ما يدل على أن البعض ليس بقرآن حقيقة فإن جزء الشيء إذا شارك كله في معناه كان مشاركاً له في اسمه ولهذا يقال إن بعض اللحم لحم وبعض العظم عظم وبعض الماء ماء لاشتراك الكل والبعض في المعنى المسمى بذلك الاسم وإنما يمتنع ذلك فيما كان البعض فيه غير مشارك للكل في المعنى المسمى بذلك الاسم ولهذا لا يقال: بعض العشرة عشرة وبعض المائة مائة وبعض الرغيف رغيف وبعض الدار دار إلى غير ذلك وعند ذلك فما لم يبينوا كون ما نحن فيه من القسم الثاني دون الأول فهو غير لازم وإن سلمنا التعارض من كل وجه فليس القول بالنفي أولى من القول بالإثبات وعلى المستدل الترجيح وإن سلمنا دلالة النصوص على كون القرآن بجملته عربياً لكن بجهة الحقيقة أو المجاز الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأن ما الغالب منه العربية يسمى عربياً وإن كان فيه ما ليس بعربي كما يسمى الزنجي أسود وإن كان بعضه اليسير مبيضاً كأسنانه وشحمة عينيه والرومي أبيض وإن كان البعض اليسير منه أسود كالناظر من عينيه وكذل البيت من الشعر بالفارسية يسمى فارسياً وإن كان مشتملاً على كلمات يسيرة من العربية.

ويدل على هذا التجوز ما اشتمل عليه القرآن من الحروف المعجمة في أوائل السور فإنها ليست من لغة العرب في شيء وأيضاً فإن القرآن قد اشتمل على عبادات غير معلومة للعرب فلا يتصور التعبير عنها في لغتهم فلا بد لها من أسماء تدل عليها غير عربية وأيضاً فإن القرآن مشتمل على قوله تعالى "وما كان الله ليضيع إيمانكم" "البقرة 143" وأراد به صلاتكم وليس الإيمان في اللغة بمعنى الصلاة بل بمعنى التصديق وعلى قوله "أقيموا الصلاة" البقرة 43" والصلاة في اللغة بمعنى الدعاء وفي الشرع عبارة عن الأفعال المخصوصة وعلى قوله تعالى "وآتوا الزكاة" "البقرة 43" والزكاة في اللغة عبارة عن النماء والزيادة وفي الشرع عبارة عن وجوب أداء مال مخصوص وعلى قوله تعالى: "كتب عليكم الصيام" "البقرة 138"والصوم في اللغة عبارة عن مطلق إمساك وفي الشرع عبارة عن إمساك مخصوص بل وقد يطلق الصوم في الشرع في حالة لا إمساك فيها كحالة الناسي أكلاً وعلى قوله تعالى: "ولله على الناس حج البيت" "آل عمران 97" والحج في اللغة عبارة عن مطلق قصد وفي الشرع عبارة عن القصد إلى مكان مخصوص. وهذا كله يدل على اشتمال القرآن على ما ليس بعربي فكان إطلاق اسم العربي عليه مجازاً. فإن قيل: أما الحروف المعجمة التي في أوائل السور فهي أسماؤها وأما العبادات الحادثة فمن حيث إنها أفعال محسوسة معلومة للعرب ومسماة بأسماء خاصة لها لغة غير أن الشرع اعتبرها في الثواب والعقاب عليها بتقدير الفعل أو الترك وليس في ذلك ما يدل على اشتمال القرآن على ما ليس بعربي وأما الآيات المذكورة فهي محمولة على مدلولاتها لغة أما قوله تعالى "وما كان الله ليضيع إيمانكم" "البقرة 143" فالمراد به تصديقكم بالصلاة وقوله تعالى "أقيموا الصلاة" "البقرة 43" فالمراد به الدعاء وكذلك قوله "وآتوا الزكاة" البقرة 43" فالمراد به النمو والمراد من الصوم الإمساك ومن الحج القصد غير أن الشارع شرط في إجزائها وصحتها شرعاً ضم غيرها إليها وليس في ذلك ما يدل على تغيير الوضع اللغوي وإن سلمنا دخول هذه الشروط في مسمى هذه الأسماء لكن بطريق المجاز أما في الصلاة فمن جهة أن الدعاء جزؤها والشيء قد يسمى باسم جزئه ومنه قول الشاعر: يناشدني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقـدم وأراد به القرآن فسماه باسم جزئه وكذلك الكلام في الصوم والزكاة والحج ويمكن أن يقال بأن تسمية الصوم الخاص وكذلك الزكاة والحج والإيمان من باب التصرف بتخصيص الاسم ببعض مسمياته لغة كما في لفظ الدابة والشارع له ولاية هذا التصرف كما لأهل اللغة ويخص الصلاة أن أفعالها إنما سميت صلاة لكونها مما يتبع بها فعل الإمام فإن التالي للسابق من الخيل يسمى مصلياً لكونه تابعاً ويخص الزكاة أن تسمية الواجب زكاة باسم سببه والتجوز باسم السبب عن المسبب جائز لغة والمجاز من اللغة لا من غيرها. قلنا: أما الحروف فإنها إذا كانت أسماء لآحاد السور فهي أعلام لها وليست لغوية فقد اشتمل القرآن على ما ليس من لغة العرب وما ذكروه في العبادات الحادثة في الشرع فإنما يصح أن لو لم تكن قد أطلق عليها أسماء لم تكن العرب قد أطلقتها عليه ويدل على هذا الإطلاق ما ذكر من الآيات قولهم: إن هذه الأسماء محمولة على موضوعاتها لغة: غير أن الشارع شرط في إجزائها شروطاً لا تصح بدونها فإن مسمى الصلاة في اللغة هو الدعاء وقد يطلق اسم الصلاة على الأفعال التي لا دعاء فيها كصلاة الأخرس الذي لا يفهم الدعاء في الصلاة حتى يأتي به وبتقدير أن يكون الدعاء متحققاً فليس هو المسمى بالصلاة وحده ودليله أنه يصح أن يقال إنه في الصلاة حالة كونه غير داع ولم كان هو المسمى بالصلاة لا غير لصح عند فراغه من الدعاء أن يقال: خرج من الصلاة وإذا عاد إليه يقال: عاد إلى الصلاة وأن لا يسمى الشخص مصلياً حالة عدم الدعاء مع تلبسه بباقي الأفعال وكل ذلك خلاف الإجماع. قولهم: تسمية هذه الأفعال بهذه الأسماء إنما هو بطريق المجاز قلنا: الأصل في الإطلاق الحقيقة قولهم: إن الدعاء جزء من هذه الأفعال والشيء قد يسمى باسم جزئه. قلنا: كل جزء أو بعض الأجزاء: الأول ممنوع والثاني مسلم ولهذا فإن العشرة لا تسمى خمسة ولا الكل جزءاً وإن كان بعضه يسمى جزءاً إلى أمثلة كثيرة لا تحصى. وليس القول بأن ما نحن فيه من القبيل الجائز أولى من غيره وإن سلمنا صحة ذلك تجوزاً ولكن ليس القول بالتجوز في هذه الأسماء وإجراء لفظ القرآن على حقيقته أولى من العكس. فإن قيل: بل ما ذكرناه أولى فإن ما ذكرتموه يلزم منه النقل وتغيير اللغة فيستدعي ثبوت أصل الوضع وإثبات وضع آخر والوضع اللغوي لا يفتقر إلى شيء آخر ولا يلزم منه تغيير فكان أولى وأيضاً فإن الغالب من الأوضاع البقاء لا التغيير وإدراج ما نحن فيه تحت الأغلب أغلب. قلنا: بل جانب الخصم أولى لما فيه من ارتكاب مجاز واحد وما ذكرتموه ففيه ارتكاب مجازات كثيرة فكان أولى وعلى هذا فقد اندفع قولهم بالتجوز بجهة التخصيص أيضاً وما ذكروه من تسمية أفعال الصلاة لما فيها من المتابعة للإمام فيلزم منه أن لا تسمى صلاة الإمام والمنفرد صلاة لعدم هذا المعنى فيها وقولهم في الزكاة أن الواجب سمي زكاة باسم سببه تجوزاً فيلزم عليه أن لا تصح تسميته زكاة عند عدم النماء في المال وإن كان النماء حاصلاً فالتجوز باسم السبب عن المسبب جائز مطلقاً أو في بعض الأسباب: الأول ممنوع: والثاني مسلم ولهذا فإنه لا يصح تسمية الصيد شبكة وإن كان نصبها سبباً له ولا يسمى الابن أباً وإن كان الأب سبباً له وكذلك لا يسمى العالم إلهاً وإن كان الإله تعالى سبباً له إلى غير ذلك من النظائر وعند ذلك فليس القول بأن ما نحن فيه من قبيل التجوز به أولى من غيره. وأما المعتزلة فقد احتجوا بما سبق من الآيات وبقولهم إن الإيمان في اللغة هو التصديق وفي الشرع يطلق على غير التصديق ويدل عليه السلام "الإيمان بضع وسبعون باباً أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" سمي إماطة الأذى إيماناً وليس بتصديق وأيضاً فإن الدين في الشرع عبارة عن فعل العبادات وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بدليل قوله تعالى "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين" إلى آخر الآية ثم قال "وذلك دين القيمة" "البينة 5" فكان راجعاً إلى كل المذكور والدين هو الإسلام لقوله تعالى "إن الدين عند الله الإسلام" "آل عمران 19" والإسلام هو الإيمان فيكون الإيمان في الشرع هو فعل العبادات. ودليل كون الإيمان هو الإسلام إنه لو كان الإيمان غير الإسلام لما كان مقبولاً من صاحبه لقوله تعالى "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه" "آل عمران 85" وأيضاً فإنه استثنى المسلمين من المؤمنين في قوله تعالى "فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين" الذاريات 53" والأصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه وأيضاً قوله تعالى "وما كان الله ليضيع إيمانكم" "البقرة 143" وأراد به الصلاة إلى بيت المقدس وأيضاً فإن قاطع الطريق وإن كان مصدقاً فليس بمؤمن لأنه يدخل النار بقوله تعالى "ولهم في الآخرة عذاب عظيم" "البقرة 114" والداخل في النار مخزي لقوله تعالى حكاية عن أهل النار "ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته" "آل عمران 192" مع التقرير لهم على ذلك والمؤمن غير مخزي لقوله تعالى "يوم لا يخزي الله النبي والذين أمنوا معه" "التحريم 8" وأيضاً فإن المكلف يوصف بكونه مؤمناً حالة كونه غافلاً عن التصديق بالنوم وغيره وأيضاً فإنه لو كان الإيمان في الشرع هو الإيمان اللغوي أي التصديق لسمي في الشرع المصدق بشريك الإله تعالى مؤمناً والمصدق بالله مع إنكار الرسالة مؤمناً إلى نظائره. ولقائل أن يقول: أما الآيات السابق ذكرها فيمكن أن يقال في جوابها إن إطلاق اسم الصلاة والزكاة والصوم والحج إنما كان بطريق المجاز على ما سبق والمجاز غير خارج عن اللغة وتسمية إماطة الأذى عن الطريق إيمانا أمكن أن يكون لكونه دليلاً على الإيمان فعبر باسم المدلول عن الدال وهو أيضاً جهة من جهات التجوز. فإن قيل: الأصل إنما هو الحقيقة قلنا: إلا أنه يلزم منه التغيير ومخالفة الوضع اللغوي فيتقابلان وليس أحدهما أولى من الآخر لما سبق.

وقولهم إن الإيمان هو الإسلام بما ذكروه فهو معارض بقوله تعالى "قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا" "الحجرات 14" ولو اتحدا لما صح هذا القول وليس أحدهما أولى من الآخر بل الترجيح للتغاير نظراً إلى أن الأصل عند تعدد الأسماء تعدد المسميات ولئلا يلزم منه التغيير في الوضع وبهذا يندفع ما ذكروه من الاستثناء وقوله تعالى "وما كان الله ليضيع إيمانكم" "البقرة 183" فالمراد به التصديق بالصلاة لا نفس الصلاة فلا تغيير وإن كان المراد به الصلاة غير أن الصلاة لما كانت تدل على التصديق سميت باسم مدلولها وذلك مجاز من وضع اللغة. وقوله تعالى: "يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه" "التحريم 8" لا يتناول كل مؤمن بل من آمن مع النبي عليه السلام وهو صريح في ذلك وأولئك لم يصدر منهم ما دل صدر الآية عليه من الحراب لله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد الذي أوجب دخول النار في الآية ولا يلزم من نفي الخزي عمن آمن مع النبي نفيه عن غيره. وقولهم إن المكلف يوصف بالإيمان حالة كونه غافلاً عن التصديق بالله تعالى إنما كان ذلك بطريق المجاز لكونه كان مصدقاً وأنه يؤول إلى التصديق وهو جهة من جهات التجوز. وما يقال من أن الأصل الحقيقة فقد سبق جوابه كيف وإن ذلك لازم لهم في كل ما يفسرون الإيمان به ومع اتحاد المحذور فتقرير الوضع أولى. والمصدق بشريك الإله تعالى ليس مؤمناً شرعاً لأن الإيمان في الشرع مطلق تصديق بل تصديق خاص وهو التصديق بالله وبما جاءت به رسله وهو من باب تخصيص الاسم ببعض مسمياته في اللغة فكان مجازاً لغوياً وبه يندفع ما قيل من التصديق بالله والكفر برسوله حيث أن مسمى الإيمان الشرعي لم يوجد وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فالحق عندي في ذلك إنما هو إمكان كل واحد من المذهبين وأما ترجيح الواقع منهما فعسى أن يكون عند غيري تحقيقه. المسألة الثانية اختلف الأصوليون في اشتمال اللغة على الأسماء المجازية: فنفاه الأستاذ أبو إسحاق ومن تابعه وأثبته الباقون وهو الحق. حجة المثبتين أنه قد ثبت إطلاق أهل اللغة اسم الأسد على الإنسان الشجاع والحمار على الإنسان البليد وقولهم ظهر الطريق ومتنها وفلان على جناح السفر وشابت لمة الليل وقامت الحرب على ساق وكبد السماء إلى غير ذلك. وإطلاق هذه الأسماء لغة مما لا ينكر إلا عن عناد وعند ذلك فإما أن يقال إن هذه الأسماء حقيقة في هذه الصور أو مجازية لاستحالة خلو الأسماء اللغوية عنهما ما سوى الوضع الأول كما سبق تحقيقه لا جائز أن يقال بكونها حقيقة فيها لأنها حقيقة فيما سواها بالاتفاق فإن لفظ الأسد حقيقة في السبع والحمار في البهيمة والظهر والمتن والساق والكبد في الأعضاء المخصوصة بالحيوان واللمة في الشعر إذا جاوز شحمة الأذن وعند ذلك فلو كانت هذه الأسماء حقيقية فيما ذكر من الصور لكان اللفظ مشتركاً ولو كان مشتركاً لما سبق إلى الفهم عند إطلاق هذه الألفاظ البعض دون البعض ضرورة التساوي في الدلالة الحقيقية ولا شك أن السابق إلى الفهم من إطلاق لفظ الأسد إنما هو السبع ومن إطلاق لفظ الحمار إنما هو البهيمة وكذلك في باقي الصور. كيف وإن أهل الأعصار لم تزل تتناقل في أقوالها وكتبها عن أهل الوضع تسمية هذا حقيقة وهذا مجازاً. فإن قيل: لو كان في لغة العرب لفظ مجازي فأما أن يفيد معناه بقرينة أو لا بقرينة فإن كان الأول فهو مع القرينة لا يحتمل غير ذلك المعنى فكان مع القرينة حقيقة في ذلك المعنى وإن كان الثاني فهو أيضاً حقيقة إذ لا معنى للحقيقة إلا ما يكون مستقلاً بالإفادة من غير قرينة. وأيضاً فإنه ما من صورة من الصور إلا ويمكن أن يعبر عنها باللفظ الحقيقي الخاص بها فاستعمال اللفظ المجازي فيها مع افتقاره إلى القرينة من غير حاجة بعيد عن أهل الحكمة والبلاغة في وضعهم. قلنا: جواب الأول أن المجاز لا يفيد عند عدم الشهرة إلا بقرينة ولا معنى للمجاز سوى هذا والنزاع في ذلك لفظي كيف وإن المجاز والحقيقة من صفات الألفاظ دون القرائن المعنوية فلا تكون الحقيقة صفة للمجموع.

وجواب الثاني أن الفائدة في استعمال اللفظ المجازي دون الحقيقة قد تكون لاختصاصه بالخفة على اللسان أو لمساعدته في وزن الكلام نظماً ونثراً والمطابقة والمجانسة والسجع وقصد التعظيم والعدول عن الحقيقي للتحقير إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة في الكلام. المسألة الثالثة اختلفوا في دخول الأسماء المجازية في كلام الله تعالى: فنفاه أهل الظاهر والرافضة وأثبته الباقون. احتج المثبتون بقوله تعالى "ليس كمثله شيء" "الشورى 11" وبقوله تعالى "واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها" "يوسف 82" وبقوله تعالى "جداراً يريد أن ينقض" "الكهف 77". والأول من باب التجوز بالزيادة ولهذا لو حذفت الكاف بقي الكلام مستقلاً والثاني من باب النقصان فإن المراد به أهل القرية لاستحالة سؤال القرية والعير وهي البهائم. والثالث من باب الاستعارة لتعذر الإرادة من الجدار وإذا امتنع حمل هذه الألفاظ على ظواهرها في اللغة فما تكون محمولة عليه هو المجاز. فإن قيل لا نسلم التجوز فيما ذكرتموه من الألفاظ أما قوله تعالى "ليس كمثله شيء" "الشورى 11" فهو حقيقة في نفي التشبيه إذ الكاف للتشبيه. وأما قوله تعالى "واسأل القرية" "يوسف 82" فالمراد به مجتمع الناس فإن القرية مأخوذة من الجمع ومنه يقال قرأت الماء في الحوض أي جمعته وقرأت الناقة لبنها في ضرعها أي جمعته ويقال لمن صار معروفاً بالضيافة مقري ويقري لاجتماع الأضياف عنده وسمي القرآن قرآناً لذلك أيضاً لاشتماله على مجموع السور والآيات وأما العير فهي القافلة ومن فيها من الناس ثم وإن كان اسم القرية للجدران والعير للبهائم غير أن الله تعالى قادر على إنطاقها وزمن النبوة زمن خرق العوائد فلا يمتنع نطقها بسؤال النبي لها. وقوله تعالى "جداراً يريد أن ينقض" "الكهف 77" فمحمول أيضاً على حقيقته لأنه لا يتعذر على الله تعالى خلق الإرادة فيه. سلمنا دلالة ما ذكرتموه على التجوز لكنه معارض بما يدل على عدمه وذلك لأن المجاز كذب ولذلك يصدق نفيه عند قول القائل للبليد حمار وللإنسان الشجاع أسد ونقيض النفي الصادق يكون كاذباً ولأن المجاز هو الركيك من الكلام وكلام الرب تعالى مما يصان عنه. سلمنا أنه ليس بكذب غير أنه إنما يصار إليه عند العجز عن الحقيقة ويتعالى الرب عن ذلك. سلمنا أنه غير متوقف على العجز عن الحقيقة غير أنه مما لا يفيد معناه بلفظه دون قرينة وربما تخفى فيقع الالتباس على المخاطب وهو قبيح من الحكيم. سلمنا أنه لا يفضي إلى الالتباس غير أنه إذا خاطب بالمجاز وجب وصفه بكونه متجوزاً نظراً إلى الاشتقاق كما في الواحد منا وهو خلاف الإجماع. سلمنا عدم اتصافه بذلك غير أن كلام الله تعالى حق فله حقيقة والحقيقة مقابلة للمجاز. والجواب قولهم "ليس كمثله شيء" "الشورى 11" لنفي التشبيه ليس كذلك فإنه لو كانت الكاف هاهنا للتشبيه لكان معنى النفي: ليس مثل مثله شيء وهو تناقض ضرورة أنه مثل لمثله فالمثل في الآية زائد والمراد من قولهم مثلك لا يقول هذا المشارك له في صفاته. وقولهم: المراد من القرية الناس المجتمعون ليس كذلك لأن القرية هي المحل الذي يقع فيه الاجتماع لا نفس الاجتماع ومن ذلك سمي الزمان الذي فيه يجتمع دم الحيض قراً وكذلك يقال القاري لجامع القرآن والمقري لجامع الأضياف. قولهم: إن العير هي القافلة المجتمعة من الناس قلنا من الناس والبهائم لا نفس الناس فقط ولهذا لا يقال لمجتمع الناس من غير أن يكون معهم بهائم قافلة قولهم لو سأل لوقع الجواب.

قلنا: جواب الجدران والبهائم ثم غير واقع على وفق الاختيار في عموم الأوقات بل إن وقع فإنما يقع بتقدير تحدي النبي عليه السلام به ولم يكن كذلك فيما نحن فيه فلا يمكن الاعتماد عليه ثم وإن أمكن تخيل ما قالوه مع بعده فبماذا يعتذر عن قوله تعالى "تجري من تحتها الأنهار" والأنهار غير جارية وعن قوله تعالى "واشتعل الرأس شيباً" "مريم 4" وهو غير مشتعل وعن قوله تعالى "واخفض لهما جناح الذل" "الإسراء 24" والذل لا جناح له وقوله تعالى "الحج أشهر معلومات" "البقرة 197" والأشهر ليست هي الحج وإنما هي طرف لأفعال الحج وقوله تعالى "لهدمت صوامع وبيع وصلوات" "الحج 40" والصلوات لا تهدم وقوله "أو جاء أحد منكم من الغائط" "المائدة 6" وقوله: "الله نور السماوات والأرض" "النور 35" وقوله "فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" "البقرة 194" والقصاص ليس بعدوان وقوله "وجزاء سيئة سيئة مثلها" "الشورى 40" وقوله "الله يستهزئ بهم ويمكرون ويمكر الله" "الأنفال 30" وقوله "كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله" "المائدة 64" وقوله تعالى "أحاط بهم سرادقها" "الكهف 29" إلى ما لا يحصى ذكره من المجازات. وعن المعارضة الأولى بمنع كون المجاز كذباً فإنه إنما يكون كذباً أن لو أثبت ذلك حقيقة لا مجازاً كيف وإن الكذب مستقبح عند العقلاء بخلاف الاستعارة والتجوز فإنه عندهم من المستحسنات. قولهم إنه من ركيك الكلام ليس كذلك بل ربما كان المجاز أفصح وأقرب إلى تحصيل مقاصد المتكلم البليغ على ما سبق وعن الثانية بمنع ما ذكروه من اشتراط المصير إلى المجاز بالعجز عن الحقيقة بل إنما يصار إليه مع القدرة على الحقيقة لما ذكرناه من المقاصد فيما تقدم. وعن الثالثة أنها مبنية على القول بالتقبيح العقلي وقد أبطلناه كيف وهو لازم على الخصوم فيما ورد من الآيات المتشابهات فما هو الجواب في المتشابهات؟ هو الجواب لنا هاهنا. وعن الرابعة أنه إنما لم يسم متجوزاً لأن ذلك مما يوهم التسمح في أقواله بالقبيح ولهذا يفهم منه ذلك عند قول القائل "فلان متجوز في مقاله" فيتوقف إطلاقه في حق الله تعالى على الإطلاق الشرعي ولم يرد. وعن الخامسة أن كلام الله وإن كان له حقيقة فبمعنى كونه صدقاً لا بمعنى الحقيقة المقابلة للمجاز. المسألة الرابعة اختلفوا في اشتمال القرآن على كلمة غير عربية فأثبته ابن عباس وعكرمة ونفاه الباقون. احتج النافون بقوله تعالى "ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي" "فصلت 44" فنفي أن يكون أعجمياً وقطع اعتراضهم بتنوعه بين أعجمي وعربي ولا ينتفي الاعتراض وفيه أعجمي وبقوله تعالى "بلسان عربي مبين" "الشعراء 195" وبقوله "إنا أنزلناه قرآناً عربياً" "يوسف 2" وظاهر ذلك ينافي أن يكون فيه ما ليس بعربي. واحتج المثبتون لذلك بقولهم: القرآن مشتمل على المشكاة وهي هندية وإستبرق وسجيل بالفارسية وطه بالنبطية وقسطاس بالرومية والأب وهي كلمة لا تعرفها العرب ولذلك روي عن عمر أنه لما تلا هذه الآية قال: هذه الفاكهة فما الأب قالوا: ولأن النبي عليه السلام مبعوث إلى أهل كل لسان كافة على ما قال تعالى "كافة للناس بشيراً ونذيراً" "سبأ 28" وقال عليه السلام بعثت إلى الأسود والأحمر فلا ينكر أن يكون كتابه جامعاً للغة الكل ليتحقق خطابه للكل إعجازاً وبياناً وأيضاً فإن النبي عليه السلام لم يدع أنه كلامه بل كلام الله تعالى رب العالمين المحيط بجميع اللغات فلا يكون تكلمه باللغات المختلفة منكراً غايته أنه لا يكون مفهوماً للعرب وليس ذلك بدعاً بدليل تضمنه للآيات المتشابهات والحروف المعجمة في أوائل السور. أجاب النافون وقالوا: أما الكلمات المذكورة فلا نسلم أنها ليست عربية وغايته اشتراك اللغات المختلفة في بعض الكلمات وهو غير ممتنع كما في قولهم سروال بدل سراويل وفي قولهم تنور فإنه قد قيل إنه مما اتفق فيه جميع اللغات ولا يلزم من خفاء كلمة الأب على عمر أن لا يكون عربياً إذ ليس كل كلمات العربية مما أحاط بها كل واحد من آحاد العرب ولهذا قال ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى "فاطر السماوات والأرض" "فاطر 1" حتى سمعت امرأة من العرب تقول: أنا فطرته أي ابتدأته.

وأما بعثته إلى الكل فلا يوجب ذلك اشتمال الكتاب على غير لغة العرب لما ذكروه وإلا لزم اشتماله على جميع اللغات ولما جاز الاقتصار من كل لغة على كلمة واحدة لتعذر البيان والإعجاز بها وما ذكروه فغايته أنه إذا كان كلام الله المحيط بجميع اللغات فلا يمتنع أن يكون مشتملاً على اللغات المختلفة ولكنه لا يوجبه فلا يقع ذلك في مقابلة النصوص الدالة على عدمه. المسألة الخامسة اختلفوا في إطلاق الاسم على مسماه المجازي: هل يفتقر في كل صورة إلى كونه منقولاً عن العرب أو يكفي فيه ظهور العلاقة المعتبرة في التجوز كما عرفناه أولاً فمنهم من شرط في ذلك النقل مع العلاقة ومنهم من اكتفى بالعلاقة لا غير. احتج الشارطون للنقل بأنه لو اكتفى بالعلاقة لجاز تسمية غير الإنسان نخلة لمشابهته لها في الطول كما جاز في الإنسان ولجاز تسمية الصيد شبكة والثمرة شجرة وظل الحائط حائطاً والابن أباً تعبيراً عن هذه الأشياء بأسماء أسبابها لما بينها وبين أسبابها من الملازمة في الغالب وهي من الجهات المصححة للتجوز وليس كذلك فدل على أنه لا بد من نقل الاستعمال. ولقائل أن يقول: ما المانع أن يكون تحقق العلاقة بين محل الحقيقة ومحل التجوز كافياً في جواز إطلاق الاسم على جهة المجاز وحيث وجدت العلاقة المجوزة للإطلاق في بعض الصور وامتنع الإطلاق فإنما كان لوجود المنع من قبل أهل اللغة لا للتوقف على نقل استعمالهم للاسم فيها على الخصوص فإن قيل: لو لم يكن نقل استعمال أهل اللغة معتبراً في محل التجوز فتسميته باسم الحقيقة إما بالقياس عليه: أو أنه مخترع للواضع المتأخر الأول ممتنع لما يأتي والثاني فلا يكون من لغة العرب. قلنا: لا يلزم من عدم التنصيص في آحاد الصور من أهل اللغة على التسمية أن يكون كما ذكروه بل ثم قسم ثالث: وهو أن تنص العرب نصاً كلياً على جواز إطلاق الاسم الحقيقي على كل ما كان بينه وبينه علاقة منصوص عليها من قبلهم كما بيناه ولا معنى للمجاز إلا هذا وهو غير خارج عن لغتهم. فإن قيل: لو كان الأمر على ما ذكرتموه لكان المنع منهم متحققاً مع وجود المطلق وهو تعارض مخالف للأصل بخلاف ما ذكرناه. قلنا: أمكن أن يكون المطلق ما ذكرناه مشروطاً بعدم ظهور المنع ومع ظهور المنع فلا مطلق وفيه عوص. واحتج النافون بأن إطلاق المجاز مما لا يفتقر إلى بحث ونظر دقيق في الجهات المصححة في التجوز والأمر النقلي لا يكون كذلك وأيضاً فإنه لو كان نقلياً لما افتقر فيه إلى العلاقة بينه وبين محل الحقيقة بل لكان النقل فيه كافياً. ولقائل أن يقول: أما الأول فالنظر ليس في النقل بل في العلاقة التي بين محل التجوز والحقيقة وأما الثاني فلأن الافتقار إلى العلاقة إنما كان لضرورة توقف المجاز من حيث هو مجاز عليها وإلا كان إطلاق الاسم عليه من باب الاشتراك لا من باب المجاز وإذا تقاومت الاحتمالات في هذه المسألة فعلى الناظر بالاجتهاد في الترجيح. القسمة الرابعة الاسم لا يخلو إما أن يكون بحيث لا يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون أو يصح فالأول اسم العلم كزيد وعمرو. والثاني إما أن لا يكون صفة أو هو صفة والأول هو اسم الجنس وهو إما أن يكون عيناً كالإنسان والفرس أو غير عين كالعلم والجهل والصفة كالقائم والقاعد وهو الاسم المشتق والمشتق هو ما غير من أسماء المعاني عن شكله بزيادة أو نقصان في الحروف أو الحركات أو فيهما وجعل دالا على ذلك المعنى وعلى موضوع له غير معين كتسمية الجسم الذي قام به السواد أسود والبياض أبيض ونحوه ولا يتصور أن يكون المشتق إلا كذلك. وهل يشترط قيام المشتق منها بما له الاشتقاق وهل يلزم الاشتقاق من الصفة المعنوية لما قامت به فذلك مما أوجبه أصحابنا ونفاه المعتزلة حيث إنهم جوزوا اشتقاق اسم المتكلم لله تعالى من كلام مخلوق له غير قائم بذاته ولم يوجبوا الاشتقاق منه للمحل الذي خلق فيه وقد عرفنا مأخذ الخلاف من الجانبين وما هو الصحيح منه في أبكار الأفكار فليلتمس. مسائل هذه القسمة مسألتان: المسألة الأولى في أن بقاء الصفة المشتق منها هل يشترط في إطلاق اسم المشتق حقيقة أم لا فأثبته قوم ونفاه آخرون.

وقد فصل بعضهم بين ما هو ممكن الحصول وما ليس ممكناً فاشترط ذلك في الممكن دون غيره احتج الشارطون بأنه لو كان إطلاق الضارب على شخص ما حقيقة بعد انقضائه صفة الضرب منه لما صح نفيه ويصح أن يقال إنه في الحال ليس بضارب. ولقائل أن يقول: صحة سلب الضاربية عنه في الحال إنما يلزم منه سلبها عنه مطلقاً إذ لو لم يكن أعم من الضاربية في الحال وهو غير مسلم وعند ذلك فلا يلزم من صحة سلب الأخص سلب الأعم. فإن قيل قول القائل هذا ضارب لا يفيد سوى كونه ضارباً في الحال فإذا سلم صحة سلبه في الحال فهو المطلوب. قلنا: هذا بعينه إعادة دعوى محل النزاع بل الضارب هو من حصل له الضرب وهو أعم من حصول الضرب له في الحال فالضارب أعم من الضارب في الحال. فإن قيل: وكما أن حصول الضرب أعم من حصول الضرب في الحال لانقسامه إلى الماضي والحال فهو أعم من المستقبل أيضاً لانقسامه إلى الحال والمستقبل فإن صدق اسم الضارب حقيقة باعتبار هذا المعنى الأعم فليكن اسم الضارب حقيقة قبل وجود الضرب منه كما كان حقيقة بعد زوال الضرب. قلنا: الضارب حقيقة من حصل منه الضرب وهذا يصدق على من وجد منه الضرب في الماضي أو الحال بخلاف من سيوجد منه الضرب في المستقبل فإنه لا يصدق عليه أنه حصل منه الضرب وعند ذلك فلا يلزم من صدق الضارب حقيقة على من وجد منه الضرب صدقه حقيقة على من سيوجد منه الضرب ولم يوجد. واحتج النافون بوجوه: الأول أن أهل اللغة قالوا: إذا كان اسم الفاعل بتقدير الماضي لا يعمل عمل الفعل فلا يقال ضارب زيداً أمس كما يقال بتقدير المستقبل بل يقال ضارب زيد أطلقوا عليه اسم الفاعل باعتبار ما صدر عنه من الفعل الماضي. الثاني أنه لو كان وجود ما منه الاشتقاق شرطاً في صحة الاشتقاق حقيقة لما كان إطلاق اسم المتكلم والمخبر حقيقة أصلاً لأن ذلك لا يصح إلا بعد تحقق الكلام منه والخبر وهو إنما يتم بمجموع حروفه وأجزائه ولا وجود للحروف السابقة مع الحرف الأخير أصلاً ولا حقاً بامتناع كونه متكلماً حقيقة قبل وجود الكلام فلو لم يكن حقيقة عند آخر جزء من الكلام والخبر مع عدم وجود الكلام والخبر في تلك الحالة لما كان حقيقة أصلاً وهو ممتنع وإلا لصح أن يقال إنه ليس بمتكلم إذ هو لازم نفي الحقيقة ولما حنث من حلف أن فلاناً لم يتكلم حقيقة وإنني لا أكلم فلاناً حقيقة إذا كان قد تكلم أو كلمه. الثالث إن الضارب من حصل منه الضرب ومن وجد منه الضرب في الماضي يصدق عليه أنه قد حصل منه الضرب فكان ضارباً حقيقة. ولقائل أن يقول: أما الوجه الأول فإنه لا يلزم من إطلاق اسم الفاعل عليه أن يكون حقيقة ولهذا فإنهم قالوا: اسم الفاعل إذا كان بتقدير المستقبل عمل عمل الفعل فقيل ضارب زيداً غداً وليس ذلك حقيقة بالاتفاق وأما الوجه الثاني فغير لازم أيضاً إذ للخصم أن يقول شرط كون المشتق حقيقة إنما هو وجود ما منه الاشتقاق إن أمكن وإلا فوجود آخر جزء منه وذلك متحقق في الكلام والخبر بخلاف ما نحن فيه. وأما الثالث فلا نسلم أن اسم الضارب حقيقة على من وجد منه الضرب مطلقاً بل من الضرب حاصل منه حالة تسميته ضارباً ثم يلزم تسمية أجلاء الصحابة كفرة لما وجد منهم من الكفر السابق والقائم قاعداً والقاعد قائماً لما وجد منه من القعود والقيام السابق وهو غير جائز بإجماع المسلمين وأهل اللسان هذا ما عندي في هذه المسألة وعليك بالنظر والاعتبار. المسألة الثانية اختلفوا في الأسماء اللغوية: هل ثبتت قياساً أم لا فأثبته القاضي أبو بكر وابن سريج من أصحابنا وكثير من الفقهاء وأهل العربية وأنكره معظم أصحابنا والحنفية وجماعة من أهل الأدب مع اتفاقهم على امتناع جريان القياس في أسماء الأعلام وأسماء الصفات. أما أسماء الأعلام فلكونها غير موضوعة لمعان موجبة لها والقياس لا بد فيه من معنى جامع إما معرف وإما داع وإذا قيل في حق الأشخاص في زماننا: هذا سيبويه وهذا جالينوس فليس بطريق القياس في التسمية بل معناه: هذا حافظ كتاب سيبويه وعلم جالينوس بطريق التجوز كما يقال: قرأت سيبويه والمراد به كتابه.

