نحن ورومة والفاتيكان (الطبعة الأولى)/نحن والموارنة بألف خير

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


نَحنُ والمَوَارنَة بألفِ خَيرْ

وعلى الرغم من هذا التراشق والتقاطع طوال القرون الحادي عشر حتى الخامس عشر فإن الحواجز التي قامت بين الكنائس الأرثوذكسية والكنائس الغربية لم تبلغ بارتفاعها عنان السماء. فظل المسيح واحداً وظلت الأسرار واحدة وظلت الهيرارخيتان رسولتين معترفاً بها في الشرق والغرب معاً. وظلت ظروفنا السياسية المدنية في الشرق تقضي بالتعاون وتبادل المحبة قدر المستطاع. ففي السنة ١٥٧٠ استولى أهالي بيروت على كنيسة الموارنة داخل السور في سوق أبي النصر وحولوها إلى قيسارية تجارية. ولم يبق للموارنة في بيروت سوى كنيسة واحدة خارج السور كانت قد شيدت على اسم شفيع بيروت القديس جاورجيوس. ولما كانت هذه الكنيسة خارج السور وكانت أبواب البلدة تقفل عنـد غياب الشمس اجتمع الشيخ أبو منصور يوسف ابن حبيش الماروني إلى شيوخ بيت الدهان الأرثوذكسيين واتفق وجوه الطائفتين على الاشتراك في كنيسة الموارنة خارج السور وفي كنيسة السيدة الأرثوذكسية داخل السور1. وفي السنة ١٥٨٧ تعاون الروم والموارنة في إنشاء كنيسة مار عبدا في بكفيا بإشراف الخوري أنطون الجميل. فكان في الكنيسة مذبحان أحدهما في الجهة الشرقية الجنوبية باسم مار عبدا لبني الجميل الموارنة والآخر في الجهة الشرقية الشمالية باسم السيدة لبني أبي كلنك المعلوفيين الأرثوذكسيين. فكان كل يقيم الصلوات حسب طقسه2. وكان من مظاهر هذا التفاهم والتعاون قيام دير مار إلياس الشوير إلى جانب مار إلياس الموارنة في السنة ١٥٩٠. ولعل لأسرة بيت الجميل المارونية فضلاً في وقف بعض الأملاك على رهبان الروم في هذا الدير. ولم ينقطع هذا التعاون في الشوير ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر جـدد الموارنة كنيسة ديرهم فقدم المعلم أسعد رستم الأرثوذكسي وقته وحذقه في صناعة النحت والبناء مجاناً وأنشأ الحنية والمذبح في الكنيسة الجديدة كما فعل قبل ذلك في دير اللويزة وفي دير مار بطرس في بيت شباب. وكنيسة السيدة في بسكنتا التي شيدت في مطاوي القرن السابع عشر ظلت مشتركة بين الروم والموارنة إلى أن شيد الأرثوذكسيون كنيسة مار ماما في حوالي السنة ١٧١٦3.

وفي خريف السنة ١٦٤٢ «ادعى الشيخ أحمد ابن الأمير أبي بكر الشهير بابن الحمراء المتولي بموجب أمر شريف سلطاني على مقامات حضرة الخضر الياس عليه السلام أن الكنيسة المعروفة بمار جرجس الكائنة بنهر بيروت كانت مقـام الخضر فاتخذته النصارى كنيسة وأحدثوها متعبداً لهم وأن المدعى عليــه المطران يوحنا ياسف الملكي4 متخذها الآن متعبداً وهي بيده ويتصرف بوقفها وطلب المدعي منع المطران المذكور من الكنيسة المرقومة وإخراجه منها. فسئل منه (أي المطران) عن ذلك فأجاب بأنها كنيسة «أهل الذمة والموارنة» منذ قديم الزمان ولم تحدث ولا جددت. وبعد أن عجز المدعي عن إثبات مدعاه وحضر كل من محمد بن عبدالله وجمال الدين بن محمد الغزيري وشهاب الدين بن ناصر الدين الخراط البيروني وشهدوا غب الاستشهاد الشرعي بأنهم يعرفون الكنيسة المزبورة منذ عمرهم كنيسة «للنصارى الموارنة والملكية» متعبداً لهم يتعبدون فيها من قديم الزمان وبعد التفتيش والاستفسار من الثقاة الأخبار والجم الغفير والجمع الكثير أبقى مولانا الحاكم الشرعي المشار إليه (سليمان القاضي بمدينة طرابلس) يد المدعى عليه المطران يوحنا الملكي المذكور على الكنيسة المرقومة»5 هذا بعض ما جاء
في حكم رسمي صادر عن قاضي طرابلس يثبت تعبد الموارنة والروم في بيروت في كنيسة واحدة هي كنيسة مار جرجس النهر.

