مجلة الرسالة/العدد 153/العجوزان (4)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 153/ العجوزان

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 06 - 1936


4 - العجوزان

تتمة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال محدثنا: وكنت قد ضقت بهذه اللجاجة الفلسفية ورأيتني مضطغناً على الشيخين معاً؛ فقلت للعجوز (ن): حدثني (رحمك الله) بشيء من قديمكما فأنتما اختصار لكل ما مر من الحياة يستدل به على اصله المطول إلا في الحب. . . وما زلتما في جد الحديث تعبثان بي منذ اليوم، فقد عدلتما بي إلى شانكما ورأيكما في القديم والجديد وبقي أن أميل بكما ميلة إلى سنة 1895. وقد والله كاد ينتحر قلبي يأساً من خبر (كاترينا ومرغريت)؛ ولكأنك تخشى إذ أعلمتني خبر صاحبتك هذه وهي من وراء أربعين سنة - ما تخافه من رجل سيفجؤك معها في الخلوة على حالٍ من الربية فيأخذك (متلبساً بالجريمة) كما تقولون في لغة المحاكم. . .

قال فضحك العجوزان وقال (ن): لا والله يا بني، أقول ما قال ذلك الحكيم العربي لقومه وقد بلغ مائتي سنة: (قلبي مضغة من جسدي ولا أظنه إلا قد نحل كما نحل سائر جسدي وأعلم يا بني إنه إذا ذهب الحب عن الشيخ بقي منه الحنان يعمل مثل عمله؛ فيحب العجوز مكاناً أو شيئاً أو معنى أي ذلك كان ليعيده ذلك إلى الدنيا أو يبقيه فيها (بقدر الإمكان). . .) فضحك الأستاذ (م) وقال: ولعل ثرثرة العجوز (ن) هي الآن معشوقة العجوز (ن).

ثم قال: وكل شيء يرق في قلب الرجل الهرم ويحول وجهه كأنه لا يطيق أن ينظر إلى معناه الغليظ؛ ولا بد أن يخرج العجوز من معاني الدنيا قبل أن يخرج من الدنيا. ولهذا لا يهنأ الشيخ إلا إذا عاش بأفكار جسمه الحاضر وقدر الأمور على ما هو فيه لا على ما كان فيه. والفرق بين جسمه الحاضر وبين جسمه الماضي أن هذا الماضي كانت تحمله أعضاؤه فهو مجتمع من أعمالها وشهواتها ماضٍ في تحقيق وجودها ومعانيها. أما الحاضر؛ أما الجسم الهرم فهو يشعر أنه يحمل أعضاؤه كلها وكأنها ملفوفة في ثيابه كمتاع المسافر قبل السفر. . . وكأن بعضها يسلم على بعض سلام الوداع يقول تفارقني وأفارقك.

فتململ الأستاذ (م) وقال: أفٍ لك ولما تقول! لا جرم أن هذه لغة عظامك التي لا صلابة فيها، فمن ذلك لا تجيء معانيك في الحياة إلا واهنة ناحلة فقدت أكثرها وبقي من كل شيء منها شيء عند النهاية. أليس في الهرم إلا أن يبقى الجسم ليكون ظاهراً فقط كعمشوش العنقود بعد ذهاب الحب منه يقول كان هنا وكان هنا؟

ألا فأعلم يا (ن) إن هذه الشيخوخة إنما هي غلبة روحانية الجسم على بشريته، فهذا طور من أطوار الحياة لا تدعه الحياة إلا وفيه لذته وسروره كما تصنع بسائر أطوارها؛ غير أن لذاته بين الروح والجمال، ومسراته بين العقل والطبيعة، وكل ما نقص من العمر وجب أن يكون زيادة في إدراك الروح وقوتها وشدتها ونورها. وقد قيل لبعض أهل هذا الشأنٍ وكان في مرض موته: كيف تجد العلة؟ فقالوا سلوا العلة عني كيف تجدني؟

وإنما تثقل الشيخوخة على صاحبها إذا هي انتكست فيه وكانت مراغمةً بينه وبين الحياة، فيطمع الشيخ فيما مضى ولا يزال يتعلق به ويتسخط على ذهابه ويتصنع له ويتكلف أسبابه، وقد نسى أن الحياة ردته طفلاً كالطفل أكبر سعادته في التوفيق بين نفسه وبين الأشياء الصغيرة البريئة، وأقوى لذته أن يتفق الجمال الذي في خياله والجمال الذي في الكون؛ وإنه لكما قلت أنت: لا يهنأ الشيخ إلا إذا عاش بأفكار جسمه الحاضر.

