انتقل إلى المحتوى

أقاموا بعض يوم فاستقلوا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

أقاموا بعضَ يومٍ فاستقلّوا

​أقاموا بعضَ يومٍ فاستقلّوا​ المؤلف علي الجارم


أقاموا بعضَ يومٍ فاستقلّوا
فطار القلبُ يخفِقُ حيثُ حلّوا
مضت بهمُ النجائبُ مُصْعِداتٍ
تَمَلُّ بها الطريقُ ولا تَمَلُّ
زواملُ لم يُعِّوقْهُنّ ليلٌ
ولم يُثْقِلْ كواهلَهُنّ حِمْل
رآها آدمٌ وَعَدَتْ بنُوحٍ
وولَّى بعدَها نَسْلٌ ونسل
يسايرهُنَّ أنَّي سِرْنَ بَيْنٌ
ويتبعهُنّ حيثُ ذهبنَ ثُكْل
هَوَتْ أمُّ الركائب كيف سارت
وهل تدري الركائبُ من تُقِلّ
أسائلها وقد شطّتْ وقوفاً
وأيْنَ من الوقوفِ المُشْمَعِلُّ
طفِقْتُ أمدُّ نحوَ الركبِ طَرْفي
فَغَصَّ الطرفَ كُثْبانٌ ورمل
وقمتُ أُطِلُّ من شَرَفٍ عليهم
فخانتني الدمُوعُ فما أُطلّ
وناديتُ الحبيبَ فعاد صوتي
وفي نَبَراتِه هَلَعٌ وخَبْلُ
أصاخ له من الصحْراء نَجْدٌ
فردّده من الصحراءِ سهل
إذا بدت الغزالةُ ثم غارت
علِمنا أن هذا العيشَ ظِلّ
هي الدنيا فليس لها ذِمامٌ
وليس لها على الأيام خِلّ
إذا أعطت فقد أعطت قليلاً
ولا يبقَى القليلُ ولا الأقلّ
تدورُ فبْينَ شيخٍ أسكتته
مَنيَّتهُ وطفلٍ يَسْتهِلُّ
لها نهل من الأمم المواضى
ومما تنسل الأيام علّ
نعودُ إلى الترابِ كما بدأنا
فكُلُّ حياتِنا نَقْضٌ وغَزْل
رأيتُ لكلِّ مشكلةٍ حُلولاً
ومشكلةُ المنيِّةِ لاتُحلّ
إذا كان الفَناءُ إلى بقاءٍ
فأنجَعُ ما يُصِحُّك ما يُعِلّ
بنفسي في الثرى غُصناً رطيباً
يرِفُّ من الشبابِ ويَخضَئل
تُضاحكُه لدى الإصباحِ شمسٌ
ويلثِمه لدى الإمساءِ طَلَ
كأنّ حَفيفَه نَضْراً وريقاً
بسمعي حَلْيُ غانيةِ يصِلُ
يميلُ به النسيمُ كأنّ أُمًّا
يميلُ بصدرِها الخفّاقِ طفلُ
إذا اشتبهت غُصُونُ الروضِ شَكْلاً
فليس لقدِّه في الحسنِ شكلُ
ضَنْنتُ به وجُدتُ له بنفسي
وإنّ الحبَّ تبذيرٌ وبُخل
وكنتُ أشَمُّ ريحَ الخُلْدِ منه
وأهنأ في ذَراه وأستظِلّ
وقلتُ لَعلّه يبقَى ورائي
بدَوْحَتِه فما نفعت لَعلّ
فَسَلْ عنه العواصفَأيُّ نَوْءٍ
أطاح به وأيَّ ثَرَى يحُلّ
نأَى عنّي وخلّف لي فؤاداً
يذوبُ أسىً عليه ويضمحلُ
يُبلُّ على التداوي كلُّ جُرْحٍ
وجُرْحُ القلبِ دامٍ لا يُبِلّ
أشرتم بالرثاءِ فهجتموني
وتعذيبُ الذبيحةِ لا يحِلُّ
فضلّ الشعرُ في وادي الثُكالَى
وكان إذا تحفّز لا يضِلّ
خذوا مني الرثاءَ دموعَ عينٍ
تَكِلُّ المُعْصِراتُ ولا تكِلّ
وآلامَ الجريح أطلّ نَبْلٌ
يزاحمِ جانبيْه وغار نَبل
وشعراً يُلهبُ الأشجانَ جَزْلاً
كما أذكَى لهيبَ النارِ جَزْل
فليس به مع الأنّاتِ خَبْنٌ
وليس به مع الزفَرات خَبْلُ
له نَغَمٌ يعِزُّ عليه مِثلٌ
على ماضٍ يَعِزُّ عليه مثلُ