وفي هذا القرن نفسه وفي أواخر تموز السنة ١٦٦٨ نجد فيليبوس متروبوليت بيروت يتولى المفاوضة والمرافعة عن الروم والموارنة أمام السلطات العثمانية في أمر الجزية المترتبة على الطائفتين. فقد جاء في صك قديم صادر عن السيد أحمد الحسيني المولى بمدينة بيروت بتاريخ السابع عشر من صفر الخير سنة ١٠٧٩ للهجرة ما يلي: «بمجلس الشريعة المطهرة الغراء بثغر مدينة بيروت المحمية أجله الله تعالى لدى مولانا متولي خلافة الموقع خطه الكريم أعلاه دام علاه حضر إلى المجلس المومى إليه المطران فرح رئيس طائفة نصارى الروم بمدينة بيروت وأبرز من يده بيولردي شريف من حضرة أمير الأمراء الكرام الحاج إسحاق باشا يسر الله له من الخيرات ما يشاء وبيولردي ثانياً من حضرة شرمي محمد باشا المكرم وتمسكين ممهورين أحدهما من حضرة عمر آغا المتكلم حالاً والثاني من حضرة الحاج عثمان آغا الضابط بمدينة بيروت حالاً المقيدين في السجل المحفوظ من مضمونهم أن من العادة القديمة المترتبة على كنيسة طائفة الروم وعلى كنيسة طايفة الموارنة مالي معين وهو بينها بالنصف يدفعوه للحكام السابق عن كنايسهم الكانية في داخل مدينة بيروت المزبورة وقـدره مايتي غرش بالمثناه كما تقدم لهم سابقاً بمدة توليـة سلامة القبالي وأنطون ومراد أولاد كعيكات حال حياتهم وتكلمهم على كنيسة الموارنة المزبورة سابقاً وذلك بموجب بيولردي حضرة شرمي محمد باشا وتمسك حضرة عمر آغا المتسلم. ثم أن المطران فرح المزبور طلب من الحاكم الشرعي تمسكاً شرعياً على موجب ذلك فأجابه إلى سؤاله. وعلى ما هو الواقع سطر وحرر غب الطلب والسؤال من المطران فرح المزبور ليكون تمسكاً بيده لوقت الاحتياج»6.

ولم ينحصر هذا التآلف والتعاون في بيروت وتلالها بل إنه شاع حيث دعت الحاجة إليه في أماكن كثيرة واكتفت رومة، فيما يظهر، في القرون الخامس عشر والسادس عشر ومعظم السابع عشر بالمحافظة على طاعة الموارنة لها وقولهم قولها في المسائل المتخلف فيها. وسكتت عن هذا التعاون بين الروم والموارنة ولم تمنعه. وجل ما هنالك أنها أوجبت في السنة ١٥٩٦ «البحث عن كتب الهراطقة (اليعاقبة) والمشاقين (الروم) وحفظها عند البطريرك في مكان مغلق. ولم تسمح بمطالعتها إلا للعلماء»7 ولعل السبب في مقاومة الحساب الغريغوري في بعض الأوساط المارونية والتجاء البطريرك يوسف الرزي إلى علي يوسف باشا ليعاونه على أبناء رعيته يعود إلى هذا الشعور بوجوب التعاون والتكاتف مع الروم8 فإنه كان من الصعب آنئذ أن ينقسموا على أنفسهم في تاريخ أصوامهم وأعيادهم أمام من كان على غير دينهم.