وأما أسماء الصفات الموضوعة للفرق بين الصفات كالعالم والقادر فلأنها واجبة الاطراد نظراً إلى تحقق معنى الاسم فإن مسمى العالم من قام به العلم وهو متحقق في حق كل من قام به العلم فكان إطلاق اسم العالم عليه ثابتاً بالوضع لا بالقياس إذ ليس قياس أحد المسميين المتماثلين في المسمى على الآخر أولى من العكس وإنما الخلاف في الأسماء الموضوعة على مسمياتها مستلزمة لمعان في محالها وجوداً وعدماً وذلك كإطلاق اسم الخمر على النبيذ بواسطة مشاركته للمعتصر من العنب في الشدة المطربة المخمرة على العقل وكإطلاق اسم السارق على النباش بواسطة مشاركته للسارقين من الأحياء في أخذ المال على سبيل الخفية وكإطلاق اسم الزاني على اللائط بواسطة مشاركته للزاني في إيلاج الفرج المحرم والمختار أنه لا قياس وذلك لأنه إما أن ينقل عن العرب أنهم وضعوا اسم الخمر لكل مسكر أو للمعتصر من العنب خاصة أو لم ينقل شيء من ذلك. فإن كان الأول فاسم الخمر ثابت للنبيذ بالتوقيف لا بالقياس وإن كان الثاني فالتعدية تكون على خلاف المنقول عنهم ولا يكون ذلك من لغتهم. وإن كان الثالث فيحتمل أن يكون الوصف الجامع الذي به التعدية دليلاً على التعدية ويحتمل أن لا يكون دليلاً بدليل ما صرح بذلك وإذا احتمل احتمل فليس أحد الأمرين أولى من الآخر فالتعدية تكون ممتنعة. فإن قيل الوصف الجامع وإن احتمل أن لا يكون دليلاً غير أن احتمال كونه دليلاً أظهر وبيانه من ثلاثة أوجه: الأول إن الاسم دار مع الوصف في الأصل وجوداً وعدماً والدوران دليل كون وجود الوصف أمارة على الاسم فيلزم من وجوده في الفرع وجود الاسم. الثاني إن العرب إنما سمت باسم الفرس والإنسان الذي كان في زمانهم وكذلك وصفوا الفاعل في زمانهم بأنه رفع والمفعول نصب وإنما وصفوا بعض الفاعلين والمفعولين ومع ذلك فالاسم مطرد في زماننا بإجماع أهل اللغة في كل إنسان وفرس وفاعل ومفعول وليس ذلك إلا بطريق القياس. الثالث قوله تعالى "فاعتبروا يا أولي الأبصار" "الحشر 2" وهو عام في كل قياس ثم ما ذكرتموه باطل بالقياس الشرعي فإن كل ما ذكرتموه من الأقسام بعينه متحقق فيه ومع ذلك فالقياس صحيح متبع وهو أيضاً على خلاف مذهب الشافعي فإنه سمي النبيذ خمراً وأوجب الحد بشربه وأوجب الحد على اللائط قياساً على الزنى وأوجب الكفارة في يمين الغموس قياساً على اليمين في المستقبل وتأول حديث "الشفعة للجار" بحمله على الشريك في الممر وقال العرب تسمي الزوجة جاراً فالشريك أولى. قلنا: جواب الأول: إن دوران الاسم مع الوصف في الأصل وجوداً وعدماً لا يدل على كونه علة للاسم بمعنى كونه داعياً إليه وباعثاً بل إن كان ولا بد فبمعنى كونه أمارة وكما دار مع اسم الخمر مع الشدة المطربة دار مع خصوص شدة المعتصر من العنب وذلك غير موجود في النبيذ فلا قياس ثم ما ذكروه منتقض بتسمية العرب للرجل الطويل نخلة والفرس الأسود أدهم والملون بالبياض والسواد أبلق والاسم فيه دائر مع الوصف في الأصل وجوداً وعدماً ومع ذلك لم يسموا الفرس والجمل لطوله نخلة ولا الإنسان المسود أدهم ولا المتلون من باقي الحيوانات بالسواد والبياض أبلق وكل ما هو جوابهم في هذه الصور جوابنا في موضع النزاع. وجواب الثاني أن ما وقع الاستشهاد به لم يكن مستند التسمية فيه على الإطلاق القياس بل العرب وضعت تلك الأسماء للأجناس المذكورة بطريق العموم لا أنها وضعتها للمعين ثم طرد القياس في الباقي. وجواب الثالث بمنع العموم في كل اعتبار وإن كان عاماً في المعتبر فلا يدخل فيه القياس في اللغة وأما النقض بالقياس الشرعي فغير متجه من جهة أن اجتماع الأمة من السلف عندنا أوجب الإلحاق عند ظن الاشتراك في علة حكم الأصل حتى إنه لو لم يكن إجماع لم يكن قياس ولا إجماع فيما نحن فيه من الأمة السابقة على الإلحاق فلا قياس. وأما تسمية الشافعي رضي الله عنه النبيذ خمراً فلم يكن في ذلك مستنداً إلى القياس بل إلى قوله عليه السلام "إن من التمر خمراً" وهو توقيف لا قياس وإيجابه للحد في اللواط وفي النبش لم يكن لكون اللواط زنى ولا لكون النبش سرقة بل لمساواة اللواط للزنى والنبش للسرقة في المفسدة المناسبة للحد المعتبر في الشرع.

وأما يمين الغموس فإنما سميت يميناً لا بالقياس بل بقوله "اليمن الغموس تدع الديار بلاقع" فكان ذلك بالتوقيف. وأما تسمية الشافعي للشريك جاراً إنما كان بالتوقيف لا بالقياس على الزوجة وإنما ذكر الزوجة لقطع الاستبعاد في تسمية الشريك جاراً لزيادة قربه بالنسبة إلى الجار الملاصق فقال: الزوجة أقرب من الشريك وهي جار فلا يستبعد ذلك فيما هو أبعد منها وبتقدير أن يكون قائلاً بالقياس في اللغة إلا أن غيره مخالف له والحق من قوليهما أحق أن يتبع. الفصل الخامس في الفعل وأقسامه والفعل ما دل على حدث مقترن بزمان محصل والحدث المصدر وهو اسم الفعل والزمان المحصل الماضي والحال والمستقبل وهو منقسم بحسب انقسام الزمان فالماضي منه كقام وقعد. والحاضر والمستقبل في اللفظ واحد ويسمى المضارع وهو ما في أوله إحدى الزوائد الأربع وهي: الهمزة والتاء والنون والياء كقولك: أقوم وتقوم ونقوم ويقوم وتخليص المستقبل عن الحاضر بدخول السين أو سوف عليه كقولك: سيقوم وسوف يقوم وأما فعل الأمر فما نزع منه حرف المضارعة لا غير كقولك في يقوم قم ونحوه. ويدخل في هذه الأقسام فعل ما لم يسم فاعله وأفعال القلوب والجوارح والأفعال الناقصة وأفعال المدح والذم والتعجب. والفعل وإن كان كلمة مفردة عند النحاة مطلقاً فعند الحكماء المفرد منه إنما هو الماضي دون المضارع وذلك لأن حرف المضارعة في المضارع هو الدال على الموضوع معيناً كان أو غير معين والمفرد هو الدال الذي لا جزء له يدل على شيء أصلاً على ما سبق تحقيقه في حد المفرد وهو بخلاف الماضي فإنه وإن دل على الفعل وعلى موضوعه فليس فيه حرف يدل على الموضوع فكان مفرداً. وقد ألحق بعضهم ما كان من المضارع الذي في أوله الياء بالماضي في الإفراد دون غيره لاشتراكهما في الدلالة على الفعل وعلى موضوع له غير معين وليس بحق فإنهما وإن اشتركا في هذا المعنى فمفترقان من جهة دلالة الياء على الموضوع الذي ليس معيناً بخلاف الماضي حيث إنه لم يوجد منه حرف يدل على الموضوع كما سبق. الفصل السادس في الحرف وأصنافه الحرف ما دل على معنى في غيره وهو على أصناف: منها حرف الإضافة وهو ما يفضي بمعاني الأفعال إلى الأسماء وهو ثلاثة أقسام: الأول منه ما لا يكون إلا حرفاً كمن وإلى وحتى وفي والباء واللام ورب وواو القسم وتائه. أما من فهي قد تكون لابتداء الغاية كقولك سرت من بغداد وللتبعيض كقولك أكلت من الخبز ولبيان الجنس كقولك خاتم من حديد وزائدة كقولك ما جاءني من أحد. وأما إلى فهي قد تكون لانتهاء الغاية كقولك سرت إلى بغداد وبمعنى مع كقوله تعالى "ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم" "النساء 2" وأما حتى ففي معنى إلى. وأما في فللظرفية كقولك وزيد في الدار وقد ترد بمعنى على كقوله تعالى "ولأصلبنكم في جذوع النخل" "طه 71" وقد يتجوز بها في قولهم نظرت في العلم الفلاني. وأما الباء فللإلصاق كقولك به داء وقد تكون للاستعانة كقولك كتبت بالقلم والمصاحبة كقولك اشتريت الفرس بسرجه وقد ترد بمعنى على قال الله تعالى "ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك" "آل عمران 75" أي على قنطار وعلى دينار وقد ترد بمعنى من أجل قال الله تعالى "ولم أكن بدعائك رب شقياً" "مريم 4" أي لأجل دعائك وقيل بمعنى في دعائك وقد تكون زائدة كقوله تعالى "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" "البقرة 195". وأما اللام فهي للاختصاص كقولك: المال لزيد وقد تكون زائدة كقوله ردف لكم. وأما رب فهي للتقليل ولا تدخل إلا على النكرة كقولك رب رجل عالم. وأما واو القسم فمبدلة عن باء الإلصاق في قولك أقسمت بالله والتاء مبدلة من الواو في تالله. القسم الثاني: ما يكون حرفاً واسماً كعلي وعن والكاف ومذ ومنذ. فأما على فهي للاستعلاء وهي إما حرف كقولك على زيد دين وإما اسم كقول الشاعر: غدت من عليه بعد ما تم ظمئها تصل وعن قيض بزيزاء مجهل وأما عن فللمباعدة: وهي إما حرف كقوله تعالى "فليحذر الذين يخالفون عن أمره" "النور 62" وإما اسم كقولك جلست من عن يمينه. وأما الكاف فقد تكون حرفاً للتشبيه كقولك زيد كعمرو وقد تكون اسماً كقول الشاعر: يضحكن عن كالبرد المنهم وأما مذ ومنذ فحرفان لابتداء الغاية في الزمان تقول: ما رأيته مذ اليوم ومنذ يوم الجمعة وقد يكونان اسمين إذا رفعا ما بعدهما. القسم الثالث: ما يكون حرفاً وفعلاً كحاشا وخلا وعدا فإنها تخفض ما بعدها بالحرفية وقد تنصبه بالفعلية. ومنها الحرف المضارع للفعل وهو ينصب الاسم ويرفع الخبر مثل إن وأن ولكن وكأن وليت ولعل. ومنها حروف العطف وهي عشرة: منها أربعة تشترك في جميع المعطوف والمعطوف عليه في حكم غير أنها تختلف في أمور أخرى وهذه هي الواو والفاء وثم وحتى. أما الواو فقد اتفق جماهير أهل الأدب على أنها للجمع المطلق غير مقتضية ترتيباً ولا معية ونقل عن بعضهم أنها للترتيب مطلقاً ونقل عن الفراء أنها للترتيب حيث يستحيل الجمع كقوله "يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا" وقيل إنها ترد بمعنى أو كقوله تعالى "أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع" "فاطر 1" قيل أراد مثنى أو ثلاث أو رباع وقد ترد للاستئناف كالواو في قوله تعالى "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمناً به" "آل عمران 7" تقديره والراسخون يقولون آمنا به وقد ترد بمعنى مع في باب المفعول معه تقول جاء البرد والطيالسة وقد ترد بمعنى إذ قال الله تعالى "ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً" إلى قوله "وطائفة قد أهمتهم أنفسهم" "آل عمران 154" أي إذ طائفة قد أهمتهم أنفسهم احتج القائلون بالجمع المطلق من تسعة أوجه. الأول: أنه لو كانت الواو في قول القائل رأيت زيداً وعمراً للترتيب لما صح قوله تعالى "ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة" "البقرة 58" في آية وفي آية أخرى "وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً" "الأعراف 161" مع اتحاد القضية لما فيه من جعل المتقدم متأخراً ومتقدماً. الثاني: أنه لو كانت للترتيب لما حسن قول القائل تقاتل زيد وعمرو إذ لا ترتيب فيه. الثالث: أنه كان يلزم أن يكون قول القائل جاء زيد وعمرو كاذباً عند مجيئهما معاً أو تقدم المتأخر وليس كذلك. الرابع: أنه كان يلزم أن يكون قوله رأيت زيداً وعمراً بعده تكريراً وقبله تناقضاً. الخامس: أنها لو كانت للترتيب لما حسن الاستفسار عن تقدم أحدهما وتأخر الآخر لكونه مفهوماً من ظاهر العطف. السادس: أنه كان يجب على العبد الترتيب عند قول سيده له إيت بزيد وعمرو. السابع: هو أن واو العطف في الأسماء المختلفة جارية مجرى واو الجمع وفي الأسماء المتماثلة مجرى ياء التثنية وهما لا يقتضيان الترتيب فكذلك ما هو جار مجراهما. الثامن: أن الجمع المطلق معقول فلا بد له من حرف يفيده وليس ثم من الحروف ما يفيده سوى الواو بالإجماع فتعين أن يكون هو الواو. التاسع: أنها لو أفادت الترتيب لدخلت في جواب الشرط كالفاء ولا يحسن أن يقال إذا دخل زيد الدار وأعطه درهماً كما يحسن أن يقال فأعطه درهماً. ولقائل أن يقول: على الوجه الأول إذا كان من أصل المخالف أن الواو ظاهرة في الترتيب فلا يمنع ذلك من حملها على غير الترتيب تجوزاً وعلى هذا فحيث تعذر حملها على الترتيب في الآيتين المذكورتين لا يمنع من استعمالها في غير الترتيب بجهة التجوز وكذلك الكلام في قولهم تقاتل زيد وعمرو ولا يلزم من التجوز بالواو في غير الترتيب أن يتجوز عنه بالفاء وثم إذ هو غير لازم مع اختلاف الحروف. وعلى الوجه الثالث: أنه لا يلزم أن يكون كاذباً بتقدير المعية أو تقدم المتأخر في اللفظ لإمكان التجوز بها عن الجمع المطلق كما لو قال رأيت أسداً وكان قد رأى إنساناً شجاعاً. وعلى الرابع: أنه إذا قال: رأيت زيداً وعمراً بعده لا يكون تكريراً لأنه يكون مفيداً لامتناع حمله على الجمع المطلق لاحتمال توهمه بجهة التجوز وإذا قال رأيت زيداً وعمراً قبله لا يكون تناقضاً لكونه مفيداً لإرادة جهة التجوز. وعلى الخامس: أنه إنما حسن الاستفسار لاحتمال اللفظ له تجوزاً. وعلى السادس: أنه إنما لم يجب على العبد الترتيب نظراً إلى قرينة الحال المقتضية لإرادة جهة التجوز حتى إنه لو فرض عدم القرينة لقد كان ذلك موجباً للترتيب. فإن قيل لو كانت الواو حقيقة في الترتيب فإفادتها للجمع المطلق عند تفسيرها به إن كان مجازاً فهو خلاف الأصل وإن كان حقيقة فليزم منه الاشتراك وهو أيضاً على خلاف الأصل. قلنا: ولو كانت حقيقة في الجمع المطلق فإفادتها للترتيب عند تفسيرها به وإن كان مجازاً فهو خلاف الأصل وإن كان حقيقة كان مشتركاً وهو خلاف الأصل وليس أحد الأمرين أولى من الآخر. فإن قيل: بل ما ذكرناه أولى لأنها إذا كانت حقيقة في الترتيب خلا الجمع المطلق عن حرف يخصه ويدل عليه وإذا كانت حقيقة في الجمع المطلق لم يخل الترتيب عن حرف يدل عليه لدلالة الفاء وثم عليه. قلنا: فنحن إنما نجعلها حقيقة في الترتيب المطلق المشترك بين الفاء وثم وذلك مما لا تدل عليه الفاء و ثم دلالة مطابقة بل إما بجهة التضمن أو الالتزام وكما أنها تدل على الترتيب المشترك بدلالة التضمن أو الالتزام فتدل على الجمع المطلق هذه الدلالة وعند ذلك فليس إخلاء الترتيب المشترك عن لفظ يطابقه أولى من إخلاء الجمع المطلق. وعلى السابع: أن ما ذكروه إنما يلزم أن لو كانت الواو جارية مجرى واو الجمع وياء التثنية مطلقاً وليس كذلك لأنه لا مانع من كونها جارية مجراهما في مطلق الجمع مع كونها مختصة بالترتيب كما في الفاء وثم. وعلى الثامن: أنه كما أن الجمع المطلق معقول ولا بد له من حرف يدل عليه فالترتيب المطلق أيضاً معقول ولا بد له من حرف يدل عليه وليس ما يفيده بالإجماع سوى الواو فتعين كيف وإن الجمع المطلق حاصل بقوله رأيت زيداً رأيت عمراً. وعلى التاسع: أن ما ذكروه منتقض بثم وبعد وأما المثبتون للترتيب فقد احتجوا بالنقل والحكم والمعنى أما النقل فقوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا" "الحج 87" فإنه مقتض للترتيب وأيضاً ما روي أنه لما نزل قوله تعالى "إن الصفا والمروة من شعائر الله" "البقرة 158" قال الصحابة للنبي عليه السلام بم نبدأ؟ قال "ابدؤوا بما بدأ الله به" ولولا أن الواو للترتيب لما كان كذلك وأيضاً ما روي أن واحداً قام بين يدي رسول الله وقال من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى فقال عليه السلام "بئس خطيب القوم أنت قل ومن عصى الله ورسوله فقد غوى" ولو كانت الواو للجمع المطلق لما وقع الفرق وأيضاً ما روي عن عمر أنه قال لشاعر قال كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك وكان عمر من أهل اللسان وذلك يدل على الترتيب وأيضاً ما روي أن الصحابة أنكروا على ابن عباس وقالوا له لم تأمرنا بالعمرة قبل الحج وقد قال الله "وأتموا الحج والعمرة لله" "البقرة 196" وكانوا أيضاً من أهل اللسان وذلك يدل على الترتيب ولولا أن الواو للترتيب لما كان كذلك. وأما الحكم فإنه لو قال الزوج لزوجته قبل الدخول بها أنت طالق وطالق وطالق وقع بها طلقة واحدة ولو كانت الواو للجمع المطلق لوقعت الثلاث كما لو قال لها: أنت طالق ثلاثاً. وأما المعنى فهو أن الترتيب في اللفظ يستدعي سبباً والترتيب في الوجود صالح له فوجب الحمل عليه. أجاب النافون عن النقل: أما الآية فلا نسلم أن الترتيب مستفاد منها بل من دليل آخر وهو أن النبي عليه السلام صلى ورتب الركوع قبل السجود وقال "صلوا كما رأيتموني أصلي" ولو كانت الواو للترتيب لما احتاج النبي عليه السلام إلى هذا البيان. وأما قوله عليه السلام "ابدؤوا بما بدأ الله به" فهو دليل عليهم حيث سأله الصحابة عن ذلك مع أنهم من أهل اللسان ولو كانت الواو للترتيب لما احتاجوا إلى ذلك السؤال. ولقائل أن يقول: ولو كانت للجمع المطلق لما احتاجوا إلى السؤال فيتعارضان ويبقى قوله عليه السلام "ابدؤوا بما بدأ الله به" وهو دليل الترتيب. وأما قوله عليه السلام "قل ومن عصى الله ورسوله فقد غوى" إنما قصد به إفراد ذكر الله تعالى أولا مبالغة في تعظيمه لا أن الواو للترتيب ويدل عليه أن معصية الله ورسوله لا انفكاك لإحداهما عن الأخرى حتى يتصور فيهما الترتيب. وأما قول عمر فمبني على قصد التعظيم بتقديم ذكر الأعظم على قصد الترتيب. وأما قصة الصحابة مع ابن عباس فلم يكن مستند إنكارهم لأمره بتقديم العمرة على الحج كون الآية مقتضية لترتيب العمرة بعد الحج بل لأنها مقتضية للجمع المطلق وأمره بالترتيب مخالف لمقتضى الآية كيف وإن فهمهم لترتيب العمرة على الحج من الآية معارض بما فهمه ابن عباس وهو ترجمان القرآن.

وأما الحكم فهو ممنوع على أصل من يعتقد أن الواو للجمع المطلق وبه قال أحمد بن حنبل وبعض أصحاب مالك والليث بن سعد وربيعة بن أبي ليلى وقد نقل عن الشافعي ما يدل عليه في القديم وإن سلم ذلك فالوجه في تخريجه أن يقال: إذا قال لها أنت طالق ثلاثاً فالأخير تفسير للأول والكلام يعتبر بجملته بخلاف قوله: أنت طالق وطالق وطالق. وأما المعنى فهو منقوض بقوله: رأيت زيداً رأيت عمراً فإن تقديم أحد الاسمين في الذكر لا يستدعي تقديمه في نفس الأمر إجماعاً كيف وإنه يجوز أن يكون السبب في تقديمه ذكراً لزيادة حبه له واهتمامه بالإخبار عنه أو لأنه قصد الإخبار عنه لا غير ثم تجدد له قصد الإخبار عن الآخر عند إخباره عن الأول. وبالجملة فالكلام في هذه المسألة متجاذب وإن كان الأرجح هو الأول في النفس وأما الفاء وثم وحتى فإنها تقتضي الترتيب وتختلف من جهات أخر. فأما الفاء فمقتضاها إيجاب الثاني بعد الأول من غير مهلة هذا مما اتفق الأدباء على نقله عن أهل اللغة وقوله تعالى "وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا" "الأعراف 4" وإن كان مجيء البأس لا يتأخر عن الهلاك فيجب تأويله بالحكم بمجيء البأس بعد هلاكها ضرورة موافقة للنقل وقوله تعالى "لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب" "طه 61" وقوله تعالى "وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة" "البقرة 283" فإنه وإن كان الإسحات بالعذاب مما يتراخى عن الافتراء بالكذب وكذلك الرهن مما يتراخى عن المداينة غير أنه يجب تأويله بأن حكم الافتراء الإسحات وحكم المداينة الرهنية لما ذكرناه من موافقة النقل وقد ترد الفاء مورد الواو كقول الشاعر: بسقط اللوى بين الدخول فحومل وأما ثم فإنها توجب الثاني بعد الأول بمهلة وقوله تعالى "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى" "طه 82" وإن كان الاهتداء يتراخى عن التوبة والإيمان والعمل الصالح فيجب حمله على دوام الاهتداء وثباته ضرورة موافقة النقل وقيل إنها قد ترد بمعنى الواو كقوله تعالى "فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون" "يونس 46" لاستحالة كونه شاهداً بعد أن لم يكن شاهداً. وأما حتى فموجبة لكون المعطوف جزءاً من المعطوف عليه نحو قولك: مات الناس حتى الأنبياء وقدم الحاج حتى المشاة فالأول أفضله والثاني دونه وثلاثة منها تشترك في تعليق الحكم بأحد المذكورين وهي أو وإما وأم. إلا أن أو وإما يقعان في الخبر والأمر والاستفهام وأم لا تقع إلا في الاستفهام غير أن أو وإما في الخبر للشك تقول جاء زيد أو عمرو وجاء إما زيد وإما عمرو وفي الأمر للتخيير تقول: اضرب زيداً أو عمراً واضرب إما زيداً وإما عمراً وللإباحة تقول: جالس الحسن أو ابن سيرين وأو في الاستفهام مع الشك في وجود الأمرين وأم مع العلم بأحدهما والشك في تعيينه. وثلاثة منها تشترك في أن المعطوف مخالف للمعطوف عليه في حكمه وهي: لا وبل ولكن تقول: جاءني زيد لا عمر بل عمرو وما جاءني زيد لكن عمرو ومنها حروف النفي وهي: ما ولا ولم ولما ولن وإن بالتخفيف. فأما ما فلنفي الحال أو الماضي القريب من الحال كقولك ما تفعل ما فعل وأما لا فلنفي المستقبل إما خبراً كقولك لا رجل في الدار أو نهياً كقولك: لا تفعل أو دعاء كقولك لا رعاك الله وأما لم ولما فلقلب المضارع إلى الماضي تقول: لم يفعل ولما يفعل. ولن لتأكيد المستقبل كقولك: لن أبرح اليوم مكاني تأكيداً كقولك: لا أبرح اليوم مكاني وإن لنفي الحال كقوله تعالى "إن كانت إلا صيحة واحدة" "يس 29". ومنها حروف التنبيه وهي: ها وألا وأما تقول: ها أفعل كذا وألا زيد قائم وأما إنك خارج ومنها حروف النداء وهي: يا وأيا وهيا وأي والهمزة ووا والثلاثة الأول لنداء البعيد وأي والهمزة للقريب ووا للندبة. ومنها حروف التصديق والإيجاب وهي نعم وبلى وأجل وجير وإي وإن فنعم مصدقة لما سبق من قول القائل: قام زيد ما قام زيد وبلى لإيجاب ما نفي كقولك: بلى لمن قال: ما قام زيد وأجل لتصديق الخبر لا غير كقولك: أجل لمن قال: جاء زيد. وجير وإن وإي للتحقيق تقول: جير لأفعلن كذلك وإن الأمر كذا وإي والله ومنها حروف الاستثناء وهي إلا وحاشا وعدا وخلا. والحرف المصدري وهو ما في قولك: أعجبني ما صنعت أي صنعك وأن في قولك: أريد أن تفعل كذا أي فعلك. وحروف التحضيض وهي: لولا ولوما وهلا وألا فعلت كذا إذا أردت الحث على الفعل. وحرف تقريب الماضي من الحال وهو قد في قولك: قد قام زيد. وحروف الاستفهام وهي: الهمزة وهل في قولك: أزيد قام؟ وهل زيد قائم؟. وحروف الاستقبال وهي السين وسوف وأن ولا وإن في قولك: سيفعل وسوف يفعل وأريد أن تفعل ولا تفعل وإن تفعل. وحروف الشرط وهي: إن ولو في قولك: إن جئتني ولو جئتني أكرمتك. وحرف التعليل وهو كي في قولك: قصدت فلاناً كي يحسن إلي. وحرف الردع وهو كلا في قولك جواباً لمن قال لك: إن الأمر كذا. ومنها حروف اللامات وهي لام التعريف الداخلة على الاسم المنكر لتعريفه كالرجل ولام جواب القسم في قولك والله لأفعلن كذا والموطئة للقسم في قولك: والله لئن أكرمتني لأكرمنك ولام جواب لو ولولا في قولك: لو كان كذا لكان كذا ولولا كان كذا لكان كذا ولام الأمر في قولك ليفعل زيد ولام الابتداء في قولك لزيد منطلق ومنها تاء التأنيث الساكنة في قولك فعلت ومنها التنوين والنون المؤكدة في قولك: والله لأفعلن كذا وهذا آخر الكلام في النوع الأول. النوع الثاني في تحقيق مفهوم المركب من مفردات الألفاظ وهو الكلام. اعلم أن اسم الكلام قد يطلق على العبارات الدالة بالوضع تارة وعلى مدلولها القائم بالنفس تارة على ما حققناه في كتبنا الكلامية والمقصود هاهنا إنما هو معنى الكلام اللساني دون النفساني. والكلام اللساني قد يطلق تارة على ما ألف من الحروف والأصوات من غير دلالة على شيء ويسمى مهملاً وإلى ما يدل ولهذا يقال في اللغة: هذا كلام مهمل وهذا كلام غير مهمل وسواء كان إطلاق الكلام على المهمل حقيقة أو مجازاً والغرض هاهنا إنما هو بيان الكلام الذي ليس بمهمل لغة وقد اختلف فيه: فذهب أكثر الأصوليين إلى أن الكلمة الواحدة إذا كانت مركبة من حرفين فصاعداً كلام ولا جرم قالوا في حده هو ما انتظم من الحروف المسموعة المميزة المتواضع على استعمالها الصادرة عن مختار واحد وقصدوا بالقيد الأول الاحتراز عن الحرف الواحد كالزاي من زيد وبالقيد الثاني الاحتراز عن حروف الكتابة وبالقيد الثالث الاحتراز عن أصوات كثيرة من البهائم والمهملات من الألفاظ وبالقيد الرابع الاحتراز عن الاسم الواحد إذا صدرت حروفه كل حرف من شخص فإنه لا يسمى كلاماً. ومنهم من قال: إن الكلمة الواحدة لا تسمى كلاماً لكن اختلفوا فيما اجتمع من كلمات وهو غير مفيد كقول القائل: زيد لا كلما ونحوه هل هو كلام فمنهم من قال: إنه كلام لأن آحاد كلماته وضعت للدلالة ومنهم من لم يسمه كلاماً والنزاع في إطلاق اسم الكلام في هذه الصور مائل إلى الاصطلاح الخارج عن وضع اللغة باتفاق من أهل الأدب وأما مأخذه في اصطلاح أهل اللغة قال الزمخشري: وهو ناقد بصير في هذه الصناعة الكلام هو المركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى فقوله المركب من كلمتين احتراز عن الكلمة الواحدة وقوله أسندت إحداهما إلى الأخرى احتراز عن قولك زيد عمرو وعن قولك: زيد على أو زيد في أو قام في فإن المجموع منهما مركب من كلمتين وليس بكلام لعدم إسناد إحداهما إلى الأخرى وأقل ما يكون ذلك من اسمين كقولك: زيد قائم أو اسم وفعل كقولك: زيد قام وتسمى الأولى جملة اسمية والثانية جملة فعلية ولا يتركب الكلام من الاسم والحرف فقط ولا من الأفعال وحدها ولا من الحروف ولا من الأفعال والحروف. فإن قيل: ما ذكرتموه من الحد منتقض بما تركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى وهما مهملتان فإنه لا يكون كلاماً وذلك كما لو أسندت مقلوب زيد إلى مقلوب رجل فقلت زيد هو لجر. قلنا: المراد من الكلمة التي منها التأليف اللفظة الواحدة الدالة بالوضع على معنى مفرد ولا وجود لذلك فيما ذكروه غير أن ما ذكروه من الحد يدخل فيه قول القائل حيوان ناطق وإنسان عالم وغير ذلك من النسب التقييدية فإنه لا يعد كلاماً مفيداً وإن أسند فيه إحدى الكلمتين إلى الأخرى والوجب أن يقال: الكلام ما تألف من كلمتين تأليفا يحسن السكوت عليه. الأصل الثاني في مبدأ اللغات وطرق معرفتها

أول ما يجب تقديمه أن ما وضع من الألفاظ الدالة على معانيها هل هو لمناسبة طبيعية بين اللفظ ومعناه أم لا فذهب أرباب علم التكسير وبعض المعتزلة إلى ذلك مصيراً منهم إلى أنه لو لم يكن بين اللفظ ومعناه مناسبة طبيعية لما كان اختصاص ذلك المعنى بذلك اللفظ أولى من غيره ولا وجه له فإنا نعلم أن الواضع في ابتداء الوضع لو وضع لفظ الوجود على العدم والعدم على الوجود واسم كل ضد على مقابله لما كان ممتنعاً كيف وقد وضع ذلك كما في اسم الجون والقرء ونحوه والاسم الواحد لا يكون مناسباً بطبعه لشيء ولعدمه وحيث خصص الواضع بعض الألفاظ ببعض المدلولات إنما كان ذلك نظراً إلى الإرادة المخصصة كان الواضع هو الله تعالى أو المخلوق إما لغرض أو لا لغرض وإذا بطلت المناسبة الطبيعية وظهر أن مستند تخصيص بعض الألفاظ ببعض المعاني إنما هو الوضع الاختياري فقد اختلف الأصوليون فيه فذهب الأشعري وأهل الظاهر وجماعة من الفقهاء إلى أن الواضع هو الله تعالى ووضعه متلقي لنا من جهة التوقيف الإلهي إما بالوحي أو بأن يخلق الله الأصوات والحروف ويسمعها لواحد أو لجماعة ويخلق له أو لهم العلم الضروري بأنها قصدت للدلالة على المعاني محتجين على ذلك بآيات منها قوله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا" دل على أن آدم والملائكة لا يعلمون إلا بتعليم الله تعالى ومنها قوله تعالى: "ما فرطنا في الكتاب من شيء" وقوله تعالى: "تبياناً لكل شيء" وقوله تعالى: "اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم" واللغات داخلة في هذه المعلومات وقوله تعالى: "إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان" ذمهم على تسمية بعض الأشياء من غير توقيف فدل على أن ما عداها توقيف وقوله تعالى: "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم" والمراد به اللغات لا نفس اختلاف هيئات الجوارح من الألسنة لأن اختلاف اللغات أبلغ في مقصود الآية فكان أولى بالحمل عليه. وذهبت البهشمية وجماعة من المتكلمين إلى أن ذلك من وضع أرباب اللغات واصطلاحهم وأن واحدا أو جماعة انبعثت داعيته أو دواعيهم إلى وضع هذه الألفاظ بازاء معانيها ثم حصل تعريف الباقين بالإشارة والتكرار كما يفعل الوالدان بالولد الرضيع وكما يعرف الأخرس ما في ضميره بالإشارة والتكرار مرة بعد أخرى محتجين على ذلك بقوله تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه" وهذا دليل على تقدم اللغة على البعثة والتوقيف. وذهب الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائني إلى أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع بالتوقيف وإلا فلو كان بالاصطلاح فالاصطلاح عليه متوقف على ما يدعو به الإنسان غيره إلى الاصطلاح على ذلك الأمر فإن كان بالاصطلاح لزم التسلسل وهو ممتنع فلم يبق غير التوقيف وجوز حصول ما عدا ذلك بكل واحد من الطريقين. وذهب القاضي أبو بكر وغيره من أهل التحقيق إلى أن كل واحد من هذه المذاهب ممكن بحيث لو فرض وقوعه لم يلزم عنه محال لذاته وأما وقوع البعض دون البعض فليس عليه دليل قاطع والظنون فمتعارضة يمتنع معها المصير إلى التعيين. هذا ما قيل والحق أن يقال إن كان المطلوب في هذه المسألة يقين الوقوع لبعض هذه المذاهب فالحق ما قاله القاضي أبو بكر إذ لا يقين من شيء منها على ما يأتي تحقيقه. وإن كان المقصود إنما هو الظن وهو الحق فالحق ما صار إليه الأشعري لما قيل من النصوص لظهورها في المطلوب فإن قيل لا نسلم ظهور النصوص المذكورة في المطلوب. أما قوله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها" فالمراد بالتعليم إنما هو إلهامه وبعث داعيته على الوضع وسمي بذلك معلماً لكونه الهادي إليه لا بمعنى أنه أفهمه ذلك بالخطاب على ما قال تعالى في حق داود: "وعلمناه صنعة لبوس لكم"معناه ألهمناه ذلك وقوله تعالى في حق سليمان: "ففهمناها سليمان" أي ألهمناه.

سلمنا أن المراد به الإفهام بالخطاب والتوقيف ولكن أراد به كل الأسماء مطلقاً أو الأسماء التي كانت موجودة في زمانه الأول ممنوع والثاني مسلم سلمنا أنه أراد به جميع الأسماء مطلقاً غير أن ذلك يدل على أن علم آدم بها كان توقيفياً ولا يلزم أن يكون أصلها بالتوقيف لجواز أن يكون من مصطلح خلق سابق على آدم والباري تعالى علمه ما اصطلح عليه غيره. سلمنا أن جميع الأسماء المعلومة لآدم بالتوقيف له ولكنه يحتمل أنه أنسيها ولم يوقف عليها من بعده واصطلح أولاده من بعده على هذه اللغات والكلام إنما هو في هذه اللغات. وأما قول الملائكة "لا علم لنا إلا ما علمتنا" فلا يدل على أن أصل اللغات التوقيف لما عرف في حق آدم وقوله تعالى: "ما فرطنا في الكتاب من شيء" فالمراد به أن ما ورد في الكتاب لا تفريط فيه وإن كان المراد به أنه بين فيه كل شيء فلا منافاة بينه وبين كونه معرفاً للغات من تقدم. وعلى هذا يخرج الجواب عن قوله تعالى: "تبياناً لكل شيء" وعن قوله "علم الإنسان ما لم يعلم" وأما آية الذم فالذم فيها إنما كان على إطلاقهم أسماء الأصنام مع اعتقادهم كونها آلهة وأما آية اختلاف الألسنة فهي غير محمولة على نفس الجارحة بالإجماع فلا بد من التأويل وليس تأويلها بالحمل على اللغات أولى من تأويلها بالحمل على الإقدار على اللغات كيف وأن التوقيف يتوقف على معرفة كون تلك الألفاظ دالة على تلك المعاني وذلك لا يعرف إلا بأمر خارج عن تلك الألفاظ والكلام فيه إن كان توقيفياً كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع فلم يبق غير الاصطلاح. ثم ما ذكرتموه معارض بقوله تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه" وذلك يدل على سبق اللغات على البعثة والجواب: قولهم: المراد من تعليم آدم إلهامه بالوضع والاصطلاح مع نفسه وهو خلاف الظاهر من إطلاق لفظ التعليم ولهذا فإن من اخترع أمراً واصطلح عليه مع نفسه يصح أن يقال: إنه ما علمه أحد ذلك ولو كان إطلاق التعليم بمعنى الإلهام بما يفعله الإنسان مع نفسه حقيقة لما صح نفيه وحيث صح نفيه دل على كونه مجازاً والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا يلزم من التأويل فيما ذكروه من التعليم في حق داود وسليمان التأويل فيما نحن فيه إلا أن الاشتراك في دليل التأويل والأصل عدمه. وقولهم: أراد به الأسماء الموجودة في زمانه إنما يصح أن لو لم يكن جميع الأسماء موجودة في زمانه وهو غير مسلم بل الباري تعالى علمه كل ما يمكن التخاطب به ويجب الحمل عليه عملا بعموم اللفظ. قولهم: من الجائز أن يكون جميع الأسماء من مصطلح من كان قبل آدم قلنا: وإن كان ذلك محتملاً إلا أن الأصل عدمه فمن ادعاه يحتاج إلى دليل وبه يبطل أنه يحتمل أنه أنسيها إذ الأصل عدم النسيان وبقاء ما كان على ما كان وعلى هذا فقد خرج الجواب عما ذكروه من تأويل قول الملائكة "لا علم لنا إلا ما علمتنا" إذ هو مبني على ما قيل من التأويل في حق آدم وقد عرف جوابه. قولهم: المراد من قوله تعالى: "ما فرطنا في الكتاب من شيء" أنه لا تفريط فيما في الكتاب ليس كذلك فإن ذلك معلوم لكل عاقل قطعاً فحمل اللفظ عليه لا يكون مفيداً. قولهم: لا منافاة بينه وبين كونه معرفاً للغات من تقدم فقد سبق جوابه وبه يخرج الجواب عما ذكروه على قوله تعالى: "تبياناً لكل شيء" وعن قوله "علم الإنسان ما لم يعلم". قولهم في آية الذم إنما ذمهم على اعتقادهم كون الأصنام آلهة فهو خلاف الظاهر من إضافة الذم إلى التسمية ولا يقبل من غير دليل وما ذكروه على الآية الأخيرة فلا يخفى أن الترجيح بحمل اللفظ على اختلاف اللغات دون حمله على الإقدار على اللغات لكونه أقل في الإضمار إذ هو يفتقر إلى إضمار اللغات لا غير وما ذكروه يفتقر إلى إضمار القدرة على اللغات فلا يصار إليه. قولهم في المعنى إنه يفضي إلى التسلسل ليس كذلك فإنه لا مانع أن يخلق الله تعالى العبارات ويخلق لمن يسمعها العلم الضروري بأن واضعاً وضعها لتلك المعاني كما سبق ثم ما ذكروه لازم عليهم في القول بالاصطلاح فإن ما يدعى به إلى الوضع والاصطلاح لا بد وأن يكون معلوماً فإن كان معلوماً بالاصطلاح لزم التسلسل وهو ممتنع فلم يبق غير التوقيف.

