انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 682/تاريخ جحا. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 682/تاريخ جحا. . .

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 07 - 1946



للأستاذ كامل كيلاني

1 - خرافه وجحوان:

منذ خمسة عشر قرنا، تنقص بضعة عقود - اعني تنقص عشرات قليلة من السنين - ولد (خرافه) ذلك القاص العربي المخضرم البارع، الذي عاش في العصرين: الجاهلي والإسلامي. وقد عاصر (خرافة) - فيمن عاصر - جحوان الصحابي: جد (أبي الغصن عبد الله دجين بن ثابت) الملقب بجحا: شيخ الفكاهة الشرقية الباسمة الساحرة، ورمز الدعابة الفلسفية المرحة الساخرة.

وقد كان (خرافة) - فيما يقول عارفوه - طرافا وصافا، بارع المقال، رائع الخيال، يروي للناس عجائب من أخبار العفاريت والجن وطرائفهم وملحهم، ويقص عليهم من ذلكم غرائب معجبة يزعم لمعاصريه أنها حدثت له.

2 - حديث خرافة:

كان (خرافة) فيما يقول المفضل الضبي في أمثاله - معاصرا للنبي، وقد حدثه ببعض أحاديثه فاعجب بها، كان يحدث الناس أحاديث طريفة شائقة، منها الحديث التالي:

خرج (خرافة) - ذات ليلة - فلقي ثلاثة من الجن فسبوه (أي: أسروه) فقال أحدهم: (نعفو عنه) وقال الثاني: (قتله) وقال الثالث: نستعبده (أي: نجعله عبدا لنا).)

فبينما هم يتشاورون - في أمره - إذ ورد عليهم رجل، فقال (السلام عليكم) فقالوا (وعليك السلام) قال (وما انتم؟) قالوا: (نفر (أي: جماعة) من الجن أسرنا هذا الرجل فنحن نأتمر في أمره)

فقال (إن حدثتكم حديثا عجيبا أتشركوني فيه؟ (قالوا: (نعم) قال:

(إني كنت ذا نعمة، فزالت وركبني دين، فخرجت هاربا، فأصابني عطش شديد، فسرت إلى بئر، فنزلت لأشرب، فصاح بي صائح من البئر، فخرجت منها ولم أشرب.

فغلبني العطش فعدت، فصاح بي، ثم الثالثة فشربت ولم التفت إليه فقال: اللهم إن كان رجلا فحوله امرأة، وان كان امرأة فحولها رجلا.) فإذا أنا امرأة.

فأتيت مدينة فتزوجني رجل، فولدت منه ولدين، ثم عدت إلى بلدي فمررت بالبئر التي شربت منها، فصاح بي - كما صاح في الأول - فشربت ولم التفت إليه. فدعا - كالأول فعدت رجلا كما كنت.

ثم عدت إلى بلدي فتزوجت امرأة فولدت منها ولدين.

فلي اثنان من ظهري واثنان من بطني.

فقالوا له: (إن هذا لعجيب، أنت شريكنا.)

فبينما هم يتشاورون إذ ورد عليهم ثور يطير (أي: يسرع في سيره)، فلما جاوزهم، إذا رجل - بيد وهو يحفز في أثره (أي: يجري خلفه)، فوقف وسلم، فردوا عليه مثل ردهم على صاحبهم.

فقال: إن حدثتكم بحديث اعجب من هذا أتشركوني فيه؟)

قالوا: (نعم)

قال: (كان لي عم، وكان موسرا، وكانت له ابنة جميلة، وكنا سبعة إخوة. وكان لعمي عجل يربيه، فانفلت.

فقال: (أيكم يرده لي، فابنتي له.)

(فأخذت خشبتي هذه واتزرت ثم حفزت في أثره - وأنا غلام - فلا أنا ألحقه، ولا هو يكل.)