ثم أرسلت رومة رهبانها إلى الشرق فتعاونوا مـع أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية «وسلكوا في ما بين الرعية أحسن سلوك وتصرفوا أحسن تصرف ومدحوا طقوس الروم ورتبهم وعوائدهم وحثوا على طاعة هؤلاء الرؤساء. وفي أوائل القرن الثامن عشر «أظهروا أمراً من المجمع المقدس برومية الكبرى وأشهروه في بلاد الشرق بأنه لا تجوز مشاركة الروم المشاقين في الصلوات ولا في القداسات ولا تناول الأسرار من يدهم أصلاً. وهذا الأمر بما أنه صعب ومشكك حصل منه سجس واختباط وبغض وتنافر بالكلية حتى أنه سبب خصومة زائدة» هذا ما كتبه إلياس فخر الطرابلسي إلى بابا رومة بندكتوس الثالث عشر في منتصف نيسان سنة ١٧٢٥. وإلياس فخر الطرابلسي من أعيان ذلك العصر اشتهر بمقدرته في الكتابة فترجم لقنصل إنكلتره في حلب ودون للبطريرك سلفستروس. ورسالته هذه لا تزال محفوظة في ملف البطريرك كيرلس طاناس في محفوظات مجمع انتشار الإيمان في رومة9.

وهكذا فإن كنيستنا الأنطاكية الأرثوذكسية رحبت بادئ ذي بـدء بقدوم المرسلين اللاتين عملاً بالتقليد المحلي الذي كان قد قربها من الكنيسة المارونية وجعل من الروم والموارنة صفاً واحداً في الدفاع عن الإيمان والتقليد وحرية المعتقد. فلما دخلت رومة في دور التوسع فبسط السلطة وهدفت إلى إدخال الطوائف المسيحية الشرقية في طاعتها ووكلت ذلك إلى رهبانها الغربيين اللاتينيين تذرع هؤلاء بتعليم الصغار وتطبيب الكبار وما شاكل ذلك وألقـوا بذور تعاليمهم بواسطة سر الاعتراف. فلم يطلبوا من السذج وجمهور المؤمنين ذوي الإيمان القويم سوى إیمان آبائهم وقرارات مجامعهم. ولكنهم صارحوا المثقفين في ظروف معينة وأوجبوا رجوعهم عن الخطأ. وإليك ما كتبه أحد الآباء اليسوعيين في السنة ١٦٥٠ عن طريقتهم في اجتذاب النفوس:

«عندما يأتي أرثوذكسي ليعترف عندنا نسأله إذا كان يؤمن بما علم به الآباء اليونانيون باسيليوس وأثناسيوس وغريغوريوس والذهبي الفم والدمشقي فيجيب نعم. فنسأله ما إذا كان لا ينبذ ويلعن كل تعليم لا يتفق وما علَّم به هؤلاء الآباء القديسون فيجيب نعم. ولما كان دستور إيمانهم لا يختلف عن دستور إيماننا إلا بالكلمة «والابن» ولما كنا نحن نعتبر هذه الكلمة مجرد تفسير للدستور فإننا نسأله ما إذا كان لا يفهم الدستور كما فهمه آباء الكنيسة والمجامع المقدسة (!!) فيجيب نعم. وعندئذ يتلو الدستور ونحله. وجميع الأرثوذكسيين الأذكياء المتعقلين يعترفون بتقدم البابا لأنهم يقرأون في كتبهم كيف التجأ الذهبي الفم في أثناء محنته إلى البابا وكيف أعاده البابا إلى كرسيه (!!) مهدداً الإمبراطور والإمبراطورة بالحرم. ويستنتجون عندئذ أن الأرثوذكسيين والإمبراطور نفسه خضعوا (!!) في عهد الذهبي الفم إلى البابا»10.

ولسنا ممن يغمط فضل الرهبانية اليسوعية في حقول التعليم والتهذيب وعمل الخير في هذه البلاد ولا ممن يجهل أفرادها الأفاضل وبينهم التقي الطاهر والعالم الفاضل والعامل الغيور في حقل الرب. ولكننا لا نرى في الكثلكة التي قاموا بها آنئذ حلاً لمشكلة الانشقاق بل علة عللها في العصور الحديثة. وفي السنة ١٦٩٧ خص الأب فيرسو اليسوعي دير البلمند بعنايته لأنه كان آهلاً بالرهبان، وكان للشقاق شأن عظيم فيه بحيث يتناول كل ملة الروم». وحاول الأب فيرسو الدخول إلى البلمند لإيضاح الكثلكة مراراً ولكنه أخقق. ثم أحس اثنان من الشبان الأرثوذكسيين الذين كانوا يتعلمون عند الآباء اليسوعيين بالدعوة الرهبانيـة واختارا البلمند لخدمة الله فيه. فأخذ الأب فيرسو يزورهما ويرشدهما منبهاً إلى ما في هذا الدير من خطر. ثم تحقق أنهما راسخان في الكثلكة فاتخذهما وسيلة للدعاية الرومانية بين الرهبان. ولكي يرضي غيرهم كان يمدح القديس باسيليوس الكبير ويتلو أخباره. ووضع بين أيادي صديقيه مؤلفات الأب كليسون والأب نوه11 وفي السنة ١٧٠٤ تقدم خمسة بطلب إلى رومة يرجون نقلهم إلى عاصمة الكثلكة لإكمال علومهم وتنسكهم12. وفي هذه الآونة نفسها وصل إلى البلمند شابان حلبيان راغبان في التبتل. فنصح لهما الأب نصر الله الحلبي أن يذهبوا إلى جبل لبنان ويفتشوا عن مطرح خالي وبعده نحن نجيء إلى عندكم ونعمل رهبنة قانونية لأن في هذا الدير الإنسان ما يحسن يعيش في حرية الإيمان لأن فيه أناس «معاندين» وعشرتنا معهم لا تصلح، فسمعوا من شوره وراحوا حوشوا دير الذي يقال له مار يوحنا الشوير»13.

