مجلة الرسالة/العدد 7/في الأدب الشرقي
مجلة الرسالة/العدد 7/في الأدَبِ الشرقي
نظرات في الأدب الفارسي
منذ نشأته إلى إغارة التتار
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 3 -
وأما ألفاظ الشعر ففيها كثير من الألفاظ العربية وعليها طابع عربي في تركيبها، ولكن أثر العربية في الشعر أقل منه في النثر.
وأما قوافيه وأوزانه فلا يمكن تفصيلها في هذا المقال، وحسبنا أن نقول إن الفرس يكثرون من الشعر المزدوج الذي يسمونه المتنوي وهو شعر القصص كلها، وأكثروا كذلك من الدوبيت أو الرباعي، وعندهم ما يسمونه تركيب بند، أو ترجيع بند، وهو قريب من الموشحات العربية، وعندهم الشعر المردف وهو الذي تكرر في آخره كلمة واحدة ويعتبر الروي والقافية ما قبل هذه الكلمة. وجملة القول أنهم لم يسهلوا القوافي العربية وإن اخترعوا ضروبا فيها.
وأما الوزن فجدير بالتدقيق جداً، فان الفرس حاكوا العرب في أوزانهم أول الأمر ولكنهم سرعان ما نبذوا أشهر الأوزان العربية. فالطويل والمديد والبسيط والوافر والكامل، وهي بحور الدائرة الأولى، لم ينظم فيها الفرس إلا جماعة من المتقدمين أرادوا إظهار براعتهم كما يقول شمسي قيس. ونظموا في الرمل والرجز والخفيف والمضارع والمجتث والمتقارب (وهو وزن الشاهنامة) وأولعوا بالهزج ولعاً شديداً حتى جعلوه أصلا فرَّعوا منه أصناف الرباعي وخرجوا به عن أصله العربي.
ويلاحظ أنهم لم يقفوا بالبحور عند المقادير العربية، فالرمل قد يأتي مثمناً والرجز كذلك وما جاءا قط كذلك في شعر العرب، والهزج (مثلا) الذي هو سداسي الأصل عند العرب ومجزوء وجوباً ينظم منه الفرس مثمنا. ثم تصرف الفرس في الزحاف والعلل تصرفاً كثيراً جدا، واشتقوا من الدوائر العربية بحورا أخرى قريبة من البحور الأصلية مثل الغريب والمشاكل والقريب.
وقد أراد بعض المستشرقين أن يعلل الخلاف بين الأوزان العربية والفارسية الخ بما بين طبائع الأمتين من اختلاف.
ويقول شمسي قيس أن سبب نقل الطويل والمديد والبسيط أن أجزاءها غير متناسبة في حركاتها وسكناتها ويطيل في بيان ذلك. ولا يمكن الفصل في هذه المسألة إلا بعد بحث مفصل في أوزان الشعر العربي وعلاقتها بالكلمات العربية، وفي تطور الأوزان العربية في الشعر الفارسي وتبيين ما بين هذا التطور ولغة الفرس من صلة، وبعد بحث طويل شاق لم تتهيأ وسائله.
وأما النثر الفارسي فأثر العربية عليه أبين: الألفاظ العربية فيه أكثر، والتركيب قريب من التركيب العربي، ولكن لا بد من الفرق بين النثر الأدبي - نثر الرسائل والمقامات ونثر الكتب، فأما الأولى فقريبة من الشعر، وأما الثانية فيفرق فيها بين كتب التاريخ التي هي قصص يستعمل فيها الكلام المعتاد غالبا وبين المؤلفات العلمية مثل كتب الفقه والتوحيد والبلاغة والطب وهلم جرا. فهذا الصنف الأخير يكاد يكتب بألفاظ عربية، وتستعار فيه كل الاصطلاحات العربية، فاصطلاحات البلاغة وضروب البديع واصطلاحات العروض أخذت برمتها، وما زادوه فيها اشتقوه من العربية أيضا، ثم المؤلفات كلها علميا وأدبيا يتخللها كثير من المقتبسات العربية، ففي كتب الدين الآيات والأحاديث، وفي كتب الأدب والتاريخ كثير من الأبيات والأمثال والمأثورات، وقد تجد من ذلك أسطرا كثيرة متوالية.
قد عرفنا حال اللغة الفارسية في إيران إجمالاً، وكيف بدأت وكيف تطورت وكيف شاركت في فنون كثيرة. وقد يتردد في نفس القارئ هذا السؤال: ماذا أصاب اللغة العربية في تلك البلاد بعد أن صار لها لغة أدبية خاصة؟ هل استبدت اللغة الفارسية بالآداب ولم يبق للعربية فيها مجال؟ والجواب كلا!!
قد تقلبت الغير باللغتين ولكن يمكن أن يقال أن العربية احتفظت بالسيادة في الأطوار كلها فيما عدا الشعر. فأما أدلة هذا وتفصيله ففي هذه الكلمة الموجزة.