وما اصدق وأحكم هذا الحديث الشريف: (إن الله تعالى بعدله وقسطه جعل الرَّوحَ والفرحَ في الرضى واليقين، وجعل الهمَّ والحزنَ في الشك والسخط). فهذه هي قاعدة الحياة، لا تعاملك الحياة بما تملك من الدنيا، ولكن بما تملك من نفسك، وبذلك تكون السعادة في أشياء حقيقية ممكنة موجودة، بل تكون في كل ما أمكن وكل ما وجد. وإذا كان الرضى هو الاتفاق بين النفس وصاحبها، وكان اليقين هو الاتفاق بين النفس وخالقها، فقد أصبح قانون السعادة شيئاً معنوياً من فضيلة النفس وإيمانها وعقلها ومن الأسرار التي فيها، لا شيئاً مادياً من أعضائها ومتاعها ودنياها والأخيلة المتقلبة عليها.

فأطرق العجوز (ن) قليلاً ثم قال: (ربِّ إني وهَنَ العظمُ مني)، ألا ما أحكم هذه الآية! فو الله إن قرأت ولا قرأ الناس في تصوير الهرم الفاني أبدع منها ولا أدق ولا أوفى؛ ألا تحس أن قائلها يكاد يسقط من عجفٍ وهزال وإعياء، وأنه ليس قائماً في الحياة قيامه فيها من قبل، وأن تناقض هذه الحياة قد وقع في جسمه فأخلِّ به، وأن معاني التراب قد تعلقت بهذا الجسم تعمل فيه عملها، فأخذ يتفتَّت كأنما لمس القبر عظامه وهو حي، وأنه بهذا كله أوشك أن ينكسر انكسار العظم بلغ المبرد فيه أخر طبقاته؟

قال محدثنا: فقلت له: ترى لو أن نابغةً من نوابغ التصوير في زمننا هذا، تناول بفنه ذلك المعنى العجيب فكتبه صورةً وألواناً، لا أحرفاً وكلمات، فكيف تراه كان يصنع؟

قال: كان يصنع هكذا: يرسم منظر الشتاء في سماءٍ تعلق سحابها كثيفاً متراكباً بعضه على بعض يخيل أن السماء تدنو من الأرض، وقد سدت السحب الآفاق وأظلم بها الجو ظلامه تحت النهار المغطى، واستطارت بينها وشائع من البرق، ثم يترك من الشمس جانب الأفق لمعةً كضوء الشمعة في فتق من فتوق السحاب؛ ثم يرسل في الصورة ريحاً باردةً هوجاء، يدل عليها انحناء الشجر وتقلب النبات، ثم يرسم رجالاً ونساءً يغلي الشباب فيهم غليانه من قوة وعافية، وحب وصبابة، وتغلي فيهم أفكار أخرى. . . وهم جميعاً في هيئة المسرعين إلى مرقص؛ وهم جميعاً من المجددين. . .

ثم يرسم يا بني في آخرهم (على بعدٍ منهم) عمك العجوز (ن)، يرسمه كما تراه، منحل القوة، منحني الصلب، مرعشاً متزلزلاً متضعضعاً؛ وقد زعزعته الريح، وضربه البرد، وخنقته السحب؛ وله وجه عليه ذبول الدنيا، ينبئ أن دمه قد وضع من جسمه في برادة، والكون كله من حوله ومن فوقه أسباب روماتزم. . .

ثم يصوره وقد وقف هناك ساهماً كئيباً، رافعاً رأسه ينظر إلى السماء.

قال المحدث: وضحكنا جميعاً ثم قال الأستاذ (م): لعمري إن هذه الحياة الآدمية كالآلة صاحبها مهندسها؛ فأن صلحت واستقامت فمن علمه بها وحياطته لها، وان فسدت واختلت فمن عبثه فيها وإهماله إياها، وليس على الطبيعة في ذلك سبيل لائمة.

والشيخ الضعيف ليس في هذه الدنيا إلا الصورة الهزلية لمفاسد شبابه وضعفه ولينه ودعته تظهرها الدنيا ليسخر من يسخر ويتعظ من يتعظ.

قال (ن): أكذلك هو يا أستاذ؟

قال الأستاذ. بل هي الصورة الجدية من هذه الحياة الباطلة التي دأبها ألا تصرح عن حقيقتها إلا في الآخر، فتظهرها الدنيا ليُجل الحقيقة من يجلها. وليس إلا بهذه الطريقة يعرف من خراب الصورة خراب المعنى.

