مجلة الرسالة/العدد 350/رسالة العلم
مجلة الرسالة/العدد 350/رسالة العِلم
الأسماك العجيبة
للأستاذ أحمد علي الشحات
تحدثنا في مقال سابق عن بعض الأسماك التي تجلت فيها غريزة الحنان، فدفعتها إلى القيام بالمحافظة على بيضها والصغار التي تخرج منه، وألممنا ببعض الطرق الطريفة التي تقوم بها هذه الأسماك في سبيل حماية نسلها.
وسنرى في حديث اليوم كيف أن تلك الغريزة تدفع بعض الأسماك إلى القيام ببناء مأوى لصغارها يقيها شر هجمات عدو يفترسها، حتى يستقيم عودها وتستطيع أن تذود عن نفسها. وأشهر هذه الأسماك هي المسماة: (ذات الأشواك الظهرية)؛ ففي النوع ذي ثلاث الشوكات على الظهر، يتجلى نشاط الذكر في الربيع والصيف بأن يقوم ببناء عش على أرض عمقها قليل، والمواد المستعملة في بنائه هي النباتات المائية، والحشائش والقش وغيرها؛ ويشد بعضها إلى بعض مادة مخاطية يفرزها الذكر، ولهذا العش فتحات جانبية؛ فإذا انتهى من بنائه أخذ يبحث عن أنثى يدعوها لتضع بيضاً في هذا العش، فان لم تخضع، أخذ يطاردها بعنف إلى أن تذعن لأمره. وقد يحدث أنها لا تضع من البيض الكمية التي يقنع الذكر بها، عندئذ يبحث عن أنثى أخرى لتزيد كمية البيض، ويقوم بتنظيم وضع البيض في العش، ويخفره ومحتوياته الثمينة ليل نهار. وإذا اقترب غريب منه أثخنه بالجروح بفعل أشواكه ليحمي عشه، حتى إذا كبرت صغار السمك هدم الأب الجزء الأعلى من العش، واستطاعت الصغار أن تنطلق في الماء تسعى لرزقها
ولعل أطرف عش يبني هذا الذي تعمله سمكة الجنة التي تعيش في الصين، وليس هذا العش إلا فقاعات هوائية يخرجها الذكر من فمه ويتماسك بعضها ببعض بمادة لزجة، فإذا تم بناء هذا العش العجيب العائم على سطح الماء احذ الذكر يبحث عن أنثى، فإذا ما وفق ابتدأت تضع البيض واحدة واحدة يلتقطها الذكر بفمه ويرفعها إلى العش، ويلتصق هذا البيض بالمادة اللزجة. ولما كانت الأنثى شرهة تأكل بيضها إن لم يحمه الذكر، فإنه يتولى المحافظة عليه حتى يفقس، ويظل لمدة أسابيع أخرى يرعى صغاره خشية أن تنقض الأم عليها وتأكل أولاده وفي أحد أجناس الأسماك الغضروفية المسمى - وهي كلمة تشتق من يلتصق، بمعنى صخر، وسمي بذلك لأنه يلتصق بالصخور بواسطة فمه - يتعاون الأبوان في عمل جحر صغير حيث تضع الأم البيض، ثم يحركان الأحجار المحيطة به فينتج عن ذلك أن ينهار سيل من الرمال يغطي الجحر فيصبح محجوباً عن أعين الأحياء المائية الأخرى التي تبحث عن غذاء لها
وهناك أسماك في كاليفورنيا تحمي بيضها بدفنه في رمال الشاطئ حين يجرفها المد إليه، ويبقى هذا البيض جافاً وبعيداً عن الماء لمدة تناهز أسبوعين حين يغمر الماء الشاطئ ثانية فتكشف المياه عن البيض الذي تنطلق منه الصغار آنئذ إلى الشاطئ.
الأسماك الذهبية
وهي أسماك قد حبتها الطبيعة لوناً جميلاً وذكاء تستطيع به أن تقوم ببعض الألعاب المسلية، ولذا فأنه يحتفظ بها في أحواض للزينة، وعلى الغاوين أن يتعهدوا هذه الأسماك بتربية أجمل الأفراد منها بعضها مع بعض حتى ينتج نسل ذو لون زاه. وإلا فإن الأجيال الناتجة تفقد تدريجياً بهاء الألوان التي كانت لسلفها، وقد حدث هذا فعلاً عندما وفد على أوربا ممثلو إحدى الجزائر الواقعة في المحيط الهادي، وأعجبوا بهذه الأسماك فحملوا حين قفلوا راجعين إلى بلدهم الآلاف من هذه الأسماك وأطلقوها في أنهارهم. ولما أن كانت محاربة الطبيعة لا تجدي نفعاً بل تنتح ضرراً، كما حدث مثلاً حين نقل الإنسان الأرانب إلى استراليا، فإنها زادت وقتئذ زيادة بليغة فانطلقت تبحث عن غذاء لها فلم تبق على أخضر هناك رغم ما قامت به الحكومة من مجهودات للقضاء على هذا الحيوان. فكذلك هذه الأسماك حين نقلها أهل الجزيرة إلى بلدهم، فمع أنها فقدت بهاء ألوانها لأنه لم يعن بتربية أزهى الأفراد لونا مجتمعة فإنها قضت على النوع الوحيد من السمك الذي كان يعيش في مياه تلك الجزيرة والذي كان يعتمد الأهالي عليه في غذائهم.
