مجلة الرسالة/العدد 73/عهد وأي عهد!!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 73/عهدٌ وأي عهد!!

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 11 - 1934


كان كرِعْدة الحمًّى، أو كرجفْة الزلزال، أخذ هذا البلد المسكين زهاء أربع سنين، فكدًّر من طبعه، وغيَّر من وضعه، وبدد من نظامه!

هل تخيلت الجنة وقد اتسق في ظلالها الخفض، واطَّرد في مياهها النعيم، وانبلج في أجوائها الأنس، وانبسط على أرجائها السلام، يقتحمها شياطين الجحيم عَنوة، فيجعلون ظلها حروراً، وماءها مُهْلاً، وأنسها وحشة، وسلامها فتنة؟ ذلك مثل النيل وواديه قبل هذا العهد الذميم وبعده!

كانت البلاد تسير مع الزمن إلى الأمام، وتتدرج مع الطبيعة في النمو، وتتوثب مع الحق على العدو، فنجم فيها ناجم من الشر اعترض طريقها اعتراض اللص، ثم أثار في وجوهها الرعب فانكفأت إلى الخلف، وامتحن قلوبها بالبطش ففزعت إلى الصبر، وسلط على مُترفيها المُنى فقروا على الرِّيب؛ وراح الذئب المقَنَّع أو الطاغية الكاذب يعيث في كل ديوان، ويفتك في كل مكان، ويخْتِل في كل جماعة، حتى عطَّل سلطة الأمة، وأبطل سطوة القانون، وقوض ركن الفضيلة.

تناصرت أبالسة الظلم والظلام على مشاعر هذه الأمة فتركوها من الدسائس والهواجس والأوهام في مثل الدجى الحالك، تقتل نفوسها ويقولون إنها تجاهد، وتركب رءوسها ويعلنون أنها تسير، وتضطرب في شقائها اضطراب الذبيح ويوهمون أنها تحيا؛ ثم رصدوا خزانة الدولة وجنودها وشُرَطَها وموظفيها لإقرار الشعب على الضيم، ورياضته على الاستكانة، فنسى الجندي أنه حشد لمدافعة العداة، والشُّرْطي أنه رُصد لمراقبة الجناة، والموظف أنه أُعِدَّ لتصريف الأمور، ووقفوا جهودهم على قطع هذا الشارع فلا يعبره عابر، وحصر هذا البيت فلا يزوره زائر، وتعهُّدِ هذا المحالف فلا يُخْلفُه بِر، وتَعقّب ذلك المخالف فلا يفُلته أذى!!

ثم انتشر الوعيد والوعد في جنبات النفوس يستنزلانها عن الخُلق، ويفتنانها عن العقيدة، ويغريانها بالعدالة، ويحرضانها على الصداقة، حتى اشتبه الوفاء، واتُّهم القضاء، ومرضت الأهواء، وانقطعت الأسباب بين المرء وصاحبه، وانفرجت الحال بين الرجل وواجبه؛ وكل ذلك لتُثْرى جماعة ويتسلط فرْد!!

لا للهِ ولا للوطن كانت هذه المِحنة! إنما كانت نزوة رَعْناء من بغي الإنسان على الإنسان والناس لا يزالون كما كانوا في الدهر الأول يسرقون ليأكلوا، ويقتلون ليعيشوا، ويستعبدون ليسودوا، ويستبدون ليحكموا، لا يحمي الفردَ من الفرد قانون، ولا يعصم الأمةَ من الأمة معاهدة! أما الدين والمدنية والعلم والأدب والفن والأنظمة فغطاء ذهبي على الناب، وطلاء وردي على المخلب!

على أن ضعف الشعوب خَدَّاع، لأنه قُوىً متفرقة في نفوس متفرقة، فإذا ما تجمَّعت ذات مرة حول القوة الزعيمة الملهِمة، كانت هي الرجفة التي تهز الأرض من حين إلى حين، وتنقل التاريخ من فصل إلى فصل!

ولكن ابن آدم سَهْوان: يُذهله نجب السلطان عن صوت العبَر، كما يذهله غرور الحياة عن يقين الموت! فلا يفيق من سكرة الدنيا إلا بوكزة الداء، ولا من سَوْرة الحكم إلا بسقطة الوزارة!

سيتحرَّج التاريخ من تسجيل هذا العهد وإن سجل كثيراً من أمثاله! لأن المظنون أن العالم يتقدم ولا يتأخر، ويترقى ولا ينحط؛ فكيف يجد المعاذير لقطعة من الأرض يعزلها سارقوها عن الوجود الحاضر، ثم يحاولون أن يضربوا الأسداد بينها وبين الحرية والديمقراطية، فلا ترى سيادة هذه ولا تسمع أناشيد تلك! ولكن التاريخ لا ينسى - وإن نسى الناس - أن للنظام العالمي جاذبية تجذب المتخلف، وللعدل الإلهي صيحة تُسمع الأصم، وللشعب الوديع حيوية يَقْظى تعود بالمبطل صاغراً إلى الحق، وتُفئ بالحق السليب موفوراً إلى أهله!

حنانيك يا رب! لقد تألمنا حتى أشفق الألم، وصبرنا حتى جزع الصبر، وضحينا حتى أصبحنا كلنا ضحايا!! فعسى أن يشاء عدلك وتريد رحمتك ألاَّ نقاسيَ مثل هذا العهد، وألا نعانيَ مثل هذه التجربة، وألا نكابد مثل هذا البلاء!

الآن أصبح الليل، وانجلت الغمة، وتهتكت سدول الظلام عن السماء الواعدة، والضياء الهادي، والأفق الممتد، والطريق القاصد! فهل ترتد الشياطين إلى قماقم سليمان، وترجع الخفافيش إلى حَوالك الغِيران، ويستقيم القوم على عمود رأيهم حتى يلحقوا الناس ويدركوا الغاية!

أحمد حسن الزيات