الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب البيع/باب الخيارات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



باب الخيارات


يجب على من باع ذاعيب أن يبينه وإلا ثبت للمشتري الخيار لحديث عقبة بن عامر عند ابن ماجة والدارقطني والحاكم والطبراني قال : سمعت رسول الله () يقول : المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً وفيه عيب إلا بينه وقد حسن إسناده الحافظ في القمح . وأخرج نحوه أحمد وابن ماجه والحاكم في المستدرك من حديث واثلة مرفوعاً وفي إسناده أبو جعفر الرازي وأبو سباع والأول مختلف فيه والثاني مجهول . وأخرج ابن ماجه والترمذي والنسائي وابن الجارود والبخاري تعليقاً من حديث العداء بن خالد قال : كتب لي النبي () هذا ما إشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبداً أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة بكسر الخاء بيع المسلم المسلم ويؤيد هذه الأحاديث : حديث من غشنا فليس منا وهو في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة . فدلت هذه الأحاديث على أن من باع ذا عيب ولم يبينه فقد باع بيعاً لا يحل شرعاً . فيكون المشتري بالخيار إن رضيه فقد أثم البائع وصح البيع لوجود المناط الشرعي وهو التراضي ، وإن لم يرضه كان له رده لأن العلم بالعيب كشف عن عدم الرضا الواقع حال العقد فلم يوجد المناط الشرعي ولما ورد في رد المعيب وسيأتي .

والخراج بالضمان لحديث عائشة عند أحمد وأهل السنن والشافعي ، وصححه الترمذي وابن حبان وابن الجارود والحاكم وابن القطان وابن خزيمة أن النبي () قضى أن الخراج بالضمان وفي رواية أن رجلاً ابتاع غلاماً فاستغله ثم وجد به عيباً فرده بالعيب . فقال البائع غلة عبدي فقال النبي () : الغلة بالضمان والمراد بالخراج الدخل والمنفعة أي يملك المشتري الخراج الحاصل من المبيع بضمان الأصل الذي عليه أي بسببه قال مالك : في الرجل يشتري العبد فيؤاجره بالإجارة العظيمة أو القليلة ثم يجد به عيباً يرد منه أنه يرده بذلك العيب وتكون له إجارته وغلته ، وذلك الأمر الذي كانت عليه الجماعة ببلدنا ، وذلك لون أن رجلاً إبتاع عبداً فبنى له داراً قيمة بنيانها ثمن العبد أضعافاً ثم يوجد به عيب يرد منه رده ولا يحسب للعبد عليه إجارة فيما عمل له ذلك فكذلك تكون له إجارته إذا آجره من غيره لأنه ضامن له قلت : وعليه أهل العلم .

وللمشتري الرد بالغرر لأن المشتري إنما رضي بالمبيع عند العقد قبل علمه بالغرر فإذا تبين له الغرر كشف عن عدم الرضا الذي هو المناط الشرعي .

ومنه أي من ذلك الغرر المصراة فيردها وصاعاً من تمر فإنه ثبت الخيار فيها بوجود الغرر الكائن بالتصرية وهو حبس اللبن في الضروع ليخيل المشتري غزارته فيغتر . وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي () قال : لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر وفي رواية مسلم وغيره من اشترى مصراة فهو منها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعاً من تمر لا سمراء قلت : وعليه الشافعي . وفي المنهاج التصرية حرام تثبت الخيار على الفور . وقيل : يمتد ثلاثة أيام فإن رد بعد تلف اللبن رد معها صاع تمر . وقيل يكفي صاع قوت . والأصح أن الصاع لا يختلف بكثرة اللبن . وفي شرح السنة قال أبو حنيفة : لا خيار له بسبب التصرية وليس له ردها بالعيب بعد ما حلبها . وقال ابن أبي ليلى : وأبو يوسف : بردها ويرد معها قيمة اللبن . قال في الحجة البالغة : واعتذر بعض من لم يوفق للعمل بهذا الحديث بضرب قاعدة من عند نفسه فقال : كل حديث لا يرويه إلا غير فقيه أسند باب الرأي فيه يترك العمل به . وهذه القاعدة على ما فيها لا تنطبق على صورتنا هذه لأنه أخرجه البخاري عن ابن مسعود أيضاً وناهيك به ولأنه بمنزلة سائر المقادير الشرعية يدرك العقل حسن تقدير ما فيه ولا يستقل بمعرفة حكمه هذا القدر . خاصة اللهم إلا عقول الراسخين في العلم انتهى . قال ابن القيم : ومنها رد المحكم الصحيح الصريح في مسألة المصراة بالمتشابه من القياس . وزعمهم أن هذا حديث يخالف الأصول فلا يقبل فيقال : الأصول كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة والقياس الصحيح الموافق للكتاب والسنة . فالحديث الصحيح أصل بنفسه فكيف يقال الأصل يخالف نفسه ؟ هذا من أبطل الباطل والأصول في الحقيقة إثنان لا ثالث لهما : كلام الله تعالى ، وكلام رسوله . وما عداهما فمردود إليهما . فالسنة أصل قائم بنفسه ، والقياس فرع فكيف يرد الأصل بالفرع ؟ قال الإمام أحمد : إنما القياس أن يقيس على أصل فأما أن يجيء إلى أصل فيهدمه ثم يقيس فعلى أي يقيس . وقد تقدم بيان موافقة حديث المصراة للقياس وإبطال قول من زعم أنه خلاف القياس وأنه ليس في الشريعة حكم يخالف القياس الصحيح . وأما القياس الباطل فالشريعة كلها مخالفة له . ويا لله العجب كيف وافق الوضوء بالنبيذ المشتد الأصول حتى قبل وخالف خبر المصراة الأصول حتى رد انتهى .

