مجلة الرسالة/العدد 821/الأدب والفن في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 821/الأدب والفنّ في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 821 المؤلف عباس العقاد
الأدب والفنّ في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 28 - 03 - 1949


للأستاذ عباس خضر

موكب الأبطال:

يقول (مدرس أدب في الأزهر الشريف) في مطلع كتاب منه: (ما تزال دولة الشعر بخير، فقد هزتني قصيدة الشاعر علي محمود طه في أبطال الفلوجة التي نشرتها الأهرام في عدد يوم الخميس 10 من مارس، ولا ريب عندي في أنك قد قرأتها، وأنها قد هزتك كما هزتني، وأن مثلها جدير بأن يحظى بإحدى تعقيباتك في الرسالة، سجل الأدب العالي وديوان الفن الرفيع. وإنما حملني على أن أوجه إليك هذه الكلمة، حرصي على أن أسجل إعجابي بهذه القصيدة، وقد مضى لي أن غمزت (أنشودة فلسطين) لصاحبها أيضاً في الرسالة الغراء، حتى لا أكون مثل كاتب الشمال: لا يحصي غير السيئات).

ويقارن الأستاذ (مدرس أدب في الأزهر الشريف) بعد ذلك بين هذه القصيدة وبين قصيدة أخرى لشاعر آخر في نفس الغرض، وفي نفس الجريدة وقد اصطنع أسلوباً لبقاً في استدراجي إلى هذه المقارنة، وكأني به يؤلبني على الشاعر الثاني، إذ يقول في نهاية المقارنة: (أرأيت - يا عباس - كيف يطغي بعض الشعر، فيبدو شيطاناً مريدا، وكيف يتواضع بعض الشعر، فيبدو ملكا كريماً؟!! إني أترك لك الباقي) وهو يقصد بالذي يبدو شيطاناً مريدا، شعر أبي طه. . . كما يعبر في رسالته، وما أخال الشاعر الآخر يسر بأن شعره ملك كريم في هذا المقام! ويظهر أن الشيطان أليق بالشعر من الملك!!

أما الباقي الذي يقول إنه يتركه لي، فهو على غير ما كان يتوقع، فلست أرى داعياً لهذه المقارنة، فلكل شاعر طاقته ومذهبه وأفقه.

أما قصيدة (أبي طه) فقد رآها القراء في الأسبوع الماضي كاملة بالرسالة بعد أن أضاف إليها الشاعر ما استلهمه من مشاهدة أبطال الفلوجة يهرع الشعب إلى الاحتفاء بهم وينثر الغيد طاقات الزهر فوق رؤوسهم، ولابد أنها هزتهم كما هزتني وكما هزت الأستاذ الأزهري، وحقاً ما قال في رسالته: (وإذا صح أن في الشعر مواضع للسجود، فإن من هذه المواطن في الصميم:

جن الحديد بأرضها وسمائها ... فجرى وطار، تصيبه ويصيبه شدت يد الفولاذ حول نطاقها ... حلقاً تصيح النار: كيف أذيبها؟

وقد تآخت في هذه القصيدة قوة التركيب وقوة الروح، فطابقت بذلك موضوعها الخماسي. ومما يستدعي الالتفات أن بنيانها القوي لم تتخذ لبناته من القوالب المرددة التي يلجأ إليها شعراء الجزالة. وأقول صادقاً، أو أعتقد أنني صادق إذا أقول: إن قصيدة (موكب الأبطال) من القليل في أدبنا المعاصر الذي يجمع بين الديباجة العربية المتينة التي يظهر أثر الشاعر في نسجها وبين نهيج المدرسة الحديثة في الشعر من حيث صدق التعبير والصدور عن الشعور الذاتي دون تقليد أو تزييف. ولعلها أول قصيدة للشاعر نفسه على هذا النحو، فقد كان يؤثر قرب المنال من عامة القراء؟ ولكن الموضوع في هذه المرة حكم عليه أن يخلد البطولة المصرية في الفلوجة بشعر يذهب مذهبها في القوة ومجاوزة المستوى العادي. ولست أريد بذلك أن أفضل القصيدة على غيرها من شعر الأستاذ علي محمود طه، إنما أنعتها بصفاتها، فلا شك أن السهولة والرقة لهما مكانهما في غزلياته وغرامياته.

