أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين/حصار الحيرة وتسليمها - ... - متاعب الفرس الداخلية
سار خالد من أمغيشيا إلى الحيرة، وحمل الرجال والرحال والأثقال في السفن فخرج مرزبان الحيرة «حاكمها الفارسي» ويدعى الأزاذبة وأرسل ابنه فقطع الماء عن السفن ، وذلك بسد الفرات فبقيت السفن على
الأرض فسار خالد في خيل نحو ابن الأزاذبة فلقيه على فم فُرات بادَقْلَی فقتله وقتل أصحابه، غير أن المدينة كانت محصنة بأربعة حصون فأبت التسليم فحصرهم وقاتلهم المسلمون فاقتحموا الدور والدیورة1 وأكثروا القتل فنادى القسيسون والرهبان « يا أهل القصور ما يقتلنا غيركم، فنادى أهل القصور المسلمين. «قد قبلنا واحدة من ثلاث : إما الإسلام، أو الجزية، أو المحاربة » .
أما الأزاذبة فإنه هرب إذ بلغه موت اردشير
وهذه أسماء قصور الحيرة التي تحصنوا فيها :
(1) القصر الأبيض وفيه إيَاس بن قَبِيصة الطائي وكان ضِرَار بن الأزور محاصراً له.
(2) قصر الغَرِيَّيْن وفيه عدي بن عدي. وكان ضرار ابن الخطاب محاصراً له.
(3) قصر ابن مازن وفيه ابن أكال. وكان ضرار بن مقرن المزني محاصراً له.
(4) قصر ابن ُبَقيلة وفيه عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة. وكان المثني محاصراً له.
خرج هؤلاء الرؤساء الأربعة من قصورهم فأرسلهم المسلمون إلى خالد فكان أول من طلب الصلح، عمرو بن عبد المسيح ، فصالحوه على 190,000 وأهدوا له الهدايا وبقوا على دينهم. وبعث خالد بالفتح والهدايا إلى أبي بكر مع الهذيل الكاهلي فقبلها أبو بكر من الجزَاء، وكتب إلى خالد: أن أحسب لهم هديتهم من الجزاء إلا أن تكون من الجزاء، وخذ بقية ما عليهم فقوّ بها أصحابك.
لما مثل عمرو بن عبد المسيح أمام خالد قال له خالد :
- كم أتى عليك ؟
- مئون من السنين
- فيا أعجب ما رأيت ؟
- رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة تخرج المرأة من الحيرة فلا تزود إلا رغيفاَ2 فتبسم خالد وقال:
- هل لك من شيخك إلا عمله. خرفت والله يا عمرو. ثم أقبل على أهل الحيرة وقال: ألم يبلغني أنكم خبثة خدعة مكرة، فما لكم تتناولون حوائجكم بخَرف3 لا يدري من أين جاء؟ فتجاهل له عمرو وأحب أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله، ويستدل به على صحة ما حدث به فقال:
- وحقك أيها الأمير إني لأعرف من أين جئت.
- فقال : من أين جئت ؟
- فقال عمرو : أقرب أم أبعد ؟
- ما شئت.
- من بطن أمي.
- فأين تريد؟
- أمامي.
- وما هو؟
- الآخرة.
- فمن أين أقصى أثرك
- من صلب أبي.
- ففيم أنت ؟
- في ثيابي.
- أتعقل؟
- إي والله وأقيد.
- إنما أسألك.
- فأنا أجيبك.
- أسلم أنت أم حرب؟
- بل سلم .
- فما هذه الحصون ؟
- بنيناها للسفيه نحبسه حتى ينهاه الحليم.
- قتلت أرضٌ جاهلَها. وقتل أرضاً عالمُها، والقوم أعلم بما فيهم. - فقال عمرو: أيها الأمير، النملة أعلم بما في بيتها من الجمل ما في بيت النمل.
ذكرنا کرامتين للعلاء بن الحضرمي. والآن نذكر كرامة لخالد بن الوليد، ولم يكن أحدهما ساحراً ولا کاهناً. بل كان كل منها بطلاً مقداماً، فقد كان عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة خادم معه كِيس فيه سُمّ فأخذه خالد ونثره في يده وقال: لم تستصحب هذا؟ قال: خشيت أن تكون على غير ما رأيت فكان أحب إليّ من مكروه أدخله على قومي. فقال خالد: لن تموت نفسه حتى تأتي على أجلها، وقال : «بسم الله خير الأسماء. رب الأرض ورب السماء الذي لا يضر مع اسمه داء. الرحمن الرحيم» فابتلع خالد السم. فقال عمرو: «والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم. ما دام أحد منكم هكذا»4 لم يكن لابتلاع السم أي تأثير في خالد، فلم يمرض، ولم يمت مع عمرو بن عبد للسيح كان قد أعده للانتحار.
وصالح خالد أهل الحيرة، ففرضت عليهم الجزية عدا رجال الدين واشتغل المسلمون بحماية المدينة من الهجوم عليها. وكان لعبد المسيح الذي مر ذكره ابنة تدعى كرامة فتمسك خالد بتسليمها إلى شويل؛ لأنه كان رآها شابة فال إليها، فوعده النبي ﷺ ذلك، فلما فتحت الحيرة طلبها وشهد له شهود بوعد النبي ﷺ أن يسلمها إليه، وعلى ذلك سلمها له خالد، فاشتد ذلك على أهل بيتها وقرابتها. فقالت لهم: اصبروا فإنما هذا رجل أحمق. رآني في شبيبتي فظن أن الشباب يدوم، فافتدت منه بألف درهم ورجعت إلى أهلها.
لما فتح خالد الحيرة صلى صلاة الفتح ثماني ركعات لا يسلم فيهن وقال:
لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع في يدي تسعة أسياف وما لقيت قوماً کقوم لقيتهم من أهل فارس، وما لقيت من أهل فارس کاهل ألّيس.
وبعد أن احتل خالد الحيرة مكث فيها عاماً عيَّن عمالاً لجباية الخراج وأمراء للثغور، وتم صلح الحيرة بدفع مبلغ 600,000 درهم جزية وهو مبلغ قليل، لكنه كان في نظر العرب مبلغاً عظيماً
ذکر خالد في كتبه إلى الفرس غير مرة الخمر. فمما جاء في أحد كتبه إليهم : «ألا فقد جشكم بقوم يحبون الموت کا تحبون شرب الخمر» وهذا يدل على أن الخمور كانت منتشرة عندهم، وأنهم كانوا يقبلون على شربها حتى عُني خالد بذكرها.
وفي هذه الأثناء كانت الفرس تعاني كثيراً من المتاعب الداخلية بعد ملكها أردشير، وذلك أن شيري ابن کسری قتل كل من كان يناسبه إلى کسری بن قُباذ، ولهذا اقتصر همهم على حماية المدائن عاصمة ملكهم وما جاورها إلى نهر شير الذي هو فرع من نهر الفرات وكان المثني يهدد هذه الناحية لكنه توقف عن الزحف، لأن أبا بكر نهي عن التقدم إلا أن تحمي ظهور المسلمين.