انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 795/ما أشبه الليلة بالبارحة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 795/ما أشبه الليلة بالبارحة:

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 09 - 1948



غدر يهود

للأستاذ عمر عودة الخطيب

(إن في الغار الذي يكال رؤوس العرب، وإن في العار الذي

يجلل رؤوس اليهود، لمادة ثرة للخيال المبدع، ومداداً فياضاً

للقلم الخالق)

الأستاذ الزيات

أَذَّن بلال الفجر، وأرسل صوته الندي العذب بنداء الإسلام، وهرع المسلمون للمسجد لأداء الصلاة خلف رسول الله وعلى وجوههم سحابة حزن عميق، وفي عيونهم ذبول هم دفين، فلما التأم عقدهم، جلسوا في المسجد ينتظرون مقدم الرسول، وقد اشتد شوقهم لسماع حديثه الجميل الذي يُبرد غلة أفئدتهم، ويزيل غمة نفوسهم. . . ولم يلبثوا إلا قليلاً حتى دخل المسجد، وسلم على من فيه، ثم تقدم للصلاة واصطف حوله الأصحاب، فركع الأولى، ثم قام من الثانية، ورفع يديه بالقنوت، ودعا على قبائل (رعل وذكوان وسليم) الذين قتلوا القراء في (بئر معونة) ونكلوا بهم شرَّ تنكيل. . . وأمَّن المسلمون على دعائه، وقد نال منهم مقتل إخوانهم كل منال، ونزلت عليهم بمقتلهم أفدح كارثة، وأنكى مصيبة. . . ولم يجد رسول الله على قتلي ما وجد على قتلي (بئر معونة) لأنه لم يرسلهم لقتال، وإنما أرسلهم ليبينوا شرعته، ويبلغوا رسالته. . . فلم يشهروا سلاحاً، ولم يثيروا حرباً. . .

وخرج الرسول من المسجد يسير مع صحبه في أزقة المدينة، وقد توسطت الشمس كبد السماء، حتى أشرف على الصحراء. وهناك وقف (حسان بن ثابت) بينهم ينشدهم قصيدته في رثاء قتلى (بئر معونة)، وبينما هو يقول:

على قتلي معونة فاستهلي ... بدمع العين سحاً غير نزر

على خيل الرسول غداة لافوا ... ولاقتهم مناياهم بقد وإذا بالقوم ينصرفون عن حسان، وتطلعون نحو الصحراء ويشيرون بأيديهم نحو خيال فارس بعيد يخب في هذه الرمال المحرقة، ويعدو قاصداً (المدينة) فيخيفه النقع الثائر تارة، ثم تظهره الآكام المرتفعة أخرى، حتى أصبح قريباً منهم، وتعلقت أبصارهم به. ولما أدنا أبطأ في سيره، وشدَّ لفرسه العنان، حتى وقف إزاءهم، فتصايح الجميع. . . عمرو. . . عمرو. . . والتفوا حوله، فترجل ثم تقدم من الرسول ، وسلم عليه، ثم انفتل إلى الأصحاب، فأدَّى لهم التحية. . .

وعرف الجميع أنه (عمر بن أمية الضميري) أحد القرَّاء الذين بعثهم الرسول إلى القبائل لتعليم القرآن. وعقدت الدهشة ألسنة الجميع فلبثوا ينظرون إلى عمرو دون أن ينطق أحدهم بحرف وكأنهم لا يصدقون ما رأوا، وقد أخبروا بأ القراء قتلوا عن آخرهم. . وقطع عليهم حبل الصمت الطويل رسول الله بسؤال عمرو عن مصير القوم وعن صدق مقالة الناس. . .