والحاصل : أنه لم يرد ما يعارض حديث المصراة ولم تصح الرواية بلفظ طعام أو بر بل الذي صح الصاع من التمر . وللحنفية أجوبة عن الحديث كثيرة ليس على شئ منها أثارة من علم ، وقد استوفاها الماتن في شرح المنتقى ودفعها جميعها ولا نؤثر على نص الشارع شيئاً بل نقول : إذا تنازع بائع المصراة ومشتريها في قيمة اللبن المستهلك ورد المشتري صاعاً من تمر وجب على البائع قبوله ولا يجاب إلى غيره ولو كان المثل موجوداً . نعم إذا عدم التمر كان الواجب الرجوع إلى قيمته . وكذلك إذا تراضى البائع والمشتري على قيمة أخرى كان الرضا له حكمه . وتمام هذا البحث في شرحنا لبلوغ المرام فليرجع إليه .

أو ما يتراضيان عليه لأن حق الآدمي مفوض إليه فإذا رضي بأخذ عوض عنه جاز ذلك كما لو رضي بإسقاطه أو أخذ بعضه .

ويثبت الخيار لمن خدع فإن كان مع شرط عدم الخداع فلا ريب في ذلك لما تقدم من حديث ابن عمر أن رجلاً كان يخدع في البيوت فقال له رسول الله () : من بايعت فقل لا خلابة وهو في الصحيحين والموطأ وزاد فيه فكان الرجل إذا بايع يقول لا خلابة وقد ثبت أن النبي () جعل لحبان بن منقذ الذي كان يخدع في البيوع خيار ثلاثة أيام كما في حديث ابن عمر في رواية منه وكذلك في حديث غيره ، وأما إذا لم يشترط فالبيع الذي وقع ليس هو بيع المسلم إلى المسلم بل هو مشتمل على الخبث والخداع والغائلة ، فللمخدوع الخيار لكونه كذلك ولكونه الخداع كشفاً عن عدم الرضا المحقق الذي هو المناط كما تقدم تقريره . قلت : اختلفوا في تفسير هذا الحديث فقال المحلي : لا خلابة عبارة عن اشتراط الخيار ثلاثة أيام . وفي رواية البيهقي وابن ماجه ثم أنت بالخيار في كل سلعة أبتعتها ثلاث ليال وقال محمد : نرى أن هذا كان لذلك الرجل خاصة يريد أنه خيار الغبن وليس بمطرد وفي شرح السنة : عند أحمد الخبر عام في حق كافة الناس إذا ذكر هذه الكلمة في البيع كان له الرد إذا ظهر في بيعه الغبن وسبيله سبيل من باع واشترى بشرط الخيار في المنهاج لهما ولأحدهما شرط الخيار وإنما يجوز في مدة معلومة ولا تزيد على ثلاثة أيام .

أو باع قبل وصول السوق لحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره قال : نهى النبي () أن يتلقى الجلب فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق وتلقي الجلب هو أن يقدم ركب بتجارة فيتلقاه رجل قبل أن يدخلوا البلد ويعرفوا السعر فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد ، وهذا مظنة ضرر للبائع لأنه إن نزل بالسوق كان أغلى له ، ولذلك كان له الخيار إذا عثر على الضرر .

ولكل من المتبايعين بيعاً منهياً عنه الرد كتلك الصور المتقدمة ووجهه : أن النهي إن كان مقتضياً للفساد المرادف للبطلان كما تقرر في الأصول ، فوجود العقد كعدمه وهو غير لازم لواحد منهما ، فالرد بالخيار هو بمعنى الرد لما هو غير لازم ، وإن كان النهي غير مقتض للفساد فوقوع العقد على صورة من تلك الصور إن رضيه كل واحد منهما فقد حصل المناط الشرعي وهو الرضا وان لم يحصل الرضا منهما أو من أحدهما لوقوعه على وجه يخالف الشرع فقد المناط .

