نهج السلامة إلى مباحث الإمامة/المقصد/الباب الثالث في ذكر قول فاصل وكلام يميز بين الحق والباطل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
نهج السلامة إلى مباحث الإمامة - صنفه أبو الثناء الألوسي وأتمه حفيده محمود الألوسي
الباب الثالث في ذكر قول فاصل وكلام يميز بين الحق والباطل



الباب الثالث في ذكر قول فاصل وكلام يميز بين الحق والباطل


احتجاجهم بالآيات القرآنية على الإمامة

اعلم أن الشيعة استدلوا على مطلوبهم بالكتاب والسنة وأقوال العترة، والأدلة العقلية وبالمطاعن في الخلفاء الثلاثة رضي الله تعالى عنهم، على ما سيظهر لك ان شاء الله تعالى.

أمّا الكتاب فآيات أوردها أهل السنة في رد الخوارج والنواصب، فاخذوها وحرفوا بعض المقدمات وأوردوها فيما أوردوها، فمنها قوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } تقرير الاستدلال ان أهل التفسير أجمعوا على نزولها في حق الأمير كرم الله تعالى وجهه، إذ أعطى السائل خاتمه في حالة الركوع، وكلمة إنما للحصر، والولي المتصرف في الأمور، والمراد به هنا التصرف العام المرادف للإمامة بقرينة العطف، فثبتت إمامته وانتفت إمامة غيره للحصر وهو المطلوب.

الجواب: الحصر أيضا ينافي خلافة باقي الأئمة، ولا يمكن أن يكون إضافيا بالنسبة إلى من تقدمه، لأنّا نقول أن حصر ولاية من استجمع هذه الصفات لا يفيد إلا حقيقيا، بل لا يصح لعدم استجماع من تأخر، وان أجابوا بأن المراد الحصر للولاية في جنابه في بعض الأوقات، وهو وقت إمامته لا وقت إمامة الباقي، فمرحبا بالوفاق فإنا كذا نقول: هي محصورة فيه وقت إمامته لا قبله أيضا.

ودونك هذا التفصيل: فنقول أولا ما ذكرْ من إجماع أهل التفسير ممنوع، فقد روى أبو بكر النقاش صاحب التفسير المشهور عن محمد الباقر انها نزلت في المهاجرين والأنصار، وقال قائل: سمعنا في علي فقال هو منهم، وهذه الرواية أوفق بصيغة الجمع، وروى جمع من المفسرين عن عكرمة انها نزلت في أبي بكر ويؤيده الآية السابقة في قتال المرتدين، وأورد صاحب اللباب في التفسير أنها نزلت في شأن عبادة بن الصامت، إذ تبرأ من حلفائه الذين كانوا هودا على زعم عبد الله بن أبي، فأنه لم يتبرأ منهم، وهذا القول أنسب بسياق الآية وهو: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ }.

وقال جماعة من المفسرين ان عبد الله بن سلام لما اسلم هجرته قبيلته فشكى ذلك، وقال يا رسول الله أن قومنا هجرونا فنزلت هذه الآية، وهذا القول باعتبار فن الحديث أصح الأقوال، وأما القول الذي ذكروه، فإنما هو للثعلبي فقط، وقد قالوا فيه انه حاطب ليل.

هذا وثانيا ان لفظ الولي مشترك بين المحب والناصر والصديق والمتصرف في الأمور فالحمل على أحدها بدون قرينة لا يجوز والسباق لكونه في تقوية قلوب المؤمنين وتسليتها وإزالة الخوف عنها من المرتدين، والسياق من قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين... الآية، لأن أحدا لم يتخذ اليهود والنصارى أئمة لنفسه، وهم ما اتخذوا بعضهم بعضا إماما أيضا قرينتان على إرادة معنى الناصر والمحب كما لا يخفى، وكلمة إنما تقتضي هذا المعنى أيضا لأن الحصر في ما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع من المظان، ولم يكن بالإجماع وقت النزول تردد ونزاع في الإمامة والولاية بل كان في النصرة والمحبة.

وثالثا العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما هو عند الجميع، واللفظ عام ولا ضرورة إلى التخصيص، وكون التصدق في حالة الركوع لم يقع لغيره، غير داع له إذ القصة ليست مذكورة في الآية بحيث تكون مانعا من حمل الموصول وصلاته على العموم، بل جملة وهم راكعون عطف على السابق، وصلة للموصول أو حال من ضمير يقيمون، وعلى كل فالركوع الخشوع، وقد ورد كقوله تعالى: { وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ }، ولم يكن ركوع اصطلاحي في صلاة من قبلنا بالإجماع، وقوه تعالى: { وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ }، وليس في الاصطلاحي خرور، بل انحناء إلى غير ذلك من الآيات فهو معنى متعارف أيضا يصح الحمل عليه كما هو المقرر في محله.

وأيضا حمل الزكاة على التصدق كحمل الركوع على الخشوع، فالجواب هو الجواب، بل ذكر الركوع بعد إقامة الصلاة مؤيد لنا لئلا يلزم التكرار، وذكر الزكاة بعدها مضر لكم، إذ في عرف القرآن يكون المراد بها حينئذ الزكاة المفروضة لا الصدقة المندوبة، ولو حملنا الركوع على المشهور، وجعلت الجملة حالا من ضمير يقيمون لعمت المؤمنين أيضا لأنه احتراز عن صلاة اليهود الخالية من الركوع، وفي هذا التوجيه غاية لصوق بالنهي عن موالاة اليهود الوارد بعد.

وأيضا لو كان حالا من ضمير يؤتون، لم يكن فيه كثير مدح إذ الصلاة إنما تمدح إذا خلت عن الحركات المتعلقة بالغير وقطع صاحبها العلائق عما سوى الخالق المتوجه إليه، الواقف بين يديه، ومع هذا لا دخل لهذا القيد بالإجماع لا طردا ولا عكسا في صحة الإمامة، فالتعليق به لغو ينزه الباري تعالى عنه على أنها معارضة بما تقدم فافهم.

وتكلف صاحب ( إظهار الحق ) غاية التكلف، وتعسف نهاية التعسف، في تصحيح هذا الاستدلال وتنميق هذا المقال، فلم يأتِ إلا بقشور بلا لب، وظني انه بلا عقل ولب، فمن جملة ما قال ان الأمر بمحبة الله ورسوله يكون بطريق الوجوب والحتم لا محالة، فكذا الأمر بمحبة المؤمنين المتصفين بالصفات المذكورة أيضا يكون بطريق الوجوب، إذ الحكم في كلام واحد يكون موضوعه متحدا أو متعددا أو متعاطفا لا يمكن أن يكون بعضه واجبا، وبعضه مندوبا، إذ لا يجوز أخذ اللفظ في استعمال واحد بالمعنيين فهذا المقتضى تصير معدة للمؤمنين واجبة.

وثالثه لمودة الله ورسوله الواجبة على الإطلاق بدون قيد وجهة، فلو أخذ ان المراد بالمؤمنين كافة المسلمين، باعتبار أن من شأنهم الاتصاف بتلك الصفات لا يصح، لأن معرفة كل منهم يكون متعذرا لكل واحد من المكلفين فضلا عن مودتهم، وأيضا قد تكون العادات لمؤمن بسبب من الأسباب مباحة، بل واجبة، فالمراد به البعض وهو المرتضى، انتهى.

وهو كلام الوقاحة تفور منه، والجهالة تروى عنه، إذ مع تسليم المقدمات أين اللزوم بين الدليل والمدعي؟، وإذا تعذر العام كيف يتعين الأمير وهو المتنازع فيه، واستنتاج المتعين من المطلق وقاحة وجهل محض كما لا يخفى؛ ثم نقول لا يخفى على من له أدنى تأمل ان مولاة المؤمنين من جهة الإيمان عام بلا قيد ولا جهة وهي موالاة إيمانهم في الحقيقة والعداوة بسبب غير ضار في الموالاة من جهة الإيمان.

ثم ماذا يقول في قوله تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ }، ولو كانت الموالاة الإيمانية عامة لجميع المؤمنين، فأية استحالة تلزمها والملاحظة الإجمالية للكثرة بعنوان الوحدة لا شك في إمكانها، ألا ترى أنهم يقولون كل عدد فهو نصف مجموع حاشيتيه، وكذا يقولون كل حيوان حساس، والكثرة فيهما ظاهرة، وليت شعري ما جوابه عن معادات الكفار، وكيف الأمر فيها؟ وهي هي كما لا يخفى.

نعم المحذور كون الموالاة الثلاثة في مرتبة واحدة كافيا وليس فليس، إذ الأول أصل، والثاني تبع والثالث تبع له، فالمحمول مختلف والموضوع كذلك، لأن الولاية من الأمور العامة، وكالعوارض المشككة والعطف موجب للتشكيك في الحكم لا في جهته، فالباري تعالى وما سواه موجود في الخارج والوجوب والإمكان ملاحظ، وهذا قوله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي } مع أن الدعوة واجبة على الرسول مندوبة في غيره وعليه الأصوليون، وإن نزلنا عن هذا أيضا فالأظهر أن اتحاد نفس الوجوب ليس محذورا، بل المحذور الاتحاد في المرتبة والأصالة وهو غير لازم، فتدبر.

ومن جملة ما قال: إنه يظهر من بعض أحاديث أهل السنة أن بعض الصحابة التمسوا من حضرة النبي الاستخلاف، كما ذكر في مشكاة المصابيح عن حذيفة: « قالوا: يا رسول الله لو استخلفت، قال: لو استخلفت عليكم فغصبتموه عذبتم، ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه، وما أقرأكم عبد الله فأقرؤه »، رواه الترمذي، وهكذا استفسروا منه من يكون حريا بالإمامة أيضا.

وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: « قيل يا رسول الله من يؤمر بعدك، قال إنْ تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينا في الدنيا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وإن تؤمروا عمر تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عليا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الصراط المستقيم »، رواه أحمد، وهذا الالتماس والاستفسار يقتضي كل منهما وقوع التردد في حضوره عند نزول الآية، فلم يبطل مدلول ( إنما ) انتهى.

وفيه محض الاستفسار لا يقتضي وقوع التردد، نعم لو كانوا شاوروا في هذا الأمر وخالفوا ونازع بعضهم بعضا بعد ما سمعوا من النبي لتحقيق المدلول وليس فليس، ومجرد السؤال غير مقتضٍ ل ( إنما ) على ما في كتب المعاني، وأيضا سلمنا التردد لكن لم يعلم أنه بعد الآية أو قبلها متصلا أو منفصلا سببا للنزول، أو اتفاقا، فلا بد من إثبات القبلية والاتصال والسببية، وأين ذلك؟ والاحتمال غير كاف في الاستدلال فلا تغفل.

وليعلم أن الحديث الثاني ينافي الحصر؛ لأنه في مقام السؤال عن المستحق للخلافة ذكر الشيخين، فكيف الحصر فإن كانت الآية متقدمة لزم مخالفة الرسول القران أو بالعكس لزم التكذيب، والنسخ لا يعقل في الأخبار على ما تقرر، ومع هذا تقدم كل مجهول فسقط العمل، وإن قيل الحديث خبر الواحد غير مقبول في الإمامة، قلنا وكذلك لا يصح في مقام إثبات التردد والاستدلال به، وأيضا الاستدلال بالآية موقوف عليه فافهم، وأيضا الحديث الأول يفيد أن ترك الاستخلاف أصلح فتركه كما يفهم من الآية تركه، فتأمل.

ومنها قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }، تقرير الاستدلال أن المفسرين اجمعوا على نزول هذه الآية في حق علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم، وهي تدل على عصمتهم دلالة مؤكدة وغير المعصوم لا يكون إماما، ولا يخفى أن المقدمات كلها مخدوشة، أما الأولى فلكون الإجماع ممنوعا.

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: « أنها نزلت في نساء النبي  »، وروى ابن جرير عن عكرمة: « أنه كان ينادي في الأسواق أن قوله تعالى: إنما يريد الله... الآية، نزلت في نساء النبي  »، والسياق والسباق يشهدان له.

على أن ذكر حال الغير في أثناء خطاب الأزواج بهذه الصورة مناف للبلاغة، وأيضا إضافة البيوت إلى الأزواج، أعني قوله ( في بيوتكن ) تدل على ان المراد بأهل البيت، إنما هو الأزواج المطهرات إذ بيته لا يمكن أن يكون غير ما سكن فيه أزواجه.

وقال عبد الله المشهدي: إن كون البيوت جمعا في ( بيوتكن )، وإفراد البيت في ( أهل البيت ) يدل على الغيرية، وفساد هذا ظاهر لأن بيت اسم جنس يطلق على القليل والكثير والإفراد باعتبار الإضافة إلى النبي ، فالبيوت بهذا الاعتبار بيت، والجمع في بيوتكن باعتبار الإضافة إلى الأزواج، ثم قال لا يبعد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه، فاصل وإن طال كما في قوله تعالى: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ }، ثم قال بعد تمام الآية: وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة )، قال المفسرون ( وأقيموا الزكاة ) عطف على ( أطيعوا )، انتهى.

وفيه غفلة عن محل النزاع إذ الكلام في الفصل بالأجنبي باعتبار المواد، وهو المنافي للبلاغة لا الأجنبي من حيث الإعراب على أن في عطف ( وأقيموا ) على ( وأطيعوا ) بحثا؛ لأنه وقع واطيعوا أيضا بعد ( أقيموا ) فيلزم التكرار، وعطف الشيء على نفسه ولا احتمال للتوكيد لوجود حرف العطف، ثم قال كلاما لا ينبغي لنا ذكره هنا.

وأما إيراد ضمير جمع المذكر في ( عنكم ) فبملاحظة لفظ ( الأهل ) كقوله تعالى خطابا لسارة امرأة الخليل: { أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ }، وكذا { قال لأهله امكثوا }.. الآية خطابا من موسى لامرأته.

وما روى في سنن الترمذي والصحاح الأخر أن رسول الله : « دعا هؤلاء الأربعة ودعا لهم اللهم هؤلاء أهل بيتي، فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وقالت أم سلمة: أشركني فيهم أيضا، قال: أنت على خير وأنت على مكانك »، فهو دليل صريح، وناطق فصيح على أن نزولها في حق الأزواج فقط.

وقد أدخل النبي هؤلاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم أيضا بدعائه المبارك في تلك الكرامة، ولو كان نزولها في حقهم لكان تحصيلا للحاصل كذا قالوا، ولكن ذهب محققوا أهل السنة إلى هذه الآية لو كانت واقعة في حق الأزواج، ولكن بحكم العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب دخل في البشارة الجميع، واختيار الأربعة هربا من توهم الاختصاص بالأزواج بمعونة القرائن كالسباق واللحاق.

وما قال عبد الله المشهدي: أن المراد بالبيت بيت النبوة، ولا شك في أن أهل البيت لغة شامل للخدام من الإماء اللاتي يسكن في البيت، وليس المراد هذا بالاتفاق، فالمراد أهل العبا الذين خصصهم حديث الكساء، ففيه ان هذه التوسعة لا تضر أهل السنة؛ لأن العصمة بالمعنى الذي يقول بها الشيعة لا يثبتونها، والغير غير ضار، وأيضا عدم كون هذا مرادا من أجل أن القرائن تعين المراد، وأيضا يخصص العقل هذا اللفظ باعتبار العرف والعادة يمكن يسكنون في البيت لا بقصد الانتقال، ولم يكن التحول والتبدل جاريين عادة فيهم كالأزواج والأولاد دون العبيد والخدام الذين هم في معرض من التبدل والتحول من ملك إلى ملك بالهبة والبيع وغير ذلك ثَمَّ، وإنما يدل التخصيص بالكساء على كون هؤلاء المذكورين مخصصين لو لم يكن للتخصيص فائدة أخرى وهي ظاهرة فتدبر.

وأمّا الثانية فلأن دلالة هذه الآية على العصمة مبنية على أبحاث أحدها كون كلمة ( ليذهب عنكم الرجس )، أي محل لها مفعول له ليريد أدبه، الثاني معنى أهل البيت، الثالث أي مراد من الرجس، وفي هذا المباحث كلام كثير، يطلب من الكتب المبسوطة في التفسير، وبعد اللتيا والتي لو كانت هذه الكلمة مفيدة للعصمة ينبغي أن يكون الصحابة لا سيما البدريين قاطبة معصومين، لأن الله تعالى في حقهم تارة: ولكن يريد ] لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }، وتارة ] لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ }، وظاهر أن تمام النعمة في حق الصحابة كرامة زائدة بالنسبة إلى ذينك اللفظتين، ووقوع هذا الإتمام أدل على عصمتهم لأن إتمام النعمة لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان فتأمل فيه تأملا صادقا، فيظهر حقيقة الملازمة وبيان وجهها وبطلان اللازم مع فرض صدق المقدّم.

وأما الثالثة فلأن غير المعصوم لا يكون إماما مقدمة باطلة، وكلمة عاطلة، يدرئها الكتاب، وكلام رب العزة المستطاب، فتذكر ولا تغفل وتبصر.

ومنها قوله تعالى: { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }، فانها لما نزلت قالوا: « يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم، قال: علي وفاطمة وابناهما رضي الله تعالى عنهم »، فآل البيت واجبوا المحبة، وكل من كان كذلك فهو واجب الطاعة، فعلي واجب الإطاعة وهو معنى الإمام، وغير علي لا تجب محبته فلا تجب طاعته.

وأجيب أولا بأن المفسرين اختلفوا في هذه الآية، فالطبراني والإمام أحمد، رويا عن ابن عباس هكذا، ولكن ضعّف ذلك الجمهور فإن السورة بتمامها مكية، ولم يكن هنالك الإمامان وما كان علي متزوجا بفاطمة.

وروى أن القربى من بينه وبين النبي قرابة، وجزم قتادة والسدي الكبير وسعيد بن جبير، وأختاره جمع، و[ ذهب ] الإمام الرازي بأن معنى الآية: « إني لا أسألكم على الدعوة والتبليغ، إلا المودة والمحبة بي لأجل قرابتي بكم ».

وهذه الرواية في صحيح البخاري موجودة عن ابن عباس: « وما في بطن قريش إلا وقد كان للنبي قرابة بهم فيذكرّهم تلك القرابة » لأداء الحقوق، فالاستثناء والمعنى منقطع.

وهذا المعنى هو المناسب لشأن النبوة، لأن الأغراض الدنيوية ليست من شيم الأنبياء، قال تعالى: { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ }، وقال تعالى: { وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ }، وقال تعالى: { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ }، والآيات كثيرة.

وثانيا: لا نسلّم الكبرى، وهي كل واجب المحبة، فهو واجب الإطاعة، وكذا لا نسلم كل واجب الإطاعة صاحب الإمامة والرئاسة الكبرى، وأما الأول فلأنه لو كان وجوب المحبة مستلزما لوجوب الطاعة لكن العلويون كذلك لوجوب محبتهم، كما ذكره ابن بابويه في ( كتاب الاعتقادات )، ولكانت الزهراء إماما، بل ولكان الأربعة أئمة في عهد النبي واللوازم باطلة.