وما ذكروه من المعارضة بالآية الأخيرة فإنما يلزم أن لو كان طريق التوقيف منحصراً في الرسالة وليس كذلك بل جاز أن يكون أصل التوقيف معلوما إما بالوحي من غير واسطة وإما بخلق اللغات وخلق العلم الضروري للسامعين بأن واضعاً وضعها لتلك المعاني على ما سبق. وأما طرق معرفتها لنا فاعلم أن ما كان منها معلوماً بحيث لا يتشكك فيه مع التشكيك كعلمنا بتسمية الجوهر جوهراً والعرض عرضاً ونحوه من الأسامي فنعلم أن مدرك ذلك إنما هو التواتر القاطع وما لم يكن معلوماً لنا ولا تواتر فيه فطريق تحصيل الظن به إنما هو إخبار الآحاد ولعل الأكثر إنما هو الأول. القسم الثالث في المبادئ الفقهية والأحكام الشرعية اعلم أن الحكم الشرعي يستدعي حاكماً ومحكوماً فيه ومحكوماً عليه فلنفرض في كل واحد أصلاً وهي أربعة أصول. الأصل الأول في الحاكم اعلم أنه لا حاكم سوى الله تعالى ولا حكم إلا ما حكم به ويتفرع عليه أن العقل لا يحسن ولا يقبح ولا يوجب شكر المنعم وأنه لا حكم قبل ورود الشرع ولنرسم في كل واحد مسألة: المسألة الأولى مذهب أصحابنا وأكثر العقلاء أن الأفعال لا توصف بالحسن والقبح لذواتها وأن العقل لا يحسن ولا يقبح وإنما إطلاق اسم الحسن والقبح عندهم باعتبارات ثلاثة إضافية غير حقيقية. أولها إطلاق اسم الحسن على ما وافق الغرض والقبيح على ما خالفه وليس ذلك ذاتياً لاختلافه وتبدله بالنسبة إلى اختلاف الأغراض بخلاف اتصاف المحل بالسواد والبياض وثانيها إطلاق اسم الحسن على ما أمر الشارع بالثناء على فاعله ويدخل فيه أفعال الله تعالى والواجبات والمندوبات دون المباحات وإطلاق اسم القبيح على ما أمر الشارع بذم فاعله ويدخل فيه الحرام دون المكروه والمباح وذلك أيضاً مما يختلف باختلاف ورود أمر الشارع في الأفعال. وثالثها إطلاق اسم الحسن على ما لفاعله مع العلم به والقدرة عليه أن يفعله بمعنى نفي الحرج عنه في فعله وهو أعم من الاعتبار الأول لدخول المباح فيه والقبيح في مقابلته ولا يخفى أن ذلك أيضاً مما يختلف باختلاف الأحوال فلا يكون ذاتياً وعلى هذا فما كان من أفعال الله تعالى بعد ورود الشرع فحسن بالاعتبار الثاني والثالث وقبله بالاعتبار الثالث وما كان من أفعال العقلاء قبل ورود الشرع فحسنه وقبيحه بالاعتبار الأول والثالث وبعده بالاعتبارات الثلاثة. وذهب المعتزلة والكرامية والخوارج والبراهمة وغيرهم إلى أن الأفعال منقسمة إلى حسنة وقبيحة لذواتها لكن منها ما يدرك حسنه وقبحه بضرورة العقل كحسن الإيمان وقبح الكفران أو بنظره كحسن الصدق المضر وقبح الكذب النافع أو بالسمع كحسن العبادات لكن اختلفوا: فزعمت الأوائل من المعتزلة أن الحسن والقبيح غير مختص بصفة موجبة لحسنه وقبحه ومنهم من أوجب ذلك كالجبائية ومنهم من فصل وأوجب ذلك في القبيح دون الحسن ونشأ بينهم بسبب هذا الاختلاف اختلاف في العبارات الدالة على معنى للحسن والقبيح أومأنا إليها وإلى مناقضتهم فيها في علم الكلام وقد احتج أصحابنا بحجج: الأولى أنه لو كان الكذب قبيحاً لذاته للزم منه أنه إذا قال: إن بقيت ساعة أخرى كذبت أن يكون الحسن منه في الساعة الأخرى الصدق أو الكذب: والأول ممتنع لما يلزمه من كذب الخبر الأول وهو قبيح وما لزم منه القبيح فهو قبيح فلم يبق غير الثاني وهو المطلوب. الثانية لو كان قبح الخبر الكاذب ذاتياً فإذا قال القائل: زيد في الدار ولم يكن فيها فالمقتضي لقبحه إما نفس ذلك اللفظ وإما عدم المخبر عنه وإما مجموع الأمرين وإما أمر خارج: الأول يلزمه قبح ذلك الخبر وإن كان صادقاً والثاني يلزمه أن يكون العدم علة للأمر الثبوتي والثالث يلزمه أن يكون العدم جزء علة الأمر الثبوتي والكل محال وإن كان الرابع فذلك المقتضي الخارج إما لازم للخبر المفروض وإما غير لازم فإن كان الأول فإن كان لازماً لنفس اللفظ لزم قبحه وإن كان صادقاً وإن كان لازماً لعدم المخبر عنه أو لمجموع الأمرين كان العدم مؤثراً في الأمر الثبوتي وهو محال وإن كان لازماً لأمر خارج عاد التقسيم في ذلك الخارج وهو تسلسل وإن لم يكن ذلك المقتضي الخارج لازماً للخبر الكاذب أمكن مفارقته له فلا يكون الخبر الكاذب قبيحاً. الثالثة لو كان الخبر الكاذب قبيحاً لذاته فالمقتضي له لا بد وأن يكون ثبوتياً ضرورة اقتضائه للقبح الثبوتي وهو إن كان صفة لمجموع حروف الخبر فهو محال لاستحالة اجتماعها في الوجود وإن كان صفة لبعضها لزم أن تكون أجزاء الخبر الكاذب كاذبة ضرورة كون المقتضي لقبح الخبر الكاذب إنما هو الكذب وذلك محال. الرابعة أنه لو كان قبح الكذب وصفاً حقيقياً لما اختلف باختلاف الأوضاع وقد اختلف حيث إن الخبر الكاذب قد يخرج عن كونه كذباً وقبيحاً بوضع الواضع له أمراً أو نهياً. الخامسة لو كان الكذب قبيحاً لذاته لما كان واجباً ولا حسناً عندما إذا استفيد به عصمة دم نبي عن ظالم يقصد قتله السادسة لو كان الظلم قبيحاً لكونه ظلماً لكان المعلول متقدماً على علته لأن قبح الظلم الذي هو معلول للظلم متقدم على الظلم ولهذا ليس لفاعله أن يفعله وكان القبح مع كونه وصفاً ثبوتياً ضرورة اتصاف العدم بنقيضه معللاً بما العدم جزء منه وذلك لأن مفهوم الظلم أنه إضرار غير مستحق ولا استحقاق عدم وهو ممتنع. السابعة أن أفعال العبد غير مختارة له وما يكون كذلك لا يكون حسناً ولا قبيحاً لذاته إجماعاً وبيان كونه غير مختار أن فعله إن كان لازماً له لا يسعه تركه فهو مضطر إليه لا مختار له وإن جاز تركه فإن افتقر في فعله إلى مرجح عاد التقسيم وهو تسلسل ممتنع وإلا فهو اتفاقي لا اختياري. وهذه الحجج ضعيفة: أما الأولى فلأنه أمكن أن يقال بأن صدقه في الساعة الأخرى حسن ولا يلزم من ملازمة القبيح له قبحه وإن كان قبيحاً من جهة استلزامه للقبيح فلا يمتنع الحكم عليه بالحسن والقبح بالنظر إلى ما اختص به من الوجوه والاعتبارات الموجبة للحسن والقبح كما هو مذهب الجبائية وإن قدر امتناع ذلك فلا يمتنع الحكم بقبح صدقه لما ذكروه وقبح كذبه لكونه كذباً. وأما الثانية فلأنه لا امتناع من القول بقبح الخبر مشروطاً بعدم زيد في الدار والشرط غير مؤثر وأما الثالثة فلما يلزمها من امتناع اتصاف الخبر بكونه كاذباً وهو محال وأما الرابعة فلأنه لا مانع من أن يكون قبح الخبر الكاذب مشروطاً بالوضع وعدم مطابقته للمخبر عنه مع علم المخبر به كما كان ذلك مشروطاً في كونه كذباً وأما الخامسة فلأن الكذب في الصورة المفروضة غير متعين لخلاص النبي لإمكان الإتيان بصورة الخبر من غير قصد له أو مع التعريض وقصد الإخبار عن الغير وإذا لم يكن متعيناً له كان قبيحاً وإن قدر تعيينه فالحسن والواجب ما لازمه من تخليص النبي لا نفي الكذب واللازم غير الملزوم وغايته أنه لا يأثم به مع قبحه ولا يحرم شرعاً لترجح المانع عليه. وأما السادسة فلأنه أمكن منع تقدم قبح الظلم عليه ضرورة كونه صفة له بل المتقدم إنما هو الحكم على ما سيوجد من الظلم بكونه قبيحاً شرعاً وعرفاً وأمكن منع تعليل القبح بالعدم وعدم الاستحقاق وإن كان لازماً للظلم فلا يلزم أن يكون داخلاً في مفهومه فأمكن أن يكون الظلم علة القبح بما فيه من الأمر الوجودي والعدم شرطه. وأما السابعة فلأنه يلزم أن يكون الرب تعالى مضطراً إلى أفعاله غير مختار فيها لتحقق عين ما ذكروه من القسمة في أفعاله وهو محال ويلزم أيضاً منها امتناع الحكم بالحسن والقبح الشرعي على الأفعال والجواب يكون مشتركاً.

والمعتمد في ذلك أن يقال لو كان فعل من الأفعال حسناً أو قبيحاً لذاته فالمفهوم من كونه قبيحاً وحسناً ليس هو نفس ذات الفعل وإلا كان من علم حقيقة الفعل عالماً بحسنه وقبحه وليس كذلك لجواز أن يعلم حقيقة الفعل ويتوقف العلم بحسنه وقبحه على النظر كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع وإن كان مفهومه زائداً على مفهوم الفعل الموصوف به فهو صفة وجودية لأن نقيضه وهو لا حسن ولا قبح صفة للعدم المحض فكان عدمياً ويلزم من ذلك كون الحسن والقبح وجودياً وهو قائم بالفعل لكونه صفة له ويلزم من ذلك قيام العرض بالعرض وهو محال وذلك لأن العرض الذي هو محل العرض لا بد وأن يكون قائماً بالجوهر أو بما هو في آخر الأمر قائم بالجوهر قطعاً للتسلسل الممتنع وقيام العرض بالجوهر لا معنى له غير وجوده في حيث الجوهر تبعاً له فيه وقيام أحد العرضين بالآخر لا معنى له سوى أنه في حيث العرض الذي قيل إنه قائم به وحيث ذلك العرض هو حيث الجوهر فهما في حيث الجوهر وقائمان به ولا معنى لقيام أحدهما بالآخر وإن كان قيام أحدهما بالآخر مشروطاً بقيام العرض الآخر به. فإن قيل: ما ذكرتموه يلزم منه امتناع اتصاف الفعل بكونه ممكناً ومعلوماً ومقدوراً ومذكوراً وهو محال ثم ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيض مدلوله وبيانه من جهة الاستدلال والإلزام: أما الاستدلال فمن وجهين: الأول اتفاق العقلاء على حسن الصدق النافع وقبح الكذب المضر وكذلك حسن الإيمان وقبح الكفران وغير ذلك مع قطع النظر عن كل حالة تقدر من عرف أو شريعة أو غير ذلك فكان ذاتياً والعلم به ضروري الثاني: إنا نعلم أن من استوى في تحصيل غرضه الصدق والكذب وقطع النظر في حقه عن الاعتقادات والشرائع وغير ذلك من الأحوال فإنه يميل إلى الصدق ويؤثره وليس ذلك إلا لحسنه في نفسه وكذلك نعلم أن من رأى شخصاً مشرفاً على الهلاك وهو قادر على إنقاذه فإنه يميل إليه وإن كان بحيث لا يتوقع في مقابلة ذلك حصول غرض دنياوي ولا أخروي بل ربما كان يتضرر بالتعب والتعني وليس ذلك إلا لحسنه في ذاته. وأما من جهة الإلزام فهو أنه لو كان السمع وورود الأمر والنهي هو مدرك الحسن والقبح لما فرق العاقل بين من أحسن إليه وأساء ولما كان فعل الله حسناً قبل ورود السمع ولجاز من الله الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة ولجاز إظهار المعجزة على يد الكذاب ولا امتنع الحكم بقبح الكذب على الله تعالى قبل ورود السمع ولكان الوجوب أيضاً متوقفاً على السمع ويلزم من ذلك إفحام الرسل من حيث إن النبي إذا بعث وادعى الرسالة ودعا إلى النظر في معجزته فللمدعو أن يقول: لا أنظر في معجزتك ما لم يجب علي النظر ووجوب النظر متوقف على استقرار الشرع بالنظر في معجزتك وهو دور. والجواب عن الأول: أن ما ذكروه من الصفات فأمور تقديرية فمفهوم نقائضها سلب التقدير والأمور المقدرة ليست من الصفات العرضية فلا يلزم منه قيام العرض بالعرض فإن قيل مثله في الحسن والقبح فقد خرج عن كونه من الصفات الثبوتية للذات وهو المطلوب وعن المعارضة الأولى بمنع إجماع العقلاء على الحسن والقبح فيما ذكروه فإن من العقلاء من لا يعتقد ذلك كبعض الملاحدة ونحن أيضاً لا نوافق على قبح إيلام البهائم من غير جرم ولا غرض وهو من صور النزاع وإن كان ذلك متفقاً عليه بين العقلاء فلا يلزم أن يكون العلم به ضرورياً وإلا لما خالف فيه أكثر العقلاء عادة وإن كان ذلك معلوماً ضرورة فلا يلزم من أن يكون ذاتياً إلا أن يكون مجرداً من أمر خارج وهو غير مسلم على ما يأتي وعن المعارضة الثانية أنه لا يخلو إما أن يقال بالتفاوت بين الصدق والكذب ولو بوجه أو لا يقال به والأول يلزمه إبطال الاستدلال والثاني يمنع معه إيثار أحد الأمرين دون الآخر وعلى هذا إن كان ميله إلى الإنقاذ لتحقق أمر خارج فالاستدلال باطل وإن لم يكن فالميل إلى الإنقاذ لا يكون مسلماً وإن سلم دلالة ما ذكرتموه في حق الشاهد فلا يلزم مثله في حق الغائب إلا بطريق قياسه على الشاهد وهو متعذر لما بيناه في علم الكلام ثم كيف يقاس والإجماع منعقد على التفرقة بتقبيح تمكين السيد لعبيده من الفواحش مع العلم بهم والقدرة على منعهم دون تقبيح ذلك بالنسبة إلى الله تعالى.

فإن قيل: إنما لم يقبح من الله ذلك لعدم قدرته على منع الخلق من المعاصي وذلك لأن ما يقع من العبد من المعصية لا بد وأن يكون وقوعها معلوماً للرب وإلا كان جاهلاً بعواقب الأمور وهو محال ومنع الرب تعالى من وقوع ما هو معلوم الوقوع له لا يكون مقدوراً كما ذهب إليه النظام. قلنا: فما قيل فهو بعينه لازم بالنسبة إلى السيد وأولى أن لا يكون السيد قادراً على المنع ومع ذلك فالفرق واقع والجواب: عن الإلزام الأول: أن مفهوم الحسن والقبح بمعنى موافقة الغرض ومخالفته وبمعنى ما للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله متحقق قبل ورود الشرع لا بالمعنى الذاتي وعن الثاني: أن فعل الله قبل ورود الشرع حسن بمعنى أن له فعله وعن الثالث: أنه لا معنى للطاعة عندنا إلا ما ورد الأمر به ولا معنى للمعصية إلا ما ورد النهي عنه وعلى هذا فلا يمتنع ورود الأمر بما كان منهياً والنهي بما كان مأموراً. وعن الرابع: أنه إنما يلزم أن لو لم يكن لامتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب مدرك سوى القبح الذاتي وليس كذلك وبه اندفاع الإلزام الخامس أيضاً وعن السادس: ما سيأتي في المسألة بعدها وإذا بطل معنى الحسن والقبح الذاتي لزم منه امتناع وجوب شكر المنعم عقلاً وامتناع حكم عقلي قبل ورود الشرع إذ هما مبنيان على ذلك غير أن عادة الأصوليين جارية لفرض الكلام في هاتين المسألتين إظهاراً لما يختص بكل واحد من الإشكالات والمناقضات. المسألة الثانية مذهب أصحابنا وأهل السنة أن شكر المنعم واجب سمعاً لا عقلاً خلافاً للمعتزلة في الوجوب العقلي احتج أصحابنا على امتناع إيجاب العقل لذلك بأن قالوا لو كان العقل موجباً فلا بد وأن يوجب لفائدة وإلا كان إيجابه عبثاً وهو قبيح ويمتنع عود الفائدة إلى الله تعالى لتعاليه عنها وإن عادت إلى العبد فإما أن تعود إليه في الدنيا أو في الأخرى. الأول محال فإن شكر الله تعالى عند الخصوم ليس هو معرفة الله تعالى لأن الشكر فرع المعرفة وإنما هو عبارة عن إتعاب النفس وإلزام المشقة لها بتكليفها تجنب المستقبحات العقلية وفعل المستحسنات العقلية وهو فرع التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه فلم يبق سوى التعب والعناء المحض الذي لا حظ للنفس فيه. والثاني محال لعدم استقلال العقل بمعرفة الفائدة الأخروية دون إخبار الشارع بها ولا إخبار وأيضاً فإنه لا معنى لكون الشيء واجباً سوى ترجح فعله على تركه وبالعقل يعرف الترجيح لا أنه مرجح فلا يكون موجباً إذ الموجب هو المرجح وإذا بطل الإيجاب العقلي تعين الإيجاب الشرعي ضرورة انعقاد الإجماع على حصر الوجوب في الشرع والعقل فإذا بطل أحد القسمين تعين الثاني منهما. فإن قيل: شكر المنعم معلوم لكل أحد ضرورة فما ذكرتموه استدلال على إبطال أمر ضروري فلا يقبل وإن لم يكن كذلك فلم قلتم إن إيجاب العقل للشكر لا بد وأن يكون لفائدة قولكم حتى لا يكون عبثاً قبيحاً فهذا منكم لا يستقيم مع إنكار القبح العقلي كيف وإن تلك الفائدة إما أن تكون واجبة التحصيل وإما أن لا تكون كذلك: فإن كانت واجبة التحصيل استدعت فائدة أخرى وهو تسلسل ممتنع وإن لم تكن واجبة فما يوجبه العقل بها أولى أن لا يكون واجباً وإن كان لفائدة فما المانع أن تكون الفائدة في الشكر نفس الشكر لا أمراً خارجاً عنه كما أن تحصيل المصلحة ودفع المفسدة عن النفس مطلوب لنفسه لا لغيره وإن كان لا بد من فائدة خارجة عن كون الشكر شكراً فما المانع أن تكون الفائدة الأمن من احتمال العقاب بتقدير عدم الشكر على ما أنعم الله به عليه من النعم إذ هو محتمل ولا يخلو العاقل عن خطور هذا الاحتمال بباله وذلك من أعظم الفوائد وإن سلم دلالة ما ذكرتموه على امتناع الإيجاب العقلي لكنه بعينه دال على امتناع الإيجاب الشرعي.

والجواب أن ذاك يكون مشتركاً وإن لم يكن كذلك ولكن ما ذكرتموه معارض بما يدل على جواز الإيجاب العقلي وذلك إنه لم يكن العقل موجباً لانحصرت مدارك الوجوب في الشرع لما ذكرتموه في الإجماع وذلك محال لما يلزم عنه من إفحام الرسل وإبطال مقصود البعثة وذلك أن النبي إذا ادعى الرسالة وتحدي بالمعجزة ودعا الناس إلى النظر فيها لظهور صدقه فللمدعو أن يقول: لا أنظر في معجزتك إلا أن يكون النظر واجباً علي شرعاً ووجوب النظر شرعاً متوقف على استقرار الشرع وذلك متوقف على وجوب النظر وهو دور ممتنع. والجواب: لا نسلم أن العلم الضروري بما ذكروه عقلاً إذ هو دعوى محل النزاع وإن سلم ذلك لكن بالنسبة إلى من ينتفع بالشكر ويتضرر بعدمه وأما بالنسبة إلى الله تعالى مع استحالة ذلك في حقه فلا قولهم: لم قلتم برعاية الفائدة قلنا: لما ذكرناه. قولهم: هذا منكم لا يستقيم قلنا: إنما ذكرنا ذلك بطريق الإلزام للخصم لكونه قائلاً به وبه يبطل ما ذكروه في إبطال رعاية الفائدة كيف وقد أمكن أن يقال بوجوب تحصيل الحكمة لحكمة هي نفسها كما ذكروه من جلب المصلحة ودفع المفسدة عن النفس ولا يمكن أن يقال مثل ذلك في فعل الشكر فإن نفس الفعل ليس هو الحكمة المطلوبة من إيجاده ولو أمكن ذلك لأمكن أن يقال مثله في جميع الأفعال وهو خلاف الإجماع وإذا لم تكن الفائدة المطلوبة من إيجاده بقي التقسيم بحالة. قولهم: ما المانع أن تكون الفائدة هي الأمن على ما ذكروه فهو مبني على امتناع خلو العاقل عن خطور ما ذكروه من الاحتمال بباله وهو غير مسلم على ما هو معلوم من أكثر العقلاء شاهداً وبتقدير صحة ذلك فما ذكروه معارض باحتمال خطور العقاب بباله على شكر الله تعالى وإتعابه لنفسه وتصرفه فيها مع أنها مملوكة لله تعالى دون إذنه من غير منفعة ترجع إليه ولا إلى الله تعالى وليس أحدهما أولى من الآخر بل ربما كان هذا الاحتمال راجحاً وذلك من جهة أنه قد تقرر في العقول أن من أخذ في التقرب والخدمة إلى بعض الملوك العظماء بتحريك أنملته في كسر بيته وإظهار شكره بين العباد في البلاد على إعطائه لقمة من الخبز مع استغنائه واستغناء الملك عنها فإنه يعد مستهزئاً بذلك الملك مستحقاً للعقاب على صنعه. ولا يخفى أن شكر الشاكرين بالنسبة إلى جلال الله تعالى دون تحريك الأنملة بالنسبة إلى جلال الملك وأن ما أنعم الله به على العبيد لعدم تناهي ملكه وتناهي ملك غيره دون تلك اللقمة فكان المتعاطي لخدمة الله وشكره على ما أنعم به عليه به أولى بالذم واستحقاق العقاب ولولا ورود الشرع بطلب ذلك من العبيد وحثهم عليه لما وقع الإقدام عليه. وما يقال من حال المشتغل بالشكر والخدمة أرجى حالاً من المعرض عن ذلك عرفاً فكان أولى فهو مسلم في حق من ينتفع بالخدمة والشكر ويتضرر بعدمهما والباري تعالى منزه عن ذلك فلا يطرد ما ذكروه في حقه. قولهم: ما ذكرتموه لازم عليكم في الإيجاب الشرعي ليس كذلك فإن الفائدة الأخروية وإن لم يستقل العاقل بمعرفتها فالله تعالى عالم بها كيف وإن ذلك إنما يلزم منا أن لو اعتبرنا الحكمة في الإيجاب الشرعي وليس ذلك على ما عرف من أصلنا. وأما المعارضة بما ذكروه من إفحام الرسل فجوابه من وجهين: الأول منع توقف استقرار الشرع على نظر المدعو في المعجزة بل مهما ظهرت المعجزة في نفسها وكان صدق النبي فيما ادعاه ممكناً وكان المدعو عاقلاً متمكناً من النظر والمعرفة فقد استقر الشرع وثبت والمدعو مفرط في حق نفسه الثاني إن الدور لازم على القائل بالإيجاب العقلي لأن العقل بجوهره غير موجب دون النظر والاستدلال وإلا لما خلا عاقل عن ذلك وعند ذلك فللمدعو أن يقول لا أنظر في معجزتك حتى أعرف وجوب النظر ولا أعرف وجوب النظر حتى أنظر وهو دور مفحم والجواب إذ ذاك يكون واحداً وعلى كل تقدير فالمسألة ظنية لا قطعية. المسألة الثالثة مذهب الأشاعرة وأهل الحق أنه لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود الشرع وأما المعتزلة فإنهم قسموا الأفعال الخارجة عن الأفعال الاضطرارية إلى ما حسنه العقل وإلى ما قبحه وإلى ما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح فما حسنه العقل إن استوى فعله وتركه في النفع والضرر سموه مباحاً وإن ترجح فعله على تركه فإن لحق الذم بتركه سموه واجباً وسواء كان مقصوداً لنفسه كالإيمان أو لغيره كالنظر المفضي إلى معرفة الله تعالى وإن لم يلحق الذم بتركه سموه مندوباً وما قبحه العقل فإن التحق الذم بفعله سموه حراماً وإلا فمكروه وما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح فقد اختلفوا فيه فمنهم من حظره ومنهم من أباحه ومنهم من وقف عن الأمرين. احتجت الأشاعرة بالمنقول والمعقول: أما المنقول فقول الله تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" "الإسراء 15" ووجه الدلالة منه أنه أمن من العذاب قبل بعثه الرسل وذلك يستلزم انتفاء الوجوب والحرمة قبل البعثة وإلا لما أمن من العذاب بتقدير ترك الواجب وفعل المحرم إذ هو لازم لهما وأيضاً قوله تعالى "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" "النساء 165" ومفهومه يدل على الاحتجاج قبل البعثة ويلزم من ذلك نفي الموجب والمحرم. وأما من جهة المعقول فلأن ثبوت الحكم إما بالشرع أو بالعقل بالإجماع ولا شرع قبل ورود الشرع والعقل غير موجب ولا محرم لما سبق في المسألة المتقدمة فلا حكم. فإن قيل: أما الآية الأولى فلا حجة فيها فإنه ليس العذاب من لوازم ترك الواجب وفعل المحرم ولهذا يجوز انفكاكه عنهما بناء على عفو أو شفاعة فنفيه قبل ورود الشرع لا يلزم منه نفيهما سلمنا أنه لازم لهما لكن بعد ورود الشرع لا قبله وعلى هذا فلا يلزم نفيهما من نفيه قبل ورود الشرع سلمنا أنه لازم لهما لكنه لازم للواجب والمحرم شرعاً أو عقلاً: الأول مسلم والثاني ممنوع وعلى هذا فاللازم من نفيه قبل الشرع نفي الواجب والمحرم شرعاً لا عقلاً سلمنا ذلك ولكن ليس في الآية ما يدل على نفي الإباحة والوقف لعدم ملازمة العذاب لشيء من ذلك إجماعاً. وأما الآية الأخرى "وإن سلمنا كون المفهوم حجة" فالاعتراض على الآية الأولى بعينه وارد هاهنا وأما ما ذكرتموه من المعقول فقد سبق ما فيه كيف وأن ما ذكرتموه من الدلالة على نفي الحكم حكم بنفي الحكم فكان متناقضاً. والجواب عن السؤال الأول أن وقوع العذاب بالفعل وإن لم يكن لازماً من ترك الواجب وفعل المحرم فلازمه عدم الأمن من ذلك لعدم تحقق الواجب والمحرم دونه وهذا اللازم منتف قبل ورود الشرع على ما دلت عليه الآية فلا ملزوم وبه يندفع ما ذكروه من السؤال الثاني والثالث. والتمسك بالآية إنما هو في نفي الوجوب والحرمة قبل لا غير ونفي ما سوى ذلك فإنما يستفاد من دليل آخر على ما سنبينه وبه اندفع السؤال الرابع. وما ذكروه على الدليل العقلي فقد سبق أيضاً جوابه ونفي الحكم وإن كان حكماً غير أن المنفي ليس هو الحكم مطلقاً ليلزم التناقض بل نفي ما أثبتوه من الأحكام المذكورة فلا تناقض وأما القائلون بالإباحة إن فسروها بنفي الحرج عن الفعل والترك فلا نزاع في هذا المعنى وإنما النزاع في صحة إطلاق لفظ الإباحة بازائه ولهذا فإنه يمتنع إطلاق لفظ الإباحة على أفعال الله تعالى مع تحقق ذلك المعنى فيها وإن فسروها بتخيير الفاعل بين الفعل والترك فإما أن يكون ذلك التخيير للفاعل من نفسه وإما من غيره فإن كان الأول فيلزم منه تسمية أفعال الله مباحة لتحقق ذلك في حقه وهو ممتنع بالإجماع وإن كان الثاني فالمخير إما الشرع وإما العقل بالإجماع ولا شرع قبل ورود الشرع وتخيير العقل عندهم إنما يكون فيما استوى فعله وتركه من الأفعال الحسنة عقلاً أو فيما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح وهو فرع الحسن والقبح العقلي وقد أبطلناه وإن فسروه بأمر آخر فلا بد من تصويره. فإن قيل: المباح هو المأذون في فعله وقد ورد دليل الإذن من الله تعالى قبل ورود الشرع وإن لم ترد صورة الإذن وبيانه من وجهين: الأول هو أن الله تعالى خلق الطعوم من المأكولات والذوق فينا وأقدرنا عليها وعرفنا بالأدلة العقلية أنها نافعة لنا غير مضرة ولا ضرر عليه في الانتفاع بها وهو دليل الإذن منه لنا في ذلك وصار هذا كما لو قدم إنسان طعاماً بين يدي إنسان على هذه الصفات فإن العقلاء يقضون بكونه قد أذن له فيه. الثاني أن خلقه للطعوم في الأجسام مع إمكان ألا يخلقها لا بد له من فائدة نفياً للعبث عنه وليست تلك الفائدة عائدة إلى الله تعالى لتعاليه عنها فلا بد من عودها إلى العبد وليست هي الإضرار ولا ما هو خارج عن الإضرار والانتفاع إذ هو خلاف الإجماع فكانت فائدتها الانتفاع بها وهو دليل الإذن في إدراكها وسواء كان الانتفاع بها بجهة الالتذاذ بها وتقوم البنية أو بجهة تجنبها لنيل الثواب أو الاستدلال بها على معرفة الله تعالى لتوقف ذلك كله على إدراكها واحتمال وجود مفسدة فيه مع عدم الاطلاع عليها لا يكون مانعاً من الإذن والحكم بالإباحة بدليل الاستضاءة بسراج الغير والاستظلال بحائطه. قلنا: أما الوجه الأول فحاصله يرجع إلى قياس الغائب على الشاهد وقد أبطلناه وأما الثاني فمبني على وجوب رعاية الحكمة في أفعاله تعالى وهو ممنوع على ما عرف من أصلنا ثم إذا كان مأذوناً فيه من جهة الشارع فإباحته شرعية لا عقلية. وأما القائلون بالوقف إن عنوا به توقف الحكم بهذه الأشياء على ورود السمع فحق وإن عنوا به الإحجام عن الحكم بالوجوب أو الحظر أو الإباحة لتعارض أدلتها ففاسد لما سبق. الأصل الثاني في حقيقة الحكم الشرعي وأقسامه وما يتعلق به من المسائل. ويشتمل على مقدمة وستة فصول أما المقدمة ففي بيان حقيقة الحكم الشرعي وأقسامه أما حقيقته فقد قال بعض الأصوليين: إنه عبارة عن خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين وقيل إنه عبارة عن خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد وهما فاسدان لأن قوله تعالى: "والله خلقكم وما تعملون" "الصافات 96" وقوله تعالى: "خالق كل شيء" "الأنعام 62" خطاب من الشارع وله تعلق بأفعال المكلفين والعباد وليس حكماً شرعياً بالاتفاق وقال آخرون: إنه عبارة عن خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير وهو غير جامع: فإن العلم بكون أنواع الأدلة حججاً وكذلك الحكم بالملك والعصمة ونحوه أحكام شرعية وليست على ما قيل. والواجب أن نعرف معنى الخطاب أولاً ضرورة توقف معرفة الحكم الشرعي عليه فنقول: قد قيل فيه: هو الكلام الذي يفهم المستمع منه شيئاً وهو غير مانع فإنه يدخل فيه الكلام الذي لم يقصد التكلم به إفهام المستمع فإنه على ما ذكر من الحد وليس خطاباً والحق إنه اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه. فاللفظ احتراز عما وقعت المواضعة عليه من الحركات والإشارات المفهمة والمتواضع عليه احتراز عن الألفاظ المهملة والمقصود بها الإفهام احتراز عما ورد على الحد الأول وقولنا لمن هو متهيئ لفهمه احتراز عن الكلام لمن لا يفهم كالنائم والمغمى عليه ونحوه. وإذا عرف معنى الخطاب فالأقرب أن يقال في حد الحكم الشرعي أنه خطاب الشارع المفيد فائدة شرعية. فقولنا خطاب الشارع احتراز عن خطاب غيره والقيد الثاني احتراز عن خطابه بما لا يفيد فائدة شرعية كالإخبار عن المعقولات والمحسوسات ونحوها وهو مطرد منعكس لا غبار عليه. وإذا عرف معنى الحكم الشرعي فهو إما أن يكون متعلقاً بخطاب الطلب والاقتضاء أو لا يكون: فإن كان الأول فالطلب إما للفعل أو للترك وكل واحد منهما إما جازم أو غير جازم فما تعلق بالطلب الجازم للفعل فهو الوجوب وما تعلق بغير الجازم منه فهو الندب وما تعلق بالطلب الجازم للترك فهو الحرمة وما تعلق بغير الجازم منه فهو الكراهة وإن لم يكن متعلقاً بخطاب الاقتضاء فإما أن يكون متعلقاً بخطاب التخيير أو غيره فإن كان الأول فهو الإباحة وإن كان الثاني فهو الحكم الوضعي كالصحة والبطلان ونصب الشيء سبباً أو مانعاً أو شرطاً وكون الفعل عبادة وقضاء وأداء وعزيمة ورخصة إلى غير ذلك فلنرسم في كل قسم منها فصلاً وهي ستة فصول: الفصل الأول في حقيقة الوجوب وما يتعلق به من المسائل أما حقيقة الوجوب فاعلم أن الوجوب في اللغة قد يطلق بمعنى السقوط ومنه يقال: وجبت الشمس إذا سقطت ووجب الحائط إذا سقط وقد يطلق بمعنى الثبوت والاستقرار ومنه قوله عليه السلام "إذا وجب المريض فلا تبكين باكية" أي استقر وزال عنه التزلزل والاضطراب. وأما في العرف الشرعي فقد قيل: هو ما يستحق تاركه العقاب على تركه وهو إن أريد بالاستحقاق ما يستدعي مستحقاً عليه فباطل لعدم تحقق ذلك بالنسبة إلى الله تعالى على ما بيناه في علم الكلام وبالنسبة إلى أحد من المخلوقين بالإجماع وإن أريد به أنه لو عوقب لكان ذلك ملائماً لنظر الشارع فلا بأس به. وقيل: هو ما توعد بالعقاب على تركه وهو باطل لأن التوعد بالعقاب على الترك خبر ولو ورد لتحقق العقاب بتقدير الترك لاستحالة الخلف في خبر الصادق وإن كان ذلك في حق غيره يعد كرماً وفضيلة لما يلزمه من المصلحة الراجحة وليس كذلك لجواز العفو عنه. وقيل: هو الذي يخاف العقاب على تركه ويبطل بالمشكوك في وجوبه كيف وإن هذه الحدود ليست حداً للحكم الشرعي وهو الوجوب بل للفعل الذي هو متعلق الوجوب. والحق في ذلك أن يقال: الوجوب الشرعي عبارة عن خطاب الشارع بما ينتهض تركه سبباً للذم شرعاً في حالة ما فالقيد الأول احتراز عن خطاب غير الشارع والثاني احتراز عن بقية الأحكام والثالث احتراز عن ترك الواجب الموسع أول الوقت فإنه سبب للذم بتقدير إخلاء جميع الوقت عنه وإخلاء أول الوقت من غير عزم على الفعل بعده وعن ترك الواجب المخير فإنه سبب للذم بتقدير ترك البدل وليس سبباً له بتقدير فعل البدل وعلى هذا إن قلنا إن الأذان وصلاة العيد فرض كفاية واتفق أهل بلدة على تركه قوتلوا وإن قلنا إنه سنة فلا. وبالجملة فلا بد في الوجوب من ترجيح الفعل على الترك بما يتعلق به من الذم أو الثواب الخاص به فإنه لا تحقق للوجوب مع تساوي طرفي الفعل والترك في الغرض وربما أشار القاضي أبو بكر إلى خلافه وإذا عرف معنى الوجوب الشرعي فلا بد من الإشارة إلى ما يتعلق به من المسائل وهي سبع. المسألة الأولى هل الفرض غير الواجب أو هو هو أما في اللغة فالواجب هو الساقط والثابت كما سبق تعريفه وأما الفرض فقد يطلق في اللغة بمعنى التقدير ومنه قولهم: فرضتا القوس للحزتين اللتين في سيتيه موضع الوتر وفرضة النهر وهو موضع اجتماع السفن ومنه قولهم: فرض الحاكم النفقة أي قدرها وقد يطلق بمعنى الإنزال ومنه قوله تعالى "إن الذي فرض عليك القرآن" "القصص 85" أي أنزل وقد يطلق بمعنى الحل ومنه قوله تعالى: "ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له" "الأحزاب 38" أي أحل له. وأما في الشرع فلا فرق بين الفرض والواجب عند أصحابنا إذ الواجب في الشرع على ما ذكرناه عبارة عن خطاب الشارع بما ينتهض تركه سبباً للذم شرعاً في حالة ما وهذا المعنى بعينه متحقق في الفرض الشرعي وخص أصحاب أبي حنيفة اسم الفرض بما كان من ذلك مقطوعاً به واسم الواجب بما كان مظنوناً مصيراً منهم إلى أن الفرض هو التقدير والمظنون لم يعلم كونه مقدراً علينا بخلاف المقطوع فلذلك خص المقطوع باسم الفرض دون المظنون والأشبه ما ذكره أصحابنا من حيث إن الاختلاف في طريق إثبات الحكم حتى يكون هذا معلوماً وهذا مظنوناً غير موجب لاختلاف ما ثبت به.

