مجلة الرسالة/العدد 873/البريد الأدبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 873/البَريدُ الأدَبي

مجلة الرسالة - العدد 873
البَريدُ الأدَبي
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 03 - 1950



الأدب المنتحر

الأدب العربي - اليوم - يقاسي محنة مريرة، ويعاني تجربة قاسية، أسأل الله أن يجتازها بسلام.

ذلك أن نفراً من المبتلين بداء التقليد يطلعون علينا كل يوم بصورة من صور الإفلاس الكبرى، والمجاعة العاطفية.

فتراهم يحاولون تقليد المذاهب الغربية الهاربة من نعيم الحياة الحاقدة على المجتمع، المنزوية في كهوف من الأوهام العاجزة المريضة.

وفي لبنان مجلة تقرأ في كل عدد من أعدادها نماذج من تلك المذاهب، وأنا أورد ثلاثة نماذج من تلك الصور البشعة للأدب البغيض.

أحدها من قصة عنوانها (مواطن جديد) قال كاتبها في أولها:

(آه. . تنبعث من زاوية الكوخ فيرفع الرجل رأسه، ويرنو إلى زوجته القابعة على بقايا حصير، ثم يتطلع إلى وجهها الشاحب الباهت ويتساءل (هكذا) - ما بك؟. - الجنين، أحس ألماً شديداً في أحشائي، يبدو أن ساعة الوضع قد دنت، إن الشقي يتأهب للنزول إلى الحياة، ليأخذ نصيبه من الألم والعذاب، نصيبه من الشقاء والبؤس. . . ويدير ببصره إلى باب الكوخ، ظلام. . الظلام يكتنف الكون. . . لا. . . الأكواخ. . . فقط. . . إن كلمات زوجته تهبط على رأسي كالمطارق فهلا كفت عن الشكوى؟

أمعك عود ثقاب؟!. . يلتفت الزوج. . إن النور الضعيف الذي كان ينبعث من ذبالة السراج قد مات. . . تلاشى. . فملأ السواد جانب الكوخ. . انطفأ. . ويمد الرجل يده إلى جيبه، لا شيء. . إنه مثقوب. . الجيب الآخر. . فتصطدم ببعض الأجسام الصغيرة يعرف بينها علبة الثقاب لكنه يتمهل فلا يخرج يده. . بل ظل يعبث بتلك القطع ويمر بأصابعه على أطرافها، هذه القطعة التي جوانبها ملساء. . فلس. . وهذه الصغيرة التي بأطرافها نتوء. . أربعة. . أما هذه الكبيرة قليلاً. . فعشرة. . خمسة عشر فلساً. إنه يتفحصها للمرة العاشرة دون أن تزداد قليلاً. يقولون إن النقود تأتي بالنقود والذهب يأتي بالذهب، أما النحاس؟ وينهض الرجل متثاقلاً فيتحسس بأقدامه الأرض. . . . . . ويحمل الرج السراج متذمراً ويهزه بيديه هزاً عنيفاً.

نضب. . الغاز نضب. . إن السراج خال من الغاز. تئن الزوجة. . ويطلق الزوج ضحكة قصيرة. . - حتى الغاز أيضاً. . هه

تضحك وأنا أتألم

أجل أضحك وأنت تتألمين. يجب أن نضحك ونحن نتألم، هكذا يريدوننا، أما الشكوى فكأي شيء آخر في الحياة محرمة علينا. . (يريدوننا أن نضحك ونحن نموت)

وهكذا تمضي القصة مفككة لا هدف لها، كاذبة على الحياة، متفلسفة في جو لا تعيش فيه الفلسفة، زائغة عن القصد. .

أما النموذج الثاني فشعر بديوان (نعش تائه) للطفي جعفر أمان يقول فيه:

ليل. . ومقبرة. . ومنبوذ بلا خفق طريح

هفت الرؤوس لنعشه. . وتنفست صمتاً وريح

في كأس جمجمة يريق شبابه يأساً جريح

فترف نازفة النطاف بحتفها ولهى تصيح

بُعث العدم. .

في جنة تلظى يلف ربيعها فجر أصم

أنبته حياً. . فأزهر واضطرم

وأرقته عطراً أغم

ناراً ودم

والقصيدة كلها غموض وتفسخ وألفاظ لا معنى لها ولا رواء، أما ثالث النماذج فبعنوان

(حزني) لمنير وبس يقول فيه:

بي حزن عميق، مظلم

يحتضر في ضباب ابتسامي فيضيع

تجف في عطش

في خلاء اكتفائي

يحتضر فيضيع عذب، حنون، كأنفاس الحبيبة

كرطوبة الضباب يغمر الأزهار

به سكون، به دموع، به حنان، به حنين عذب

أعذب من آلام المخلص، فالآن قوة وظفر

أما حزني فنغم هائم في نسيان

شعاع يتلاشى في نور، ضعف يرتعش في حياة

حزني أنين، بليد، بليد، كالأحلام، كالرقاد

أنفاس قبور. . لقاء حبيب. . ودموع أم أنين

مدنية. . بليد. . بليد كالنعاس)

إلى آخر هذه السفسطة البليدة.

غائب طعمة فرحان

حول مقال الجارم الشاعر:

قد اطلعت في الرسالة الغراء بالعدد (872) بتاريخ 20 مارس سنة 1950 على مقال الأستاذ عبد الجواد سليمان بعنوان الجارم الشاعر وقد سرني هذا البحث القيم الذي يدل على وفاء الباحث لأستاذنا الجارم بيد أن الأستاذ ذكر البيت الآتي:

بيت له عنت الوجوه خواشعاً ... كالبيت يمسح ركنه ويُزار

وقال: (وإن التورية التي تضمنتها كلمة (البيت) لمن التوريات الطريفة الخ. . .) وأنا أخالف الأستاذ فيما ذهب إليه، وأرى أنه ليس في البيت تورية ولكن فيه تشبيه مرسل، يشبه الشاعر البيت العلوي الكريم بالبيت الحرام الذي يمسح ركنه ويزار. والتورية هي أن يذكر لفظ له معنيان قريب وبعيد ويُراد البعيد اعتماداً على قرينة خفية ولذلك تسمى (الإيهام) أيضاً لأن الأديب أو الشاعر يقصد بالتورية أن يوهم السامع أنه يريد أمراً غير ما يقصده فيدفعه إلى التأمل والتفكير ليدله على براعته ولهذا اشترط أن تكون القرينة خفية ومن أمثلة التورية قول المعري:

إذا صدق الجد افترى العم للفتى ... مكارم لا نخفي وإن كذب الخالُ أراد بالجد الحظ وبالعم عامة الناس وجماعتهم وبالخال المخيلة. وقد أوهمنا المعري انه يريد الجد والعم والخال أقارب الإنسان مع أنه لا يريد ذلك.

إبراهيم عبد الفتاح