قال (عمر بن أمية الضميري): وذهبنا يا رسول الله إلى حيث أمرتنا، وسرنا حيث أشرت علينا، حتى وصلنا (بئر معونة) فبعثنا (حرام بن ملحان) إلى (عامر بن الطفيل) برسالتك فلم ينظر في الكتاب، بل وثب على حرام فقتله. . . واستبطأنا حراماً، فأقبلنا في أثره، فلما شعر بنا (عامر) استصرخ علينا قبائل من بني (سليم ورعل وذكوان) فنفروا معه، فلما رأيناهم أخذنا سيوفهم، وقاتلنا حتى قتل إخواني عن آخرهم، وبقيت وحدي، أنتظر الموت. . . وقد أخذني القوم أسيراً، فلما مثلت بين يدي (ابن الطفيل) قال لي: كان على أمي نسمة فأنت حرٌّ عنها، وجز ناصيتي وأطلقني عن رقبة زعم أنها كانت على أمه. فلما خرجت إلى المدينة صادفت بمكان يسمى (القرقرة) رجلين نزلا معي في ظل كنت فيه، فقلت لهما: ومن أنتما؟. . . فذكرا لي أنهما من بني عامر، فتركهما حتى ناما ثم قتلتهما ثأراً لإخواني الذين قتلوا في (بئر معونة). ثم عدوت بفرسي نحو المدينة. . حتى وجدتكم هنا. . . فغضب رسول الله حين سمع نبأ مقتل العامريين، ونظر إليه، وقد ظهر أثر الغضب في أسارير جبينه وقال له:

(بئس ما صنعت! قد كان لهما مني أمان وجوار سوف أدفع ديتهما. . .)

رأى رسول الله أن مصاب المسلمين في (بئر معونة) جعل المنافقين واليهود في المدينة يتربصون بهم الدوائر، ويعملون على الكيد لهم، وقد ضعفت مكانتهم من نفوسهم، وقلتْ هيبتهم في قلوبهم. . ورجعوا بذاكرتهم إلى انتصار قريش على المسلمين بأحُد. . . ففكر طويلاً في أمر (يهود) وأراد امتحانهم، لتتضح له نياتهم، ويعلم ما تخفيه أفئدتهم، فذكر أن اليهود حلفاء بني عامر، وأن خير امتحان لهم أن يسألهم معاونته في دية العامريين اللذين قتلهما (عمرو بن أمية) خطأ، فعزم على الذهاب إلى (العالية) حيث يقيم (بنو النضير) من اليهود على بُعد أميال من المدينة. . .

ولما كان يوم السبت خرج رسول الله إلى مسجد قباء فصلى فيه ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، بينهم أبو بكر وعمر وعلي. . . ثم ذهب إلى (بني النضير) في العالية، فأظهروا الفرح بمقدمه. . . والسرور لزورته. . . ولما ذكر لهم ما جاء فيه تكلفوا الغبطة والبشر وقالوا: نفعل يا أبا القاسم ما أحببت. . . وجلس إزاء بعضهم يتبسطون معه في الحديث، بينما انصرف سائرهم إلى ناحية أخرى يتشاورون فيما بينهم على الغدر بمحمد، والقضاء على صحبه، وذكروا آنئذ مقتل (كعب بن الأشرف) اليهودي. . . وأرادوا أن يثأروا له. . . ودخل أحدهم (عمرو بن جحاش) البيت الذي كان رسول الله يستند إلى جواره، وتبعه ناس آخرون، ولبثوا داخله طويلا، يدبرون المكيدة ثم خرجوا وقد عزموا على أن يظهر (عمرو بن جحاش) على البيت الذي يستند محمد إلى جداره فيطرح عليه صخرة يقتله بها. . . ورأى رسول الله إمارات الغدر في عيونهم، فارتاب في أمرهم، وخشي شرهم، ولذلك انسحب من المجلس تاركا وراءه أصحابه يظنون أنه قام لبعض أمره. . . وذهب تواً إلى المدينة، ولقيه في ظاهرها بعض اليهود، وكان قاصداً العالية. . . ورآه وهو يتجه نحو المسجد. ولما استبطأ المسلمون الرسول خافوا عليه، وقاموا في طلبه، فلقوا الرجل القادم من المدينة وعرفوا منه أن الرسول دخلها وذهب تواً إلى المسجد. . . فلحقوا به. . .

صعد (عمرو بن جحاش) إلى البيت ليلقى بالصخرة على محمد وهو يظن أنه ما زال مستنداً إلى الجدار فإذا بذلك اليهودي الذي رأى الرسول في المدينة يصل فيرى حركة قوامه واهتمامهم فاقترب منهم يسألهم عن الخبر، فأنبئوه بما عزموا عليه، وطلبوا إليه ألا يتكلم. . . فضحك منهم وقال: الآن رأيت (محمداً) في ظاهر المدينة. . . فماذا تصنعون؟!.

