انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 682/شريعة الكمال والخلود. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 682/شريعة الكمال والخلود. . .

مجلة الرسالة - العدد 682
شريعة الكمال والخلود. . .
ملاحظات: بتاريخ: 29 - 07 - 1946



للأستاذ حسن أحمد الخطيب

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

بينا في مقالنا السابق كمال الشريعة الإسلامية وسعة مباحثها وعدالة احكامها، ونفينا عنها الشبهة الأولى التي وجهت إليها، وهي قصورها، وأثبتنا وفاءها بحاجات الأمم ومطلبها في كل عصر بما فيها من نصوص محكمة، وقواعد سامية، وأصول على وجه الدهر قائمة

وفي هذا المقال ننظر في الشبهة الثانية، وهي أن العقوبات التي قدرتها الشريعة في الحدود قاسية بل، أسرف بعض الغالين فقال: إنها وحشية لا تتفق مع روح المدينة: فقد حكمت برجم الزاني إذا كان محصنا، وبجلد غير المحصن مائة جلدة، وقضت بقطع يد السارق، وبجلد شارب الخمر والقاذف ثمانين جلدة.

ولدحض هذه الحجة وإزاحة تلك الشبهة تقول: إن جميع الشرائع والقوانين السماوية والوضعية ترمى في غايتها إلى المحافظة على الضرورات الخمس: النفس والعقل والمال والنسل والدين، إذ يترتب على التفريط فيها والاعتداء عليها التنازع والنظام وسفك الدماء وفقد الأمن في الأنفس والأموال والأعراض، وانتشار المفاسد والشرور

ولكن القوانين الوضعية - وبخاصة القوانين الأوربية - تجانفت عن المحجة، وحادت عن الجادة، وتنكبت الصراط السوي، فلم تستطع المحافظة عليها بما دابر يقطع الفساد، وذلك لأنها لم تحرم الزنا إلا في حالات معينة، وأباحته عند الرضا في أكثر الحالات محتجة بالمحافظة على الحرية الشخصية، فكانت عاقبة ذلك كثرة اللقطاء الذين حرموا تربية الأباء وشفقتهم، وانتشار الأمراض السرية التي تفتك بالصحة فتكا ذريعا، والأحجام عن الزواج الذي ترتب عليه بقاء كثير من النساء في حالة من المسكنة والبؤس والتعس والشقاء. وفي الحالة المعينة التي حرمت فيها الزنا لم تفرض إلا أيسر العقوبات، فظلت الحال على ما هي عليه من انتشار البغاء وتمكن الشر والفساد

أما الاحتجاج بالحرية الشخصية فمردود، فأن من القواعد المسلم بها إن للإنسان مطلق الحرية الشخصية إلا فيما يعود بالضرر على نفسه أو على غيره. وقد ثبت بالتجربة والمشاهدة أن الزنا ضار بالزانيين صحيا وادبيا، ثم يتعدى الضرر منهما إلى غيرها من أسرتيهما، وهو تدنسهما بفضيحة الجناية على الاعراض، وهي عند من لم تمسخ طبائعهم لا تقل ضررا عن التعدي على الأنفس بالقتل، ولهذا ترى الإفراد في آلام حتى اليوم - خصوصا في الأمم الشرقية ومنها مصر - يحفزهم دافع الشرف إلى الانتقام لإعراضهم، وبذلك كثرت جرائم القتل من اجل الزنا.

كذلك باحت هذه القوانين الغربية تعاطي المسكرات بحجة الحرية الشخصية، وما دروا هذا الحرية قاتلة بشهادة الأطباء الذين قرروا ضررها وإيذاءها للجسم وتأثيرها في الكبد.

هذا إلى أضاعتها للمال في غير مصلحة ولا فائدة محققة، وجنايتها على العقل، وذلك شر عظيم قد يؤدي إلى مفسدة كبرى؛ فقد يقتل السكر، وقد يهجر زوجه وولده ويخرب بيته، وقد يجني حتى على عرضه. وليس أدل على ذلك مما قرناءه في الصحف أن رجلا مدمنا هجرته زوجه لذلك، فسطا في غيبة عقله وضياع رشده على عرض ابنته الصغيرة، ثم تعدى أيضاً على عرض ابنه الذي لم يتجاوز إحدى عشرة سنة.

هاتان جريمتان متأصلتان في نفوس البشر لأنهما صادرتان عن جبلة تزين للناس حب الشهوات. وقد رأيت انهما مصدران لكثير من الشرور والأثام والمفاسد التي تنخر عظام الأمم وتدع المجتمع سقيما بالأوصاب والعلل الاجتماعية، مهددا بالانحلال والفناء.

أفترى مع هذا إن عقوبة الحبس أو التغريم زاجرة أو رادعة أو متكافئة مع الآثار السيئة والعواقب الوبيلة التي أسلفنا ذكرها؟ لا شئ من ذلك يكون رادعا، أو يكون من شانه اجتناب هذه الجرائم فلم يبق إلا أن تكون العقوبة بدنية لأنها انفذ في النفس أثرا، واشد وقعا، وابلغ في زجر الجانين وردع غيرهم وأدنى إلى إصلاح النفوس وتطهير القلوب.

بقيت السرقة والقانون الأوربي يعاقب عليها كما تعاقب الشريعة الإسلامية، غير أن العقوبة في القانون الأول بغير القطع كالحبس وفي الشريعة الإسلامية بقطع اليد.

وحكم الشريعة أو لى بالاتباع وأحق بالمراعاة واجدر بالتقدير فإن السارق يأخذ خفية ويتعدى على صاحب المال في غفلته، فهو جبان في اعتدائه، نذل في خديعته، يستلب منه اعز شيء لديه بعد حياته وعرضه، وقد يرتكب جريمة القتل مع السرقة، بل كثيرا ما تقع هذه الجريمة كوسيلة يتذرع بها سرقته أو للفرار من تبعاتها، فيقتل من تفريق ولا تميز، حتى الطفل في مهاده، والشيخ الهرم في فراشه.

فإذا كانت عقوبة السارق. وهو يهدد المجتمع بأمضى الأسلحة وأخسها - هي الحبس، فهل ينزجر بها ويرتدع؟! وهل تؤثر فيمن تحدثهم أنفسهم بارتكاب هذه الجريمة؟، وهل يتحقق بذلك الأمن على النفوس والأموال؟! كلا، ولهذا نرى السرقات لا تقل ولا تنقطع، بل نراها تكثر في مضاعفة وازدياد لان العقوبة غير زاجرة، ومن ثم نرى اللصوص في هذا العصر الذي يزعم قادته أن قطع اليد لا يتفق مع روح المدينة - ينظمون أنفسهم، ويكونون عصائب قويه مسلحة كأنها حكومة داخل حكومة، لا يبالون الأموال ولا الارواح، كما نشاهد ذلك في الولايات المتحدة وغيرها.

ولو كانت العقوبة بدنية في مثل هذه الجرائم المهددة للأمن المثيرة للشر والفساد، القاضية على راحة المجتمع وطمأنينته لا نحسم الشر من رجسها - كما نشاهد أثار ذلك اليوم في البلاد الحجازية في عهد حكومتها السعودية، وقد كانت من قبل مساوية الأمن لا يطمئن فيها مقيم ولا ظاعن على نفسه ولا على ماله.

وقد جاء في تقرير بعثة الشرف المصرية الموفدة إلى الحجاز في سنة 1355 - الهجرية ما يؤيد ما ذهبنا إليه من أن تنفيذ حدود الله تعالى كفيل باستتباب الأمن وراحة البلاد، وقاطع لدابر الفساد، وان تنفيذ أحكام شريعته يفضى إلى خير العواقب، ويؤتى أطيب الثمرات - قالت البعثة في هذا التقرير:

(لا يفوتنا أن نذكر مع الإعجاب حالة الأمن في تلك البلاد - تعني بلاد الحجاز - فإن الأمن هناك مستتب موطد الأركان في كل مكان، وبخاصة في الطرق المؤدية إلى مكة المكرمة والى عرفات والى المدينة المنورة، مع كثرة القبائل الضاربة في جوانبها، وقد كانت من قبل مصدرا للسلب والاعتداء على حجاج بيت الله، وفرض الضرائب غير المشروعة عليهم. ويرجع الفضل في ذلك كله إلى يقظة رجال الحكومة العربية السعودية وضربهم على أيدي العابثين بأشد العقوبات كقطع يد السارق، وقطع أيدي وأرجل قطاع الطريق من خلاف. ومما يدعو إلى تمام الرضا والإعجاب أن تنفيذ العقوبة مرة واحدة كاف غالبا في عدم تكرار وقوع الجريمة التي تستوجبها).

ذلك والشرع الإسلامي الحكيم لم يحدد العقوبات إلا في أمهات الجرائم وكبائر المعاصي، وهي التي يضطرب لها حبل الجماعات وتشقى بها الأمم، وهي في خمسة مواطن: 1 - في الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، وهم قطاع الطريق.

2 - والذين يقتلون النفس بغير حق

3 - والذين يرمون المحصنات الغافلات

4 - والزانية والزاني

5 - والسارق والسارقة.

وما عدا ذلك من الجرائم لم يحدد العقوبات فيها، بل ترك للحكام وأهل الرأي من العلماء والمجتهدين أمرها ليلاحظوا ملابسات الجريمة وحالة المجرم، وما يناسب البيئة ويتفق مع أحوال الأمة في مختلف عصورها، وذلك ما أسلفنا شرحه في مبحث التعزيز.

وكان من حكمة الله - جل شأنه - ورحمته بالناس انه بين لهم العقوبات في المواطن الخمسة السابقة، إذ لو وكل إلى عقولهم استنباطها - وهي جد خطيرة - لذهب بهم الآراء كل مذهب ولعظم الاختلاف اشتد الخطب، فكفاهم ارحم الراحمين واحكم الحاكمين مئونة ذلك، وتولى بعلمه وحكمته ورحمته تقديرها، ورتب كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النكال

على انه لم يفت الشارع أن العقوبات في الحدود بدنية وان بعضها - لعظم الجرم - شديد كما في الزنا، وأن الخطأ إذا تبين بعد تنفيذها جسيم، ولذلك درء الحدود بالشبهات حتى صار قاعدة من قواعد الفقه الإسلامي، والأصل في تقريرها ما أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عائشة: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)، وروى عنه (ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا):

بذلك البيان الذي ورد في هذا البحث يقتنع كل منصف بان البيان الذي ورد في الحدود قد دعت إليها الحكمة واقتضتها مصلحة الأفراد وسعادة الجماعات وسلامة الأمم، وبهذه الأحكام التي بينا لك وجوه المصلحة والنفع فيها تجلت لك أنها - دون سواها - هي التي تتقرر بها الآثام والمفاسد. وبذلك ثبت كمال هذه الشريعة وعدالة أحكامها، وأنها بما قامت عليه من أصول وقواعد، وبما تغذى به من الأحكام الاجتهادية - صالحة على الدوام لكل أمة في أي عصر، تفي بحاجتها ومطالبها وتساير ما يطرأ عليها من مختلف التطور والأحوال.

حسن أحمد الخطيب