ولهذا فإن اختلاف طرق الواجبات في الظهور والخفاء والقوة والضعف بحيث إن المكلف يقتل بترك البعض منها دون البعض لا يوجب اختلاف الواجب في حقيقته من حيث هو واجب وكذا اختلاف طرق النوافل غير موجب لاختلاف حقائقها وكذلك اختلاف طرق الحرام بالقطع والظن غير موجب لاختلافه في نفسه من حيث هو حرام كيف وإن الشارع قد أطلق اسم الفرض على الواجب في قوله تعالى "فمن فرض فيهن الحج" "البقرة 197" أي أوجب والأصل أن يكون مشعراً به حقيقة وأن لا يكون له مدلول سواه نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ والذي يؤيد إخراج قيد القطع عن مفهوم الفرض إجماع الأمة على إطلاق اسم الفرض على ما أدى من الصلوات المختلف في صحتها بين الأئمة بقولهم: أد فرض الله تعالى والأصل في الإطلاق الحقيقة وما ذكره الخصوم في تخصيص اسم الفرض المقطوع به فمن باب التحكم حيث إن الفرض في اللغة هو التقدير مطلقاً كان مقطوعاً به أو مظنوناً فتخصيص ذلك بأحد القسمين دون الآخر بغير دليل لا يكون مقبولاً وبالجملة فالمسألة لفظية. المسألة الثانية لا فرق عند أصحابنا بين واجب العين والواجب على الكفاية من جهة الوجوب لشمول حد الواجب لهما خلافاً لبعض الناس مصيراً منه إلى أن واجب العين لا يسقط بفعل الغير بخلاف واجب الكفاية وغايته الاختلاف في طريق الإسقاط وذلك لا يوجب الاختلاف في الحقيقة كالاختلاف في طريق الثبوت كما سبق ولهذا فإن من ارتد وقتل فقتله بالردة وبالقتل واجب ومع ذلك فأحد الواجبين يسقط بالتوبة دون الواجب الآخر ولم يلزم من ذلك اختلافهما. المسألة الثالثة اختلفوا في الواجب المخير كما في خصال الكفارة: فمذهب الأشاعرة والفقهاء أن الواجب منها واحد لا بعينه ويتعين بفعل المكلف وأطلق الجبائي وابنه القول بوجوب الجميع على التخيير. حجة أصحابنا أنه لا يخلو إما أن يقال بوجوب الجميع أو بوجوب واحد والواحد إما معين وإما غير معين لا جائز أن يقال بالأول لخمسة أوجه: الأول أنه لو كان التخيير موجباً للجميع لكان الأمر بإيجاب عتق عبد من العبيد على طريق التخيير موجباً للجميع وهو محال. الثاني أن ذلك مما يمنع من التخيير ولهذا فإنه لا يحسن أن يقول القائل لغيره أوجبت عليك صلاتين فصل أيهما شئت واترك أيهما شئت كما لا يحسن أن يقول: أوجبت عليك الصلاة وخيرتك في فعلها وتركها لما فيه من رفع الواجب وليس ذلك من لغة العرب في شيء. الثالث أن الواجب ما لا يجوز تركه مع القدرة عليه والأمر فيما نحن فيه بخلافه. الرابع أن الخصوم قد وافقوا على أنه لو أتى بالجميع أو ترك الجميع فإنه لا يثاب ولا يعاقب على الجميع. الخامس أنه لو كان الجميع واجباً لنوي نية أداء الواجب في كل واحدة من الخصال عندما إذا فعل الجميع وهو خلاف الإجماع ولا جائز أن يقال بأن الواجب واحد معين إذ هو خلاف مقتضى التخيير ولأنه كان يلزم أن لا يحصل الإجزاء بتقدير أداء غيره مع القدرة عليه وهو خلاف الإجماع فلم يبق غير الإبهام. غير أن أبا الحسين البصري قد تكلف رد الخلاف في هذه المسألة إلى اللفظ دون المعنى وذلك أنه قال: معنى إيجاب الجميع أن الله تعالى حرم ترك الجميع لا كل واحد واحد منها بتقدير فعل المكلف لواحد منها مع تفويض فعل أي واحد منها كان إلى المكلف وهذا هو بعينه مذهب الفقهاء غير أن ما ذكره في تفسير وجوب الجميع وإن كان رافعاً للخلاف غير أنه خلاف ما نقله الأئمة عن الجبائي وابنه من إطلاق القول بوجوب الجميع والدلائل المشعرة بذلك فلننسج في الحجاج على منوالهم.

فإن قيل: ما ذكرتموه من الدليل إنما يلزم أن لو كانت آية التكفير وهي قوله تعالى: "فكفارته إطعام عشرة مساكين" "المائدة 89" الآية دالة على تخيير كل واحد واحد من الأمة بين خصال الكفارة بجهة الإيجاب وما المانع أن يكون ذلك إخباراً عما يوجد من الكفارة وتقديره فما يوجد من الكفارة هو إطعام من حانث أو كسوة من حانث آخر أو عتق من حانث آخر سلمنا دلالتها على الإيجاب لكن لا أنها خطاب بالتخيير لكل واحد واحد من الأمة بل المراد بها إيجاب الإطعام على البعض والكسوة على البعض والعتق على البعض فكأنه قال: فكفارته إطعام عشرة مساكين لبعضهم أو الكسوة لبعض آخر أو العتق لبعض آخر سلمنا دلالة ما ذكرتموه لكنه معارض بما يدل على إبطال مدلوله وبيانه من أحد عشر وجهاً. الأول أن الخصال المذكورة إما أن تكون مستوية فيما يرجع إلى الصفات المقتضية للوجوب أو أنها مختصة بالبعض دون البعض فإن كان الأول فيلزم التسوية في الوجوب بين الكل وإن كان الثاني كان ذلك البعض هو الواجب بعينه دون غيره. الثاني أن الواجب ما تعلق به خطاب الشرع بالإيجاب وخطاب الشرع إنما يتعلق بالمعين دون المبهم ولهذا فإنه يمتنع تعلق الإيجاب بأحد شخصين لا بعينه فكذلك بفعل أحد أمرين لا يعينه وعند ذلك فيلزم تعلقه بالكل أو ببعض منه معين. الثالث أن الإيجاب طلب والطلب يستدعي مطلوباً معيناً لما تحقق قبل والمعين إما الكل أو البعض. الرابع أنه لو فعل العبد الجميع فإنه يثاب ثواب من فعل واجباً فسببه يجب أن يكون مقدوراً للمكلف معيناً لاستحالة الثواب على ما لا يكون من فعل العبد واستحالة إسناد المعين إلى غير معين والمبهم ليس كذلك فلزم أن يكون الثواب على الجملة أو بعض معين منها. الخامس أنه لو ترك الجميع فإنه يعاقب عقاب من ترك واجباً منها وذلك يدل على أن الجميع واجب أو بعض منه معين كما سبق. السادس أنه كان الواجب واحداً لا بعينه من الخصال لكان منها شيء لا بعينه غير واجب والتخيير بين الواجب وما ليس بواجب محال لما فيه من رفع حقيقة الواجب. السابع أنه لو كان الواجب واحداً لا بعينه فعند التكفير بالجميع إما أن يسقط الفرض بمجموعها أو بكل واحد منها أو بواحد منها فإن كان الأول أو الثاني فالكل واجب وإن كان الثالث فذلك هو الفرض. الثامن ويخص إيجاب الجميع أنه لو كان الواجب واحداً لنصب الله عليه دليلاً ولم يكله إلى تعيين العبد لعدم معرفته بما فيه المصلحة كما في سائر الواجبات فحيث لم يعين دل على أن الكل واجب. التاسع أنه إذا كان الواجب واحداً لا بعينه ويتعين بفعل المكلف فالباري تعالى يعلم ما سيعينه العبد فيكون الواجب معيناً عند الله تعالى وإن لم يكن معيناً عند العبد قبل الفعل ويلزم من ذلك التخيير بين الواجب المعين وبين ما ليس واجباً وهو محال فثبت أن الجميع واجب. العاشر أنه لو كان الواجب واحداً لا بعينه فكفر ثلاثة كل واحد بواحد من الخصال غير ما كفر به الآخر لكان الواحد منهم لا بعينه هو المكفر بالواجب دون الباقين وحيث وقع ما فعله كل واحد موقع الواجب كان الجميع واجباً. الحادي عشر أن الوجوب قد يعم عدداً من المتعبدين ويسقط بفعل الواحد منهم كفرض الكفاية فلا يمتنع أن يعم الوجوب عدداً من العبادات ويسقط بفعل واحدة منها والجواب عن السؤال الأول: أن الإجماع من الأمة منعقد على أن المراد من الآية الوجوب لا نفس الإخبار. وعن الثاني أن حمل الآية على ما ذكروه مع مخالفته لإجماع السلف مما يحوج إلى إضمارات كثيرة في الآية وهي ما قدروه من البعض في قولهم فكفارته إطعام عشرة مساكين لبعضهم وكذلك في الكسوة والعتق وهو على خلاف الأصل من غير حاجة كيف وإنه لو كان كما ذكروه لقال فكفارته إطعام عشرة مساكين وكسوتهم وتحرير رقبة لوجوب الخصال الثلاث على الجميع بالنسبة إلى الحانثين المذكورين.

وعن المعارض الأول أنه مبني على وجوب رعاية المصلحة في أحكام الله تعالى وهو غير مسلم كيف وإنه يلزم منه أن يكون الأمر على ما ذكروه في عقد الإمامة لأحد الإمامين الصالحين وتزويج المرأة الطالبة للنكاح من أحد الكفؤين الخاطبين وفي إيجاب عتق عبد من العبيد وهو مخالف للإجماع وحيث تعذر الوجوب على أحد شخصين لا بعينه إنما كان لتوقف تحقق الوجوب على ارتباطه بالذم والعقاب على ما سبق في تحديده وذم أحد شخصين لا بعينه متعذر بخلاف الذم على أحد فعلين لا بعينه وبهذه الصور يكون اندفاع ما ذكروه من المعارض الثاني وما بعده إلى آخر التاسع. وعن العاشر أن الواجب على كل واحد من المكفرين خصلة من الخصال الثلاث لا بعينها وقد أتي بما وجب عليه وسقط به الفرض عنه فكان ما أتى به كل واحد واجباً لا أن الواجب على الكل خصلة واحدة لا بعينها ليلزم ما قيل. وعن الحادي عشر أنا لا نمنع سقوط الواجب دون أدائه ولكن لا يلزم من ذلك أن تكون خصال الكفارة كلها واجبة كما كان الوجوب ثابتاً على أعداد المكلفين في فرض الكفاية لأن الإجماع منعقد على تأثيم الكل بتقدير اتفاقهم على الترك ولا كذلك في خصال الكفارة وعلى هذه القاعدة لو قال لزوجتيه إحداكما طالق فالمطلقة منهما واحدة لا بعينها وإن وجب الكف عنهما والتخيير في التعيين إلى المطلق كما لو قيل في خصال الكفارة من غير فرق ولا يخفى وجه الحجاج من الطرفين. المسألة الرابعة إذا كان وقت الواجب فاضلاً عنه كصلاة الظهر مثلاً فمذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء وجماعة من المعتزلة كالجبائي وابنه وغيرهما أنه واجب موسع وأن جميع أجزاء ذلك الوقت وقت لأداء ذلك الواجب فيه فيما يرجع إلى سقوط الفرض به وحصول مصلحة الوجوب وهل للواجب في أول الوقت ووسطه بتقدير تأخير الواجب عنه إلى ما بعده بدل اختلف هؤلاء فيه فأثبته أصحابنا والجبائي وابنه وهو العزم على الفعل وأنكره بعض المعتزلة كأبي الحسين البصري وغيره وقال قوم: وقت الوجوب هو أول الوقت وفعل الواجب بعد ذلك يكون قضاء وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: وقت الوجوب هو آخر الوقت لكن اختلفوا في وقوع الفعل قبل ذلك: فمنهم من قال: هو نفل يسقط به الفرض ومنهم من قال كالكرخي: إن المكلف إذا بقي بنعت المكلفين إلى آخر الوقت كان ما فعله واجباً وإلا فنفل وحكي عنه أن الواجب يتعين بالفعل في أي وقت كان. حجة القائلين بالوجوب الموسع أن الأمر بصلاة الظهر وهو قوله تعالى "أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل" "الإسراء 78" عام لجميع أجزاء الوقت المذكور وليس المراد به تطبيق أول فعل الصلاة على أول الوقت وآخره على آخره ولا إقامة الصلاة في كل وقت من أوقاته حتى لا يخلو جزء منه عن صلاة إذ هو خلاف الإجماع ولا تعيين جزء منه لاختصاصه بوقوع الواجب فيه إذ لا دلالة للفظ عليه فلم يبق إلا أنه أراد به أن كل جزء منه صالح لوقوع الواجب فيه ويكون المكلف مخيراً في إيقاع الفعل في أي جزء شاء منه ضرورة امتناع قسم آخر وهو المطلوب ويدل على إرادة هذا الاحتمال حصول الإجزاء عن الواجب بأداء الصلاة في أي وقت قدر منه فإنه يدل على حصول مقصود الواجب من الكل وأن الفعل في كل وقت قائم مقامه في غيره من الأوقات فيكون واجباً وإلا فلو لم يكن محصلاً لمقصود الواجب فيلزم منه إما فوات مصلحة الواجب بتقدير فعل الصلاة في غير وقت الوجوب فتكون الصلاة حراماً لكونها مفوتة لمصلحة الواجب وهو محال وإما بقاء مصلحة الوجوب ويلزم منه وجوب فعل الصلاة لبقاء مقصودها الموجب لها بعد فعل الصلاة في الوقت المفروض وهو خلاف الإجماع.

فإن قيل ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيض مطلوبكم وذلك أنه لو كان الفعل واجباً في أول الوقت أو وسطه لما جاز تركه مع القدرة عليه إذ هو حقيقة الواجب وإنما يتحقق ذلك بالنسبة إلى آخر الوقت لانعقاد الإجماع على لحوق الإثم بتركه فيه بتقدير عدم فعله قبله وأما قبل ذلك فالفعل فيه ندب لكونه مثاباً مع جواز تركه ويسقط الفرض به في آخر الوقت ولا يمتنع سقوط الفرض عن المكلف بفعل ما ليس بفرض كالزكاة المعجلة قبل الحول سلمنا أنه ليس بنفل ولكن ما المانع من القول بتعيين وقت الوجوب بالفعل أو تعيين الوقت الأول للوجوب وما بعده قضاء أو الحكم بكونه واجباً بتقدير بقائه بصفة المكلفين إلى آخر الوقت كما قيل من المذاهب السابقة. والجواب عن جواز ترك الفعل في أول الوقت أنه لا يدل على عدم الوجوب مطلقاً بل على عدم الوجوب المضيق وأما الموسع فلا والفرق بين المندوب والواجب الموسع جواز ترك المندوب مطلقاً والموسع بشرط الفعل بعده في الوقت الموسع وحاصله راجع إلى أن الواجب على المكلف إيقاع الفعل في أي وقت شاء من أجزاء ذلك الوقت الموسع على طريق الإبهام والتعيين إلى المكلف كما سبق في خصال الكفارة أو بشرط العزم على الفعل بعده ثم لو كان نفلاً لما سقط به الفرض لما سبق والزكاة المعجلة واجبة مؤجلة بعد انعقاد سببها وهو ملك النصاب لا أنها نافلة ولكان ينبغي أن تصح الصلاة بنية النفل وليس كذلك فإن قيل: لو كان العزم بدلاً عن الفعل في أول الوقت لما وجب الفعل بعده ولما جاز المصير إليه مع القدرة على المبدل كسائر الأبدال مع مبدلاتها ولكان من أخر الصلاة عن أول الوقت مع الغفلة عن العزم يكون عاصياً لكونه تاركاً للأصل وبدله كيف وإن الأمر الوارد بإيجاب الصلاة في هذا الوقت ليس فيه تعرض للعزم فإيجابه يكون زيادة على مقتضى الأمر ثم جعل العزم بدلاً من صفة الفعل أو عن أصل الفعل مع أنه من أفعال القلوب بعيد إذ لا عهد لنا في الشرع بجعل أفعال القلوب أبدالاً عن الأفعال ولا يجعل صفة الفعل مبدلاً. قلنا: لم يكن بدلاً عن أصل الفعل بل عن تقديم الفعل فلا يكون موجباً لسقوط الفعل مطلقاً ومعنى كونه بدلاً أنه مخير بينه وبين تقديم الفعل والمصير إلى أحد المخيرين غير مشروط بالعجز عن الآخر لا أنه من باب الوضوء من التيمم وإنما لم يعص مع تركه غافلاً لعدم تكليف الغافل والأمر وإن لم يكن متعرضاً للعزم فلا يلزم منه امتناع جعله بدلاً فإنه لا يلزم من انتفاء بعض المدارك انتفاء الكل. وأما استبعاد كون العزم بدلاً عن صفة الفعل على ما ذكروه فغير مستحق للجواب ثم كيف يستبعد ذلك والفدية في حق الحامل عند خوفها على جنينها وكذلك المرضع على ولدها بدل عن تقديم الصوم في حقها وهو صفة الفعل وكذلك الندم توبة وهو من أعمال القلوب وقد جعل بدلاً عما فرط من أفعال الطاعات الواجبة حالة الكفر الأصلي. والجواب عن القول بتعيين وقت الوجوب بالفعل أنه إن أريد به أنا نتبين سقوط الغرض بالفعل في ذلك الوقت فهو مسلم ولا منافاة بينه وبين ما ذكرناه وإن أرادوا به أنا نتبين أن غير ذلك الوقت لم يكن وقتاً للوجوب بمعنى أنه لو أدى فيه الفعل لم يقع الموقع فهو خلاف الإجماع وإن أريد به غير ذلك فلا بد من تصويره. وعن القول بتعين الوقت الأول للوجوب وما بعده للقضاء فيما سبق كيف وأن الإجماع منعقد على أن ما يفعل بعد ذلك الوقت ليس بقضاء ولا يصح بنية القضاء.

وعن الوقت أنه خلاف الإجماع من السلف على أن من فعل الصلاة في أول الوقت ومات فيه أثنائه أنه أدى فرض الله وأثبت ثواب الواجب وعلى ما حققناه من الوجوب الموسع لو أخر المكلف الصلاة عن أول الوقت بشرط العزم ومات لم يلق الله عاصياً ونظراً إلى إجماع السلف على ذلك وليس يلزم من ذلك إبطال معنى الوجوب حيث إنه لا يجوز تركه مطلقاً بل بشرط العزم على ما تقدم ولا يمكن أن يقال جواز التأخير مشروط بسلامة العاقبة لكونها منطوية عنه ولا بد من الحكم الجزم في هذه الحال إما بالبعضية وهو خلاف الإجماع وإما بنفيها ضرورة امتناع التوقف على ظهور العاقبة بالإجماع من سلف الأمة وإذا عرف معنى الواجب الموسع ففعله في وقته أول مرة يسمى أداء وسواء كان فعله على نوع من الخلل لعذر أو لا على نوع من الخلل وإن فعل على نوع من الخلل لعذر ثم فعل في ذلك الوقت مرة ثانية سمي إعادة وإن لم يفعل في وقته المقدر وسواء كان ذلك بعذر أو بغير عذر ثم فعل بعد خروج وقته سمي قضاء. المسألة الخامسة اتفق الكل في الواجب الموسع على أن المكلف لو غلب على ظنه أنه يموت بتقدير التأخير عن أول الوقت فأخره أنه يعصي وإن لم يمت واختلفوا في فعله بعد ذلك في الوقت هل يكون قضاء أو أداء فذهب القاضي أبو بكر إلى كونه قضاء وخالفه غيره في ذلك. حجة القاضي أن الوقت صار مقدراً بما غلب على ظن المكلف أنه لا يعيش أكثر منه ولذلك عصى بالتأخير عنه فإذا فعل الواجب بعد ذلك فقد فعله خارج وقته فكان قضاء كما في غيره من العبادات الفائتة في أوقاتها المقدرة المحدودة. ولقائل أن يقول: غاية ظن المكلف أنه أوجب العصيان بالتأخير عن الوقت الذي ظن حياته فيه دون ما بعده فلا يلزم من ذلك تضييق الوقت بمعنى أنه إذا بقي بعد ذلك الوقت كان فعله للواجب فيه قضاء وذلك لأنه كان وقتاً للأداء والأصل بقاء ما كان على ما كان ولا يلزم من جعل ظن المكلف موجباً للعصيان بالتأخير مخالفة هذا الأصل أيضاً ولهذا فإنه لا يلزم من عصيان المكلف بتأخير الواجب الموسع عن أول الوقت من غير عزم على الفعل عند القاضي أن يكون فعل الواجب بعد ذلك في الوقت قضاء وهو في غاية الاتجاه. المسألة السادسة اتفقوا على أن الواجب إذا لم يفعل في وقته المقدر وفعل بعده أنه يكون قضاء وسواء تركه في وقته عمداً أو سهواً. واتفقوا على أن ما لم يجب ولم ينعقد سبب وجوبه في الأوقات المقدرة ففعله بعد ذلك لا يكون قضاء لا حقيقة ولا مجازاً كفوائت الصلوات في حالة الصبي والجنون. واختلفوا فيما انعقد سبب وجوبه ولم يجب لمانع أو لفوات شرط من خارج وسواء كان المكلف قادراً على الإتيان بالواجب في وقته كالصوم في حق المريض والمسافر أو غير قادر عليه إما شرعاً كالصوم في حق الحائض وإما عقلاً كالنائم أنه هل يسمى قضاء حقيقة أو مجازاً فمنهم من مال إلى التجوز مصيراً منه إلى أن القضاء إنما يكون حقيقة عند فوات ما وجب في الوقت استدراكاً لمصلحة الواجب الفائت وذلك غير متحقق فيما نحن فيه ووجوبه بعد ذلك الوقت بأمر مجدد لا ارتباط له بالوقت الأول فكان إطلاق القضاء عليه تجوزاً ومنهم من مال إلى أنه قضاء حقيقة لما فيه من استدراك مصلحة ما انعقد سبب وجوبه ولم يجب للمعارض وإطلاق اسم القضاء في هذه الصور في محل الوفاق إنما كان باعتبار ما اشتركا فيه من استدراك مصلحة ما انعقد سبب وجوبه لا استدراك مصلحة ما وجب وهذا هو الأشبه لما فيه من نفي التجوز والاشتراك عن اسم القضاء. المسألة السابعة ما لا يتم الواجب إلا به هل يوصف بالوجوب اختلفوا فيه ولا بد قبل الخوض في الحجاج من تلخيص محل النزاع فنقول: ما لا يتم الواجب إلا به إما أن يكون وجوبه مشروطاً بذلك الشيء أو لا يكون مشروطاً به.

فإن كان الأول فهو كما لو قال الشارع أوجبت عليك الصلاة إن كنت متطهراً فلا خلاف في أن تحصيل الشرط ليس واجباً وإنما الواجب الصلاة إذا وجد الشرط وإن كان الثاني وهو أن يكون وجوبه مطلقاً غير مشروط الوجوب بذلك الغير بل مشروط الوقوع فذلك هو محل النزاع إن كان الشرط مقدوراً للمكلف وذلك كما لو وجبت الصلاة وتعذر وقوعها دون الطهارة أو وجب غسل الوجه ولم يكن إلا بغسل جزء من الرأس إلى غير ذلك وإن لم يكن الشرط مقدوراً للمكلف فلا إلا على رأي من يجوز تكليف ما لا يطاق وذلك كحضور الإمام الجمعة وحصول تمام العدد فيها فإن ذلك غير مقدور لآحاد المكلفين. وإذا تلخص محل النزاع فنقول: اتفق أصحابنا والمعتزلة على أن ما لا يتم الواجب إلا به وهو مقدور للمكلف فهو واجب خلافاً لبعض الأصوليين قال أبو الحسين البصري: وإنما قلنا إن تحصيل الشرط واجب لأنه لو لم يجب بل كان تركه مباحاً لكان الآمر كأنه قال للمأمور: لك مباح ألا تأتي بالشرط وأوجب عليك الفعل مع عدم الإتيان بما لا يتم إلا به وذلك تكليف بما لا يطاق وهو محال وهذه الطريقة في غاية الفساد وذلك لأن وجوب المشروط إذا كان مطلقاً فلا يلزم من إباحة الشرط أن يكون التكليف بالمشروط حالة عدم الشرط فإن عدمه غير لازم من إباحته بل حالة عدم وجوب الشرط وفرق بين الأمرين فلا يكون التكليف بالمشروط تكليفاً بما لا يطاق ثم يقال له إن كان التكليف بالمشروط حالة عدم الشرط محالاً فالتكليف بالمشروط مشروط بوجود الشرط وكل ما وجوبه مشروط بشرط فالشرط لا يكون واجب التحصيل لما سبق ولا جواب عنه. وإلا قرب في ذلك أن يقال: انعقد إجماع الأمة على إطلاق القول بوجوب تحصيل ما أوجبه الشارع وتحصيله إنما هو بتعاطي الأمور الممكنة من الإتيان به فإذا قيل يجب التحصيل بما لا يكون واجباً كان متناقضاً وبالجملة فالمسألة وعرة والطرق ضيقة فليقنع بمثل هذا في هذا المضيق. فإن قيل: القول بوجوب الشرط زيادة على ما اقتضاه الأمر بالمشروط إذ لا دلالة عليه والزيادة على النص نسخ ونسخ مدلول النص لا يكون إلا بنص آخر ولا نص ثم لو كان واجباً لكان مقدوراً حذراً من التكليف بما لا يطاق وما يجب غسله من الرأس وإمساكه من الليل غير مقدور ولكان مثاباً عليه ومعاقباً على تركه والثواب والعقاب إنما هو على غسل الوجه وتركه وعلى صوم اليوم وتركه لا على مسح بعض الرأس وإمساك شيء من الليل ولهذا فإنه لو تصور الإتيان بالمشروط دون شرطه كان كذلك. قلنا: جواب الأول أن النسخ إنما يلزم إن لو كان ما قيل بوجوبه رافعاً لمقتضى النص الوارد بالمشروط وليس كذلك فإن مقتضاه وجوبه ووجوبه باق بحاله. وجواب الثاني أنه مبني على القول بأن كل واجب لا يقدر بقدر محدود فالزيادة على أقل ما ينطلق عليه الاسم هل توصف بالوجوب لكون نسبة الكل إلى الوجوب نسبة واحدة أو الواجب أقل ما ينطلق عليه الاسم والزيادة ندب فمن ذهب إلى القول الأول قال كل ما يأتي به من ذلك فهو واجب والأصح إنما هو القول الثاني وهو أن الواجب أقل ما ينطلق عليه الاسم إذ هو مكتفي به من غير لوم على ترك الزيادة من غير بدل وهو مقدور. وجواب الثالث بمنع ما ذكروه وجواب الرابع بأن الوجوب إنما يتحقق بالنسبة إلى العاجز عن الإتيان بالمشروط دون الشرط لا القادر. الفصل الثاني في المحظور وقد يطلق في اللغة على ما كثرت آفاته ومنه يقال لبن محظور أي كثير الآفة وقد يطلق بمعنى المنع والقطع ومنه قولهم: حظرت عليه كذا أي منعته منه ومنه الحظيرة للبقعة المنقطعة تأتي إليها المواشي. وأما في الشرع فقد قيل فيه ضد ما قيل في الواجب من الحدود المزيفة السابق ذكرها ولا يخفى وجه الكلام عليها والحق فيه أن يقال: هو ما ينتهض فعله سبباً للذم شرعاً بوجه ما من حيث هو فعل له. فالقيد الأول فاصل له عن الواجب والمندوب وسائر الأحكام والثاني فاصل له عن المخير كما ذكرناه في الواجب والثالث فاصل له عن المباح الذي يستلزم فعله ترك واجب فإنه يذم عليه لكن لا من جهة فعله بل لما لزمه من ترك الواجب والحظر: فهو خطاب الشارع بما فعله سبب للذم شرعاً بوجه ما من حيث هو فعله ومن أسمائه أنه محرم ومعصية وذنب وإذا عرف معنى المحظور فلا بد من ذكر ما يختص به من المسائل وهي ثلاث مسائل. المسألة الأولى يجوز أن يكون المحرم أحد أمرين لا بعينه عندنا خلافاً للمعتزلة وذلك لأنه لا مانع من ورود النهي بقوله: لا تكلم زيداً أو عمراً وقد حرمت عليك كلام أحدهما لا بعينه ولست أحرم عليك الجميع ولا واحداً بعينه فهذا الورود كان معقولاً غير ممتنع ولا شك أنه إذا كان كذلك فليس المحرم مجموع كلاميهما ولا كلام أحدهما على التعيين لتصريحه بنقيضه فلم يبق إلا أن يكون المحرم أحدهما لا بعينه. ومنهج الخصم في الاعتراض ومنهجنا في الجواب فكما سبق في الواجب المخير ولا يخفى وجهه ولكن ربما تشبث الخصوم هاهنا بقولهم إن حرف أو إذا ورد في النهي اقتضى الجمع دون التخيير ودليله قوله تعالى "ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً" "الإنسان 24" فإن المراد به إنما هو النهي عن الطاعة لكل واحد منهما لا النهي عن أحدهما. وجوابه أن يقال: مقتضى الآية إنما هو التخيير وتحريم أحد الأمرين لا بعينه والجمع في التحريم هاهنا إنما كان مستفاداً من دليل آخر ويجب أن يكون كذلك جمعاً بين الآية وما ذكرناه من الدليل. المسألة الثانية اتفق العقلاء على استحالة الجمع بين الحظر والوجوب في فعل واحد من جهة واحدة لتقابل حديهما كما سبق تعريفه إلا على رأي من يجوز التكليف بالمحال وإنما الخلاف في أنه هل يجوز انقسام النوع الواحد من الأفعال إلى واجب وحرام كالسجود لله تعالى والسجود للصنم وأن يكون الفعل الواحد بالشخص واجباً حراماً من جهتين كوجوب الفعل المعين الواقع في الدار المغصوبة من حيث هو صلاة وتحريمه من حيث هو غصب شاغل لملك الغير فذلك مما جوزه أصحابنا مطلقاً وأكثر الفقهاء وخالف في الصورة الأولى بعض المعتزلة وقالوا: السجود نوع واحد وهو مأمور به لله تعالى فلا يكون حراماً ولا منهياً بالنسبة إلى الصنم من حيث هو سجود وإلا كان الشيء الواحد مأموراً منهياً وذلك محال وإنما المحرم المنهي قصد تعظيم الصنم وهو غير السجود. وخالف في الصورة الثانية الجبائي وابنه وأحمد بن حنبل وأهل الظاهر والزيدية وقيل إنه رواية عن مالك وقالوا الصلاة في الدار المغصوبة غير واجبة ولا صحيحة ولا يسقط بها الفرض ولا عندها ووافقهم على ذلك القاضي أبو بكر إلا في سقوط الفرض فإنه قال: يسقط الفرض عندها لا بها مصيراً منهم إلى أن الوجوب والتحريم إنما يتعلق بفعل المكلف لا بما ليس من فعله والأفعال الموجودة من المصلي في الدار المغصوبة أفعال اختيارية محرمة عليه وهو عاص بها مأثوم بفعلها وليس له من الأفعال غير ما صدر عنه فلا يتصور أن تكون واجبة طاعة ولا مثاباً عليها متقرباً بها إلى الله تعالى لأن الحرام لا يكون واجباً والمعصية لا تكون طاعة ولا مثاباً عليها ولا متقرباً بها مع أن التقرب شرط في صحة الصلاة والحق في ذلك ما قاله الأصحاب. أما في الصورة الأولى فلضرورة التغاير بالشخصية بين السجود لله تعالى والسجود للصنم ولا يلزم من تحريم أحد السجودين تحريم الآخر ولا من الوجوب الوجوب وما قيل من أن السجود مأمور به لله تعالى فإن أريد به السجود من حيث هو كذلك فهو غير مسلم بل السجود المقيد بقصد تعظيم الرب تعالى دون ما قصد به تعظيم الصنم ولهذا قال الله تعالى "لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله" "فصلت 37" ولو كان كما ذكروه لكان عين المأمور به منهياً عنه وهو محال. وأما في الصورة الثانية فلضرورة تغاير الفعل المحكوم عليه باعتبار اختلاف جهتيه من الغصب والصلاة وذلك لأن التغاير بين الشيئين كما أنه قد يقع بتعدد النوع تارة كالإنسان والفرس وبتعدد الشخص تارة كزيد وعمرو فقد يقع التغاير مع اتحاد الموضوع المحكوم عليه شخصاً بسبب اختلاف صفاته بأن يكون المحكوم عليه بأحد الحكمين المتقابلين هو الهيئة الاجتماعية من ذاته وإحدى صفتيه والمحكوم عليه بالحكم الآخر بالهيئة الاجتماعية والصفة الأخرى كالحكم على زيد بكونه مذموماً لفسقه ومشكوراً لكرمه وذلك مما لا يتحقق معه التقابل بين الحكمين والمنع منهما. وقولهم: إن الفعل الموجود منه في الدار المغصوبة متحد وهو حرام فلا يكون واجباً. قلنا: المحكوم عليه بالحرمة ذات الفعل من حيث هو فعل أو من جهة كونه غصبا الأول غير مسلم والثاني فلا يلزم منه امتناع الحكم عليه بالوجوب من جهة كونه صلاة ضرورة الاختلاف كما سبق.

