مجلة الرسالة/العدد 293/رسالة العلم
مجلة الرسالة/العدد 293/رسَالة العِلْم
الحياة
هل هي وليدة المصادفة؟
للدكتور محمد محمود غالي
من تفكير مدام كيري - هل نحن والتفاحة شيء واحد - هل تكتب القردة بيتاً من الشعر - وهل يرفع الماء طوبة مغمورة فيه - إمكان الحياة على كويكبات أخرى - شعورنا بأنها غير وليدة المصادفة.
في خطاب لمدام كيري مكتشفة الراديوم لبنت أختها (زلاي) ما يدعو لإنعام النظر، لهذا أذكر منه بعض الفقرات:
(عُني ابنتاي في الربيع بتربية دود القز وكنت وأنا مريضة أتتبع مدة عطلتي بالمنزل التطورات التي تحدث عند تكوين الشرانق، وكانت لي في ذلك لذة عجيبة، فقد لفت دود الحرير نظري إلى الشعور بجنسها العجيب الذي يُشبهنا في ناحية الجلد على العمل والنشاط والمثابرة.
لقد ثابرت طول حياتي على العمل لغرض واحد، وقمت بهذه المهمة دائماً نحو غرضي رغم علمي أن حياتنا سريعة العطب محتومة الفناء لا تترك شيئاً أياً كان وراءها، ولا بد أني فعلت ذلك لأن ورائنا شيئاً يحفزنا للعمل، لعله نفس الشيء الذي يحفز الدودة لتبني هذه الشرنقة. هذه الدودة المسكينة يجب عليها أن تبدأ هذه الشرنقة التي من المستحيل عليها أن تتمها، فهي كما نعلم لا تصل إلى نهاية مهمتها بل تموت في طريق العمل دون تعويض.
فليستمر كل منا يا عزيزتي في نسج شرنقته دون أن يسأل لماذا وإلى أية نهاية)
حياة النملة أو دودة القز أو الإنسان، هذه الحياة وما تخفي وراءها من حافز شخصي وما تكنه من وراثة بعيدة المدى، تلك الوراثة التي تحفزنا للعمل المستمر، هذه الحياة - وأدهش ما فيها الإنسان الحي - نريد أن نعرف الفكرة في منشئها ونتبين علاقتها بالكون، ويتناول هذا الموضوع مدرستان أو مذهبان:
الأولى تعتقد أن الحياة وليدة لمصادفة وقعت في الكون، وأن الكون لم يكن في نشأته مخصصاً أو مقصوراً عليها. والمدرسة الثانية تقول عكس ذلك وتعزو للحياة وللإنسان أهمية خاصة.
أما عن نفسي فإن إحساساً خفياً وإن كان غير مَبْنِيّ على حقائق علمية أو على أساس في العلم التجريبي يدفعني إلى أن أكون من أنصار المدرسة الثانية.
أن تحاول إقناعي اليوم أنني والتفاحة التي أكلتها شيء واحد، وأنني والمحبرة التي أكتب الآن منها مركب متشابه من النيترون والإلكترون وغيره وأن ترتيباً خاصاً من هذه الذرات وما يدور في غلافها من إلكترونات هو الذي جعل هذه تفاحة تُنبتُ غيرها من التفاح وجعلتنا آدميين ننسل غيرنا من جنس الإنسان وجعلت هذه محبرة لا تصلح إلا لتمكنني من أن أمد القارئ بهذه الأسطر.
أن تحاول أن تُدخل في روعي أنني وبقية النبات أو الجماد شيء واحد وأن الحياة ظاهرة وليدة الصدفة كظاهرة المغناطيسية أو الإشعاع المادي، وأنني وهذه الكائنات نتساوى، كل هذه مسائل لا أجد من نفسي تساهلاً في قبولها.
قد تكون بليغاً جدّاً في محاولتك، وقد تكون براهينك العلمية والعملية من القوة بحيث نطأطأ الرأس لحججك، وبحيث لا نستطيع اليوم أن نُقنعك بطريق العلم النظري أو العلم التجريبي بخطأ علمك وتجاربك، ولكن غريزة في النفس تشبه الغريزة التي تحمل دودة القز السابقة على العمل وتحملك على الخروج من المنزل كل يوم لكسب عيشك، تدفعني إلى أن أخالفك في الرأي، ويداخلني شعور يستقر في نفسي يوحي إلي أننا نختلف عن التفاحة والمحبرة اختلافاً مبيناً، وأن في جوهر حياتنا ما يجعلنا نفترق عن الأشياء وعن الظواهر الأخرى للكون.