وأما الثاني فلأنه يلزم أن يكون كما نبي في زمانه صاحب الرئاسة الكبرى كاشمويل وغيره، وهو ظاهر البطلان.

وأما الثالث: فلا نسلم انحصار وجوب المحبة في المذكورين عندنا، بل أبو بكر وعمر وعثمان كذلك، بالروايات الصحيحة والدليل إلزامي، فلا بد من ملاحظة جميع روايات أهل السنة، ولا تكفي الواحدة وان الحوّاء، فقوله تعالى: يحبهم ويحبونه يشهد لنا، لأنه في حق القائلين وهؤلاء رؤسائهم والمحبوب واجب المحبة هنا، ثم لا يخفى أن التقريب غير تام، لأن النتيجة شيء والمدعي شيء آخر، وأين العام من الخاص، وهذا المطلوب لا ذاك، فتدبر.

ومنها قوله تعالى: { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ... الآية }، فانه لما نزلت خرج النبي خارجا من منزله آخذا بيده الشريفة أهل العباء وهو يقول: إذا دعوت فأمّنوا، فعلم أن المراد بالأبناء الحسن والحسين وفاطمة وبالنفس الأمير.

وظاهر استحالة الحقيقة، فالمراد المساواة فمن كان مساويا للأفضل فهو أولى بالتصرف بالضرورة، فهو الإمام لا غيره، وهذا أحسن تقريرهم في الآية، كما لا يخفى على المتتبع، وللنواصب فيه كلام كثير ليس هذا محله.

وفي هذا الدليل نظر، أمّا أولا فلا نسلم أن المراد بأنفسنا الأمير، بل نفسه الشريفة والإمام داخل في الأبناء حكما كالحسنين والعرف يعد الختن ابنا من غير ريبة، والمنع مكابرة، والاعتراض بأن الشخص لا يدعو في غاية الضعف، فقد شاع وذاع قديما وحديثا دعته نفسه، ودعوت نفسي: { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ }، وشاورت نفسي إلى غير ذلك.

وأيضا لو قررنا الأمير من الأمير من قبل النبي لمصداق أنفسنا فمن نقررّه من جهة الكفار لمصداق أنفسكم مع الاشتراك في ندعو إذ لا معنى لدعوة النبي إياهم وأبنائهم بعد قوله تعالوا، وأيضا قد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين، قال تعالى: { تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي أهل دينهم، { وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ }، { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا }، فللقرب والألفة عبر بالنفس فلا يلزم المساواة، كما في الآيات.

وأما ثانيا فلزوم المساواة في جميع الصفات بديهي البطلان، لأن التابع دون المتبوع، وفي البعض لا تفيد المساواة في بعض صفات الأفضل والأولى بالتصرف لا تجعل من هي له أفضل وأولى بالتصرف بالضرورة، فليتدبر.

ومنها قوله تعالى: { إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }، قالوا: ورد في المتفق عليه عن ابن عباس عن النبي أنه قال: « أنا المنذر وعلي الهادي »، ولا يخفى ضعفه، مع انه رواية الثعلبي ولا اعتبار لمروياته في التفسير.

وأيضا لا دلالة له على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه، ونفيها عن غيره أصلا، لأن كون رجل هاديا لا يستلزم أن يكون إماما، نعم الإمامة بمعنى القدوة مراده، وليست محل النزاع، قال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير الآية.

ومنها قوله تعالى: { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ }، قالوا: روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا انه قال: « وقفوهم إنهم مسؤلون عن ولاية علي رضي الله تعالى عنه »، ولا يخفى إن هذا النحو من التمسك بالروايات لا بالآيات، وفي هذه الروايات كلام قوي لا سيما هذه، على أن نظم القران مكذّب لها؛ لأن هذا الحكم في حق المشركين، بدليل: { وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }، وما هم وعلي؟

وأيضا النظم يدل على أن السؤال عن مضمون الجملة الاستفهامية، وهي: { مَا لَكُمْ لا َتَنَاصَرُونَ } فقط، ولهذا اجمعوا على ترك الوقوف على ( مسؤلون )، ولئن سلمنا لكن المراد بالولاية المحبة، بدليل رواية الواحدي في تفسيره عن ولاية علي وأهل البيت، وظاهر أن جميع أهل البيت لم يكونوا أئمة، سلمنا أنها الزعامة الكبرى، لكن المفاد اعتقادها في وقت من الأوقات، وهذا هو مذهبنا لا مذهبكم، فأين التقريب؟.

ومنها قوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ }، قالوا: روى عن ابن عباس مرفوعا أنه قال: « السابقون ثلاثة فالسابق إلى موسى يوشع بن نون، والسابق إلى عيسى صاحب ياسين، والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب ».

ولا يخفى ان هذا تمسك بالحديث، ومدار إسناده على أبي الحسن الأشقر وهو ضعيف بالإجماع، قال العقيلي: « هو شيعي متروك الحديث »، فالحديث منكر بل موضوع، وأمارات الوضع عليه لائحة، لأن صاحب ياسين لم يكن أول من آمن بعيسى بل برسله، كما دل عليه النص، وكل حديث يناقض مدلول الكتاب من الأخبار فهو موضوع، كما هو مقرر في محله.

وأيضا انحصار السباق في ثلاثة غير معقول، فلكل نبي سابق لا محالة، وأيضا أية ضرورة أن يكون كل سابق إماما؟ وأيضا لو صحت الرواية لنا قضت قوله تعالى في حق السابقين: { ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ }، والثلة الجمع الكثير، ولا يمكن إطلاق الجمع الكثير على اثنين، ولا القليل على الواحد أيضا، فعلم أن المراد بالسبق من الآية عرفي أو إضافي شامل للجماعة الكثيرة، لا حقيقي بدليل: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ }، والقرآن يفسر بعضه بعضا.

وأيضا الثابت بالإجماع أن أول من آمن خديجة رضي الله تعالى عنها، فلو كان مجرد السبق كافٍ لصحة الإمامة لزم إمامتها وهو باطل، فإن قلت: قد تحقق المانع فيها وهو الأنوثة، قلنا أيضا: المانع متحقق وهو وجود الثلاثة، الذين كانوا أصلح للرئاسة من جنابه عند الجمهور.

هذا فانظر أيها المنصف الرشيد والفطن اللوذعي المجيد إلى حال هؤلاء، جند الأهواء، قد نسجت غشاوة المتعصب على أبصارهم فهم عمون، وحلت غواية الشيطان في قلوبهم فهم في بيداء الضلالة يهرعون، استدلوا بما استدلوا، وحلوا عقال التثبت إذ خلو بلاقع الزيغ ولم يعقلوا، فدونك أدلةً سموم البطلان يهب من أرجائها ورسومها، وخلب البرق تلوح في خلال غمومها وغيومها، مع أنها أقوى دلائلهم في هذا المقام، وأعلى وأغلى تحريراتهم في صنوف الكلام وقد كفيت شرها وأمنت حربها، والحمد لله على ما أولاه.

احتجاجهم بالأحاديث النبوية على الإمامة

وأما السنة، فأحاديث منها حديث الغدير، إذ أخذ بيد الأمير وقال: « يا معشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم، قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه ».

قالوا: إن المولى بمعنى الأولى بالتصرف وهذا عين الإمامة، فنقول أولا: لم يثبت كون المولى بمعنى الأولى، بل لم يجيء قط المفعل بمعنى أفعل أبدا، إلا ان أبا زيد اللغوي جوزه متمسكا بقول أبي عبيدة في تفسير: هي مولاكم؛ أي أولى بكم، وقد خطئوه قائلين، لو صح هذا لصح أن يقال مكان فلان أولى منك مولى، وهذا باطل منكر إجماعا، والتفسير بيان حاصل المعنى وهو النار مقركم ومصيركم.

وثانيا لو كان المولى كما ذكروا فمن أي لغة ينقل ان صلته بالتصرف، فلا يحتمل بالمحبة والتعظيم، وأية ضرورة في كل ما نسمعه نحمله على ذلك، قال تعالى: { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا }، وظاهر ان اتباع إبراهيم لم يكن أولى بالتصرف.

وثالثا: القرينة البعدية تدل على أن المراد الأولى بالمحبة، وهي اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، وإلاّ لقال: اللهم والِ من كان في تصرفه معه، وعاد من لم يكن كذلك، ولما ذكر المحبة والعداوة، والرسول أعلم الناس وأفضلهم، وقد بيّن لهم الواجبات أتمّ تبيين، وهذه المسألة عمدة الدين، فلم لم يفصح بالمراد، وإرشاد العباد، ويقول: « يا أيها الناس علي ولي أمري، والقائم عليكم بعدي، اسمعوا واطيعوا »، قلت ومثل هذا نقل عن السبط الأكبر.

وأما تخصيص الإمام بالذكر، فلما علمه لوقوع الفساد والبغي في خلافته، وإنكار بعض الناس إمامته، وقد تمسك بعض علماء الشيعة على إثبات المراد بالمولى، الأولى بالتصرف باللفظ الواقع في صدر الحديث، وهو قوله: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهذا الكلام هو القديم، وعين الدعوى، فأي حاجة إلى هذا الحمل؟ بل هو ههنا أيضا بمعنى الأولى بالمحبة.

وحاصل المعنى يا معشر المسلمين: إنكم تحبوني أزيد من أنفسكم كذلك أحبوا عليا، اللهم أحب من يحبه، وعاد من يعاديه، وهذا الكلام، بمقام من الانتظام، وهذا اللفظ قد وقع في غير موضع بحيث لا يناسب معنى الأولى بالتصرف، كقوله تعالى: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } والسوق شاهد كما لا يخفى.

