مجلة الرسالة/العدد 775/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 775/الكُتب

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 05 - 1948



جولات في القاهرة

تأليف ر. ل ديفنشير

هي العناية الآلهية التي أنقذت القاهرة من التدمير كلما شبت الفتن واحتدمت الحروب. فتقاصرت دونها قنابل الألمان وما حشدوا من جيش وعتاد، وتحطمت قبل أن تصل إليها قوى المغول المدمرة المخربة، وارتد عنها الصليبيون في ذلة وانكسار، وبقيت القاهرة وحدها تحمل تراث الإسلام الفني المجيد، كاملا غير منقوص، واحتفظت القاهرة بسلسلة متصلة الحلقات لكل عصور الأسر الاسلامية الحاكمة، من يوم أن شاء الله لدينه أن يستقر على ضفاف النيل. . . ونجد هذا التراث فيما ورثناه من عمائر وتحف ومخطوطات، تظل دائماً تذكرنا بجمال الماضي وعظمته وجلاله، وتظل دائماً تحفزنا على استرجاع مجد أجدادنا، فنعيد للاسلام قوته وعزته وروعته.

فإن تكن المؤلفت قد اختارت القاهرة تجول بين آثارها الاسلامية شارحة أصولها الفنية في هذا الكتاب، فقد أحسنت الاختبار الاختبار. وإن يكن للمؤلفة في أعناقنا - نحن العرب - جميلا لفرط غيرتها وتحمسها لآثار الإسلام، أو لأنها اتخذت من الصحافة منبراً تلقي من فوقه الإرشاد للعناية بآثار الإسلام، فدفعت المسئولين إلى المحافظة عليها، فإننا قوم لا ننكر الجميل. . ولكن الأمر الذي استحقت من أجله عطف جلالة الملك الراحل ورعاية جلالة الفاروق العظيم، فأنعم عليها بنشان الكمال في عيدها الثمانيني، إنما هو صدقها في دعوتها للآثار الإسلامية، نراه واضحاً فيما تكتب من مؤلفات أو تلقي من محاضرات، صححت بها شعور آلاف من الأجانب الذين كانوا لا يدرون عن القاهرة إلا تلك الاكاذيب المخترعة التي حشرها في أدمغتهم مرتزقة الاستعمار، وكتاب أقاصيص الخيال الدنيئ.

وكتاب (جولات في القاهرة) هو دراسة تاريخية وافية لمختلف العمائر الإسلامية، من مساجد وأضرحة ومدارس وتكايا وقصور ومنازل خاصة، أو قناطر وأسيلة وأسوار وبوابات مع إلمامة طيبة بمحتويات دار الآثار العربية وما ضمنت من تحف نفيسة. وقد اتبعت المؤلفة في تبويب كتابها هذا طريقة الجولات بحيث يستطيع القارئ أن يقوم بنفسه بهذه الجولات وأن يدرس الآثار الإسلامية في القاهرة جملة وتفصيلا دون أن يصعب عليه الأمر أو يصيبه ملل أو كلال.

فيتناول الكتاب أهم الآثار القائمة فيقدم للاثر لمحة سريعة عن تاريخ حياة صاحبه، والأحوال التي بنى فيها الأثر، والآراء التي أثيرت حوله، ويرد عليها، ثم يدرسه من الناحية المعمارية، ويشرح الأساليب الفنية التي اتبعت فيها، والتأثيرات الغريبة التي اقتبسها الفنان المسلم بعد أن صقلها بما يلائم ذوقه وفنه ودينه

وبالرغم من أن الفنان المسلم كان منكراً لذاته، معتزاً بفنه، فلم يكن كثير الاهتمام يذكر اسمه على كل العمائر التي بناها، أو التحف التي صنعها، إلا أن المؤلفة تشاء أن ترد إليه حقه واعتباره الأدبي فتقول: (ويبدو لي أن الفنان المسلم الذي عاش في تلك الأيام كان عاشقاً للجمال لذاته، بل كان مخلصاً في محبته لنتاجه، فنرى مثلا صانع الفخار المصري بفرغ غابة الجهد في العناية (بشابيك القلل) وهو يعلم تماماً أنها خافية محجوبة عن الناظرين). . .

