مجلة الرسالة/العدد 249/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 249/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 04 - 1938



مفرق الطريق

مسرحية في فصل واحد للدكتور بشر فارس

نقد بقلم الأستاذ زكي طليمات

مفتش شئون التمثيل بوزارة المعارف

أصدر الشاعر الأديب الدكتور بشر فارس كتابه (مفرق الطريق) وهي مسرحية طريفة قدم لها بتوطئة بليغة في المذهب الرمزي

ويقيني أن المؤلف، وقد أحس غموض المنهج الذي أنتهجه في كتابة مسرحيته، كما عرف جدته على الناطقين بالضاد، لم يأل جهداً في الشرح والتبيين مفصحاً عن ماهية (الرمزية) في عالم الأدب وفي عالم الفن، كاشفاً عنها سجف الغموض والإبهام، وغايته من ذلك تيسير الفهم على القارئ إذا ما طالعه الإبهام وحيرة انقلاب المعاني، وقد طاح به الشغف بين سطور الرواية، فجاءت التوطئة بحثاً شائقاً فريداً في بابه باللسان العربي، خصباً في معارفه، محكماً في تعابيره، بليغاً في الدعاية لهذا المذهب الأدبي الطريف

ونبادر بتسجيل ما وضعه المؤلف في توطئة كتابه وصفاً للرمزية بأنها (استنباط ما وراء الحس من المحسوس، وإبراز المضمر وتدوين اللوامع والبواده بإهمال العالم الحقيقي الذي نضطرب فيه، تدهشنا ظواهره وتردعنا بواطنه وتعجزنا مبادئه). إذ أن في هذا الوصف ما يكشف للقارئ عن الكثير مما يتضمنه هذا المقال. وبالقياس إلى هذا الوصف أو التعريف نصدر رأياً في المسرحية ومكانها من الرمزية في هذا المقال، على أن نعالج مذهب الرمزية في بحث آخر موعدنا به العدد القادم:

الحادثة في هذه الرواية ضئيلة ليس فيها شيء من المشوقات أو المفاجآت، ولو وجدت لما أعرناها كبير انتباه، ولما جعلنا منها قياساً للحكم على طرافة الرواية، إذ الحادثة في هذا النوع من الروايات وسيلة لا غاية نأتي بملخصها في سطور عابرة:

(سميرة) تتحدث مع (الأبله) الذي يومئ ولا يجيب، ثم يأتي (هو) شاب ظريف فيتبادل مع (سميرة) الحديث، حديث الماضي والحاضر، وترتفع أصوات ناي من مكان لا يرى، فهي تارة نائحة وأخرى شجية ليسدل الستار بعد ذلك وقد غابت سميرة في طريق، وأنحدر (الأبله) و (هو) في طريق آخر!

أما إطار الرواية، فقد أتى المؤلف على وصفه في البيتين إذ قال:

(في مفرق الطريق أي حيث ينفرج يميناً مناراً وصاعداً، ويساراً مظلماً ومنحدراً، يلتقي العقل والشعور فيتجاذبان المرء، ولكل منهما خطة من القوة والغلبة، وأما الجانب المظلم فحيث يقهر الشعور العقل فينحدر المرء وقد عمى رشده إلى غاية تحترق عندها النفس، أما الجانب المنار فحيث يصرع العقل الشعور فيسلك المرء في صعود مثلوجة يحيا عندها بنجوة من الاحتراق)

وهو وصف معبر للمعالم المعنوية التي تجري فيها حادثة الرواية وهي معالم أقامها الرمز عن طريق الإضاءة في صعود الحظ أو هبوطه؛ وبهذا برز للرمزية في الرواية طابع مرئي من حيث المبنى، وهو سبيل التعبير في الرواية عن المعنى

وما كان للمؤلف، لولا حرصه على تيسير الفهم على القارئ للرواية، أن يورد بعد ذلك في تبيينه أوصاف شخصيات الرواية، إذ أن في حوارها المقتضب والمضطرب، والذي يشير ولا يبين، ما يكفي للإبانة عن أنها شخصيات تتحرك وتتكلم في إشراق روحاني وبإيماء من العقل الباطن، وتبدر منها اللوامع النفسية متجردة من السجف والأقنعة

(سميرة) المحور الأساسي في الرواية، هي الرمز الحي للإنسان الذي ينتهبه الماضي بحلاوته والماضي بمرارته، وفيها يتجلى الصراع الذي لا ينقطع عن القيام بين العقل والعاطفة، وهو صراع لم يكتب لأحدنا أن يكون في منجاة منه، وإنما تختلف مواقفنا منه باختلاف انفعالات وملابسات الأحوال.

أما باعث الخامد ومثير الماضي فهو الشخصية التي أطلق عليها المؤلف أسم (هو)، فمنه ينطلق التيار فتختلج (سميرة) مترنحة بين العقل والعاطفة، وبقطب (الأبله) وجهه وقد ساورته المخاوف

وما (الأبله)، وهو الشخصية الثالثة في الرواية إلا رمز لمسكة العقل التي نجدها بعد أن يعيينا الضرب في مفاوز العاطفة الضالة فنتعلق بها لنستريح ونريح

وتهب أنفاس المؤلف على هذه الشخصيات نافحة فيها حياة غزيرة متدفقة فإذا بها تتحرك في رمز وتتكلم في رمز وسط الإطار الذي ابتدعه المؤلف في حذق، فجاء الإطار والعقل رمزاً للنور والطريق الصاعدة، والعاطفة رمزاً للظلمة والطريق المنحدرة. وهكذا يبدو الرمز كاملاً من حيث المبنى والمعنى. وتستقر الرواية بذلك في صميم الرمزية، وقد تسامت على الرمزية السطحية المقصورة على الرمز بشيء إلى شيء آخر دون إظهار المبهم والمغلق من خلجات النفس ولوامعها

وأسلوب (مفرق الطريق) فصيح وبليغ، بل إنه لمتطلع إلى الشأو البعيد، الذي قد يراه بعض القراء تفاصحاً. وربما يؤاخذ هذا الأسلوب من جانبهم بأنه أسلوب مكبوت النغم مقبوض الإيقاع إذا قورن بالأسلوب الذي كتب به شعراء الرمزية، إلا أن واجب الإنصاف يقضي بأن نشير إلى أن الشعر شيء والنثر في مسرحية كهذه شيء آخر. هذا مع العلم بأن الشاعرية كامنة في تضاعيف حوار هذه المسرحية

وبشر فارس كتب مسرحيته هذه متثبتاً من صيغ الرمزية وفقيها في ضروبها. . . ولا أدري، لو طالت مشاهد هذه الرواية أكان النفس يواتيه بمثل ما واتاه الآن. فلا تلمح العين طغيان الصناعة الحاذقة على الإلهام المحض الذي يورد الشيء وهو لا يدري أسبابه وبواعثه!!

وجملة القول أن (مفرق الطريق) حدث جديد في تأليف المسرحية المصرية، جدير بالعناية من الكتاب ومن رجال المسرح، وحري بالثناء وكل ما أرجوه أن تطالع هذه المسرحية النور يوماً على المسرح، وأن تجد المخرج المسرحي الذي يحسن فهمها ليحسن تفهيمها للجمهور.

زكي طليمات