مجلة الرسالة/العدد 853/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 853/الكُتُب

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 11 - 1949



أبو العتاهية

تأليف الأستاذ محمد أحمد برانق

للأستاذ كامل محمود حبيب

المدرس رجل نال حظاً كبيراً من الأدب والعلم، وأصاب قسطاً وافراً من أصالة الرأي وصفاء الذهن، وجمع بين الثقافة العالية والتفكير الرصين؛ فهو أجدر الناس بأن يخوض معمعة النشاط الأدبي والعلمي، فعنده الاستعداد وبين يديه الأداة. ولكن الإنسان ليعجب أشد العجب أن يرى المدرس أقل الناس إنتاجاً وأبعدهم عن معترك التأليف وأقصاهم عن مجال البحث. فماذا، يا ترى، زهده في هذه اللذة الفكرية وإن فيها لحياة للقلب وشحذاً للذهن وصقلاً للعقل؟ أما أنا فلا أرى ما يدفعه عن ميدان الفكر إلا ما يعاني من عنت شديد في العمل وما يقاسي من إرهاق عنيف في المدرسة، فهو لا يكاد يخلص من الدرس إلا ليندس بين أكوام من الكراسات تستحثه وترهقه وتشغل باله وتقتل وقته. وهكذا يبدد عمره في إعداد الدرس ويفني عقله في تصحيح الكراسات، ثم لا ينفلت من هذا كله إلا ليلقى بنفسه في خضم الدروس الخاصة وما به لهفة إليها، أو إلى مضطرب التأليف المدرسي وما به رغبة إليه. ولكنها حاجات العيش ودوافع الحياة وطلبات الدار والولد تقذف به في غير هوادة ولا لين إلى هذا السبيل عله يجد القوت الكريم واللباس الشريف والمسكن اللائق. ولشد ما يدهش المرء حين يرى جيشاً لجباً من المدرسين المثقفين - يربو على سبعة آلاف - فلا يرى فيهم من يحن إلى البحث العلمي أو من يصبو إلى التأليف الأدبي، اللهم إلا فئة قليلة لا تتجاوز العشرة! فالمدرس - إذن - رجل يموج بين الإرهاق والإملاق، فإن عكف عن الحياة العقلية أو حمل نفسه على الناحية الأدبية أخرج للناس شيئاً فيه روح نفس المضطرب وفيه سمات حياته المزعزعة.

وأشهد أن صاحب كتاب (أبو العتاهية) رجل من الفئة القليلة، صبر على الجهد ورضى بالمشقة ليخرج بحثاً أدبياً فيه الاستقصاء والجهد والاستنتاج.

لم يكن أبو العتاهية شاعراً يتحدث عن خلجات قلبه ولا مفكراً ينطق بعقله، وأني له أن يفعل وهو (رجل فقير نشأ في بيت متواضع وصنع الجرار مع أبيه، فإذا نضجت الجرار حملها أبو العتاهية، أو حملها أكَّار معه على ظهره، وسار بين الحواري والأزقة في مدينة الكوفة يبيع جراره ويساهم في ثمنها، فإذا ألهبت الشمس قفاه ومس حر التراب أخمص قدميه وبلغ منه التعب مبلغه - أجاءه ما به إلى ضل حائط، فيحط حمله، ويجلس مسنداً إلى الحائط ظهره، برماً بالدنيا متسخطاً عليها فيلتف حوله الصبيان يعبثون به ويعبث بهم ويتبسط معهم في الحديث. . .).

