مجلة الرسالة/العدد 936/الأدب والفن في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 936/الأدب والفنّ في أُسْبُوع

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 06 - 1951



للأستاذ عباس خضر

أثر الدراسات البلاغية:

(قال لي صاحبي)، وكان في جملة المستمعين إلى محاضرة الأستاذ محمد خلف الله بك ينادي دار العلوم في أثر الدراسات القرآنية في تطور النقد الأدبي) وقرأ ما أشرت إليه في الأسبوع الماضي من أن الأستاذ كان يخلط في محاضرته بين العربية والعامية - قال: لقد مررت عابراً بهذه النقطة، فإن الأستاذ كان يخطب كبار الأساتذة وصفوة رجال اللغة العربية وهو نفسه منهم، وكان يتكلم في بلاغة اللغة العربية، والمكان نادي القوم الذين قيل إن الفصحى تموت في كل مكان وتحي في دارهم. . أفيليق مع كل هذا أن يخلط في حديثه بين العربية والعامية. .؟

سكت قليلاً وأنا أقول في نفسي: عجباً! إننا نعيب مثل هذا على أناس ليسوا من هذا الطراز، ويخطبون جمهوراً من عامة الناس في موضوعات عامة وفي أماكن أخرى. . ثم قلت لصاحبي: ترى إذا لم يكن حديث الأستاذ خلف الله خالصاً من العامية؟ ليس من المقبول أن يقال إنه أراد أن يدنو من إفهام المستمعين، فهم هم. . أتراه لا يقدر على الاسترسال في التعبير الفصيح؟

بدأ على صاحبي الإنكار لهذا التساؤل، وهو ممن يعرفون الأستاذ خلف الله منذ القديم، فأسرع يقول: لا. إني أعرفه خطيباً فصيحاً متمكناً منذ كان طالباً في دار العلوم، وطالما سمعنا منه آيات بينات، والعجيب أنه يأتينا اليوم هكذا بعد أن زادت ثقافته وكبر مقامه!

وأنا كنت أسمع عن الأستاذ خلف الله - قبل سفره في البعثة إلى إنجلترا - أنه شاعر مجيد. فلما رجع من البعثة انقطع صوته في مضمار الشعر، فلعله أيضاً فقد الحماسة للعربية فلم يعد يهتم بشد لسانه إليها!

وقلت لصاحبي: يظهر أن المسألة ليست مسألة قدرة، وإنما هي حرارة في القلب، فإن أولئك الأساتذة الذين يحدثون الجموع فلا يلتزمون التعبير الفصيح - وهم من رجال العلم والأدب - إنما يفعلون ذلك استجابة للفتور والتهاون ومطاوعة لاسترخاء اللسان؛ وعلى عكس ذلك نرى كثيراً من السياسيين والمحامين ورجال النيابة العامة تنطلق ألسنتهم المحافل والمحاكم بالكلام العربي المبين، وليس أولئك بأقل قدرة من هؤلاء، ولكنها حرارة القلب. ألم يأتك نبأ أولئك الصغار تلاميذ المدرسة النموذجية الابتدائية الذين تحدثت عن التزامهم الحديث بالعربية في عدد مضى من الرسالة؟ ويظهر أن حرارة القلوب الغضة أكثر ارتفاعاً من حرارة القلوب الكبيرة.

قال صاحبي: لقد وازنت في تعليقك على المحاضرة بين الأدباء ودارسي البلاغة، أفلا ترى أن الأستاذ خلف الله كان في العهد الأول من الأدباء ثم صار الآن من دارسي البلاغة، وأن الذي يتعاظمنا وقوعه منه إنما هو من أثر الدراسات البلاغية. .؟

معرض خريجي الفنون

أقام اتحاد خريجي الفنون الجميلة العليا، معرضهم الرابع، بدار نقابة المحامين، وقد افتتح المعرض في الأسبوع الماضي، ولا يزال قائماً. وأول ما يلاحظ أنه أقيم في وقت متأخر من العام، أي بعد موسم المعارض الذي يكون عادة في أواخر الشتاء وأوائل الربيع، وجاء وقته أيضاً في أيام الامتحانات التي بشغل فيها طلبة الجامعات عن شهود مثل هذا المعرض، ولكن يبدو لي - بعد كتابة الجملة السابقة - أن هؤلاء الطلبة - في مجموعهم - لا يهتمون بالسعي إلى معارض الفن، بل يبدو لي أيضاً أن أكثر المثقفين في مصر لا يهتمون بذلك، وفي هؤلاء المثقفين الذين لا ينشطون لمعارض الفنون، أهل الفنون الأخرى كالأدباء والشعراء والموسيقيين والمسرحيين والسينمائيين، ولست بحاجة إلى بيان مكانة روائع التصوير والنحت وأثرها في ثقافة المثقفين وفن الفنانين، فالخوض في ذلك من الأوليات. ثم أوجه الكلام إلى الهيئات المشرفة على المعارض وخاصة اتحاد خريجي الفنون الذي يقيم هذا المعرض: أليس في الإمكان أن يقوموا بنشاط يجذب الجمهور المثقف إلى معارضهم؟ أوجه إليهم هذا السؤال وأترك لهم التفكير في الوسائل التي تؤدي إلى هذا الغرض.

