مجلة الرسالة/العدد 1008/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1008/القَصَصُ

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 10 - 1952



الكذبة

للقصصي الروسي بانتليمون رومانوف

كانت الغرفة مبعثرة الأثاث؛ وكان هو جالسا إلى مكتب قد انتثرت عليه الصحف والكتب في غير نظام ولا ترتيب، وكان ممسكاً بيده غطاء محبرة قد كان رفعه عنها بحركة غير إرادية، وبصره مثبت في نقطة أمامه يحدق فيها.

وكان من عادته أن يجد صاحبته بانتظاره مشتاقة في صبر، ولكنه لم يجدها على عادتها في الدار. . . لقد قالت له فتاة الجيران إن (ماريا سير جيفانا) خرجت بغير أن تترك ورائها خبراً.

وكانت هذه هي المرة الأولى التي لم تنتظره فيها منذ أن تعارفا حتى اليوم. لقد كان أخبرها بالتلفون أنه ربما استطاع لقياها اليوم ساعة واحدة، ولكنه استطاع أن يتحرر بغتة طوال هذا المساء، إذ كانت زوجه قد خرجت لزيارة بعض الأصدقاء.

ومضت الساعة الحادية عشر وتلتها الثانية عشر وهو ما يزال منتظراً. وأخيرا أزفت الساعة الأولى ولما تأت! وكان كلما طال انتظاره تشتد فيه الرغبة في البقاء حتى تعود فيعرف أين كانت.

وأخيراً وقبيل الساعة الثانية دق جرس الباب ففتح لها فطرق أذنيه وقع أقدامها؛ وما هي إلا أن فتحت الباب ودخلت فلم يكن له متسع من وقت يصلح به هيئة وجهه للقياها.

كان الثلج قد غطى كمي معطفها وكتفيه، وكان خداها قد توردا من لفح الرياح المحملة بالثلج، وعيناها السوداوان مشرقتين بوميض من الغضب والهياج. كان أول من ابتدرته به من الكلام قولها:

- أهلاً بك، أنت هنا؟

وكان في صوتها نغمة فرح ودهش بينه التكلف. ثم استأنفت قائلة:

- ولكنك قلت إنك لن تستطيع المجيء!

وكانت تقول ذلك وهي تلقي على الغرفة نظرة فاحصة، فأجابها:

- كلا، لقد قلت إني ربما جئت ولكني لم أكن واثقاً تماماً من هذا. قال هذا وهو يعيد غطاء الدواة إليها، ثم قام فمشى حتى جاء فوقف قبالة صاحبته.

- إنك على حق، غير أنك قلت إنك إن جئت فلن تظل أكثر من ساعة.

- حسبت أن لقاء ساعة عندك تفضل الخروج مساء. . . إلى حيث لا أدري.

فأجابته بسرعة قائلة:

- (أوه. . . إنما كنت ذهبت إلى الملهى)، ونزعت قبعتها فنفضت الثلج الذي كان يغطيها على البساط. ثم إنها بدأت تزيل الثلج الذي كان قد تراكم على كمي معطفها في أناة ظاهرة واعتناء. فهز صاحبها كتفيه وبدأ يعينها على خلع ملابس الخروج التي كانت ارتدها محتفظا بصمته، ذلك الصمت الذي كثيرا ما كان يشاهد في مناظر الشجار والمنازعات، ولم يخف ذلك منه على صاحبته ولكنها اعتصمت بالصمت العميق مثله، غير أنها بعد أن ألقت عليه نظرة جانبية بدا لها أن تغير وضعها - فجأة - فقالت تكلمه في صوت لطيف:

- أجائز أنك لا تصدقني؟ واقتربت من حبيبها بجو تشم فيه رائحة الهواء الطلق البليل الذي كانت فيه منذ برهة قصيرة، فوضعت يديها - ولم يكن ليخفى عليه جمالها - على كتفيه، غير أنه أحس ثانية أن هذا التبدل لسريع من وضعها الأول إلى هذا الوضع الأخير اللطيف مما تقسر عليه نفسها، إنه متكلف أيضا! ثم قالت له:

- وفي استطاعتي أن اعدد لك كل حركاتي هذا المساء؛ كان أحد أصدقائي ومعه خطيبته ينويان الذهاب إلى الملهى، وكانت عندهما بطاقة دخول زائدة فاستدعياني معهما إلى الذهاب ففعلت، وذلك كل شيء تم

فمجيئك من الملهى إذا في هذه الساعة؟

- نعم.