فهو لم يكن ذا علم وثقافة، ولم يكن ذا عقل وحصافة، فعاش حتى آخر أيامه فجاً لم تستكمل أداته ولا بلغ ذروة الشعر ولا جاري شعراء عصره - عصر الإبداع والازدهار - فتخلف عن الركب وانبهرت أنفاسه ولكنه أتخذ إلى الشهرة سبيلاً هيناً سهلاً، فانحط على كبير من بني معن يقذع له في القول ويفحش في الهجاء، في غير ذنب ولا جريرة ولكن الشاعر - في رأيي - كان يحس في قرارة نفسه ضعة الشأن وحقارة المنبت وصعوبة المرتقى فتأرث قلبه غيظاً وحقداً، فوجد في الهجاء متنفساً يطفئ شرَّة غيظه، ووجد في هجاء عبد الله بن معن - وهو رجل عظيم من بيت كبير - طريقاً يعلو به إلى سماء الشهرة في سهولة ويسر. والهجاء فن من الشعر لا يحتاج إلى كياسة ولا يتطلب لباقة. وهكذا طار صيت الشاعر في الكوفة - أول الأمر - وامتد أفقه حين ضربه عبد الله بن معن مائة سوط جزاء ما أفحش في القول.

وفي رأي العقل أن شاعرنا كان يتصنع في كل شيء: في الهجاء وفي الغزل وفي التصوف جميعاً. يتصنع الهجاء وما به مقت ويتصنع الغزل وما به هوى ويتصنع التصوف وما به زهد.

فهو حين شبب بجارية المهدي (عتبة) كان - في رأيي - لا يبتغي من ورائها إلا أن تكون وسيلة إلى بيت الخلافة، يرتفع بها شأنه ويزكو مكانه، على حين لم تكن به لوعة ولا كان به شوق. وإن القارئ ليعجب حين يعجزه أن يجد في نسيبه بيتاً واحداً ينبض بعاطف جياشة أو سطراً يخفق بحب عميق. وليس أدل على ما أزعم من قوله في عتبة وهي من أحب وتدله في حبها واصطفاها بشعره وخصها - وحدها - بقلبه.

وقد أتعب الله نفسي بها ... وأتعب باللوم عذالها فتعبير الشاعر عن نوازع قلبه بكلمة (أتعب) تعبير تافه لا ينطوي على شاعرية ولا سمو. فالكلمة مضطربة قلقة، فقيل النطق وضيعة المعنى لا تتحدث عن صبابة وهوى ولا تكشف عن لوعة الحنين ولا تهتز بلذعة الشوق. وفيها - فوق ذلك - معاني الضيق والملل.

ومما يدل على أنه كان في غزله عابثاً لا يعبأ بمن أحب ما جاء في ص93 من الكتاب حين أنساه كلبه للمال ذكر عتبة فتقول (لو كان عاشقاً - كما يزعم - لم يكن يختلف منذ حول في التميز بين الدراهم والدنانير وقد عرض عن ذكر صفحاً).

لقد أشتهر أبو العتاهية بين العامة بالزهد والتقشف، أما أنا فحين أتحدث عن زهده فلا معدي لي عن أن أستنير برأي الحديث الشريف الذي يقول (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم أبداً، ولا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم أبداَ).

وينقل المؤلف في ص51 سطر13 خبراً يدل على أن أبا نواس كان يجل أبا العتاهية ويعظمه لزهده وتقشفه، فلما سأله سائل (لم أجللته هذا الإجلال؟) قال (ويحك! لا تغفل، فو الله ما رأيته قط إلا توهمت أنه سماوي وأنا أرضي). وهذا كلام عجيب إ خاله لا يصدر عن شاعر عبقري فذ مثل أبي نواس تتألق روحه بومضات سماوية تزري بكل ما نظم أبو العتاهية في الزهد. ثم يحس المؤلف كذب الحديث فيقول في ص52 سطر4 (وأنا من اللذين يرجحون أن زهد أبي العتاهية زهد مفتعل لا يعبر عما في نفسه ولا يصور دخيلتها ولم نطرق فيه إلا المعاني العامة التي يتحدث الناس بها، وإلا فما بال رجل هذا شعره يحرص على المال كل الحرص ويسلك مختلف المسالك لجمعه.)

هذا ولقد رأيت في الكتاب أثر الجهد والصبر وطول البحث والاستقراء مما يدفعني إلى أن أقدر مجهود الأستاذ المؤلف حق قدره وأشكره على أن أخرج لنا صورة حية ناطقة من شاعر لا يعرف أكثر الناس عنه إلا شذرات لا تغني ولا تسمن.

كامل محمود حبيب