مجلة الرسالة/العدد 9/في الأدب العربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 9/في الأدَب العَرَبي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 05 - 1933



ابن خلدون والتفكير المصري

للأستاذ محمد عبد الله عنان

- 4 -

قضى ابن خلدون في مصر ثلاثة وعشرين عاما (784 - 808 هـ) ولكنها كانت بين مراحل حياته أقلها حوادث وأقلها إنتاجا.

فأما عن الحوادث فان الحياة السياسية العاصفة التي عاشها ابن خلدون بالمغرب، والتي جاز خلالها معتركا شاسعا من المغامرات والدسائس الخطرة، وعانى كثيراً من الخطوب والمحن، كما نعم مراراً بمراتب النفوذ والسلطان، والتي هي في الواقع صفحة قوية شائقة في تاريخ المغرب في أواسط القرن الثامن: هذه الحياة المضطرمة العاصفة، استبدلها المؤرخ في مصر بحياة أكثر هدوءا ودعة. وفي مصر يعيش ابن خلدون شخصية عادية لا علاقة لها بشئون الدولة العليا، بعد أن لبثت بالمغرب ربع قرن روح هذه الشئون، يتجرد من ثوب السياسي المغامر ليتشح بثوب العالم المقتدر، وليستوحي نفوذه المحدود من هذه الناحية. على أن المؤرخ لقى في هذه الفترة حادثين من أهم حوادث حياته، هما فقد أسرته. ولقاؤه للفاتح التتري تيمورلنك.

وأما عن الإنتاج، فقد رأينا أن المؤرخ حقق أعظم أعمال حياته، أعني كتابة تاريخه الضخم ومقدمته الرائعة قبل مقدمه إلى مصر. ولا نعرف أن ابن خلدون وضع أثناء مقامه بمصر مؤلفاً جديداً. غير أن الذي لا ريب فيه هو أن وجوده بمصر على مقربة من المكاتيب والمراجع الشاسعة قد أتاح له فرصة التنقيح والتهذيب في التاريخ والمقدمة، خصوصا فيما تعلق فيهما بمصر والشرق، كذا استمر المؤرخ في كتابة ترجمة حياته أثناء إقامته بمصر، واستمر فيها إلى قبيل وفاته، وضمنها فصولا جديدة عن خواص دول المماليك المصرية، ونشأة التتار مما أشرنا إليه في موضعه. وكتب أثناء مقامه بالشام وصفاً لبلاد المغرب ورفعه إلى تيمورلنك كما قدمنا. كذلك لا ريب في أن ابن خلدون كان يعنى في دروسه ومجالسه ببث مذاهبه وآرائه الاجتماعية وشرحها.