وترد على الذين يتهمون المسلمين بهدم عمائر غيرهم ليحصلوا منها على مواد البناء: (حقاً أن المسلمين كانوا يستولون على أعمدة الكنائس المسيحية والمعابد المصرية القديمة ليستعملوها في عمائرهم. . . ولكن مسيحي إيطاليا كانوا أيضاً يتبعون نفس الطريقة، فدمورا المعابد الرومانية الكلاسيكية ليحصلوا على أعمدتها). . .

وطالما نقدت احتلال القوات الانجليزية للقلعة واستعمالهم مسجد الناصر محمد بن قلاوون (ففي سنة 1885 كان هذا المسجد محولا إلى سجن حربي، إلا أن أحد الضباط الانجليز زاد الأمر سوءاً فحوله إلى مخزن للذخائر في سنة 1915 فبات عرضة للنسف بين لحظة وأخرى فيختفي من عالم الوجود أثر فني جميل).

على أن طول الاحتلال للقلعة ترك هذه المنطقة بكراً، في حاجة إلى الكشف والتنقيب (فان دراسة الأستاذ كريزويل لم تتعد الأجزاء الشمالية من قلعة صلاح الدين، أما الأجزاء الجنوبية الغريبة من القلعة فقد عثر فيها على طغراء قايتباي وبعض الأقبية والعقود التي ترجع إلى القرن الرابع عشر مما يثبت لنا وجود عمائر في هذه المنطقة).

وبعد أن أفاضت في شرح نواحي القوة في عظمة العمائر الطولونية، وفخامة المساجد الفاطمية، وجمال المدارس الأيوبية، وجلال القباب ورشاقة المآذن المماليكية، تكلمت عن الفن الإسلامي في مصر إبان الحكم التركي، وأبانت كيف أن البلاد أصيبت بنكبة فنية قاسية على يد السلطان سليم الأول.

ويحدثنا التاريخ عن أن الأتراك ملؤوا سفائن من الفسيفساء ومصبعات الرخام وتحف خشبية منقوشة الخ. . . وحشدوا معها زبدة الفنانين المصريين وأرسلوهم إلى القسطنطينية - وأن واحدة على الأقل من هذه السفائن قد غرقت بما فيها من حمل غال ثمين.

وتنفرد دار الآثار العربية بمجموعتها المشهورة من المشكاوات الأسلامية. وتود المؤلفة أن توجه نظر القارئ ألى هذه الثروة الفنية الرائعة وتلح عليه بزيارتها والاستمتاع بجمالها. . . والحق الذي لا مراء فيه أن القاهرة تفخر بامتلاك كنزين ثمينين لم تر الدنيا مثلهما: هذه المشكاوات، وكنوز توت عنخ آمون.

والكتاب من بواكير إنتاج (دار النشر للجامعات المصرية) أخرجته في ثوب فني قشيب تنافس به كبريات دور النشر الأوربية ومحلى بحوالي نيف ومائة صورة لمختلف العمائر والتحف الإسلامية أكثر من عمل الأستاذ كريزوبل، وخريطة مساحية كبيرة مبين عليها مواقع الآثار في مدينة القاهرة، وقائمة طويلة باسماء وتواريخ أهم الآثار الإسلامية بالقاهرة مرتبة حسب التدرج الزمني.

والكتاب رغم أنه جامعي في دراساته التاريخية الأثرية، إلا أنه وضع في أسلوب رشيق جذاب وبطريقة يفيد بها المثقفين عموماً، والزائرين أصحاب الوقت المحدد، وعشاق الفنون الإسلامية المشغوفين بها.

(القاهرة)

مصطفى كامل إبراهيم

وكيل اتحاد الثقافة الأثرية