قلت إن المعرض أقيم متأخراً، وقد علمت أن سبب هذا التأخر خارج عن إرادة الاتحاد، فليس له مكان يصلح للمعرض، وهو أكبر هيئة فنية في مصر. . وهو يمثل خريجي كلية الفنون الجميلة، فهو متصل بمعينها متجدد باستمرارها، وهو بذلك تجتمع فيه روافد الفن وتتمثل به الاتجاهات الفنية في مصر، ومع ذلك لا يملك مكاناً لمعارضه، فليس أمامه إلا دور العرض الأهلية التي تقتضي العارضين أجوراً مرتفعة - من جنيه إلى عشرة جنيهات في اليوم! أو رجاء أصحاب النوادي الصالحة للعرض والتي يستمهل أصحابها حتى يستطاع إعدادها للمعرض، وهذا ما حدث في هذا العام.

وندرك مدى تلك المتاعب عندما نعلم أن المعرض هو الوسيلة الوحيدة للمصور والمثال التي تصله بالجمهور، فهو بمثابة الكتاب والصحيفة للمؤلف والأديب.

ذلك إلى انعدام التشجيع وعد الإقبال على شراء المنتجات الفنية، سواء من الجهات الرسمية والأهلية، فالأولى تعتذر عادة بأن الاعتماد قد نفد. . وعندنا جمعيات غنية تنتسب إلى الفن، ولكنها تقصر تشجيعها واحتفالها على الفن الأجنبي ولا تلتفت إلى الفن المصري.

وقد أدى عدم التشجيع وأزمة المكان إلى احتفاء كثير من الفنانين، وضيق الدائرة على مجموعة صغيرة ثابتة، على حين كان المفروض أن تظهر مواهب جديدة من خريجي الكلية كل عام.

هذا المعرض القائم، صورة صادقة للحركة الفنية في مصر، ويستطيع المشاهد أن يلمس فيه الصراع بين القديم والحديث، وإن كانت غلبة الاتجاهات الحديثة ظاهرة، فقد طغت هذه الاتجاهات حتى على المدرسين (الأكاديميين) وليس أدل على ذلك من تطور حسين بيكار الذي بدأ يخرج عن الاتجاه التقريري، أو الحرفية في النقل، وهي نقل الواقع المشاهد مع بعض اللمسات الجمالية إلى إدخال الفكر فيما يراه، فهو يذهب إلى تحليل الأشكال وإرجاعها إلى النظريات العلمية التي وصل إليها البحث العلمي الحديث، ومن هذا أنه يتجه إلى التكعيبيين ليستفيد من مفهومهم العلمي للمسطحات، وينظر إلى التصوير كأسلوب قائم بذاته في التعبير عن الحياة ودفع المشاهد إلى الإحساس بها دون الاعتماد على تأثير الفكرة الأدبية في موضوعاته، ومن هنا يبدأ التصوير في الاستقلال بنفسه كوسيلة للتعبير، كما تستقل الموسيقى عن الشعر والأدب بوسيلتها الإحساسية.

إن التجريد هو أسلوب الوحيد لاستقلال فن التصوير، ولكن المجتمع والجماهير المتذوقة ذات المفهوم العام تحتاج إلى الفكرة فلا تستوقفها التجريديات، لأن مكانها المتاحف باعتبارها مثابة الخاصة من الفنانين، وفهمها يحتاج إلى دراسة فنية طويلة ودرجة معينة من التأهيل.

وفي الوقت الذي ترك فيه بيكار طريقه الأول بقي أمثال حسني البناني وصلاح طاهر في إصرار على الاتجاه الأكاديمي، فصلاح طاهر فنان حالم ينظر إلى الأشياء نظرة شاعرة، يغير في لوحاته في حدود نظرته النفسية (السيكولوجية) الواقعية دون أن تغريه المذاهب الحديثة وأبحاثها. والبناني الذي جرى على تصوير الحياة المصرية خلال النور والظل، تحت شمس مصر المحرقة وظلالها القائمة - هو هو، لم يتغير، إلا إذا اعتبرنا زيادة قدرته وتمكنه في أسلوب المدرسة التأثيرية التي تعتمد على تحليل اللون في التصوير.

والجديد في هذا المعرض، ظهور الفن الشعبي يبدأه جمال السجيني وعبد الهادي الجزار على اختلافهما في البداية. والاتجاه الشعبي لم يطرق في مصر من قبل على أهميته كفن صادق الإحساس تنعكس فيه الفلسفة المصرية الساذجة والذوق الشعبي العام في الأداء. وهذا الاتجاه يفتح مجالاً واسعاً في اللون والتكوين، فهو يشمل كل الحياة المصرية ويخرج بالتصوير عن الدائرة الضيقة، دائرة رسم الوجوه والمناظر الخلوية والأزهار، التي ترى في كل معرض.

وتظل أعمال عبد السلام الشريف وأسعد مظهر، تسترعي الأنظار في كل معرض، فهما في الطريق الذي بدأه منذ أكثر من عشر سنوات، يتوخيان الموضوع الشعبي والأداء الجمالي الذي يقوم على الخطوط الزخرفية والمساحة اللونية في توافق يلائم كل لوحة؛ فالشريف يستغل ألوان الأقمشة في التعبير عن موضوعه بأسلوب الفن العربي في زخرفة الأقمشة، وأسعد مظهر يستعمل التطعيم بالخشب في أدائه.

وهناك في النحت نرى التطورات في أعمال كامل جاويش الذي بدأ يخرج من المذهب الدراسي البحت إلى الاهتمام بالكتلة والموضوع، على حين يظل عبد القادر مختار محافظاً على القيام بدراسة الرؤوس التي تعتبر المجال الوحيد لظهور براعته.

وجدير بالذكر، في الحديث عن معرض اتحاد خريجي الفنون الجميلة العليا، الجهود الكبيرة الموفقة التي بذلها الأستاذ أبو صالح الألفي رئيس الاتحاد في إقامة هذا المعرض وتنظيمه.

عباس خضر