ولو فرضنا كون الأولى في صدر الحديث بمعنى الأولى بالتصرف أيضا، لا يكون حمل المولى على ذلك مناسبا، إذ يحتمل أن يراد تنبيه المخاطبين بهذه العبارة ليستمعوا بإذن واعية وقلوب غير لاهية، وليعلموا إنه أمر إرشادي واجب الإطاعة، كما أن الأب يقول لأبنائه في مقام الوعظ والنصيحة: ألست أباكم فافعلوا كذا، فمعنى ألست أولى بالمؤمنين: ألست رسول الله إليكم أو ألست بنبيكم؟، والربط حاصل بهذه العبارة كما هو ظاهر.

ومن العجب أن بعض المدققين منهم أورد دليلا على نفي معنى المحبة، وهو أن محبة الأمير كرم الله تعالى وجهه أمر معاد، حيث كان ثابتا في ضمن آية: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ }، فلو أفاد هذا الحديث ذلك المعنى أيضا كان لغوا، ولا يخفى فساده، إذ فرق بيّن بين بيان محبة أحد في ضمن عموم، وبين إيجاب محبته بخصوصه.

مثلا لو آمن أحد بجميع الأنبياء والرسل، ولم يتعرض لاسم محمد في الذكر، لم يكن إسلامه معتبرا، على أن وظيفة النبي تأكيد مضامين القرآن، قال تعالى: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }، وعلى ما قيل أن يكون التأكيدات من النبي في باب الصلاة والزكاة مثلا لغوا والعياذ بالله تعالى، وبلغوا أيضا التأكيد في التنصيص على إمامة الأمير، وقد قالوا به.

وسبب الخطبة على ما ذكره المؤرخون يدل صراحة على أن المراد المحبة، وذلك أن جماعة كانوا مع الأمير في سفر اليمن كبريدة الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما، فلما رجعوا شكوا عليا ولم يحمدوا سيرته، ولم يحسنوا سريرته، فلما أحس النبي بذلك، خطب هذه الخطبة العامة دفعا للكلام، ودرأ لسائر الأوهام، وممن أورد القصة مفصلة محمد بن إسحاق، وقد ذكرها غيره أيضا، فليتأمل.

ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أنه عليه الصلاة والسلام: « لما استخلف الأمير كرم الله تعالى وجهه في غزوة تبوك على أهل بيته من النساء والبنات قال الأمير: يا رسول الله أتخلفني في النساء والصبيان، فقال له النبي أما ترضى أن تكون بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ».

قالوا: إن المنزلة اسم جنس مضاف للعَلَم، فيعم جميع المنازل لصحة الاستثناء، وإذا استثنى مرتبة النبوة، فثبت للأمير جميع المنازل الثابتة لهارون، ومن جملتها صحة الإمامة وافتراض الطاعة أيضا لو عاش بعد موسى؛ لأن ذلك له في عهد موسى، فلو انقطعت بعده لزم العزل، وهو محال للزوم الإبانة المستحيلة، فثبتت المرتبة للأمير أيضا وهي الإمامة.

هذا واعترضه النواصب [ قالوا: هذا لا يدل إلا على استخلاف خاص على أهل البيت، وإلا لما قرر النبي عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة محمد بن مسلمة عاملا في المدينة، وسباع بن عرفطة عساسا فيها، وابن أم مكتوم [ إماما ] للصلاة في مسجده بإجماع أهل السير، ويرد بما لا أظنه يخفى، فتدبر ]، وهو مع جوابه في المطولات.

ونحن نقول فيه اختلاف من وجوه، أما أولا فلأن اسم الجنس المضاف إلى العَلَم ليس من ألفاظ العموم عند جميع الأصوليين، بل هم صرحوا بأنه في نحو غلام زيد للعهد، وكيف يمكن العموم في ركبت فرس زيد، ولبست ثوبه غاية الأمر الإطلاق، وللعهد هنا قرينة أتخلفني... الخ.

فالاستخلاف كالاستخلاف فينقطع انقطاعه ولا إهانة وهو واضح، والاستثناء لا يكون دليل العموم، إلا إذا كان متصلا وهنا منقطع لفظا للجملية، ومعنى للعدم وهو ليس من المنازل، وأيضا بالعموم والاتصال يلزم كذب المعصوم، إذ من المنازل ما لا شك في انتفائه كالاسنية والأفطحية، والشركة في النبوة والأخوة النسبية وأين هذا من الأمير؟.

ثانيا: فلانّا لا نسلم أن الخلافة بعد موت موسى كانت من جملة منازل هارون؛ لأنه كان نبيا مستقلا، ولو عاش لبقي كذلك، وأين النبوة من الخلافة، وهل هذا الاستدلال إلا من السخافة؟

وأما ثالثا: فلأن ما قالوا من إنه لو زالت هذه المرتبة من هارون لزم العزل وهو باطل، إذ لا يقال لانقطاع العمل عزل لغة وعرفا، ولا يفهم أحد من مثله إهانة كما لا يخفى على المنصف، وأيضا تشبيه الأمير بهارون المستخلف في الغيبة الثابت خلافة ما سواه كيوشع بن نون وكالب بن لوقنا بعد الوفاة، يقتضي بموجب التشبيه الكامل عدم خلافة الأمير بعد الوفاة أيضا، فتدبر.

ولو تنزلنا عن هذا كله قلنا أين الدلالة على نفي إمامة الثلاثة ليثبت المدّعى؟ غاية ما يثبته الحديث الاستحقاق، ولو في وقت من الأوقات، وهو عين مذهب أهل السنة، فالتقريب غير تام، والله تعالى أعلم.

ومنها ما رواه بريدة مرفوعا أنه [ قال ]: « ان عليا مني وأنا من علي، وهو ولي كل مؤمن بعدي »، نقول هذا الحديث باطل لأن في إسناده أجلح وهو شيعي متهم في روايته، على أنه غير مفيد، إذ البعديّة تحتمل الاتصال والانفصال، فهي مطلقة فلا يثبت المدعى، فافهم.

ومنها ما رواه أنس بن مالك أنه كان عند النبي طائر [ قيل إنه نهار، وقيل إنه حبارى، وقيل حجل ] قد طبخ له واهدي إليه، فقال : « اللهم ائتني بأحب الناس إليك يأكل معي، فجاءه علي »، نقول قد حكم أكثر المحدثين بوضع هذا الحديث، وممن صرح به الحافظ شمس الدين الجزري، وشمس الدين الدمشقي الذهبي في تلخيصه.

ومع هذا غير مفيد للمدعي؛ لأن القرينة تدل على أن المراد بأحب الناس الأحب في الأكل، ولا شك أن الأمير كان أحبهم في هذا الوصف، لأن أكل الولد أو من في حكمه مع الأب موجب لتضعاف اللذة، كما لا يخفى على من له ذوق. ولو سلمنا الإطلاق فلا نسلم كون الأحب إلى الله تعالى هو صاحب الرئاسة العامة وهكذا زكريا ويحيى يشهدان لنا، وكذا اشمويل الذي كان طالوت في زمنه صاحب الرئاسة بالنص ينادي بهذا.

وأيضا يحتمل أن يكون المراد بمن هو من أحب الناس إليك بطريق التبعيض، وهو كثير كقولهم: فلان أعقل الناس وأعلمهم، وأيضا يحتمل غيبة أبي بكر، إذ ذاك وسؤال الخارق إنما هو عند التحدي لا غير، وإلا لما احتاج في الحرب والقتال إلى السلاح والرجال، فتدبر.

وأيضا لا يقام حديث: « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ».

ومنها ما رواه جابر عن النبي : « أنا مدينة العلم وعلي بابها »، نقول هذا الحديث مطعون، قال يحيى بن معين: لا أصل له، وقال البخاري: انه منكر وليس له وجه صحيح، وقال الترمذي: انه منكر غريب، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد هذا الحديث لم يثبتوه، وقال الشيخ محي الدين النواوي والحافظ شمس الدين الذهبي، والشيخ شمس الدين الجزري إنه موضوع، فالتمسك بالأحاديث الموضوعة التي أخرجها أهل السنة عن حيز الاحتجاج، والتمسك بها في مقام إلزامهم دليل صريح على قلة فقه الشيعة.

ومع هذا غير مفيد لمدعاهم، إذ لا يلزم أن من كان باب مدينة فهو صاحب الرئاسة العامة بلا فصل، غاية الأمر أن شرطا من شرائط الإمامة قد تحقق فيه بوجه من الوجوه، ولا يلزم من تحقق شرط واحد تحقق المشروط بالشروط الكثيرة، مع أن هذا الشرط كان ثابتا في غيره أيضا أزيد منه برواية أهل السنة مثل: « ما صبّ الله في صدري إلا صببته في صدر أبي بكر »، ونحو: « لو كان بعدي نبي لكان عمر »، فلا بد من ملاحظة جميع الروايات ليحصل الإلزام، ولا يكفي الرواية الواحدة فيه كما لا يخفى.

ومنها ما رواه الإمامية مرفوعا أنه قال: « من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في بطشه، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب »، وجه التمسك أن مساواة الأمير للأنبياء الكبار في صفاتهم الجليلة قد علمت، والأنبياء أفضل من غيرهم، والمساوي للأفضل أفضل، فيكون علي أفضل من غيره، والأفضل متعين للإمامة.