فإن قيل متعلق الوجوب إما أن يكون هو متعلق الحرمة أو هو مغاير له والأول يلزم منه التكليف بما لا يطاق والخصم لا يقول بذلك فيما نحن فيه سواء قيل بإحالته أو بجوازه والثاني إما أن يكون متعلق الوجوب والتحريم متلازمين أو غير متلازمين لا جائز أن يقال بالثاني فإن الغصب والصلاة وإن انفك أحدهما عن الآخر في غير مسألة النزاع فهما متلازمان في مسألة النزاع فلم يبق غير التلازم وعند ذلك فالواجب متوقف على فعل المحرم وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فالمحرم الذي ذكرتموه يكون واجباً وهو تكليف بما لا يطاق وأيضاً فإن الحركات المخصوصة في الصلاة والسكنات داخلة في مفهومها والحركات والسكنات تشغل الحيز إذ الحركة عبارة عن شغل الجوهر للحيز بعد أن كان في غيره والسكون شغل الجوهر للحيز أكثر من زمان واحد فشغل الحيز داخل في مفهوم الحركة والسكون الداخلين في مفهوم الصلاة فكان داخلاً في مفهوم الصلاة لأن جزء الجزء جزء وشغل الحيز فيما نحن فيه حرام فالصلاة التي جزأها حرام لا تكون واجبة لأن وجوبها إما أن يستلزم إيجاب جميع أجزائها أو لا يستلزم والأول يلزم منه إيجاب ما كان من أجزائها محرماً وهو تكليف بما لا يطاق والثاني يلزم منه أن يكون الواجب بعض أجزاء الصلاة لا نفس الصلاة لأن مفهوم الجزء مغاير لمفهوم الكل وذلك محال. قلنا: أما الإشكال الأول فيلزم عليه ما لو قال السيد لعبده أوجبت عليك خياطة هذا الثوب وحرمت عليك السكن في هذا الدار فإن فعلت هذا أثبتك وإن فعلت هذا عاقبتك فإنه إذا سكن الدار وخاط الثوب فإنه يصح أن يقال فعل الواجب والمحرم ويحسن من السيد ثوابه له على الطاعة وعقابه له على المعصية إجماعاً وعند ذلك فكل ما أوردوه من التقسيم فهو بعينه وارد هاهنا وذلك أن يقال: متعلق الوجوب إن كان هو متعلق الحرمة فهو تكليف بما لا يطاق وليس كذلك فيما فرض من الصورة وإن تغايراً فهما في الصورة المفروضة متلازمان وإن جاز انفكاكهما حسبما قيل في الصلاة في الدار المغصوبة فالواجب متوقف على المحرم فيلزم أن يكون واجباً لا محرماً لما قيل وقد قيل بالجمع بين الواجب والمحرم فيها فما هو الجواب في هذه الصورة هو الجواب في صورة محل النزاع وعلى هذا فقد اندفع الإشكال الثاني أيضاً من حيث إن شغل الحيز داخل في مفهوم الحركات المخصوصة الداخلة في مفهوم الخياطة وشغل الحيز بالسكن محرم على ما قيل في صورة محل النزاع من غير فرق والجواب يكون مشتركاً: كيف وإن إجماع سلف الأمة وهلم جراً منعقد على الكف عن أمر الظلمة بقضاء الصلوات المؤدات في الدور المغصوبة مع كثرة وقوع ذلك منهم ولو لم تكن صحيحة مع وجوبها عليهم لبقي الوجوب مستمراً وامتنع على الأمة عدم الإنكار عادة وهو لازم على المعتزلة وأحمد بن حنبل حيث اعترفوا ببقاء الفرض وعدم سقوطه وأما القاضي أبو بكر فإنه قال إن الفرض يسقط عندها لا بها جمعاً بين الإجماع على عدم النكير على ترك القضاء وبين ما ظنه دليلاً على امتناع صحة الصلاة وقد بينا إبطال مستنده. المسألة الثالثة مذهب الشافعي أن المحرم بوصفه مضاد لوجوب أصله خلافاً لأبي حنيفة وصورة المسألة ما إذا أوجب الصوم وحرم إيقاعه في يوم العيد وعلى هذا النحو فالشافعي اعتقد أن المحرم هو الصوم الواقع وألحقه بالمحرم باعتبار أصله فكان تحريمه مضاداً لوجوبه وأبو حنيفة اعتقد أن المحرم نفس الوقوع لا الواقع وهما غيران فلا تضاد إلحاقاً له بالمحرم باعتبار غيره وحيث قضى بتحريم صلاة المحدث وبطلانها إنما كان لفوات شرطها من الطهارة لا للنهي عن إيقاعها مع الحدث بخلاف الطواف حيث لا يقم الدليل عنده على اشتراط الطهارة فيه. وبالجملة فالمسألة اجتهادية ظنية لا حظ لها من اليقين وإن كان الأشبه إنما هو مذهب الشافعي من حيث إن اللغوي لا يفرق عند سماعه لقول القائل حرمت عليك الصوم في هذا اليوم مع كونه موجباً لتحريم الصوم وبين قوله حرمت عليك إيقاع الصوم في هذا اليوم من جهة أنه لا معنى لإيقاع الصوم في اليوم سوى فعل الصوم في اليوم فإذا كان فعل الصوم فيه محرماً كان ذلك مضاداً لوجوبه لا محالة.

فإن قيل: لو كان تحريم إيقاع الفعل في الوقت تحريماً للفعل الواقع لزم أن يكون تحريم إيقاع الطلاق في زمن الحيض تحريماً لنفس الطلاق ولو كان الطلاق نفسه محرماً لما كان معتبراً وكذلك وقوع الصلوات في الأوقات والأماكن المنهي عن إيقاعها فيها. قلنا: أما الطلاق في زمن الحيض إنما قضى الشافعي بصحته لظهور صرف التحريم عنده عن أصل الطلاق وصفته إلى أمر خارج وهو ما يفضي إليه من تطويل العدة لدليل دل عليه وأما الصلوات في الأوقات والأماكن المنهي عنها فقد منع بعض أصحابنا صحتها في الأوقات دون الأماكن ومن عمم اعتقد صرف النهي فيها عن الصوم وصفته إلى أمر خارج لدليل دل عليه أيضاً بخلاف ما نحن فيه حتى لو قام الدليل فيه على ترك الظاهر لترك. الفصل الثالث في تحقيق معنى المندوب وما يتعلق به من المسائل والمندوب في اللغة مأخوذ من الندب وهو الدعاء إلى أمر مهم ومنه قول الشاعر: لا يسألون أخاهم حين يندبـهـم في النائبات على ما قال برهاناً وأما في الشرع فقد قيل: هو ما فعله خير من تركه ويبطل بالأكل قبل ورود الشرع فإنه خير من تركه لما فيه من اللذة واستبقاء المهجة وليس مندوباً. وقيل: هو ما يمدح على فعله ولا يذم على تركه ويبطل بأفعال الله تعالى فإنها كذلك وليست مندوبة. فالواجب أن يقال: هو المطلوب فعله شرعاً من غير ذم على تركه مطلقاً فالمطلوب فعله احتراز عن الحرام والمكروه والمباح وغيره من الأحكام الثابتة بخطاب الوضع والأخبار ونفي الذم احتراز عن الواجب المخير والموسع في أول الوقت وإذا عرف معنى المندوب ففيه مسألتان: المسألة الأولى ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من أصحابنا إلى أن المندوب مأمور به خلافاً للكرخي وأبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة احتج المثبتون بأن فعل المندوب يسمى طاعة بالاتفاق وليس ذلك لذات الفعل المندوب إليه وخصوص نفسه وإلا كان طاعة بتقدير ورود النهي عنه ولا لصفة من الصفات التي يشاركه فيها غيره من الحوادث وإلا كان كل حادث طاعة ولا لكونه مراداً لله تعالى وإلا كان كل مراد الوقوع طاعة وليس كذلك ولا لكونه مثاباً عليه فإنه لا يخرج عن كونه طاعة وإن لم يثب عليه ولا لكونه موعوداً بالثواب عليه لأنه لو ورد فيه وعد لتحقق لاستحالة الخلف في خبر الشارع والثواب غير لازم له بالإجماع والأصل عدم ما سوى ذلك فتعين أن يكون طاعة لما فيه من امتثال الأمر فإن امتثال الأمر يسمى طاعة ولهذا يقال: فلان مطاع الأمر ومنه قول الشاعر: ولو كنت ذا أمر مطاع لما بـدا توان من المأمور في كل أمركا كيف وقد شاع وذاع إطلاق أهل الأدب قولهم بانقسام الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب فإن قيل: أمكن أن يكون طاعة لكون مقتضى ومطلوباً ممن له الطلب والاقتضاء ولا يلزم أن يكون ذلك لكونه مأموراً ثم لو كان فعله طاعة لكونه مأموراً لكان تركه معصية لكونه مأموراً ولذلك يقال أمر فعصى ومنه قول الشاعر: أمرتك أمراً جازماً فعصيتني وليس كذلك بالإجماع ويدل على أنه غير مأمور قوله عليه السلام "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" وقوله عليه السلام لبريرة وقد عتقت تحت عبد لو راجعتيه فقالت: بأمرك يا رسول الله فقال لا "إنما أنا شافع" نفي الأمر في الصورتين مع أن الفعل فيهما مندوب فدل على أن المندوب ليس مأموراً. قلنا: أما الاقتضاء والطلب فهو الأمر عندنا على ما يأتي فتسليمه تسليم لمحل النزاع قولهم لا يسمى تاركه عاصياً قلنا لأن العصيان اسم ذم مختص بمخالفة أمر الإيجاب ولا بمخالفة مطلق أمر ويجب أن يكون كذلك جمعاً بين ما ذكروه من الإطلاق وما ذكرناه من الدليل ولمثل هذا يجب حمل الحديثين على أمر الإيجاب دون الندب ويخص الحديث الأول أنه قيده بالمشقة وهي لا تكون في غير أمر الإيجاب وإذا ثبت كونه مأموراً فهو حسن بجميع الاعتبارات السابق ذكرها في مسألة التحسين والتقبيح وهل هو داخل في مسمى الواجب فالكلام فيه على ما سيأتي في الجائز نفياً وإثباتاً. المسألة الثانية اختلف أصحابنا في المندوب هل هو من أحكام التكاليف؟ فأثبته الأستاذ أبو إسحاق ونفاه الأكثرون وهو الحق. وحجة ذلك أن التكليف إنما يكون بما فيه كلفة ومشقة والمندوب مساو للمباح في التخيير بين الفعل والترك من غير حرج مع زيادة الثواب على الفعل والمباح ليس من أحكام التكليف على ما يأتي فالمندوب أولى. نعم إن قيل إنه تكليفي باعتبار وجوب اعتقاد كونه مندوباً فلا حرج فإن قيل المندوب لا يخلو عن كلفة ومشقة فإنه سبب للثواب فإن فعله رغبة في الثواب ففعله مشق كفعل الواجب وإن تركه شق عليه ما فاته من الثواب الجزيل بفعله وربما كان ذلك أشق عليه من الفعل بخلاف ترك المباح قلنا: يلزم عليه أن يكون حكم الشارع على الفعل بكونه سبباً للثواب حكماً تكليفياً لأنه إن أتى بالفعل رغبة في الثواب الذي هو مسببه فهو مشق وإن تركه شق عليه ما فاته من الثواب وهو خلاف الإجماع. الفصل الرابع في المكروه المكروه في اللغة مأخوذ من الكريهة وهي الشدة في الحرب ومنه قولهم جمل كره أي شديد الرأس وفي معنى ذلك الكراهة والكراهية. وأما في الشرع فقد يطلق ويراد به الحرام وقد يراد به ترك ما مصلحته راجحة وإن لم يكن منهياً عنه كترك المندوبات وقد يراد به ما نهي عنه نهي تنزيه لا تحريم كالصلاة في الأوقات والأماكن المخصوصة وقد يراد به ما في القلب منه حزازة وإن كان غالب الظن حله كأكل لحم الضبع. وعلى هذا فمن نظر إلى الاعتبار الأول حده بحد الحرام كما سبق ومن نظر إلى الاعتبار الثاني حده بترك الأولى ومن نظر إلى الاعتبار الثالث جده بالمنهي الذي لا ذم على فعله ومن نظر إلى الاعتبار الرابع حده بأنه الذي فيه شبهة وتردد. وإذا عرف معنى المكروه فالخلاف في كونه منهياً عنه وفي كونه من أحكام التكاليف فعلى نحو ما سبق في المندوب ولا يخفى وجه الكلام في الطرفين تزييفاً واختياراً. الفصل الخامس في المباح وما يتعلق به من المسائل أما المباح فهو في اللغة مشتق من الإباحة وهي الإظهار والإعلان ومنه يقال باح بسره إذا أظهره وقد يرد أيضاً بمعنى الإطلاق والإذن ومنه يقال أبحته كذا أي أطلقته فيه وأذنت له. وأما في الشرع فقد قال قوم هو ما خير المرء فيه بين فعله وتركه شرعاً وهو منقوض بخصال الكفارة المخيرة فإنه ما من خصلة منها إلا والمكفر مخير بين فعلها وتركها وبتقدير فعلها لا تكون مباحة بل واجبة وكذلك الصلاة في أول وقتها الموسع مخير بين فعلها وتركها مع العزم وليست مباحة بل واجبة وقال قوم هو ما استوى جانباه في عدم الثواب والعقاب وهو منتقض بأفعال الله تعالى فإنها كذلك وليست متصفة بكونها مباحة ومنهم من قال هو ما أعلم فاعله أو دل أنه لا ضرر عليه في فعله ولا تركه ولا نفع له في الآخرة وهو غير جامع لأنه يخرج منه الفعل الذي خير الشارع فيه بين الفعل والترك مع إعلام فاعله أو دلالة الدليل السمعي على استواء فعله في المصلحة والمفسدة دنيا وأخرى فإنه مباح وإن اشتمل فعله وتركه على الضرر. والأقرب في ذلك أن يقال: هو ما دل الدليل السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك من غير بدل فالقيد الأول فاصل له عن فعل الله تعالى: والثاني عن الواجب الموسع في أول الوقت والواجب المخير وإذا عرف معنى المباح ففيه خمس مسائل. المسألة الأولى اتفق المسلمون على أن الإباحة من الأحكام الشرعية خلافاً لبعض المعتزلة مصيراً منه إلى أن المباح لا معنى له سوى ما انتفى الحرج عن فعله وتركه وذلك ثابت قبل ورود الشرع وهو مستمر بعده فلا يكون حكماً شرعياً ونحن لا ننكر أن انتفاء الحرج عن الفعل والترك ليس بإباحة شرعية وإنما الإباحة الشرعية خطاب الشارع بالتخيير على ما قررناه وذلك غير ثابت قبل ورود الشرع ولا يخفى الفرق بين القسمين فإذا ما أثبتناه من الإباحة الشرعية لم يتعرض لنفيها وما نفي غير ما أثبتناه. المسألة الثانية اتفق الفقهاء والأصوليون قاطبة على أن المباح غير مأمور به خلافاً للكعبي وأتباعه من المعتزلة في قولهم إنه لا مباح في الشرع بل كل فعل يفرض فهو واجب مأمور به. احتج من قال إنه غير مأمور به أن الأمر طلب يستلزم ترجيح الفعل على الترك وهو غير متصور في المباح لما سبق في تحديده ولأن الأمة مجمعة على انقسام الأحكام إلى وجوب وندب وإباحة وغير ذلك فمنكر المباح يكون خارقاً للإجماع.

وحجة الكعبي أنه ما من فعل يوصف بكونه مباحاً إلا ويتحقق بالتلبس به ترك حرام ما وترك الحرام واجب ولا يتم تركه دون التلبس بضد من أضداده وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لما سبق ثم اعتذر عن الإجماع المحتج به بأن قال يجب حمله على ذات الفعل مع قطع النظر عن تعلق الأمر به لسبب توقف ترك الحرام عليه فإنه إذ ذاك لا يكون مأموراً به ضرورة الجمع بين الأدلة بأقصى الإمكان وقد اعترض عليه من لا يعلم عور كلامه بأنه وإن كان ترك الحرام واجباً فالمباح ليس هو نفس ترك الحرام بل شيء يترك به الحرام مع إمكان تحقق ترك الحرام بغيره فلا يلزم أن يكون واجباً وهو غير سديد فإنه إذا ثبت أن ترك الحرام واجب وأنه لا يتم بدون التلبس بضد من أضداده وقد تقرر أن ما لا يتم الواحب دونه فهو واجب فالتلبس بضد من أضداده واجب غايته أن الواجب من الأضداد غير معين قبل تعيين المكلف له ولكن لا خلاف في وجوبه بعد التعيين ولا خلاص عنه إلا بمنع وجوب ما لا يتم الواجب إلا به وفيه خرق القاعدة الممهدة على أصول الأصحاب وغاية ما ألزم عليه أنه لو كان الأمر على ما ذكرت لكان المندوب بل المحرم إذا ترك به محرم آخر أن يكون واجباً وكان يجب أن تكون الصلاة حراماً على هذه القاعدة عندما إذا ترك بها واجباً آخر وهو محال فكان جوابه أنه لا مانع من الحكم على الفعل الواحد بالوجوب والتحريم بالنظر إلى جهتين مختلفتين كما في الصلاة في الدار المغصوبة ونحوه. وبالجملة وإن استبعده من استبعده فهو في غاية الغوص والإشكال وعسى أن يكون عند غيري حله. المسألة الثالثة اختلفوا في المباح هل هو داخل في مسمى الواجب أم لا؟ وحجة من قال بالدخول أن المباح ما لا حرج على فعله وهذا المعنى متحقق في الواجب والزيادة التي اختص بها الواجب غير نافية للاشتراك فيما قيل. وحجة من قال بالتباين أن المباح ما خير فيه بين الفعل والترك بالقيود المذكورة وهو غير متحقق في الواجب وهو الحق. فإن قيل: العادة مطردة بإطلاق الجائز على الصلاة الواجبة والصوم الواجب في قولهم صلاة جائزة وصوم جائز ولو لم يكن مفهوم الجائز متحققاً في الواجب لزم منه إما الاشتراك وإما التجوز هو خلاف الأصل. قلنا ولو كان إطلاقه عليه حقيقة فلا مشترك بينهما سوى نفي الحرج عن الفعل بدليل البحث والسير فلو كان ذلك هو المسمى حقيقة فالعادة أيضاً مطردة بإطلاق الجائز على ما انتفى الحرج عن تركه ولهذا يقال: المحرم جائز الترك وما هو مسمى الجائز أولاً غير متحقق هاهنا ويلزم من ذلك أن يكون إطلاق اسم الجائز على ترك المحرم مجازاً أو مشتركاً وهو خلاف الأصل وليس أحد الأمرين أولى من الآخر بل احتمال التجوز فيما ذكرناه أولى لما فيه من موافقة الإطلاق في قولهم هذا واجب وليس بجائز وعلى كل تقدير فالمسألة لفظية وهي في محل الاجتهاد. المسألة الرابعة اختلفوا في المباح هل هو داخل تحت التكليف واتفاق جمهور من العلماء على النفي خلافاً للاستاذ أبي إسحاق الإسفرايني. والحق أن الخلاف في هذه المسألة لفظي فإن النافي يقول إن التكليف إنما يكون بطلب ما فيه كلفة ومشقة ومنه قولهم: كلفتك عظيماً أي حملتك ما فيه كلفة ومشقة ولا طلب في المباح ولا كلفة لكونه مخيراً بين الفعل والترك ومن أثبت ذلك لم يثبته بالنسبة إلى أصل الفعل بل بالنسبة إلى وجوب اعتقاد كونه مباحاً والوجوب من خطاب التكليف فما التقيا على محز واحد. المسألة الخامسة اختلفوا في المباح هل هو حسن أم لا والحق امتناع النفي والإثبات في ذلك مطلقاً بل الواجب أن يقال إنه حسن باعتبار أن لفاعله أن يفعله شرعاً أو باعتبار موافقته للغرض وليس حسناً باعتبار أنه مأمور بالثناء على فاعله على ما تقرر في مسألة التحسين والتقبيح. الفصل السادس في الأحكام الثابتة بخطاب الوضع والأخبار وهي على أصناف: الصنف الأول الحكم على الوصف بكونه سبباً.

والسبب في اللغة عبارة عما يمكن التوصل به إلى مقصود ما ومنه سمي الحبل سبباً والطريق سبباً لإمكان التوصل بهما إلى المقصود وإطلاقه في اصطلاح المتشرعين على بعض مسمياته في اللغة وهو كل وصف ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه معرفاً لحكم شرعي ولا يخفى ما فيه من الاحتراز وهو منقسم إلى ما لا يستلزم في تعريفة للحكم حكمة باعثة عليه كجعل زوال الشمس أمارة معرفة لوجوب الصلاة في قوله تعالى "أقم الصلاة لدلوك الشمس" "الإسراء 78" وفي قوله عليه السلام "إذا زالت الشمس فصلوا" وكجعل طلوع هلال رمضان أمارة على وجوب صوم رمضان بقوله تعالى "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" "البقرة 185" وقوله عليه السلام "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" ونحوه وإلى ما يستلزم حكمة باعثة للشرع على شرع الحكم المسبب كالشدة المطربة المعرفة لتحريم شرب النبيذ لا لتحريم شرب الخمر في الأصل المقيس عليه فإن تحريم شرب الخمر معروف بالنص أو الإجماع لا بالشدة المطربة ولأنها لو كانت معرفة له فهي لا يعرف كونها علة بالاستنباط إلا بعد معرفة الحكم في الأصل وذلك دور ممتنع وعلى هذا فالحكم الشرعي ليس هو نفس الوصف المحكوم عليه بالسببية بل حكم الشرع عليه بالسببية وعلى هذا فكل واقعة عرف الحكم فيها بالسبب لا بدليل آخر من الأدلة السمعية فلله تعالى فيها حكمان أحدهما الحكم المعرف بالسبب والآخر السببية المحكوم بها على الوصف المعرف للحكم وفائدة نصبه سبباً معرفاً للحكم عسر وقوف المكلفين على خطاب الشرع في كل واقعة من الوقائع بعد انقطاع الوحي حذراً من تعطيل أكثر الوقائع عن الأحكام الشرعية وسواء كان السبب مما يتكرر بتكرره الحكم كما ذكرناه من زوال الشمس وطلوع الهلال وغيره من أسباب الضمانات والعقوبات والمعاملات أو غير متكرر به كالاستطاعة في الحج ونحوه وسواء كان وصفاً وجودياً أو عدمياً شرعياً أو غير شرعي ما يأتي تحقيقه في القياس. وإذا أطلق على السبب أنه موجب للحكم فليس معناه أنه يوجبه لذاته وصفة نفسه وإلا كان موجباً له قبل ورود الشرع وإنما معناه أنه معرف للحكم لا غير كما ذكرناه في تحديده. فإن قيل لو كانت السببية حكماً شرعياً لافتقرت في معرفتها إلى سبب آخر يعرفها ويلزم من ذلك إما الدور إن افتقر كل واحد من السببين إلى الآخر وإما التسلسل وهو محال وأيضاً فإن الوصف المعرف للحكم إما يعرفه بنفسه أو بصفة زائدة. فإن كان الأول لزم أن يكون معرفاً له قبل ورود الشرع وهو محال وإن كان بصفة زائدة عليه فالكلام في تلك الصفة كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع وأيضاً فإن الطريق إلى معرفة كون الوصف سبباً للحكم إنما هو ما يستلزمه من الحكمة المستدعية للحكم من جلب مصلحة أو دفع مفسدة وذلك ممتنع لوجهين: الأول أنه لو كانت الحكمة معرفة لحكم السببية لأمكن تعريف الحكم المسبب بها من غير حاجة إلى توسط الوصف وليس كذلك بالإجماع. الثاني أن الحكمة إما أن تكون قديمة أو حادثة فإن كان الأول لزم من قدمها قدم موجبها وهو معرفة السببية وإن كان الثاني فلا بد لها من معرف آخر لخفائها والتقسيم في ذلك المعرف عائد بعينه. قلنا معرفة السببية مستندة إلى الخطاب أو إلى الحكمة الملازمة للوصف مع اقتران الحكم بها في صورة فلا تستدعي سبباً آخر يعرفها حتى يلزم الدور أو التسلسل وبما ذكرناه هاهنا يكون دفع إشكال الثاني أيضاً. وأما الوجه الأول من الإشكال الثالث فالوجه في دفعه أن الحكمة المعرفة للسببية ليس مطلق حكمة بل الحكمة المضبوطة بالوصف المقترن بالحكم فلا تكون بمجردها معرفة للحكم فإنها إذا كانت خفية غير مضبوطة بنفسها ولا بملزومها من الوصف فلا يمكن تعريف الحكم بها لعدم الوقوف على ما به التعريف لاضطرابها واختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان وما هذا شأنه فدأب الشارع فيه رد الناس إلى المظان الظاهرة المنضبطة المستلزمة لاحتمال الحكمة دفعاً للعسر والحرج عنهم.

وأما الوجه الثاني منه فالوجه في دفعه أن يقال الحكمة إذا كانت مضبوطة بالوصف فهي معروفة بنفسها غير مفتقرة إلى معرف آخر ولا يلزم من تقدمها على ورود الشرع أن تكون معرفة للسببية لتوقف ذلك على اعتبارها في الشرع ولا اعتبار لها قبل ورود الشرع وإذا عرف معنى السبب شرعاً فلو تخلف الحكم عنه في صورة من الصور فهل تبطل سببيته أم لا فسيأتي الكلام عليه في مسألة تخصيص العلة فيما بعد. الصنف الثاني الحكم على الوصف بكونه مانعاً والمانع منقسم إلى مانع الحكم ومانع السبب أما مانع الحكم فهو كل وصف وجودي ظاهر منضبط مستلزم لحكمة مقتضاها بقاء نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة السبب كالأبوة في باب القصاص مع القتل العمد العدوان وأما مانع السبب فهو كل وصف يخل وجوده بحكمة السبب يقيناً كالدين في باب الزكاة مع ملك النصاب. الصنف الثالث الشرط والشرط ما كان عدمه مخلاً بحكمة السبب فهو شرط السبب كالقدرة على التسليم في باب البيع وما كان عدمه مشتملاً على حكمة مقتضاها نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة السبب فهو شرط الحكم كعدم الطهارة في الصلاة مع الإتيان بمسمى الصلاة والحكم الشرعي في ذلك إنما هو قضاء الشارع على الوصف بكونه مانعاً أو شرطاً لا نفس الوصف المحكوم عليه وقد يرد هاهنا من الإشكالات ما وردت على السبب والوجه في دفعها ما سبق. الصنف الرابع الحكم بالصحة وهي في اللغة مقابل للسقم وهو المرض وأما في الشرع فقد تطلق الصحة على العبادات تارة وعلى عقود المعاملات تارة أما في العبادات فعند المتكلم الصحة عبارة عن موافقة أمر الشارع وجب القضاء أو لم يجب وعند الفقهاء الصحة عبارة عن سقوط القضاء بالفعل فمن صلى وهو يظن أنه متطهر وتبين أنه لم يكن متطهراً فصلاته صحيحة عند المتكلم لموافقة أمر الشارع بالصلاة على حسب حاله وغير صحيحة عند الفقهاء لكونها غير مسقطة للقضاء وأما في عقود المعاملات فمعنى صحة العقد ترتب ثمرته المطلوبة منه عليه ولو قيل للعبادة صحيحة بهذا التفسير فلا حرج ومن فسر صحة العقد بإذن الشارع في الانتفاع بالمعقود عليه فهو فاسد فإن البيع بشرط الخيار صحيح بالإجماع وإن لم يتحقق إذن الشارع بالانتفاع بتقدير الفسخ قبل انقضاء المدة مع أنه لا يطرد هذا التفسير في صحة الصلاة وغيرها من العبادات وإن صح فالنزاع في أمر لفظي ولا بأس بتفسير كون العبادة مجزية بكونها مسقطة لوجوب القضاء وحيث لم تكن متصفة بكونها مجزية عند أدائها مع اختلال شرطها وسقوط القضاء بالموت إنما كان لأنه لم يسقط القضاء بفعلها بل بالموت. الصنف الخامس الحكم بالبطلان وهو نقيض الصحة بكل اعتبار من الاعتبارات السابقة وأما الفاسد فمرادف للباطل عندنا وهو عند أبي حنيفة قسم ثالث مغاير للصحيح والباطل وهو ما كان مشروعاً بأصله ممنوعاً بوصفه كبيع مال الربا بجنسه متفاضلاً ونحوه وسيأتي تحقيق ذلك في المناهي. الصنف السادس العزيمة والرخصة أما العزيمة ففي اللغة الرقية وهي مأخوذة من عقد القلب المؤكد على أمر ما ومنه قوله تعالى: "فنسي ولم نجد له عزماً "طه 115" أي قصداً مؤكداً ومنه سمي بعض الرسل ألو العزم لتأكد قصدهم في إظهار الحق وأما في الشرع فعبارة عما لزم العباد بإلزام الله تعالى كالعبادات الخمس ونحوها. وأما الرخصة في اللغة بتسكين الخاء فعبارة عن التيسير والتسهيل ومنه يقال رخص السعر إذا تيسر وسهل وبفتح الخاء عبارة عن الأخذ بالرخص وأما في الشرع فقد قيل الرخصة ما أبيح فعله مع كونه حراماً وهو تناقض ظاهر وقيل ما رخص فيه مع كونه حراماً وهو مع ما فيه من تعريف الرخصة بالترخيص المشتق من الرخصة غير خارج عن الإباحة فكان في معنى الأول وقال أصحابنا: الرخصة ما جاز فعله لعذر مع قيام السبب المحرم وهو غير جامع فإن الرخصة كما قد تكون بالفعل قد تكون بترك الفعل كإسقاط وجوب صوم رمضان والركعتين من الرباعية في السفر فكان من الواجب أن يقال الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر إلى آخر الحد المذكور حتى يعم النفي والإثبات ثم العذر المرخص لا يخلو إما أن يكون راجحاً على المحرم أو مساوياً أو مرجوحاً فإن كان الأول فموجبه لا يكون رخصة بل عزيمة وإلا كان كل حكم ثبت بدليل راجح مع وجود المعارض المرجوح رخصة وهو خلاف الإجماع وإن كان مساوياً فإن قلنا بتساقط الدليلين المتعارضين من كل وجه والرجوع إلى الأصل فلا يكون ذلك رخصة وإلا كان كل فعل يقيناً فيه على النفي الأصلي قبل ورود الشرع رخصة وهو ممتنع وإن لم نقل بالتساقط فالقائل قائلان: قائل يقول بالوقف عن الحكم بالجواز وعدمه إلى حين ظهور الترجيح وذلك عزيمة لا رخصة وقائل يقول بالتخيير بين الحكم بالجواز والحكم بالتحريم ويلزم من ذلك أن لا يكون أكل الميتة حالة الاضطرار رخصة ضرورة عدم التخيير بين جواز الأكل والتحريم لأن الأكل واجب جزماً وقد قيل بكونه رخصة فلم يبق إلا أن يكون الدليل المحرم راجحاً على المستبيح ويلزم من ذلك العلم بالمرجوح ومخالفة الراجح وهو في غاية الإشكال وإن كان هذا القسم هو الأشبه بالرخصة لما فيها من التيسير والتسهيل بالعمل بالمرجوح ومخالفة الراجح وعلى هذا فإباحة شرب الخمر والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه وإسقاط صوم رمضان والقصر في الرباعية في السفر والتيمم مع وجود الماء للجراحة أو لبعد الماء أو لبيعه بأكثر من ثمن المثل رخصة حقيقة وأكل الميتة حالة الاضطرار وإن كان عزيمة من حيث هو واجب استبقاء للمهجة فرخصة من جهة ما في الميتة من الخبث المحرم وما لم يوجبه الله علينا وإن كان واجباً على من قبلنا فليس رخصة حقيقة وإن سمي رخصة لعدم الدليل المحرم لتركه وكذلك كل حكم ثبت جوازه على خلاف العموم للمخصص لا يكون رخصة لأن المخصص بين لنا أن المتكلم لم يرد باللفظ العام لغة صورة التخصيص فلا يكون إثبات الحكم فيها على خلاف الدليل لأن العموم إنما يكون دليلاً على الحكم في آحاد الصور الداخلة تحت العموم لغة مع إرادة المتكلم لها ومع المخصص فلا إرادة. الأصل الثالث في المحكوم فيه وهو الأفعال المكلف بها وفيه خمس مسائل: المسألة الأولى اختلف قول أبي الحسن الأشعري في جواز التكليف بما لا يطاق نفياً وإثباتاً وذلك كالجمع بين الضدين وقلب الأجناس وإيجاد القديم وإعدامه ونحوه وميله في أكثر أقواله إلى الجواز وهو لازم على أصله في اعتقاد وجوب مقارنة القدرة الحادثة للمقدور بها مع تقدم التكليف بالفعل على الفعل وأن القدرة الحادثة غير مؤثرة في مقدورها بل مقدورها مخلوق لله تعالى. ولا يخفى أن التكليف بفعل الغير حالة عدم القدرة عليه تكليف بما لا يطاق وهذا هو مذهب أكثر أصحابه وبعض معتزلة بغداد حيث قالوا بجواز تكليف العبد بفعل في وقت علم الله تعالى أنه يكون ممنوعاً عنه والبكرية حيث زعموا أن الختم والطبع على الأفئدة مانعان من الإيمان مع التكليف به غير أن من قال بجواز ذلك من أصحابه اختلفوا في وقوعه نفياً وإثباتاً ووافقه على القول بالنفي بعض الأصحاب وهو مذهب البصريين من المعتزلة وأكثر البغداديين وأجمع الكل على جواز التكليف بما علم الله أنه لا يكون عقلاً وعلى وقوعه شرعاً كالتكليف بالإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن كأبي جهل خلافاً لبعض الثنوية. والمختار إنما هو امتناع التكليف بالمستحيل لذاته كالجمع بين الضدين ونحوه وجوازه في المستحيل باعتبار غيره وإليه ميل الغزالي رحمه الله. ولنفرض الكلام في الطرفين أما الطرف الأول وهو امتناع التكليف بالمستحيل لذاته فيدل عليه أن التكليف طلب ما فيه كلفة والطلب يستدعي مطلوباً متصوراً في نفس الطالب فإن طلب ما لا تصور له في النفس محال والمستحيل لذاته كالجمع بين الضدين والنفي والإثبات معاً في شيء واحد ونحوه لا تصور له في النفس ولو تصور في النفس لما كان وقوعه في الخارج ممتنعاً لذاته وكما يمتنع التكليف بالجمع بين الضدين في طرف الوجود فكذلك يمتنع التكليف بالجمع بين الضدين طرف السلب إذا لم يكن بينهما واسطة كالتكليف بسلب الحركة والسكون معاً في شيء واحد لاستحالة ذلك لذاتيهما وعلى هذا فمن توسط مزرعة مغصوبة فلا يقال له: لا تمكث ولا تخرج كما ذهب إليه أبو هاشم وإن كان في كل واحد من المكث والخروج إفساد زرع الغير بل يتعين التكليف بالخروج لما فيه من تقليل الضرر وتكثيره في المكث كما يكلف المولج في الفرج الحرام بالنزع وإن كان به ماساً للفرج المحرم لأن ارتكاب أدنى الضررين يصير واجباً نظراً إلى رفع أعلاهما كإيجاب شرب الخمر من غص بلقمة ونحوه ووجوب الضمان عليه بما يفسده عند الخروج لا يدل على حرمة الخروج كما يجب الضمان على المضطر في المخمصة بما يتلفه بالأكل وإن كان الأكل واجباً وإن قدر انتفاء الترجيح بين الطرفين وذلك كما إذا سقط إنسان من شاهق على صدر صبي محفوف بصبيان وهو يعلم أنه إن استمر قتل من تحته وإن انتقل قتل من يليه فيمكن أن يقال بالتخيير بينهما أو يخلو مثل هذه الواقعة عن حكم الشارع وهو أولى من تكليفه طلب ما لا تصور له في نفس الطالب على ما حققناه. وهذا بخلاف ما إذا كان محالاً باعتبار غيره فإنه يكون ممكناً باعتبار ذاته فكان متصوراً في نفس الطالب وهو واضح لا غبار عليه. فإن قيل: ما ذكرتموه من إحالة طلب الجمع بين الضدين بناء على عدم تصوره في نفس الطالب غير صحيح وذلك لأنه لو لم يكن متصوراً في نفس الطالب لما علم إحالته فإن العلم بصفة الشيء فرع تصور ذلك الشيء واللازم ممتنع وإن سلم دلالة ما ذكرتموه إلا أنه معارض بما يدل على جواز التكليف بالجمع بين الضدين ووقوعه شرعاً وبيانه قوله تعالى لنوح "إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن" "هود 36" أخبر أنه لا يؤمن غير من لم يؤمن مع أنهم كانوا مكلفين بتصديقه فيما يخبر به ومن ضرورة ذلك تكليفهم بأن لا يصدقوه تصديقاً له في خبره أنهم لا يؤمنون وأيضاً فإن الله تعالى كلف أبا لهب بتصديق النبي عليه السلام في أخباره ومن أخبار النبي عليه السلام أن أبا لهب لا يصدقه لإخبار الله تعالى لنبيه بذلك فقد كلفه بتصديقه في إخباره بعدم تصديقه له وفي ذلك تكليفه بتصديقه وعدم تصديقه وهو تكليف بالجمع بين الضدين. قلنا: أما الإشكال الأول فمندفع وذلك لأن الجمع المعلوم المتصور المحكوم بنفيه عن الضدين إنما هو الجمع المعلوم بين المختلفات التي ليست متضادة ولا يلزم من تصوره منفياً عن الضدين تصوره ثابتاً لهما وهو دقيق فليتأمل وما ذكروه من المعارضة فلا نسلم وجود الإخبار بعدم الإيمان في الآيتين مطلقاً. أما في قصة أبي لهب فغاية ما ورد فيه قوله تعالى "سيصلى ناراً ذات لهب" "المسد 3" وليس في ذلك ما يدل على الإخبار بعدم تصديقه للنبي مطلقاً فإنه لا يمتنع تعذيب المؤمن وبتقدير امتناع ذلك أمكن حمل قوله تعالى "سيصلى نارا ذات لهب" على تقدير عدم إيمانه وكذلك التأويل في قوله تعالى "إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن" "هود 36" أي بتقدير عدم هداية الله تعالى لهم إلى ذلك وذلك لا يدل على الإخبار بعدم الإيمان مطلقاً وإن سلمنا ذلك ولكن لا نسلم أنهم كلفوا بتصديق النبي عليه السلام فيما أخبر من عدم تصديقهم بتكذيبه وهذا مما اتفق عليه نفاة التكليف بالجمع بين الضدين.