ثم رفعت يدها عن كتفيه - وما كان قد مسهماً - وذهبت إلى مرآة الصوان وكأنها تريد أن تصلح شعرها، ولكن عينيها عادتا إلى ما كانتا عليه من النظر إلى الغرفة نظرة عجلى فعل العائد إلى داره يجد فيه ضيفا غير منتظر ليطمئن على أنه ليس في المكان بعض ما لا يجب أن تقع عليه عين ضيفه من أشياء:

وكان هو يلحظها أثناء ذلك من طرف خفي ويتتبعها في كل ما تصنع، أما هي فكانت تخفي شعورها بمراقبته هذه وتدقيقه وتتظاهر بهيئة من ناله تعب أو مسه جهد، بينما كانت تمشط شعرها وتعيده إلى نظامه أمام المرآة.

. . . لقد بدا له من الغريب أن تكون لشخص تصحبه إلى الملهى خطيبته بطاقة دخول زائدة!

. . . قالت: (وقد خاب ارتقابي مقدمك عند المساء تماماً)، ثم جلست على كرسي كبير بقرب المكتب قبالة صاحبها. واسترسلت قائلة:

(. . . فوعت بغض أخطاء أخرت الرواية عن موعد بدئها، فضاق المتفرجون بذلك ذرعا وعلت أصواتهم وسمع تصفيقهم. . . ألم تر هذه الرواية من قبل؟).

ومع أن الرجل كان ما يزال واقفاً في مكانه، وعلى وجهه سيماء من يستمع إلى كذبة مدبرة حازمة صادرة من شخص كانت له بصحة ما يقول ثقة قوية - منذ قليل من الزمان فقط - مع هذا، فإنها استمرت تتم حديثها وكأنها غير شاعرة بحالته الغريبة التي كان فيها.

قالت: (وكانت الرواية غاية في السخف، مملة، بينة التكلف والتصنع، وكان الممثلون يقومون بأدوارهم وما في نفوسهم شوق إليها، وكان أحسن ما هناك فتاة ممثلة جودت في دور لها متوسط)

وهناك أدار صاحبها عينيه نحوها وقال لها:

- إنه ليس ثمة سبب يدعوني إلى الشك في أمر ذهابك إلى الملهى.

فردت عليه قائلة: (عزيزي، إن شئت أريتك البطاقة) وفتحت حقيبة يدها وأخرجت له البطاقة بدون بحث ولا عناء بل كان في حركتها أثر الاطمئنان. فاخذ الورقة المطوية منها بحركة آلية ثم أردف قائلاً:

- إني لا أدري ما هذا الذي حدث بالضبط ولكني لحظت من زمن يسير أن علاقتنا قد طرأت عليها شائبة من الخداع

- وماذا تعني بالخداع؟

وكانت جالسة على كرسيها. فرفعت مرفقيها علامة السؤال والاستغراب.

فأجابها: (لا أدري تماما ولكن هناك شيئاً مما أقول على أني أطلب منك شيئاً واحداً، ذلك أن لا تضطري الواحد منا إلى الكذب على الآخر. لقد كانت بيننا عاطفة ود قوية، وفي أمثال هذه العواطف التي بيننا لا يستحسن الكذب أبداً. فلا تحدثيني الليلة بشيء، ودعي ذلك إلى الغد. خابريني بالتلفون وإذ ذاك تستطيعين التحدث بكل شيء. إن كلا منا حر مطلق التصرف في نفسه، فإن لم يبق بيننا (حب) فلا حرج ولا بأس. . لنفترق.