فقالوا: أن هذا لعجيب. فأنت شريكنا)

فبينما يتشاورون إذ ورد عليهم رجل على فرس أنثى، وخلفه غلام على فرس ذكر. فسلم - كما سلم صاحباه - فردوا عليه كردهم على صاحبيه. فسألهم فاخبروه الخبر.

فقال: إن حدثتكم بحديث اغرب من هذا أتشركونني فيه؟) فقالوا: (نعم) وهنا تحدثنا الأسطورة أن الرجل اخبرهم أن الفرس الأنثى هو أمة، وان الفرس الأخر هو عبد من الاشرار، وانهما ائتمرا به ليسحراه، فيصفوا لهما الجو.

ثم قال للفرس الأنثى التي تحته: (أكذلك؟)

فقالت - برأسها - (نعم).

وأشار إلى الفرس الذكر الذي تحت غلامه: (أهكذا)

فقال - برأسه -: (نعم)

قال: (فوجهت بغلامي هذا الراكب - ذات يوم - في بعض حاجاتي، فحسبته أمي عندها. فأغفى. فرأى في منامه كأنها صاحت صيحة، فإذا هي بجرذ قد خرج.

فقالت: (اسجد) فسجد

ثم قالت: (اكرب (أي: اقلب الأرض للحرث).) فكرب.

ثم قالت: (أدرس) فدرس.

ثم دعت برحى فطحنت قدح سويق - (والسويق كما تعلمون: هو الناعم من دقيق الحنطة والشعير). فأنت به الغلام، وقالت له ائت به مولاك فاتاني به.

فاحتلت عليها حتى سقيتهما القدح، فإذا هي فرس أنثى، وإذا هو ذكر قال (أكذلك)

قالت الفرس الأنثى - برأسها -: (نعم)

وقال الفرس الذكر - برأسه -: (نعم)

فقالوا: (إن هذا اعجب شيء سمعناه أنت شريكنا.) فاجمع رأيهم فاعتقوا (خرافة).

3 - بعد موت خرافة:

وهكذا اصبح كل حديث طريف تسترعي الأسماع غرابته، وتبهج النفوس براعته، ينسب إلى (خرافة) حتى يومنا هذا، وأصبحت كلمة (خرافة) مرادفه لكل حديث خيالي لا حقيقة له. وكاد ينسى الناس (خرافة) علم على شخص بعينه، عرف الناس وعرفوه، والفهم وألفوه.

ثم مضى القرن الاول، ومضى معه (خرافة) ومعاصروه، وانطوى بانطوائه بارع حدث (أي: حسن الحديث)، لم تبق لنا - من روائعه المستفيضة - إلا سطور، كأنما بقيت على الدهر، وغالبت احداثه، لتشعرنا بمقدار ما منى به تاريخ القصص العربي من خسارة، بفقدان أمثال هذه الكنوز الفكرية التي لا تعوض.

4 - جحا العربي:

ثم جاء القرن الثاني، ومعه هدية من أنفس الهدايا الفنية التي يعتز بها عالم الفكاهة والمرح، فكان من مولوديه شيخ السخرية العربية، وأيام الفكاهة الشرقية: (أبو الغصن عبد الله دجين بن ثابت) الملقب بجحا.

وقد نشأ السيد جحا في (الكوفة) ورأى - فيمن رآه - من أفذاذ معاصريه (أبا مسلم الخراساني)

وكانت أم (جحا) تخدم أم سليم بنت ملحان: والدة مالك بن أنس راوية الحديث المعروف.

وقد لقي السيد جحا من التقدير والإعجاب في القرن الثاني من الهجرة مثل ما لقي سابقه (خرافة) من قبل. ولم يقل شأنه عن صاحبه: تقديرا واعجابا، ونباهة ذكر، وبعد صيت.

وأعجب الناس بأسلوبه السهل الممتع في فهم الحياة كما أعجبوا بما به من طرائف وملح.

