مجلة الرسالة/العدد 395/دير مديان
مجلة الرسالة/العدد 395/دير مِديْان
للأستاذ صلاح الدين المنجد
قال الشابشتي: (وهذا الدير على نهر (كرخايا) ببغداد؛ وكرخايا نهر ينبثق من المحوّل الكبير ويمر على العباسية ويشق الكرخ ويصبُّ في دَجلة، وكان قديماً عامراً والماء فيه جارياً، ثم انطمْ انقطعت جريته بالبثوق التي انفتحت في الفرات.
وهو دير حسنٌ نَزهٌ حوله بساتين وعمارة؛ ويُقصد للتنزه والشرب. ولا يخلو من قاصد وطارق. وهو من البقاع الحسنة النزهة. وللحسين بن الضحاك فيه:
حث المدام فإن الكأسَ مترعةً ... مما يهيج دواعي الشوق أحياناً
إني طربت لرهبانٍ مجاوبة ... بالقدس بعد هدوِّ الليل رهبانا
فاستنفرتْ شجناً مني ذكرتُ به ... كرخَ العراق وأحزاناً وأشجانا
فقلتُ والدمعُ في عينيَّ مطّردٌ ... والشوق يقدح في الأحشاء نيرانا
يا دير مِدْيان لا عُرِّيت من سَكنٍ ... ما هِجْتَ من سَقمٍ يا دير مِدْيانا
هل عند قَسِّك من علم فيخبرني ... أن كيف يسعد وجه الصبر من بانا
سَقياً ورعياً لكرخايا وساكنه ... بين الجنينة والروحاء من كانا
قال: وكان أبو علي بن الرشيد يلازم هذا الدير ويشرب فيه. وكان له قيان يحملهم إليه ويقيم به الأيام لا يفتر عزفاً وقصفاً. وكان شديد التهتك، وكان من يجاور الموضع يشكون ما يلقون منه. فانتهى الخبر إلى اسحق بن إبراهيم الطاهري وهو خليفة السلطان ببغداد؛ فوجّه إليه يقبّح له فعله وبنهاه عن المعاودة لمثله. فقال: (وأيّ يد لإسحاق عليّ وأيَّ أمر له فيَّ؟. . . أتراه يمنعني من سماع جواريَّ والشرب بحيث أشتهي. . .؟) فلما أتاه هذا القول منه أحفظَه، وأمهل حتى إذا كان الليل ركب إلى الموضع وأحاط به من جميع جهاته. وأمر أن يُفتح باب الدير وينزلَ به على الحال التي هو عليها. فأنزل به وهو سكران في ثياب مصبَّغة، وقد تضمخ بالخلوق فقال: سوءة لك! رجل من ولد الخلافة على مثل هذه الحال؟) ثم أمر ففُرش بساط على باب الدير وبُطح عليه وضربه عشرين درَّة، وقال: إن أمير المؤمنين لم يولني خلافته حتى أضيَّع في الأمور وأهملها، ولا حتى أدعك وغيرك من أهله تعرفونه وتفضحونه وتخرجون إلى ما خرجت إليه من التبذل والشهرة وهتك الحرمة إلى الديارات والحانات، وفي تأديبك صيانة للخلافة وردع لك ولغيرك عن هذه الفضيحة. ثم أمر بعماريات كانت معه فأركب فيها مع حُرمه وردَّ إلى داره. فبلغ ذلك المعتصم فكتب إليه يصوب رأيه وفعله ويأمره ألا يرخص لأحد من أهل بيته في مثله
وأم أبي علي هذا تعرف (بشَكل). وكان الرشيد قد اشتراها وصاحبة لها تعرف (بشذر) في يوم واحد. فحملت شذر وولدت (أم ابنها)؛ فحستدها (شكل) وبلغ بها الحسد إلى أمر عظيم من العداوة حتى اشتهر ذلك. وحملت (شكل) وولدت أبا علي. وماتت أماهما؛ وبقيت العداوة بين أبي علي وأم ابنها، حتى بلغ الأمر إلى أن تهاجيا بالأشعار، وشاع أمرهما في جميع آل الرشيد. فلما قتل الأمين وورد المأمون إلى بغداد جلس يوماً وعمه إبراهيم بن المهدي وأبو إسحاق أخوه والعباس ابنه، وتذاكروا العداوة التي بين هذين، فقال: لقد سمعت بخبر عداوتهما بخراسان ولقد هممت أن أصلح بينهما. ووجّه فأحضر أم ابنها وأقبل يعاتبها وهي مطرقة لا تردّ جواباً. ثم أمر بإحضار أبي علي، فلما رأته أم ابنها تنقَّبتْ وسترتْ وجهها. فقال المأمون: كنت مُسفرة فلما حضر أخوك تنقبت؟ قالت: والله يا أمير المؤمنين لسفوري بين يدي عبد الله بن طاهر وعلي بن هشام، أوجب من سفوري لأبي علي، فوالله ما هو لي بأخ ولا للرشيد بابن، وقد قال الله عز وجل: (الذين أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). قال ابن عباس: (آمنهم من البرص والجذام). . . وهو والله أبرص، ما هو إلا ابن فلان الفراش. . .! فأمر المأمون أخاه أبا إسحاق فجلدها حداً. فقالت: (سوءة يا أمير المؤمنين أن تحد أختك لابن الفراش وسننت على بنات الخلفاء الحد، فوالله لقد ظننت أن أمره يستتر: فأما الآن فوالله لتتناقله الرواة وليتحدثن به إلى أن تقوم الساعة. ونهضت فقال المأمون: قاتلها الله. . . فلو كانت رجلاً لكانت أقعد بالخلافة من كثير من الخلفاء. . . وقلد أبا علي الصلاة على جنائز أولاد الخلفاء ليدرأ عنه العيب
(لهذا الفصل بقايا)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد