مجلة الرسالة/العدد 936/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 936/القَصَصُ

ملاحظات: من الماضي أو التلميذ Студент هي قصة قصيرة بقلم أنطون تشيخوف نشرت عام 1894. نشرت هذه الترجمة في العدد 936 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 11 يونيو 1951



من الماضي. .!

للكاتب الروسي أنطون تشيخوف

للأستاذ عبد القادر حسن حميدة

كان الجو في بداية أمره منعشاً هادئاً. . تنبعث خلال سكونه الحالم أغاريد طير (الأج) العذبة. . . والمستنقعات قد حفلت بأجسام ضئيلة حية ترسل أنات متحشرجة محزنة أشبه بفحيح الأفاعي. . . وانطلق طائر (البكاسين) فرددت الريح صدى دوي الرصاصة التي صوبت نحوه. . . بيد أنه حينما بدأت الظلمة الحالكة تنشر على الكون غلالتها السوداء.

هبت من ناحية الشرق ريح نفاذة. . . وغاص كل شيء في بحر من الصمت الرهيب. . . وعلت البركة طبقة متماسكة من الثلج. . . وإذا بالغابة كلها خالية مقفرة مخيفة. . .

لقد بدأت علامات الشتاء تظهر على محيا الزمن. .!!

وكان (إيفان فيلكوبولكني) عائداً إلى بيته بعد قضاء يوم مليء بالمغامرات والقنص - وهو ابن أمين مكتبة الكنيسة وطالب بالمجمع الكنائسي - وكانت أنامله قد أصابها شيء من التخدير ووجهه قد اتقد بهبات الريح. . وخيل إليه أن ذلك البرد الذي هبط فجأة. . قد أفسد على الأشياء رونقها. . وران على معالمها. . وأن الطبيعة ذاتها خامرها القلق. . وساورها الاضطراب. . وهذا علة ما شاهد من أن الحلكة قد بدأت تخيم على الأرض أسرع مما كانت عليه من قبل. . وكان كل ما يحيط به مهجوراً كئيباً. . ولم يكن ثمة بارق من الضوء يومض إلا في حدائق الأرامل - وكانت القرية. . وهي على بعد ثلاثة أميال - وكل ما يأخذ العين سابحاً في ضباب المساء البللوري. .

وتذكر الطالب أنه حين غادر بيته كانت أمه تفترش الأديم. عارية القدمين. تنظف وعاء الشاي. . وأبوه جالساً على مقربة من الموقد يعاني آلام السعال. . ولما كان اليوم هو الجمعة الحزينة لم يطبخوا شيئاً. . فاستشعر لذعات الجوع الهائل. . ثم تقلصت أعضاؤه. . ودار بخلده أن مثل هذه الموجات من البرد كانت قد اجتاحت أيام رادك وبطرس وإيفان الجبار. . وأن في زمانهم الفقر المدقع قد تفشى. . والجوع المهلك قد انتشر. . وكذلك نفس السقوف التي صنعت من القش التي اتخذت منها الخروق والثقوب العديدة موطناً لها. . كما اتخذ الجهل والبؤس ونفس الحيرة والظلمة والضجر من الأهليين حقلاً خصيباً تنمو فيه يوماً بعد يوم. . لقد كان ذلك في عهدهم. . وحدث بلا مراء ولا جدال. . ثم تدور على أسطوانة الدهر ألف عام. . والحياة هي. هي لا يعتريها تقدم. . ولا تحسن. . .!!

وكان متقيناً إلى نفس الشاب أن يؤوب إلى بيته. .

ويرجع السبب إلى إطلاقهم على الحدائق اسم حدائق الأرامل أن أرملتين - أما وابنتها - كانتا قد آلتا على نفسيهما أن يتعهداها بالرعاية. . ويسهرا على شؤونها. .

وكانت هناك نار مضيئة ملتهبة. . وأصوات طقطقة صاخبة. . يحملها الأثير إلى مسافات كبيرة فوق الأرض المحروثة. . وكانت الأرمل فازيليا - وهي بدينة الجسم فارعة القامة - ترتدي سترة رجل واقفة إلى جانب النيران تحدق بعينين شاردتين. . تنطويان على التفكير العميق والرحلة إلى عالم غامض مبهم. . وكانت ابنتها ليكريا جالسة على الأرض تنظف الملاعق والصحاف، وهي امرأة ذات نظرة متبلدة فاترة قد انتشرت على وجهها آثار الجدري. . وكان واضحاً لدي أنهما قد فرغتا من تناول عشاؤهما. . منذ برهة. وكان صوت العمال يصل إلى آذاننا. . وهم يسقون جيادهم من النهر. .

واتجه الطالب صوب النار. . وقال:

- لقد عاود الشتاء كرته. مساء الخير. . .!!

فارتاعت فاريليا. . غير أنها تبينته لتوها. . فارتسمت على شفتيها ظلال ابتسامة رقيقة وقالت:

- إنني لم أعرفك. .! لتحرسك عناية الخالق الأكبر سوف تصيب ثراء واسعاً. .!

ثم أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث. .

كانت فاريليا. . ذات خبرة كبيرة. قد اختلطت بالطبقات العالية. . إذ كانت تعمل وصيفة. ثم مربية للأطفال. . فراحت تطرق باب الحديث بعصا اللباقة والرقة. . ولم تفارق شفتيها. . ابتسامة ناعمة دسمة. . أما ابنتها ليكريا فكانت ريفية قد ألهبها زوجها بسياط معاملته القاسية. . فسمرت نظراتها على وجه الطالب. . ولم تشرك نفسها بالحديث، وكانت تلوح على وجهها سمة كالتي تراها ضافية دائماً على الصم والبكم. .

وحرك الطالب يديه حول النار ينشد الدفء وهو يقول:

- لقد كان القديس بطرس يدفئ نفسه على مثل تلك النار. . فلا ريب إذن. أن الجو كانت تسوده البرودة آنذاك. . آه. . . لابد أنها كانت ليلة مروعة يا جدتي. .! ليلة طويلة مشؤومة لا محالة.!. . ثم ألقى ببصره إلى ما عقد حوله من نطاق الظلمة الدامسة وهز رأسه في تأثر بالغ وقال:

- لا شك أنك كنت تطالعين في الإنجيل ثنى عشر. .؟

فأجابت فازيليا: - أجل. .! لقد كنت أجيل الطرف خلال صفحاته. .

هل يعلق بذاكرتك أن بطرس قال في العشاء الأخير (إنني متأهب تمام الأهبة لأن أخوض برفقتك معمعة الظلمة والموت) فأجاب مولانا السيد (إنني أقول لك يا بطرس إنك ستشرك بي ثلاثا قبل أن تصيح الديكة وخرج يسوع) عقب العشاء إلى الحديقة. . ويوقد له نيران الموت وكان بطرس المسكين. . خامد النفس. . واهي القلب. . وعيناه مثقلتان. . فلم تصمدا أمام جيوش النعاس فهزمهما النوم. . ولقد أدركني أن يهوذا تقابل ويسوع في تلك نفسها. وأفشى أمره إلى مضطهديه. . وأنهم. . أدوا به إلى الكاهن الأكبر مغلولاً. . فضرب كثيراً. .!!

واستيقظ بطرس متثاقلاً وهو يتوقع أن الشيء الخطير المفزع سيحل بالأرض. . ولقد كان يحمل ليسوع الحب والتقدير الشديدين. . وهاهو ذا الآن يضرب على البعد.

. . وألقت ليكريا بالملاعق من يدها وأدارت بصرها إلى الطالب الذي استطرد في القول. .

- فلما انتهوا حيث دار الكاهن الأكبر راحوا يمطرون يسوع بوابل من الأسئلة المتزاحمة بيننا أشعل الرجال النار في الفناء يصطلون. . واندس بطرس بينهم يدفئ نفسه كشأني الآن هنا. . فرأته إحدى النساء. . فصاحت (لقد كان هذا مع يسوع. . أيسوع أيضاً؟) ومعنى ذلك أنه ينبغي أن يستجوب أيضاً. . ولابد أن جميع العمال قد نظروا إليه في ارتياب وحذر. . إذ أن الارتباك استولى عليه فقال (كلا. . إنني لست أعرفه) وما انصرمت فترة قصيرة الأمد حتى عرف شخص آخر أن هذا الرجل من تلاميذ يسوع فقال (إنك كذلك أحدهم) ولكن بطرس آثر الإنكار للمرة الثانية. . غير أن شخصاً ثالثاً تحول إليه وقال (كيف هذا. ألم أشاهدكما معاً في الحديقة اليوم؟) فأصر بطرس على ألا يعترف للمرة الثالثة. . وفي تلك الآونة انبعثت صيحة الديك. . ونظر بطرس إلى يسوع على البعد. . واجتر في ذاكرته تلك الكلمات التي تفوه بها في المساء إذ قال له (إنك ستشرك بي ثلاثاً قبل أن تصيح الديكة) وعندما استعاد في ذاكرته هذا. . عرته رجفة من الألم الممض. . وزايل الحديقة. . وأرخى العنان لمقلتيه. . تذرف الدمع الحار. . والإنجيل يقول (لقد انصرف والدمع السخين يهطل من عينيه مدرارا). .

