مجلة الرسالة/العدد 819/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 819/الكُتُب
ديوان من وحي الريف
تأليف الأستاذ توفيق عوضي
بقلم الأستاذ ثروت أباظة
كثرت في هذه الملاوة مدارس الشعر وتعددت مذاهبه. فترى من الشعراء من يقصد إلى المعنى غير محتفل باللفظ أو الصياغة، وهو في ذلك يسير بالشعر في طريق النثر. وترى منهم بعضاً يعنون بالصياغة واللفظ دون التفات إلى التجديد في المعنى؛ وعذرهم في ذلك أن عنترة شاعر الجاهلية قد قال (هل غادر الشعراء من متردم) فإن كان عنترة منذ ألفي عام قد يئس أن يجد معنى جديداً فهل يبحثون هم عن معنى جديد بعد هذه الحقبة الطويلة من السنين التي مرت فانتهكت القديم وأخلقته، بل وأخلقت أيضاً ما ظهر في غضونها من معان جديدة؟
ومن الشعراء من يقول إن الشعر الصادق إشعاع للعاطفة، والعواطف منذ كانت خالدة على الزمان لا تتغير؛ فواجب الشاعر إزاءها أن يبين عنها في أنصع تعبير. وهنا يختلف القوم مرة أخرى، فمنهم من يرى أن الصياغة يجب أن تكون مشرقة في عربية صريحة لا تيسير فيها، ومن الشعراء من يرى وجوب التحلل من قيود الصياغة العربية؛ ويقف البعض موقفاً وسطاً فتراه يلتزم السهولة في تعبيره مع التزام الصياغة العربية معتقداً أن واجب الشاعر هو الوصول إلى قلب سامعيه من أقرب طريق، وزعيم هذه المدرسة هو الشاعر العربي الأكبر إيليا أبو ماضي. وقد انضوى كل شاعر تحت مدرسته يأبى أن يجيز لأي مدرسة أخرى أن تقول الشعر معتقداً أن الشعر هو ما يكتب وما دونه كلام لا يصح أن يسمى شعراً. . . ولاشك أن هذا التعصب ينساق مع طبيعة الشاعر المتكبرة ولكن واجبه إزاءها ألا ينتقد أبداً. . . ذلك أن نقده على أية حال سوف يكون - رغم أنفه - جائراً. وواجب النقاد إزاء كل هذه المدارس أن يقفوا منها على حياد المتفرج حتى يحكموا على كل شاعر بالنسبة للمدرسة التي يؤمن بها، وبهذا يكون المعيار سليماً لا تحيز به ولا إجحاف. . .
والأستاذ توفيق عوضي من الذين يؤمنون بالسهولة دون الميوعة في الصياغة ولا يقبل أبداً أن يترجم عن إحساس لا ينبعث من صميم قلبه؛ فهو يفهم كلمة العاطفة فهمها الصحيح، فقد ذهب البعض إلى أن العاطفة هي الحب أو البغض بما يستتبع كلا الحالين من مشاعر وأحاسيس، أما توفيق فقد فهمها على أنها انعكاس الصور الخارجية على نفسه الشاعرة ثم عبر عنها على أنها منبعثة من صميمه؛ وعلى هذا تراه دائم النظر إلى ما حوله يحاذر أن تفوته واقعة فلا يسجل أثرها في نفسه شعراً. فتراه يقول حين يستأجر الحمار والغلام بثمن واحد:
يزهدني في النسل أني بأمة ... تساوي بها الإنسان والعير في الأجر
وما دام أجر المرء والعير واحدا ... فحمداً لمن أغنى عن النجل بالعير
ويذهب ليقضي أمسية عند صديق له فتطيب وتبعثه في الصباح يقول مستبشراً به طروبا:
وصحت ذكاء فغنت الأكو ... ان ألحان الصباح
فسكرت من أضوائها ... ونعمت بالسكر المباح
ضحكت ثغور وروده ... كتضاحك الغيد الملاح
المقبلات كأنهن ... منى تتوج بالنجاح
وذكرت لطفك فانتشيت ... فكنت ريحاني وراحي
يا صاحبا في صحبة ... جمعت أزاهير الصلاح
وعلى اقتراحك قد نزلت ... وقد نزلت على اقتراحي
فتمازجت أرواحنا ... كالراح والماء القراح
هذه الرقة التي تلمسها وتلك الانطلاقة التي تجري بها الأبيات هي لاشك شعور صادق لا مين فيه. وإنك لتراه مع هذا يحب كما يحب الشعراء ولكنه يعبر عن شعوره في هذه الرقة نفسها. وإنك حين تقرأ له شكواه من الحب لا تملك إلا أن تفزع معه. يقول:
كف الصدود. . كفى. . كفى ... عذبت قلبي بالجفا
يكفيك مما شفنى ... أن الحسود قد اشتفى
إن ترض لي طول السقام ... قضيت عمري مدنفاً
أوترج حتفي إنني ... قد صرت منه على شفا إن توف أولا توف لن ... ارتد عن عهد الوفا
تلك الثورة التي يبدأ بها أبياته هي لاشك مجلى ما يعتلج بنفسه من حب وما جره عليه هذا الحب من المرض. . ثورة عارمة ولكنها رقيقة وصلت إلى قلبك دون أن يركب إليه ألفاظاً أنيقة أو صياغة متبرجة. . . إنها مدرسة. . . والأستاذ توفيق لاشك من أنبغ تلاميذها. سوف ترى معي ذلك حين تقرأ الديوان كله كما فعلت أنا فحرت في أي قطعة أختار وأيها أدع ثم انتهيت إلى ما نقلت إليك تاركاً لك الفرصة لتحتار وتختار إذا استطعت أن تختار.
ثروت أباظة