عهد الأمان 1857
الحمد لله الذي أوضح للخلق سبيلا وجعل العدل لحفظ نظام العالم كفيلا نزّل الأحكام على قدر المصالح تنـزيلاً ووعد العادل وتوعّد الجاير ومن أصدق من الله قيلا والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد الذي مدحه في كتابه بالرّؤوف الرحيم وفضّله تفضيلا وبعثه بالحنيفيّة السمحاء فبيّنها تبيينا وفصّلها تفصيلا ورتّبها كما أمره ربّه إباحةً وندبًا وتحريمًا وتحويلاً فلن نجد لسنّة الله تبديلاً ولن تجد لسنّة الله تحويلا وعلى آله وأصحابه الذين أقاموا على معالم الهدى علما لمن اقتدى ودليلا وفهموا الشريعة نصّا وتأويلا وأبقوا سيرتهم الفاضلة وأحكامهم العادلة أمانا جليلا ونستوهب منك اللّهم توفيقا يوصل إلى الإسعاد برضاك توصيلا وعونا على أمور الإمارة التي من حملها فقد حمل عبئا ثقيلا فقد توكّلنا عليك وإلتجأنا إليك وكفى بالله وكيلا.
أمّا بعد، فإنّ هذا الأمر الذي قلّدنا الله منه ما قلّده وأسنده إلينا من أمور خلقه بهذا القطر فيما أسنده ألزمنا فيها حقوقا واجبةً وفروضا لازمة راتبة لا تستطاع إلاّ بإعانته التي عليها الإعتماد ولولاها فمن يقوم بحقّ الله وحقّ العباد فنصحنا النصيحة لله في عباده وأرضه وبلاده والأمل أن لا نبقي فيهم بحول الله ظلما ولا هضما ولا نخرم لهم في إقامة حقوقهم نظمًا وإني ينصرف عن هذا القصد بعمله ونيّته من يعلم أن الله لا يظلم مثقال ذرّة ولا يحبّ الظالم في بريته.
فقد قال لنبيّه المعصوم الأوّاب ياداوود إنّا جعلناكم خليفة في الأرض فآحكم بين الناس بالحقّ ولا تتّبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله. إنّ الذين يضلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب. والله يرى إنّي آثرت في قبول هذا الأمر على خطره مصلحة الوطن على ذاتي وعمرت بخدمته الفكريّة والبدنيّة غالب أوقاتي وقدّمت من التخفيفات في الجبايات ما عُلِم خبره وظهر بعون الله أثره وانتشرت الآمال وتشوّقت النفوس إلى ثمرات الأعمال وانقبضت عن التعدّي أيدي العمّال واستقصاء المصالح يقتضي تقديم أجمال ومن رامها جملة فقد عرضها بسبب التعذّر للإهمال.
ورأينا غالب أهل القطر لم تحصل لهم الأمنية بإجراء ما عقدنا عليه النيّة وجرت عادة الله أنّ العمران لا يقع من نوع الإنسان إلاّ إذا علم أن براءته هي الأمن له والأمان وتحقّق أن سياج العدل يدفع عنه خوف العدوان وأنّ لا وصول لهتك ستر من حرماته إلاّ بقوّة الدليل ووضوح البرهان ولا يكفي لتحقيقه الواحد والاثنان فإذا رأى الجاني تعدّد الأنظار غلط إن كان منصفا حدسه وقال من يتعدّى حدود الله فقد ظلم نفسه.
وقد رأينا سلطنة الإسلام والدول العظام الذين على سياستهم الدنيويّة أعمال الأعلام في النقض والإبرام يؤكّدون الأمان من أنفسهم للرعيّة ويرونه من الحقوق المرعية وهو أمر يستحسنه العقل والطبع وإذا اعتبرت مصلحة فهو ممّا يشهد باعتباره الشرع لأنّ الشريعة جاءت لإخراج المكلّف عن داعية الهوى ومن التزم العدل وأقسم عليه فهو أقرب للتقوى وبالأمن تطمئنّ القلوب وتقوى.
وقبل هذا كاتبنا علماء الملّة الأركان وبعض الأعيان بعزمنا على ترتيب مجالس ذات أركان للنّظر في أحوال الجنايات من نوع الإنسان والمتاجر التي بها ثروة البلدان وشرّعنا في فصوله السياسيّة بما لا يصدم إنّ شاء الله القواعد الشرعيّة.
هذا وأحكام مجلس الشريعة أعزّها الله جاريّة مطاعة والله يديم العمل بها إلى قيام الساعة وهذا القانون السياسي يستدعي زمنا لتحرير ترتيبه وتدوينه وتهذيبه وأرجو الله الذي ينظر إلى قلوبنا أن تستقيم به أحوال الرياسة ولا يخالفه بعد ما ورد عن السلف الصالح من اعتبار السياسة وأنا العبد الفقير نجعل لمرضاة ربّي بما تطمئنّ إليه النفوس وتكون منزلته في النفس منزلة المشاهد المحسوس وتأسيسه على قواعد :
الأولى : تأكيد الأمان لسائر رعيّتنا وسكان إيالتنا على اختلاف الأديان والألسنة والألوان في أبدانهم المكرّمة وأموالهم المحرّمة وأعراضهم المحترمة إلاّ بحقّ يوجبه نظر المجلس بالمشورة ويرفعه إلينا ولنا النظر في الإمضاء أو التخفيف ما أمكن أو الإذن بإعادة النظر.