وأما الطرف الثاني وهو بيان جواز التكليف بالمستحيل لغيره فقد احتج الأصحاب عليه بالنص والمعقول: أما النص فقوله تعالى: "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" "البقرة 286" سألوا دفع التكليف بما لا يطاق ولو كان ذلك ممتنعاً لكان مندفعاً بنفسه ولم يكن إلى سؤال دفعه عنهم حاجة فإن قيل إنما يمكن حمل الآية على سؤال دفع ما لا يطاق أن لو كان ذلك ممكناً وإلا لتعذر السؤال بدفع ما لا إمكان لوقوعه كما ذكرتموه وإمكانه متوقف على كون الآية ظاهرة فيه فيكون دوراً سلمنا كونها ظاهرة فيما ذكرتموه ولكن أمكن تأويلها بالحمل على سؤال دفع ما فيه مشقة على النفس وإن كان مما يطاق ويجب الحمل عليه لموافقته لما سنذكره من الدليل بعد هذا سلمنا إرادة دفع ما لا يطاق لكنه حكاية حال الداعين ولا حجة فيه سلمنا صحة الاحتجاج بقول الداعين لكن لا يخلو إما أن يقال بأن جميع التكاليف غير مطاقة أو البعض دون البعض الأول يوجب إبطال فائدة تخصيصهم بذكر ما لا يطاق بل كان الواجب أن يقال لا يكلفنا وإن كان الثاني فهو خلاف أصلكم سلمنا دلالة ما ذكرتموه لكنه معارض بقوله تعالى "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" "البقرة 286" وهو صريح في الباب وقوله تعالى "وما جعل عليكم في الدين من حرج" "الحج 78" ولا حرج أشد من التكليف بما لا يطاق. والجواب عن السؤال الأول: أن الآية بوضعها ظاهرة فيما لا يطاق فيجب تقدير إمكان التكليف به ضرورة حمل الآية على ما هي ظاهرة فيه حذراً من التأويل من غير دليل وعن الثاني أنه ترك الظاهر من غير دليل. وعن الثالث أن الآية إنما وردت في معرض التقرير لهم والحث على مثل هذه الدعوات فكان الاحتجاج بذلك لا بقولهم. وعن الرابع أنه وإن كان كل تكليف عندنا تكليفاً بما لا يطاق غير أنه يجب تنزيل السؤال على ما لا يطاق وهو ما يتعذر الإتيان به مطلقاً في عرفهم دون ما لا يتعذر لما فيه من إجراء اللفظ على حقيقته وموافقة أهل العرف في عرفهم غايته إخراج ما لا يطاق مما هو مستحيل في نفسه لذاته من عموم الآية لما ذكرنا من استحالة التكليف به وامتناع سؤال الدفع للتكليف بما لا تكليف به ولا يخفى أنه تخصيص والتخصيص أولى من التأويل وعن المعارضة بالآيتين أن غايتهما الدلالة على نفي وقوع التكليف بما لا يطاق ولا يلزم من ذلك نفي الجواز المدلول عليه من جانبنا كيف وإن الترجيح لما ذكرناه من الآية لاعتضادها بالدليل العقلي على ما يأتي ومع ذلك فلا خروج لها عن الظن والتخمين وربما احتج بعض الأصحاب بقوله تعالى "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون" "القلم 42" وهو تكليف بالسجود مع عدم الاستطاعة وإنما يصح الاحتجاج به أن لو أمكن أن يكون الدعاء في الآخرة بمعنى التكليف وليس كذلك للإجماع على أن الدار الآخرة إنما هي دار مجازاة لا دار تكليف. وأما من جهة المعقول فقد احتج فيه بعضهم بحجج واهية: الأولى منها: هو أن الفعل المكلف به إن كان مع استواء داعي العبد إلى الفعل والترك كان الفعل ممتنعاً لامتناع حصول الرجحان معه وإن كان مع الترجيح لأحد الطرفين كان الراجح واجباً والمرجوح ممتنعاً والتكليف بهما يكون محالاً. الثانية: أن الفعل الصادر من العبد إما أن يكون العبد متمكناً من فعله وتركه أو لا يكون فإن لم يكن متمكناً منه فالتكليف له بالفعل يكون تكليفاً بما لا يطاق وإن كان متمكناً منه فإما أن لا يتوقف ترجح فعله على تركه على مرجح أو يتوقف الأول محال وإلا كان كل موجود حادثاً هكذا ويلزم منه سد باب إثبات واجب الوجود وإن توقف فذلك المرجح إن كان من فعل العبد عاد التقسيم وهو تسلسل ممتنع وإن كان من فعل غيره فإما أن يجب وقوع الفعل أو لا يجب وإذا لم يجب كان ممتنعاً أو جائزاً والأول محال وإلا كان المرجح مانعاً وإن كان الثاني عاد التقسيم بعينه وهو ممتنع فلم يبق سوى الوجوب والعبد إذ ذاك يكون مجبوراً لا مخيراً وهو عين التكليف بما لا يطاق. الثالثة: أن قدرة العبد غير مؤثرة في فعله وإلا كانت مؤثرة فيه حال وجوده وفيه إيجاد الموجود أو قبل وجوده ويلزم من ذلك أن يكون تأثير القدرة في المقدور مغايراً له لتحقق التأثير في الزمن الأول دونه والكلام في ذلك التأثير وتأثير مؤثره فيه كالأول وهو تسلسل ممتنع والقدرة غير مؤثرة في الفعل وهو المطلوب.

الرابعة: أن العبد مكلف بالفعل قبل وجود الفعل والقدرة غير موجودة قبل الفعل لأنها لو وجدت لكان لها متعلق ومتعلقها لا يكون عدماً لأنه نفي محض فلا يكون أثراً لها فكان وجوداً ولزم من ذلك أن تكون موجودة مع الفعل لا قبله. الخامسة: أن العبد مأمور بالنظر لقوله تعالى "قل انظروا" "يونس 101" والنظر متوقف على القضايا الضرورية قطعاً للتسلسل وهي متوقفة على تصور مفرداتها وهي غير مقدورة التحصيل لأنه إن كان عالماً بها فتحصيل الحاصل محال وإن لم يكن عالماً بها فطلبها محال فالنظر يكون ممتنع التحصيل وهذه الحجج ضعيفة جداً. أما الحجة الأولى فلقائل أن يقول: ما المانع أن يكون وجود الفعل مع رجحان الداعي إلى الفعل قوله لأنه صار الفعل واجباً قلنا صار واجباً بالداعي إليه والاختيار له أو لذاته الأول مسلم والثاني ممنوع وعلى هذا خرج العبد عن كونه مكلفاً بما لا يطاق ثم يلزم عليه أن تكون أفعال الرب تعالى غير مقدورة بعين ما ذكروه وهو ممتنع فما هو الجواب عن أفعال الله يكون مشتركاً. وأما الثانية فهي بعينها أيضاً لازمة على أفعال الله إذ أمكن أن يقال فعل الله إما أن لا يكون متمكناً منه أو يكون وهو إما أن يفتقر إلى مرجح أو لا وإن افتقر إلى مرجح فإن كان من فعله عاد التقسيم وإن لم يكن من فعله فإما أن يجب وقوع الفعل معه أو لا يجب وهلم جراً إلى آخره والجواب يكون مشتركاً وكذلك الثالثة أيضاً لازمة على أفعال الله مع أنها مقدورة له إجماعاً. وأما الرابعة: فيلزم منها أن تكون قدرة الرب تعالى حادثة موجودة مع فعله لا قبله وهو مع إحالته فقائل هذه الطريقة غير قائل به وبيان ذلك أنه أمكن أن يقال لو وجدت قدرة الرب قبل وجود فعله لكان لها متعلق وليس متعلقها العدم فلم يبق غير الوجود ويلزم أن لا يكون قبل الفعل بعين ما ذكروه. وأما الخامسة: فأشد ضعفاً مما قبلها إذ هي مبنية على امتناع اكتساب التصورات وقد أبطلناه في كتاب دقائق الحقائق إبطالاً لا ريبة فيه بما لا يحتمله هذا الكتاب فعلى الناظر بمراجعته وبتقدير أن لا تكون التصورات مكتسبة فالعلم بها يكون حاصلاً بالضرورة والتكليف بالنظر المستند إلى ما ينقطع التسلسل عنده من المعلومات الضرورية لا يكون تكليفاً بما لا يطاق وهو معلوم بالضرورة والمعتمد في ذلك مسلكان: المسلك الأول أن العبد غير خالق لفعله فكان مكلفاً بفعل غيره وهو تكليف بما لا يطاق وبيان أنه غير خالق لفعله أنه لو كان خالقاً لفعله فليس خالقا له بالذات والطبع إجماعاً بل بالاختيار والخالق بالاختيار لا بد وأن يكون مخصصاً لمخلوقه بالإرادة ويلزم من كونه مريداً له أن يكون عالماً به ضرورة والعبد غير عالم بجميع أجزاء حركاته في جميع حالاته ولا سيما في حالة إسراعه فلا يكون خالقاً لها. المسلك الثاني إن إجماع السلف منعقد قبل وجود المخالفين من الثنوية على أن الله تعالى مكلف بالإيمان لمن علم أنه لا يؤمن كمن مات على كفره وهو تكليف بما يستحيل وقوعه لأنه لو وقع لزم أن يكون علم الباري تعالى جهلاً وهو محال. فإن قيل: أما المسلك الأول وإن سلمنا أن العبد لا بد وأن يكون عالماً بما يخلقه من أفعاله لكن من جهة الجملة أو من جهة التفصيل الأول لا سبيل إلى نفيه والثاني ممنوع وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن العبد غير خالق لفعله لكنه معارض بما يدل على خلقه له ودليله المعقول والمنقول: أما المعقول فهو أن قدرة العبد ثابتة بالإجماع منا ومنكم على فعله فلو لم تكن هي المؤثرة فيه لانتفى الفرق بين المقدور وغيره وكان المؤثر فيه غير العبد ويلزم منه وجود مقدور بين قادرين ولما وقع الاختلاف بين القوي والضعيف ولجاز أن يكون متعلقه بالجواهر والألوان كما في العلم ولكان العبد مضطراً بما خلف فيه من الفعل لا مختاراً ولجاز أن يصدر عن العبد أفعال محكمة بديعة وهو لا يشعر بها ولما انقسم فعله إلى طاعة ومعصية لأنه ليس من فعله ولكان الرب تعالى أضر على العبد من إبليس حيث إنه خلق فيه الكفر وعاقبه عليه وإبليس داع لا غير ولما حسن شكر العبد ولا ذمه على أفعاله ولا أمره ولا نهيه ولا عقابه ولا ثوابه ولكان الرب تعالى آمراً للعبد بفعل نفسه وهو قبيح معدود عند العقلاء من الجهل والحمق ولكان الكفر والإيمان من قضاء الله تعالى وقدره وهو إما أن يكون حقاً أو باطلاً فإن كان حقاً فالكفر حق وإن كان باطلاً فالإيمان باطل ولكان الرب تعالى إما راضياً به أو غير راض والأول يلزم منه الرضى بالكفر والثاني يلزم منه عدم الرضى بالإيمان والكل محال مخالف للإجماع. وأما النقل فقوله تعالى "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً" "طه 82" وقوله تعالى "أم حسب الذين اجترحوا السيئات" "الجاثية 21" وقول النبي عليه السلام "اعملوا وقاربوا وسددوا" وقوله عليه السلام: "نية المؤمن خير من عمله" إلى غير ذلك من النصوص الدالة على نسبة العمل إلى العبد والعقلاء متوافقون على إطلاق إضافة الفعل إلى العبد بقولهم: فلان فعل كذا وكذا والأصل في الإطلاق الحقيقة. وأما المسلك الثاني فهو أن تعلق علم الباري تعالى بالفعل أو بعدمه إما أن يكون موجباً لوجود ما علم وجوده وامتناع وجود ما علم عدمه أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فليزمه محالات وهو أن يكون العلم هو القدرة أو أن يستغنى به عن القدرة ولا يكون الرب قادراً على إيجاد شيء أو عدمه وأن لا يكون للرب اختيار ولا للعبد في وجود فعل من الأفعال لكونه واجباً بالعلم أو ممتنعاً وإن لم يكن موجباً للوجود ولا للعدم فقد بطل الاستدلال وإن سلم ذلك لكنه معارض بما سبق من الأدلة العقلية والنقلية. والجواب عما ذكروه أولاً على المسلك الأول بأن الفعل المخلوق للعبد بتقدير خلقه له مخلوق بجميع أجزائه وكل جزء منه مخلوق له بانفراده فيجب أن يكون عالماً به لما سبق وهذا هو العلم بالتفصيل وهو غير عالم لما حققناه وعما ذكروه من لإلزام الأول بمنع عدم الفرق بين المقدور وغيره. وعن الثاني: أنه إنما يمتنع وجود مقدور بين قادرين خالقين أو مكتسبين أما بين خالق مكتسب فهو غير مسلم. وعن الثالث: بأن الاختلاف بين القوي والضعيف إنما هو واقع في كثرة ما يخلقه الله تعالى من القدر على المقدورات في أحد الشخصين دون الآخر لا في التأثير. وعن الرابع أنه إنما يلزم أن لو كان تعلق العلم بالجواهر والأعراض من جهة كونه غير مؤثر فيها وهو غير مسلم. وعن الخامس أنه إنما يلزم أن يكون العبد مضطراً أن لو لم يكن فعله مكتسباً له ومقدوراً ولا يلزم من عدم التأثير عدم الاكتساب. وعن السادس أنه لا مانع من تلازم القدرة على الشيء والعلم به. وعن السابع أنه لا معنى لانقسام فعل العبد إلى الطاعة والمعصية غير كونه مأموراً بهذا ومنهياً عن هذا لكسبه وهو كذلك. وعن الثامن أنه لازم على أصلهم أيضاً فإن التمكن من الكفر بخلق القدرة عليه أضر من الدعاء إليه وقد فعل الله تعالى ذلك بالعبد فما هو جواب لهم هو جوابنا. وعما ذكروه من الأمر والنهي والشكر والذم والثواب والعقاب والأمر للعبد بما هو من فعل الله تعالى بالمنع من تقبيح ذلك بتقدير أن يكون قادراً غير مؤثر كيف وإنه مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه. وعن الإلزام بالقضاء والقدر أن القضاء قد يطلق بمعنى الإعلام والأمر والاختراع وانقضاء الأجل وإلزام الحكم وتوفية الحقوق والإرادة لغة وعلى هذا فالإيمان من قضائه بجميع هذه الاعتبارات وهو حق وأما الكفر فليس من قضائه بمعنى كونه مأموراً بل بمعنى خلقه وإرادة وقوعه وهو حق من هذا الوجه أيضاً وعن الإلزام بالرضى أنه راض بالإيمان وغير راض بالكفر.

وعن المنقول بأن ما ذكروه غايته إضافة إلى العبد حقيقية ونحن نقول به فإن الفاعل عندنا على الحقيقة هو من وقع الفعل مقدوراً له وهو أعم من الموجد. والجواب عما ذكروه في المسلك الثاني بأن تعلق العلم بوجود الفعل بملازمة الوجود المقدور فإنه إنما يعلم وجوده مقدوراً لا غير مقدور وكذلك في العدم وعلى هذا فلا يلزم منه عدم القدرة في حق الله تعالى ولا سلب اختياره في فعله وكذلك العبيد فإنه إنما علم وقوع فعل العبد مقدوراً للعبد والمعارضات فقد سبق الجواب عنها. المسألة الثانية مذهب الجمهور من أصحابنا ومن المعتزلة أنه لا يشترط في التكليف بالفعل أن يكون شرطه حاصلاً حالة التكليف بل لا مانع من ورود التكليف بالمشروط وتقديم شرطه عليه وهو جائز عقلاً وواقع سمعاً خلافاً لأكثر أصحاب الرأي وأبي حامد الأسفرائيني من أصحابنا وذلك كتكليف الكفار بفروع الإسلام حالة كفرهم. ودليل الجواز العقلي أنه لو خاطب الشارع الكافر المتمكن من فهم الخطاب وقال له: أوجبت عليك العبادات الخمس المشروط صحتها بالإيمان وأوجبت عليك الإتيان بالإيمان مقدماً عليها لم يلزم منه لذاته محال عقلاً ولا معنى للجواز العقلي سوى هذا. فإن قيل: التكليف بالفروع المشروطة بالإيمان إما أن تكون حالة وجود الإيمان أو حالة عدم فإن كان الأول فلا تكليف قبل الإيمان وهو المطلوب وإن كان حالة عدمه فهو تكليف بما هو غير جائز عقلاً وأيضاً فإن التكليف بالفروع غير ممكن الامتثال لاستحالة أدائها حالة الكفر وامتناع أدائها بعد الإيمان لكونه مسقطاً لها بالإجماع وما لا يمكن امتثاله فالتكليف به تكليف بما لا يطاق ولم يقل به قائل في هذه المسألة. قلنا: أما الإشكال الأول فإنما يلزم منه التكليف بما لا يطاق بتقدير تكليفه بالفروع حالة الكفر إن لو كان تكليفه بمعنى إلزامه الإتيان بها مع الكفر وليس كذلك بل بمعنى أنه لو أصر على الكفر حتى مات ولم يأت بها مع الإيمان فإنه يعاقب في الدار الآخرة ولا إحالة فيه وبهذا الحرف يندفع ما ذكروه من الإشكال الثاني أيضاً كيف وإن الامتثال بعد الإسلام غير ممتنع غير أن الشارع أسقطه ترغيباً في الدخول في الإسلام بقوله عليه السلام "الإسلام يجب ما قبله" وهذا بخلاف المرتد حيث إنه أوجب عليه فعل ما فاته في حال ردته ليكون ذلك مانعاً من الردة. وأما الوقوع شرعاً فيدل عليه النص والحكم أما النص فمن وجوه: الأول قوله تعالى "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين" "البينة 1" إلى قوله تعالى "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" "البينة 5" والضمير في قوله وما أمروا عائد إلى المذكورين أولاً وهو صريح في الباب وأيضاً قوله تعالى "فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى" "القيامة" ذم على ترك الجميع ولو لم يكن مكلفاً بالكل لما ذم عليه وأيضاً قوله تعالى "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاماً يضاعف له العذاب يوم القيمة" "الفرقان 68" حكم بمضاعفة العذاب على مجموع المذكور والزنى من جملته ولولا أنه محرم عليه ومنهي عنه لما أثمه به وهذا حجة على من نفى التكليف بالأمر والنهي دون من جوز التكليف بالنهي دون الأمر وأيضاً قوله تعالى "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً" "آل عمران 97" والكافر داخل فيه لكونه من الناس وأيضاً قوله تعالى: "فويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة" "فصلت 7" لكن قال المفسرون: المراد بالزكاة في هذه الآية إنما هو قول "لا إله إلا الله" "الصافات 35" وأيضاً قوله تعالى "ما سلككم في سقر" قالوا: لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين" "المدثر 42 - 43" ولو لم يكونوا قد كلفوا بالصلاة لما عوقبوا عليها.

فإن قيل: هذه حكاية قول الكفار ولا حجة فيها وإن كانت حجة لكن أمكن أن يكون المراد من قولهم "لم نك من المصلين" أي من المؤمنين ومنه قوله عليه السلام "نهيت عن قتل المصلين" وأراد به المؤمنين وإن كان المراد الصلاة الشرعية حقيقة غير أن العذاب إنما كان لتكذيبهم بيوم الدين غير أن غلظ بإضافة ترك الطاعات إليه وأنه كان ذلك مضافاً إلى الصلاة لكن لا إلى تركها بل إلى إخراجهم أنفسهم عن العلم بقبح تركها بترك الإيمان وإن كان ذلك على ترك الصلاة لكن أمكن أن يكون ذلك إخباراً عن جماعة من المرتدين تركوا الصلاة حالة ردتهم وذلك محل الوفاق. والجواب عن قولهم إنه حكاية قول الكفار أن علماء الأمة من السلف وغيرهم أجمعوا على أن المراد بذلك إنما هو تصديقهم فيما قالوه والتحذير لغيرهم من ذلك ويدل على ذلك تعذيبهم بالتكذيب بيوم الدين وقد عطف على ما قبله والأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في أصل الحكم. وعن حمل لفظ المصلين على المؤمنين أنه ترك للظاهر من غير دليل وإن أمكن تأويل لفظ الصلاة فبماذا نتأول قوله "ولم نك نطعم المسكين" "المدثر 43" فإن المراد به إنما هو الإطعام الواجب لاستحالة التعذيب على ترك إطعام ليس بواجب. وعن قولهم بتغليظ عذاب التكذيب بإضافة ترك الطاعات إليه إنها لو كانت مباحة لما غلظ العذاب بها. وعن قولهم بالتعذيب بإخراج أنفسهم عن العلم بقبح ترك الصلاة أنه ترك للظاهر من غير دليل وأنه يوجب التسوية بين كافر ارتكب جميع المحرمات وبين من لم يباشر شيئاً منها لاستوائهما فيما قيل وهو خلاف الإجماع. وعن الحمل على صلاة المرتدين أن الآية بلفظها عامة في كل المجرمين المذكورين في قوله "يتساءلون عن المجرمين" "المدثر 40" وهو عام في المرتدين وغيرهم فلا يجوز تخصيصها من غير دليل. هذا من جهة النصوص وأما من جهة الإلزام فهو أنه لو امتنع التكليف بالفعل مع عدم شرط الفعل لامتنع التكليف بالصلاة مع عدم الطهارة ولكان من ترك الطهارة والصلاة أبداً لا يعاقب ولا يذم إلا على ترك الطهارة بل ما لا تتم الطهارة إلا به وذلك خلاف إجماع الأمة. المسألة الثالثة اتفق أكثر المتكلمين على أن التكليف لا يتعلق إلا بما هو من كسب العبد من الفعل وكف النفس عن الفعل فإنه فعل خلافاً لأبي هاشم في قوله: إن التكليف قد يكون بأن لا يفعل العبد مع قطع النظر عن التلبس بضد الفعل وذلك ليس بفعل. احتج المتكلمون بأن ممتثل التكليف مطيع والطاعة حسنة والحسنة مستلزمة للثواب على ما قال تعالى "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" "الأنعام 160" وقال تعالى: "ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى" "النجم 31" ولا فعل عدم محض وليس بشيء وما ليس بشيء لا يكون من كسب العبد ولا متعلق القدرة وما لا يكون من كسب العبد لا يكون مثاباً عليه لقوله تعالى "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" "النجم 39". فإن قيل: عدم الفعل وإن لم يكن أمراً وجودياً ولا ذاتاً ثابتة فإنما يمتنع التكليف به ويمتنع أن يكون الامتثال به طاعة وحسنة مثاباً عليها أن لو لم يكن مقدوراً للعبد ومكتسباً له وهو غير مسلم كما قاله القاضي أبو بكر في أحد قوليه قال المتكلمون عدم الفعل من حيث هو كذلك متحقق قبل قدرة العبد وهو غير مقدور للعبد قبل خلق قدرته وهو مستمر إلى ما بعد خلق القدرة فلا يكون مقدوراً للعبد ولا مكتسباً له ويلزم من ذلك امتناع التكليف به على ما تقرر إلا أن للخصم أن يقول: لا يلزم من كون عدم الفعل السابق على خلق القدرة غير مقدور أن يكون المقارن منه للقدرة غير مقدور. المسألة الرابعة اتفق الناس على جواز التكليف بالفعل قبل حدوثه سوى شذوذ من أصحابنا وعلى امتناعه بعد حدوث الفعل واختلفوا في جواز تعلقه به في أول زمان حدوثه فأثبته أصحابنا ونفاه المعتزلة. احتج أصحابنا بأن الفعل في أول زمان حدوثه مقدور بالاتفاق وسواء قيل بتقدم القدرة عليه كما هو مذهب المعتزلة أم بوجودها مع وجوده كما هو مذهب أصحابنا وإذا كان مقدوراً أمكن تعلق التكليف به. فإن قيل: القول بجواز تعلق التكليف به في أول زمان حدوثه يلزم منه الأمر بإيجاد الموجود وهو محال.

قلنا يلزم منه الأمر بإيجاد ما كان موجوداً أو بما لم يكن موجوداً الأول ممنوع والثاني فدعوى إحالته نفس محل النزاع ثم يلزمهم من ذلك أن لا يكون الفعل في أول زمان حدوثه أثراً للقدرة القديمة ولا للحادثة على اختلاف المذهبين ولا موجدة له لما فيه من إيجاد الموجود وهو محال فما هو جوابهم في إيجاد القدرة له فهو جوابنا في تعلق الأمر به. المسألة الخامسة اختلف أصحابنا والمعتزلة في جواز دخول النيابة فيما كلف به من الأفعال البدنية: فأثبته أصحابنا ونفاه المعتزلة. حجة أصحابنا على ذلك أنه لو قال القائل لغيره أوجبت عليك خياطة هذا الثوب فإن خطته أو استنبت في خياطته أثبتك وإن تركت الأمرين عاقبتك كان معقولاً غير مردود وما كان كذلك فوروده من الشارع لا يكون ممتنعاً ويدل على وقوعه ما روي عن النبي عليه السلام أنه رأى شخصاً يحرم بالحج عن شبرمة فقال له النبي عليه السلام "أحججت عن نفسك" فقال: لا فقال له "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" وهو صريح فيما نحن فيه. فإن قيل: وجوب العبادات البدنية إنما كان ابتلاء وامتحاناً من الله تعالى للعبد فإنه مطلوب للشارع لما فيه من كسر النفس الأمارة بالسوء وقهرها لكونها عدوة لله تعالى على ما قال: عليه السلام حكاية عن ربه "عاد نفسك فإنها انتصبت لمعاداتي" تحصيلاً للثواب على ذلك وذلك مما لا مدخل للنيابة فيه كما لا مدخل لها في باقي الصفات من الآلام واللذات ونحوها. قلنا: أما الابتلاء والامتحان بالتكليف لما ذكروه وإن كان مع تعيين المكلف لأداء ما كلف به أشق مما كلف به مع تسويغ النيابة فيه فليس في ذلك مما يرفع أصل الكلفة والامتحان فيما سوغ له فيه الاستنابة فإن المشقة لازمة له بتقدير الإتيان به بنفسه وهو الغالب وبما يبذله من العوض للنائب بتقدير النيابة ويلتزمه من المنة بتقدير عدم العوض وليس المراعي في باب التكاليف أشقها وأعلاها رتبة ولذلك كانت متفاوتة وأما الثواب والعقاب فليس مما يجب على الله تعالى في مقابلة الفعل بل إن أثاب فبفضله وإن عاقب فبعدله كما عرف من أصلنا بل له أن يثيب العاصي ويعاقب الطائع. الأصل الرابع في المحكوم عليه وهو المكلف وفيه خمس مسائل: المسألة الأولى اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلاً فاهماً للتكليف لأن التكليف خطاب وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة ومن وجد له أصل الفهم لأصل الخطاب دون تفاصيله من كونه أمراً ونهياً ومقتضياً للثواب والعقاب ومن كون الآمر به هو الله تعالى وأنه واجب الطاعة وكون المأمور به على صفة كذا وكذا كالمجنون والصبي الذي لا يميز فهو بالنظر إلى فهم التفاصيل كالجماد والبهيمة بالنظر إلى فهم أصل الخطاب ويتعذر تكليفه أيضاً إلا على رأي من يجوز التكليف بما لا يطاق لأن المقصود من التكليف كما يتوقف على فهم أصل الخطاب فهو متوقف على فهم تفاصيله وأما الصبي المميز وإن كان يفهم ما لا يفهمه غير المميز غير أنه أيضاً غير فاهم على الكمال ما يعرفه كامل العقل من وجود الله تعالى وكونه متكلماً مخاطباً مكلفاً بالعبادة ومن وجود الرسول الصادق المبلغ عن الله تعالى وغير ذلك مما يتوقف عليه مقصود التكليف فنسبته إلى غير المميز كنسبة غير المميز إلى البهيمة فيما يتعلق بفوات شرط التكليف وإن كان مقارباً لحالة البلوغ بحيث لم يبق بينه وبين البلوغ سوى لحظة واحدة فإنه وإن كان فهمه كفهمه الموجب لتكليفه بعد لحظة غير أنه لما كان العقل والفهم فيه خفياً وظهوره فيه على التدريج ولم يكن له ضابط يعرف به جعل له الشارع ضابطاً وهو البلوغ وحط عنه التكليف قبله تخفيفاً عليه ودليله قوله عليه السلام "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". فإن قيل: إذا كان الصبي والمجنون غير مكلف فكيف وجبت عليهما الزكاة والنفقات والضمانات وكيف أمر الصبي المميز بالصلاة. قلنا: هذه الواجبات ليست متعلقة بفعل الصبي والمجنون بل بماله أو بذمته فإنه أهل للذمة بإنسانيته المتهيئ بها لقبول فهم الخطاب عند البلوغ بخلاف البهيمة والمتولي لأدائها الولي عنهما أو هما بعد الإفاقة والبلوغ وليس ذلك من باب التكليف في شيء. وأما الأمر بصلاة المميز فليس من جهة الشارع وإنما هو من جهة الولي لقوله عليه السلام "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع" وذلك لأنه يعرف الولي ويفهم خطابه بخلاف خطاب الشارع على ما تقدم. وعلى هذا فالغافل عما كلف به والسكران المتخبط لا يكون خطابه وتكليفه في حالة غفلته وسكره أيضاً إذ هو في تلك الحالة أسوأ حالاً من الصبي المميز فيما يرجع إلى فهم خطاب الشارع وحصول مقصوده منه وما يجب عليه من الغرامات والضمانات بفعله في تلك الحال فتخريجه كما سبق في الصبي والمجنون ونفوذ طلاق السكران ففيه منع خطاب الوضع والإخبار وإن نفذ فليس من باب التكليف في شيء بل من باب ما ثبت بخطاب الوضع والإخبار يجعل تلفظه بالطلاق علامة على نفوذه كما جعل زوال الشمس وطلوع الهلال علامة على وجوب الصلاة والصوم وكذلك الحكم في وجوب الحد عليه بالقتل والزنا وغيره. وقوله تعالى "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" "النساء 43" وإن كان من باب خطاب التكليف بنهي السكران فليس المقصود منه النهي عن الصلاة حالة السكر بل النهي عن السكر في وقت إرادة الصلاة وتقديره: إذا أردتم الصلاة فلا تسكروا كما يقال لمن أراد التهجد: لا تقرب التهجد وأنت شبعان أي لا تشبع إذا أردت التهجد حتى لا يشتغل عليك التهجد وهو وإن دل بمفهومه على عدم النهي عن السكر في غير وقت الصلاة فغير مانع لورود النهي عن ذلك في ابتداء الإسلام حيت لم يكن الشرب حراماً وإن كان وروده بعد التحريم وفي حالة السكر لكن يجب حمل لفظ السكران في الآية على من دب الخمر في شؤونه وكان ثملاً نشواناً وأصل عقله ثابت لأن ذلك مما يؤول إلى السكر غالباً والتعبير عن الشيء باسم ما يؤول إليه يكون تجوزاً كما في قوله تعالى "إنك ميت وإنهم ميتون" "الزمر 30" وقوله تعالى "حتى تعلموا ما تقولون" "النساء 43" فيجب حمله على كمال التثبت على ما يقال إذ هو غير ثابت حالة الانتشاء وإن كان العقل والفهم حاصلاً وذلك كما يقال لمن أراد فعل أمر وهو غضبان: لا تفعل حتى تعلم ما تفعل أي حتى يزول عنك الغضب المانع من التثبت على ما تفعل وإن كان عقله وفهمه حاصلاً ويجب المصير إلى هذه التأويلات جمعاً بين هذه الآية وما ذكرناه من الدليل المانع من التكليف. المسألة الثانية مذهب أصحابنا جواز تكليف المعدوم وربما أشكل فهم ذلك مع إحالتنا لتكليف الصبي والمجنون والغافل والسكران لعدم الفهم للتكاليف والمعدوم أسوأ حالاً من هؤلاء في هذا المعنى لوجود أصل الفهم في حقهم وعدمه بالكلية في حق المعدوم حتى أنكر ذلك جميع الطوائف وكشف الغطاء عن ذلك أنا لا نقول بكون المعدوم مكلفاً بالإتيان بالفعل حالة عدمه بل معنى كونه مكلفاً حالة العدم قيام الطلب القديم بذات الرب تعالى للفعل من المعدوم بتقدير وجوده وتهيئته لفهم الخطاب فإذا وجدوا مهيأ للتكليف صار مكلفاً بذلك الطلب والاقتضاء القديم فإن الوالد لو وصى عند موته لمن سيوجد بعده من أولاده بوصية فإن الولد بتقدير وجوده وفهمه يصير مكلفاً بوصية والده حتى أنه يوصف بالطاعة والعصيان بتقدير المخالفة والامتثال. وأيضاً فإننا في وقتنا هذا نوصف بكوننا مأمورين بأمر النبي عليه السلام وإن كان أمره في الحال معدوماً وليس ذلك إلا بما وجد منه من الأمر حال وجوده ومثل هذا التكليف ثابت بالنسبة إلى الصبي والمجنون بتقدير فهمه أيضاً بل أولى من حيث إن المشترط في حقه الفهم لا غير وفي حق المعدوم الفهم والوجود وهل يسمى التكليف بهذا التفسير في الأزل خطاباً للمعدوم وأمراً له عرفاً. الحق أنه يسمى أمراً ولا يسمى خطاباً ولهذا فإنه يحسن أن يقال للوالد إذا وصى بأمر لمن سيوجد من أولاده بفعل من الأفعال أنه أمر أولاده ولا يحسن أن يقال خاطبهم لكن تمام فهم هذه القاعدة موقوف على إثبات كلام النفس وتحقيق كون الأمر بمعنى الطلب والاقتضاء وقد حققنا ذلك في الكلاميات بما يجب على الأصولي تقليد المتكلم فيه. المسألة الثالثة اختلفوا في الملجئ إلى الفعل بالإكراه بحيث لا يسعه تركه في جواز تكليفه بذلك الفعل إيجاداً وعدماً والحق أنه إذا خرج بالإكراه إلى حد الاضطرار وصار نسبة ما يصدر عنه من الفعل إليه نسبة حركة المرتعش إليه أن تكليفه به إيجاداً وعدماً غير جائز إلا على القول بتكليف ما لا يطاق وإن كان ذلك جائزاً عقلاً لكنه ممتنع الوقوع سمعاً لقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" والمراد منه لا رفع المؤاخذة وهو مستلزم لرفع التكليف وما يلزمه من الغرامات فقد سبق جوابه غير مرة. وأما إن لم ينته إلى حد الاضطرار فهو مختار وتكليفه جائز عقلاً وشرعاً وأما الخاطئ فغير مكلف إجماعاً فيما هو مخطئ ولقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" الحديث. المسألة الرابعة اختلفوا في تكليف الحائض بالصوم فنفاه أصحابنا وأثبته آخرون والحق في ذلك أنه إن أريد بكونها مكلفة به بتقدير زوال الحيض المانع فهو حق وإن أريد به أنها مكلفة بالإتيان بالصوم حال الحيض فهو ممتنع وذلك لأن فعلها للصوم في حالة الحيض حرام ومنهي عنه فيمتنع أن يكون واجباً ومأموراً به لما بينهما من التضاد الممتنع إلا على القول بجواز التكليف بما لا يطاق فإن قيل: فلو لم يكن الصوم واجباً عليها فلم وجب عليها قضاؤه. قلنا: القضاء عندنا إنما يجب بأمر مجدد فلا يستدعي أمراً سابقاً وإنما سمي قضاء لما فيه من استدراك مصلحة ما انعقد سبب وجوبه من الصوم ولم يجب لمانع الحيض. المسألة الخامسة في أن المكلف بالفعل أو الترك هل يعلم كونه مكلفاً قبل التمكن من الامتثال أم لا؟ والذي عليه إجماع الأصوليين أنه يعلم ذلك إذا كان المأمور والآمر له جاهلاً بعاقبة أمره وأنه يتمكن بما كلف به أم لا كأمر السيد لعبده بخياطة الثوب في الغد ومحل الخلاف فيما إذا كان الآمر عالماً بعاقبة الأمر دون المأمور كأمر الله تعالى بالصوم لزيد في الغد فأثبت ذلك القاضي أبو بكر والجم الغفير من الأصوليين ونفاه المعتزلة. احتج المثبتون بأن الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي متحقق مع جهل المكلف بعاقبة الأمر فكان ذلك معلوماً ويدل على تحققه إجماع الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين على أن كل بالغ عاقل مأمور بالطاعات منهي عن المعاصي قبل التمكن مما أمر به ونهي عنه وأنه يعد متقرباً بالعزم على فعل الطاعة وترك المعصية وأنه يجب عليه الشروع في العبادات الخمس في أوقاتها بنية الفرض وإن المانع له من ذلك بالحبس والصد عن فعلها آثم عاص بصده عن امتثال أمر الشارع وذلك كله مع عدم النهي والأمر محال. وأيضاً فإنه لو لم يكن الأمر معلوماً له في الحال لتعذر قصد الامتثال في الواجبات المضيقة لاستحالة العلم بتمام التمكن إلا بعد انقضاء الوقت وهو محال. فإن قيل: لا خفاء بأن تعليق الأمر على شرط معلوم الوقوع وسواء كان وقوعه حالياً كما إذا قال: صم إن كان الله موجوداً أو مآلياً كما إذا قال: صم إن صعدت الشمس غداً أو معلوم الانتفاء كما إذا قال: صم إن اجتمع الضدان وهو محال بل الأول أمر جازم غير مشروط كيف وإنه يمتنع تعليق الأمر بشرط مستقبل لأن الشرط لا بد وأن يكون حاصلاً مع المشروط أو قبله والثاني وإن كان فيه صيغة افعل فليس بأمر لما فيه من التكليف بما لا يطاق والباري تعالى عالم بعواقب الأمور فإن كان عالماً بتمكن العبد مما كلف به وأنه سيأتي به فهو أمر جزم لا شرط فيه وإن كان عالماً بعدم تمكنه مما قيل له افعله أو لا تفعله فلا يكون ذلك أمراً ولا نهياً وإذا كان كذلك فالأمر والنهي قبل التمكن من الامتثال لا يكون معلوماً للعبد لتجويزه عدم الشرط وهو التمكن في علم الله تعالى وعلى هذا فيجب حمل الإجماع فيما ذكرتموه على ظن الأمر بناء على أن الغالب من المكلف بقاؤه وتمكنه لا على يقين الأمر والعلم به.