وليست هذه الأسماك بالذهبية اللون دائماً فقد يكون بعضها فضياً أو أحمر، وقد تكون الزعنفة الظهرية عالية وتقوم بمهمة قلاع المركب حين تسبح السمكة. ولبعض هذه الأسماك عيون محمولة على نتوءات بارزة من الرأس، وتسمى بذات الأعين التلسكوبية، ولا تظهر هذه النتوءات إلا بعد أشهر من عمر السمكة وتستطيع هذه الأسماك أن تعيش خارج المياه لمدة محدودة، فقد وضع العلامة (فرنك بكلاند) بعضها وسط حشائش رطبة وأحاطها بقطعة من سجاد، فظلت محتفظة بنشاطها مدى أربع وعشرين ساعة. ويراعى أن تزود هذه الأسماك في أحواض تربيتها بمقدار وافر من الماء، ويتكون غذاؤها من قطع صغيرة من لحم الثيران ودود الأرض ويرقات الناموس وبيض النمل.
ومن الميسور تدريب هذه الأسماك على القيام ببعض الألعاب المسلية، كدقها ناقوساً إذا كانت في حاجة إلى طعام. وكيفية ذلك أن يربط ناقوس بقطعة من مادة تطفو كالفلين، ويتدلي خيط إلى قاع الحوض الذي به السمكة، وتتصل بهذا الجهاز الصغير كأس بها الغذاء الذي يقدم للسمكة، فإذا ما جاعت شدت الخيط إلى أسفل فيدق الناقوس وتنقلب الكأس فتنزل إليها محتوياتها.
ويمكن تمييز الذكر عن الأنثى في دور التناسل بخشونة جسمه في منطقة الخياشيم لوجود بروزات صغيرة لا توجد في جسم الأنثى وتستطيع الأنثى أن تضع سبعين ألف بويضة، إلا أنها عادة تضع أقل من ذلك، فحين تكون في الثانية من عمرها تضع ألفي بويضة وكلما تقدم بها العمر تضع مقداراُ أكبر، ففي الثالثة مثلاً تضع خمسة وعشرين ألف بويضة تقريباً، والأنثى في هذه الأسماك شرهة جداً حتى أنها لا ترحم صغارها بل تلتهمها، ولذا يجب في أحواض التربية فصل الكبير منها عن الصغير.
الأسماك العمياء
هناك أسماك قد حرمت نعمة البصر إلا أنها تروح وتغدو تبحث عن غذائها بنفسها، وقد يكون عجيباً أن تستطيع سمكة ضريرة أن تبحث عن غذائها بنفسها، وأن تحافظ على حياتها في وسط حيوانات ينقض أحدها على الآخر تلتهمها غذاء لها. إلا أنا نعلم أن رحمة الله قد وسعت كل شئ، فالإنسان الضرير مثلاً قد منح غالباً قوة في استراق السمع وفي حاسة اللمس، فكذلك هذه الأسماك قد زودت بحساسية في السمع وبأعضاء لمس حساسة. وقد يكون فقد البصر فيها كلياً فلا توجد عيون لها البتة، وقد توجد في بعضها بحالة أثرية، حتى أنها تكون عديمة الفائدة كعضو إبصار. وتجريد مثل هذه الأسماك من العيون لا يلحق بها أذى لأنها تعيش في ظلام دامس. فلو فرض أن كانت لها عيون لما استطاعت الإبصار في هذا الجو المظلم. والظلام هنا مرجعه إلى العمق البعيد عن سطح الماء حتى أن الأشعة الضوئية لا تستطيع اختراق هذه المسافة الطويلة إلا أنه لا يتحتم أن تكون جميع الأسماك التي في قاع البحار عمياء لأن هناك ضوءاً ينبعث في قاع البحار ليس مرجعه إلى الأشعة الضوئية التي تخترق الطبقات العليا، وإنما مرجعه إلى إشعاعات فسفورية تنبعث تقريباً من كل الكائنات التي تعيش في قاع البحر ولا توجد هذه الإشعاعات في المياه العذبة.
وتتناول هذه الأسماك غذائها مما يعلق بسطح الماء، ولذا تحور شكل الفم فأصبحت فتحته تقرب من السطح العلوي، وقد يستطيع الإنسان أن يمسك سمكة منها بيده حين تصعد إلى سطح الماء إذا لم يحدث أدنى صوت، وإلا فأنها قادرة أن تشعر بأقل حركة وعندئذ تختفي سريعاً.
أحمد علي الشحات
كيميائي بمعمل السكة الحديد