نزهة الفتيان في تراجم بعض الشجعان/الأنصار الأبطال

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الأنصار

وهم بنو الخَزْرج وبنو الأوْس، والخزرج والأوسُ أخوان وأمهما قَيلة، واشتهر أبناؤهم ببني قَيلة، وأبوهما حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزَيْقِيا بن عامر الملقب بماء السماء ابن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد ويقال بالسين بن الغوث فنسبهم يرجع إلى الأزد من قحطان قال حسان بن ثابت:

إما سألت فإنا معشرٌ نُجُبٌ
الأزدُ نسبتُنا والماء غسَّانُ

خرج جدُّهم عمرو بن عامر من اليمن عندما رأى الْجُرَذَ يحفِر في سدِّ مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء فيصرِّفونه حيث شاءوا من أرضهم فعلم أن لا بقاء للسدِّ على ذلك فعزم على الانتقال عن اليمن فكاد قومه فأمر أصغر بنيه إذا أغلظ عليه ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه ففعل ابنه ما أمره به فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي، وعرض أمواله فقال أشراف اليمن: اغتنموا غضبة عمرو بن عامر فاشتروا منه أمواله وانتقل في ولده وولد ولده فقالت الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر فباعوا أموالهم وخرجوا معه فخرِب السدُّ بعدهم وانفجر سيله على أهل تلك البلاد فغرق أكثرهم، فلما وصلوا الحجاز تفرقوا فنزلت خُزَاعة مَرَّ الظهران المعروف بوادي فاطمة قرب مكة ونزلت الأوس والخزرج المدينة، وذهب آلُ جفنةَ بن عمرو بن عامر إلى الشام فسكنوها وصارت لهم دولة هناك، ويقال في القحطانيين عمومًا حميرُ أقيالُها وملوكها، وكِنْدَة ريحانتها ومَذْحِج عددها ولسانها يعني: اليمن كلها، ولما نزل الأوس والخزرج المدينة وجدوا يهود قينقاع والنَّصير وقُريظة متوطنين بها قبلَهم فنزلوا معهم وحالفوهم، فكانت السيطرة في بدء الأمر لليهود عليهم ثم رجعت الغلبة للأنصار على اليهود فغلبوهم على أكثر مزارع المدينة وكثروا بها.

وكان تُبَّع اليماني لما غزا فارس والترك في الجاهلية مرَّ على المدينة فترك ابنه عند الخزرج فلما ذهب قتلوه، فلما رجع من غزوه وسمع بفعلهم نزل عليهم وحاربهم، فكانوا يحاربونه بالنهار ويَقرُونه بالليل فيعجبه ذلك منهم، ويقول: والله؛ إن قومنا لكرام فبينما هو يقاتلهم يومًا إذ جاءه حَبران من علماء اليهود فنهياه عن قتالهم، وقالا: لا تفعل أيها الملك؛ فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولمَ ذلك؟ فقالا: إنها مهاجَر نبيًّ يخرج من الحرم من قريش تكون دارَه وقرارَه فانتهى عن ذلك، وانصرف عن المدينة إلى بلاده بعد أن تهوَّد.

