مجلة الرسالة/العدد 855/الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
تكريم الدكتور طه حسين:
أقام اتحاد التعليم الحر يوم الخميس الماضي، حفلة تكريم للدكتور طه حسين بك في دار الاتحاد النسائي لمناسبة عودته من أوربا. وقد بدأت الحفلة بكتاب من معالي الأستاذ محمد العشماوي باشا وزير المعارف ألقاها الأستاذ محمد سعيد العريان، وقد تضمن هذا الكتاب الكريم تقدير معالي الوزير للدكتور طه، إذ قال فيه بعد التعبير عن الأسف لعدم المشاركة في الاحتفال: أنه كان يود الحضور للتنويه بفضل أديب العربية الأولى والاعتراف بما أسداه للأدب والفن، وما أداه لقضية التعليم، وما أفادت الأمة العربية من آثار سفراته العلمية الموفقة في بلاد العلم والحضارة، بما نشر في المجامع العلمية من مباحث، وما أذاع من محاضرات، وما ترجم من آثار، وما أثر عنه من أحاديث.
وقد أجمل معالي وزير المعارف بتلك الكلمات، الأسباب الداعية إلى تكريم الدكتور طه بك. وقد دعوت الأدباء في كلمة سابقة إلى الاحتفاء بعميد الأدباء بعد أن بسطت القول في دواعي هذا الاحتفال، والواقع أن الرجل لا يوفى حقه أي تكريم، لأنه لا يعطي نفسه قدر ما يعطي هذه البلاد، فهو في الداخل محاميها المدافع عن حق أبنائها في التعليم، وهو في الخارج سفير بلا مرتب وداعية ينفق من ماله، على حين نرى عشرات المندوبين توفدهم الدولة إلى المؤتمرات لعلمية، وتكلف خزانتها نفقاتهم، ثم لا نحس أثر لهذه الرحلات والنزهات في غير الصحة الجيدة التي يتمتع بها العضو الكريم. . .
حقا إن الرجل لا يفي بحقه أي تكريم، ولكني لا أخال حفلاً يقيمه الأدباء إلا نافعاً من حيث ما يتوقع أن يقدم فيه من دراسات وألوان رائقة من الأدب والفن. وقد رأينا المشاعر المتدفقة وفاء في حفلة رجال التعليم الحر، رأينها في الجهد على قدر المستطاع، وهو جهد بذل على اصدق في النية أكثر مما يدل على شيء آخر. ولا أستطيع أن أغفل الحديث عن القصيدة الممتعة التي ألقاها الشاعر الإسكندري الأستاذ محمد فضل إسماعيل، فقد خرج فيها عن قوالب المدح المعادة إلى حديث الأديب إلى الأديب، والتعبير الظريف عن الخواطر السرية.
وأختتم الحفل بكلمة فياضة من المحتفى به، دارت حول حق المعلم في رعاية الدولة، وحق الأمة في تعليم أبنائها بالمجان في جميع مراحل التعليم؛ وقد دعا إلى (تأميم التعليم) بأن تدبر الدولة كل معاهدة، وتيسره لكل راغب، وتأتي بالمعلمين منكل قادر على أن يعلم شيئاً، فلا تقتصر على خريجي الكليات ومعاهد التربية وحاملي الشهادات، وقد سخر من (البيداجوجيا) ذهباً إلى أنه لا ينبغي لها أن تقف في سبيل نشر التعليم، وأنه لا ينبغي أن ننتظر حتى نتمكن من بناء المدارس الفخمة وتأثيثها بفاخر الأثاث، بل يجب أن نتعلم في أي مكان وعلى أية حال، حتى يتاح لنا أن نأخذ بأسباب الكمال، وضرب أمثالاً لذلك منها أن المصريين في القرى لا يستطيعون أن يمسكوا عن شرب الماء حتى يصفى لهم.
ذلك، ولقد لوحظ أن خطباء الحفل وشعراءه أجمعوا على إبراز شيء كان يجب - إن لم يكن منه بد - أن يكون (مضمراً) فلم تخل خطبة أو قصيدة من الآمال والمطالب، حتى ليمكن أن يقال إن نصيب أصاحب الحفلة من أنفسهم كان أكثر من نصيب المحتفل بتكريمه. ويمكن أيضاً أن يقال إن تكريم المعلمين لآمالهم كان أكثر من تكريمهم للرجل الذي احتشدوا لتكريمه. . . وقد جعل الخطباء والشعراء يجاذبون هذا المعنى، حتى جاء الخطيب الأخير، فرقَّم المطالب بأول وثان وثالث. . . فهذا (الجدول) المرهق للمعلم المسن في المدارس الحرة، وغيره مما لا أطيل بذكره. ولست أدري كيف غاب عن المعلمين أن الدكتور طه حسين بك ليس الآن في منصب بحيث يقال له ذلك، والقوم جديرون بالإنصاف والتقدير، والرجل أهل لصنع المكرمات، ولكن لكل شيء وقته ولكل مقام مقال.