ثم وضع قبعته على رأسه مهتاجا وارتدى (سترته) وخرج دون أن يودعها.

. . كان يسير إلى داره مستعداً في ذهنه حركاتها وصوتها فبدا له كل ذلك صورة من مكر وخداع بغيضة! لقد كانت تحدثه عن الملهى حديث المضيف إلى زائر طرقه، وذلك فعل المرأة إذا تريد كذباً، وكانت تتحدث عن الملهى حديثاً عاماً مبهماً بالطريقة التي يتكلم بها المرء عن حوادث قدم عليها العهد، وكان عليها - إلى هذا - أن تبتدع كذبة تأخير الرواية ساعة عن ميعادها المعين لتبرر تأخرها عن موعد انتهاء أوقات الملاهي عادة!

أما البطاقة. . فمن يدري؟ لعلها ابتاعتها. . . وهي تستطيع ذلك. بل ربما دخلت الملهى حقا وشاهدت الفصل الأول. . ثم. .؟

غير أن فكرة - آخر الأمر - اعترضته فوقف تحت مصباح الشارع وأخرج من جيبه البطاقة التي كان قد وضعها في جيبه بغير شعور منه.

فلما فتح البطاقة الصغيرة الخضراء ليتبين التاريخ عليها وجد أنها قديمة، مؤرخة بتاريخ أول الشهر، وهم اليوم في الثامن عشر منه! فيالها من كذبة دنيئة!

كان أول ما دار بخلده أن يمزق قطعة الورق البغيضة تلك. . غير أنه أعادها إلى جيبه ثانية لسبب خاص. .

إنها حقا كذبة إنسان صفيق الوجه! فيالها من زلة! إنها كفيلة بأن تخجل الإنسان من نفسه. .

ولما وصل إلى بيته لم يجد في شبابيك طابقه أنوارا! كأن زوجه لم تعد، وكان ذلك له خيراً، ففي استطاعته أن يزعم - الآن - لها أنه كان في الدار طوال المساء فقضاها أمسية وحيدة على مضض منه. . غير أن ضوءاً بدا في غرفة النوم - بغتة - لقد سبقته زوجته إلى الدار! منذ خمس دقائق فقط!

فصعد إلى الطابق الخامس بسكون مفكراً فيما عسى أن ينتحل من الأعذار؛ ثم تسلل إلى الردهة في ارتقاب وحذر في حين أن زوجته كانت خارجة من غرفة النوم مسرعة وهي تشد وسطها بحزام فستانها البيتي، فلما وقع نظرها عليه ابتدرته سائلة في استغراب: - ماذا حصل أيها العزيز فأخرك؟ لقد ظللت في الدار طوال المساء هذا، ذهبت إلى بعض الجيران، وكان عندهم أقاربهم فلبثت عندهم ساعة ثم عدت وفي أملي أن أقضي هذا المساء معك فأجابها:

- غير أني كنت أحسب أنك ستكونين خارج البيت الليلة، وذلك الذي دعاني إلى الذهاب إلى الملهى! فغن ذلك ولا شك خير من بقائي في الدار وحدي!

- ولكن لم أراك متأخراً للآن؟

- أوه. . إنك تعرفين كيف يسير هؤلاء في أعمالهم. . لقد وقعت بعض أخطاء أخرت الرواية عن موعد بدئها ساعة، فضاق المتفرجون بذلك ذرعا، وعلت أصواتهم وسمع تصفيقهم! ثم أخرج تلك الورقة المطوية وألقاها على الطاولة بحركة تدل على تعبه، ثم استطرد قائلاً:

(وكانت الرواية غاية في السخف، مملة، بينة التكلف والتصنع في كل شيء من مظاهرها. وخير ما كان في الرواية كلها فتاة ممثلة أجادت في دور لها متوسط، ولو دريت أنك ستكونين في الدار الليلة، إذا لتركت الرواية بعد فصلها الأول!

ف. س