لعلّ به لمن فُجعوا عزاءً
فإنّ جميعَنا في الحزنِ أهل
فقد يشفى بكاءٌ من بكاءٍ
كما يشفى أليمَ الْجُرْحِ نَصْلُ
بكى خيرُ البريةِ خيرَ طفلٍ
ودمعُ العينِ في الأحداثِ نُبل
مضى النجارُ والعلياء حِصْنٌ
عليه بعده بابٌ وقُفْل
به جمع الحجا للعلمِ شَمْلاً
فبُدِّد بعده للعلم شمل
له حججٌ يُسمِّيها كلاماً
وماهي غيرُ أسيافٍ تُسَلّ
إذا فاضت ينابعُه خطيباً
علمتَ بأن ماءَ البحرِ ضَحْل
يذِلُّ له شَموسُ القوْلِ طوْعاً
ويستخذِي له المعنى المُدِلّ
بيانٌ مشرقُ اللمحاتِ زاهٍ
وقولٌ صادقُ النّبرَاتِ فَصْل
وآياتٌ تُرى فيها ابنَ بحرٍ
يصولُ كما يشاءُ ويستدلُّ
يفُلُّ شَبا الخصومة كيف كانت
برأيٍ كالمهنّدِ لا يُفَلّ
فذاك الفضلُ جلّ اللهُ ربّي
فليس يُحَدُّ للرحمنِ فضل
رأيتكَ والردَى يدنو روْيداً
إليكَ كما دنا للفتك صِلُّ
فوجهُك ذابلٌ والصمتُ هَمْسٌ
ومشيُك واهنُ الْخَطَواتِ دَأْل
تجرُّ وراءكَ السبعينِ عاماً
وللسبعينَ أَرْزاءٌ وثِقْل
مشيتَ كأَنّ رِجْلاً في بساطي
تسيرُ بها وفوق القبرِ رِجْل
أتيتَ تزورني فهُرِعْتُ أسعَى
إليكَ ودمعُ عيني يستَهل
وكان عِناقُنا لمّا افترقنا
وَثَاقاً للمودّةِ لا يُحَلُّ
ذممتَ لِيَ المشيبَ وفيه حَزْمٌ
وأطريتَ الشبابَ وفيه جهل
وأين الْحَزْمُ ويْحَكَ يا ابنَ أُمِّي
إِذا ما خانني جسمٌ وعقل
أتذكرُ إذ تَمازَحْنَا لتنسَى
وقد أدركتَ أنَّ المزحَ خَتْل
إذا أمَلَ الفتَى فالهزلُ جِدٌّ
وإن يئِسَ الفَتى فالْجِدُّ هزل
فديتك هل إلى الأخرَى بَريدٌ
وهل لتزاورِ الأرواحِ سُبْل
وهل يبقَى الفتَى بعد المنايا
له بالأهلِ والإخوانِ شُغْل
وهل تصِلُ الدُّموعُ إلى حبيبٍ
ويعلَمُ حُرْقَةَ الأشجانِ نَجْل
وهل لي بينَ من أهوَى مكانٌ
إِذا قوَّضْتُ رحلي أو مَحَلُّ
وهل في سَاحَةِ الجنّاتِ نهرٌ
يزولُ بِمائهِ حِقدٌ وغلّ
وهل إن ساءل الأحياءُ قبراً
يُجابُ لصيحةِ الأحياءِ سُؤْل
لقد جلّ المصابُ وجلّ صبري
عليكَ وأَنت من صبري أَجَلّ
فقم واخطب بحفلِك وكم تَغَنّى
وهام بصوتِكَ الرنّانِ حَفْلُ
وذكّرنَا اليقينَ فكم عقولٍ
تكادُ عليك من شَجَنٍ تَزِلّ
وقل إنّ الفناءَ إلى خلودٍ
وإنَّ زخارفَ الأيامِ بُطْل
وإنّ الموتَ إطلاقٌ لروحٍ
معذَّبةٍ وإنَّ العيشَ غُلّ
شبابُ المسلمين بكلِّ أرضٍ
عليكَ ثناؤهم فرضٌ ونَفْلُ
أخذتَ عليهِمُ للحقِّ عهداً
فوَفوْا بالعهودِ وما أخلّوا
شبابٌ إن دعا القرآنُ شُمْسٌ
وإن تستصرِخ النّجَداتُ بُسْل
بنو العرب الذين عَلَوْا وسادوا
سما فرعٌ لهم واعتزَّ أصل
فنم ملءَ الجفونِ أبا صلاحٍ
ففي الجناتِ للأبرارِ نُزْل
يطوفُ بقبرِك الزاكي سلامٌ
وينضَحُه من الرَّحَماتِ وَبْل
وهاك رثاءَ محزونٍ مُقِلٍّ
وما أوْفَى إذَا بذلَ المُقِلّ