لا ريب أن المؤلفات العربية التي ألفت في بلاد فارس ما بين أول القرن الرابع وغارات التتار أكثر جداً من نظائرها الفارسية، ولكن ينبغي أن نفرق بين الشعر وبين غيره أيضاً فإن الأمر فيهما لا يجري على سنن واحد: فأما العلماء المؤلفون فلا حرج على باحث أن يقول أنهم كلهم كانوا يعرفون اللغتين، وقد ألف بعضهم فيهما ولكن المؤلفين بالعربية أشهر ذكرا وأعظم أثرا. وحسبنا أن نذكر ابن مسكويه وابن سينا والبيروني والعتبي والغزالي والرازي والزوزني والتبريزي والنسفي والبيضاوي والطوسي.
وأحسن مقياس في هذا أن نعمد إلي جماعة ممن ألفوا باللسانين لنرى أمؤلفاتهم العربية أكثر وأعظم أم الفارسية. ولا أحسب الأمر يحتاج إلى عناء، فيكفينا أن نذكر الغزالي فنحن نعرف مؤلفاته العربية وليس له في الفارسية إلا رسالتان: كيمياء السعادة ونصيحة الملوك، وقد صرح في الأولى أنه ألفها بالفارسية ليفهم العامة. وفخر الدين الرازي له زهاء 33 مؤلفا يعرف منها في الفارسية واحد فقط هو اختيارات علائي، ونصير الدين الطوسي على تأخر زمانه له نحو 50 مؤلفا قليل منها الفارسي. والبيضاوي ألف تفسيره بالعربية ولم يمنح الفارسية إلا كتابا صغير أسماه نظام التواريخ.
وأما الشعر وما يتصل به فلا ريب أن النبوغ كان لشعراء الفرس أو لشعراء الفارسية، فليس فيمن شعروا بالعربية ببلاد الفرس أمثال الفردوسي أو الأنوري أو العنصري، ولكن أكثر العلماء الذين اتخذوا العربية لغة علم كانوا ينظمون شعرا عربيا. وكثير من شعراء الفرس نظموا شعرا عربيا كذلك. وحسبنا أن نعرف أن الثعالبي وهو من رجال القرن الرابع ذكر في الجزء الثالث والجزء الرابع من اليتيمة واحدا وخمسين ومائة من معاصريه الذين نظموا الشعر العربي في أرجاء بلاد الفرس وهم أكثر من كل شعراء الفرس الذين ذكرهم عوفي وهو في القرن السابع.
ومن الشعراء الذين نظموا باللغتين بديع الزمان الهمذاني وأبو الفتح البستي وقد ضاع ديوانه الفارسي، والبديع البلخي الذي مدح أحد الأمراء بشعر ملمع. وعطاء بن يعقوب الكاتب وكان له ديوانان عربي وفارسي، والباخرزي، وابن سينا، والشيخ سعدي. ومن الكتاب رشيد الدين وطواط صاحب حديقة الشعر وله رسالة عربية منشورة في رسائل البلغاء.
لم يكن حال اللغتين سواء في العصور كلها فقد كانت الفارسية منذ ظهرت في صعود بينما كانت العربية في هبوط (وهذا الهبوط كان أبين في الشعر منه في العلم، فالراوندي مؤلف راحة الصدور ينقل أبياتا عربية بليغة لأحد وزراء السلاجقة ثم يأسف على ذلك الزمن ويقول: أن وزراء زمنه لا يفهمون مثل هذا) وصاحب المعجم من رجال القرن السابع يقول أن شعراء زمانه يعرفون اللغتين ولكنه لما نظم كتابه في العروض بالعربية نقم عليه أدباء فارس حتى قسم الكتاب قسمين المعجم والمعرب.
ذعوني يقول: فان كل مستعرب يعرف الفارسية وليس كل شاعر فارسي يعرف العربية، على أن اللغة الفارسية نفسها لم تكن قد ضبطت قواعدها كقواعد العربية حتى نجد شمسي قيس في القرن السابع يشكو من هذا ويشرح القواعد شرح المستنبط الذي لم يسبق أطوار الترجمة.
والخلاصة أن العربية فيما عدا الشعر حلت مكانة فوق الفارسية حتى غارات التتار التي عصفت بالحضارة الإسلامية وأصابت العلوم والآداب بضربات لم تفق منها حتى اليوم.
والكلام عن اللغتين بعد سقوط بغداد لا يجري على هذا النمط، وعسى أن تتاح فرصة للكلام عن ذلك.
حول الأدب الياباني
كتب إلينا الأديب نادر الكزيري من ندوة المأمون بدمشق يلاحظ على الأستاذ أحمد الشنتناوي أنه لم يشر في آخر مقاله (الأدب الياباني) إلى أنه منقول بالنص عن مقال فرنسي نشر في عدد يناير سنة 1933 من مجلة الشهر تحت عنوان (إقليم اليابان الأدبي) ولعل ذلك سهو من الكاتب يتداركه إن شاء.