مجلة الرسالة/العدد 934/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 934/القَصَصُ

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 05 - 1951



الغيب

عن الإنجليزية من روائع (وست) للأستاذ عبد القادر حميدة

(مسرحية في فصل واحد)

الأشخاص:

ريتشارد ألين: أستاذ جامعي سابق

إدوارد لين: ضابط متقاعد

المنظر:

(حجرة استقبال بمنزل المستر ريتشارد ألين في (لوتون) إحدى المدن الصغيرة بإنجلترا. . الساعة الخامسة والنصف من أصيل اليوم السادس من يونيو عام 1936 - المستر ألين جالس إلى مكتبه يكتب - وعلى مقربة منه قصاصات من أوراق مكتوبة. . وزجاجة من النبيذ وكأسان. . يتناول الكراسة فيمزق آخر ورقة سطرها. . وحين يلقي بها على المقعد. . يصل إلى سمعه دق على الباب فينهض من مكانه. . ويفتحه)

ريتشارد: أدخل يا مستر لين.

إدوارد: (في غرابة) أتعرف اسمي؟

ريتشارد: كنت أتوقعك

إدوارد: أظن أن الدكتور (راودن) تحدث وإياك بشأني معي رسالة يقدمني بها إليك. . آمل أن لا تزعجك هذه الزيارة غير الرسمية. .

ريتشارد: (يتناول الرسالة ويلقي بها على المكتب دون أن يفضها) أنا لا أهتم بالرسميات. . إني أمقتها. . أتسمح لي أن أتناول قبعتك ومعطفك.؟

(يتناولهما منه ويضعهما على مقعد بجانب المكتب). . . (إدوارد جالس)

ريتشارد: (يمسك زجاجة النبيذ وينزع سدادها. . ويفرغ منها في جوف كأسين). . لعلك تشاركني الشراب. . إنها مناسبة طيبة لنحتفي بك. . . (أثناء الشراب). . . في أي يوم نحن.؟ إدوارد: في اليوم السادس من يونيو

ريتشارد: لنشرب حتى الساعة السادسة من اليوم السادس من الشهر السادس عام 1936

إدوارد: (وهو يتناول الكأس) إنها الآن السادسة تماماً. .

ريتشارد: (في فزع). . لا. . ليست كذلك. . والآن. . أبسط إلي الأمر الذي من أجله أردت أن تراني

إدوارد: لقد طالعتني إحدى الصحف بمقال عنك نادتك فيه بالرجل الفريد في (لوتون) والأستاذ الجامعي الذي لا يود مطلقاً أن يتحدث إلى أحد. .

ريتشارد: ترهات.!! أنا لست بمثقف. . ولست بأستاذ جامعي الآن. . ثم إني أتحدث إلى كثير من الناس. . بيد إني لا أحب أن أجادلهم. . إني أكره مباحثة الأشياء معهم. . لأنني لا أجد أية راحة في البحث والنقاش.

إدوارد: أنا لا أظن أن يوجد في (لوتون) أناس كثيرون تجد مناقشاتك في نفوسهم هوى. . فما (لوتون) إلا مدينة ضئيلة ملئ بشرذمة من أغبياء القوم. . الذين لا يثرثرون إلا في أمور عادية هي أشد تفاهة من عقولهم المصدئة. . وإذا عن لهم أن يطرقوا باب المناقشة فليكن في الحثالات والنفايات.

ريتشارد: قد يكون هذا هو الصواب. . وقد لا يكون فأنا لم أقابل إلا أفراداً قلائل منهم. . وإن كانوا قد تحدثوا إلي في شيء من الذكاء. . إلا إنني لم أجد لذة في حديثهم.!! وأنت. . هل أتيت لتقيم هنا على الدوام.؟

إدوارد: أجل. . أجل. .! ولقد اعتزلت عملي، وسأظل هنا على الدوام. . وإنه ليسعدني أن ألقاك من وقت لآخر. . وستجد في محدثاً يحسن الجدل في لباقة.! أنا لا أفخر بذكائي ولست أقصد التواضع. . فهو أغث من الكبرياء.! لقد ارتحلت كثيراً. . واطلعت بتوسع. . وخبرت الحياة. . فوقفت على الكثير من خباياها.! وإني أعتقد أنك سوف ترتاح إلي عن الآخرين. . هل تجد في حديثي إليك أي غضاضة أو عدم ارتياح؟

ريتشارد: حقاً. .! إنك تملك عقلاً سليماً. . وتستعمله استعمالاً طيباً. . ولكنك سوف لا تتمكن من الوصول إلى السر الذي أنطوي عليه. . قبل أن أودع الحياة. . وهاهو ذا اعترافي. .

إدوارد: يمكنك أن تثق بي. . وإنه ليبدو لي أنني أعرفك من قبل.

ريتشارد: (وقد تناول وسادة موضوعة على المكتب) ضع هذه خلف ظهرك لتريحك. . أوه.! أجل. . أنت تعرفني من قبل. . لقد التقينا في مدرسة القديس أنطوني.