وكان بدء إسلامهم في السنة الحاديةَ عشرةَ من البعثة قدم منهم ستة نفر حُجاج من الخزرج فدعاهم صلى الله عليه وسلم فيمن دعا من القبائل فأجابوا حالًا وواعدوه العام المقبل وقالوا له: يا رسول الله، إنا تركنا قومنا على عداوة وإنْ يجمعهم الله عليك فلا أحد أعز منك، ثم جاءه في السنة الثانيةَ عشرةَ اثنا عشر رجلًا اثنان من الأوس وعشرة من الخزرج فبايعوه على السمع والطاعة بلا قتال، وأرسل النبي معهم مُصعَب بن عُمير وعبد الله بن أم مكتوم يعلِّمانهم ويصلِّيان بهم، ثم جاءه في السنة الثالثةَ عشرةَ ثلاثة وسبعون رجلًا وواعدوه الليلة الثانية من ليالي مِنى ليلًا لئلا يشعر بهم مشركوهم، ثم لما جاء الليل خرجوا لميعاد رسول الله يتسلَّلون حتى اجتمعوا عند الشِّعب وراء العقبة الكبرى فجاءهم النبي ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان إذ ذاك على دين قريش، ولكن حضر أمرَ ابن أخيه ليتوثق له، فتكلم وقال: يا معشر الخزرج، إن محمدًا منَّا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عِزٍّ ومنَعة من قومه في بلده وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن أراده فأنتم وما تحمَّلتم من ذلك، وإن كنت ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه؛ فإنه في عزٍّ ومنَعه من قومه وبلده، فقالوا له: قد سمعنا ما قلت يا أبا الفضل، فتكلم يا رسول الله، فخُذْ لنفسك وربِّك ما أحببت، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: «أبايِعُكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم»، فأخذ البراء بن معرور بيده، وقال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزُرَنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب وأهل الْحَلْقة ورثناها كابرًا عن كابر، فقال النبي: «أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبًا ليكونوا كفلاء على قومهم» ففعلوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للنقباء: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم وأنا كفيل على قومي» يعني: المسلمين من المهاجرين، فقالوا: نعم، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج، هل تدرون علامَ تبايعونه؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر، والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نَهِكَت أموالكم مصيبةً وأشرافَكم قتلًا أسلمتموه، فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزىُ الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة، فقالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لَنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفَّينا؟ قال: «الجنةُ»، قالوا: أبسط يدَك فبسط يده فبايَعوه، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «أرفَضُّوا إلى رحالكم»، فقال له العباس بن عُبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق إن شئت لنَميلنَّ على أهل منى غدًا بأسيافنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك ولكن أرجعوا إلى رحالكم»، وهذا غايةٌ منهم رضي الله عنهمْ في النجدة، وكمال الإيمان؛ فإن مَن بمنى حجيج كثير من جميع قبائل العرب يريدون أن يقاتلوهم بهذا العدد القليل.

وقد وفوا رضي الله عنهم فخاضوا معه غمار الحرب وركبوا إليها كل ذلول وصْعب، وأزاحوا عن سبيل هذا الدين كل عقبة وكرب فسماهم الله بالأنصار وأثنى عليهم بمحبتهم من هاجر إليهم وبعدم حسده على ما أوتي وبالإيثار وجزاهم الله جزاء الأبرار، وأسكنهم الفردوس الأعلى دار القرار.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما استلت السيوف، ولا زحفت الزحوف، ولا أقيمت الصفوف حتى أسلم ابنا قَيْلة؛ يعني: الأوس والخزرج.

ولما اجتمعت الأحزاب من قبائل العرب وحاصروا المدينة مع قريش في غزوة الخندق أشفق النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين فرأى أن يخفف عنهم بعض هذا الجيش فأرسل إلى عيينة بن حصن الفزارى والحارث بن عوف المرى وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بقومهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة في ذلك، فلما أراد أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج فذكر ذلك لهما واستشارهما فقالا له: يا رسول الله، أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به لا بدَّ لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟ قال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وتألبوا عليكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر مَّا»، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة، إلا قِرًى أو بيعًا أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له وأعزَّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا، والله ما لنا بهذا من حاجة لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنت وذاك»، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة، ثم قال: ليجهدوا علينا.

ولما سار صلى الله عليه وسلم إلى قافلة قريش، ووصل قرب بدر فبلغه أن قريشًا خرجوا في جيش لمنع قافلتهم استشار أصحابه؛ لأنه ما خرج بهم إلا للِعيْر ولم يكونوا على استعداد فأجابه عُمر والمقداد من المهاجرين كما تقدم في ترجمة المقداد، فكرر الاستشارة يريد جواب الأنصار؛ لأنهم أكثر ذلك الجيش؛ ولأنهم بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم في ديارهم، وقالوا له: قد برئت ذمتنا منك يا رسول الله حتى تصل ديارنا فخاف ألا يقاتلوا معه خارج المدينة، فقال له سعد بن معاذ: والله كأنك تريدنا يا رسول الله، فقال: «أجَل»، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض بنا يا رسول الله لما أردت فنحن معك، والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا؛ إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقَرَّ به عينك، فسر بنا على برَكة الله، فسُرَّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقول سعد ونشَّطه، ثم قال: «سيروا وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لَكأنِّي الآن أنظر إلى مصارع القوم».

وبالجملة؛ فإن مزايا الأنصار لا تستقصَى، ولو كلِّف القلم بِعدِّ فضائلهم لتعب في الإحصا، رضي الله عنهم أجمعين.