في محاضرة لمسيو روجيه عميد كلية الطب السابق بباريز حضرتها في شتاء 1934 بين آلاف المستمعين في إحدى ردهات بوليفارد سان جيرمان بالحي اللاتيني، ألقاها في جماعة العقليين التي هو وكيلها تعرّض للحياة وعلى الأخص لما نسميه الروح والعقل. ولو أنك حضرت هذه المحاضرة لأيقنت أن روجيه على حق، ولخرجت مثل الكثيرين مقتنعاً بأنك والتفاحة وباقي الكائنات شيء واحد، وأن ما نسميه العقل والروح والنفس وغير ذلك ما هو إلا نوع من الآمال التي نتصورها لأنفسنا، وأنه لا وجود لها إلا في خيالنا. ليست أمامي الآن محاضرة الأستاذ روجيه حتى أعيد قراءتها وألخص لك نقطها القوية التي تستند إلى وقائع فعلية وتجارب عملية في الطب والتشريح المقارن والتي تعرّض في ختامها لفلسفة برجسون التي لا يعترف بصحتها ويهاجمها هجوماً عنيفاً.
ولعل رأي روجيه يمثل رأي غالبية العلماء زملائه اليوم من الأطباء والبيولوجيين. والظاهر لي أننا إن أردنا أن نستدل على تفسير للحياة بين علماء الطبيعة والرياضة المعاصرين فإنه يغلب على الظن أننا نصل إلى النتيجة نفسها. وهاهو ذا السير جينز في كتابه (العالم الغريب) يقول وهو يتكلم عن الأرض كسيار انفصل عن الشمس: إننا لا نعرف كيف ومتى ولماذا تولدت الحياة بطريق الصدفة في واحد من هذه الأجزاء التي تناثرت من الشمس وهو الأرض.
هذه الحياة التي بدأت في مخلوقات بسيطة لا تعرف في المبدأ شيئاً غير أنها تتوالد ثم تموت. أجل هذه الحياة التي استمر خيطها يطول ويتعاظم إلى أن وصلت إلى هذا الوضع المعقد الذي تتوالد فيه كائنات تهب الجزء الأكبر من عمرها لأطماعها ورغباتها بل لأديان وضعت فيها أكبر آمالها. وإن شيئاً من التأمل في البحث عن صلتنا بالكون المحيط بنا يحملنا كما يقول ذلك السير جينز على الفزع، فالكون يفزعنا بعظم مسافاته الشاسعة وطول الزمن الذي يمر ويبدو كأنه لا نهائي، والذي لا يُعد تاريخ الإنسانية فيه إلا لمحة من البصر - الكون يفزعنا بوحدتنا وبضآلة المادة التي يتكون منه عالمنا الشمسي بالنسبة إلى ملايين العوالم، وإن أرضنا على حد تعبير السير جينز ما هي إلا جزء واحد من مليون جزء من حبة رمل من مجموع كل رمال الشواطئ - إنما الفزع أن ندرك أن العالم أصم لا يشعر بنا وأنه ممانع لكل نوع من الحياة تشبه حياتنا. فالفراغ بين العوالم أو الشموس من البرودة بحيث أن كل حياة تنتهي فيه بالجمود والموت، والجزء الأعظم من المادة المكونة للنجوم، من الحرارة المرتفعة بدرجة تجعل كل حياة فيها مستحيلة، ويصل إلى هذه الأجرام من الأشعة المختلفة ما هو غير ملائم للحياة وقاتل لها. ويكفي أن أذكِّر القارئ أن طبقة الأوزون المحيطة بالكرة الأرضية تحمينا من الإشعاعات القاتلة.
في عالم هذا وصفه ألفينا أنفسنا مخلوقات فيه تتحرك وتفكر، ولو اعتقدنا كما يعتقد جينز وغيره أن وجودنا حادث وليد الصدفة فإن فناءنا أيضاً سيكون وليد الصدفة، فإن من المعقول في رأيهم أنه باستمرار الزمن يحتمل أن يقع أي نوع من الحوادث.
ويعتقد السير جينز أن (هكسلي) هو الذي قال:
(لو فرضنا وتركنا ستة من القردة تكتب على الآلات الكاتبة دون أن تَعي ما تخطه مدة طويلة تبلغ ملايين الملايين من السنين، فإننا في سير الزمن نرى بين أسطرها بطريق الصدفة كل الكلمات المحفوظة في المتحف البريطاني. ولو أننا اختبرنا آخر صفحة من الصفحات التي سطرتها القردة فقد نلاحظ أن توقيعاتها العمياء قد خطت أحد أبيات شيكسبير، وعند ذلك يحق لنا أن نعتبر هذا البيت من الشعر حادثاً من أغرب الحوادث. ولو أننا بعد ذلك تصفحنا ملايين الصحائف التي كتبتها القردة في ملايين السنين فإنه مما لا شك فيه أننا سنعثر مرة أخرى على سطر آخر من أبيات شيكسبير كان هو أيضاً وليد الصدفة العمياء).
وهكذا لا بد أن يحدث لعدد قليل من الشموس بين ملايين الشموس الأخرى الحائرة ما حدث للشمس من وجود سيارات تدور حولها، مما أوردناه في مقالنا السابق، ويدل الحساب على أن هذا العدد من الشموس قليل جداً بالنسبة لعدد شموس الكون.