إدوارد: (مستذكراً) نعم. . لقد تذكرت الآن. . (ديك ألين) منافسي الخطير الذي فاز بجوائز المدرسة دوني. .

ريتشارد: أجل. . لقد كنا في المدرسة زميلين. . كنت أنا مثال الطالب الغبي الذي يتخذ مكانه في مؤخرة الصفوف. . وكنت أنت أنموذجاً رائعاً للجد. . سواء في عملك أم في لهوك. أما أنا فقد كنت أرتبك في أبسط الحاجات. . كم كنت أنظر إليك بعين الحاسد. . لنجاحك المطرد

إدوارد: إنك لم تكن غبياً كما تعتقد. . ولكنك لم تجد ميلاً من نفسك لدراسة الأشياء. . والتغلغل في أعماقها. . إنك لم تكن عملياً بالمعنى المنشود

ريتشارد: لم أكن أبداً عملياً. . . (لحظة صمت وشرود). . . ذات يوم. . . حين كنت في المدرسة. . . عثرت - دون قصد - على كتاب غريب أسمه (قوى العقل الغامضة).

إدوارد: أتقصد قراءة الأفكار؟ أذكر أني قرأت بعض تجارب لهذا النوع. . كم كانت مسلية للغاية. . فمثلاً. . الرجل يفكر في رقم من الأرقام. . أو أسم من الأسماء. . فتذكره له زوجه. . ولكن التجارب لم تكن دائماً موفقة.

ريتشارد: لا. . . لست أقصد قراءة الأفكار. . . إن ما أعنيه هو معرفة (الغيب). ومعرفة الغيب هي إدراك المستقبل والتنبؤ به. . . والإنسان الذي يوهب هذا الشيء الخارق. . تكون له القدرة على لمس الحوادث قبل وقوعها. . قال الكاتب هذا. . وقال أيضاً إن هذه القوى نادرة الوجود جداً. . ففي كل مليون آدمي. . واحد فقط هو الذي يملكها. . وغالباً ما يجهل هذا الواحد أنه يملكها! قال الكتاب إن هذه القوى يمكن تنميتها وفسر كيف يكون ذلك.

إدوارد: (في دهشة) أنا لا أفهم شيئاً مما تقول. . زدني إيضاحاً.

ريتشارد: (متضايقاً) سل نفسك عدة أسئلة عن أشياء تتوقع حدوثها. . دون أن تشغل عقلك بشيء. . وعندئذ ستتوارد الإجابات على ذهنك.

إدوارد: هراء.! إنه غير ممكن. . وليس لمخلوق القدرة على التنبؤ بالغيب.

ريتشارد: أرجوك. . لا تقاطعني. . أنصت إلى قصتي العجيبة:

لم أكن سوى طفل صغير غير مصدق ما يضمه هذا الكتاب بين دفتيه. . وهل اكتملت فيه عوامل الصواب. . أم لا.؟. حاولت بادئ ذي بدء أن أتنبأ بأشياء صغيرة على سبيل التجربة، فمثلاً كنت أسائل نفسي: من الذي سيقتحم علي الغرفة بعد؟. وخطت محاولاتي خطوات واسعة. . حتى أقدمت على ذلك الاختبار التاريخي الذي كنت أخشاه لعقيدتي الراسخة بأنه نوع من الخداع وحاولت التنبؤ بالأسئلة التي سوف تلقى علي.

إدوارد: وماذا كانت النتيجة؟ أذكر أنك صعدت فجأة إلى القمة. . وصرت تبزني بعدها في كل الامتحانات.

ريتشارد: نعم لقد كنت دائماً أحمل لك في نفسي الحقد والحسد لتفوقك علي. . ولكن بعد ذلك. . بدأ نجمي في الصعود. . وأخذت أحوز السبق في المعمعة دونك. . لأنني أصبحت مخادعاً عبقرياً. . أجل. . إنه اعتراف صارخ مني بأن نجاحي كان خدعة كبيرة. . ثم سارت حياتي في ركب الحياة على تلك الوتيرة وهذا هو سر فشلي.

إدوارد: ولكنك بتلك القوة الخارقة. . تستطيع أن تنال قسطاً وافراً من النجاح. .

ريتشارد: انتبه. . لقد كسبت جائزة مدرسية كما تعرف. . ثم حصلت على مجانية التعليم الجامعي. . وكل جائزة جامعية وصرت في طليعة المتقدمين. . ولم يجرؤ أحد على منافستي. . ولما نلت إجازة التدريس عينت أستاذاً بالجامعة. . وأذكر أني كنت أحدث أستاذ تولى ذلك المنصب. . وبعدها. .

إدوارد: (في تحفز) ماذا حدث؟

ريتشارد: قدمت استقالتي. . . لقد كان يجب علي أن أستقيل كنت أجهل المادة التي أدرسها. . . وهي الأدب الإنجليزي. . . إذ كان عقلي لا يحمل سوى القدر اليسير الذي اجتزت به الامتحان. . . أعني الأسئلة التي تنبأت بها. . . ودرست الإجابة عنها.

