انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 795/العبقرية والحرمان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 795/العبقرية والحرمان

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 09 - 1948



للأستاذ أنور المعداوي

خطر لي أأتعقب بعض العبقريات في أدب العالم لأرى إلى مدى يمكن أن ينتج العباقرة في ظلال الحرمان. . . ولعل شيخاً من شيوخ الأدب هو الذي دفعني إلى أن أقف من هذا الموضوع موقف الباحث المتأمل، حين ذهب في مجلس جمع بيني وبينه إلى أن الحرمان يلهب فيلهم، وأنه أكثر إثارة لمكامن الشعور في النفس الإنسانية مما عداه من أسباب الترف والنعيم. . . ولم يستعرض الأستاذ يومئذ بعض النماذج الإنسانية في الأدب العالمي ليدلك على مقدار ما في هذا الرأي من صواب، ومدى ما فيه من حقيقة؛ ذلك لأن الحديث كان حديثاً عابراً يأخذ بطرف من هنا وطرف من هناك، ولا يكاد يستقر على ناحية بعينها ليناقشها في صبر وأناة.

وانفض المجلس، وخلوت إلى نفسي أقلب الرأي على وجوهه المختلفة. لقد كانت جذوره متأصلة في نفسي ولكنها كانت تترجح بين الشك واليقين. . أما اليقين فمرجعه إلى أني كنت أومن إيماناً عميقاً بأن الحرمان كما قال محدثي، أكثر إثارة لمكامن الشعور في النفس الإنسانية مما عداه من أسباب الترف والنعيم، وكنت أرى أن الفنان الذي يعيش في رحاب الحرمان يعيش متوثب الشعور دائماً، تلتهب أفكاره من وقدة العاطفة واشتعال الوجدان ولا كذلك الفنان المترف، لأن الترف في أكثر حالاته أقرب إلى الدعة والخمول، منه إلى سبرغور أو بلوغ أعماق.

هذا ما كنت أراه، ولكن الشك الذي كان يلوح بين ثنايا اليقين مرجعه إلى أني حين رحت أستعرض بعض النماذج في أدب العالم، وجدت أن بعض هذه النماذج يهز جانباً من جوانب اليقين الذي كان متأصلا في نفسي. . . إن تولستوي في الأدب الروسي مثلا قد وصل إلى أرفع درجات المجد الأدبي وهو يعيش عيشة الأثرياء المترفين، وإن بيرون في الأدب الإنجليزي قد أبدع أعظم آثاره الفنية وهو يتقلب في بحبوحة من العيش لا تتهيأ إلا لمن كان في مثل مركزه الاجتماعي الرفيع، وتستطيع أن تضيف إليهما بلزاك في الأدب الفرنسي، فقد كان يحيا حياة مترفة أثقلت كاهله بالديون، إلا أنه لم يستطع أن يخرج للناس أروع آثاره القصصية إلا في تلك الساعات التي كان يقبل فيها على متع الحياة وتقبل عليه.

وقل مثل ذلك عن جيته في الأدب الألماني، وعن شوقي في الأدب المصري!

هذه بعض نماذج لعبقريات أغدقت عليها الحياة ففجر منها الإغداق ينابيع البيان المشرق، وعيون الحكمة الخالدة، وأنهار الفن الرفيع. . وتعال نستعرض بعد ذلك نماذج أخرى لعبقريات لم تلق من الحياة إلا صنوفاً من الفاقة وألوان من الحرمان، لنرى أن الأثر الذي خلفته هنا لا يقل عن الأثر الذي خلفته هناك. ولا نعني بالحرمان هنا ذلك الذي تعارف عليه الناس حين حصروه في معناه الضيق ولم يتعدوا به نطاق الماديات، كلا. وإنما نتعداه إلى شتى معانيه في نطاق الماديات والمعنويات. . . هناك حرمان يتمثل في ذلك الأعمى الذي لم تشأ له الحياة أن يرى ضوء النهار، وهناك حرمان يتمثل في ذلك الأصم الذي حالت المقادير بينه وبين الإنصات لموسيقي الطبيعة، وهناك حرمان يتمثل في ذلك المصدور الذي ينفث دماً ولا يعرف طعم العافية إلا من أفواه الناس، وهناك حرمان يتمثل في ذلك المجنون الذي قدر له أن يشرف على الوجود بإحساس الفكر التائه والوعي الذاهل!

نعم، هناك مِلتن يرسل أعذب أنغامه وأرق أغانيه وهو محروم من نعمة البصر، وهناك بيتهوفن يدفع إلى سمع الزمان بسحر موسيقاه وهو محروم من نعمة السمع، وهناك كيتس يبعث إلى الصدور بدفء أشعاره وهو صاحب الصدر المحطم الذي لون قصائده بلون دمائه، وهناك موباسان يخرج للدنيا من وراء العقل المفقود ومضات من العبقرية المبدعة قل أن تجد لها مثيلا عند فنان سواه. . .

وكم في رحاب الحرمان المادي من عبقريات أخرى لقيت من ضروب البؤس والشقاء ما يرفض منه الصبر وتخور معه العزائم ومع ذلك فقد كتب لآثارها كل بقاء وكل خلود. . . وما أشبهها بالمعادن الكريمة يصفو جوهرها تحت وهج النار في بوتقة الزمن!

تخرج من هذا كله بأن العبقريات معادن. . . بعضها يتوهج في ظلالها الترف والنعيم، وبعضها يتأجج في رحاب الفاقة والحرمان وبعضها يخبو بريقه إذا ما انتقل من حال إلى حال؛ فأديب مثل مكسيم جوركي كان يعاني أبشع ألوان البؤس الإنساني في أيام الحكم القيصري، ولكنه كان في تلك الأيام الحافلة بالشقاء مثلا رائعاً للفنان الملهم. . . ولقد بلغ من الفاقة حداً جعل الكاتب الإنجليزي ويلز يترك له كثيراً من ملابسه يوم كان يزور روسيا ليلقاه ويتحدث إليه؛ لقد ترك ملابسه للفنان الذي أعجب به كما لم يعجب بأحد سواه! ولما قامت البلشفية على أنقاض الحكم القيصري خمدت الجذوة المتوهجة بلهيب الفن، لأن صاحبها قد انتقل من الجحيم إلى النعيم. ويقرر بعض النقاد المعاصرين وعلى رأسهم هربرت ريد أن كتابات مكسيم جوركي في أيام بؤسه وشقائه، لا يمكن أن ترقى إليها كتاباته في أيام الترف وإقبال الحياة. . .!

وهكذا كان حافظ إبراهيم في الأدب المصري. . . كان شعره يتدفق من أعماق الحرمان قوياً، صادقاً، معبراً، نابضاً بالحياة؛ فلما دفع به إلى دار الكتب وذاق جيبه طعم الذهب، واستمرأت نفسه حياة النعيم، نضب فيه معين الشعر وجف نبع الشعور. . ولما حاول بعض عشاق فنه أن ينطقوه كان قد أصفى!

إن العبقريات كما قلت معادن. . . بعضها يتوهج في ظلال الترف والنعيم، وبعضها يتأجج في رحاب الفاقة والحرمان، وبعضها يخبو بريقه إذا ما انتقل من حال إلى حال؛ وتلك أمور نقررها على هدى الدليل وفي ضوء المثال.

أنور المعداوي