وأشتد به إعجابهم فخلعوا كما خلعوا لقب سابقه (خرافة) من قبل - على كل عجيب من القول وطريف من الحديث.

وأصبح للقصص الجحوي خصائصه وميزاته، كما أصبح للقصص الخرافي من قبله - بدائعه وخيالاته.

5 - الفن الجحوي:

وأشتد إعجاب بعض الناس به فأطلقه على ولده، وافتن آخرون فأضافوا إلى طرائفه كثيرا من مخترعاتهم وفنون مبتدعاتهم، وهكذا صنعوا بألف ليلة التي أضافوا إليها جمهرة من طرائفه كما أضافوا إليه جمهرة من قصصها، حتى تعذر التمييز بين الأصول الجحويه، والمحاكاة المروية. ولا سيما بعد أن اختلطت بفكاهات (أبي العيناء) و (الشعبي) و (أبي دلامة) و (أشعب) و (الغاضري) و (أبي العنبس) و (البهلول) و (الجماز) و (الحمدوني) ومن إليهم من أعلام الدعابة العربية، ثم زاد عليها المتزيدون جمهرة من فكاهات الحمقى والمغفلين والطفيليين من أمثال (هبنقة) و (فند) وطفيل وأضرابهم.

فتجمعت أشتاتهم في واحد ... إلا يكنهم أمة فيكاد

وهكذا أسند الناس إلى جحا كل طريف من الملح وعجيب، فكاد يصبح - كما أصبح خرافة - علما على فن بعينه من فنون القول بعد أن كان علما على شخص بعينه من أفذاذ الناس.

6 - جحا التركي: فلما جاء القرن الثامن الهجري حمل معه - فيمن حمل - علما أخر من أعلام الفكاهة الشرقية وإماما من أئمة الدعابة التركية هو (الأستاذ نصر الدين)

ولد في إحدى بلاد الأناضول، وكانت (سيورى حيصار) مسقط رأسه. ومات في (آق شهر) ومعناها: البلد الأبيض.

وقد عاش في عهد السلطان (أورخان) وعمر - فيما يقولون - ستين عاما أو قريبا.

7 - الباطشان:

ولقي (نصر الدين) - فيمن لقي - الباطش السفاح (تيمورلنك) كما لقي (أبو الغصن جحا) - في عصره - الباطش السفاح: (أبا مسلم الخرساني)

(وهكذا عاش كلاهما في عصر مضطرب، وعاصر كلاهما - فيمن عاصر - قائدا سفاكا، متعطشا للدماء، باطشا بالأقوياء والضعفاء.

8 - الجحوان:

وذاع أمر الأستاذ (نصر الدين)، وراحت دعاباته، ولقي من الحظ مثلما لقي صاحباه: (خرافة) و (جحا) من قبل.

ولما كان لقب أستاذ بالتركية هو لفظ (خوجة) حوله النقلة إلى جحا لتقارب اللفظين وتشابه الرجلين، وقد كدنا نقول: تطابق الشخصيتين.

وما لبث الأستاذ (نصر الدين) أن استأثر - بعد موته - بلقب جحا وكاد يستأثر بكل طرائفه وملحه فلا يبقى له منها شيئا جل أو حقر.

وأعلنت بعض المجلات مكافأة لمن يبعث إليها بطريفة مروية عن الأستاذ (نصر الدين) أو (نصر الدين خوجة) أو جحا التركي. فراح الناس ينقبون ويغيرون على نفائس الملح حتى نسبوا إليه جمهرة من الطرائف العربية وغيرها، فلم ينج من غاراتهم: كتاب كليلة ودمنة في الشرق، ولا قصص (يوكاتشو) في الغرب.

ثم ما لبثت الأمم أن تنازعت كثيرا من القصص الجحوي نصا ومزيدا وناقصا ووافيا، وأمينا ومحرفا، ومبتدعا ومشوها، وأسندته كل أمة إلى جحاها.

كامل الكيلاني