وبعد فقد قام شاعرنا الكبير بحق البطولة على الشعر، وجاءت قصيدته عملاً ممتازاً، ينبغي أن ينظر فيه الشعراء الذين يؤثرون العزلة والهرب من المجتمع والانطواء على عواطفهم الشخصية وخيالاتهم البعيدة عن مضطرب الحياة. ونحن أمة لم تستكمل ضروراتها من الحرية والحياة الراقية المستقرة، فإذا كان لشعراء أمم أخرى أن يعكفوا على ألوان مترفة من الشعور والتفكير فإن ذلك لا يروج في بلادنا ولا يناسبها ف هذه المرحلة من حياتها، وأقل ما يرجى من الشاعر أن يشارك مواطنيه مشاعرهم ويصدق في التعبير عنها. وما أكثر من يسترون العجز بدعوى (التحليق) الذي لا يأتون من بشيء. . .

فليا يا فليا:

(أطلعت في العدد 809 من الرسالة الغراء على كلمتكم الحكيمة عن شعر (البلالايكا) التي قلتم في نهايتها (أليس لقائل آخر ما دام الباب مفتوحاً أن ينشر قطعة قد تكون أروع من هذه بعنوان (شرم برم)؟ ولقد قرأت في عدد مارس من مجلة الشرق الأدنى للإذاعة اللاسلكية قطعتين من الشعر للأستاذ عبد الرحمن الخميسي، إما أن أضعهما فوق مستوى تفكيري، وإما أن أضعهما تحت عنوان (شرم برم) والقطعتان مرسلتان إليكم، بعد أن انتزعتهما من المجلة، دفعاً لمظنة التزوير، لتروا رأيكم فيهما).

تلقيت هذه الرسالة من الأستاذ محمد محمود عماد المحامي، ومعها القطعتان المذكورتان، الأولى عنوانها (فليا يا فليا) أولها بيتان موزونان يستطيع الإنسان أن يفهم منهما أن (فليا) لها محب يخفق قلبه بحبها، وأن للحبيبين أسطورة (تعيش مع الغاب) وبقية القطعة:

حكم هوى العذراء

لو عرب سنا الجوزاء

طوقت همسة بالزهور

فليا يا فليا يا حلمي الكبير

رحماك بالقلب فهو كسير

فليا يا فليا اسمعي لي الغناء

يزجي الهوى ما يشاء

استطعت أن أقرأ وأن أفهم الأربعة السطور الأخيرة وآخرها موزون، أما الثلاثة التي قبله فهي كسير كالقلب، غير أن القلب كسير من حب (فليا)، والكلام الذي قبل ذلك لم أعرف أي شيء هو!

والقطعة الثانية عنوانها (حلم الزواح الساحر) أجزاؤها مشردة تائهة بين ثلاثة بحور، وبعضها كالقلب الذي حطمته (فليا)، فمنها:

لو أنني في ألواج

أغلقت قلبي بالرّتاج

الشطر من (مجزوء الكامل) أما الأول فلم أدرك معناه ولا وزنه، لأني لم أعرف معنى كلمة (ألواج) ولا ضبطها.

ومن القطعة أيضاً:

أواه لو تكن معي ... حبيبتي ضياء عيني

الشطر الأول من (مجزوء الرجز) والثاني من لا شيء. . وقد استطاعت (لو) بقدرة خارقة أن تجزم (تكن).

يا أستاذ عبد الرحمن الخميسي، لا أريد أن أكون شديداً في مناقشتك، فأنا أهدأ من زميلي الأستاذ أنور المعداوي وأذكر أننا التقينا مرة، فعتبت علي لظنك أني عرضت بك في بعض ما كتبت، وقلت إنك تحب أن أواجهك بالنقد لتستطيع الرد. وها أنت ذا تراني قد فعلت. فهل تتفضل وتشرح لنا ما لم ندركه أنا والأستاذ عماد، وتبين لنا الحكمة في استعمال (هيئة البحور المتحدة) في القطعة الواحدة، ولم وقف غير الموزون ينظر إلى محطماً كسير القلب؟ ولا تنس (لو) التي منحتها حق الجزم، وقد كان يمكن أن تمنعها من ذلك، فيكون الشطر الأول كالثاني، ولا ضرورة!

والأستاذ محمد محمود عماد ينتظر الرأي، هل القطعتان فوق مستوى تفكيره - وتفكيري أيضاً - أو هما من نوع (شرم برم)؟ وهو على حق في ذلك، فلا ثالث للأمرين. وأنا أوثر أن أضعهما فوق مستوى تفكيرنا، حتى يتفضل الأستاذ الخميسي بالإفادة.