فأسقط في أيديهم، وحاروا في أمرهم ولم يدروا كيف يعملون، وأيقنوا أن محمداً سينتقم منهم ولبثوا ينتظرون قضاء الله فيهم، وقد رجع كيدهم إلى نحورهم وعادت سهامهم إلى صدورهم. . . ودارت عليهم الدوائر. . .

وصل الرسول المسجد، ولبث ينتظر أصحابه فما عتم أن رآهم مقبلين من بابا المسجد وقد تشوفت نفوسهم لمعرفة الأمر الذي حدا به إلى مغادرة المجلس في العالية والقدوم سريعاً إلى المدينة. فلما أنباهم الخبر، وأفهمهم نوايا اليهود، احمرَّت منهم الأحداق وثارت منهم الحفائظ، وغلت صدورهم كالمراجل من الغيض. . . ولما رأى الرسول ما بنفوس أصحابه من الثورة والسخط نظر إلى (محمد بن مسلمة) قال له: (اذهب إلى يهود بني النضير، وقل لهم: رسول الله أرسلني إليكم، أن اخرجوا من بلادي فلا تساكنوني بها. . . لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم. . . بما هممتم به من الغدر بي. . . لقد أجلتكم عشراً فمن رأى بعد ذلك ضربت عنقه. . .)

وقع هذا الإنذار على اليهود موقع الصاعقة، فتحيروا في أمرهم، ولم يجدوا لإنذار (محمد) دفعاً، ومكثوا أياماً يتجهزون للرحيل حتى جاءهم رسول من عند (عبد الله بن أُبيّ) ينصحهم ألا يخرجوا من المدينة، وأن يقيموا في حصونهم، ويعدهم بأن يُعاونهم على قتال محمد. . . فآمن بهذا قوم، وكذَّب آخرون , ولم يكن لهم بابن أبي ثقة. . . واختلط عليهم الأمر، وضاقت بهم أسباب الحيلة، وكادت تقع الفرقة لولا أن كبيرهم (حيى بن أخطب) وقف بينهم قائلا: (كلا، بل أنا مرسل إلى محمد أنا لا نخرج من ديارنا وأموالنا. . . فليصنع ما بدا له. وما علينا إلا أن نرمَّ حصوننا، وننقل الحجارة إليها، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة، وماؤنا لا ينقطع، ولن يحصرنا محمد سنة كاملة) فأذعن القوم لمقالته، وانصرفوا لشؤونهم.

بلغت مقالة (ابن أخطب) رسول الله، وانقضت الأيام العشرة، دون أن يخرجوا من ديارهم، فاستعد المسلمون للحرب وساروا إلى فناء (بني النضير) يشقون أجواز الفضاء بالتكبير، وقام اليهود وراء حصونهم، ومعهم النبل والحجارة، فحاصرهم رسول الله وقطع نخلهم، واعتزلهم (قريظة) وخذلهم (ابن أبي) فأيأسوا من النصر بعد حصار دام خمسة عشر يوماً، فاستلموا وأكل اليأس قلوبهم، وملك الرعب عليهم نفوسهم، فأرسلوا إلى النبي أن يؤمنهم على أموالهم وذراريهم حتى يخرجوا من المدينة، فصالحهم على أن يخرجوا منها، ولكل ثلاثة منهم بعير يحملون عليه ما شاءوا من الطعام والشراب والثياب، وأن يتركوا الدروع والسلاح، فرضوا بهذا. . . ولما أيقنوا بالجلاء، حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها بأيديهم (حتى إن الرجل منهم كان يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره وينطلق) وصاروا ينقضون العمد والسقوف، وينزعون الخشب والأوتاد، وارتحلوا عن المدينة، وتعفروا بغبار الذلة، وتضرجوا بدم الصغار. . .

ورجع رسول الله إلى المدينة، يحمل ما تركوه من الدروع والأموال والسلاح، وإذا بوحي الله ينزل عليه بهذه الآيات: (سبَّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم. هُو الذي أخرَج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوَّل الحشر، ما ظننتم أن يخرجُوا، وظنوا أنهم مانعتهم حُصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، يُخربون بُيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار. ولولا أن كتب عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب. . .)

دمشق - المزة

عمر عودة الخطيب

فتى الفيحاء