مجلة الرسالة/العدد 864/رسالة النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 864/رسَالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 01 - 1950



السراب

للأستاذ ثروت أباظة

هي القصة الرائعة التي أنمها الفنان العبقري نجيب محفوظ، وقد أدار حوادثها في بيئة متوسطة ليست بالوفيرة الغنى ولا هي بالمدقعة الفقر.

أطلق الأستاذ نجيب قصته على لسان شاب في طريقه إلى إغلاق الحلقة الثالثة من عمره. . . فهو يقص علينا حياته بادئا بالفطام منتهيا بما يرفع عنه القلم. . . وقد عاش حوله أشخاص كثيرون كان شأن نجيب معهم شأنه دائما مع شخصياته جميعا، يمسك بزمامهم في قوة المتمكن العتيد ويحركهم في دوائرهم المرسومة راسما في كل حركة من حركاتهم خطا بصور ما تنضم عليه نفوسهم من خير أو شر فتعرفهم وتعيش معهم فكأنهم أصدقاء العمر دون أن يقدمهم لك القاص ودون أن يقدموا هم أنفسهم. . . بحسهم وبحسبك أن يسيرهم نجيب وأن تتابع أنت سيرهم فإذا هم الأصدقاء القدماء أو هم - على التقدير المتواضع - أناس عرفتهم فأحسنت المعرفة.

بطل القصة (كامل رؤية) يتابعه نجيب أو هو يتركه يتابع نفسه ويروي لنا أن نشأ كعود وحيد في حقل كبير لا يعتني به إلا الأرض وصاحب الحقل، وقد كان أرض (رؤية) أمه وكان صاحب الحقل جده. وهكذا كان الولد مشدوداً في طفولته إلى فستان أمه أيا كان نوع هذا الفستان فهو معها في كل مكان وهي تأبى عليه ألا أن يكون كذلك. حرمت عليه لعب الأطفال وحرمت عليه الخروج حتى إذا ما ذهب إلى المدرسة عجز عن رد السخرية بل عجز عن الكلام حتى لنسمعه حين يسرح يقول للأستاذ (يا نينه) فتبقى الكلمة علما عليه طول أيامه في هذه المدرسة. . . ولم تكن الأم بالمثقفة حتى تفتح ذهنه إلى شيء. كل ما علمه عن الحياة أن له أماً وله جداً وله أبا سكيراً لم يقم مع أمه أكثر من شهور متفرقة. . . أنجبت أو هي في الحقيقة جلبت فيها إلى الحياة ثلاثة أفراد: بنتاً وولدين كان بطلنا صغيرهم - عاش مع أمه التي تعيش مع أبيها الضابط المتقاعد. . هذا هو كل ما عرفه كامل، وهذا هو ما ظل يعرفه من أمور الدنيا حتى بلغ الخامسة والعشرين من عمره، فهو شخص خامل جبان، يخاف الحياة ويخاف الموت، ويخاف الناس ويخاف نفسه، غبي، ضعيف الإرادة. . يجسم التافه من الأمور، يتعثر في خطاه كلما مشي. . . ولكنه هو الذي يضع العراقيل التي يتعثر بها. لم يكن من بد أن يتعثر في الدراسة أيضاً فنال شهادة البكالوريا لاهثا وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ومنعته سنه الكبير أن يحقق أمنية جده بدخوله الكلية الحربية فينحرف عنها مضطراً إلى كلية الحقوق، وكل ما يسره فيها أنه لن يضرب. . . وقد حدث ما سره فعلا فلم يضربه أستاذ بعصا، ولكن أستاذ الخطابة فعل به ما هو أنكى، فطلب إليه أن يخطب إخوانه فوقف على المنصة ليصمت وليستدعي هزء إخوانه ثم ليولي وجهه شطر الباب ويخرج. . ويخرج إلى غير رجعه، فقد صمم على أن يكتفي من التعليم - أو الشهادات فهو لم يتعلم - بما نال، يسعى بها لدى الحكومة فتعينه ويصير موظفاً بوزارة الحربية. يموت جده وقد كان يحمل عنه عبء البيت بما يقبضه من معاش حتى إذا قبضه الله إليه حار (كامل) فيما يفعل، ولكن الأم تهون عليه وتترك بيتهم الكبير إلى شقة صغيرة وتستقيم الحياة في ظاهرها ولكن كاملا الملتوي لابد أن يلوي الحياة معه. . . فهو في حياة جده كان قد أغرته كثرة المال كما أغراه خوفه وضعفه بشرب الخمر التي نكبت أسرته جميعا وصدعت شملهم ولكنه يجد حين يسحوها جرأة لا يجدها في نفسه إطلاقا. جبان هكذا هو دائما، رعديد يخشى الحياة بنفسه وبعقله فهو يذيب عقله الخائف، ويغمر نفسه الهالعة في كأس الخمر، ولكنه حين مات جده لم يجد ما يكفيه لشربها أو هو على الأقل لم يجد ما يداوم به على شربها.