ومن البديهي أن الحياة كما نستوعبها لا تحدث إلا على سيارات شبيهة بالأرض إذ يجب لوجودها شروط طبيعية ملائمة مثل اعتدال درجة الحرارة، وعلى هذا الاعتبار تستحيل الحياة في الشموس نفسها التي هي نيران متقدة كما تستحيل في الحيز بعيداً عنها، فهذا لا تزيد درجة حرارته على أربع درجات فوق الصفر المطلق (أي أقل من 268 درجة تحت الصفر العادي)
فالحياة جائزة كويكبات تقع على مسافة معينة من هذه الشموس، إذا ابتعدنا عن هذه المناطق المعينة امتنعت الحياة للبرودة المهلكة، وإن اقتربنا امتنعت أيضاً بسبب الحرارة المحرقة.
ونستدل من الحساب على أن المناطق التي تجوز فيها الحياة لا تكون إلا واحداً على مليون البليون من مجموع الحيز. على أن الحياة تندر في هذا الجزء النادر من الحيز، ذلك لأن تناثر جزء من إحدى الشموس وانفصاله عنها يعد حادثاً نادراً جداً، ويغلب على الظن أنه يوجد نجم واحد في كل مائة ألف نجم يشبه الشمس في وجود سيار يدور حوله كالأرض حيث الحياة على هذا السيار قد تكون جائزة.
لهذا يجوز الاعتقاد أن الكون لم يخلق خاصاً لغرض الحياة، هذا رأي يميل إليه السير جينز وغيره، والواقع أنه لا تناسب مطلقاً بين عظمة الكون والنتيجة الضئيلة الموجودة في بعض أجزائه والتي ترى أثرها في الحياة.
على أننا لا نعلم هل توجد شروط طبيعية كافية بذاتها لإيجاد الحياة، فَثَمَّ مدرسة تعتقد أنه عندما بردت الأرض كان لا بد من ظهور الحياة في أثناء ذلك، ومدرسة أخرى تقول إن حادثاً أولاً أوجد الكائن وأنه كان لا بد من حادث ثان ليوجد الحياة في الكائن.
على أن المركبات المادية للكائن الحي هي ذرات كيميائية عادية، هي الكربون كالذي نجده في دخان المصانع، والأكسجين والهيدروجين كالذي نجدهما في الماء، والأزوت الذي يُكوِّن الجزء الأكبر من الجو المحيط بنا - كل هذه الجزيئات والذرات الموجودة في الكائن الحي كانت موجودة حتماً في الأرض، هذه المولودة الجديدة، وقد حدث في وقت من الأوقات أن مجموعة من هذه الذرات - بطريق الصدفة - ترتب بالطريقة الموجودة بها اليوم في الخلية الحية، وكان لا بد من ذلك مع طول الزمن، كما كان لا بد للقردة الستة من أن تُسَطِّر يوماً أحد أشعار شيكسبير. وعلى هذا لنا أن نتساءل هل هذه الذرات بترتيبها هذا هي التي كونت بمفردها وبهذا الترتيب الخلية الحية؟ وبعبارة أوضح، هل الخلية الحية هي مجرد مجموعة من الذرات العادية مرتبة بشكل خاص أو هي شيء آخر؟
هل المادة الحية مجموعة من الذرات أو هي مجموعة من الذرات مضافاً إليها الحياة؟ وبعبارة أخرى هل يستطيع كيميائي ماهر أن يوجد لنا الحياة على أي شكل باستعمال عدد معين من الذرات أو تنقصه قوة أخرى غير العدد والترتيب؟
هذا ما نحاول أن نتناوله في المقال القادم. ويبدو لي أنه للإجابة على ذلك لا مناص من الدخول في عميق العلوم الطبيعية فنبدأ وصفاً وجيزاً للمادة وللمادة الحية وفق آراء العلماء اليوم.
وخلاصة القول أنه بالرجوع إلى فكرة ترجع في الواقع لشيء أشبه بحساب الاحتمالات وبالرجوع إلى جواز طول الزمن وجد العلماء مخرجاً وتفسيراً محتملاً لوجود الأرض ولوجود الحياة عليها، تفسيراً مبنياً على الصدفة.
في مثال ذكره العالم الكبير جان بيران الأستاذ الكبير هنري موتون إن اعتبرنا الحركة البروانية التي تتلخص في أن ما يصيب أي جسم داخل السائل من ضغط هو مجموع صدمات جزيئات السائل عليه، فان لنا أن نعتقد أنه يصح بعد ملايين السنين أن يحدث مرة أن يرفع الماء قالباً من الطوب مغموراً في ماء ساكن، وعندئذ لنا أن نعتبر حادث رفع هذا القالب على سطح الماء من المعجزات النادرة، وإن كان هذا الحادث ليس مستحيلاً عند العالم الذي يعرف الحركة البروانية والذي يتوقع حدوثه يوماً.
ومع جواز تسليم القارئ بما يذهب إليه كل من هاكسلي وبيران فالحياة عندي رغم القردة التي يصح أن تكتب يوماً ما سطراً من الشعر ورغم الطوبة التي يصح أن ينهض بها الماء، من الغرابة بحيث لا تطاوعنا النفس على أن نعتبرها وليدة الصدفة وأنها طرأت عن غير قصد.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوريون
ليسانس العلوم التعليمية، ليسانس العلوم الحرة، دبلوم
المهندسخانة