قال العجوز (ن): آه من إجلال الشيخوخة واحترام الناس إياها! إنهم يرونه احتراماً للشيخ والشيخ لا يراه إلا تعزية.

وما الأشياخ الهرمي إلا جنازات قبل وقتها لا توحي إلى الناس شيئاً غير وحي الجنازة من مهابة وخشوع.

قال الأستاذ: إنما أنت دائماً في حديث نفسك مع نفسك، ولو كنت نهراً يا مستنقع لما كان في لغتك هذه الأحرف من البعوض.

قال العجوز الظريف: إن هذا ليس من كلام الفلسفة التي نتنازعها بيننا ترد على وارد عليك، ولكنه كلام القانون الذي لك وحدك أن تتكلم به أيها القاضي.

قال (م): صرح وبين فما فهمنا شيئاً

قال العجوز: هذا كلام قلته قديماً في حادثة عجيبة. فقد رفعت إلى ذات يوم قضية شيخ هرم كان قد سرق دَجاجة؛ وتوسمته فإذا هو من أذكى الناس، وإذا هو يجل عن موضعه من التهمة، ولكن صح عندي أنه قد سرق وقامت البينة عليه ووجب الحكم، فقلت له: أيها الشيخ ما تستحي وأنت شائب أن تكون لصا؟

قال: يا سيدي القاضي كأنك تقول لي ما تستحي أن تجوع؟

فورد على من جوابه ما حيرني فقلت له: وإذا جعت أما تستحي أن تسرق؟

قال يا سيدي القاضي كأنك تقول لي: وإذا جعت أما تستحي أن تأكل؟

فكانت هذه أشد علي فقلت له: وإذا أكلت أما تأكل إلا حراماً؟

فقال: يا سيدي القاضي إنك إذا نظرت إلى محتاجاً لا أجد شيئاً، لم ترني سارقاً حين وجدت شيئاً.

فأفحمني الرجل على جهله وسذاجته، وقلت في نفسي لو سرق أفلاطون لكان مثل هذا؟ فتركت الكلام بالفلسفة وتكلمت بالقانون الذي لا يملك الرجل معه قولاً يراجعني به، فقلت: ولكنك جئت إلى هذه المحكمة بالسرقة فلا تذهب من هذه المحكمة إلا بالحبس سنتين.

قال محدثنا: وأرمضني هذا العجوز الثرثار وملأ صدري إذ ما برح يديرني وأديره عن (كاترينا ومرغريت)، ورأيت كل شيء قد هرم فيه إلا لسانه، فحملني الضجر والطيش على أن قلت له: وهب القضية كانت هي قضية (كاترينا) وقد رفعت إليك متهمة، أفكنت قائلاً لها: جئت بالمحكمة بالسرقة فلا تذهبين من المحكمة إلا بالحبس سنتين؟

وجرت الكلمة على لساني وما ألقيت لها بالاً ولا عرفت لها خطرا، فاكفهرَّ القاضي العجوز وتربد وجهه غضباً وقال: يا بغيض! أحسبتني كنت قائلاً لها: جئت إلى المحكمة بالسرقة فلا تذهبين من المحكمة إلا بالقاضي. . .؟

وغضب الأستاذ (م) وقال: ويحك أهذا من أدبكم الجديد الذي تأدبتم به على أساتذة منهم الفجرة الذين يكذبون الأنبياء ولا يؤمنون إلا بدين الغريزة ويسوغونكم مذاهب الحمير والبغال في حرية الدم. . .؟ أما إني لا أعلم أنكم نشأتم على حرية الرأي ولكن الكلمة بين اثنين لا تكون حرةً كل الحرية إلا وهي أحياناً سفيهة كل السفاهة كهذه القولة التي نطقت بها.

لقد كان الناس في زمننا الماضي أناساً على حدة، وكانت الآداب حالاتٍ عقليةً ثابتةً لا تتغير ولا يجوز أن تتغير، وكان الأستاذ الكافر بينه وبين نفسه لا يكون مع تلاميذه إلا كالمومس تجهد في أن تربي بنتها على غير طريقتها.

قال الحدث: فلججت وذهبت أعتذر، ولكن العجوز (ن) قطع علي وأنشأ يقول وقد انفجر غيظه: لقد تمت في هؤلاء صنعةُ حرية الفكر كما تمت من قبل في ذلك الواعظ المعلم القديم الذي حدثوا عنه أنه كان يقص على الناس في المسجد كل أربعاء فيعلمهم أمور دينهم ويعظهم ويحذرهم ويذكرهم الله وجنته وناره؛ قالوا فاحتبس عليهم في بعض الأيام وطال انتظارهم له، فبينما هم كذلك إذ جاءهم رسول فقال: يقول لكم أبو كعب: انصرفوا فأني قد أصبحت مخموراً. . . . . .