غير أن ابن خلدون لم يستطع على ما يظهر أن ينشئ له بمصر مدرسة حقيقية، يطبعه بآرائه ومناهجه، وقد كان حريا أن ينشئ مثل هذه المدرسة في بلد انقطع فيه للبحث والدرس أعواما طويلة. نعم ان التفكير المصري المعاصر ليس خلواً من تأثير ابن خلدون كما سنرى، ولكن هذا التأثير الذي كان حريا أن يزدهر بمصر وأن ينبث في مدرستها التاريخية التي كانت يومئذ في أوج قوتها، كلن ضئيلا محدود المدى. ونستطيع أن نرجع ذلك إلى الروح الذي استقبل به المؤرخ من المجتمع المصري المفكر، وهو روح نفور وخصومة، فقد جاء ابن خلدون إلى مصر يسبقه حكمه على المصريين في مقدمته بأنهم قوم (يغلب الفرح عليهم والخفة والغفلة عن العواقب) ويورد ابن خلدون هذه الملاحظة في معرض كلامه عن أثر الهواء في أخلاق البشر ويعتبرها نتيجة لوقوع مصر في المنطقة الحارة. على أنه مهما اتخذت هذه الملاحظة سمة البحث العلمي فإنها لا يمكن أن تقابل ممن قيلت في حقهم بغير الاستياء والحفيظة. واكن طبيعيا أن يحدث هذا الغرض السيء أثره في شعور المجتمع المصري المفكر نحو المؤرخ. وكان هذا المجتمع نفسه يجيش عندئذ بكثير من عوامل الخصومة والمنافسة، وزعامته يطبعها لون من الجفاء والقطيعة. وكان اضطرام المنافسة بين أعلام التفكير والأدب يومئذ سواء في ميدان التفوق والنبوغ أو في تحصيل ما تسيغه الزعامة الأدبية من الجاه والرزق ظاهرة هذه الخصومة. وكان المجتمع القاهري الأدبي ينقسم عندئذ إلى شيع وطوائف تنحاز كل شيعة أو طائفة إلى زعيم أو جناح معين من الزعماء فتؤيد جهوده الأدبية وتناجز خصومه في ميدان الجدل. فلم يكن من السهل على أجنبي مثل ابن خلدون جاء ينتظم في سلك هذا المجتمع منافساً في طلب الجاه والرزق أن ينعم بصفاء الأفق، أو يلقى خالص المودة والصداقة، هذا إلى ما كان يغلب على خلاله من حدة وصرامة وكبرياء تزيد من حوله الجفاء والقطيعة. كان طبيعياً أن تلقى آراء ابن خلدون ودروسه في هذا الأفق الكدر من الإعراض والانتقاص أكثر ما تلقى من الإقبال والتقدير، وان تكون محدودة الذيوع والأثر. ومع ذلك فقد درس على ابن خلدون جمهرة من أعلام التفكير والأدب المصريين وانتفعوا بعلمه، وظهر أثره جليا في بعض ثمرات التفكير المصري المعاصر. وممن درس عليه وانتفع بعلمه الحافظ ابن حجر العسقلاني المحدث والمؤرخ الكبير فهو يقول لنا في كتابه (رفع الإصر عن قضاة مصر) إنه (اجتمع بابن خلدون مراراً وسمع من فوائده ومن تصانيفه خصوصاً في التاريخ) وإنه (كان لسنا فصيحاً حسن الترسل وسط النظم مع معرفة تامة بالأمور خصوصا متعلقات المملكة). وإنه كان جيد النقد للشعر وإن لم يكن بارعا فيه. بيد أن ابن حجر يحمل على ابن خلدون بشدة، وينقل في ترجمته كثيراً مما قيل في ذمه وتجريحه. فهو يقول لنا في تاريخه أن ابن خلدون مؤرخ بارع (ولكنه لم يكن مطلعا على الأخبار على جليتها ولا سيما أخبار المشرق) ويعارض المقريزي في مدح المقدمة ويرى أنها لا تمتاز بغير (البلاغة والتلاعب بالكلام على الطريقة الجاحظية) وان محاسنها قليلة (غير أن البلاغة تزين بزخرفها حتى يرى حسناً ما ليس بحسن) وأما ابن خلدون كقاض فان ابن حجر يقول لنا: (أنه باشر القضاء بعسف وبطريقة لم تألفها مصر. وانه لما ولي المنصب تنكر للناس وفتك في كثير من أعيان الموقعين والشهود، وانه عزل لأول مرة بسبب ارتكابه التدليس في ورقة ثم ينقل في هذا الموطن كثيراً مما قيل في ذم المؤرخ وتجريحه. من ذلك إن أهل المغرب لما بلغهم ولايته للقضاء تعجبوا ونسبوا المصريين إلى قلة المعرفة بحيث قال ابن عرفة: (كنا نعد خطة القضاء أعظم المناصب فلما وليها هذا عددناها بالضد من ذلك) ومن ذلك قول الركراكي أحد الكتاب الذين عملوا مع ابن خلدون (أنه عرى عن العلوم الشرعية) بل ينقل ابن حجر أيضاً بعض المطاعن الشخصية والأخلاقية التي قيلت في حق المؤرخ من ذلك ما نقله عن العينتابي وهو أنه كان يتهم بأمور قبيحة وما نقله عن كتاب القضاة للبشبيشي، وهو (أن ابن خلدون كان في أعوامه الأخيرة يشغف بسماع المطربات ومعاشرة الأحداث وأنه تزوج امرأة لها أخ أمرد ينسب للتخليط) وأنه كان (يكثر من الازدراء بالناس) وأنه (حسن العشرة إذا كان معزولا فقط فإذا ولى المنصب غلب عليهم الجفاء والنزق فلا يعامل بل ينبغي أن لا يرى) وهذه أقوال تنم عن خصومة مضطرمة ومبالغة في الانتقاص تنحدر إلى معترك السباب والقذف. وقد كان البشبيشي بلا ريب من ألد خصوم المؤرخ وأشدهم وطأة عليه. وقد دوَّن حملاته على المؤرخ في كتاب ألفه في تاريخ القضاة ولم يصل الينا، ولكن ابن حجر ينقل إلينا منه تلك الفقرات الشخصية اللاذعة.

وأخيراً يقول ابن حجر من ابن خلدون وأثره يدعو إلى التأمل، فهو على رغم اتزانه واعتداله وعفة قلمه ينساق هنا إلى نوع من التجريح والانتقاص ليس مألوفا في كتاباته. ولا ريب أن في لهجته وأقواله مبالغة وتحامل، ولكن لا ريب أيضا أن لها قيمتها في تقدير الرأي المصري المعاصر لأبن خلدون، بل نستطيع أن نعتبرها ممثلة لرأي الفريق المفكر الذي كان يخاصم المؤرخ ويشتد في تجريحه، والحملة عليه، وقد كان الفريق الأقوى بلا ريب لأنه كان يضم كثيراً من المفكرين والفقهاء البارزين مثل ابن حجر، والجمال البشبيشي، والركراكي، وبدر الدين العيني (العينتابي). وقد امتدت آثار هذه الخصومة الأدبية طوال القرن التاسع الهجري حتى جاء السخاوي في أواخر هذا القرن يردد كل ما ذكره ونقله شيخه ابن حجر في ذم ابن خلدون وتجريحه والانتقاص من أثره، ولكن في لهجة مرة لاذعة تنم عن الخبث، وقصد التشهير والهدم أكثر مما تنم عن قصد النقد الصحيح، وهذه الروح المرة اللاذعة تبدو في معجمه (الضوء اللامع) في معظم تراجم الشخصيات البارزة. بيد انه يعترف في كتاب آخر له (بنفاسة) مقدمة ابن خلدون ويبدو أكثر اعتدالا وتقديرا.