اللغة العربية كائن حي/تمهيد
نواميس الحياة
من أهم نواميس الحياة: النمو، أو التجدّد، وهو ينطوي على دثور الأنسجة وتولّد ما يحلّ محلّها.. ومعنى ذلك أن الجسم الحيّ مؤلّف من خلايا لكلّ منها حياة مستقلّة، اذا انقضت ماتت الخلية وانحلّت أجزاؤها وانصرفت، وتولّدت في مكانها خلية جديدة تتكوّن من العصارات الغذائية، كالدم ونحوه.. فالجسم الحيّ في انحلال وتوّلد دائمين. حتى قالوا: أن جسم الإنسان يتجدّد كله في بضع سنين، أي لا يبقى فيه شيء من المواد التي كان يتألّف منها قبلا. وبغير هذا التجديد لا يكون الجسم حيّا. واذا حدث في جسم الحيوان ما يمنع من تجدّد الأنسجة أسرع اليه الفناء.. فالتجدّد ضروري للحياة.
وحياة الأمة مثل حياة الفرد، بل هي ظاهرة فيها أكثر من ظهورها فيه. لأن الأمة إنما تحيا بدثور القديم، وتولّد الجديد.. فكأن أفراد الأمة خلايا يتألّف منها بدن تلك الأمة، وهو يتجدّد في قرن كما يتجدّد جسم الإنسان في عقد من عقود تلك القرون. وإذا تتبّعنا نمو الامة بتوالي الأجيال، رأيناها تتفرّع وتتشعّب..فتصير الأمة الواحدة أمما يتفاوت البعد بينها بتفاوت الأزمان والاحوال. وكلّ امة من هذه تتشعّب بتوالي الدهور إلى أممن وهكذا الى غير حدّ.. وهو ما يعبّرون عنه بناموس الإرتقاء العام.
اللغة كائن حي
وينبع الأحياء في الخضوع لهذه النواميس ما هو من قبيل ظواهر الحياة أو توابعها، وخاصة ما يتعلّق منها بأعمال العقل في الإنسان، كاللغة والعادات، والديانات، والشرائع، والغلوم، والآداب، ونحوها.. فهذه تعدّ من ظواهر حياة الأمة، وهي خاضعة لناموس النمو والتجدّد ولناموس الإرتقاء العام. ولكلّ من هذه الظواهر تاريخ فلسفيّ طويل، نعبّر عنه بتاريخ تمدّن الأمة، أو تاريخ آدابها، أو علومها، أو حكوماتها، أو دياناتها، أو نحو ذلك. وهي أبحاث شائقة، فيها فلسفة نظر.. ومن هذا القبيل تاريخ اللغة وآدابها.
****
والبحث في تاريخ اللغة على العموم يتناول:
أولا:
النظر في نشأتها منذ تكوّنها مع ما مرّ عليها من الأحوال قبل زمن التاريخ، كتكوّن الافعال، والأسماء، والحروف، وتولد صيغ الإشتقاق وأساليب التعبير ونحو ذلك، والبحث في هذا كلّه من شأن الفلسفة اللغويّة، وقد فصّلناه في كتابنا الفلسفة اللغوية.
ثانيا:
النظر فيما طرأ على اللغة من التأثيرات الخارجية بعد اختلاط أصحابها بالأمم الأخرى، فاكتسبت من لغاتهم ألفاظا وتعبيرات جديدة، كما اقتبس أهلها من عادات تلك الأمم، واخلاقهم، وآدابهم، وما يرافق ذلك من تنوّع معاني الألفاظ بتنوّع الأحوال مع حدوث صيغ جديدة، والفاظ جديدة.
ثالثا:
النظر في تاريخ ما حوته اللغة من العلوم، والآداب، باختلاف العصور وهو تاريخ آداب اللغة. وهذا التقسيم تقريبي، اذ لا تجد حدّا فاصلا بين الأقسام.
واذا تدبرت تاريخ كلّ ظاهرة من ظواهر الأمة، كالآداب، أو اللغة، أو الشرائع، أو غيرها، باعتبار ما مرّ بها من الأحوال في أثناء نموّها، وارتقائها، وتفرعها، رأيتها تسير في نموّها سيرا خفيا لا يشعر به المرء الا بعد انقضاء الزمن الطويل. ويتخلل ذلك السير البطيء وثبات قويّة تأتي دفعة واحدة، فتغير الشؤون تغييرا ظاهرا.. وهو ما يعبّرون عنه بالنهضة، وسبب تلك النهضات على الغالب احتكاك الأفكار بالإختلاط بين الأمم على أثر مهاجرة اقتضتها الطبيعة من قحط أو خوف، أو يكون سبب الإختلاط ظهور نبيّ، أو مشرّع، أو فيلسوف كبير، أو نبوغ قائد طموح يحمل الناس على الفتح أو الغزو، أو مثال ذلك من أسباب الإختلاط.. فتتحاكّ الأفكار، وتتمازج الطباع، فتتنوّع العادات، والأخلاق، والأديان، والآداب، واللغة تابعة لكلّ ذلك.. بل هي الحافظة لآثار ذلك التغيير، فتحتفظ بها قرونا بعد زوال تلك العادات، أو الآداب، أو الشرائع، وإذا تبدّل شيء منها حفظت آثار تبدّله..
وسنقتصر في هذا البحث على تاريخ اللغة العربية في دورها الثاني، وهو تاريخ ألفاظها وتراكيبها بعد تكوّنها.