إدوارد: وماذا كان من أمرك بعد؟ أوفقت في الحصول على عمل آخر؟

ريتشارد: أرسلت طلبات عدة. . . ضاعت معها محاولاتي أدراج الرياح. . . بيد أني في النهاية وفقت إلى عمل متواضع. . . كمدرس بسيط. . . ولكني استقلت.

إدوارد: (في عجب) استقلت! كيف ذلك؟ إني أعتقد أنك سوف تكون مدرساً موفقاً. . .

لاسيما وأنك ستعرف ما ستأتي به الامتحانات. . . وسينجح تلاميذك بفضل إرشادهم إياهم إلى الإجابة الصحيحة.

ريتشارد: (في أسف) أجل: كان من السهل أن أفعل ذلك. ولكن ضميري لم يسمح لي بأن ألقي بتلاميذي في بؤرة الجهل التي تحتويني، فلم أرض أن أخدعهم. وتجنبت مواضع الأسئلة التي سيمتحنون فيها. . . وكان أن رسب جميع التلاميذ فرميت بعدم الكفاءة على التدريس. . وأقصيت من عملي وواجهتني عاصفة هوجاء من الفقر. . فقلت لنفسي. . إذا لم يتيسر لي الحصول على المال الشريف فسأنهج أي طريق آخر للحصول عليه. . (يرمق إدوارد بنظرة طويلة شاردة) ألم تذهب يوماً إلى السباق. . ألم تراهن على جواد ما؟

إدوارد: راهنت أكثر من مرة. . ولازلت أراهن على المملكة الفضية.

ريتشارد: (وقد أسبل جفنيه وقتاً). . راجا هو الأول. . المملكة الفضية هو الثاني. . الحظ هو الثالث. . سوف تخسر كل مراهناتك يا مستر إدوارد! لقد ربحت من وراء المراهنات مالاً طائلاً. . ولكني لم أتذوق لذة هذا الربح لأني كنت أعرف أنني سأربح دائماً. . إن لذة المال ليست في كسبه. . وإنما هي في التنقيب عنه والجري وراءه!!

إدوارد: إنك مثالي للغاية. . ولم تحاول مطلقاً أن تقنع نفسك بلذة الحصول على هذا المال.

ريتشارد: (مستطرداً) ولما لم أشعر بلذة هذا الربح. . عولت على ترك المراهنات. . والتحقت بمكتب للتأمين. . كنت قادراً على أن أدلي بآرائي السديدة إلى الشركة فأشير عليها مثلاً بقبول تأمين هذا. . لأنه سيحيى طويلاً. . وبرفض ذاك لأنه سيموت غداً! ولاقت توجيهاتي رواجاً محموداً. . فتبوأت في الشركة مقعد المجد والشهرة. . وعينت وكيلاً لها بإحدى المدن الضخمة. . ثم مستشاراً عاماً لجميع شركات التأمين. .

إدوارد: لعله عمل طيب ومدر للربح في وقت واحد!

ريتشارد: لا بل كان على النقيض. . لأنني كنت أدرك خطورة الجرم الذي أقدم عليه. . لقد كانت الشركة دائماً تستحوذ على أكبر قدر من المال. . والجمهور هو الذي يخسر. . هل تسول لك نفسك أن تحرم إنساناً حقه. . فتسلب أمواله. . لتقدمها إلى الشركة. . وربما أنت تعرف أن أسرته وأولاده في مسيس الحاجة إلى هذا المال؟ إن التأمين الوحيد الذي جعلني أشعر بالسرور ذلك الذي أشرت على الشركة أن تعقده - وكنت أدرك نتيجته - فخسرت الشركة كل أموالها. . ولهذا طردت من عملي.

إدوارد: إنك ذو قلب كبير، وضمير مستيقظ. . ولكن لماذا لم تخض ميدان التجارة. . أو الصناعة. . وفي مقدورك أن تفلح دون أن تؤذي الآخرين.؟

ريتشارد: حاولت كلتيهما ولكني لم أستمر. .

إدوارد: كيف؟ تقصد أنك لم تفلح في تجارتك؟

ريتشارد: كنت موفقاً إلى حد بعيد. . فصار لدي المال الوفير. . وأصبحت من ذوي الثراء. . ولكني فقدت لذة العراك في سبيل الكسب. . وهتفت بالسعادة من ورائه فضللت السبيل إليها. . إن مجرد كسب المال ليس كل ما ينشده إنسان طموح يحاول جاهداً أن يساير ركب البشرية المواج الذي يتدافع بالمناكب نحو غاية سامية. . إن المنافسة والنضال. . والرغبة في الغلبة. . والأمل في الربح. . هي السعادة المأمولة لرجل الأعمال. . المال يمنح النفوذ والقوة. . ولكن النفوذ والقوة لم يكونا عماداً للسعادة. إن الأعمال يجب أن تقترن دائماً بالمنافسة. . إنها مباراة يكسب فيها كل جدير بالكسب! أما أنا فكانت منافستي خالية من حرارة النضال. . لأنني كنت أعرف أن الظفر لي. . وحينما أظفر. . يتراءى أمام عيني شبح الخداع الذي أتوارى خلفه. . فأتألم.