قلنا: أما امتناع تعليق الأمر بشرط معلوم الوقوع أو الانتفاء عند المأمور فلا نزاع فيه إلا على رأي من يجوز تكليف ما لا يطاق وإنما النزاع إذا كان ذلك معلوماً للآمر دون المأمور فإنه لا يبعد أمر السيد لعبده بفعل شيء في الغد مع علمه برفع ذلك في الغد عنه استصلاحاً للعبد باستعداده في الحال للقيام بأمر سيده واشتغاله بذلك عن معاصيه أو امتحانه بما يظهر عليه من أمارات البشر والكراهة حتى يثيبه على هذا ويعاقبه على هذا لا لقصد الإتيان بما أمره به أم الانتهاء عما نهاه عنه ولا يكون ذلك من باب التكليف بما لا يطاق وإذا كان ذلك معقولاً مفيداً أمكن مثله في أمر الباري تعالى. قولهم إن شرط الأمر لا يكون متأخراً عنه مسلم لما فيه من استحالة وجود المشروط بدون شرطه غير أن الشرط المتأخر عن الأمر وهو التمكن من الفعل ليس شرطاً في تحقق الأمر وقيامه بنفس الأمر حتى يقال بتأخير شرط وجوده عن وجوده بل هو شرط الامتثال والأمر عندنا لا يتوقف تحققه على الامتثال كما علم من أصلنا. وعلى هذا فقد بطل قولهم إن الأمر والنهي قبل التمكن من الامتثال يمتنع أن يكون معلوماً للعبد ووجب حمل الإجماع فيما ذكروه من الأحكام على وجود الأمر حقيقة لا على ظن وجوده لأن احتمال الخطأ في الظن قائم وهو ممتنع في حق الإجماع وإذا عرف ما حققناه فمن أفسد صوم رمضان بالوقاع ثم مات أو جن بعد ذلك في أثناء النهار وجبت عليه الكفارة على أحد قولينا وعلى القول الآخر لا لأنها إنما تجب بإفساد صوم واجب لا يتعرض للانقطاع في اليوم لا لعدم قيام الأمر بالصوم ووجوبه وكذلك يجب على الحائض الشروع في صوم يوم علم الله أنها تحيض فيه وأنه لو قال إن شرعت في الصوم أو الصلاة الواجبين فزوجتي طالق ثم شرع ومات في أثنائها حنث ولزمه الطلاق ولا كذلك عند المعتزلة وعلى هذا كل ما يرد من هذا القبيل. القاعدة الثانية في بيان الدليل الشرعي وأقسامه وما يتعلق به من أحكامه ويشتمل على مقدمة وأصول: المقدمة في بيان الدليل الشرعي وأقسامه فنقول: كما بينا في القاعدة الأولى حد الدليل وانقسامه إلى عقلي وشرعي وليس من غرضنا هاهنا تعريف الدليل العقلي بل الشرعي والمسمى بالدليل الشرعي منقسم إلى ما هو صحيح في نفسه ويجب العمل به وإلى ما ظن أنه دليل صحيح وليس هو كذلك. أما القسم الأول فهو خمسة أنواع وذلك أنه إما أن يكون وارداً من جهة الرسول أو لا من جهته فإن كان الأول فلا يخلو إما أن يكون من قبيل ما يتلى أو لا من قبيل ما يتلى فإن كان من قبيل ما يتلى فهو الكتاب وإن كان من قبيل ما لا يتلى فهو السنة وإن لم يكن وارداً من جهة الرسول فلا يخلو إما أن يشترط فيه عصمة من صدر عنه أو لا يشترط ذلك فإن كان الأول فهو الإجماع وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن تكون صورته بحمل معلوم على معلوم في حكم بناء على جامع أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فهو القياس وإن كان الثاني فهو الاستدلال. وكل واحد من هذه الأنواع فهو دليل لظهور الحكم الشرعي عندنا به والأصل فيها إنما هو الكتاب لأنه راجع إلى قول الله تعالى المشرع للأحكام والسنة مخبرة عن قوله تعالى وحكمه ومستند الإجماع فراجع إليهما وأما القياس والاستدلال فحاصله يرجع إلى التمسك بمعقول النص أو الإجماع فالنص والإجماع أصل والقياس والاستدلال فرع تابع لهما. وأما القسم الثاني وهو ما ظن أنه دليل وليس بدليل فكشرع من قبلنا ومذهب الصحابي والاستحسان والمصلحة المرسلة على ما سيأتي تحقيق الكلام فيه. القسم الأول فيما يجب العمل به مما يسمى دليلاً شرعياً ولما بان أنه على خمسة أنواع فالنظر المتعلق بها منه ما هو مختص بكل واحد منها بخصوصه ومنها ما هو مشترك بينها فلنرسم في كل واحد منها أصلاً وهي ستة أصول: الأصل الأول في تحقيق معنى الكتاب وما يتعلق به من المسائل لأنه الأول والأولى بتقديم النظر فيه

أما حقيقة الكتاب فقد قيل فيه هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف بالأحرف السبعة المشهورة نقلاً متواتراً وفيه نظر فإنه لا معنى للكتاب سوى القرآن المنزل علينا على لسان جبريل وذلك مما لا يخرج عن حقيقته بتقدير عدم نقله إلينا متواتراً بل ولا بعدم نقله إلينا بالكلية بل غايته جهلنا بوجود القرآن بتقدير عدم نقله إلينا وعدم علمنا بكونه قرآناً بتقدير عدم تواتره وعلمنا بوجوده غير مأخوذ في حقيقته فلا يمكن أخذه في تحديده والأقرب في ذلك أن يقال: الكتاب هو القرآن المنزل. فقولنا القرآن احتراز عن سائر الكتب المنزلة من التوراة والإنجيل وغيرهما فإنها وإن كانت كتباً لله تعالى فليست هي الكتاب المعهود لنا المحتج به في شرعنا على الأحكام الشرعية الذي نحن بصدد تعريفه وفيه احتراز عن الكلام المنزل على النبي عليه السلام مما ليس بمتلو وقولنا المنزل احتراز عن كلام النفس فإنه ليس بكتاب بل الكتاب هو الكلام المعبر عن الكلام النفساني ولذلك لم نقل هو الكلام القديم ولم نقل هو المعجز لأن المعجز أعم من الكتاب ولم نقل هو الكلام المعجز لأنه يخرج منه الآية وبعض الآية مع أنها من الكتاب وإن لم تكن معجزة. وإذا أتينا على تعريف حقيقة الكتاب فلا بد من النظر فيما يختص به من المسائل وهي خمس مسائل: المسألة الأولى اتفقوا على أن ما نقل إلينا من القرآن نقلاً متواتراً وعلمنا أنه من القرآن أنه حجة واختلفوا فيما نقل إلينا منه آحاداً كمصحف ابن مسعود وغيره أنه هل يكون حجة أم لا؟ فنفاه الشافعي وأثبته أبو حنيفة وبني عليه وجوب التتابع في صوم اليمين بما نقله ابن مسعود في مصحفه من قوله: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" "البقرة 196". والمختار إنما هو مذهب الشافعي وحجته أن النبي عليه السلام كان مكلفاً بإلقاء ما أنزل عليه من القرآن على طائفة تقوم الحجة القاطعة بقولهم ومن تقوم الحجة القاطعة بقولهم لا يتصور عليهم التوافق على عدم نقل ما سمعوه منه فالراوي له إذا كان واحداً إن ذكره على أنه قرآن فهو خطأ وإن لم يذكره على أنه قرآن فقد تردد بين أن يكون خبراً عن النبي عليه السلام وبين أن يكون ذلك مذهباً له فلا يكون حجة وهذا بخلاف خبر الواحد عن النبي عليه السلام وعلى هذا منع من وجوب التتابع في صوم اليمين على أحد قوليه: فإن قيل: قولكم إن النبي عليه السلام كان يجب عليه إلقاء القرآن إلى عدد تقوم الحجة القاطعة بقولهم لا نسلم ذلك وكيف يمكن دعواه مع أن حفاظ القرآن في زمانه عليه السلام لم يبلغوا عدد التواتر لقلتهم وإن جمعه إنما كان بطريق تلقي آحاد آياته من الآحاد ولذلك اختلفت مصاحف الصحابة ولو كان قد ألقاه إلى جماعة تقوم الحجة بقولهم لما كان كذلك ولهذا أيضاً اختلفوا في البسملة أنها من القرآن وأنكر ابن مسعود كون الفاتحة والمعوذتين من القرآن سلمنا وجوب ذلك على النبي عليه السلام وأنه سمعه منه جمع تقوم الحجة بقولهم ولكن إنما يمتنع السكوت عن نقله على الكل لعصمتهم عن الخطأ ولا يمتنع ذلك بالنسبة إلى بضعهم وإذا كان ابن مسعود من جملتهم وقد روى ما رواه فلم يقع الاتفاق من الكل على الخطأ بالسكوت وعند ذلك فيتعين حمل روايته لذلك في مصحفه على أنه من القرآن لأن الظاهر من حاله الصدق ولم يوجد ما يعارضه غايته أنه غير مجمع على العمل به لعدم تواتره وإن لم يصرح بكونه قرآناً أمكن أن يكون من القرآن وأمكن أن لا يكون لكونه خبراً عن النبي عليه السلام وأمكن أن يكون لكونه مذهباً له كما ذكرتموه وهو حجة بتقدير كونه قرآناً وبتقدير كونه خبراً عن النبي عليه السلام وهما احتمالان وإنما لا يكون حجة بتقدير كونه مذهباً له وهو احتمال واحد ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه. سلمنا أنه ليس بقرآن وأنه متردد بين الخبر وبين كونه مذهباً له إلا أن احتمال كونه خبراً راجح لأن روايته له موهم بالاحتجاج به ولو كان مذهباً له لصرح به نفياً للتلبيس عن السامع المعتقد كونه حجة مع الاختلاف في مذهب الصحابي هل هو حجة أم لا.

والجواب: أما وجوب إلقائه على عدد تقوم الحجة بقولهم فذلك مما لم يخالف فيه أحد من المسلمين لأن القرآن هو المعجزة الدالة على صدقه عليه السلام قطعاً ومع عدم بلوغه إلى من لم يشاهده بخبر التواتر لا يكون حجة قاطعة بالنسبة إليه فلا يكون حجة عليه في تصديق النبي عليه السلام ولا يلزم من عدم بلوغ حفاظ القرآن في زمن النبي عليه السلام عدد التواتر أن يكون الحفاظ لآحاد آياته كذلك وأما التوقف في جمع آيات القرآن على أخبار الآحاد فلم يكن في كونها قرآناً بل في تقديمها وتأخيرها بالنسبة إلى غيرها وفي طولها وقصرها. وأما ما اختلت به المصاحف فما كان من الآحاد فليس من القرآن وما كان متواتراً فهو منه وأما الاختلاف في التسمية إنما كان في وضعها في أول كل سورة لا في كونها من القرآن. وأما إنكار ابن مسعود فلم يكن لإنزال هذه السور على النبي عليه السلام بل لإجرائها مجرى القرآن في حكمه قولهم إذا رواه ابن مسعود لم يتفق الكل على الخطأ. قلنا: وإن كان كذلك إلا أن سكوت من سكت وإن لم يكن ممتنعاً إلا أنه حرام لوجوب نقله عليه وعند ذلك فلو قلنا إن ما نقله ابن مسعود قرآن لزم ارتكاب من عداه من الصحابة للحرام بالسكوت ولو قلنا إنه ليس بقرآن لم يلزم منه ذلك لا بالنسبة إلى الراوي ولا بالنسبة إلى من عداه من الساكتين وبتقدير ارتكاب ابن مسعود للحرام مع كونه واحداً أولى من ارتكاب الجماعة له وعلى هذا فقد بطل قولهم بظهور صدقه فيما نقله من غير معارض وتعين تردد نقله بين الخبر والمذهب قولهم حمله على الخبر راجح لا نسلم ذلك. قولهم: لو كان مذهباً لصرح به نفياً للتلبيس قلنا: أجمع المسلمون على أن كل خبر لم يصرح بكونه خبراً عن النبي عليه السلام ليس بحجة وما نحن فيه كذلك ولا يخفى أن الحمل على المذهب مع أنه مختلف في الاحتجاج به أولى من حمله على الخبر الذي ما صرح فيه بالخبرية مع أنه ليس بحجة بالاتفاق كيف وفيه موافقة النفي الأصلي وبراءة الذمة من التتابع بخلاف مقابله فكان أولى. المسألة الثانية اتفقوا على أن التسمية آية من القرآن في سورة النمل وإنما اختلفوا في كونها آية من القرآن في أول كل سورة فنقل عن الشافعي في ذلك قولان لكن من الأصحاب من حمل القولين على أنها من القرآن في أول كل سورة كتبت مع القرآن بخط القرآن أم لا ومنهم من حمل القولين على أنها هل هي آية برأسها في أول كل سورة أو هي مع أول آية من كل سورة آية وهو الأصح وذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين إلى أنها ليست آية من القرآن في غير سورة النمل وقضى بتخطئة من قال بأنها آية من القرآن في غير سورة النمل لكن من غير تكفير له لعدم ورود النص القاطع بإنكار ذلك والحجة لمذهب الشافعي من ثلاثة أوجه. الأول أنها أنزلت على رسول الله مع أول كل سورة ولذلك نقل عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم وذلك يدل على أنها من القرآن حيث أنزلت. الثاني أنها كانت تكتب بخط القرآن في أول كل سورة بأمر رسول الله وأنه لم ينكر أحد من الصحابة على من كتبها بخط القرآن في أول كل سورة مع تخشنهم في الدين وتحرزهم في صيانة القرآن عما ليس منه حتى أنهم أنكروا على من أثبت أوائل السور والتعشير والنقط وذلك كله يغلب على الظن أنها حيث كتبت مع القرآن بخط القرآن أنها منه. الثالث ما روي عن ابن عباس أنه قال: سرق الشيطان من الناس آية من القرآن لما أن ترك بعضهم قراءة التسمية في أول السورة ولم ينكر عليه منكر فدل على كونها من القرآن في أول كل سورة. فإن قيل: لو كانت التسمية آية من القرآن في أول كل سورة لم يخل إما أن يشترط القطع في إثباتها أو لا يشترط فإن كان الأول فما ذكرتموه من الوجوه الدالة غير قطعية بل ظنية فلا تصلح للإثبات وأيضاً فإنه كان يجب على النبي عليه السلام أن يبين كونها من القرآن حيث كتبت معه بياناً شافياً شائعاً قاطعاً للشك كما فعل في سائر الآيات وإن كان الثاني فليثبت التتابع في صوم اليمين بما نقله ابن مسعود في مصحفه.

قلنا: الاختلاف فيما نحن فيه لم يقع في إثبات كون التسمية من القرآن في الجملة حتى يشترط القطع في طريق إثباتها وإنما وقع في وضعها آية في أوائل السور والقطع غير مشترط فيه ولهذا وقع الخلاف في ذلك من غير تكفير من أحد الخصمين للآخر كما وقع الخلاف في عدد الآيات ومقاديرها. قولهم كان يجب على النبي عليه السلام بيان ذلك بياناً قاطعاً للشك قلنا: ولو لم تكن من القرآن لتبين ذلك أيضاً بياناً قاطعاً للشك كما فعل ذلك في التعوذ بل أولى من حيث إن التسمية مكتوبة بخط القرآن في أول كل سورة ومنزل على النبي عليه السلام مع أول كل سورة كما سبق بيانه وذلك مما يوهم أنها من القرآن مع علم النبي عليه السلام بذلك وقدرته على البيان بخلاف التعوذ. فإن قيل: كل ما هو من القرآن فهو منحصر يمكن بيانه بخلاف ما ليس من القرآن فإنه غير منحصر فلا يمكن بيان أنه ليس من القرآن فلهذا قيل بوجوب بيان ما هو من القرآن دون ما ليس من القرآن. قلنا: نحن لم نوجب بيان كل ما ليس من القرآن أنه ليس من القرآن بل إنما أوجبنا بيان ما يسبق إلى الأفهام أنه من القرآن بتقدير أن لا يكون منه كما في التسمية ولا يخفى أنه منحصر بل هو أقل من بيان ما هو من القرآن وعلى هذا فلا يلزم من وضع كون التسمية آية مع أول كل سورة بالاجتهاد والظن وقد ثبت كونها آية من القرآن في سورة النمل قطعاً أن يقال مثله في ثبوت قراءة ابن مسعود في التتابع مع أنها لم يثبت كونها من القرآن قطعاً ولا ظناً. المسألة الثالثة القرآن مشتمل على آيات محكمة ومتشابهة على ما قال تعالى: "منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات" "آل عمران 7" أما المحكم فأصح ما قيل فيه قولان: الأول أن المحكم ما ظهر معناه وانكشف كشفاً يزيل الإشكال ويرفع الاحتمال وهو موجود في كلام الله تعالى والمتشابه المقابل له ما تعارض فيه الاحتمال إما بجهة التساوي كالألفاظ المجملة كما في قوله تعالى "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" "البقرة 228" لاحتماله زمن الحيض والطهر على السوية وقوله تعالى: "أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح" "البقرة 237" لتردده بين الزوج والولي وقوله: "أو لامستم النساء" "النساء 43" لتردده بين اللمس باليد والوطئ أولاً على جهة التساوي كالأسماء المجازية وما ظاهره موهم للتشبيه وهو مفتقر إلى تأويل كقوله تعالى: "ويبقى وجه ربك" "الرحمن 27" "ونفخت فيه من روحي" "الحجر 29" "مما عملت أيدينا" "يس 71" "الله يستهزئ بهم" "البقرة 15" "ومكروا ومكر الله" "آل عمران 54" "والسماوات مطويات بيمينه" "الزمر 67" ونحوه من الكنايات والاستعارات المؤولة بتأويلات مناسبة لإفهام العرب وإنما سمي متشابهاً لاشتباه معناه على السامع وهذا أيضاً موجود في كلام الله تعالى. القول الثاني إن المحكم ما انتظم وترتب على وجه يفيد إما من غير تأويل أو مع التأويل من غير تناقض واختلاف فيه وهذا أيضاً متحقق في كلام الله تعالى والمقابل له ما فسد نظمه واختل لفظه ويقال فاسد لا متشابه وهذا غير متصور الوجود في كلام الله تعالى. وربما قيل: المحكم ما ثبت حكمه من الحلال والحرام والوعد والوعيد ونحوه والمتشابه ما كان من القصص والأمثال وهو بعيد عما يعرفه أهل اللغة وعن مناسبة اللفظ له لغة. المسألة الرابعة القرآن لا يتصور اشتماله على ما لا معنى له في نفسه لكونه هذياناً ونقصاً يتعالى كلام الرب عنه خلافاً لمن لا يؤبه له في قوله كيف يقال ذلك وكلام الرب تعالى مشتمل على ما لا معنى له كحروف المعجم التي في أوائل السور إذ هي غير موضوعة في اللغة لمعنى وعلى التناقض الذي لا يفهم كقوله تعالى "فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان" "الرحمن 39" وقوله "فوربك لنسألنهم أجمعين" "الحجر 92" وعلى الزيادة التي لا فائدة فيها كقوله تعالى: "فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة" "البقرة 196" وقوله: كاملة غير مفيد لمعنى وكذلك قوله تعالى: "فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة" "الحاقة 13" وقوله تعالى: "لا تتخذوا إلهين اثنين" "النحل 51" إلى غير ذلك.

قلنا: أما حروف المعجم فلا نسلم أنه لا معنى لها بل هي أسامي السور ومعرفة لها وأما التناقض فغير صحيح إذ التناقض لا بد فيه من اتحاد جهة السلب والإيجاب والزمان وزمان إيجابه وسلبه غير متحد بل مختلف وأما الزيادات المذكورة فهي للتأكيد لا أنها غير معقولة المعنى. فإن قيل وإن كان ليس في القرآن ما لا معنى له إلا أن فيه ما لا يفهم معناه وهو في معنى ما لا معنى له وذلك كقوله تعالى: "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به" "أل عمران 7" والواو في قوله "والراسخون في العلم" ليست للعطف وإلا كان الضمير في قوله "يقولون آمنا به كل من عند ربنا" "آل عمران 7" عائداً إلى جملة المذكور السابق من الله تعالى والراسخين في العلم وهو محال في حق الله تعالى فلم يبق إلا أن يكون للابتداء ويلزم من ذلك أن لا يكون ما علمه الرب تعالى معلوماً لهم. وأيضاً فإن الآيات الدالة على اليد واليمين والوجه والروح ومكر الله والاستواء على العرش وغير ذلك غير محمول على ما هو مفهوم منه في اللغة وما هو المراد منه غير معلوم. وأيضاً فإن الخطاب بالقرآن كما هو خطاب مع العرب فهو خطاب مع العجم ومعناه غير مفهوم لهم. قلنا: من قال بجواز التكليف بما لا يطاق جوز أن يكون في القرآن ما له معنى وإن لم يكن معلوماً للمخاطب ولا له بيان ولا كذلك فيما لا معنى له أصلاً لكونه هذياناً ومن لم يجوز التكليف بما لا يطاق منع من ذلك لكونه تكليفاً بما لا يطاق ولما فيه من إخراج القرآن عن كونه بياناً للناس ضرورة كونه غير مفهوم وهو خلاف قوله تعالى: "هذا بيان للناس" "آل عمران 138" ولأن ذلك مما يجر إلى عدم الوثوق بشيء من أخبار الله تعالى ورسوله ضرورة أنه ما من خبر إلا ويجوز أن يكون المراد به ما لم يظهر منه وذلك مبطل للشريعة مطلقاً. وأجاب عن الآية الأولى بأن الواو فيها للعطف وأن الضمير في قوله: "يقولون آمنا به" "آل عمران 7" وإن كان ظاهراً في العود إلى جملة المذكور غير أنه لا بعد في تخصيصه بإخراج الرب تعالى عنه بدليل العقل المحيل لعود الضمير إليه. وأما باقي الآيات المذكورة فكلها كنايات وتجوزات مفهومة للعرب بأدلة صارفة إليها على ما بيناه في الكلاميات. المسألة الخامسة اختلفوا في اشتمال القرآن على ألفاظ مجازية وكلمات غير عربية وقد استقصينا الكلام فيهما في القاعدة الأولى في المبادئ اللغوية. الأصل الثاني في السنة وهي في اللغة عبارة عن الطريقة فسنة كل أحد ما عهدت منه المحافظة عليه والإكثار منه كان ذلك من الأمور الحميدة أو غيرها. وأما في الشرع فقد تطلق على ما كان من العبادات نافلة منقولة عن النبي عليه السلام وقد تطلق على ما صدر عن الرسول من الأدلة الشرعية مما ليس بمتلو ولا هو معجز ولا داخل في المعجز وهذا النوع هو المقصود بالبيان هاهنا ويدخل في ذلك أقوال النبي عليه السلام وأفعاله وتقاريره أما الأقوال من الأمر والنهي والتخيير والخبر وجهات دلالتها فسيأتي إيضاحها في الأصل الرابع المخصوص ببيان ما تشترك فيه الأدلة المنقولة الشرعية. وليكن البيان هاهنا مخصوصاً بما يخص النبي عليه السلام من الأفعال والتقارير ويشتمل على مقدمتين وخمس مسائل. المقدمة الأولى في عصمة الأنبياء عليهم السلام وشرح الاختلاف في ذلك وما وقع الاتفاق من أهل الشرائع على عصمتهم عنه من المعاصي وما فيه الاختلاف أما قبل النبوة فقد ذهب القاضي أبو بكر وأكثر أصحابنا وكثير من المعتزلة إلى أنه لا يمتنع عليهم المعصية كبيرة كانت أو صغيرة بل ولا يمتنع عقلاً إرسال من أسلم وآمن بعد كفره وذهبت الروافض إلى امتناع ذلك كله منهم قبل النبوة لأن ذلك مما يوجب هضمهم في النفوس واحتقارهم والنفرة عن اتباعهم وهو خلاف مقتضى الحكمة من بعثة الرسل ووافقهم على ذلك أكثر المعتزلة إلا في الصغائر والحق ما ذكره القاضي لأنه لا سمع قبل البعثة يدل على عصمتهم عن ذلك والعقل دلالته مبنية على التحسين والتقبيح العقلي ووجوب رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وذلك كله مما أبطلناه في كتبنا الكلامية. وأما بعد النبوة فالاتفاق من أهل الشرائع قاطبة على عصمتهم عن تعمد كل ما يخل بصدقهم فيما دلت المعجزة القاطعة على صدقهم فيه من دعوى الرسالة والتبليغ عن الله تعالى واختلفوا في جواز ذلك عليهم بطريق الغلط والنسيان فمنع منه الأستاذ أبو إسحاق وكثير من الأئمة لما فيه من مناقضة دلالة المعجزة القاطعة وجوزه القاضي أبو بكر مصيراً منه إلى أن ما كان من النسيان وفلتات اللسان غير داخل تحت التصديق المقصود بالمعجزة وهو الأشبه. وأما ما كان من المعاصي القولية والفعلية التي لا دلالة للمعجزة على عصمتهم عنها فما كان منها كفراً فلا نعرف خلافاً بين أرباب الشرائع في عصمتهم عنه إلا ما نقل عن الأزارقة من الخوارج أنهم قالوا بجواز بعثة نبي علم الله أنه يكفر بعد نبوته وما نقل عن الفضلية من الخوارج أنهم قضوا بأن كل ذنب يوجد فهو كفر مع تجويزهم صدور الذنوب عن الأنبياء فكانت كفراً وأما ما ليس بكفر فإما أن يكون من الكبائر أو ليس منها فإن كان من الكبائر فقد اتفقت الأمة سوى الحشوية ومن جوز الكفر على الأنبياء على عصمتهم عن تعمده من غير نسيان ولا تأويل وإن اختلفوا في أن مدرك العصمة السمع كما ذهب إليه القاضي أبو بكر والمحققون من أصحابنا أو العقل كما ذهب إليه المعتزلة. وأما إن كان فعل الكبيرة عن نسيان أو تأويل خطأ فقد اتفق الكل على جوازه سوى الرافضة. وأما ما ليس بكبيرة فإما أن يكون من قبيل ما يوجب الحكم على فاعله بالخسة ودناءة الهمة وسقوط المروءة كسرقة خبة أو كسرة فالحكم فيه كالحكم في الكبيرة وأما ما لا يكون من هذا القبيل كنظرة أو كلمة سفه نادرة في حالة غضب فقد اتفق أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة على جوازه عمداً وسهواً خلافاً للشيعة مطلقاً وخلافاً للجبائي والنظام وجعفر بن مبشر في العمد. وبالجملة فالكلام فيما وقع فيه الاختلاف في هذه التفاصيل غير بالغ مبلغ القطع بل هو من باب الظنون والاعتماد فيه على ما يساعد فيه من الأدلة الظنية نفياً وإثباتاً وقد أتينا في كل موضع من المواضع المتفق عليها والمختلف فيها تزييفاً واختياراً بأبلغ بيان وأوضح برهان في كتبنا الكلامية فعلى الناظر الالتفات إليها. المقدمة الثانية في معنى التأسي والمتابعة والموافقة والمخالفة إذ الحاجة داعية إلى معرفة ذلك فيما نرومه من النظر في مسائل الأفعال أما التأسي بالغير فقد يكون في الفعل والترك أما التأسي في الفعل فهو أن تفعل مثل فعله على وجهه من أجل فعله فقولنا مثل فعله لأنه لا تأسي مع اختلاف صورة الفعل كالقيام والقعود وقولنا على وجهه معناه المشاركة في غرض ذلك الفعل ونيته لأنه لا تأسي مع اختلاف الفعلين في كون أحدهما واجباً والآخر ليس بواجب وإن اتحدت الصورة وقولنا من أجل فعله لأنه لو اتفق فعل شخصين في الصورة والصفة ولم يكن أحدهما من أجل الآخر كاتفاق جماعة في صلاة الظهر مثلاً أو صوم رمضان اتباعاً لأمر الله تعالى فإنه لا يقال بتأسي البعض بالبعض وعلى هذا فلو وقع فعله في مكان أو زمان مخصوص فلا مدخل له في المتابعة والتأسي وسواء تكرر أو لم يتكرر إلا أن يدل الدليل على اختصاص العبادة به كاختصاص الحج بعرفات واختصاص الصلوات بأوقاتها وصوم رمضان. وأما التأسي في الترك فهو ترك أحد الشخصين مثل ما ترك الآخر من الأفعال على وجهه وصفته من أجل أنه ترك ولا يخفى وجه ما فيه من القيود. وأما المتابعة فقد تكون في القول وقد تكون في الفعل والترك فاتباع القول هو امتثاله على الوجه الذي اقتضاه القول والاتباع في الفعل هو التأسي بعينه. وأما الموافقة فمشاركة أحد الشخصين للآخر في صورة قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد أو غير ذلك وسواء كان ذلك من أجل ذلك الآخر أولاً من أجله. وأما المخالفة فقد تكون في القول وقد تكون في الفعل والترك فالمخالفة في القول ترك امتثال ما اقتضاه القول وأما المخالفة في الفعل فهو العدول عن فعل مثل ما فعله الغير مع وجوبه ولهذا فإن من فعل فعلاً ولم يجب على غيره مثل فعله لا يقال له إنه مخالف في الفعل بتقدير الترك ولذلك لم تكن الحائض مخالفة بترك الصلاة لغيرها وعلى هذا فلا يخفى وجوه المخالفة في الترك.

وإذ أتينا على ما أردناه من ذكر المقدمتين فلنرجع إلى المقصود من المسائل المتعلقة بأفعال الرسول عليه السلام. المسألة الأولى اختلف الأصوليون في أفعال النبي عليه السلام هل هي دليل لشرع مثل ذلك الفعل بالنسبة إلينا أم لا؟ وقبل النظر في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع فنقول: أما ما كان من الأفعال الجبلية كالقيام والقعود والأكل والشرب ونحوه فلا نزاع في كونه على الإباحة بالنسبة إليه وإلى أمته. وأما ما سوى ذلك مما ثبت كونه من خواصه التي لا يشاركه فيها أحد فلا يدل ذلك على التشريك بيننا وبينه فيه إجماعاً وذلك كاختصاصه بوجوب الضحى والأضحى والوتر والتهجد بالليل والمشاورة والتخيير لنسائه وكاختصاصه بإباحة الوصال في الصوم وصفية المغنم والاستبداد بخمس الخمس ودخول مكة بغير إحرام والزيادة في النكاح على أربع نسوة إلى غير ذلك من خصائصه. وأما ما عرف كون فعله بياناً لنا فهو دليل من غير خلاف وذلك إما بصريح مقاله كقوله "صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم" أو بقرائن الأحوال وذلك كما إذا ورد لفظ مجمل أو عام أريد به الخصوص أو مطلق أريد به التقييد ولم يبينه قبل الحاجة إليه ثم فعل عند الحاجة فعلاً صالحاً للبيان فإنه يكون بياناً حتى لا يكون مؤخراً للبيان عن وقت الحاجة وذلك كقطعه يد السارق من الكوع بياناً لقوله تعالى: "فاقطعوا أيديهما" "المائدة 38" وكتيممه إلى المرفقين بياناً لقوله تعالى: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم" "المائدة 6" ونحوه والبيان تابع للمبين في الوجوب والندب والإباحة. وأما ما لم يقترن به ما يدل على أنه للبيان لا نفياً ولا إثباتاً فإما أن يظهر فيه قصد القربة أو لم يظهر فإن ظهر فيه قصد القربة فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال إن فعله عليه السلام محمول على الوجوب في حقه وفي حقنا كابن سريج والاصطخري وابن أبي هريرة وابن خيران والحنابلة وجماعة من المعتزلة ومنهم من صار إلى أنه للندب وقد قيل إنه قول الشافعي وهو اختيار إمام الحرمين ومنهم من قال إنه للإباحة وهو مذهب مالك ومنهم من قال بالوقف وهو مذهب جماعة من أصحاب الشافعي كالصيرفي والغزالي وجماعة من المعتزلة. وأما ما لم يظهر فيه قصد القربة فقد اختلفوا أيضاً فيه على نحو اختلافهم فيما ظهر فيه قصد القربة غير أن القول بالوجوب والندب فيه أبعد مما ظهر فيه قصد القربة والوقف والإباحة أقرب وبعض من جوز على الأنبياء المعاصي قال إنها على الخطر. والمختار أن كل فعل لم يقترن به دليل يدل على أنه قصد به بيان خطاب سابق فإن ظهر فيه قصد القربة إلى الله تعالى فهو دليل في حقه عليه السلام على القدر المشترك بين الواجب والمندوب: وهو ترجيح الفعل على الترك لا غير وأن الإباحة وهي استواء الفعل والترك في رفع الحرج خارجة عنه وكذلك في حق أمته. وما لم يظهر فيه قصد القربة فهو دليل في حقه على القدر المشترك بين الواجب والمندوب والمباح وهو رفع الحرج عن الفعل لا غير وكذلك عن أمته. وأما إذا ظهر من فعله قصد القربة فلأن القربة غير خارجة عن الواجب والمندوب والقدر المشترك بينهما إنما هو ترجيح الفعل على الترك والفعل دليل قاطع عليه. وأما ما اختص به الواجب من الذم على الترك وما اختص به المندوب من عدم اللوم على الترك فمشكوك فيه وليس أحدهما أولى من الآخر. وأما إذا لم يظهر من فعله قصد القربة فهو وإن جوزنا عليه فعل الصغيرة غير أن احتمال وقوعها من آحاد عدول المسلمين نادر فكيف من النبي عليه السلام بل الغالب من فعله أنه لا يكون معصية ولا منهياً عنه وعند ذلك فما من فعل من آحاد أفعاله إلا واحتمال دخوله تحت الغالب أغلب وإذا كان الغالب من فعله أنه لا يكون معصية ولا منهياً عنه فكل فعل لا يكون منهياً عنه لا يخرج عن الواجب والمندوب والمباح والقدر المشترك بين الكل إنما هو رفع الحرج عن الفعل دون الترك والفعل دليل قاطع عليه. وأما ما اختص به الوجوب والندب عن المباح من ترجح الفعل على الترك وما اختص به المباح عنهما من استواء الطرفين فمشكوك فيه هذا بالنسبة إلى النبي عليه السلام. وأما بالنسبة إلى أمته فلأنه وإن كان عليه السلام قد اختص عنهم بخصائص لا يشاركونه فيها غير أنها نادرة بل أندر من النادر بالنسبة إلى الأحكام المشترك فيها.