وفيه إما أولا: فلأن هذا الحديث ليس من أحاديث السنة بل أورده الحلي في كتبه، وينسبه تارة للبيهقي، وتاره للبغوي، وليس في كتبهما أثر منه، أفبالافتراء يحصل الإلزام؟ وبالبهتان ينال المرام؟ وقد أوجب أهل السنة لقبول الحديث في غير الكتب الصحاح التنصيص من الثقة على صحته، فبمثل هذا لا يلزمون، ونحوه لا يعبئون، وأما ثانيا فهو محض تشبيه، بلا شك ولا تمويه، كقوله:

لا تعجبوا من بلا غلالته ** وقد زرّ أزراره على القمر

وقال المتنبي:

نَشَرَتْ ثَلاثَ ذَوائِبٍ من شَعْرِها ** في لَيْلَةٍ فَأرَتْ لَيَاليَ أرْبَعَا

واستَقْبَلَتْ قَمَرَ السّماءِ بوَجْهِها ** فأرَتْنيَ القَمَرَينِ في وقْتٍ مَعَا

وأقل ما يلزم مما لا بد منه الاستعارة، ومبناها على التشبيه وفهم المساواة منه كمال حماقة بها فيدعي مساواة الكف للبرق فيقوله:

أَرَى بارِقا بالأَبْرَقِ کلْفَرْدِ يُومِضُ ** يُذَهِّبُ ما بَيْنَ کلدُّجى وَيُفَضِّضُ

كَأَنَّ سُلَيْمى مِنْ أَعاليهِ أَشْرَقَت ** تَمُدُّ لَنا كَفًّا خَضيبا وَتقْبِضُ

على أنه روي عند أهل السنة تشبيه أبي بكر بإبراهيم، وتشبيه عمر بنوح وموسى، رواه الحاكم عن ابن مسعود وصححه في قصة مشاورة النبي لهما في أسارى بدر، فإنه قال: « إن هؤلاء كانوا مثل أخوة لكم كانوا من قبلهم، قال نوح: { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا }، وقال موسى: { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } الآية، وقال إبراهيم: { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }، وقال عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم ُ } ».

وأما ثالثا: فلأن مساواة الأفضل في صفة لا تكون موجبة لأفضلية المساوي؛ لأن ذلك الأفضل له صفات أخرى قد صار بسببها أفضل. وأما رابعا فلأن الأفضلية ليست موجبة للزعامة الكبرى كما مر غير مرة. وأما خامسا فكتب العلم ملئ من مثل هذه الأحاديث في حق الشيخين، فلا يثبت التفضيل، فتصفح والله تعالى الهادي.

ومنها ما روى عن أبي ذر الغفاري أنه قال: « من ناصب عليا في الخلافة فهو كافر »، نقول هذا لا أثر لهذا الأثر في كتب أهل السنة، بل نسب ابن المطهر الحلي روايته إلى الأخطب الخوارزمي، والحلي خوّان في النقل، والأخطب من الغلاة الزيدية، ومع هذا لم يرَ في كتابه المؤلف في مناقب الأمير، وعلى التسليم لا اعتبار به لمخالفته الأحاديث الصحاح المروية في كتب الإمامية من نحو قول الأمير: « أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج »، ولئن اعتبر مضمونه لا يتحقق إلا إذا طلب الأمير الخلافة وانتزعت عن يده، وهو لم يطلبها في زمن الثلاثة؛ لأنه كان مأمورا بالسكوت والتقية كما هو محرر في كتب الإمامية.

وأيضا قد سمى الله تعالى منكر خلافة الثلاثة في آية الاستخلاف كافرا قال تعالى: { وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ }، والمعنى من أنكر خلافة أولئك بعد استماع الآية والعلم باستخلافهم فأولئك هم الكاملون في الفسق، والكامل فيه هو الكافر كما لا يخفى فتدبر.

ومنها ما رووه أن الرسول قال: « كنت أنا وعلي بن أبي طالب نورا بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله تعالى آدم قسّم ذلك النور جزئين، فجزء أنا وجزء علي بن أبي طالب ».

هذا الحديث موضوع بإجماع أهل السنة، وفي إسناده محمد بن خلف المروزي، قال يحيى بن معين: هو كذاب، وقال الدارقطني: متروك لم يختلف في كذبه، ويروى من طريق آخر وفيه جعفر بن أحمد، وكان رافضيا غاليا كذّابا وضاعا.

وأيضا قد ثبت اشتراك الخلفاء مع علي في رواية أحسن من هذه، وهي ما رواه الإمام الشافعي بإسناده عنه انه قال: « كنت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألف عام، فلما خلق أسكنا ظهره ولم نزل نتنقل في الأصلاب الطاهرة، حتى نقلني الله تعالى إلى صلب عبد الله، ونقل أبا بكر إلى صلب أبي قحافة، ونقل عمر إلى صلب الخطاب، ونقل عثمان إلى صلب عفان، ونقل عليا إلى صلب أبي طالب ».

وبعد اللتيا والتي لا يدل على المدعى أصلا؛ لأن اشتراك الأمير في النور لا يستلزم وجوب إمامته بلا فصل فليبينوا، ودونه خرط القتاد ولا بحث لنا في قرب النسب، وإنما الكلام في أن ذلك القرب موجب للإمامة بلا فصل أم لا، فلو كان مجرد القرب في النسب موجبا للتقدم في الإمامة، لكان العباس أولى بالإمامة كما لا يخفى؛ فإن العباس لحرمانه من النور لم يحصل له لياقة الإمامة، قلنا إن كان مدار التقدم في الإمامة على قوة النور وكثرته فالحسنان حينئذ أولى من الإمام.

أما القوة فلأن حصة النبي وصلت إليهما فلا شك في قوتها، وأما الكثرة فلأنهما كانا جامعين لنوري النبي والأمير كرم الله تعالى وجهه وهذا ظاهر.

احتجاجهم بالأحاديث النبوية على الإمامة (2)

ومنها ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن النبي قال يوم خيبر: « لأعطينّ الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يده ».

وهذا الحديث على الرأس والعين لكن أي الملازمة بين المحبة والإمامة بلا فصل، وأيضا هذا الإثبات له لا ينفي عمّا عداه، كيف وقد قال تعالى في الصديق ورفقائه يحبهم ويحبونه، وفي أهل بدر: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ }، ومحبوب الله محبوب الرسول ، وفي أهل مسجد قبا: { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ }، وقال لمعاذ فقال: « إني احبك فقل... ».

ولما سئل: « من أحب النساء؟، قيل: عائشة ومن الرجال؟ قال: أبوها »، والتخصيص هنا باعتبار المجموع أو دفعا لشبهة أن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، أو للتمهيد بالمشترك كما تقول العرب فإني رجل عاقل، مع ان المقصود إثبات العقل دون الرجولية، فافهم.

ومنها: « رحم الله عليا دار الحق معه حيث دار »، هذا مسلم أيضا لكن أين الإمامة بلا فصل، وقد جاء في حق عمار بن ياسر: « الحق مع عمار حيث دار »، في عمر: « الحق بعدي مع عمر حيث كان »، والتفاوت بيّن، سيما عند الشيعة من أنّ الدعاء منه غير لازم الإجابة، فقد دعا ربه بجميع أصحابه على صحبة علي فلم يحصل كما رواه ابن بابويه القمي، على أن البعض قد استدل بهذا الحديث على صحة خلافة الثلاثة بقياس المساواة، وهو الحق مع علي وعلي مع الثلاثة، فالحق معهم ودليل الكبرى صلاته معهم، ولم يثبت القضاء ومبايعته لهم ونصحه في أمور الرئاسة.

فقد ذكر في النهج أن الأمير قال لعمر حين استشاره في غزوة الروم: « متى تسير إلى هذا العدو بنفسك، فتكسر وتنكب، لا تكن للمسلمين كأنفه دون أقصى بلادهم، وليس بعدك مرجع يرجعون إليه فارسل إليهم رجلا مجربا، واحضر معه البلاغة والنصيحة، فإن ظهره الله تعالى فذلك ما تحمد، وأن تكن الأخرى، كنت درء الناس ومثابا للمسلمين » وقد مرت نصيحة أخرى.

والعجب من الشيعة يقولون هذا ونحوه من المتابعة لقلة الأعوان والأنصار، ثم يروون ما يناقضه كما روى ابن أبي عياش عن سليم بن قيس الهلالي وغيره أن عمر قال لعلي: « لئن لم تبايع أبا بكر لنقتلنك، قال له علي: لولا عهد عهده إلي خليلي لن أخونه، لعلمت أينا أضعف ناصرا وأقل عددا ».

فهذه الرواية تدل بالصراحة بكثرة الأعوان، وكان السكوت لما سمعه من النبي بصحة إمامة الصديق، والدليل العقلي يؤيده؛ لأن النبي لا يليق بمقامه أمر مثل الإمام بتعطيل أمر الله وحرم الأمة من لطفه واتباع أهل الباطل، كيف وقد قال له تعالى في زمان الكلفة والمشقة وقبل تمام الدين: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ }، أفيأمر أسد الله بعد تمام الدين بالجبن والخوف وفساد أمر المسلمين وترك تبليغ الأحكام واتباع الفساق والظلام: { أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } حاشاه ثم حاشاه، أولئك مبرؤن مما يقولون.

وقال ابن طاوس سبط أبي جعفر الطوسي إن ترك منازعة الإمام وإظهار الرضى في الأحكام، كان اقتداء بأفعال الله تعالى، وهي إمهال الجاني والتأني في المؤاخذة، والتأني محمود، والعجول لا يسود، وقد ارتضى هذا الجم الغفير ممن يدعى أنه من شيعة الأمير، وهو مما يضحك المغبون، ويعجب العاقل والمجنون، كيف والاقتداء بأفعال الله تعالى فيما الشرع غير جائز، فضلا عن أن يكون واجبا إذ الباري قد ينصر الكفرة، ويعين الفجرة، ويخذل الصلحاء، ويقدر الرزق على العلماء، أفيجوز الاقتداء بهذه الأفعال..؟ سبحانك ربنا هذا الداء العضال.