أم جهول وابن غبي! ماذا نرجو؟ نعم. . لقد شب الطفل خسيس النفس يستعين بجسمه على إخماد غريزته، فلم يجد من يبصره بالعاقبة أو من يعالجه به المراهق - فأفرط حتى تمكنت منه العادة. . . وقد أثارتها في نفسه خادمة قبيحة عندهم وجدتها أمه معه فطردتها وأخبرته أنه أتى أثماً كبيراً؛ فلم يفهم غير هذا حتى إذا تقدم خاطب لأمه قفز الإثم الكبير إلى ذهنه وساءل أمه فأخبرته أن الزواج علاقة يباركها الرحمن ولم تزد، ورفضت الخطبة، فاختلفت الأمور بذهنه فأكب يجلد نفسه بنفسه حتى أصبح لا يطيق إلا هذا. ولما كانت الخادمة قبيحة فإنه شب لا يثير حيوانيته إلا المرأة القبيحة، أما الجميلة فإنه يشرئب إليها بروحه ناسياً أنه رجل.

ظل كذلك حتى أحب ابنة لجار لهم وأراد الزواج منها فوقف في سبيله فقره الذي صار إليه وحياؤه الذي نشأ معه، واستطاع مرتين تحت وطأة الحب الجارف أن يذهب إلى أبيه يطلب منه العون على الزواج؛ ولكن الأب يفهمه في المرة الأولى أن لا مال لديه وفي المرة الثانية يتحسس الأب في كلام أبنه معنى التهديد، ولما كان هو قد حاول قتل أبيه فأخفق، الأمر الذي جعل أباه يحرمه ميراثه لما كان كذلك، فإنه يغضب، ويتجسم كلام أبيه في ذهنه تهديداً صريحاً فيطرد، ويخرج الابن يائساً ولكن لا يطول به اليأس بل يموت أبوه ويرث عنه ما يكفيه للزواج وينتقل هو وزوجته وأمه إلى بيت جديد. . . أن زوجته جميلة. . . لا زوجية إذن. . . عجز عنها ولكن الزوجة راضية. . لم يطق الحال فذهب إلى طبيب يتضح فيما بعد أنه قريب أصهار فيعرف الطبيب عادته التي ظل عليها حتى بعد الزواج فيحاول علاجه. . . ولكنه لا يفلح فينصرف عنه كامل ليستعين بالخمر فينجح نجاحاً واهباً ويقنع نفسه أنه نجح؛ ولكن الزوجة ترجوه أن يرجع إلى ما كان عليه من روحانية فيرجع راضياً في نفسه وعن نفسه محاولاً أن يقنعها أنه إنما تقاعس عن رجولته إرضاء لزوجته. وتمشي الحياة به راضيه ولكن رأى في يد زوجته خطابا مزقته حين رآه فثارت في نفسه شكوك، وذهب يراقب زوجته فيرى فتاة دميمة تغازله فهو جميل، ويغازلها فهو قذر، ويخون زوجته التي اتضح من مراقبته لها إنها بريئة. . . وظل هكذا، دميمته لجسده وزوجته لروحه، حتى كانت ليلة شعرت فيها الزوجة بوعكة فيطلب إليها أن تبقى بالمنزل فتوهمه أن لا سبب للخوف وتقصد إلى بين أمها فيشتد بها المرض فتقيم هناك ليلتها ويعود هو من عند جسده ليجد روحه عند أمها فيذهب إليها، يقيم معها حتى يغدو الليل إلى النهار، فيذهب ثم يعود إليها قبل ذهابه إلى ديوانه ثم لا يطيق أن يبقى بالديوان أكثر من ساعتين فيعود إليها. ولكن لا لم يعد إليها بل عاد إلى جسدها. لقد ماتت كيف؟ أنها عملية قام بها الطبيب الذي عرض عليه نفسه. ولكنه يرى أن الطبيب قام بعملية ليست من اختصاصه فتثب إليه الشجاعة ويبلغ النيابة فيكشف التحقيق عن زوجة خائنة خانته مع هذا الطبيب بالذات فكان ثمرة الخيانة جنيناً حاولا التخلص منه، ولكنها ماتت.