هذا القاص المخمور هو عند هؤلاء السخفاء إمام في مذهب حرية الفكر، وفضيلته عندهم إنه صريح غير منافق. . . وكان يكون هذا قولاً في إمام المسجد لولا أنه إمام المسجد؛ غير أن حرية الفكر تبنى دائماً في كل ما تبنى على غير الأصل، وعندها أن المنطق الذي موضوعه ما يجب، ليس بالمنطق الصحيح إذ لا يجب شيء مادام مذهبها الإطلاق والحرية.

كل مفتون من هؤلاء يتوهم أن العالم لا بد أن يمر من تفكيره كما مر من إرادة الخالق، وأنه لا بد له أن يحكم على الأشياء ولو بكلمة سخيفة تجعله يحكم، ولا بد أن يقول (كن) وإن لم يكن إلا جهله. ومذهبه الأخلاقي: اطلب أنت القوة للمجموع أما أنا فألتمس لنفسي المنفعة واللذة. ويحسبون أنهم يحملون المجتمع؛ فأنهم ليحملونه ولكن على طريق البراغيث في جناح النسر.

قال (م): وكيف ذلك؟

قال: زعموا أن طائفة من البراغيث اتصلت بجناح نسر عظيم واستمرأته ورتعت فيه، فصابرها النسر زمناً ثم تأذى بها وأراد أن يرميها عنه فطفق يخفق بجناحيه يريد نفضها، فقالت له البراغيث: أيها النسر الأحمق! أما تعلم أننا في جناحيك لنحملك في الجو. . .؟

أما أساتذة هذه الحرية الدينية الفكرية الأدبية، فقد قال الحكماء: إن بعرةً من البَعر كانت معلمة في مدرسة قال (م): وكيف ذلك؟

قال: زعموا أن بعرة كبش كانت معلمة في مدرسة الحصى، فألفت لتلاميذها كتاباً أحكمته وأطالت له الفكرة، وبلغت فيه جهدَ ما تقدر عليه لتظهر عبقريتها الجبارة؛ فكان الباب الأكبر فيه أن الجبل خرافة من الخرافات، لا يسوغ في العقل الحر إلا هذا، ولا يصح غير هذا في المنطق. قالت: والبرهان على ذلك أنهم يزعمون أن الجبل شيء عظيم، يكون في قدر الكبش الكبير ألف ألفِ مرة؛ فإذا كان الجبل في قدر الكبش ألف ألفِ مرة فكيف يمكن أن يبغره الكبش. . .؟

قال الأستاذ (م): هذا منطق جديد سديد لولا أنه منطق بعرة.

قال (ن): وكل قديم له عندهم جديد، فكلمة (رجل) قد تخنثت، وكلمة (شاب) قد تأنثت، وكلمة (عفيفة) قد تدنست، وكلمة (حياء) قد تنجست. والزمن الجديد ألا يعرف الطالب في هذا العام ماذا تكون أخلاقه في العام القادم. . . والحياة الجديدة أن تتقن الغش أكثر مما تتقن العمل. . . والذمة الجديدة أن مال غيرك لا يسمى مالاً إلا حين يصيرك في يدك. . . والصدق الجديد أن تكذب مائة مرة، فعسى أن يصدق الناس منها مرة. . . ثم الإنسان الجديد، والحب الجديد، والمرأة الجديدة، والأدب الجديد، والدين الجديد، والأب الجديد، والابن الجديد؛ وما أدري وما لا أدري.

قال (السوبرمان): وتنطعوا في إخراج المخلوق الكامل بغير دينه وأخلاقه، فسخرت منهم الطبيعة، فلم تخرج إلا الناقص أفحش النقص، وتركتهم يعملون في النظرية وعملت هي الحقيقة.

قال محدثنا: ونهض العجوز (ن) وهو يقول: تباركت وتعاليت يا خالق هذا الخلق؛ لو فهموا عنك لفهموا الحكمة في إنك قد فتحت على العلم الجديد بالغازات السامة. . .

قال: ولما أنصرف العجوز، قلت للأستاذ (م): ولكن ما خبر (كاترينا ومرغريت) وسنة 1895؟

فقال: أيها الأبله، أما أدركت بعد أن العجوزين قد سخرا منك بأسلوب جديد. . . . . .؟

طنطا

مصطفى صادق الرافعي