الثانية : تساوي الناس في أصل قانون الأداء المرتّب أو ما يترتّب وإن اختلف باختلاف الكميّة بحيث لا يسقط القانون عن العظيم لعظمته ولا يحطّ عن الحقير لحقارته ويأتي بيانه موضّحا. الثالثة : التسوية بين المسلم وغيره من سكّان الإيالة في استحقاق الإنصاف لأنّ إستحقاقه لذلك بوصف الإنسانيّة لا بغيره من الأوصاف والعدل في الأرض هو الميزان المستوي يؤخذ به للمحقّ من المبطل وللضعيف من القويّ.
الرابعة : إنّ الذمي من رعيّتنا لا يجبر على تبديل دينه ولا يُمْنَعُ من إجراء ما يلزم ديانته ولا تمتهن مجامعهم ويكون لها الأمان من الإذاية والإمتهان لأنّ ذمّته تقتضي أنّ لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
الخامسة : لما كان العسكر من أسباب حفظ النوع ومصلحته تعمّ المجموع ولا بدّ للإنسان من زمن لتدبير عيشه والقيام على أهله فلا نأخذ العسكر إلاّ بترتيب وقرعة ولا يبقى العسكري في الخدمة أكثر من مدّة معلومة كما نحرّره في قانون العسكر.
السادسة : إنّ مجلس النظر في الجنايات إذا كان الحكم فيه بعقوبة على أحد من أهل الذمّة يلزم أن يحضره من نعيّنه من كبرائهم تأنيسا لنفوسهم ودفاعا لما يتوقّعونه من الحيف والشريعة توصي بهم خيرا.
السابعة : أن نجعل مجلسا للتجارة برئيس وكتاب وأعضاء من المسلمين وغيرهم من رعايا أحبابنا الدول للنظر في نوازل التجارات بعد الإتفاق مع أحبابنا الدول العظام في كيفيّة دخول رعاياهم تحت حكم المجلس كما يأتي إيضاح تفصيله قطعا لتشعّب الخصام. الثامنة : إنّ سائر رعيّتنا من المسلمين وغيرهم لهم المساواة في الأمور العرفيّة والقوانين الحكميّة لا فضل لأحدهم على الآخر في ذلك.
التاسعة : تسريح المتجر من إختصاص أحد به بل يكون مباحا لكلّ أحد ولا تتاجر الدولة بتجارة ولا تمنع غيرها منها وتكون العناية بإعانة عموم المتجر ومنع أسباب تعطيله.
العاشرة : إنّ الوافدين على إيالتنا لهم أن يحترفوا بساير الصنايع والخدم بشرط أن يتبعوا القوانين المرتّبة والتي يمكن أن ترتّب مثل ساير أهل البلاد لا فضل لأحدهم على الآخر بعد انفصالنا مع دولهم في كيفيّة دخولهم تحت ذلك كما يأتي بيانه.
الحادية عشر : إنّ الوافدين على إيالتنا من سائر اتباع الدول لهم أن يشتروا ساير ما يملكون من الدور والأجنة والأراضين مثل سائر أهل البلاد بشرط أن يتبعوا القوانين المترتّبة والتي تترتّب من غير امتناع ولا فرق في أدني شيء من قوانين البلاد ونبين بعد هذا كيفية السكنى بحيث أنّ المالك يكون عالما بذلك داخلا على اعتباره بعد الإتفاق مع أحبابنا الدول.
فعلى عهد الله وميثاقه أن نجري هذه الأصول التي سطرناها على نحو ما بينّاها ووراءها البيان لمعناها وأشهد الله وهذا الجمع العظيم المرموق بعين التعظيم في حقّ نفسي ومن يكون بعدي أن لا يتمّ له أمر إلا باليمين على هذا الأمان الذي بذلت فيه جهدي وجعلت فيه سائر الحاضرين من نواب الدول العظام وأعيان رعيّتنا شهداء على عهدي والله يعلم أن هذا القصد الذي أظهرته وجمعت له هؤلاء الأعيان وشهرته هو ما أودعه الله في نيّتي وإجراء أصوله وفروعه فورا أعظم أمنيتي والمرء مطلوب بجهده ومن عاهد الله لزمه الوفاء بعهده والحقّ هو العروة الوثقى والآخرة خير للمرء مطلوب بجهده ومن عاهد الله لزمه الوفاء بعهده والحق هو العروة الوثقى والآخرة خير وأبقى وأستحلف من حولي من هؤلاء الثقاة والحماة الكفاة أن يكونوا معي في إجراء هذه المصلحة يدًا واحدة بقلوب سليمة متعاضدة وأقول لهم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلت الله عليكم كفيلاً إنّ الله يعلم ما تفعلون اللهم من أعاننا على مصالح عبادك فكن له معينا وأورده من توفيقك عذبا معينا اللّهم اجعل لنا من عنايتك وإعانتك مددا وهب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا منك الإعانة على ماوليت والمهدي من هديت والخير كله فيما قضيت. هذه مقدّمة أنتجتها الإستشارة ورآها العبد الفقير ناجحة صالحة فأعنّا اللهم ببركة القرآن وأسرار الفاتحة والسلام من الفقير إلى ربّه عبده المشير محمّد باشا باي صاحب المملكة التونسيّة في 20 محرّم الحرام فاتح سنة 1274 أربع وسبعين ومائتين وألف وبخطه، صحّ من كتابه المشير محمّد باشا باي والله على ما نقول وكيل.