وأما ما قيل: « تخلقوا بأخلاق الله »، فبأبر المكارم دون الأحكام، وإلا فمتى لم يصلِّ ولم يصمْ ولم يفعل الطاعات أينجو يوم القيامة؟ ثم ما قاله من ان التأني محمود، فهو في غير طاعة الملك المعبود، قال تعالى في مدح المتعجلين ] أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }، وفي غيرهم: { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } والإمام له منصب الهداية والإرشاد للطاعات، فكيف يجوز له التأني وبه يفوت كثير من الواجبات، ولو قالوا تأني الأمير كان بالأمر فلا يلزم ترك الواجبات، قلنا إذا إمامته غير متحققة، وإلا فالنصب والأمر بالتأني غير معقول كما لا يخفى، وأيضا إذا كان الأمير مأمورا من الله تعالى بالتأني وإخفاء الإمامة وترك دعواها يكون المكلفون في ترك مبايعته وإطاعة الآخر معذورين، فلو خالفوا ونصبوا غيره لحفظ دينهم ودنياهم وتمشية مهماتهم في هذه المدة لا يكون للعتاب والعقاب لهم محلا أصلا فتدبر.

ومنها ما رواه زيد بن أرقم عن النبي انه قال: « إني تارك فيكم الثقلين فإن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي، أحدهما أعظم الآخر كتاب الله وعترتي »، هذا مسلّم أيضا لكن لا مساس لهم له بالمطلوب سلمنا، ولكن قد صح أيضا: « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، واقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر »، سلّمنا لكن العترة في اللغة الأقارب، فلو دل على الإمامة لزم إمامة الجميع، وهو باطل سيما إمامة عبد الله بن عباس وابن الحنفية وزيد بن علي وإسحاق بن جعفر الصادق، وأمثالهم من آل البيت، فتدبر.

وأما الأدلة العقلية: فمنها إن الإمام يجب أن يكون معصوما وغير الأمير من الصحابة لم يكن معصوما، فكان هو إماما لا غيره، وفي هذا الترتيب نظر يظهر لذي نظر، وفيه بُعد منع أما الصغرى؛ فلأن الأمير نص بقوله: « إنما الشورى للمهاجرين والأنصار » على أن الشورى لهم فقط، وبديهي عدم العصمة فيهم ولما سمع ما قال الخوارج: لا أمرة، قال: « لا بد للناس من أمير برا وفاجر »، كذا في نهج البلاغة.

وأيضا طريق العصمة لغير النبي مسدود، إذ أسباب العلم ثلاثة الحواس السليمة والعقل والخبر الصادق، ولا سبيل لأحد منها إلى تحصيله، أما الأول فظاهر إذ العصمة ملكة نفسانية تمنع من صدور القبائح، وهي غير محسوسة، وأما الثاني فلأن العقل لا يدرك الملكة إلا بطريق الاستدلال بالآثار والأفعال وأين الاستقراء التام في هذا المقام؟ سيما مكنونات الضمائر من العقائد الفاسدة والحسد والبغض والعجب والرياء ونحوها.

ولو فرضنا الاطلاع على عدم الصدور فأين الاطلاع على عدم إمكانه وهو المقصود، وأما الثالث فلأن خبر الصادق أما متواتر أو خبر الله ورسوله، وظاهر ان المتواتر لا دخل له ههنا، إذ يشترط انتهائه إلى المحسوس في إفادة العلم، ولا انتهاء إذ لا محسوس وخبر الله، والرسول لا يكون موجبا للعلم هنا على أصول الشيعة، لإمكان البداء عندهم.

وأيضا وصول الخبر إلى المكلفين أما بواسطة معصوم أو بواسطة تواتر ففي الأول يلزم الدور، وفي الثاني يلزم خلاف الواقع؛ لأن كل متواتر ليس مفيدا للعلم القطعي عند الشيعة كتواتر المسح على الخف وغسل الرجلين في الوضوء و { أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ }، وصيغة التحيات ونحو ذلك فلا بد من التعيين وذلك غير مفيد، إذ حصول العلم القطعي من المتواتر يكون بناء على كثرة الناقلين وبلوغهم إلى ذلك المبلغ، ولما كذب الناقلون في مادة ومادتين ارتفع الاعتماد عن أقسامه، ولا يرد هذا في الأنبياء للمعجزة وتمييزهم على غيرهم، وفرق بين التابع والمتبوع فأفهم.

وأما الكبرى فلأن الأمير قال لأصحابه: « لا تكلفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فاني لست بفوق ان اخطأ ولا آمن ذلك في فعلي » كذا في النهج، وهذا لا يصدر عن معصوم لا سيما وبعده إلا ان يلقي الله في نفسي ما هو املك به مني، والمعصوم يملّكه الله نفسه، وأيضا روى في دعاء الأمير: « اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك ثم خالفه قلبي »، كذا في النهج أيضا، فتدبر حق التدبر.

ومنها إن الإمام لا بد من أن لا يرتكب الكفر قط، لقوله تعالى: { لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }، والكافر ظالم لقوله تعالى: { وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ }، وغير الأمير من الصحابة عبدوا الأصنام في الجاهلية، فيكون هو إماما دون غيره.

وفيه ما في الأول والنقض بابن عباس، لا يشترط العصمة فيدفعه، لأنا نقول بعد التسليم، فالدليل إذا ذاك لا هذا كما لا يخفى، وأيضا من تاب وآمن وعمل صالحا لا يصدق عليه الظلم، إذ قد تقرر ان المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة وفي غيره بشرط الاطراد، والتعارف مجاز فلا يقال للشيخ صبي وللنائم مستفيض وللحي ميت.

وأيضا قد روى القاضي أبو الحسن الزاهدي من الحنفية في ( معالي العرش ) في حديث طويل: « ان أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال للنبي بمحضر من المهاجرين والأنصار: وعيشتك يا رسول الله اني لم أسجد للصنم قط، فنزل جبريل عليه السلام وقال: صدق أبو بكر »، وكذا نقل أهل السير والتواريخ، فصحت إمامته أيضا بملاحظة هذا الشرط، ولله تعالى الحمد.

ومنها انه أدعى الإمامة واظهر المعجزة كدحي باب خيبر، والقصة معلومة وحمل الصخرة في صفين إذ عطش القوم، وحفروا بئرا فصادفوا صخرة عظيمة في الأثناء وعجزوا عن قلعها فقلعها الإمام، ومحاربته الجن في غزوة بني المصطلق، ورد الشمس وهي مشهورة فيكون إماما، وفيه أولا فلأن إظهار المعجزة خاص بالأنبياء عند دعوى النبوة، إذ لا سبيل للعلم إلا بها، وفي الغير لا تثبت دعوى رجل على آخر بإثبات خارق دون شهود وبينّة، والإمامة متعلقة بتعيين النبي أو أمته من يصلح لذلك فلا تكون المعجزة دليلا هنا.

وأما ثانيا فلأن الإظهار لم يكن عند الدعوى، ودعوى ذلك محض كذب فالرد والدحي والمحاربة في زمن النبي ولا دعوى بالإجماع، على إن ذلك من معجزاته لا من معجزاته رضي الله عنه وحمل الصخرة على تقدير تسليمه لم ينقل مقارنته للدعوى، وعلى تقدير النقل فالإمامة إذ ذاك حق له دون غيره عندنا، وأيضا ليس محل النزاع.

ومنها ما قالوا ما روى أحد من الموافق والمخالف ما يوجب الطعن في الأمير بخلاف الثلاثة، فإن الموافق والمخالف روى المطاعن الكثيرة في حقهم، بحيث تسلب استحقاق الإمامة عنه، فالأمير سالم وغيره لا، فهو الإمام لا غيره، قد وقع في هذا المقام الخبط التام؛ لأن الذين قالوا بإمامة الثلاثة لم يووا شيئا من قوادحهم ومن لم يقل روى بالطعن وطعن، وجزمت قواه فوهن، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.

وما قالوا من ان الموافق والمخالف لم يرو ما يطعن بالأمير ان أرادوا بالمخالف أهل السنة فلا يجديهم نفعا لأنهم يعتقدون إمامته ويثبتون كرامته، وكيف يطعنون ويقولون ما لا يعلمون، وان أراد الخوارج والنواصب فكذب صريح لأنهم سودوا الدفاتر وبيضوا المحابر في إيراد المطاعن على الأمير، ولا يخفى ذلك على المتتبع الخبير، وهي قسمان قسم محض كذب وافتراء وبهتان فهذا لا يستحق جوابا لأنه من محض الهذيان. وقسم ثبت في كتب الشيعة وأهل السنة بطرق صحيحة، وروايات رجيحة، فهذا لا بد له من الجواب، فلنورد ذلك في هذا الكتاب.

