الخصائص/باب فيما يرد عن العربي مخالفا لما عليه الجمهور

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


ما يرد عن العربي مخالفا للجمهور
باب فيما يرد عن العربي مخالفاً لما عليه الجمهور

إذا اتفق شيء من ذلك نظر في حال ذلك العربي وفيما جاء به. فإن كان الإنسان فصيحاً في جميع ما عدا ذلك القدر الذي انفرد به وكان ما أورده مما يقبله القياس إلا أنه لم يرد به استعمال إلا من جهة ذلك الإنسان فإن الأولى في ذلك أن يحسن الظن به ولا يحمل على فساده. فإن قيل: فمن أين ذلك له وليس مسوغاً أن يرتجل لغة لنفسه قيل: قد يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها وتأبدت معالمها. أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحجاج عن أبي خليفة الفضل بن الحباب قال: قال ابن عون عن ابن سيرين قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: كان الشعر علم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم ولهيت عن الشعر وروايته فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يئولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وألفوا ذلك وقد هلك من وحدثنا أبو بكر أيضاً عن أبي خليفة قال قال يونس بن حبيب: قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير. فهذا ما تراه وقد روي في معناه كثير. وبعد فلسنا نشك في بعد لغة حمير ونحوها عن لغة ابني نزار فقد يمكن أن يقع شيء من تلك اللغة في لغتهم فيساء الظن فيه بمن سمع منه وإنما هو منقول من تلك اللغة. ودخلت يوماً على أبي علي - رحمه الله - خالياً في آخر النهار فحين رآني قال لي: أين أنت أنا أطلبك. قلت: وما ذلك قال: ما تقول فيما جاء عنهم من حَوريت فخضنا معاً فيه فلم نحل بطائل منه فقال: هو من لغة اليمن ومخالف للغة ابني نزار فلا ينكر أن يجيء مخالفاً لأمثلتهم. وأخبرنا أبو صالح السليل بن أحمد بن عيسى بن الشيخ قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني قال حدثني محمد بن يزيد بن ربان قال أخبرني رجل عن حماد الراوية قال: أمر النعمان فنسخت له أشعار العرب في الطنوج - قال: وهي الكراريس - ثم دفنها في قصره الأبيض. فلما كان المختار بن أبي عبيد قيل له: إن تحت القصر كنزاً فاحتفره فأخرج تلك الأشعار. فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة. وهذا ونحوه مما يدلك على تنقل الأحوال بهذه اللغة واعتراض الأحداث عليها وكثرة تغولها وتغيرها. فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح يسمع منه ما يخالف الجمهور بالخطأ وما وجد طريق إلى تقبل ما يورده إذا كان القياس يعاضده فإن لم يكن القياس مسوغاً له كرفع المفعول وجر الفاعل ورفع المضاف إليه فينبغي أن يرد. وذلك لأنه جاء مخالفاً للقياس والسماع جميعاً فلم يبق له عصمة تضيفه ولا مسكة تجمع شعاعه. فأما قول الشاعر - فيما أنشده أبو الحسن -: يوم الصليفاء لم يوفون بالجار فإن شبه للضرورة لم ب " لا " فقد يشبه حروف النفي بعضها ببعض وذلك لاشتراك الجميع في دلالته عليه ألا ترى إلى قوله - أنشدناه -: أجِدَّك لم تغتمض ليلة فترقدها مع رقادها فاستعمل " لم " في موضع الحال وإنما ذلك من مواضع ما النافية للحال. وأنشدنا أيضاً: أجِدّك لن ترى بثعيلباتٍ ولا بيدان ناحية ذَمولا استعمل أيضاً " لن " في موضع " ما ". أبيت أسري وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي فخضنا فيه واستقر الأمر فيه على أنه حذف النون من تبيتين كما حذف الحركة للضرورة في قوله: فاليوم أشرب غير مستحقب كذا وجهته معه فقال لي: فكيف تصنع بقوله " تدلكي " قلت: نجعله بدلاً من " تبيتي " أو حالاً فنحذف النون كما حذفها من الأول في الموضعين فاطمأن الأمر على هذا. وقد يجوز أن يكون " تبيتي " في موضع النصب بإضمار " أن " في غير الجواب كما جاء بيت الأعشى: لنا هضبة لا ينزل الذل وسطها ويأوي إليها المستجير فيعصما وأنشد أبو زيد - وقرأته عليه -: بياض بالأصل فجاء به على إضمار " أن " كبيت الأعشى. فأما قول الآخر: إن تهبطين بلاد قو م يرتعون من الطلاح فيجوز أن تكون " أن " هي الناصبة للاسم مخففة غير أنه أولاها الفعل بلا فصل كما قال إن تحملا حاجة لي خف محملها تستوجبا نعمة عندي بها ويدا أن تقرآن على أسماء - ويحكما - مني السلام وألا تعلما أحدا سألت عنه أبا علي رحمه الله فقال: هي مخففة من الثقيلة كأنه قال: أنكما تقرآن إلا أنه خفف من غير تعويض. وحدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال: شبه " أن " ب " ما " فلم يعملها كما لم يعمل ما. فأما ما حكاه الكسائي عن قضاعة من قولها: مررت به والمال له فإن هذا فاش في لغتها كلها لا في واحد من القبيلة وهذا غير الأول. فإذا كان الرجل الذي سمعت منه تلك اللغة المخالفة للغات الجماعة مضعوفاً في قوله مألوفاً منه لحنه وفساد كلامه حكم عليه ولم يسمع ذلك منه. هذا هو الوجه وعليه ينبغي أن يكون العمل. وإن كان قد يمكن أن يكون مصيباً في ذلك لغة قديمة مع ما في كلامه من الفساد في غيره إلا أن هذا أضعف القياسين. والصواب أن يرد ذلك عليه ولا يتقبل منه. فعلى هذا مقاد هذا الباب فاعمل عليه.