وقد كثر الخطباء والشعراء، وأطالوا، حتى كاد ينقلب التكريم إلى ضده. ويبدو مع ذلك أنه كان هناك آخرون يبغون القول، غير من قالوا، وقد أفلت شاعر من الذمام ووقف يلقي قصيدته دون أن يُقدَّم غير عابئ بغيظ المنظمين. . وكلما قوطع قال: لم يبقى إلا بيتان!
وقد شاهدت بعض (المظطهدين) في وزارة المعارف ولسان حالهم يبغي اللياذ. . كما رأيت بعض كبار الموظفين في الوزارة يحيطون بالدكتور طه حسين، وقد سألت نفسي: هل كان هؤلاء يُلمحون بهذا المقام في غير هذا الظرف؟ ما أحسب الدكتور طه إلا يتعب كثيراً، كان الله له.
كرامة الأدباء: كتب (أديب ناشئ) في جريدة الزمان يوم الخميس الماضي يقول أنه حضر مجلساً في ندوة الأستاذ كامل كيلاني أني فيه ذكر الأستاذ العقاد من حيث ترفعه وكبرياؤه، فقال الأستاذ الكيلاني: إن احتفاظ العقاد بكرامته كما يقول على بن الجهم عن العلم:
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة ... إذن فأتباع الجهل قد كان أحزما
والأديب الناشئ يحكي عن الأستاذ كامل كيلاني نسبة البيت إلى علي بن الجهم، وإنما هو لعلي ابن عبد العزيز الجرجاني صاحب الوساطة بين المتنبي وخصومه، وقبل هذا البيت قوله:
ولم أقض حق العلم إن كنت كلما ... بدا مطمع سيرته لي سلما
ولا أشك في أن الأديب غاب عن ذكرياته ما سمعه من الأستاذ الكيلاني، فقد سمعت البيت من الأستاذ غير مرة منسوباً إلى صاحبه، وقد أورد صحيح النسب في بعض مؤلفاته، ويرجع ترديده البيت إلى اعتزازه بهذا المعنى.
وحتى ما قال كامل كيلاني في العقاد، كما أنه مما يجب أن يذكر في هذا الصدد أن جيل الأدباء الحالي رفع شأن أشخاصه بتوجيه همهم إلى القراء عن طريق الإنتاج، وأعراضهم عن التلصق بالكبراء، فالأديب يرتفع قدره أولاً عند الجمهور، ثم يطلب (الباشوات) مودته، وهؤلاء منهم الأديب، أو المثقف، المقدر حقيقة، ومنهم من يبهره الصدى المردد. على أن الزمن قد تطور، فقد أصبح بعض الأدباء من الباشوات ومنهم من لا تقل مكانته ولا ينقص قدره في المجتمع، بل يزيد، عن حملة هذه الألقاب.
فلم الأسبوع:
حسونة الطرابيشي يحب بِلْيه أخت عزوز الحذَّاء، وقد خطبها من أخيها، ولكن هذا لا يريد أن يزوج أخته إلا بعد يتزوج هو، ويلتقي عزوز بعزيزة فيحبها ويخطبها من أمها فترحب به؛ ولكن نعيم الحلاق الطامع في الزواج من عزيزة يقول لعزوز إن خطيبته تعمل راقصة باسم (قطر الندى) فيذهب عزوز إلى المرقص هو وأصحابه وأخته، فيشاهدون الراقصة قطر الندى فيعتقدون أنها عزيزة، والحقيقة أنها غيرها، ولكنهما تتشابهان. وتعرف الراقصة من كلامهم أن لها شبيه، وتعرف عنوانها، فتحاول أن تستغل هذا التشابه في تدبير أمر.