فمن جملة ذلك أن الأمير كرم الله تعالى وجهه صار متصرفا بسلاح عثمان وماله بعد قتله مع أنه غير وارث، ولا يوهب له بل طلب كما نظم الوليد ابن عقبة في هذا الباب عدة أشعار:

ألا ما لليلى لا تغور كواكبُهْ ** إذا غاب نجم لاح نجم نراقبُهْ

بني هاشم رُدّوا سلاحَ ابن أختكم ** ولا تَنْهبوه لا تحلُّ مناهِبُةْ

بني هاشم لا تعجلونا فإنه ** سواءٌ علينا قاتلوه وسالبه

وأنا وأياكم وما كان منكم ** كصدع الصفا لا يرأب الصدع شاعِبُهْ

بني هاشم كيف التقاعد بيننا ** وعند عليٍّ سيفه وحرائبُهْ

لعَمركَ لا أنسى ابنَ أَرْوَى وقتلَه ** وهل ينسيَنّ الماءَ ما عاش شارِبُهْ

همُ قتلوه كي يكونوا مكانَه ** كما غدرتْ يوما بكسْرى مزاربُهْ

ومنها إن الأمير أختار في حق إمهات الأولاد مذاهب مختلفة ولم يقر على مذهب، فكان أولا قائلا بصحة بيعهن ثم دخل في الإجماع الذي أنعقد في عهد عمر رضي الله تعالى عنه، ثم أفتى بخلافته بالصحة حتى قال له القاضي شريح: « رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك »، مع أنه هو قال: « ألا إن يد الله تعالى على الجماعة، وغضب الله على من خالفها »، وأيضا قال تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ } الآية فخالف الإجماع صراحة.

ومنها انه قضى في الجد بالقضايا المختلفة ولم يستقر على واحدة، مع إنه قال: « من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد ».

ومنها إن البخاري روى إن عليا أتى بزناقة فحرقهم بالنار، وقد أنكر عليه هذا الأمر ابن عباس إنكارا عظيما، والأمير أيضا ندم، وقصة إحراقه بالنار موجودة في كتب الشيعة أيضا، روى الشريف المرتضى في ( تنزيه الأئمة ) إن الأمير أحرق رجلا أتى غلاما في دبره، والحديث الصحيح المجمع عليه: « لا تعذبوا بالنار ».

ومنها إنه جلد رجلا في حد الخمر ثلاثين جلدة، ولما مات أدى ديته، وقال إنما وديته لأن هذا شيء فعلناه برأينا، مع انه كان أشار على عمر لذلك فعرض له الشك في اجتهاده، ومنها انه جلد وليد بن عقبة أربعين جلدة، واكتفى بها فداهن في حدود الله تعالى لقرابة هذا من عثمان، ومنها انه عفا عن القصاص والحد عمن أقر بذلك وهذا خلاف النفس بالنفس: { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } أي في حدوده.

ومنها انه أمر برجم مولاة حاطب، ولا رجم على الإماء والعبيد، ومنها ان زيد بن ثابت إلزمه إلزاما صريحا في باب المكاتب بأنه عبدٌ ما بقي عليه درهم، وكان مذهب الإمام انه حر بقدر ما أدى وعبد بقدر ما لم يؤد، كما هو منقول في الصحاح، ومنها إنه رضي بالتحكيم أولا، ثم قال: « لقد عثرت عثرة لا تنجبر سوف أكيس بعدها واستمر، واجمع الأمر الشتيت المنتشر »، مع ان نقض التحكيم لا يجوز.

ومنها ما رواه الشعبي إن عليا قطع يد السارق من أصول الأصابع، فما علم الحد فكيف يليق بالإمامة؟، ومنها انه قبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض، مع ان قول الصبي لا اعتبار به بالبداهة، وقال تعالى: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ... الآية }، ومنها انه أقرر نصف الآية في الاقتصاص بعين الأعور، بأن يأخذ هو من فقأ عينه اقتصاصا ذلك مع انه خلاف صريح العين بالعين، ومنها انه أقام حد الساق على صبي كما هو موجود في كتب الشيعة مع انه روى: « رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ... الحديث ».

ومنها إن محمد بن بابويه روى في ( الفقيه ): « إنه جاء رجل إلى الأمير، فأقر بسرقة إقرارا يقطع به اليد، فلم يقطع »، والمداهنة في الحدود كبيرة، ومنها ما رواه هذا أيضا انه زاد عشرين جلدة في حد الخمر على النجاشي الشاعر لما شرب في رمضان، والزيادة في الحدود لا تجوز، ومنها ما أورده المرتضى في ( التنزيه ) إن الأمير أتى بمال من مهور البغايا فقال: ارفعوه حتى يجيء عطا غني وباهلة، مع ان تلك الأمور سحت وحرام صرف.

ومنها انه قضى في بيع الصرف من الدراهم السود بما يخالف قوله : « لا تبيعوا الدرهم بالدرهم »، ومنها انه تكلم بما يشعر بدعوى الألوهية كما في خطبة البيان التي رواها أصبغ بن نباتة من رجال الشيعة: « أنا أخذت العهد على الأرواح في الأزل أنا المنادي ألست بربكم » وكذا قوله: « أنا منشئ الأرواح »، وقوله في خطبة الافتخار كما رواه رجب بن محمد بن رجب البرسي في كتابه: ( مشارق أنوار اليقين ): « أنا صاحب الصور أنا مخرج من في القبور »، وقوله أنا حي لا يموت أنا جاوزت بموسى البحر وأغرقت فرعون وجنوده، أنا الجبال الشامخات وفجرت العيون الجاريات، أنا ذلك النور الذي اقتبس موسى منه الهدى.

ومنها انه لم يرض بإمارة طلحة والزبير على الكوفة والبصرة وولي أقاربه في اليمن وغير ذلك، مع إنهما أحق بالإمارة منهم، ومنها انه توقف في إقامة القصاص على قتلة عثمان مع انه لم يثبت عليه شيء موجبات القتل، ومنها إنه أهان أبا موسى الأشعري ونهب أمواله وأحرق داره وكذا أهان أبا مسعود الأنصاري، ومنها انه كان في قصة الأفك من المسلمين كما رواه البخاري مع ان الله تعالى يقول: { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ... الآية }، فعمل بخلاف ما يقتضيه الإيمان، ومنها انه تبرأ من قتل عثمان ولما ساءت به قلوب القاتلين، قال قتلة الله وأنا معه وهذا لي اللسان، وهو خلاف الصدق والإخلاص. وهكذا مطاعن النواصب خذلهم الله تعالى وشبهاتهم في إبطال إمامته لا يسع المقام ردها ولا إيرادها.

وللقوم كتب في ذلك ولكنا نجيب عن هذه المطاعن الركيكة بطريق الإجمال، لئلا يطول المقال ويحصل الملل والملام، ويخرج الكلام عن دائرة المرام، فنقول على أصول أهل السنة إن سلاح عثمان من قبيل ما يتعلق ببيت المال ومن لوازم الخلافة كالخيول والمدافع ونحوها في زماننا، والأمير أحق والورثة لم يفهموا ذلك فسئلوا، وأيضا الأمير مجتهد والرجوع جائز وحتى للشيخين وعثمان والإجماع في عهد عمر لم يكن عند الأمير إجماعا قطعيا بل لعله كان ظنيا ومخالفته جائزة كالسكوتي، على انه من شرط الإجماع عند الأكثر بقاء أهله على قولهم والأمير منهم وقد تغير فالإجماع في حقه لم يبق إجماعا.

والاختلاف في حكم الجد طويل الذيل جدا في زمن الخلفاء، فمراد الأمير في قوله من أراد.. الخ إن مسألة الجد كما تعلمون طويلة الباع، كثيرة النزاع، فمن قال قولا جازما معتقدا فساد باقي الأقوال، فهو غير محتاط وغير مبال، وهذا حال الراسخين من العلماء العاملين في الأقوال المختلف فيها، وإحراق اللوطي والزنادقة غفلة في الاجتهاد، ولما سمع ندم واستيعاب جميع الأخبار غير لازم، وقد وقع للصديق التوقف في ميراث الجدة إلى أن اخبره مغيرة بن شعبة ومحمد بن سلمة مع انه مجتهد بالإجماع وأداء الدية للاحتياط لا للشك، وهو كمال لا نقص فيه، ولا طعن يعتريه والاكتفاء بأربعين جلدة لتطرق الشبهة في شهادة حده، إذ البعض شهد بالشرب والآخر بالأستقائة، حتى قال عثمان: « ما تقيئها إلا وقد شربها »، لكن الأمير اكتفى للاحتياط بأقل الحدين، ومعاذ الله تعالى من تقصير الأمير للمراعات مع أن عثمان حث الحث الشديد، بكمال الرغبة والتأكيد على استيفاء الحد كما تشهد به التواريخ المتفق عليها.

والعفو عن القصاص من أولياء المقتول بمشورة الأمير، لأن المعفو عنه كان قد هرب وقد اتهم غيره، فلم يسعه غير الإقرار لقوة أمارات فيه من تلطخ ثوب وسكين، وخروجه من مكان فيه المقتول، فلما سمع القاتل خبر هذا الرجل رجع قائلا: أنا القاتل حقا، فقال الأمير: « إنك وان قتلت نفسا ولكنك أحييت أخرى، إذ خلصت بريئا، فأنت حري بالعفو فلما سمع الأولياء كلام الأمير عفوا عنه، فأين الطعن هنا؟ هكذا في كتبٍ معتبرة ».

ورجم الأمة يجوز أن يكون بعد العتق أو لم يطلع على كونها أمة، وإلزام زيد له في مسألة لا حقارة فيه، فقد نقل عن عمر انه قبل الإلزام بقول امرأة، وقال: « كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في الحجال »، ونقض التحكيم؛ لأن أحدهما قد خُدع وهو إنما يلزم لو كان بتأمل وتفكر من الطرفين دون خديعة ومكر في البين.

وقطع يد السارق من أصول الأصابع من خطأ الجلاّد، وقبول شهادة الصبيان فيما يجري منهم صحيح، وقد قال به مالك لتعذر حضور البالغين معهم فهي كشهادة الكفار بعضهم على بعض، وتقرير أخذ نصف الدية لعين الأعور مبني على دقيقة فقهية إذ عينه منحصرة في فرد فلها حكم العينين فمن فقأ قصاصا مثل هذه العين التي لها حكم العينين فكأنه فقأ عينا أخرى زائدة من حقه فلزم عليه الدية.