وولد في دمشق في السنة ١٦٤٣ مخائيل ابن موسى الصيفي ونشأ فيهـا. وتعلم في مدرسة الطائفة في الدار البطريركية. ولقي عطفاً خصوصیاً من الخوري جرجس بربق، وكان هذا قد سافر إلى رومة وتخمر فيهـا بالكثلكة. وتردد ميخائيل على دير الآباء اليسوعيين والكبوشيين فجذبوه إليهم وزادوه طاعـة وخضوعاً. وتوفي إرميا متروبوليت صور وصيدا في حوالي السنة ١٦٨٠ فحض المرسلون اللاتينيون أعيان الروم في صيدا على انتداب الخوري ميخائيل صيفي. ورضي البطريرك كيرلس الثالث وكان يجهل باطن ميخائيل، فسامه مطراناً على صور وصيدا في السنة ١٦٨٢ ودعاه أفتيميوس. وأول عمل همَّ به هـذا

الأسقف الجديد أنه أسرع فأرسل اعترافه بالإيمان الكاثوليكي إلى البابا إنوشنتش الثاني عشر. وكانت أبرشية صور وصيدا واسعة ولكنهـا غير عامرة. فعمل الأسقف الجديد على تعميرها وأنشأ الرهبانية المخلصية قبيل السنة ١٧٠٠ لنشر مبدأ الاتحاد مع رومة.

ويلاحظ هنا أن طائفة الروم الكاثوليكيين التي نشأت على هذا الوجه منذ مئتين وخمسين سنة لا تزال صغيرة بالنسبة للطائفة الأم التي تفرعت عنها. فتكون رومة والحالة هذه قد ربحت البعض لتنفر الكل! وما يصح عن الروم الكاثوليكيين يصح على غيرهم من الطوائف الكاثوليكية الشرقية التي بزغت للوجود في هذه الفترة نفسها وبالطريقة نفسها.





* * *








  1. تاريخ الأزمنة للبطريرك إسطفانوس الدويهي (طبعة الأب توتل) ص ۲۷۰
  2. تاريخ الأزمنة أيضاً ص ٢٨٦ ودواني القطوف لعيسى إسكندر المعلوف ص ١٨٤
  3. دواني القطوف أيضاً ص ١٨٤
  4. ولعله الخوري يواصف البيروتي الذي سيم على بيروت وتوابعها في هذه الآونة على يد البطريرك أفتيميوس الصاقزي.
  5. مجموعة السيد رزق الله عرمان (بيروت)
  6. مجمعوعة السيد رزق الله عرمان (بيروت)
  7. Constitutiones, 1579, Art. 6; Clercq, Ch., Hist. des Conciles, XI, 1575 1875, 21
  8. تاريخ الأزمنة الدويهي ص ۳۰۰
  9. تاريخ طائفة الروم الملكية الفوري قسطنطين الباشا ج ۲ ص ١٤٤ – ١٤٦
  10. Les Jesuites dans le Levant Vers 1650, l'Unite de l'Eglise, (1934), 64 Musset, H., Hist. du Christ., II, 131 - 133.
  11. Lettres Edifiantes, 1,235.
  12. الطائفة الملكية للخوري قسطنطين الباشا ج ۱ ص ۳٥۰ - ۳٥۱
  13. المرجع نفسه ج ۱ ص ۳۰۲