تذهب إلى منزل عزيزة وتعرض عليها أن تحل محلها ليلة واحدة لتذهب إلى والدها المريض، مقابل مائة وخمسين جنيهاً، فتقبل عزيزة وتذهب إلى المرقص وترقص. أما قطر الندى فإنها تذهب إلى جوهري علمت أن لديه جوهرة ثمينة ينوي صديقها الغني أن يشتريها وتخشى أن يهديها إلى غيرها، وتحتال الراقصة على الجوهري حتى يريها الجوهرة، فتضربه على رأسه ليفقد الوعي وتأخذ الجوهرة وتتركه صريعاً، ثم يفيق بعد ذلك ويبلغ (البوليس) وتحدث عدة حوادث وتتردد الشبه في أثنائها بين قطر الندى وعزيزة. وتستطيع عزيزة أن تبرهن لوكيل النيابة على أنها بريئة وأن الجانية السارقة هي قطر الندى، فيقبض على القطر الندى ويطلق سراح عزيزة ومن اتجهت الشبه إلى اشتراكهم معها، وهم عزوز وحسونة وبلية والمعلم كودك المصور الذي كان يصورهم وكانت الصورة تلعب دوراً هاماً في وقوع هذه الأحداث ويتزوج كل صاحبته، حتى المعلم كودك، إذ يتزوج أم عزيزة.
هذه هي قصة فلم (منديل الحلو) الذي عرض أخيراً بالسينما (نحاس فلم) وقد ألف القصة وأخرج الفلم عباس كامل. رأينا الفلم يسير في جو طبيعي مشوق حتى بدأت دسيسة الحلاق لصرف الخاطب عن مخطوبته، فقد ابتدأت سلسلة من الحوادث المبهمة ذات جو بارد ممل رغم ما تخللها من رقص وغناء، ويرجع ذلك إلى التكلف والافتعال في محاولة حبك القصة، فمثلاً أية ضرورة تحمل الراقصة على أن تحل محلها واحدة تشبهها؟ وماذا في أن تتخلف عن العمل ليلة لعذر؟ وما أدراها أن عزيزة تجيد الرقص مثلها؟ والعجيب أنها اكتفت بقول عزيزة لها إنها تعرف الرقص دون أن تحقق من هذا. . . وهكذا لو تتبعنا وقائع الفلم وجدناها تسير وفق رغبة المؤلف والمخرج في أن يهيئ مواقف معينة ولو أخرج طبائع الأشياء عن حقيقتها وأجرى الأمور في غير مجاريها. وهناك الزحمة التي تربك المشاهد والجلبة التي تصدع الرؤوس وتضيع في غبارها عناصر الفكاهة والغناء والرقص. ولا سيما أن بطلته تحية كاريوكا (عزيزة) وقد تعجلها المخرج فلم يصبر عليها حتى تصل الحوادث إلى المرقص، بل جعلها ترقص لخاطبها عزوز بدكانه بين الأحذية في أول مرة يلتقيان فيها. . . وهو (عبد العزيز محمود) يغني لها ولمنديلها (الحلو) حتى استحال الدكان إلى (كباريه)! ومن العبث أن تسأل عن القصة: ما هي؟ ولم هي؟ فالمقصود هو (الفرقة) أو (الجوقة) أو (التخت) الذي يتكون من تحية وماري منيب وإسماعيل يس وحسن فايق وحسن كامل وسعاد مكاوي وغيرهم، فالغرض الأساسي إظهار هؤلاء في الأوضاع التي عرفوا بها، لترقص الراقصة ويغني المغني ويضحك المضحك. وهكذا نرى أن الفكرة (التخت) القديمة لا تزال كما هي في جوهرها وإن اختلفت بحكم الزمن والاختراع، فكلما كان التخت يدعى إلى الأفراح والليالي الملاح، يدعى الآن إلى (الأستوديو) للتصوير والإنتاج، أما أغراض فن القصة من عرض وتحليل وغيرهما فلا باس أن تتحقق في عرض الأجسام تحليل قدرة الممثلين على إرضاء طبقة الفارغين من الناس. . .
والتسلية في الفلم من النوع المبتذل الرخيص، ومن المؤسف أن الممثلين والممثلات - وهم مجموعة من أشهر النجوم والكواكب - كم يستغلوا استغلالاً مفيداً، لتفاهة التأليف وركاكة الحوار وضعف الإخراج، ووجه الأسف أن تكون لدينا كفاءات تمثيلية يمكن أن توضع في القوالب الفنية الراقية، ولكنها تحول إلى الابتذال والتهريج، حتى لا يجد صاحب الذوق السليم، ولا أقول المثقف - في هذا الإنشاء ما يمتعه ويبهج نفسه.
والفلم مقتر عليه في الإنفاق، وقد ظهر التكلف في انتقال أبطاله إلى الإسكندرية دون حاجة إلى هذا الانتقال، ليظهر منضر البحر والشاطئ والقطار، وهي مناظر متكررة معدة من قبل، وقد قصد بذلك تغطية فقر القلم في المناظر الجميلة، ومنظر الشارع الذي تقع فيه أهم حوادث الفلم لا ينطبق على واقع وليس له أية سمة أو معالم واضحة.