تأبين الجارم:

احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية بتأبين المرحوم علي الجارم بك يوم الأحد الماضي لمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته. وقد اختير لذلك المكان الذي فاض روح الفقيد فيه، وهو دار الجمعية الجغرافية، حيث كان يستمع إلى قصيدته في رثاء المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا.

وقد قصر التأبين على كلمة للأستاذ أحمد العوامري بك، وقصيدة للأستاذ عباس محمود العقاد. أما كلمة العوامري بك فقد كانت جامعة، عمد فيها الأستاذ إلى السرد التاريخي لحياة الفقيد منذ كان طالباً في دار العلوم، وما تخللها من جهوده في التعليم واللغة والأدب، وفصل ذلك تفصيلاً وافياً في نظر التاريخ وقد بدا هذا التفصيل كأنه ممل، نظراً إلى أن الحاضرين من المثقفين والأدباء الذين لا تخفى عليهم هذه المعلومات.

وقد ألقى الأستاذ شوقي أمين قصيدة الأستاذ العقاد الذي لم يتمكن من الحضور لمرضه - عافاه الله - وقد كان إلقاء الأستاذ شوقي هادئاً معبراً، فأدى الشعر أحسن أداء.

وأول قصيدة الأستاذ العقاد.

فجعت مصر يوم نعى علي ... بالأديب الفهامة الألمعي

شاعر لازم القريض إلى أن ... كان يوم الفراق حرف روى

وقضى واجبين يوم قضى ... وأعظم بالواجب المقضي

واجب الشعر، والوفاء مدى العم ... ر فطوبى لشاعر ووفي إن جهد الرثاء لوعة راث ... في مضامين شعره مرئي

الفرابين الغنائية لطاغور:

كتب الأستاذ عبد اللطيف شرارة بالعدد الأخير من مجلة (الأديب) اللبنانية، بعنوان (قربان الأغاني) نبه فيها على تقصير أدباء العرب في دراسة طاغور وترجمة آثاره، وذكر بعض ما ترجم منها إلى العربية ثم قال: (ولكن أحداً من أدباء العرب المعاصرين لم يفكر في نقل ديوانه الأعظم (قربان الأغاني) الذي سما فيه طاغور إلى أعلى ذروة يستطيع أن يبلغها شاعر، إن في الحس المرهف، وإن في الحكمة الصافية، وإن في روعة التعبيرعن أغرب الأجواء الروحية والصوفية. دام الأمر كذلك إلى أن جاء الأب يوحنا قمير - وهو من عني بفلاسفة العرب) ومفكريهم فسد ذلك الفراغ ونقل (قربان الأغاني) إلى لسان العرب

وأذكر أن الأستاذ كامل محمود حبيب نقل ذلك الديوان إلى العربية من نحو اثنتي عشرة سنة، ونشرته (الرسالة) تباعاً ابتداء من العدد (230) الصادر في 29 نوفمبر سنة 1927 بعنوان: (جيتا نجالي) وقدمت له الرسالة بما يلي:

(جيتا نجالي كلمة هندية بنغالية معناها القرابين الغنائية وهي أناشيد صوفية تبلغ 103 نشيد نظمها طاغور في البنغالية ثم نقلها بنفسه إلى الإنجليزية، وشهرتها في الأدب العالمي كشهرة رباعيات الخيام. وهي تمثل الروح الغالبة على فلسفة طاغور من جهة، والطبيعة المميزة للبوذية من جهة أخرى. وسننشرها كلها مترجمة بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب).

وقد أتاح لي ذلك فرصة سعيدة، إذ رجعت إلى مجموعتي من الرسالة، ونعمت وقتاً بقراءة هذه الأناشيد الروحية العالية، وأقطف للقارئ أولها فيما يلي:

(أنت خلقتني أبدياً، تلك مشيئتك. هذا الحطام الفاني - جسمي - أنت تفرقه مرة ومرة ثم تملؤه بالحياة الغضة. هذا الناي الصغير أنت علوت به وهبطت؛ ثم وقعت عليه أنغاماً سحرية خالدة، وحين لمست يداك قلبي الضعيف لمسة إلهية، شاع فيه السرور وانبعث منه لحت أخاذ، وبين يديّ الضعيفتين استقبلت آلاءك العظيمة، والأعوام تتصرم وأنت ما تزال تحبوني وفي قلبي شوق وطمع).

وقد ترجم الأستاذ كامل لطاغور، غير ذلك، ديوان (البستاني) ونشر تباعاً في المقتطف سنة 1940 ثم جمع في كتاب، وترجم له كذلك (قطف الثمار) ونشر أيضاً في المقتطف سنة 1941.

عباس خضر