ومن اشترى شيئاً لم يره فله رده إذا رآه لحديث أبي هريرة مرفوعاً من اشترى ما لم يره فله الخيار إذا رآه أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده عمر بن إبراهيم الكردي وهو ضعيف ، ولكنهما أخرجا عن مكحول مرسلاً عن النبي () نحوه وفي إسناده أيضاً أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف ومثل هذا لا تقوم به الحجة ، ولكن الخيار في الغالب يمكن الإستدلال عليه بأحاديث النهي عن الغرر فإن ما لم يقف الإنسان على حقيقته لا يخلو عن نوع غرر سواء كان بعناية البائع أم لا وأيضاً لا بد من حصول المناط الشرعي وهو التراضي ، فإذا لم يرض المشتري بالمبيع عند رؤيته فقد فقد الرضا وعدم المصحح .

وله رد ما اشتراه بخيار وذلك نحو أن يشتري شيئاً على أنه له فيه الخيار مدة معلومة لما ورد في الأحاديث الصحيحة الواردة في خيار المجلس بلفظ كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار وفي لفظ إلا أن يكون صفقة خيار وهما في الصحيحين وفيهما ألفاظ بهذا المعنى ، ولكنه قد اختلف في تفسير بيع الخيار فقيل هذا وقيل غيره ويؤيد ثبوت خيار الشرط ما تقدم من حديث من كان يخدع في البيوت أن النبي () قال له : إذا بايعت فقل لا خلابة وفي بعض الروايات ولك الخيار ثلاثة أيام وقد تقدم ذلك .

وإذا إختلف البيعان فالقول ما يقوله البائع لحديث ابن مسعود عند أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي، وصححه الحاكم وابن السكن قال : قال رسول الله () : إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول صاحب السلعة أو يترادان وفي لفظ والمبيع قائم بعينه وفي لفظ إذا اختلف البيعان والمبيع مستهلك فالقول قول البائع وفي لفظ ولا بينة لأحدهما وفي الباب روايات كثيرة قد استوفاها المصنف في نيل الأوطار . وحاصلها : يفيد أن القول قول البائع ، وقد قيل : أن هذا الحديث مخصص لأحاديث أن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين وسيأتي . وقيل بينهما عموم وخصوص من وجه ، فظاهر حديث القول ما يقول البائع أن القول قوله سواء كان مدعياً أو مدعى عليه وظاهر حديث على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين أن القول قول المنكر مع يمينه سواء كان بائعاً أو غير بائع وقد تقرر أنه إذا تعارض عمومان كما نحن بصدده وجب المصير إلى الترجيح إن أمكن ، والترجيح ههنا ممكن . فإن حديث على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين أصح من حديث فالقول قول البائع ومتقضى هذا الترجيح أن القول لا يكون قول البائع إلا إذا كان منكراً غير مدع من غير فرق بين المبيع الباقي والتالف ، ولكنه يرشد إلى الجمع ما رواه أحمد في زوائد المسند والدارمي والطبراني من حديث ابن مسعود الذي فيه فالقول ما يقول البائع بزيادة والسلعة قائمة ولكن في إسناد هذه الزيارة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف لسوء حفظه فلا يصح للجمع بين الحديثين بها ، وقد اختلف الفقهاء في ذلك إختلافاً طويلاً . قال مالك . الأمر عندنا في الرجل يشتري السلعة فيختلفان في الثمن فيقول البائع بعتكها بعشرة دنانير ويقول المبتاع إبتعتها منك بخمسة دنانير أنه يقال للبائع إن شئت فأعطها المشتري بما قال ، وإن شئت فاحلف بالله ما بعت سلعتك إلا بما قلت. فإن حلف قيل للمشتري إما أن تأخذ السلعة بما قال البائع وإما أن تحلف بالله ما اشتريتها إلا بما قلت ، فإن حلف بريء منها وذلك أن كل واحد منهما مدع على صاحبه . وفي شرح السنة : ولا فرق عند الشافعي بين أن تكون السلعة قائمة أو تالفة في أنهما يتحالفان ويرد قيمة السلعة ، وإليه رجع محمد بن الحسن . وذهب أبو حنيفة إلى أنهما لا يتحالفان بعد هلاك السلعة عند المشتري بل القول قول المشتري مع يمينه . فإذا إختلفا في الأجل أو الخيار أو الرهن أو الضمين فهو عند الشافعي كالإختلاف في الثمن يتحالفان . وقال أبو حنيفة : القول قول من ينفيها ولا تحالف عنده إلا عند إختلاف الثمن . وفي الحجة البالغة : القول قول صاحب المال لكن المبتاع بالخيار لأن البيع مبناه على التراضي

الروضة الندية شرح الدرر البهية - كتاب البيع
تعريف البيع | باب الربا | باب الخيارات | باب السلم | باب القرض