إنني لألمس ذلك الآن واضحاً جلياً. . فها هي ذي الحديقة يطويها الظلام. . ويخيم على أرجائها السكون. . .

وفي ذلك الهدوء الشامل اختنق صوته بالعبرات. . حتى وقف الكلام في حلقه. .

وتنهد الطالب تنهداً عميقاً. . وسرح ببصره في متاهات التفكير. . وكانت فازيليا لا زالت على شفتيها الابتسامة المشرقة. . بيد أنها غصت بريقها بغتة. . وانحدرت الدموع على وجنتيها المتوردتين وكأنما أخجلها أن تبكي فوارت وجهها بطرف ثوبها. . أما ليكريا فكانت عيناها تحملقان في الطالب في نهم وشراهة. . فتصاعد الدم إلى وجهها. . وبدت على سحنتها علامات التبرم. . كأنما تقاسي ضيقاً مؤلماً. . .

وانقلب العمال راجعين من النهر. . بعد أن أطفئوا ظمأ خيلهم. . ومر واحد منهم على الدار ممتطياً صهوة جواده. . بينما الأضواء تترنح على جسمه. . فحيا الطالب الأرملتين. . وودعهما. . وطواه الليل برداء الظلام مرة أخرى. . وسرى التخدر في أنامله. . وكانت الريح تعصف وتهب. . حتى كأن الشتاء قد عاد حقيقة. . ولم يكن هناك من الدلائل ما يوحي بأن شمس العيد ستشرق في الصباح الباكر!

وفي تلك اللحظة كانت خواطر الطالب منصرفة إلى فازيليا (لا ريب أن نشيجها هذا له صلة بما وقع لبطرس في الليلة التي طويت قبيل صلب المسيح. وأرسل إشعاعات من بصره على ما حوله وكان الضوء لا يزال يلمع في بهمة الليل. . بيد أنه كان وحيداً. . ولم يكن بجانبه آدمي ما. . وأجهد الطالب فكره ثانية. . في أنه ما دامت فازيليا قد بكت. . وما دامت ابنتها قد اضطربت فلا ريب أن ذلك حدث منذ تسعة عشر قرناً. . والذي أفضى بحديثه الآن. . لاشك أن هناك خيوطاً قوية. . تربط ذلك الشيء بالحاضر. . بهاتين المرأتي،. . بالقرية الرابضة في الخلاء. . بنفسه. بالعالم كله!

لقد أجهشت تلك المرأة العجوز بالبكاء. . لا لأنه عرف كيف يروي عليها القصة. . بأسلوب له عمل السحر في النفس. . وإنما لأن بطرس. . متصل بها. . قريب منها. . ولأن ما ساور دخيلته قد هز كيانها. . واستحوذ على مشاعرها. . .

وطغت عليه موجة من المرح بغتة. . فوقف. . ليتنفس وفكر هنيهة. . قائلاً:

- ألا إن الماضي لمتماسك بالحاضر. . بحلقات من الحوادث تربط بعضها بعضاً.! وخيل إليه أنه أدرك كنه هذه الحلقات. . إنه حين يقبض على حلقة تتحرك الأخرى. . .

ثم خاض النهر في أحد القوارب. . وصعد إلى التل. . ووقف يرنو عبر قريته ثم إلى الغرب حيث يلوح في الأفق البعيد خيط واه من النور خلفته الشمس الحمراء. .

وظن أن الجمال المبدع. . والحق الخالد. . اللذين قادا ركب البشرية المواج. . هنالك في الحديقة. . وفي فناء الكاهن الأكبر،. ما زالا على جبروتهما حتى الساعة. . بل إنهما أحوج ما تكون إليه الإنسانية. . وذلك العالم الأرضي!

وبدأ يستشعر شيئاً فشيئاً. . بالحيوية. . والقوة وذلك الانتظار الحلو للسعادة - وهو انتظار لا يمكن الإحاطة بكنهه - ترقب لسعادة مجهولة غريبة. . وانقشعت السحب من أمام عينيه. . فبدت الحياة رائعة. . زاخرة بشتى المعاني النبيلة. . .

عبد القادر حسين حميدة