وأما الاقتصاص منه فلما قال الله تعالى: { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } فصار جائزا، فههنا قد تحقق العمل بالحقيقة والشبهة كليهما، وهذا وان لم يكن مذهب أحد لكن يمكن أن يبين نظيره في قواعد الشرع، كأخذ بنت اللبون في الصدقات مكان بنت المخاض ورد الزائد في المقيمة.

وبالجملة الطعن في الاجتهاديات غاية الوقاحة، وحد السرقة للصبي كذب أو من قبيل السياسة، كالضرب على الصلاة، تدبر. وزيادة عشرين جلدة كذلك، ورواية المهور لا أصل لها، بل هي كذب محض، بل في الاستيعاب عند ذكر المختار ما يخالفها، فانظر هناك.

ويجوز التفاضل في بيع الدراهم السود إذا غلب الغش بعد إنقطاع رواجها وزوال حكم الثمنية عنها، وعليه الشافعية، بل في الفلوس الرائجة أيضا عندنا على الأصح، فلعل قول الأمير من هذا القبيل، والمراد بالدراهم في الحديث الفضة الخالصة، أو الدراهم الرائجة، وخطب البيان والافتخار ليست في كتبنا، بل قالوا بوضعها وعلى الفرض فكلام جذب وغلبة حال، وهذا كثير من الأولياء الكرام، ما عدا الإمام، وهم معذورون، ولا يسألون إذ ذاك عما يفعلون، أو هذا التكلم حكاية عن لسان الحال فتدبر.

وتولية الأقارب وقعت لعثمان أيضا، ولا بأس بها إذا تضمنت مصلحة كما لا يخفى.

والتوقف في قتلة عثمان كان لعدم التعيين، والتفتيش على الأولياء لا على الخليفة، وإهانة أبي موسى وحرق بيته من مالك الأشتر لا من الأمير، بل لم يكن مطلعا كما في تاريخ الطبري، وإهانة أبي مسعود لحمايته جانب البغاة، وتسليمه في حق الطاهرة قبل نزول الآية ولا محذور؛ لأن الخبر محتمل للصدق والكذب، ومن لم يسمع يخل، وقوله قتله الله وأنا معه من قبيل التورية رفعا للضر، كقول إبراهيم في زوجته أختي.

وبالجملة هؤلاء الفرق كحجارة الطاهرة بعضهم أنجس من بعض ! والحمد لله على دين الإسلام.

فصل [ رجعة الإمام ]

لا رجعة في الدنيا بعد الموت، وقالت الإمامية بها للنبي ووصيه وسبطيه وأعدائهم من الخلفاء والأمراء وكذا الأئمة الآخرون وقاتليهم يحيون بعد ظهور المهدي ويعذبون ويقتصون منهم، ثم يموتون ويحيون يوم القيامة، وهذا مخالف لصريح آيات منها: { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }، ومنها: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } إلى غير ذلك.

وقال المرتضى في ( المسائل الناصرية ): « ان أبا بكر وعمر يصلبان على شجرة في زمن المهدي، قيل خضراء فتيبس، ويرتد كثيرون، وقيل بالعكس فيهتدي كثيرون »، وقال جابر الجعفي: « إن الأمير سيرجع والدابة في القرآن رمز إليه »، نستغفر الله من سوء الأدب.

والدليل العقلي على أصولهم يبطل هذا الاعتقاد لأنهم أن عذبوا بسوء أعمالهم في الدنيا، ثم عذبوا في الآخرة كان ظلما أو لم يعذبوا حصل التخفيف الأبدي وهو مناف لعظم الجناية، وأيضا لو كان المقصود من أحيائهم تعذيبهم في الدنيا فقط فذاك حاصل في عالم القبر فيكون عبثا وننزه الله تعالى عنه أو إظهار جنايتهم، فالأولى بذلك الإظهار من كانوا معتقدين بحقية خلافتهم وممدين لهم وناصرين، وأيضا في هذا التأخير ترك الأصلح إذ قد مضى أكثر الأمة على الضلالة، وأيضا يلزم على هذا التقدير ان النبي والوصي والأئمة لا بد لهم أن يذوقوا موتا زائدا على سائر الناس، وظاهر ان الموت شديد فلا ينبغي إذاقته للمحبوب.

وأيضا يلزم مذلة الأمير والسبطين حيث لم يأخذوا الثأر بعد مضي هذه المدة إلا بواسطة المهدي، ولم ينتقم الله تعالى من أعدائهم إلا حينئذ، وبالجملة المفاسد في هذا كثيرة والاعتراضات غزيرة، والذي ألجأهم تخيلات باطلة، وتسلّيات عاطلة.

فصل [ الإمامة تكفر الذنوب ! ]

إن الله تعالى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، قالت الإمامية كلهم أن أحدنا لا يعذب بصغير ولا كبير لا في القيامة ولا في القبر، وحب علي كاف في الخلاص إذ لات حين مناص، تبا لهم أولا يفقهون ان حب الله تعالى ورسوله بلا إيمان ولا عمل غير كاف، وهذا غير خاف، وهذا في الأصل مأخوذ من اليهود حيث قالوا: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاّ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }، وعمدة ما يتمسكون به مفتريات وضعها الضالون المضالون، وتلقتها الحمقاء الجاهلون.

منها ما روى بن بابويه القمي في ( علل الشرائع ) عن المفضل بن عمر قال قلت لأبي عبد الله: « لم صار عليّ قسيم الجنة والنار، قال: لأن حبه إيمان وبغضه كفر، لا يدخل الجنة إلا محبوه، ولا يدخل النار إلا باغضوه »، ويدل على الوضع المخالف للكتاب، وأيضا إن حب الأمير ليس الإيمان وإلا بطلت التكاليف ولإتمام المشترك، لأن التوحيد والنبوة أصل قوي وأهم، فهو جزء من أجزاء الإيمان، فلا يكفي وحده لدخول الجنة، وأيضا لا يدخل النار إلا مبغضوه يدل على أن لا يدخل أحد من الكافرين الغير الباغضين كفرعون وهامان لأنهم لم يعرفوا، فلم يبغضوا سبحانك هذا بهتان عظيم.

سلمنا ما يريدون لكن لا يثبت المطلوب أيضا؛ لأن حاصل لا يدخل الجنة إلا محبوه: أن لا يدخل الجنة من لا يحب عليا، لا أن كل من يحبه يدخلها والمدعى هذا لا ذاك، والفرق واضح، فلهذا روى ابن بابويه القمي رواية أخرى عن ابن عباس انه قال: قال رسول الله : « جاءني جبريل وهو مستبشر فقال: يا محمد إن الله الأعلى يقرئك السلام وقال: محمد نبيي وعلي حجتي لا أعذب من والاه وإن عصاني، ولا أرحم من عاداه وان أطاعني ».

ويدل على وضعهما لزوم التفصيل كيف ولا خوف على العاصي، ولو منكر للرسول بحب علي، ولا منفعة للمطيع ولو مؤمنا ببغضه، وهي مخالفة أيضا لنصوص قاطعة كقوله تعالى: { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }، وقوله تعالى: { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا } إلى غير ذلك.

على أن التكاليف تكون عبثا لم يبق إلا الحب والبغض وفيه الإغراء للنفوس وإمداد الشيطان ومفاسد شتى على انه لم يذكر ذلك في القرآن، وانظر إلى مرويات لهم أخر تناقض ما سبق وتعارضه لكن الكذاب كما قيل لا حافظة له

منها ما روى سيدهم وسندهم حسن بن كبش عن أبي ذر قال: « نظر النبي إلى علي فقال: هذا خير الأولين والآخرين من أهل السموات وأهل الأرض، هذا سيد الصدّيقين، هذا سيد الوصيين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، إذا كان يوم القيامة كان على ناقة من نوق الجنة، قد أضاءت عرصة القيامة من ضوئها، على رأسه تاج مرصع من الزبرجد والياقوت، فتقول الملائكة: هذا ملك مقرب، ويقول النبيون: هذا نبي مرسل، فينادي المنادي من تحت بطلان العرش: هذا الصديق الأكبر، هذا وصي حبيب الله تعالى علي بن أبي طالب، فيقف على متن جهنم فيخرج منها من يحب، ويدخل فيها يبغض، فيأتي أبواب الجنة، فيدخل فيها من يشاء بغير حساب ».

ولا يخفى أن هذه ناصة على ان بعض العصاة ممن يحب الأمير يدخلون النار، ثم يخرجهم الأمير ويدخلهم الجنة، فإن كانوا محبيه فلِمَ دخلوا؟ وان لم يكونوا فلِمَ خرجوا؟ وأيضا تدل على كذب الحصر السابق في قوله: « لا يدخل الجنة إلا محبوه ولا يدخل النار إلا باغضوه »، فالرواية باطلة.

ومنها ما روى ابن بابويه القمي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه انه قال: قال رسول الله : « إن عبدا مكث في النار سبعين خريفا كل خريف سبعون سنة، ثم انه سئل الله تعالى بحق محمد وآله أن يرحمه، فأخرجه من النار وغفر له »، انتهى. فإن كان هذا محبا فلم يعذب وإلا فلم يدخل الجنة، فلينظر في كلامهم وليتأمل.

نهج السلامة إلى مباحث الإمامة
مقدمة المؤلف | المبحث الأول في بيان فرق الشيعة | المبحث الثاني في حكم أهل القبلة | المقصد: الباب الأول في مباحث الإمامة | الباب الثاني في تحقيق ما وقع في هذا المبحث من خلاف الشيعة | الباب الثالث في ذكر قول فاصل وكلام يميز بين الحق والباطل | خاتمة