وعند ذلك فما من واحد من آحاد الأفعال إلا واحتمال مشاركة الأمة للنبي عليه السلام فيه أغلب من احتمال عدم المشاركة إدراجاً للنادر تحت الأعم الأغلب فكانت المشاركة أظهر. وإذ أتينا على تفصيل المذاهب وتقرير ما هو المختار فلا بد من ذكر شبه المخالفين ووجه الانفصال عنها وأما شبه القائلين بالوجوب فمن جهة النص والإجماع والمعقول أما من جهة النص فمن جهة الكتاب والسنة. أما من جهة الكتاب فقوله تعالى: "فاتبعوه واتقوا" "الأنعام 155" أمر بمتابعته ومتابعته امتثال القول والإتيان بمثل فعله والأمر ظاهر في الوجوب وأيضاً قوله تعالى: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره" "النور 63" حذر من مخالفة أمره والتحذير دليل الوجوب واسم الأمر يطلق على الفعل كما سيأتي تقريره والأصل في الإطلاق الحقيقة وغايته أن يكون مشتركاً بينه وبين القول المخصوص وسيأتي أن الاسم المشترك من قبيل الأسماء العامة فكان متناولاً للفعل وأيضاً قوله تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه" "الحشر 7" وفعله من جملة ما يأتي به فكان الأخذ به واجباً وأيضاً قوله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر" "الأحزاب 21" وهذا زجر في طي أمر وتقديره: من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فله فيه أسوة حسنة ومن لم يتأس به فلا يكون مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر وهو دليل الوجوب وأيضاً قوله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني" "آل عمران 31" ومحبة الله واجبة والآية دلت على أن متابعة النبي عليه السلام لازمة لمحبة الله الواجبة ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم وهو ممتنع وأيضاً قوله تعالى: "قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول" "النور 54" أمر بطاعة الرسول والأمر ظاهر في الوجوب ومن أتى بمثل فعل الغير على قصد إعظامه فهو مطيع له وأيضاً قوله تعالى: "فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً" "الأحزاب 37" وذلك يدل على أن فعله تشريع وواجب الاتباع وإلا لما كان تزويجه مزيلاً عن المؤمنين الحرج في أزواج أدعيائهم. وأما من جهة السنة فما روي أن الصحابة رضي الله عنهم خلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع نعله ففهموا وجوب المتابعة له في فعله والنبي عليه السلام أقرهم على ذلك ثم بين لهم علة انفراده بذلك وأيضاً ما روي عنه أنه أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ولم يفسخ فقالوا له مالك أمرتنا بفسخ الحج ولم تفسخ ففهموا أن حكمهم كحكمه والنبي عليه السلام لم ينكر عليهم ولم يقل لي حكمي ولكم حكمكم بل أبدى عذراً يختص به وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه نهى الصحابة عن الوصال في الصوم وواصل فقالوا له نهيتنا عن الوصال وواصلت فقال: لست كأحدكم إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني فأقرهم على ما فهموه من مشاركتهم له في الحكم واعتذر بعذر يختص به وأيضاً ما روي عنه أنه لما سألته أم سلمة عن قبلة الصائم فقال لها: "لم لم تقولي لهم إني أقبل وأنا صائم" ولو لم يكن متبعاً في أفعاله لما كان لذلك معنى وأيضاً ما روي عنه أنه لما سألته أم سلمة عن بل الشعر في الاغتسال قال" أما أنا فيكفيني أن أحثو على رأسي ثلاث حثيات من ماء" وكان ذلك جواباً لها ولولا أنه متبع في فعله لما كان جواباً لها وأيضاً ما روي عنه أنه أمر الصحابة بالتحلل بالحلق والذبح فتوقفوا فشكا ذلك إلى أم سلمة فأشارت إليه بأن يخرج وينحر ويحلق ففعل ذلك فذبحوا وحلقوا ولولا أن فعله متبع لما كان كذلك. وأما من جهة الإجماع فما روي عن الصحابة أنهم لما اختلفوا في الغسل من غير إنزال أنفذ عمر إلى عائشة رضي الله عنها وسألها عن ذلك فقالت: فعلته أنا ورسول الله واغتسلنا فأخذ عمر والناس بذلك ولولا أن فعله متبع لما ساغ ذلك وأيضاً ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أنني رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك وكان ذلك شائعاً فيما بين الصحابة من غير نكير فكان إجماعاً على اتباعه في فعله وأما من جهة المعقول فمن خمسة أوجه: الأول هو أن فعله احتمل أن يكون موجباً للفعل علينا واحتمل أن لا يكون موجباً والحمل على الإيجاب أولى لما فيه من الأمن والتحرز عن ترك الواجب ولذلك فإنه لو نسي صلاة من خمس صلوات من يوم فإنه يجب عليه إعادة الكل حذراً من الإخلال بالواجب وكذلك من طلق واحدة من نسائه ثم نسيها فإنه يحرم عليه جميعهن نظراً إلى الاحتياط. الثاني أن النبوة من الرتب العلية والأوصاف السنية ولا يخفى أن متابعة العظيم في أفعاله من أتم الأمور في تعظيمه وإجلاله وأن عدم متابعته في أفعاله بأن صلى وهم جلوس أو قام يطوف وهم يتسامرون من أعظم الأمور في إسقاط حرمته والإخلال بعظمته وهو حرام ممتنع. الثالث أن أفعاله عليه السلام قائمة مقام أقواله في بيان المجمل وتخصيص العموم وتقييد المطلق من الكتاب والسنة فكان فعله محمولاً على الوجوب كالقول. الرابع أن ما فعله النبي عليه السلام يجب أن يكون حقاً وصواباً وترك الحق والصواب يكون خطأ وباطلاً وهو ممتنع. الخامس أن فعله احتمل أن يكون واجباً واحتمل أن لا يكون واجباً واحتمال كونه واجباً أظهر من احتمال كونه ليس بواجب لأن الظاهر من النبي عليه السلام أنه لا يختار لنفسه سوى الأكمل والأفضل والواجب أكمل مما ليس بواجب وإذا كان واجباً فيجب اعتقاد مشاركة الأمة له فيه لما قررتموه في طريقتكم وأما شبه القائلين بالندب فنقلية وعقلية أيضاً. أما النقلية فقوله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" "الحشر 7" جعل التأسي به حسنة وأدنى درجات الحسنة المندوب فكان محمولاً عليه وما زاد فهو مشكوك فيه. وأما العقلية فهو أن فعله وإن احتمل أن يكون معصية إلا أنه خلاف الظاهر والظاهر من فعله أنه لا يكون إلا حسنة والحسنة لا تخرج عن الواجب والمندوب وحمله على فعل المندوب أولى لوجهين. الأول أن غالب أفعال النبي عليه السلام كانت هي المندوبات. الثاني أن كل واجب مندوب وزيادة وليس كل مندوب واجباً فكان فعل المندوب لعمومه أغلب ويلزم من ذلك مشاركة أمته له فيه لما ذكرتموه في طريقتكم. وأما شبه القائلين بالإباحة فهي أن الأصل في الأفعال كلها إنما هو الإباحة ورفع الحرج عن الفعل والترك إلا ما دل الدليل على تغييره والأصل عدم المغير. وأما شبه القائلين بالوقف فإنهم قالوا: فعله عليه السلام متردد بين أن يكون خاصاً به وبين أن لا يكون خاصاً به وما ليس خاصاً به متردد بين الواجب والمندوب والمباح والفعل لا صيغة له ليدل على البعض دون البعض وليس البعض أولى من البعض فلزم الوقف إلى أن يقوم الدليل على التعيين. والجواب عن شبه القائلين بالوجوب: أما عن الآية الأولى فلا نسلم أن قوله فاتبعوه يدل على الوجوب وإن سلمنا ذلك ولكن قوله فاتبعوه صريح في ابتاع شخص النبي عليه السلام وهو غير مراد فلا بد من إضمار المتابعة في أقواله وأفعاله والإضمار على خلاف الأصل فتمتنع الزيادة فيه من غير حاجة وقد أمكن دفع الضرورة بإضمار أحد الأمرين وليس إضمار المتابعة في الفعل أولى من القول بل إضمار المتابعة في القول أولى لكونه متفقاً عليه ومختلفاً في الفعل كيف وأن المتابعة في الفعل إنما يتحقق وجوبها أن لو علم كون الفعل المتبع واجباً وإلا فبتقدير أن يكون غير واجب فمتابعة ما ليس بواجب لا تكون واجبة ولم يتحقق كون فعله واجباً فلا تكون متابعته واجبة. وعن الآية الثانية أن يقال اسم الأمر وإن أطلق على الفعل والقول المخصوص لكنه يجب اعتقاد كونه حقيقة في أمر مشترك بينهما وهو الشأن والصفة نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ لكونهما على خلاف الأصل وعند ذلك فلفظ الأمر المحذر من مخالفته يكون مطلقاً والمطلق إذا عمل به في صورة فقد خرج عن كونه حجة ضرورة توفية العمل بدلالته وقد عمل به في القول المخصوص فلا يبقى حجة في الفعل سلمنا أنه غير متواطئ ولكنه مجمع على كونه حقيقة في القول المخصوص ومختلف في الفعل فكان حمله على المتفق عليه دون المختلف فيه أولاً سلمنا أنه حقيقة في الفعل لكنه يكون مشتركاً وعند ذلك إن قيل بأن اللفظ المشترك يمتنع حمله على جميع مدلولاته فليس حمله على التحذير من مخالفة الأمر بمعنى الفعل أولى من القول وإن قيل بحمل اللفظ المشترك على جميع محامله فالتحذير عن مخالفة الأمر يتوقف على كون المحذر منه واجباً لاستحالة التحذير من ترك ما ليس واجباً وعند ذلك فالقول بالتحذير من مخالفة الفعل يستدعي وجوب ذلك الفعل ووجوبه إذا كان لا يعرف إلا من التحذير كان دوراً كيف وإنه قد تقدم في الآية ذكر دعاء الرسول بقوله: "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً" "النور 63" والمراد بالدعاء إنما هو القول فكان الأمر المذكور بعده عائداً إلى قوله ثم قد أمكن عود الضمير في أمره إلى الله تعالى إذ هو أقرب مذكور حيث قال بعد ذكر الرسول: "قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا" "النور 63" فكان عوده إليه أولى. وعن الآية الثالثة بمنع دلالة الأمر على الوجوب وإن سلمنا ذلك ولكن إنما يكون أخذ ما أتانا به واجباً إذا كان ما أتى به واجباً وأما إذا لم يكن واجباً فأخذه لا يكون واجباً فإن القول بوجوب فعل لا يكون واجباً تناقض في اللفظ والمعنى وعند ذلك فيتوقف دلالة الآية على الوجوب على كون الفعل المأتي به واجباً ووجوبه إذا توقف على دلالة الآية على وجوبه كان دوراً كيف وإن في الآية ما يدل على أن المراد بوجوب أخذه إنما هو الأمر بمعنى القول حيث إنه قابله بالنهي بقوله "وما نهاكم عنه فانتهوا" "الحشر 7" والنهي لا يكون إلا بالقول وكذلك الأمر المقابل له. وعن الآية الرابعة من وجهين: الأول: إنا نقول المراد بالتأسي به في فعله أن نستخير لأنفسنا ما استخاره لنفسه وأن لا نعترض عليه فيما يفعله أو معنى آخر الأول مسلم ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون ما استخاره لنفسه واجباً حتى يكون ما نستخيره نحن لأنفسنا واجباً والثاني ممنوع. الوجه الثاني: أن المراد بالتأسي به في فعله أن نوقع الفعل على الوجه الذي أوقعه هو عليه السلام حتى أنه لو صلى واجباً وصلينا متنفلين أو بالعكس فإن ذلك لا يكون تأسياً به ولم يثبت كون ما فعله واجباً حتى يكون ما نفعله نحن واجباً. وعلى هذين الجوابين يخرج الجواب عن الآية الخامسة وعن الآية السادسة أن المراد من الطاعة إنما هو امتثال أمره ومتابعته في فعله على الوجه الذي فعله إن كان واجباً فواجباً وإن كان ندباً فندباً ونحن نقول به ولم يثبت أن ما فعله واجب حتى تكون متابعتنا له فيه واجبة. وعن الآية السابعة إن غايتها الدلالة على أن حكم أمته مساو لحكمه في الوجوب والندب والإباحة ولا يلزم من ذلك أن يكون كل ما فعله واجباً ليكون فعلنا له واجباً. وعن الخبر الأول من السنة من وجهين: الأول أن ذلك لا يدل على أنهم فعلوا ذلك بجهة الوجوب بل لعلهم رأوا متابعته في خلع النعل مبالغة في موافقته والذي يدل على أن الخلع بطريق المتابعة له لم يكن واجباً إنكاره عليهم ذلك وقوله لم خلعتم نعالكم ولو كانت متابعته في فعله واجبة على الإطلاق لما أنكر ذلك الوجه الثاني أنه وإن ظنوا وجوب المتابعة لكن لا من الفعل بل لقيام دليل أوجب عليهم ذلك وبيانه من وجهين الأول أنه عليه السلام كان قد قال لهم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ففهموا أن صلاته بيان لصلاتهم فلما رأوه قد خلع نعله تابعوه فيه لظنهم أن ذلك من هيئات الصلاة الثاني أنهم كانوا مأمورين بأخذ زينتهم عند كل مسجد بقوله تعالى: "خذوا زينتكم عند كل مسجد" "الأعراف 31" فلما رأوه قد خلع نعله ظنوا وجوبه وأنه لا يترك الأمر المسنون المأمور إلا لواجب ونحن لا ننكر وجوب المتابعة عند قيام الدليل. وعن الخبر الثاني أن فهمهم لوجوب متابعته في أفعال الحج إنما كان مستنداً إلى قوله عليه السلام "خذوا عني مناسككم" لا إلى فعله. وعن الخبر الثالث أن الوصال للنبي عليه السلام لم يكن واجباً عليه بل غايته أنه كان مباحاً له ووجوب المتابعة فيما أصله غير واجب ممتنع كما سبق بل ظنهم إنما كان مشاركته في إباحة الوصال ونحن نقول به وهذا هو الجواب عن الخبر الرابع. وعن الخبر الخامس أنه لا دلالة له على وجوب بل الشعر في حقه عليه السلام ولا حق غيره ولعله أراد بذلك الكفاية في الكمال لا في الوجوب بل وجوب البل إنما هو مستفاد من قوله عليه السلام "بلوا الشعر وانقوا البشرة". وعن الخبر السادس من وجهين: الأول أن فعله وقع بياناً لقوله عليه السلام "خذوا عني مناسككم" ولا نزاع في وجوب اتباع فعله إذا ورد بياناً لخطاب سابق بل وهو أبلغ من دلالة القول المجرد عن الفعل لكون الفعل ينبئ عن المقصود عياناً بخلاف القول فإنه لا يدل عليه عياناً الثاني أن وجوب التحلل وقع مستفاداً من أمر النبي عليه السلام لهم بذلك غير أنهم كانوا يرتقبون إنجاز ما وعدهم الله به من الفتح والظهور على قريش في تلك السنة وأن ينسخ الله عنهم الأمر بالتحلل وأداء ما كانوا فيه من الحج فلما تحلل عليه السلام آيسوا من ذلك فتحللوا وعن الاحتجاج بالإجماع الأول لا نسلم أن وجوب الغسل من التقاء الختانين كان مستفاداً من فعل رسول الله بل من قوله عليه السلام "إذا التقى الختانان وجب الغسل" وسؤال عمر لعائشة إنما كان ليعلم أن فعل النبي هل وقع موافقاً لأمره أم لا وعن الثاني أن تقبيل عمر الحجر إنما كان مستفاداً من فعل رسول الله المبين لقوله: "خذوا عني مناسككم" كيف وأن تقبيل الحجر غير واجب على النبي عليه السلام ولا على غيره بل غايته أن فعل النبي عليه السلام يدل على ترجيح فعله على تركه من غير وجوب وذلك مما لا ننكره ولا ننكر مشاركة الأمة له في ذلك. وعن الشبهة الأولى من المعقول فقد قيل في دفعها إن الاحتياط إنما يمكن أن يقال به إذا خلا عن احتمال الضرر قطعاً وفيما نحن فيه يحتمل أن يكون الفعل حراماً على الأمة وهو غير صحيح فإنه لو غم الهلال ليلة الثلاثين من رمضان فإنه يحتمل أن يكون يوم الثلاثين منه يوم العيد واحتمل أن لا يكون يوم اليعد ومع ذلك يجب صومه احتياطاً للواجب وإن احتمل أن يكون حراماً لكونه من يوم العيد. والحق في ذلك أن يقال إنما يكون الاحتياط أولى لما ثبت وجوبه كالصلاة الفائتة من صلوات يوم وليلة أو كان الأصل وجوبه كما في صوم يوم الثلاثين من رمضان إذا كانت ليلته مغيمة وأما ما عساه أن يكون واجباً وغير واجب فلا وما نحن فيه كذلك حيث لم يتحقق وجوب الفعل ولا الأصل وجوبه. وعن الشبهة الثانية لا نسلم أن الإتيان بمثل ما يفعله العظيم يكون تعظيماً له وأن تركه يكون إهانة له وحطاً من قدره بل ربما كان تعاطي الأدنى لمساواته الأعلى فعله حطاً من منزلته وغضاً من منصبه ولهذا يقبح من العبد الجلوس على سرير سيده في مرتبته والركوب على مركبه ولو فعل ذلك استحق اللوم والتوبيخ ثم لو كانت متابعة النبي في أفعاله موجبة لتعظيمه وترك المتابعة موجبة لإهانته لوجب متابعته عندما إذا ترك بعض ما تعبدنا به من العبادات ولم يعلم سبب تركه وهو خلاف الإجماع. وعن الشبهة الثالثة إنه لا يلزم من كون الفعل بياناً للقول أن يكون موجباً لما يوجبه القول فإن الخطاب القولي يستدعي وجوب الجواب ولا كذلك الفعل. وعن الشبهة الرابعة أن فعل النبي عليه السلام وإن كان حقاً وصواباً بالنسبة إليه فلا يلزم أن يكون حقاً وصواباً بالنسبة إلى أمته إلا أن يكون فعله مما يوجب مشاركتهم له في ذلك الفعل وهو محل النزاع. وعن الشبهة الخامسة إنه وإن كان فعل الواجب أفضل مما ليس بواجب فلا يلزم أن يكون كل ما يفعله النبي عليه السلام واجباً ولهذا فإن فعله للمندوبات كان أغلب من فعله للواجبات بل فعله للمباحات كان أغلب من فعله للمندوبات وعند ذلك فليس حمل فعله على النادر من أفعاله أولى من حمله على الغالب منها وعن شبه القائلين بالندب. أما الآية فجوابها مثل ما سبق في الاحتجاج بها على الوجوب وأما الشبهة العقلية فلا نسلم أن غالب فعله المندوبات بل المباح ولا نسلم أن المندوب داخل في الواجب على ما سبق تقريره. وأما شبهة الإباحة فنحن قائلون بها في كل فعل لم يظهر من النبي عليه السلام قصد التقرب به وأما ما ظهر معه قصد التقرب به فيمتنع أن يكون مباحاً بمعنى نفي الحرج عن فعله وتركه فإن مثل ذلك لا يتقرب به وذلك مما يجب حمله على ترجيح جانب الفعل على الترك على ما قررناه.

وأما الواقفية فإن أرادوا بالوقف أنا لا نحكم بإيجاب ولا ندب إلا أن يقوم الدليل على ذلك فهو الحق وهو عين ما قررناه وإن أرادوا به أن الثابت أحد هذه الأمور لكنا لا نعرفه بعينه فخطأ فإن ذلك يستدعي دليلاً وقد بينا أنه لا دلالة للفعل على شيء سوى ترجيح الفعل على الترك عندما إذا ظهر من النبي عليه السلام قصد التقرب بفعله أو نفي الحرج مطلقاً عندما إذا لم يظهر منه قصد القربة والأصل عدم دليل سوى الفعل والله أعلم. المسألة الثانية إذا فعل النبي عليه السلام فعلاً ولم يكن بياناً لخطاب سابق ولا قام الدليل على أنه من خواصه وعلمت لنا صفته من الوجوب أو الندب أو الإباحة إما بنصه عليه السلام على ذلك وتعريفه لنا أو بغير ذلك من الأدلة فمعظم الأئمة من الفقهاء والمتكلمين متفقون على أننا متعبدون بالتأسي به في فعله واجباً كان أو مندوباً أو مباحاً ومنهم من منع من ذلك مطلقاً ومنهم من فصل كأبي علي بن خلاد وقال بالتأسي في العبادات دون غيرها والمختار إنما هو المذهب الجمهوري ودليله النص والإجماع. أما النص فقوله تعالى "فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً" "الأحزاب 37" ولولا أنه متأسي به في فعله ومتبعاً لما كان للآية معنى وهذا من أقوى ما يستدل به هاهنا. وأيضاً قوله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني" "آل عمران 31" ووجه الاستدلال به أنه جعل المتابعة له لازمة من محبة الله الواجبة فلو لم تكن المتابعة له لازمة لزم من عدمها عدم المحبة الواجبة وذلك حرام بالإجماع وأيضاً قوله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر" "الحشر 7" ووجه الاحتجاج به أنه جعل التأسي بالنبي عليه السلام من لوازم رجاء الله تعالى واليوم الآخر ويلزم من عدم التأسي عدم الملزوم وهو الرجاء لله واليوم الآخر وذلك كفر والمتابعة والتأسي في الفعل على ما بيناه في المقدمة هو أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل من أجل أنه فعل. وأما الإجماع فهو أن الصحابة كانوا مجمعين على الرجوع إلى أفعاله كرجوعهم إلى تزويجه لميمونة وهو حرام وفي تقبيله عليه السلام للحجر الأسود وجواز تقبيله وهو صائم إلى غير ذلك من الوقائع الكثيرة التي لا تحصى. فإن قيل أما الآية الأولى وإن دلت على التأسي به والمتابعة في التزويج من إزواج الأدعياء إذا قضوا منهن وطراً فليس فيها ما يدل على التأسي والمتابعة في كل فعل وأما الأخيرتان فلا نسلم عموم دلالتها على المتابعة والتأسي في كل شيء إذ لا عموم لهما في ذلك ولهذا فإنه يحسن أن يقال لك في فلان أسوة في كل شيء ويقال لك في فلان أسوة حسنة في هذا الشيء دون غيره ولو كان لفظ الأسوة عاماً في كل شيء لكان قوله في كل شيء تكراراً وقوله: في هذا الشيء دون غيره مناقضة بل غايتها الدلالة على المتابعة والتأسي في بعض الأشياء ونحن قائلون بذلك في اتباع أقواله والتأسي بما دل الدليل القولي على التأسي به في أفعاله كقوله "صلوا كما رأيتموني أصلي" و"خذوا عني مناسككم" ونحوه. وأما ما ذكرتموه من الإجماع فلا نسلم أن المستند فيما كانوا يفعلونه التأسي بالنبي في فعله وإنما كان مستندهم في ذلك غيره أما فيما كان مباحاً فالبقاء على الأصل أما فيما كان واجباً أو مندوباً فالأقوال الدالة على ذلك. والجواب: عن الاعتراض على الآية الأولى أن الآية ليس فيها دلالة على خصوص متابعة المؤمنين للنبي عليه السلام في ذلك ولولا أن التأسي بالنبي عليه السلام في جميع أفعاله لازم لما فهم المؤمنون من إباحة ذلك للنبي عليه السلام إباحة ذلك لهم ولا يمكن أن يقال بأن فهم الإباحة إنما كان مستنداً إلى الإباحة الأصلية وإلا لما كان لتعليل تزويج النبي عليه السلام بنفي الحرج عن المؤمنين معنى لكونه مدفوعاً بغيره.

وعن الاعتراض الثاني على الآيتين الأخريين أن مقصودهما إنما هو بيان كون النبي عليه السلام أسوة لنا ومتبعاً إظهاراً لشرفه وإبانة لخطره وذلك إنما يكون في شيء واحد أو في جميع الأشياء فإن كان في شيء واحد فإما أن يكون معيناً أو مبهماً: القول بالتعيين ممتنع لعدم دلالة اللفظ عليه والقول بالإبهام ممتنع لأنه على خلاف الغالب من خطاب الشرع ولكونه أبعد إظهار شرف النبي عليه السلام فلم يبق إلا أن يكون في جميع الأشياء وإذا قال لك أسوة في فلان في جميع الأشياء فهو مفيد للتأكيد ولي تكراراً خلياً عن الفائدة وإذا قال لك أسوة في فلان في هذا الشيء دون غيره فلا يكون مناقضة لأن العموم إنما هو مستفاد من التأسي والمتابعة المطلقة وهذا ليس بمطلق بل الكل جملة واحدة مفيدة لشيء معين. وأما ما ذكروه على الإجماع فهو خلاف المشهور المأثور عنهم عند اتفاقهم بعد اختلافهم في التمسك بأفعال النبي عليه السلام والرجوع إليها وسؤال زوجاته والبحث عن أفعاله في ذلك وسكون أنفسهم إليها والاعتماد عليها واحتجاج بعضهم على بعض بها ولو كان ثم دليل يدل على المتابعة والتأسي غير النظر إلى أفعاله لبادروا إليه من غير توقف على البحث عن فعله عليه السلام وعلى ما ذكرناه في فعله يكون الحكم في تركه. المسألة الثالثة إذا فعل واحد بين يدي النبي عليه السلام فعلاً أو في عصره وهو عالم به قادر على إنكاره فسكت عنه وقرره عليه من غير نكير عليه فلا يخلو إما أن يكون النبي عليه السلام قد عرف قبح ذلك الفعل وتحريمه من قبل أو لم يكن كذلك فإن كان الأول فإما أن يكون قد علم إصرار ذلك الفاعل على فعله وعلم من النبي عليه السلام الإصرار على قبح ذلك الفعل وتحريمه كاختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم أو لم يكن كذلك فإن كان الأول فالسكوت عنه لا يدل على جوازه وإباحته إجماعاً ولا يوهم كونه منسوخاً وإن كان الثاني فالسكوت عنه وتقريره له من غير إنكار يدل على نسخه عن ذلك الشخص وإلا لما ساغ السكوت حتى لا يتوهم أنه منسوخ عنه فيقع في المحذور وفيه تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو غير جائز بالإجماع إلا على رأي من يجوز التكليف بما لا يطاق. وأما إن لم يكن النبي عليه السلام قد سبق منه النهي عن ذلك الفعل ولا عرف تحريمه فسكوته عن فاعله وتقريره له عليه ولا سيما إن وجد منه استبشار وثناء على الفاعل فإنه يدل على جوازه ورفع الحرج عنه وذلك لأنه لو لم يكن فعله جائزاً لكان تقريره له عليه مع القدرة على إنكاره وكان استبشاره وثناؤه عليه حراماً على النبي عليه السلام وهو وإن كان من الصغائر الجائزة على النبي عليه السلام عند قوم إلا أنه في غاية البعد لا سيما فيما يتعلق ببيان الأحكام الشرعية وإذا كان كذلك فالإنكار هو الغالب فحيث لم يوجد ذلك منه دل على الجواز غالباً. فإن قيل: يحتمل أنه لم ينكر عليه: إما لعلمه بأنه لم يبلغه التحريم فلم يكن الفعل عليه حراماً إذ ذاك أو لأنه علم بلوغ التحريم إليه ولم ينجع فيه وأصر على ما هو عليه أو لأنه منعه مانع من الإنكار. قلنا: عدم بلوغ التحريم إليه غير مانع من الإنكار والإعلام بأن ذلك الفعل حرام بل الإعلام بالتحريم واجب حتى لا يعود إليه ثانياً وإلا كان السكوت مما يوهم: إما عدم دخوله في عموم التحريم أو النسخ وأما إذا علم ذلك الشخص التحريم وأصر على فعله مع كونه مسلماً متبعاً للنبي عليه السلام فلا بد من تجديد الإنكار حتى لا يتوهم نسخه ولا يلزم على هذا تجديد الإنكار على اختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم إذ هم غير متبعين له ولا يعتقدون تحريم ذلك حتى يقال: يتوهم نسخ ذلك بسكوت النبي عليه السلام عن الإنكار عليهم. وما ذكروه من احتمال المانع وإن كان قائماً عقلاً غير أن الأصل عدمه وهو في غاية البعد ولا سيما بعد ظهور شوكته واستيلائه وقهره لمن سواه. المسألة الرابعة لا يتصور التعارض بين أفعال رسول الله بحيث يكون البعض منها ناسخاً للآخر أو مخصصاً له وذلك لأنهما إما من قبيل المتماثلين كفعل صلاة الظهر مثلا في وقتين متماثلين أو في وقتين مختلفين وإما من قبيل المختلفين.

والفعلان المختلفان إما أن يتصور اجتماعهما كالصوم والصلاة أو لا يتصور اجتماعهما: وما لا يتصور اجتماعهما إما أن لا تتناقض أحكامهما كصلاة الظهر والعصر مثلاً أو تتناقض كما لو صام في وقت معين وأكل في مثل ذلك الوقت. فإن كان من القسم الأول أو الثاني أو الثالث فلا خفاء بعدم التعارض بينهما لإمكان الجمع. وإن كان من القسم الرابع فلا تعارض أيضاً إذ أمكن أن يكون الفعل في وقت واجباً أو مندوباً أو جائزاً وفي وقت آخر بخلافه ولا يكون أحدهما رافعاً ولا مبطلاً لحكم الآخر إذا لا عموم للفعلين ولا لأحدهما. نعم إن دل الدليل على أن ما فعله النبي عليه السلام من الصوم كان يجب تكريره عليه في مثل الوقت أو دل الدليل على لزوم وجوب تأسي أمته به في ذلك الوقت فإذا ترك ذلك الفعل في مثل ذلك الوقت بالتلبس بضده كالأكل مع الذكر للصوم والقدرة عليه فإن أكله يدل على نسخ حكم ذلك الدليل الدال على تكرار الصوم في حقه لا نسخ حكم ذلك الصوم المتقدم لعدم اقتضائه للتكرار ورفع حكم وجد محال أو أنه رأى بعض الأمة في مثل ذلك الوقت يأكل فأقره عليه ولم ينكر مع الذكر للصوم والقدرة على الإنكار فإن ذلك يدل على نسخ حكم ذلك الدليل المقتضي لتعميم الصوم على الأمة في حق ذلك الشخص أو تخصيصه لا نسخ حكم فعل الرسول ولا تخصيصه وإن قيل بنسخ فعل الرسول وتخصيصه فلا يكون إلا بمعنى أنه قد زال التعبد بمثله عن الرسول أو الواحد من الأمة وذلك من باب التجوز والتوسع لا أنه حقيقة. المسألة الخامسة إذا تعارض فعل النبي وقوله فإما أن يكون فعله لم يدل الدليل على تكرره في حقه ولا على تأسي الأمة به فيه أو دل فإن كان الأول فقوله إما أن يكون خاصاً به أو بنا أو هو عام له ولنا. فإن كان خاصاً به فإما أن يعلم تقدم أحدهما أو يجهل التاريخ فإن علم تقدم أحدهما وتأخر الآخر فإما أن يكون المتقدم هو الفعل أو القول فإن كان المتقدم هو الفعل مثل أن يفعل فعلاً في وقت ويقول بعده إما على الفور أو التراخي: لا يجوز لي مثل هذا الفعل في مثل هذا الوقت فلا تعارض بينهما لأن القول لم يرفع حكم ما تقدم من الفعل في الماضي ولا في المستقبل لأن الفعل غير مقتض للتكرار على ما وقع به الغرض وقد أمكن الجمع بين حكم القول والفعل وإن كان المتقدم هو القول مثل أن يقول: الفعل الفلاني واجب علي في الوقت الفلاني ثم يتلبس بضده في ذلك الوقت فمن جوز نسخ الحكم قبل التمكن من الامتثال قال: إن الفعل ناسخ لحكم القول ومن لم يجوز ذلك منع كون الفعل رافعاً لحكم القول وقال: لا يتصور وجود مثل ذلك الفعل مع العمد إن لم نجوز على النبي عليه السلام وإلا فهو معصية. وأما إن كان قوله خاصاً بنا فلا تعارض أيضاً لعدم اجتماعهما في محل واحد من جهة واحدة. وأما إن كان قوله عاماً لنا وله فإن كان الفعل متقدماً فلا معارضة أيضاً بين قوله وفعله أما بالنسبة إليه عليه السلام فلما تقدم فيما إذا كان قوله خاصاً به وأما إلينا فلأن فعله غير متعلق بنا على ما وقع به الغرض وإن كان القول هو المتقدم فالحكم في التعارض بين قوله وفعله بالنسبة إليه كما تقدم أيضاً فيما إذا كان قوله خاصاً به ولا معارضة بالنسبة إلينا لعدم توارد قوله وفعله علينا على ما وقع به الغرض هذا كله فيما إذا لم يدل الدليل على تكرر ذلك الفعل في حقه ولا تأسي الأمة به وأما إن دل الدليل على تكرره في حقه وعلى تأسي الأمة به أو على تكرره في حقه دون تأسي الأمة به أو على تأسي الأمة به دون تكرره في حقه فالحكم مختلف في هذه الصور. فإن دل الدليل على تكرره في حقه وعلى تأسي الأمة به فلا يخلو قوله إما أن يكون خاصاً به أو بنا أو هو عام له ولنا: فإن كان قوله خاصاً به فإما أن يعلم تقدم الفعل أو القول أو يجهل التاريخ: فإن علم تقدم فالقول المتأخر يكون ناسخاً لحكم الفعل في حقه في المستقبل دون أمته لعدم تناول القول لهم وإن كان القول هو المتقدم ففعله يكون ناسخاً لحكم القول في حقه إن كان بعد التمكن من الامتثال أو قبله على رأي من يجوزه وموجباً للفعل على أمته وأما إن جهل التاريخ فلا معارضة بين فعله وقوله بالنسبة إلى الأمة لعدم تناول قوله لهم.

وأما بالنسبة إليه فقد اختلف فيه: فمنهم من قال بوجوب العمل بالقول ومنهم من قال بالعكس ومنهم من أوجب المعارضة والوقف إلى حين قيام دليل التاريخ والمختار إنما هو العمل بالقول لوجوه أربعة: الأول أن القول يدل بنفسه من غير واسطة والفعل إنما يدل على الجواز بواسطة أن النبي عليه السلام لا يفعل المحرم وذلك مما يتوقف على الدلائل الغامضة البعيدة. الثاني أن القول مما يمكن التعبير به عما ليس بمحسوس كالمعقولات الصرفة وعن المحسوس والفعل لا ينبئ عن غير محسوس فكانت دلالة القول أقوى وأتم. الثالث أن القول قابل للتأكيد بقبول آخر ولا كذلك الفعل فكان القول لذلك أولى. الرابع أن العمل بالقول هاهنا مما يفضي إلى نسخ مقتضى الفعل في حق النبي عليه السلام دون الأمة والعمل بالفعل يفضي إلى إبطال مقتضى القول بالكلية فكان الجمع بينهما ولو من وجه أولى. فإن قيل: بل الفعل آكد في الدلالة فإنه يبين به القول والمبين للشيء آكد في الدلالة من ذلك الشيء وبيانه أن جبريل عليه السلام بين للنبي عليه السلام كيفية الصلاة المأمور بها وبين مواقيتها حيث صلى به في اليومين وقال يا محمد الوقت ما بين هذين والنبي عليه السلام بين الصلاة للأمة بفعله حيث قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وبين المراد من قوله تعالى "ولله على الناس حج البيت" "آل عمران 97" بفعله حيث قال: "خذوا عني مناسككم" وقال للذي سأله عن مواقيت الصلاة "صل معنا" وبين الشهر بأصابعه حيث قال "إنما الشهر هكذا وهكذا" وأيضاً فإن كل من رام تعليم غيره إذا أراد المبالغة في إيصال معنى ما يقوله إلى فهمه استعان في ذلك بالإشارة بيده والتخطيط وتشكيل الأشكال ولولا أن الفعل أدل لما كان كذلك. قلنا: غاية ما ذكرتموه وجود البيان بالفعل وكما وجد البيان بالفعل فقد وجد بالقول أغلب من البيان بالفعل فإن أكثر الأحكام مستندها إنما هو الأقوال دون الأفعال وغايته أنهما يتساويان في ذلك ويبقى ما ذكرناه من الترجيحات الأولى بحالها هذا كله إذا كان قوله خاصاً به. وأما إن كان قوله خاصاً بنا دونه فإما أن يعلم تقدم الفعل أو القول أو بجهل التاريخ فإن علم تقدم الفعل فالقول المتأخر يكون ناسخاً للحكم في حقنا دونه وإن كان القول هو المتقدم فالحكم في كون الفعل ناسخاً لحكم القول في حقنا دون النبي فكما ذكرناه فيما إذا كان القول خاصاً به وأما إن جهل التاريخ فالخلاف كالخلاف فيما إذا كان القول خاصاً به والمختار إنما هو العمل بالقول لما علم. وأما إن كان القول عاماً له ولنا فأيهما تأخر كان ناسخاً لحكم المتقدم في حقه وحقنا على ما ذكرناه من التفصيل في التعقيب والتراخي وإن جهل التاريخ فالخلاف كالخلاف والمختار كالمختار وهذا كله فيما إذا دل الدليل على تكرر الفعل في حقه وعلى تأسي الأمة به. وأما إن دل الدليل على تكرره في حقه دون تأسي الأمة به فالقول إن كان خاصاً بالأمة فلا تعارض لعدم المزاحمة بينهما وإن كان خاصاً بالنبي أو هو عام له وللأمة فالتعارض بين القول والفعل إنما يتحقق بالنسبة إليه دون أمته لعدم قيام الدليل على تأسي الأمة به في فعله ولا يخفى الحكم سواء تقدم الفعل أو تأخر أو جهل التاريخ وأما إن دل الدليل على تأسي الأمة به في فعله دون تكرره في حقه فالقول إن كان خاصاً به فإن كان متأخراً عن الفعل فلا معارضة لا في حقه ولا في حق أمته وإن كان متقدماً فالفعل المتأخر عنه يكون ناسخاً لحكم القول في حقه على ما ذكرناه من التفصيل دون أمته وإن جهل التاريخ فالخلاف على ما تقدم. وإن كان القول خاصاً بأمته فلا معارضة بين القول والفعل بالنسبة إلى النبي عليه السلام لعدم المزاحمة وأما إن تحققت المعارضة بين القول والفعل بالنسبة إلى الأمة فأيهما كان متأخراً فهو الناسخ وإن جهل التاريخ فالخلاف على ما سبق وكذلك المختار. وإن كان القول عاماً له ولأمته فإن تقدم الفعل فالقول المتأخر لا معارضة بينه وبين الفعل في حق النبي عليه السلام وإنما هو ناسخ لحكم الفعل في حق الأمة وإن تقدم القول فالفعل ناسخ لحكم القول في حق النبي والأمة وإن جهل التاريخ فالخلاف كالخلاف والمختار كالمختار والله أعلم.