يذهب إلى أمه يكاد يجن فيفزع فيها غضبا جائحا ويتركها ليقلي بنفسه في غرفة غير تلم التي عشق فيها الروح الخائنة حتى إذا كان الصباح نزل إلى القاهرة لا يدري من أمر نفسه شيئاً ويقابله صديق يعزيه. لم يكن يعزيه في زوجته ولكن في أمه. لقد ماتت لقد أخرج غضبه في غير موضعه. لقد كانت الأم طريحة الفراش يهددها القلب بالتوقف حتى إذا طالعها من ابنها هذا العتود. ماتت

وهكذا تتوالى عليه المصائب في غير توقف. وهو هو الرعديد الجبان الضعيف يخر لها في غيبوبة ثلاثة أيام يرعاه أخوه وأخته حتى إذا أفاق وتذكر خيل إليه أنه وصل إلى حقيقة نفسه. وهو أنه خلق للتصوف؛ ولكن لم يكد يستقر به التفكير على هذا حتى تدخل إليه دميمته. إنها تسأل عن صحته وتسدل الستار.

إن في الرواية بعد ذلك لفتات عبقرية إلى دقائق الحياة ليست غريبة على نجيب ولا هي بغريبة علينا منه. ففي الكلام الذي يقوله الأب لابنه في الزيارة الأولى وفي التحليل العجيب لنفسية المخطئ السكير وفي تبريره السر واقتناعه به بعقله إلى جانب عاطفته وفي دفاعه المنسجم مع منطقه. في كل هذا اكتمال، بل قمة فنية نجيب خير من يرقاها.

وفي النقاش الدائر بين كامل السكران وبين الحوذي الذي يطلب إليه (كامل) أن يذهب به إلى بؤرة فساد؛ في هذا الحوار لفتات بارعة فترى الحوذي يقول حين يصل (هنا الفساد الأصلي) في هذه السهولة وهذه الوقاحة ونرى (كاملا) يألم على رغم سكره حين يوغل الحوذي في الحديث. لفتة بارعة أيضاً.

بقي أمر لابد أن أعرض له على من نلقى عبء النكبات المتحدرة على (كامل). نظرة سطحية للأمور تجيب: على القدر. ليس القدر كلها أخطاء بشر. أم مدللة، وجد يدلل الأم. لابد أن ينتج ابن هش ضعيف النفس يتعلق بالقبح، وما هذا إلا شذوذاً في الخلق وعقدة في النفس أودت بحرمة بيته، وهو غبي ولم يكن الغباء موهبة عنده، ولكن أمه لم تعط الفرصة لعقله أن يعمل فخمل، وعرف في نفسه الغباء وعرف فيها الجبن، فاحتقر نفسه، فسقط لو هيأت له تربية صالحة لما سار إلى هوته. أن ذا النظرة السطحية يقول لم لم يهيئ له القدر تربية صالحة. ليس القدر. أنه أبوه أو جده لأبيه لم يحسن التربية، ولم يثقف ولده فأدمن الخمر وتزوج ولم يصبر على الرجولة الحقة، وفضل الدعة إلى جانب كأسه على أن يحمل نفسه مشقة الالتفات إلى أولاده.

والزوجة الخائنة لمن يحسن أهلها تربيتها فسقطت وكان الأحرى بها أن تطلب الطلاق ولا تتردى فيما فعلت، تطلب الطلاق.

ولتستتر بما شاءت ولكن تطلبه.

نجيب أنه لعلك تريد أن تقول لنا ما من شر يصيبنا إلا من أنفسنا وما من خير نلقاه إلا من الله. إن كنت فقد أحسنت وإن لم تكن فقد قدمت إلى مكتبة القصة قمة جديدة ننتظرها منك وننتظر غيرها وغيرها. صوراً عن مصر بشرها وخيرها وعن الناس خيارهم وشرارها - فالفن الصادق هو ما يلهمه وطنك تلك النبعة الخالدة. مصر.

ثروت أباظه